سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
العصامي
عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)
ذكر بني قتادة أمراء مكة
بعد الهواشم إلى وقتنا هذا:
كان من ولد موسى الجون الذين مر ذكرهم في بني حسن عبد الله أبو الكرم، وكان له على ما نقل نسابتهم ثلاثة من الولد: سليمان وزيد وأحمد، ومنه تشعب ولده.
فأما زيد فولده اليوم بالصفراء بنهر الحسنية، وأما أحمد فولده بالدهناء، وأما سليمان فكان ولده مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن سليمان بن الله أبي الكرم.
وكان لمطاعن إدريس وثعلب. فالثعلبية شعب بالحجاز، وكان لإدريس ابنان: قتادة النابغة وصرخة.
فأما صرخة: فولده بينبع يعرفون بالشكرة.
وأما قتادة النابغة: فكان يكنى أبا عزيز.
وكان من ولده علي الأكبر وشقيقه حسن. فمن ولد حسن إدريس وأحمد ومحمد وجماز.
وإمارة ينبع في أعقابهم حتى الآن فيرجعون إلى إدريس بن حسن بن إدريس.
وأما أبو عزيز قتادة: فمن ولده بنو أبي نمي أمراء مكة لهذا العهد، وكان بنو الحسن بن الحسن كلهم متوطنين بنهر العلقمية من وادي ينبع لعهد إمارة الهواشم وكانوا ظواعن بادية.
ولما نشأ فيهم قتادة هذا جمع قومه ذوي مطاعن، وأركبهم الخيول، واستبد بإمارتهم، وكان بوادي ينبع بنو حراب من ولد عبد الله بن الحسن بن الحسن، وكان بها بنو عيسى بن سليمان بن موسى الجون، فحاربهم بنو مطاعن هؤلاء، وأميرهم أبو عزيز قتادة، فأخرجهم، وملك ينبع، والصفراء، واستكثر من الجند والمماليك، ثم استألف بني محمد وبني إبراهيم، وسار إلى مكة فانتزعها من أيدى الهواشم، وخطب للناصر العباسي، كذا في تاريخ العلامة ابن خلدون.
فوليها الشريف قتادة: وهو أول من وليها من هذا الفخذ الشريف.
قال في الوسيلة: وسبب طمعه في ملك مكة ما بلغه من انهماك ولاتها الهواشم على اللهو، وتبسطهم في الظلم، وإعراضهم عن صونها ممن يريدها بسوء اغتراراً منهم بما هم فيه من العز والسيف لمن عارضهم في مرادهم وإن كان ظلماً، فتوحش عليهم بذلك خواطر جماعة من قوادهم، ولما عرف قتادة ذلك منهم استمالهم إليه، وسألهم المساعدة على ما يرومه من الاستيلاء على مكة، وبعثه على المسير إليها أن بعض الناس فزع إليه مستغيثاً به في ظلامة ظلمها، فوعده بالنصر، وتوجه إلى مكة في جماعة من قومه، فما شعر أهل مكة ألا وهو معهم بها، وولاتهم على ما هم فيه من اللهو والانهماك، فلم تكن لهم بمقاومته طاقة، فملكها.
قيل: إنه لم يأت إليها بنفسه في ابتداء ملكه، وإنما أرسل إليها ابنه حنظلة فملكها له، وذلك في سنة تسع وتسعين وخمسمائة بتقديم التاء في اللفظتين، وخرج منها مكثر بن عيسى إلى وادي نخلة.
وفي سنة ستمائة مات مكثر بنخلة، وجاء ولد محمد بن مكثر، وقاتل حنظلة بن قتادة عند المتكا، ولم يحصل لمحمد ظفر، وتمت البلاد لقتادة، ذكر ذلك ابن محفوظ وابن فهد في إتحاف الورى بأخبار أم القرى.
قال صاحب عمدة الطالب في مناقب آل أبي طالب وهو العلامة السيد النسيب والشريف الحسيب أبو جعفر شهاب الدين أحمد بن علي بن مهنا الداودي الموسوي: كان قتادة جباراً فتاكاً فيه قسوة وتشدد وحزم، وكان الخليفة في زمانه الناصر العباسي، فاستدعى الناصر الشريف قتادة إلى بغداد ووعده ومناه فأجابه إلى ذلك، وسار إلى أن وصل إلى العراق ثم إلى المشهد الغروي، فخرج أهل بغداد لتلقيه، وكان ممن خرج في غمار الناس رجل درويش معه أسد مسلسل، فلما نظر إليه الشريف قتادة تطير وقال: مالى ولبلد تذل فيها الأسود؟ فرجع من فوره إلى الحجاز. وكتب إلى الخليفة العباسي بقوله من الطويل:
بِلادِي وَلَو جَارَت علي مُريفَة ... وَلَو أَننِي أَعرَى بِهاً وأَجُوعُ
وَلى كَف ضِرغَامٍ إِذاً ماً بَسَطتُهَا ... بِهاً أَشتَرِي يَومَ الوَغَى وأَبِيعُ
مُعَوَدَة لَثْمَ المُلُوكِ لِطُهْرِهَا ... وفي بَطنِها للمُجدبِينَ رَبِيعُ
أَأَتْرُكُهاً تَحْتَ الرهَانِ وأَبْتَغِي ... بهاً بَدَلاً إني إِذَن لَرَقِيعُ
وماً أَنا ألا المِسكُ في غَيْرِ أَرضكُم أًضُوع وَأَما عِندَكُمْ فَأَضِيعُ
فلما وقف الناصر العباسي على هذه الأبيات استشاط غضباً، وامتلأ حنقاً وحرباً. وكتب إلى الشريف قتادة كتاباً، يقول فيه: أما بعد: فإذا نزع الشتاء جلبابه، ولبس الربيع أثوابه، قاتلناكم بجنود لا قبل لكم بها، ولنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون.
فلما قرأ الكتاب الشريف قتادة ارتاع لذلك أشد ارتياع. وأرسل إلى بني عمه بني الحسين بالمدينة يستنجدهم ويسألهم المعونة، وصدر الكتاب بقوله: من الطويل:
بنى عَمناً مِنْ آل موسَى وَجَعفَرِ ... وآلِ حُسَين كَيف صَبرُكُمُ عَنا
بَنِى عَمناً إِنا كَأَقنَاِن دَوحَةِ ... فَلاَ تَترُكُوناً يَتَّخِذناً الفَناً فَنَّا
إذاً ماً أَخْ خَلى أَخَاهُ لآكِلٍ ... بَداً بِأَخِيهِ الأَكْل ثُم بِذاً ثَنَّى
فأتته منهم رجال النجدة، ذوو العدد والعدة.
فلما أقبلت تلك الكتيبة الناصرية كسرها وبدد شملها وقهرها، فلما بلغ ذلك الناصر العباسي والى عليه الإنعامات الكاملة وأقطعه الإقطاعات الهائلة.
وذكر ابن الأثير في سنة إحدى وستمائة: كان الحرب بين قتادة الشريف أمير مكة وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني أمير المدينة، ومع كل واحد منهما جمع كثير.
وفي ذلك يقول الشريف قتادة: من الطويل:
مَصَاِرعَ آل الُمصطفَى عُدتِ مثلَ ما ... بَدَأتِ وَلَكِن صِرتِ بَين الأَقَاِرب
فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان الحرب بذي الحليفة.
وقد كان قتادة قصد المدينة ليحصرها ويأخذها فحصرها مدة معلومة، فلقيه سالم بعد أن قصد الحجرة الشريفة وصلى عندها، ودعا وسار إلى قتال قتادة، فانهزم قتادة وتبعه سالم إلى مكة، وحصرها وأرسل إلى قتادة يقول بعد أن حصرها المدة المعلومة: حصر بحصر يا ابن عم. فأرسل قتادة إلى من مع سالم فأفسدهم عليه فمالوا معه، فلما علم بذلك سالم رحل عنه عائداً إلى المدينة.
ثم إن قتادة خرج لحرب ثقيف فتحصنوا بحصونهم فلم يقدر عليهم، فآمنهم وحلف، فحضروا عنده فقتل منهم طائفة من أكابرهم، واستخلف على بلادهم نواباً من عنده، وعضدهم بعبيد له، فلم يبق لأهل الطائف معهم كلمة ولا حرمة، فعند ذلك اجتمع أهل الطائف ودفنوا سيوفهم في الرمل - وذلك في المجالس التي جرت عادتهم بالجلوس فيها مع أصحاب قتادة - واستدعوا أصحاب قتادة وأوهموهم أن ذلك بسبب كتاب ورد عليهم، فلما اجتمعوا أخرجوا سيوفهم وقتلوا أصحاب قتادة عن آخرهم، ولم يسلم منهم ألا واحد وصل إلى قتادة وهو واله العقل لما شاهد من الهول، وكان ذلك في سنة ثلاث عشرة وستمائة.
وذكر الميورقي: أن في هذه الواقعة فقد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف لما نهب جيش قتادة البلاد.
وذكر أبو شامة في أخبار سنة تسع وستمائة قال: فيها قتل قتادة صاحب مكة إمام الحنفية وإمام الشافعية ونهب اليمنيين.
وذكر أيضاً في سنة ثمان وستمائة نهبه الحاج العراقي وكان أمير الركب علاء الدين محمد بن ياقوت نيابة عن أبيه ومعه ابن أبي فراس يدبره.
وحج من الشام الصمصام إسماعيل، وكانت ربيعة خاتون أخت العادل بن أيوب في الحج، فلما كان يوم النحر بعد رمي الجمرة وثب بعض الإسماعيلية على رجل شريف من بني عم قتادة أشبه الناس به وظنه إياه فقتله عند الجمرة، ويقال: إن الذي قتله كان مع أم جلال الدين، فثار عبيد مكة عند ذلك والأشراف، وصعدوا على الجبلين بمنى، وهللوا وكبروا وضربوا الناس بالحجارة والمقاليع والنشاب، ونهبوا الناس يوم العيد والليلة واليوم الثاني، وقتل من الفريقين جماعة، فقال ابن أبي فراس لمحمد بن ياقوت: ارحل بنا إلى الزاهر إلى منزلة الشاميين، فلما حصلت الأثقال على الجمال حمل قتادة والعبيد، فأخذوا الجميع ألا القاتل، وقال قتادة: ما كان المقصود ألا أنا، والله لا أبقيت من حاج العراق أحداً، وكانت ربيعة خاتون بالزاهر ومعها ابن السلاخور سياروج وحاج الشام، فجاء محمد بن ياقوت أمير الحاج العراقي فدخل خيمة ربيعة خاتون مستجيراً بها ومعه أم جلال الدين، فبعث قتادة يطلبه، فبعثت خاتون مع ابن السلاخور إلى قتادة تقول له: ما ذنب المسلمين؟ قد قتلت القاتل وجعلت ذلك وسيلة إلى نهب المسلمين، واستحللت الدماء في الشهر الحرام في الحرم، وقد عرفت من أنا، والله لئن لم تنته لأفعلن وأفعلن.
فجاء ابن السلاخور إلى قتادة فأخبره وخوفه عاقبة ما يروم وقال: إن فعلت غير ما فعلت قصدك الخليفة من بغداد ونحن من الشام، فكف عنهم، وطلب مائة ألف: دينار فجمعوا له ثلاثين ألفاً من أمير الركب، العراقي ومن خاتون أم جلال الدين، وأقام الناس ثلاثة أيام حول خيمة ربيعة خاتون بين جريح وقتيل ومسلوب وجائع وعريان، ويقال: إن قتادة أخذ من المتاع ما قيمته ألف ألف دينار، وأذن للناس في الدخول إلى مكة، فدخل الأصحاء الأقوياء وطافوا، ومعظم الناس ما دخل مكة، ورحلوا إلى المدينة، ثم إنهم دخلوا إلى بغداد على غاية الفقر والذل والهوان.
وفي سنة تسع وستمائة: وصل من قبل الخليفة الناصر العباسي إلى قتادة مع الركب العراقي مَالٌ وخلعة وكسوة ولم يظهر له الخليفة إنكاراً على ما تقدم من نهب الحاج، وجعل أمير الحاج يتدرجه، ويخدعه بأنه لم يصح عند الديوان العزيز ألا أن الشرفاء وأتباعهم نهبوا أطراف الحاج ولولا تلافيك لهلكوا، وقال له: يقول لك مولانا الوزير: وليس كمال الخدمة الإمامية ألا بتقبيل العتبة، ولا عز الدنيا والآخرة ألا بنيل هذه الرتبة. فقال الشريف قتادة: سأنظر في ذلك ثم تسمع الجواب. واجتمع ببني عمه الأشراف وعرفهم أن ذلك استدراج لهم وله حتى يتمكن من الجميع. ثم قال لهم: يا بني الزهراء، عزكم إلى آخر الدهر مجاورة هذه البنية والاجتماع في بطائحها، فلا يرغبونكم بالأموال والعدة والعدد، وقد عصمكم الله وعصم أرضكم بانقطاعها وإنها لا تبلغ ألا بشق الأنفس. ثم عاد أبو عزيز قتادة إلى أمير الركب العراقي وقال له: اسمع الجواب. ثم أنشده الأبيات المتقدمة، فقال له أمير الركب الشريف: يا شريف، حاشا الله أن أحمل مثل هذه الأبيات منك، وأنت ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفة ابن عمك، وأنا مملوك تركي لا أعلم من الأمور التي في الكتب ما علمتَ، ولكني قد رأيت أن هذا من سرف العرب الذين يسكنون البوادي، وترغاب قطاع الطريق، والله لا حملت هذه الأبيات عنك فأكون قد جنيت على بيت الله وبني بنت نبيه، ووالله لو وصل إليه ما ذكرت لجعل سائر الوجوه إليك، ولكن لي رأي أعرضه عليك، فأصغي إليه أبو عزيز وعلم أنه رجل عاقل، قال: الرأي أن ترسل أحد أولادك من لا تهتم له إن جرى عليه ما تتوقعه، ومعاذ الله أن يجري عليه ألا ما تحبه، وترسل معه جماعة من ذوي الأسنان والهيئات، فيدخلوا مدينة السلام وفي أيديهم أكفانهم منشورة، وسيوفهم مسلولة، ويقبلون العتبة، ويتوسلون بالنبى صلى الله عليه وسلم، وبصفح أمير المؤمنين، وسترى ما يكون من الخير لك وللناس. قال: فشكره قتادة ووجه صحبته ولده راجح بن قتادة، وأشياخ الشرفاء، ودخلوا بغداد على تلك الهيئة التي ذكرها، وهم يضجون ويتضرعون ويبكون، والناس يبكون لبكائهم، فاجتمع الخلق كأنه المحشر، ومالوا إلى باب النوبة من أبواب مدينة الخليفة، فقبلوا هنالك العتبة.
وبلغ الخبر الناصر العباسي فعفا عنهم وعن مرسلهم، وأنزلوهم في الديار الواسعة، وأكرموا الكرامة التي ظهرت، واشتهرت وعادوا إلى أبي عزيز بما أحب، فكان بعد ذلك يقول: لعن الله أول رأى عند الغضب، ولا عدمنا عاقلاً ناصحاً يثبتنا عنده.
قال المنذري في التكملة: كان قتادة المذكور مهيباً وقوراً قوي النفس شجاعاً مقداماً فاضلاً له شعر، تولى إمرة مكة، رأيته بها يطوف بالبيت، ويدعو بتضرع وخشوع، والريس على زمزم يدعو له وهو كالأسد شجاعة والقطب خشوعاً وتضرعاً والبدر كمالاً وبهاء.
وكان مولده بوادي ينبع وبه نشأ. وكانت مملكته قد اتسعت من حدود اليمن إلى خلف مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وكثر عسكره واستكثر من المماليك، وخافته العرب في تلك البلاد خوفاً عظيماً، وسار في مكة سيرة حسنة، وأزال عنها العبيد المفسدين، وحمى البلاد وأحسن إلى الحجاج وأكرمهم وبقي كذلك مدة، ثم أساء السيرة وجدد المكوس وفعل أفعالاً شنيعة، ونهب الحجاج، وكان يخطب للناصر أحمد العباسي ابن المستضيء، ثم يخطب لنفسه بالأمير المنصور، ودام ملكه نحو سبع وعشرين سنة.
وكان وراثته الملك عن مكثر بن عيسى الذي ورثه من آبائه الهواشم، ولم يكن أبو عزيز من الهواشم ألا من جهة النساء.
ثم زاد ظلم قتادة في الناس وأذاه للحجاج من العراقيين وغيرهم، وأظهر التعدي حتى ضج الناس وفسدت نيته على الخليفة الناصر العباسي، فارتفعت الأيدي بالدعاء عليه، فقتله الله على يد ابنه حسن بن قتادة.
وكان قتله في جمادى الأولى، هكذا ذكره أبو شامة في سنة 617 سبع عشرة وستمائة.
وقال المنذري: بل في جمادى الأخرى من سنة 618، ثم استقر بعده في ملك مكة ابنه حسن بن قتادة. قيل قتله خنقاً.
وسبب قتله: أن قتادة جمع جموعاً وسار من مكة يريد المدينة الشريفة فنزل بوادي الفرع، وهو مريض وبعث أخاه على الجيش ومعه ابنه حسن هذا، فلما بعد وأبلغ حسن أن عمه قال لبعض الجند: إن أخي قتادة مريض وهو ميت لا محالة، وطلب منهم أن يحلفوا له ليكون هو الأمير بعده.
فلما بلغ الحسن ذلك أرسل إلى عمه من خنقه وخرج للناس في الحرم، وطلب الأشراف ووجوه الناس، وقال لهم: إن أبي اشتد به المرض وأنا أحب أن تبايعوني، فبايعوه وحلفوا له، فأحضر تابوتاً مغطى وقال: هذا أبي مات. وكان قد دفنه ليلاً.
فلما استقرت الإمارة لحسن، وثبتت قدمه أرسل إلى أخيه، وكان بينبع وطلبه ولم يخبره بحال أبيه، فلما وصل إليه قتله، وكان له أخ اسمه راجح كانت بينهما مباينة أقام في الأعراب هارباً بظاهر مكة حتى كان من أمره مع آق باش أمير الركب العراقي ما كان كما سيأتي قريباً.
ولما بلغ قتادة قتل حسن لعمه قامت قيامته وحلف ليقتلن حسناً، فبلغ ذلك حسناً، فدخل على أبيه بعد عوده من المدينة، فبالغ قتادة في ذمه وتهديده، فوثب إليه حسن، واستعان بغلام وجارية كانا يخدمان أباه فأمسكا يديه، فقتله خنقاً ثم قتلهما ليخفي سبب قتله، وقيل بل قتله سماً. فهذا سبب قتل حسن أباه قتادة.
وكانت وفاته كما تقدم في جمادى الآخرة عام 617 سبع عشرة وستمائة أو ثمان عشرة، والأول هو الذي رأيته أكثر.
وكان قتادة يقول: أنا أحق من الناصر العباسي بالخلافة، وكان في زمنه في المسجد يؤذن بحي على خير العمل، ومدة عمره نحو سبعين سنة.
ومدة ولايته من سنة 599 تسع وتسعين وخمسمائة إلى سنة 617 سبع عشرة وستمائة.
ولما وصل الملك المنصور صاحب اليمن أمر بنبش قبر قتادة وإحراقه لما فعل من نهب اليمنيين، فوجدوا في القبر تابوتاً ليس فيه شيء، فعرف الناس بذلك أن حسن قتل أباه ودفن التابوت في قبر آخر ليخفي قبره على الناس.
وكان لقتادة من الولد راجح وهو الأكبر الذي فر إلى الأعراب بظاهر مكة كما تقدم، وحسن وعلى الأكبر جد الأشراف المعروفين بذوي علي، وعلى الأصغر جد أبي نمي جد الأشراف الذين كانوا ولاة خليص، وهم الآن ولاه مكة، ألا ترى أن عجلان بن رميثة بن أبي نمي محمد بن أبي سعد الحسن بن علي هذا الأصغر بن قتادة، ولكل من هؤلاء ذرية وأعقاب.
ومما صنع الشريف قتادة أن أدار على مكة سوراً من أعلاها؛ ليحفظها عمن يريدها بسوء.
ثم وليها الشريف حسن بن قتادة عام سبع عشرة وستمائة، ووقع فيها قتال بينه وبين آق باش أمير الركب العراقي، وهو مملوك تركي للناصر العباسي عقد له الولاية على مكة وعلى كل بلد يدخلها، ومعنى آق باش: أبيض الرأس.
وسبب القتال أنه لما ورد آق باش المذكور أميراً، تعرض راجح لقطع الطريق بين مكة وعرفة، فأمسكه الأمير المذكور، فأرسل أخوه حسن إلى الأمير موعداً له بمال جزيل أن يسلم إليه أخاه راجحاً، فبلغ ذلك راجحاً، فقال للأمير: أنا أعطيك أضعاف ما وعدك فأعني على ولاية مكة، فوعده بذلك، فأرادا جميعاً دخول مكة فمنعهما حسن ووقع الحرب، فصعد آق باش على جبل عرفة بما عنده من المنعة، فأحدقت به أعراب الشريف حسن فقتل، وعلق رأسه في ميزاب الكعبة، وقيل: رفع على رأس رمح بالمسعى، وأرسل يعتذر إلى دار الخلافة، كذا في عمدة الطالب.
وفي موسم تسعة عشرة وستمائة وليها الملك المسعود يوسف من بني أيوب، وصل إليها وكان قد تفرق عن حسن والأشراف، لشحه ولم يبق عنده ألا جماعة من عشيرته.
وجاء مع صاحب اليمن المذكور أخو الشريف حسن الشريف راجح بن قتادة فتقاتلا بالمسعى، فانكسر حسن وفارق مكة فنهبها الملك المسعود، وراجح حتى سلبوا الناس أشياء من على أجسادهم، وولى الملك المسعود راجح بن قتادة حلياً ونصف المخلاف، وأمر المسعود بنبش قبر قتادة فلم يجدوا ألا التابوت كما تقدم ذكر ذلك، وعمل المسعود في مكة من المنكرات ما لم يُرَ.
منها: أنه يطلع على قبة زمزم، ويرمي الحمام بالبندق، ويجلس عبيده بالمسعى فيضربون أرجل الناس بالسيوف يقولولن: إن السلطان سكران نائم، امشوا قليلاً قليلاً لئلا توقظوه. كانت داره على المسعى تسمى دار السلطنة، وكانت تسمى دار القوارير.
قلت: عثرت في بعض التواريخ أن محلها كان محل المدرسة القايتبائية الآن. انتهى.
ثم خرج من مكة واستناب عليها نور الدين علي بن رسول الغساني الملقب بالملك المظفر ورتب معه ثلاثمائة فارس، وولى راجحاً حلياً وأعمالها.
ثم وصل حسن بجيش عظيم من الينبع إلى مكة سنة عشرين وستمائة فخرج إليه أميرها علي بن رسول المذكور، فكسره علي بن رسول، فتوجه إلى الشام فلم ير بها وجها ولم يفلح بعد قتل والده وعمه، وقد دعا عليه أبوه قتادة في قصة اتفقت له نقلها الزنجاني وزير أبيه الشريف قتادة هي: أنه كان الشريف قتادة بالحرم الشريف مع الأشراف فهجم عليه ولد لولده حسن وترامى في حجره مستجيراً، وإذا بوالده حسن يشتد في إِثره حتى ألقى يده في شعره وجذب الصبي من حجر جده فاغتاظ الشريف قتادة، وقال الحسن: هكذا ربيتك، ولهذا ادخرتك؟ فقال حسن: ذاك الإخلال أوجب هذا الإدلال.
فقال الشريف قتادة: ليس هذا بإدلال ولكنه إذلال، وانصرف حسن بولده ففعل فيه ما اقتضاه عقله، فالتفت الشريف قتادة إلى الأشراف، وقال لهم: والله لا أفلح هذا، فلم يمر به ألا زمن يسير حتى قتل أباه وفاق عقوبة العقوق والقطيعة، ثم توجه إلى العراق، فلم ير بها وجهاً، بل أرادوا قتله بسبب قتله آق باش الناصري مملوك الخليفة الناصر العباسي في الواقعة التي جرت في أيامه بمكة زمن الحج، فخرج منها خائفاً، ولم يزل طريداً شريداً خائفاً إلى أن وصل بغداد، فأدركه أجله في الجانب الغربي على دكة، فلما علم به غُسل وصُلي عليه، وحمل فدفن في مشهد موسى الكاظم سامحه الله تعالى، هذا حاصل ما ذكره المؤرخون في مصنفاتهم مفرقاً غير مجتمع في كتاب ولا مستوفي، جمعت ما ذكروه، وسقته مجتمعاً كل حديث في محله، وكل فرع إلى أصله، وكل نوع إلى جنسه وشكله. وهذا شاني في ترجمة كل واحد من هؤلاء السادة الأعلام، أذكرها كافلة للمرام، بعون الملك العلام.
على إني لا أخلو من قول جاهل خامد، أو فاضل حاسد، أو مبغض جاحد: هل زاد على الجمع؟ وما درى أنه تقطير للفؤاد تقطير للدمع، إذ تتبع ذلك من مظانه المتفرقات، وضم شمل القصة وسبكها في ألطف قالب من العبارات، يعرف قدره من أشرق في أفق الفضل وما غاض بدر تمه، ولا يجحد حقه ألا كل عاض بظر أمه.
على أن لي فيه فلتوتات، كأنها ياقوتات، ينظرها بنور العدل والإنصاف، زاكي السريرة ذاتاً وسمى، ويتخونها من عم بصره وبصيرته عمه وعمى.
لكن الأعمال بمقاصدها، والله عالم بصحيح النية من فاسدها.
ولم تزل مكة في ولاية الملك المسعود يوسف بن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، ونائبه عليها نور الدين علي بن رسول إلى سنة خمس وعشرين وستمائة، فتوفي الملك المسعود بعد أن فلج ويبست يداه ورجلاه، ورأى في نفسه العبر، نعوذ بالله من سوء قضاه.
وفيها وصل إلى مكة جيش من صاحب مصر وعلى الجيش طغتكين ومعه مائتا فارس، ففر منها نائبها نور الدين علي بن رسول نائب الملك المسعود، وأنفق طغتكين على أهل مكة نفقة جيدة، وحلفهم، وتوثق منهم.
فلما كان سنة سبع وعشرين وستمائة وصل إلى مكة جيش صاحب اليمن علي بن رسول الغساني وصحبته السيد راجح بن قتادة، فنزلوا بالأبطح وحصروا مكة، وأرسل الشريف راجح إلى أهل مكة يذكرهم إحسان السلطان نور الدين أيام نيابته بمكة عن الملك المسعود، فمال رؤساء مكة إليه، فلما أحس بذلك الأمير طغتكين خاف على نفسه فخرج خائفاً وقصد وادي نخلة، فدخل راجح ومن معه.
فوليها الشريف راجح بن قتادة وكان أمير الجيش يسمى ابن عبدان، فدخل إلى مكة واستولى عليها وخطب للملك المنصور ابن الملك المسعود.
وتوجه طغتكين إلى ينبع وكان بها رتبة للكامل صاحب مصر الأيوبي، فأقام هناك، وعرف الكامل بالخبر، فجهز جيشاً كبيراً من مصر، وأمر صاحب الينبع، وصاحب المدينة أن يخرجا مع ذلك الجيش إذا وصل إليهما، ففعلا، ووصلوا إلى مكة جميعاً في رمضان، وحاصروا راجحاً وابن عبدان وقاتلوهما فانكسروا، واستولى على مكة أميرها الأول طغتكين، فقتل من اْهل مكة خلقاً كثيراً وأنهبت ثلاثة أيام وأظهر حقده عليهم، وأخافهم خوفاً شديداً.
وفي سنة ثلاثين وستمائة جمع الشريف راجح جموعاً عظيمة، وأملى الملك المنصور صاحب اليمن بعساكر، فقدم مكة، وطرد طغتكين وعسكر الملك الكامل صاحب مصر، فلما علم بذلك الكامل جهز عسكراً في شوال سبعمائة فارس، فلما أن وصل الحاج واتضح أمر العسكر خرج الشريف راجح من مكة فدخلها العسكر المصري من غير محاربة وطيبوا قلوب أهلها وعدلوا فيهم وأحسنوا، وحج بالناس أمير يسمى الزاهد، وترك في مكة أميراً يقال له ابن مجلي في خمسين فارساً أقام بمكة فعدل وأحسن السيرة.
وفي سنة إحدى وثلاثين: جهز الملك المنصور صاحب اليمن إلى السيد راجح عسكراً جراراً، وخزانة عظيمة، فنهض راجح ومن معه من العسكر، ودخلوا مكة، وأخرجوا ابن مجلي ومن معه، فلما أن وصل الحاج سمع الشريف راجح أن الملك الكامل حاج على النجب لوعد بينه وبين الخليفة العباسي، فخرج راجح من مكة فتغير عليه خاطر الملك المنصور، فلما رجع الملك الكامل عاد راجح إلى مكة وكان بها غلاء عظيم، سموه غلاء ابن مجلي.
وفي سنة اثنتين وثلاثين وستمائة: وصل من صاحب مصر عسكر ألف فارس، فخرج الشريف راجح إلى اليمن، فجهزه الملك المنصور بخزانة وعسكر أيضاً، وأرسل قناديل ذهب وفضة لتعلق في جوف الكعبة فلم يقدر راجح ومن معه لمقاومة العسكر المصري فلم يدخل، فلما سمع بهم العسكر المصري خرجوا إليهم من مكة، فالتقوا بمحل يقال له الخلف والخليف، فانهزمت الأعراب أصحاب راجح، وأسر أمير عسكره ابن عبدان فقيد، وأرسل به إلى مصر.
وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة خرج السلطان نور الدين علي بن رسول من اليمن قاصداً مكة في ألف فارس، وأرسل للجند الذين بمكة أن كل من جاء إليه يعطيه ألف دينار وحصاناً وكسوة، فمال إليه كثير من الجند، وآثروه على مولاهم، ووفي لهم بما وعدهم، وأرسل إلى الشريف راجح، فتلقاه من أثناء الطريق، فقدمه صحبة ثلائمائة فارس من أهل النجدة من عسكره، وأعطاه النقارات والكئوسات، وتقدم إلى مكة.
فلما تحققت عساكر مصر وصول السلطان أحرقوا ما كان عندهم من الأثقال والأقوات، وخرجوا من مكة، فأرسل الشريف راجح يبشر السلطان نور الدين بما وقع، فأحرم بعمرة ودخل مكة في رجب، وتصدق على أهل مكة بأموال جزيلة.
وفي ذلك العام مات الكامل صاحب مصر، فخطبوا للملك المنصور ابن الملك المسعود صاحب اليمن.
وفي سنة سبع وثلاثين وستمائة: أرسل صاحب مصر الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل إلى مكة ألف فارس عليهم الشريف شيحة بن قاسم الحسيني أمير المدينة الشريفة، فلما سمع بهم راجح ومن معه من عساكر الملك المنصور، فروا إلى اليمن وأخلوا مكة، فدخلها شيحة وملكها ونهبها، فلما بلغ ذلك المنصور صاحب اليمن جهز السيد راجحاً بعسكر معه إلى مكة، فلما أحس بهم الحسيني فر هارباً من مكة وأخلاها.
وفي موسم سنة تسع وثلاثين وستمائة دخل من صاحب مصر عسكر إلى مكة، فلما بلغ صاحب اليمن تجهز، وخرج إلى مكة بجيش كثيف، فهرب المصريون، وأحرقوا دار السلطنة بمكة، فدخل السلطان نور الدين علي بن رسول الغساني، وصام رمضان، وأقام بها وأبطل المكوس والجبايات والمظالم، وكتب ذلك في رخامة مربعة جعلت قبالة الحجر الأسود في حائط زمزم، وأرسل يطلب أبا سعيد الحسن بن علي بن قتادة من ينبع، فلما أتاه أكرمه وأنعم عليه، فاستخدمه على مكة، واشترى منه قلعة الينبع وأمر بخرابها لأجل أهل مصر، وأبقى عنده مملوكه ابن فيروز، والأمير فخر الدين بن السلاح، فأقام ابن السلاح أميراً سبع سنين، فولى بعده الأمير ابن المسيب سنة خمس وأربعين.
وفي سنة ست وأربعين وستمائة ولي مكة الشريف أبو سعد الحسن بن علي بن قتادة، وذلك أن الملك المنصور قبل ذلك لما دخل مكة أقام أبا سعد هذا بوادي مر ليساعد عسكره الذين أقاموا بمكة، فحسن مشايخ العرب من زبيد وغيرهم لأبي سعد الحسن بن علي بن قتاده أخذ مكة والاستيلاء عليها، والفتك بمن فيها من العسكر اليمني، وهونوا عليه أمرهم، وكانوا فرقتين، فرقة تخرج إلى أعلى المعلاة، والفرقة الأخرى تخرج إلى أسفلها هكذا كل يوم. فحمل أبو سعد على إحدى الفرقتين، فكسرها فضعفت الأخرى، فقبض على ابن المسيب وأخذ خيله وعدده ومماليكه، واستولى على مكة، وأحضر الأعيان من أهلها، وقال: ما لزمته ألا لتحققي خلافه ونيته الخروج على الملك المنصور صاحب اليمن، والذهاب بهذا المال إلى العراق، والمال عندي محفوظ إلى أن يصل مرسوم السلطان فأسلمه إليه، فوردت الأخبار بعد أيام يسيرة بموت الملك المنصور علي بن رسول، فقوي أمر أبي سعد الحسن بن علي بن قتادة المذكور، فخرج الشريف راجح من مكة لما رأى أن ابن أخيه أبا سعد الحسن المذكور استولى عليها، وسكن المحل المعروف بالواديين.
وكان الشريف الحسن هذا شجاعاً جلداً كريم الأخلاق شديد الحياء، جمع الشجاعة والكرم والعلم والعمل، وكانت أمه حبشية، ووقع له معها أنه حارب بعض العرب، فلما تراءى الجمعان، جاءته في هودجها فقالت له: اعلم أنك وقفت في موقف إن ظفرت أو قتلت قالت الناس: ظفر ابن رسول الله أو قتل ابن رسول الله، وإن هربت قالوا: هرب ابن السوداء، فانظر أي الأمرين تحب أن يقال. فقالا لها: جزاك الله خيراً لقد نصحت فأبلغت، ورجع فقاتل حتى ظفر، فقال الناس كما قالت ودامت ولايته على الحجاز نحو أربع سنين وأشهر إلى أن قتله ابن عمه جماز ابن حسن بن قتادة لثلاث خلون من شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة، وقيل في شهر رمضان، وقيل: في شوال.
وأبو سعد هذا هو والد عبد الكريم جد الأشراف ذوي عبد الكريم ووالد أبي نمي صاحب مكة الآتي ذكره.
كان الشريف أبو سعد هذا فاضل الأخلاق، طيب الأعراق شديد الحياء، جمع الشجاعة والكرم والعلم والعمل، له الشعر الرائق والنثر الفائق، فمن شعره القصيدة المشهورة: من المتقارب:
خُنُوا قَوَديِ من أسيرِ الكلل ... ...... ... ...
نسبها العلامة الفاسي إليه.
والمشهور أنها لابن مطروح والشهرة تساعده.
قال: ألا أن في القصيدة أبياتاً ترجح أنها لأبي صعد لأن إنشاءها إنما يليق بالملوك، منها قوله فيها: من المتقارب:
وإن قِيلَ إني غَداً مَيت ... بِأَيدِي الصبَابَةِ ظُلماً فَهَل
تموتُ نفوس بِآجَالِها ... وَنفِسي تَمُوتُ بِغَيرِ الأجَل
فَلَيتَ إذا ماً آَتاني الحِمَامُ ... يُؤَخرُ عَني الإلهُ الأجَل
لأني غيُوث إِذاً الغَيثُ مَل ... ويَوْمَ الِكفَاح أُرَوى الأَسَلْ
فيحتمل ويحتمل والله أعلم.
قلت: الاستدلال على أنها لأبي سعد بأن فيها أبياتاً لا يليق إنشاؤها ألا بالملوك استدلال لا ينهض، إذ كل كريم شجاع يسوغ له أن يتمدح ويقول عن نفسه ذلك، بل صناعة الشعر ومبالغاته تسوغ للشاعر القول، وإن لم يتصف بإنالة نائل ولا طول طائل.
ثم وليها جماز بن حسن بن قتادة في رمضان من السنة المذكورة.
وذلك أنه لما كانت سنة إحدى وخمسين وستمائة، قدم الشريف جماز هذا بعسكر من عند الناصر بن العزيز بن الظاهر بيبرس، ووعده أن يخطب له بمكة، فأمده بعسكر صحبة الركب الشامي، فتقدم أمام الركب ودخل مكة في رمضان من السنة المذكورة، واستولى على مكة وقتل ابن عمه أبا سعد الحسن بن علي بن قتادة وحج بالناس، ثم نقض عهد الناصر، ولم يخطب له، وخطب للملك المظفر بن المنصور بن المسعود صاحب اليمن، فلما كان آخر يوم من ذي الحجة من السنة المذكورة قدم عمه راجح بن قتادة ففر منه جماز بلا قتال إلى ينبع.
ثم وليها راجح بن قتادة وكان بمكة غلاء عظيم، وعطش بيعت شربة الماء بدرهم والشاة بأربعين درهماً، واستمر إلى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، فلما كان شهر ربيع الأول منها هجم عليه ابنه غانم بن راجح، وأخرجه من مكة بلا قتال.
فوليها غانم بن راجح في شهر ربيع الأول، واستمر إلى شهر شوال من السنة المذكورة.
ثم وليها أبو نمي بن أبي سعد بن قتادة، وعمه إدريس بن حسن بن قتادة، وأخرج غانم بن راجح منها.
وأبو نمي هذا: هو والد أبي سعد الحسن المذكور، وذلك أنه في شوال آخر السنة المذكورة أعني سنة اثنتين وخمسين وستمائة قبل وصول الحج إلى مكة قدم الشريف أبو نمي، وعمه إدريس وأخذا مكة من غانم بن راجح بعد قتال شديد قتل فيه من الأشراف ثلاثة.
فلما كان أول الحجة وصل من جانب الملك المظفر صاحب اليمن عسكر عليه أمير ابن برطاش فبرز له الأشراف أبو نمي وإدريس ومن معهما إلى خارج مكة، وتقاتلوا بالسرحة من قوز المكاسة، وكان معهم الشريف جماز بن شيحة، فقتل بين الصفين خلق كثير، وانهزم الأشراف، ودخل مكة عسكر الملك المظفر.
وفي عام ثلاث وخمسين وستمائة جمع الشريف أبو نمي محمد بن أبي سعد الحسن بن علي بن قتادة، وعمه الشريف حسن بن قتادة جمعاً عظيماً، وقصدوا مكة فدخلوها من رؤوس الجبال، وتقاتلوا وسط مكة هم وعسكر الملك المظفر صاحب اليمن فقتلوا غالب العسكر، وأسروا الأمير ابن برطاش، وسفكت الدماء بالحرم الشريف، وامتلأت البلد منهم رعباً بحيث لم يصل في الحرم أحد، ووقع بينهم في أيام الحج وبين أمير الحاج العراقي فتنة درأها الله تعالى بالصلح فسلم المسلمون، وفدى نفسه ابن برطاش الأمير، ورجع من حيث جاء.
وفي سنة أربع وخمسين وستمائة: استظهر إدريس على أبي نمي بإمرة مكة ثم اشتركا. وفي موسم خمس وخمسين وستمائة لم يحج أحد من أهل الحجاز، ولم ترفع راية من رايات الملوك لأحد بمكة.
وفي سنة ست وخمسين وستمائة خرج أبو نمي إلى ثقيف، وبقى إدريس بالبلد فهجم عليه أولاد حسن بن قتادة إخوتة بعد أن لزموه.
فوليها أولاد حسن بن قتادة في غيبة أبي نمي، فلما جاء أخرجهم منها في السنة المذكورة بغير قتال. وكانت مدتهم ستة أيام.
وفي سنة تسع وخمسين وستمائة حج الملك المظفر يوسف بن الملك المنصور صاحب اليمن معه المراكب تسايره في البحر مشحونة بالعلوفات والأطعمة، وأكثر في طريقه من الصدقات وفعل الخيرات والمبرات، والشريف أبو نمي، وعمه إدريس متوليين إمرة مكة، فلما سمعا به خرجا خوفاً منه، فدخلها المظفر في عساكر كثيرة محرماً خاشعاً حاسر الرأس حتى دخل المطاف، ثم نزل عسكره بالحجون، ولم يزل بمكة إلى أن قضى ما عليه من الوقوف بعرفة وبقية المناسك، ولم يزل مدة إقامته بمكة يصلي المغرب على قبة زمزم، وخدم البيت وغسله مع الخدام وصب عليه وكنس، وكسا البيت الشريف من داخله، ولم يكسه ملك قبله بعد الخلفاء العباسية، وقام بمصالح الحرم وأهله، ثم أقام بمكة عشرة أيام يفرق الصدقات حتى وصلت صدقاته إلى كل منزل بمكة، ونثر على الكعبة الذهب والفضة، وعمل للكعبة باباً وقفلاً، وودع البيت باكياً وعاد إلى بلاده، وفي غالب سلطنته كان يخطب له بمكة.
واستمر أبو نمي وعمه إدريس متوليين إمرة مكة إلى سنة سبع وستين، ثم انفرد بها أبو نمي، وأخرج عمه إدريس منها، وخطب لصاحب مصر الملك الظاهر بيبرس البندقداري، واشترط عليه السلطان أن لا يمنع زائراً لا ليلاً ولا نهاراً، ولا يعترض تاجراً بظلم، وأن تكون الخطبة والدعاء له، ولأبي نمي، وجعل له عشرة آلاف درهم في كل سنة، فأجاب الشريف أبو نمي بقبول هذه الاشتراطات، فلما ورد إلى السلطان من أبي نمي الإجابة بالسمع والطاعة وقبول ما اشترطه كتب السلطان إليه مرسوماً بإمرة مكة منفرداً.
ففي سنة ثمان وستين: حج السلطان الملك الظاهر بيبرس على تجريدة خيل وركاب، وكان قدم له مع الحج خيلاً وحملاً ومتاعاً في المنازل كلما أصبح في منزل ترك الخيل الأولى وأخذ المهيئات له، فارتحل إلى أن وصل مكة ثامن ذي الحجة آخر النهار، وقد طلع الناس عرفة، ولم يبق في مكة غير الشريف أبي نمي وعسكره، فاستنكروا ذلك وقالوا: ما يصل في هذا الوقت ألا من قصد إدراك الحج قبل فواته أو غريب ما قدم قبل ذلك لا يعرف العادة، ورأوهم جميعهم على الخيل البلق.
فقالوا لهم: من أين أنتم، من العراق أو من الكوفة أو من العجم أو من الترك؟ فقال السلطان: قولوا له: أليس قد قلت لا يجيئني ألا على خيل بلق فقد جئناك على البلق، ونحن محرمون، وهذا صاحب مصر معه أمراء مصر والشام وعرفوه كل أمير، باسمه فإن تقتل الجميع فاقتلهم، وكان الشريف أبو نمي قد قال مثل هذا القول في العام الماضي، فاستغفر وتقدم إلى السلطان وقال: العفو يا مولانا السلطان، ثم ركب وسعى مع السلطان، وأشهد على نفسه أن لا يمكس أحداً من الحجاج القادمين براً وبحراً ويبطل الجباية والمظالم إلى أن تقوم الساعة وكتب عليه الإشهاد بذلك، فبطل ذلك وكان في صحائف الملك الظاهر بيبرس، وتصدق السلطان بالحرم وفرق كساوي على أهله وعلق كسوة الكعبة بيده وزار من بمكة من الصالحين، وأحسن إحساناً كثيراً إلى الشريف أبي نمي، وكذلك لأمير المدينة، وكتب لأبي نمي وإدريس أن يكون حالهما واحداً في إمرة مكة فعادا شريكين. ثم انفرد إدريس بها أربعين يوماً، ثم قتل أبو نمي عمه إدريس في حرب كانت بينهما بخليص، وانفرد بها، وذلك أنه لما استظهر عمه إدريس عليه، وأخرجه من مكة، وانفرد بالإمرة خرج أبو نمي هارباً من عمه إدريس من مكة، ووصل إلى ينبع، واستنجد بصاحبها وحشد، وجمع وقصد مكة بالجيش، فالتقى هو وعمه إدريس بخليص وتحاربا فطعن أبو نمي عمه فألقاه من ظهر الفرس ونزل واحتز رأسه، واستقل بالولاية منفرداً وذلك في سنة 669 تسع وستين وستمائة.
وله وقائع مشهورة مع ملوك مصر وغيرهم، منها أنه في سنة 683 ثلاث وثمانين وستمائة كانت فتنة بينه وبين واحد من أبناء أخيه لأجل ما يؤخذ من الحاج، قيل: كانوا يأخذون من حج اليمإني في كل جمل ثلاثين درهماً، ومن حاج مصر على كل جمل خمسين درهماً، ومع هذا لا يسلمون من النهب والعسف، فلما حج الظاهر بيبرس أزاله ثم أعادوه، فأرسل الملك المظفر عسكراً ملكوا مكة، فجمع أبو نمي عسكراً، ودخل إلى مكة، وأخرج عسكر اليمن، وزاد على الحجاج في الجباية، ووصله جيش من مصر، فلما وصلوا إلى قرب مكة قفل أبو نمي أبواب سور مكة، ومنعهم من الدخول، فاجتمع الحجاج فهدموه، وأحرقوا باب المعلاة ودخلوا مكة هجماً بعد فرار أبي نمي من مكة زمن الحج، فخشي الملك من عوده فترك بها ثلاثة آلاف مع نائب من قبله فأقاموا بها، فاتفق أن ألفاً منهم خرجوا لناحية منى للتنزه فكمن لهم الشريف أبو نمي في خيل، ورجل بمسجد الخيف، فلما عادوا قاصدين إلى مكة هجم عليهم فقصد أميرهم فقتله ثم قال: كل من قتل فارساً فله فرسه، فعاد أكثر رجله خيالة، ثم صدقوا المحاربة والمجالدة معه، فكسروا الألف عن آخرهم، وانتصروا وغنموا خيولهم وسلاحهم وتفكك منهم أفراد فلحقوا بالباقين بمكة، وعرفوهم الحال وأن لا طاقة لكم به فهزم الجميع إلى مصر، فلما بلغ ذلك ملك مصر جهز جيشاً كثيفاً لقتال أبي نمي المذكور، ثم عزم على الوصول إلى مكة بنفسه، فأتاه أحد العلماء الصالحين، وسأله عن توجهه، فقال: إنه لقتل الشريف أبي نمي وأهله، فقال له ذلك العالم إنك حسنت العبارة، ولكن الناس يقولون إنك ذاهب إلى حرم الله تعالى، وقتل أولاد حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك من الملك موقعاً ورجع عن عزمه، ثم راسل الشريف أبا نمي بالمراسيل والهدايا والكلام اللين حتى زالت الوحشة بينهما وأقره على إمرة مكة.
وفي سنة تسع وثمانين وستمائة وقع بين الشريف أبي نمي وبين الحاج فتنة عند الثنية - أعني الشبيكة - وانتهى الأمر إلى أن دخلوا الحرم، ورؤي في الحرم الشريف أكثر من عشرة آلاف سيف، وقتل بين الفريقين فوق أربعين نفساً، وقتل ولد السيد أحمد بن علي بن قتادة وأصيب بسهم، وأما الجرحى فكثيرون، ونهبت أموال الناس.
وفي موسم إحدى وتسعين وستمائة وقعت بعرفة جفلة عظيمة، ولزم راجح بن إدريس أمير الينبع، ئم عزموا به إلى مصر وسلم الله المسلمين.
وكانت الوقفة بالثلاثاء، وتعبت الناس من قلة الماء فبيعت الراوية بأربعة دنانير، ورحل الحاج قبل وقته المعتاد، واستمر إلى أن أخرجه جماز منها.
ثم وليها جماز بن شيحة أمير المدينة وغانم بن إدريس بن حسن بن قتادة أمير ينبع المبارك، وأخرجا أبا نمي المذكور منها في صفر من سنة 690 تسعين وستمائة.
ثم عاد أبو نمي بعد أربعين يوماً وأخرجهما منها.
ثم وليها جماز بن شيحة بمفرده عام سبع وتسعين وستمائة بمعاونة أمير يقال له الحكاحكي كان بمكة من قبل الملك المنصور قلاوون صاحب مصر والشام، وخطب لجماز بمكة المشرفة، وضربت السكه باسمه فيها، وبطل ذلك بعد مدة يسيرة من السنة المذكورة، ثم عاد أبو نمي، وتفرد بها ودامت ولايته عليها إلى أن مات عام إحدى وسبعمائة، فقبل موته بيومين ولى ولديه حميضة ورميثة أمر مكة كما سيأتي.
ولنذكر طرفاً من محامده فنقول: ولى أبو نمي محمد هذا مكة نحو خمسين سنة، مشاركاً لأبيه وعمه ومنفرداً، أما مشاركته لأبيه فكانت أيام صباه وسنه سبع عشرة سنة وكان يكنى أبا مهدي، ويلقب بنجم الدين، وسبب مشاركته لأبيه أبي سعد الحسن بن علي بن قتادة أن راجحاً بن قتادة عم والده أبي سعد استنجد أخواله بني حسين بالمدينة وطلب منهم الإعانة على إخراج ابن أخيه أبي سعد الحسن بن علي المذكور والد أبي نمي المذكور من مكة وأخذها منه، فسار معه من المدينة سبعمائة فارس من بني حسين وجماعتهم وعليهم الأمير عيسى الملقب بالحرون فارس بني حسين في زمانه، وكان أبو نمي في الينبع، فلما بلغه خبر راجح وخروجه ببني حسين معه من المدينة إلى قتال أبيه، وإخراجه من مكة قصد مكة لنصرة أبيه في أربعين فارساً، فصادف راجحاً وعيسى وجماعتهم سائرين إلى مكة ليس لهم خبر، فلما تراءى الجمعان حمل أبو نمي عليهم فما حملوه لحظة حتى ولوا هاربين إلى المدينة، وانتشرت عمامة عيسى الحرون، وذهب يجرها خلفه، فقال السيد جعفر الحسينى النسابة - وهو لسان بني حسن بالعراق - قصيدة يذكر فيها الواقعة، ويمدح أبا نمي محمد بن أبي سعد المذكور، منها من الوافر:
أَلَم يَبلُغكَ شَأنُ بني حُسَين ... وَفَرهمُ وَماً فَعَل الحَرُونُ
فَياً لله فِعلُ أبي نُمَي ... وبعضُ البَأسِ يُشْبِهُهُ الجُنُونُ
يَصُول بِأربَعِينَ عَلَى مِئَاتٍ ... وَكَم من كَثْرَةٍ ظَلتْ تَهُونُ
وكان إذ ذاك عمره سبع عشرة سنة، ثم دخل مكة مسروراً منصورَاً، فقابله أبوه بالإعزاز والإكرام، وأشركه معه في الملك من حينئذ، ثم شاركه عمه إدريس إلى آخر ما تقدم. وكانت له شجاعة مشهورة، وخصال حميدة مذكورة. قال ولده حميضة: كانت لأبي خمس خصال: العز والكرم والحلم والشجاعة والشعر.
من شعره مدحاً في المنصور لاجين ملك مصر لما تسلطن بعد كتبغا سنة ست وتسعين وستمائة وأرسل بها إليه، وهي: من الطويل:
أَماً وتعادى المُقرَبَاتِ الشوَازِبِ ... بفُرسَانها في ضِيقِ ضَنكِ المَقَانِبِ
وبِالجَحفَلِ الجَرّارِ أَفرَطَ جَمعُهُ ... كَأَسرَاب كُدرِى أو سَوَارِ قَوَارِبِ
وبِالزرَدِ الموضونِ ضمّت غُضُونُهُ ... عَلَى كل مَاضِي العَزْمِ حَتف المحَارِبِ
وبالبَيض والبِيضِ الرقَاقِ أَلية ... لِنَثر عِدَاتِي حَلْفة غَيْر كاذبِ
لقد نُصِرَ الإسلامُ بالمَلِكِ الذِي ... رقَي في سَمَاءِ المجد أَعلَى المراتبِ
حُسَامُ الهدَى والدينِ مَنصُور الذِي ... تَرَعرَعَ مِنْ شُم المُلُوكِ الشنَاخِبِ
ملوك جِهَاتِ الأَرضِ تَعنُو لِقَهرِه ... فَمَرهُوبُهاً مِنْ سَيفِهِ أي رَاهِبِ
تَفَرَدَ بالملكِ العَظِيمِ فَلَم يَزَل ... لَهُ خَاضِعاً صِيدُ الملوكِ الأغالِبِ
مضَى كتبُغا خَوفَ الحِمَام وقد أتَت ... إليه أُسُودُ الخَيلِ من كُل جَانِبِ
وأَحْيَيْتَهُ بالعَفوِ مِنكَ وزِدتَهُ ... لِبَاس أَمَانٍ من عِقَابِ العَوَاقِبِ
وأَحَرزتَ مُلكَ الأرضِ بالسيْفِ عَنوَةً ... وَعبدت من في شَرْقِها والمغَاربِ
تَوَليْتَ هَذاً الأَمْرَ في خَيْرِ طَالِعِ ... لِأَسْعَدِ نَجْمٍ للسعَادةِ ثَاقِبِ
قلت: والله إنها لقصيدة فصيحة، في اللفظ والمعنى صحيحة. وما أحسن بيتها الثاني، وتشبيهه البديع المعاني.
وكانت وفاته بمكة المشرفة رابع شهر صفر سنة إحدى وسبعمائة بتقديم السين وقد أناف على السبعين.
ووقعت له كرامة بعد موته ذكرها العلامة تقي الدين الفاسي قال: لما مات أبو نمي محمد بن أبي الحسن بن علي بن قتادة امتنع الشيخ عفيف الدين الدلاصي من الصلاة عليه، فرأى في منامه تلك الليلة السيدة فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبيها وعليها وذويها بالمسجد الحرام والناس يسلمون عليها، فجاء الشيخ ليسلم عليها فأعرضت عنه ثلاث مرات ثم إنه تحامل وسألها عن سبب إعراضها عنه، فقالت: يموت ولدي ولم تصَل عليه، فاعتذر منها وتاب عن مثل ذلك واعترف بالخطأ.
وله من الولد ثلاثون ذكراً واثنتا عشرة أنثى، منهم: زيد الأكبر، وزيد الأصغر، وأبو الغيث، وشميلة، وعطيفة، ورميثة، وسيف، وأسد، ومقبل، وحميضة، وعبد الله.
ثم وليها بعد أبي نمي ولداه حميضة يلقب معز الدين، ورميثة يلقب أسد الدين في حياته، ودعي لهما على زمزم قبل وفاته بيومين في السنة المذكورة سنة إحدى وسبعمائة.
واستمرا شريكين في الإمرة. فلما وصل الحاج وصل صحبته ثلاثون أميراً، فجاء إليهم أبو الغيث وعطيفة، وشكوا إليهم من حميضة، ورميثة أنهما أسراهما وربطاهما، واستبد بالإمرة دونهما وأنهما أحق منهما، فمال الأمراء إليهما، فلما انقضى الموسم أمسك الأمراء رميثة وحميضة، وأوثقوهما في الحديد، وذهب بهم إلى مصر، وولوا أبا الغيث وأخاه عطيفة فأقاما إلى عام ثلاث وسبعمائة.
ثم عاد كل من حميضة ورميثة إلى إمرة مكة المشرفة عام أربع وسبعمائة، وأظهرا عدلاً وأسقطا بعض المكوس، ثم ساءت سيرتهما فبعث الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون من يقبض عليهما فانهزما.
ثم في سنة اثنتي عشرة حج الناصر ففرا منه.
ثم في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة وصل عسكر من صاحب مصر المذكور نحو ثلاثمائة فارس، وأمدهم صاحب المدينة بخمسمائة فارس، ووصل معهم أبو الغيث، فلما سمع بهم رميثة وحميضة خرجا إلى حلى بن يعقوب.
ثم وليها أبو الغيث بمفرده، فعزلهما بأخيهما أبي الغيث منفرداً، وجهز معه عسكراً قوياً فاستولى على مكة أيام الموسم من السنة المذكورة، ثم أقام العسكر عند أبي الغيث شهرين، وكانت مكة مقحطة جداً، فتعب الجند من الغلاء، وضجر أبو الغيث من النفقة عليهم، فكتب لهم خطة بالاستغناء عنهم ففارقوه، فلم يلبث بعدهم سوى جمعة حتى قصده أخوه حميضة فقاتله، فانهزم أبو الغيث، وقتل من أصحابه جماعة، وفر هو إلى أخواله هذيل بوادي نخلة، وأرسل حميضة إلى الملك الناصر يستعطفه فلم يرض عنه، وأرسل أبو الغيث يستنصره فوعده بالنصر، ثم التقى الأخوان في رابع ذي الحجة عام أربع عشرة وسبعمائة فغلب حميضة أخاه أبا الغيث فأسره، ثم أمر بعد ذلك بعض عبيده بقتله فقتله بخيف بني شديد ذبحاً بحضرة الناس فهالهم ذلك.
قال في عمدة الطالب: إن حميضة قتل أخاه أبا الغيث على فراشه، وحمله إلى داره ثم استدعي إخوته للضيافة، فاجتمعوا فما راعهم ألا أبو الغيث مقتولاً في جفنة مسلوقاً كما هو وقد وضع بين أيديهم، وعلى رأس كل واحد منهم غلامان أسودان من غلمان حميضة معهم السلاح، فأذعنوا له بالملك قهراً، ودامت له الولاية على مكة حتى فارقها في رمضان سنة خمس عشرة وسبعمائة لما سمع بوصول أخيه رميثة.
ثم وليها رميثة منفرداً متولياً إمرة مكة المشرفة في عسكر معه من مصر، وذلك في سنة خمس عشرة وسبعمائة، فلما سمع حميضة فزع لذلك، وقبل وصولهم إلى مكة بستة أيام أخذ المال من النقد والبز وهو مائة حمل، وأحرق الباقي في الحصن الذي في الجديدة من وادي مر وقطع ألفي نخلة.
وكان وصول العسكر صحبة الشريف رميثة إلى مكة يوم السبت منتصف رمضان من السنة المذكورة، فأقاموا بها ثلاثة عشر يوماً، ثم توجهوا جميعاً إلى الحليف وهو حصن بينه وبين مكة ستة أيام كان حميضة بعد فعل ما فعله التجأ إلى صاحبه، وصاهره لعله يحتمى به، فواقع العسكر حميضة، وصاحب الحصن، وأخذوا جميع أموال حميضة وخزانته، ونهب الحصن وأحرق وأسر ولد حميضة ابن اثنتي عشرة سنة، وسلم إلى عمه رميثة، ثم رجع الجيش إلى مكة في الخامس والعشرين من ذي القعدة، واستمروا إلى أن حضر الموقف ورجعوا، واستمر رميثة بمكة ونجا حميضة بنفسه، فقصده أخوه الشريف رميثة والعسكر فحاربوه، فهرب حميضة، ثم احتال عليه الناصر ملك مصر واعتقله، ثم احتال في الهرب، وذلك أنه أمر بعض غلمانه الخاصة أن يهيء له فرشاً سابقاً ليهرب عليه، فلما تمم له ذلك حضر الغلام إلى باب السجن والفرس معه، فأوقفه ناحية، ثم دخل إلى سيده، ثم لبس السيد لباس الغلام، والغلام لباس السيد، فلما خرج على الموكلين لم يشكوا أنه الغلام، فهرب على فرسه وقصد العراق واستنصر بملكه خدابنده بن أرغون بن ابغا بن هولاكو ملك التتار، وطلب منه جيشاً يغزو به مكة فجهز معه جيشاً عدتهم عشرة آلاف فارس، وأمر عليهم السيد أبا طالب الدلقندي، وأمرهم بطاعة حميضة، فساروا إلى البصرة، ومنها إلى القطيف طالبين أطراف الشام، وأرسل حميضة إلى أمراء العرب من كل ناحية، فأجابوه والتجئوا إلى أمراء طَيء بالبادية فقدر الله موت السلطان خدابنده، وكتب الوزير رشيد الدين الطبيب إلى عسكر المغول بالخبر فلم يدبروا، واشتهر الخبر فطمع العرب في عسكر المغول، ونكثوا العهد، وثاروا وأوقدوا نار الحرب فحارب حميضة بنفسه، ودافع عن عسكر المغول دفاعاً شديداً بحيث إن أبا طالب قال: ما زلت أسمع بحملات علي بن أبي طالب حتى رأيتها عياناً في حميضة بن أبي نمي، وتسحب حميضة ومعه أبو طالب، وملك شاه ومعهم ثلاث وعشرون راحلة إلى أن قرب إلى مكة، وكتب إلى أخيه رميثة يستأذنه في دخول مكة فمنعه ألا بإذن سلطان مصر، وأرسل إلى مصر يستأذن له وإن حميضة لم يكن معه ألا فرس واحد، فكتب السلطان جواباً لرميثة: إن حضر حميضة إلى الديار المصرية على عزم الإقامة بها قابله السلطان بالأمان وسامحه من ذنوبه السالفة، وأما الحجاز فلا يقيم به. وكتب إلى أبي طالب الدلقندي وملك شاه بالأمان، وأرسل عدة أمراء إلى مكة لإحضار حميضة، ولو حضر من التتار، فوصلوا إلى مكة وأرسلوا إلى حميضة في معاودة الطاعة وأن يتوجه معهم إلى الأبواب، فاعتذر بالعدم، وطلب ما يستعين به فأعطوه، فلما قبض المال تغيب، فعادوا إلى القاهرة في سادس عشر جمادى الآخرة من سنة سبع وعشرين وسبعمائة، فلما كان سنة ثمان وعشرين وسبعمائة أو في أواخر السنة التي قبلها وثب على أخيه رميثة، واستولى على مكة فخرج منها أخوه رميثة إلى نخلة، فقطع حميضة الخطبة عن الناصر وخطب لأبي سعيد بن خدابنده ملك التتار، فانزعج الناصر لذلك، وأرسل عسكراً لإحضار حميضة بسبب ما فعل في مكة من خطبف لصاحب العراق خدابنده، وأخفه أموال التجار، ومحاربته أخاه رميثة، وإخراجه إياه من مكة، وقد كان فعل ذلك كله فلما بلغه فر من مكة، فلما دخلها عسكر الناصر ومنعوا العبيد من حمل السلاح، ونادوا بالأمان، وأظهروا العدل، فأرسلوا في طلب حميضة فإن السلطان ألزمهم بتحصيله وحمله إلى مصر وألا يعودوا إلى الديار المصرية ألا بحميضة، وأرسلوا إلى العسكر أميراً يقال له بهادر الإبراهيمي كان من أهل ينبع، فلما وصلوا توجه الإبراهيمي لمحاربة حميضة، وتقاربا فلم يقدم الإبراهيمي على مواجهته وفر حميضة، فاقتضى رأي العسكر أن يلزموا رميثة والإبراهيمي باتهامهما أنهما باطنا على حميضة حتى فر، وكان القبض عليهما رابع عشر ذي الحجة الحرام بعد انقضاء أيام التشريق وأرسلوا بهما تحت الاحتفاظ إلى مصر، فلما وصلا مصر رسم على الشريف رميثة، ثم شفع فيه، فأكرمه السلطان، ورتب له كل يوم شريحتين ذهباً، وكان يطلع إلى الديوان إلى يوم من الأيام خرج إلى أطراف مصر، وكان قد هيئت له النجب فركب وفر، فلما علم السلطان به أرسل في إثره، وألزم بعض مشايخ العرب وكتب إلى شيخ آل حرب يقول له هذا هرب إلى بلادك معتمداً عليك، ولا أعرفه ألا منك، وإن لم تأتني به فأنت خصمي فأنت الذي أعنته على الخروج
فركب شيخ آل حرب بالهجن السبق وسار مجداً حتى أدرك الشريف رميثة تحت العقبة - وقد اطمأن فنام - فجلس عند رأسه، وقال له: قم يا أسود الوجه. فقال له الشريف رميثة: صدقت لو لم أكن أسود الوجه مانمت حتى أدركتني. فلزمه ودخل به إلى مصر فوضع في السجن الكبير، واحتفظ عليه، وكان القبض عليه في شهر جمادى الأولى سنة تسع عشرة وسبعمائة، وتوجه إلى مكة وكان أمرها لأخيه عطيفة الآتي ذكره على الفور وولوا على مكة الشريف عطيفة.ركب شيخ آل حرب بالهجن السبق وسار مجداً حتى أدرك الشريف رميثة تحت العقبة - وقد اطمأن فنام - فجلس عند رأسه، وقال له: قم يا أسود الوجه. فقال له الشريف رميثة: صدقت لو لم أكن أسود الوجه مانمت حتى أدركتني. فلزمه ودخل به إلى مصر فوضع في السجن الكبير، واحتفظ عليه، وكان القبض عليه في شهر جمادى الأولى سنة تسع عشرة وسبعمائة، وتوجه إلى مكة وكان أمرها لأخيه عطيفة الآتي ذكره على الفور وولوا على مكة الشريف عطيفة.
ثم وليها الشريف عطيفة بن أبي نمي من الملك الناصر وأنفذ معه عسكراً فبلغوها سنة تسع عشرة وسبعمائة، وعليهم أميران وأقاموا عنده، ثم توجه الأميران اللذان كانا بمكة العام الماضى وكتب الشريف عطيفة أن القواد أطاعته وأن الشريف حميضة عزم اليمن، وتفرق عنه العربان، وبنو شعيب الفين كانوا معه جنده، ورخصت البلاد وأمنت الناس على أموالهم ودمائهم. فلما بلغ الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر ذلك خرج إلى الحج تاسع ذي القعدة بعد الحاج، ووصل إلى مكة بتواضع وانكسار وذل بحيث إن بعض الناس حسن له الطواف راكباً كما فعله صلى الله عليه وسلم فقال: ومن أنا حتى أتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم والله ما أطوف ألا مع الحجاج، فكانوا يدفعون عنه الناس، وهو ينضم إليهم يقول: لعلي أقبل برحمة واحد منهم.
وأبدى من المعروف والإحسان والخير في الحرمين ما لا يوصف، وسأله التجار وأهل مكة أن يبقى عندهم عسكراً لئلا يرجع إليهم حميضة ففعل.
واتفق ذلك العام أن شخصاً من أكابر خدام الدولة طلع إلى البيت ليباشر في الكسوة، وجلس على طُنفِ البيت الشريف، فأنكر الناس جلوسه وعدم أدبه، فأخذه النعاس فسقط من أعلى البيت إلى المطاف فكان أعظم عبرة لمن اعتبر.
وعزم السلطان إلى مصر. فقدم حميضة من اليمن بجيش سنة عشرين وسبعمائة، فأراد دخول مكة فلم يظفر، وانتصر عليه عطيفة ومن معه من العسكر المقيمين بمكة الذين أبقاهم الناصر، فلما ولى هارباً خرج معه ثلاثة من المماليك، وأقاموا عنده.
وكان بمكة أمير العسكر يسمى بيبرس الحاجب أرسل إلى الشريف حميضة يرغبه، مكة والصلح والحلف، وكان الشريف حميضة بقرب نخلة، فقال له الشريف حميضة: أرسل إلى أحد أولادك يكون عندي رهينة، فأرسل إليه الأمير بهدية صحبة ولده وجماعة، ففي حال خروجهم إليه جاء الخبر بموت الشريف حميضة وأنه وثب عليه بعض مماليكه، وهو نائم فقتله، جاء بهذا الخبر رجل من الأعراب، فأنكر الأمير وقوع ذلك وظن أن ذلك مكيدة فتوقف عن إرسال ولده والهدية، فلما كان المساء طرق باب المعلاة بمكة ففتح فإذا مملوك اسمه استدمر وهو على حجرة حميضة وصل إلى مكة فأرسل الأمير ولديه ناصر الدين محمد وشهاب الدين أحمد إلى الأبواب السلطانية بهذا الخبر، وجهز من توجه لإحضار سلب حميضة والمملوكين الباقيين، فأحضر السلب وأحد المملوكين، وقيل: إن الثالث مات، فألزم صاحب نخلة بإحضاره، وتوعده إن تأخر فأحضره، واستمر الأمير بيبرس إلى أن عاد الجواب بطلبه، فتوجه في شعبان، ووصل إلى مصر أوائل رمضان فشمله الإنعام السلطاني، وكان مع الشريف حميضة هذه المهرة عزيزة اسمها جمعة طلبها منه السلطان في السابق فلم يسمح له بها، ولما وصل الخبر إلى السلطان أمر بقتل المملوك القاتل وهو أحد مماليك ثلاثة للسلطان هربوا لما كان بمكة للحج، ووصلوا إلى حميضة اسمه استدمر، أخبر أنه قتل حميضة اغتاله، وهو نائم وفر على حجرة حميضهْ المسماة جمعة المشهورة، ثم جرد سيفه وإذا به أثر الدم، وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة عشرين وسبعمائة.
وذكر اليافعي أن حميضة كان يقول: لأبي خمس فضائل: الشجاعة، والكرم، والحلم، والشعر، والسعادة. فالشجاعة لعطيفة، والكرم لأبي الغيث، والحلم لرميثة، والسعادة لي حتى لو قصدت جبلاً لدهكته. ومما قيل في حميضة قول موفق الدين الحديدى قصيدة هي: من الخفيف:
قَدَحَ الوَجدُ في فُؤَادِي زِنَادا ... مَنَعَ الجَفنَ أن يَذُوقَ الرقَادا
وفُؤَادُ الشجِي يَومَ الآل ... سَاقهُ سَائِقُ الظعُونِ وَقَادا
بَدلينى بِالوَصلِ هَجراً وبالزو ... رَةِ صَدَّا وبالتداني بِعَادَا
يا مُعِيدَ الحَديثِ عُدنِيهِ عَنهُم ... ما أَلَذ الَحدِيثَ عَنهُم مُعَادا
هاتِ بالله ياً مُحَدثُ حَدث ... بِجِيَادٍ جَاد الغَمَامُ جِيَادا
بَلَداً بِالشرِيفِ شَرَّفَهُ الل ... ه بِقَاعاً شيحَانُهُ وَوِهَادا
مَلِك من قتادة مَلأَ الأَر ... ضَ نِصَالاً مَحشُودَةً وصِعَادا
إن أكُن في حميضَةٍ زِدتُّ في المَد ... حِ فَقَد زَادَ في نَوَالِي وَزَادَا
رَجُلْ سَالَمَ المسالِمَ في الل ... ه وفي اللهِ للمُعَادِينَ عَادَي
عَادَ أبدى أولَى فَوَالَى تَعَالَى ... عَزَّ أَعطَى سَطا أَفَادَ أَبَادَا
جَادَ أغنَى عَلاَ سما جَلَّ جَلى ... ظُلَمَ الظلمِ عَدلُهُ سَارَ سَادا
حَسَن السمتِ لَيسَ يَحسُنُ أن تَس ... مَعَ ألا في مِثلِهِ الإنشَادَا
إبن بِنتِ النبي لَمَ يَجعَلِ الل ... ه سِوَاكُم لأرضِهِ أَوتَادَا
يا رِكَابَ الآمَالِ ويحَكِ بالنُّج ... حِ بحصنِ الجَدِيدِ أُمي نِجَادا
يا جَوَادَ الزمَانِ ما زُزتَ مَغنَا ... ابتُ من عِندِهِ أَقُودُ جَوادَا
كُل شِعر أَتَاكُمُ غَيرُ شِعرِي ... يا أَبا زيد لَيسَ يَسْوَى المِدَادا
وقال في العمدة: إن السلطان الناصر هو الذي دس عليه من قتله غيلة والله أعلم بالحقائق ثم إن السلطان أطلق الشريف رميثة حينئذ من السجن وأحسن إليه، وأشركه في إمرة مكة مع أخيه عطيفة وذلك في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة، وكانت سنة قحط لعدم الأمطار وعدم الواصل من البحر، فتوجه الشريف عطيفة إلى مصر وشكا لك، فرسم السلطان بحمل الحب إليها ورتب لصاحب مكة كل عام شيئاً يحمل إليه بلدين بالصعيد، وألزمه أن يسقط المكوس التي تؤخذ من مكة على المأكولات التي تجلب إليها ففعل ذلك.
وفي موسم سنة 730 ثلاثين وسبعمائة اتفق أن أهل العراق جاءوا بفيل عظيم جعلوا محملهم عليه، فتطير العالم منه، وقالوا: هذا عام الفيل، ثم دخلوا به مكة، ووقفوا به بعرفة ثم توجهوا به إلى المدينة المشرفة، فلما وصلوا الفريش، وقدموا على البيداء، أوقفه الله فلم يستطع المشي، فضربوه ضرباً مبرحاً فلم يبرح، فلم يزالوا يضربونه حتى مات هنالك، وقدر الله بعد إتمام الحج بمكة أن سافر أمير أول وتأخر أمير المحمل المصري المسمى أزدمر الخازندار تأخر لصلاة الجمعة، فلما صعد الخطيب المنبر عبث بعض العبيد بخطف شيء من أمتعة الحجاج بباب إبراهيم، فصرخت الناس، فارتج المسجد، ففزع السيد مبارك بن عطيفة وقواده بآلة الحرب وركبوا الخيل، وتبعهم الشريف عطيفة، فبادر ولد أمير الحاج لتخميد الفتنة فأصابته حربة، ففزع والده أمير الحاج أزدمر وهم بقتل الضارب فأصابته حربة أخرى فماتا جميعاً، فاشتد الأمر وعظم وهجم بالخيل إلى المسجد الحرام، ونهبت الأسواق، وتعب الشريف عطيفة، وتحير في أمره ولم يستطع ردهم ولا قهرهم، وكان حتى الحاج نفسه ينهب بعضه بعضاً.
فلما بلغ السلطان ذلك أمر بقتل الأشراف، وقطع الأشجار من وادي نخلة والأدوية، وأجلى نساءهم وأولادهم، وجهز عسكراً وأمرهم أن يقيموا بمكة ولا يرتحلوا حتى يقضوا حاجته في المأمور فيهم بذلك. وكان شخص من أهل العلم يسمى قاضي القضاة جلال الدين القزويني واعظاً فقام ووعظ السلطان ونهاه أن يحدث في حرم الله أو أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا مولانا الرأي أن ترضيهم وتأخذهم بالطيب، فأرسل إليهم بعض الأمراء بدون ما كان جهزه ونواه، وعزل الشريف عطيفة لأنهم اتهموه بقتل الأمير أزدمر الخازندار المذكور بعد أن دام سلطانه عليها إلى سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، ورضي عن الشريف رميثة، وأعاده لولاية مكة.
فوليها رميثة بمفرده، وولاه إمرتها مفرداً مستقلاً إلى عام أربع وثلاثين، ومضى عطيفة إلى مصر بعد عزله، ووصل متولياً لإمرة مكة شريكاً لرميثة، ثم أخرجه رميثة ليلة رحيل الحاج من مكة من هذه السنة، ثم اشتركا في ذي الحجة من سنة خمس وثلاثين وسبعمائة.
ثم في رمضان من سنة ست وثلاثين هجم رميثة مكة وخرج منها بعد قتل وزيره الرباع وبعض أصحابه وعاد إلى الجديدة، ثم اصطلحا واشتركا في الإمرة سنة سبع وثلاثين وتوجها إلى مصر للملك الناصر مطلوبين، فعوق عطيفة فيها ولزم حتى مات بها في سنة ثلاث وأربعين بالقبيبات ظاهر القاهرة ودفن هناك، وكان موصوفاً بشجاعة مفرطة رحمه الله تعالى ومما قيل فيه قول العلامة شرف الدين يحيى المعروف بالقشر المكى قصيدة منها: من الكامل:
تَجرِى مَقَادِيرُ الإله بماً تَشا ... والدهرُ قد ألقى إليكَ زِمَامُهُ
أللهُ أَعطاكَ الذي أَملتَهُ ... فَدَعِ الحَسُودَ تُمِيتُه أَوهَامُهُ
ما للسكُوتِ إفَادةٌ عَنْ كل من ... أَمدَت بِه بَيْنَ الوَرَى أَجْرَامُهُ
ها قد قَدَرتَ فَلاَ تَكُن مُتَوَانياً ... فَالأُفْعوَانُ قَوِية أَشمَامُهُ
لاَ تَحلمَن عَنِ العَدُو تَكَرماً ... كَم سَيدِ ضَرت به أَحلاَمهُ
لاَ تَحقرنَّ أَخا العَدَاوة إِنَهُ ... كَالجَمرِ يُوشِكُ أَنْ يَضُرَّ ضِرامُهُ
أَنتَ المليكُ ابنُ المليكِ أصَاَلةَ ... فَالجُودُ مِنكُم وُفرَت أَقْسَامُهُ
أَوَ ماً عَلِمتَ بأن فِيك فَصاحةَ ... ما حَازها قُس ولاَ أَقوَامُهُ
ليثٌ تَخَافُ الأُسدُ من سَطَوَاتِهِ ... غيث يَجودُ عَلَى الأَنامِ غَمَامُهُ
مَن لَيسَ مَشغُولَ البَنَانِ عَن النَّدى ... يَوماً إذا شغَلَ اليَمِينَ حُسَامُهُ
وعاد رميثة متولياً منفرداً، فوصل في سنة سبع وثلاثين، ولم يزل منفرداً بها مستقلاً إلى سنة أربع وأربعين وسبعمائة كما سيأتي.
ووقع في ولاية الشريف رميثة بن أبي نمي واقعة وهي أنه لثلاث وأربعين وسبعمائة وقعت فتنة بعرفة بين الحجاج المصريين، وبين أهل مكة من أهل مكة من قبل الظهر إلى غروب الشمس قتل فيها جماعة، ومن الترك ستة عشر نفراً، ومن أتباع الأشراف ناس قليل، ونفر الناس من عرفة قبل الغروب، وسلكوا طريق المظلمة، ولم يقفوا بمزدلفة، ورحل الحجاج جمعيهم يوم النفر، ونزلوا الزاهر، ولم يطوفوا خوفاً على أنفسهم، وتعرف هذه السنة عند أهل مكة بسنة الظلمة، وأصيب في هذه السنة السيد محمد بن عقبة بن إدريس بن قتادة بن إدريس بن مطاعن يوم الثلاثاء حادي عشر ذي الحجة الحرام.
ثم في سنة أربع وأربعين وسبعمائة: وقع بين أهل مكة كذلك وأمير الحاج حرب، وقتل جماعة، وسلم الله الأشراف، ولله الحمد والمنة.
وسلم الله الحج من النهب ببركة الشريف رميثة، غير أنه كان غلاء عظيم بيعت الويبة الشعير بدينارين، والرطل البقسماط بثلاثة دراهم، والويبة الدقيق بخمسين درهما والإردب القمح بمائتي درهم، وكان الحاج المصري والشامي كبيراً جداً.
وفيها أعني سنة أربع وأربعين وسبعمائة: اشترى الشريف عجلان بن رميثة، وأخوه الشريف ثقبة بن رميثة اشتريا مكة من أبيهما رميثة بستين ألف درهم، لأنه كبر سناً، وصار أولاده كل منهم يحكم في البلاد بما شاء واختار، فما رضي بذلك ملك مصر لما بلغه، وأرسل إلى الشريف ثقبة وخدعه وطلبه إليه، فلما وصل إليه بمصر حبسه، فعندما بلغ الشريف عجلان حبس أخيه ثقبة أخذ جلاب اليمن جميعاً فكان ذلك بعض أسباب الغلاء، وأعاد رميثة إلى إمرة مكة فعاد واستمر إلى سنة ست وأربعين وسبعمائة، فعزل عنها بابنه عجلان، وكان الملك الكامل ولاه ذلك من مصر.
فوصل مكة متولياً ودخلها في حياة أبيه.
وتوفي والده رميثة في النصف من شهر ذي القعدة الحرام من السنة المذكورة.
وكان الشريف رميثة سيداً جليلاً فاضلاً نبيلاً، شاعراً كريماً، حازماً حليماً.
ولما تغلب ابنه أحمد على الحلة وأعمالها من العراق كتب إليه أبوه رميثة قصيدة يذكر فيها شرف مكة وفضائلها ويذم العراق وأهله، فلما قتل أحمد وصل الخبر إلى أبيه فقال: قد علمت منذ تعرض لبلاد المغول أنه مقتول.
وانقطع الحاج عن مكة خوفاً من أبيه رميثة.
وكانت وفاة رميثة يوم الجمعة الثامن من ذي القعدة الحرام سنة ست وأربعين وسبعمائة كما تقدم وطيف به أسبوعاً كما هي عادة أسلافه.
وذلك وقت صلاة الجمعة والخطيب على المنبر، فكف حتى فرغوا من الطواف به.
وكان ابنه عجلان يطرف مع الجنازة، ثم جعله في مقام الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم.
ودفن بالمعلاة عند قبر أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم. كانت ولايته على مكة سبع مرات ومجموعها ثلاثون سنة أو أكثر، مستقلاً أربع عشرة سنة ونصف سنة أو أزيد، وشريكاً لأخيه حميضة في مرتين مجموعهما نحو عشر سنين، وشريكاً لأخيه عطيفة ست سنين أو أزيد.
وكان يكنى أسد الدين ويلقب أبا عرادة. وكان له من الأولاد أحمد وسند وثقبة وعجلان ومغامس، رحمه الله تعالى.
ومما قيل فيه قول موفق الدين الحديدي من الكامل:
باللهِ هاتِ عَنِ اللوَى وطُلُولِهِ ... وعَنِ الغَضا وجَلالِهِ وحُلُولِهِ
أَطِل الحَديثَ فَإِنَّ تَقصِيرَ الذي ... يَلقَى مِنَ التبريحِ في تَطْويلِهِ
عَلَّل بِذكرِالعَامِرِيةِ قَلبَهُ ... فَشِفَاءُ عِلةِ ذاك في تَعلِيلِهِ
وإذا عَليِلُ الرِّيحِ أَهدىَ نَحوَه ... نَشراً فَنَشرُ عَلِيله بِعَليلِهِ
رَشأ رَنا فَرَمَى فُؤَادَ مُحبهِ ... عَن قَوسِ حَاجِبِهِ بِسَهمِ كَحِيلِهِ
وحَوى القُلُوبَ بِأَسرِها في أَسرِهِ ... وسَبَى البَها بِرَسيلِهِ وأسِيلِهِ
وَبَيَاضِهِ وسَوَادهِ وقَويهِ ... وَضَعيفِهِ وخَفِيفِهِ وثَقِيلِهِ
وتَفَيأَ الظًّل الذي ضَمِنَت له ال ... أيامُ بَيْنَ مَبِيتِهِ ومَقِيلِهِ
حَط الرِّحَالَ بِمَكة وأَقَامَ فِي ... حَرَمِ الخِلاَفةِ بَعدَ طُولِ رَحِيلِهِ
جَلَبَ المديحَ لمنجبِ بنِ مُحَمد ابْ ... نِ نَبِيهِ اننِ وَصيه ابنِ بَتُولِهِ
ومنها:
واقرأ تحيتهُ البطين ومجد إِب ... راهيمِهِ في صُلْب إسماعيلِهِ
ما بَين شبره وبَينَ شبيرِهِ ... شرف يَطُولُ لِهَاشِمِ وعَقِيلِهِ
نَسَبٌ كَمُشْتَق الشمُوسِ ومَفْخَر ... باعُ الكَوَاكِبَ قَاصِر عَنْ طُولِهِ
أَما الفُرُوعُ فَلَيس مِثْلَ فُروعِهِ ... وكَذا الأصُولُ فَلَيْسَ مِثْلَ أُصُولِهِ
يَا بْنَ المُظَلَّلِ بِالغَمَامَةِ والذِي ... قد أُنْزِلَ القرآن في تَفضِيلِهِ
مَاذا عَسَى مَدحِي وَقَد نَزَلَ الثنا ... فِيكُمْ مِنَ الرحْمنِ في تَنزِيلِهِ
فِي هَل أَتَاكَ، وَهَل أَتَى، وَحَدِيدِه ... حَقاً، وغَافِرِهِ، وفي تَتزِيله
قَالوا مَدَحتَ رُمَيثَةَ فَأَجَبتُهُم ... لَيسَ المَديِحُ يَنَالُ غير مُنِيلِهِ
ولكَيف لا أُثنِي عَلَى من عَمنِي ... دونَ الوَرَى من خَيرِهِ بِجَزِيلِهِ
بِنُضَارِهِ وِلُجَينِهِ وثَوَابِهِ ... وثيابِهِ ورِكَابه وخُيُولِهِ
هذا ما وجدت، ولا أعلم هذا آخرها أم لها آخر، وهي عظيمة الشأن من الحسن في المبنى والمعنى بمكان.
وللأديب أبي عامر منصور بن عيسى بن سحبان الزيدي فيه قصيدة أولها: من الكامل:
ما أَومَضَت سَحَراً بُرُوقُ الأَبرقِ ... إِلا شَرقتُ بدَمعِيَ المُتَرقرقِ
صنَم شُغِفتُ به وغصْنُ شبابه ... غض وَبَردُ شبيبتي لم يخلَقِ
شقت عرى كَبِدِي شقائقُ خدهِ ... وبكأسِ فِتنَتِهِ سُقِيتُ وما سُقِي
ما فاتَ من عُمرِ فلِلْغِيدِ الدمَى ... لا أَرشَ فيه وللصبَابَةِ ما بَقِي
ومن مديحها قوله: من الكامل:
رَجُل إذا اشْتَبَهَ الرجالُ عرفتهُ ... بجلالِ صُورتهِ وحسنِ المنطقِ
ومظفرُ الحملاتِ يرقصُ منه قل ... ب المغربِ الأَفصَى وقلبُ المشرقِ
عَلَم يدلُّ على كَمَالِ صفاتِهِ ... كَرَمُ الفُرُوعِ له وطيبُ المَعرقِ
يلقَى بوجهِ البِشرِ طارقَ بابِهِ ... لَيلاً ويرزقُ منه من لم يرزقِ
عَزت بنو حَسَنٍ بدَولته التي ... عز الذليلِ بها وأَمنُ المفرقِ
هو صُبح ليلتها وبدرُ ظَلَامِها ... ولسانُ حِكمَتِها وصدرُ الفيلقِ
لا يتقَى من كُل حادثة بها ... وبه بِمَكرُوهِ الحوادثِ نتقِي
وله فيه أيضاً: من الخفيف:
حَفِظَ العَهْدَ بعدنا أَم أضاعا ... وعَصَى لائتمامه أمْ أطاعا
ورعَى حرمةَ الجوارِ وراعَى ... أم وهى بالفراق قلْبى وَرَاعَا
مَنْ يكُن يحمدُ الوَدَاعَ فإِني ... بعد يومِ النوَى أذمُ الوداعا
جيرتي ما لنا حَفِظنا هواكُم ... وغدا حبنا لديْكُمْ مُضَاعا
إن من قَدر الفراقَ علينا ... قادر أن يقدرَ الإجتماعا
قل لذاتِ القناعِ هل جئت ذنباً ... فيكِ حتى أسبلتِ دوني القناعا
إن من أشبَعَ السوارَينِ يَدي ... كِ لَمَجْرى الوشاح مِنكِ أجاعا
ومنها: من الخفيف:
قل لِأَهلِ الزمَانِ إني وإن رِي ... عَ سوَاي بكَيْدكُمْ مُرتاعا
نحنُ في دولةٍ إذا مَدتِ النا ... سُ إلَيْنا شبراً مددنا ذراعا
طلبت بي أبا عرادة عيس ... لا تمل الإرقالَ والإيضاعا
عرست من رميثة بعراصٍ ... لم يزل نبتُ روضها ممرَاعا
نزلَت سوحَهُ عطاشاً جياعاً ... فَأَقَامَت به رواءً شِباعا
رَجُل لا تراه بالمالِ مفرا ... حاً وَلاَ من مُلمَّة مِجْزَاعا
وعليه بِكرُ الخلافةِ ألقَت ... إذ رَأَته رداءها والقِنَاعا
ليس بالنّازلِ الوِهَاد مِنَ الأر ... ضِ ولكنَّهُ يحلُّ اليفاعا
موقداً ناره على نَشَزِ الأر ... ضِ إذا الناسُ لبسوها القفاعا
نَم هنيئاً يا جاره مِلءَ عيني ... كَ ولا تخشَ نائباً أن تراعا
ثم وليها بعده ابنة عجلان بن رميثة بن أبي نمي بن محمد بن أبي سعد الحسن بن علي بن أبي عزيز قتادة يلقب عز الدين.
ولي مكة غير مرة نحو ثلاثين سنة منفرداً إلى سنة ثمان وأربعين، ثم شريكاً لأخيه ثقبة إلى سنة خمسين وسبعمائة ولولده أحمد بن عجلان.
ووقعت بينه وبين أبيه وإخوته وولده أحمد منازعات اقتضت عزمه إلى مصر مراراً أولها سنة موت والده رميثة سنة أربعين وسبعمائة، فوافق وصوله إِلَيها موت ملكها الملك الصالح وتولية ابنه الكامل، فولى الكامل الشريف عجلان مكة منفرداً فوصل إليها وقرئ مرسومه بالتولية ودعي له بعد المغرد بأعلى زمزم على العادة، وقطع الدعاء عن والده رميثة. وذهب أخوه ثقبة إلى وادي نخلة وأعطى عجلان أخاه مغامس - أو مباركاً - المكان الذي عرف بالواديين، وأظهر الشريف عجلان العدل في مكة وأبطل المكوس والنهب والقتل وخرج ربع الجبايات.
ففي سنة ثمان وأربعين وسبعمائة وصل ثقبة من مصر، وبيده مرسوم بنصف البلاد، وأن الشريف عجلان يكون له النصف الآخر.
وفي سنة تسع بتقديم التاء وأربعين وصل إلى مكة إليه مبارك بن عطيفة من اليمن وهم أن يدخل مكة فألقى الله في قلبه الرعب فرجع، ووصل إلى سواكن ومات بها.
ثم وقع بين الشريف عجلان وأخيه الشريف ثقبة سنة خمسين وسبعمائة فتنة، وكان ثقبة بالجديد وعجلان بمكة فخرج إليه الشريف عجلان، فلما هم بالقتال منعه الأشراف والقواد وأصلحوا بينهما، وعزم الشريف عجلان إلى خيف بني شديد ودخل ثقبة مكة.
ثم عزم عجلان إلى مصر، وهذه هي السفرة الثانية، فقطع الشريف ثقبة الدعاء لأخيه عجلان، فلما وصل الشريف عجلان إلى مصر كتب له مرسوم بإمرة مكة وأرسل معه أمير واشترى المماليك لنفسه، واستخدم حملة عسكر وتجهز، وصحب معه حمل نشاب وقسى، ووصل إلى مكة بهذا الجمع، فعزم الشريف ثقبة وأخواه سند ومغامس إلى اليمن، وتلقوا الجلاب ونجلوها بحلى، واستمر الشريف عجلان في ولاية مكة.
فلما كان موسم إحدى وخمسين وسبعمائة وقع بمنى قتل ونهب من أول النهار إلى غروب الشمس، وذلك أن السلطان الملك المجاهد صاحب اليمن حج في عسكر كبير، ووصلوا مع الأشراف السيد ثقبة وأخويه سند ومغامس، فأوحى الشريف عجلان إلى أمراء الحاج المصري والشامي أن الملك المجاهد نيته أن يولى ثقبة إذا عزمتم، ويخلع كسوتكم ويكسو البيت بالكسوة التي صحبها معه، فأرسلوا إليه وعرفوه بما ذكر، فأنكر ذلك.
فقالوا: أعطنا ثقبة يكون رهناً عندنا حتى ندعك تدخل، فأرسل إليهم بالشريف قبة فأجلوه وعظموه، فلما وصل وحج هجموا عليه بمنى وهو نائم، وقد تفرق عنه جماعته فنهبوا محطته، وبعض الحريم فنجا بنفسه إلى أعلى الجبل، فلما رأى ما وقع صاح عليهم الأمان: إن كان لكم غرض بي أنا آتيكم، ما فعل هؤلاء الضعفاء؟ فسكن الحرب ونزل إليهم، فترجلوا له عن الخيل وأركبوه بغلاً وذهبوا به، فما صفت المسألة حتى قتل خلق ونهبت الناس، وألزم الأمراء الشريف عجلان بحفظ الحاج، غير أن العرب وبعض العبيد نهبوا الناس ما بين منى ومكة.
ولما وصل الحاج والأمراء وادي مر في موسم أربع وخمسين وسبعمائة واجههم الشريف عجلان وشكا عليهم ما فعله أخوه الشريف ثقبة في السنة التي قبل هذه سنة ثلاث وخمسين وأنه أخذ أمواله وخيله وعبيده، وقيده فخلصه الله تعالى، فوعدوه بالولاية وطمنوا خاطره.
فلما وصلوا الزاهر خرج إليهم الشريف ثقبة على المعتاد، فتكلموا معه في الصلح مع أخيه الشريف عجلان، فامتنع فلم يزالوا يلاطفونه حتى دخل إليهم.
فقال لهم الشريف ثقبة: إن كان هذا بأمر السلطان فنعم وإلا لا أفعل، فقبض بعض الأتراك على سيف ثقبة والباقون احتاطوا بمن معه، فأنزلوهم عن خيولهم وكبلوهم في الحديد هو وأخويه سند ومغامس وابن عمه محمد بن عطيفة وفر القواد والعبيد، ثم أحضروا عجلان، وألبسوه الخلعة، ودخلوا به مكة ولم يختلف عليه اثنان، فلما أتموا الحج ذهبوا بالأشراف إلى مصر، ووضعوهم في الحبس، ودام عجلان على ولاية مكة منفرداً مستقلاً إلى أن فك ثقبة، والأشراف الذين معه وشاركه في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، واستمر حتى عزلا بأخيهما سند بن رميثة وابن عمهما محمد بن عطيفة.
ثم وليها سند ومحمد بن عطيفة في سنة ستين وسبعمائة شريكين، واستمرا إلى أوائل سنة اثنتين وستين وسبعمائة، ففيها قدم الشريف عجلان من مصر متولياً، وأشرك أخاه ثقبة، فمات ثقبة، واستقل عجلان كما سيأتي ذكر ذلك آخر السوادة، وأخذ الشريف عجلان وولده أحمد، وذهب بهما إلى مصر فحبسا، وجهز الملك الناصر حسن بن قلاوون عسكراً لتأييد سند ومحمد بن عطيفة مقدمهم الأمير بكتم المارديني، وانصلح لذلك حال مكة حتى انقضى الحج من سنة إحدى وستين وسبعمائة.
ثم قامت فتنة بين بني حسن والعسكر الذي وصل من مصر والشام للإقامة بها عوض بكتم الأمير ومن معه، كان الظفر فيها للأشراف، وسبب ذلك أنه أشيع بمكة أن من نية العسكر المقيمين بمكة القبض على شريفها الشريف سند، ففرت الأشراف لما قاسوه من هذا الأمر، فإن الشريف عجلان وولده أحمد إلى الآن محبوسان بمصر، فأشيع ذلك قبل قدومهم، فلما وصل العسكر إلى مكة أرادوا أن ينزلوا بيتاً بالصفا للأشراف، فطالبهم الشريف صاحب البيت بالأجرة، فضرب التركي الشريف، فقتله الشريف، فتراكم الأتراك على الشريف فصاح لرباعته، فاجتمعوا إليه جماعة، واشتد الأمر، فقصدت الأشراف أجياداً فوجدوا خيلاً للترك على باب الصفا كان الأمراء اعتمروا فهم في الطواف فركبت الأشراف تلك الخيل، فبلغ الأمراء ذلك وهم يطوفون، فقطعوا الطواف وقصدوا المدرسة ليحفظوها وقفلوا أبواب المسجد الحرام وتحصنوا به، وأمروا بهدم الظلة التي على رأس زقاق أجياد الصغير ليروا من يقدم عليهم منه، وكان غالبهم بسطح المسجد يرمي بالنشاب، وسدوا الطريق بالأخشاب لئلا يخرج عليهم أحد من أجياد الكبير.
هذا خبر الترك.
وأما بنو حسن فإنهم استدلوا أيضاً على إصطبل لبعض الأمراء، وقصدوا الأمير قندس، وكان نازلاً بأجياد بالزباهية فقاتلوه من خارج، ودخلوا عليه الدار، فقتلوا جماعته وأسروه، ونهبوا ما كان عنده جميعه، واستجار نساؤه ببيت السيد مبارك بن رميثة، وجاء السيد مغامس من أجياد ليقاتل الترك الذين في المسجد، فجفلت به فرسه فسقط فقتلوه، وبقي في مصرعه إلى المغرب، وأراد محمد بن عطيفة أن يتعصب للترك، فتهدده بنو حسن بالقتل، وكان محمد بن عطيفة تأخر عن نصرة العسكر، فخرج خائفاً يترقب، فدخل الشريف ثقبة مكة سادس عشر ذي الحجة، وشارك أخاه سنداً عوض محمد بن عطيفة، وانقطع عن محمد هذا فأراد الاجتماع بالترك فلم يمكنوه لما حل بهم من خوف الأشراف، وما فعلوه بهم بحيث إنهم باعوا بعضهم في الحراج ينادي عليه الدلالون في الأسواق، ثم ذهبوا فلم يبق منهم ألا أمير واحد وأولاده، فاقترض ما تزود به، وترحل عن مكة، وفر غالب أهل مكة أرباب الأموال خوفاً من الأشراف، ألا أن الله سلمهم من النهب، اكتفوا بما أخذوه من أموال الأتراك.
وتوجه محمد بن عطيفة إلى مصر فلم ير بها وجهاً، واستمر بها إلى أن مات سنة أربع وستين وسبعمائة.
ومما قيل فيه من المدح قول الشاعر المعروف بالنشو قصيدة هي: من الطويل:
أترضَى بإِتلافِ المحب ظلامةً ... فتأخذه بالعُنْفِ والرفقُ أليقُ؟!
أعندكَ علم أنهُ بكَ هائم ... وأَكْبَادُهُ من لوعةِ الهجرِ تحرقُ
فَأَحْوَالُه تُنْبِي بما في ضميرِهِ ... إذا لم يكُن للقَولِ منه مصدقُ
بلَوتُ بني الدنيا جميعاً بأسرِهِم ... وَجَربتُهُنم إن التجاربَ تصدقُ
فلم أَرَ في ذا العَضرِ مثلَ محمدٍ ... إماماً به الدنيا تضئ وتشرقُ
جواداً إذا جار الزمانُ على الورى ... يجودُ بما تَحوِى يداهُ وينفقُ
لقد جلَ عن قدر الملوك الألى مَضَوا ... إلى الغَايةِ القصوَى مِنَ الفضلِ يسبقُ
يجود على العَافِي ويبدِي اعتذارَهُ ... فَأَوراقُهُ بالجودِ والبذلِ تورقُ
لقد عَجَز المداحُ في بعضِ وصفِهِ ... عليهم بأنواعِ المكارمِ يغدق
على أنه واللهِ واحدُ عصيرهِ ... وهل مثله من بعدِ ذا العصرِ يخلقُ
ومن لامني في مدحه فهو جاهلَ ... فَجِيدي بالإحسانِ منه مطوقُ
وإن كان مدحُ الغَيرِ عندي سُنةً ... فمدحي له فرضٌ علي مُحَقق
فلما بلغ صاحب مصر فعل الأشراف بالترك، أرسل بالشريف عجلان وولده أحمد من سجن القاهرة إلى سجن الإسكندرية بالبرج.
قلت: ذرية بعضها من بعض، سبحان الله، هكذا وقع في سنة ثمان وسبعين بعد الألف لما أوقع مولانا السيد حمود بن عبد الله بن حسن بالترك قريباً من ينبع فكسرهم وبحد شملهم وقهرهم، وكان قد أرسل ولده المرحوم السيد أبا القاسم بن حمود والسيد محمد ابن المرحوم السيد أحمد بن محمد الحارث بن حسن إلى باشا مصر بهدية وقواد من الخيل، فاحتفظ بهم أولاً في المحل المعروف بالسلطان قايتباي ثم في بيت أغاة الأنكشارية، فلما جاءهم خبر جماعتهم وَما جَرَى عَلَيهِم من أبويهما تحركت حمية الغضب على هذين الشريفين، فنقلا إلى السجن الكبير المسمى عرق خانة سجن الدم، فقدر الله إطلاقهما بعد ذلك ولله الحمد. فذكرت بتلك الواقعة هذه الواقعة، ألا أن الشريف عجلان وولده فكا وأعطيا إمرة مكة وهذان لم يعطياها وتلك قسمة إلهية. انتهى.
وأمر السلطان بإرسال عسكر إلى الحجاز يتتبعون الأشراف وجندهم وعزلهم عن إمرة مكة وقال: لا حاجة لنا بهم.
فلم يستمر بعد هذه النية ألا أياماً حتى ركب عليه عسكر مصر عزلوه، وولوا الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر، فأطلق الشريف عجلان وولاه مكة وأشرك معه أخاه ثقبة بن رميثة بسؤاله لذلك، فلما أقبل الشريف عجلان ووصل إلى وادي مر اجتمع فيه بثقبة عليلاً مدنفَاً، فمات ثقبة بقرب ذلك في شوال سنة اثنتين وستين وسبعمائة بالجديد، وحمل إلى مكة فدفن بالمعلاة.
وكان موصوفاً بالكرم والشجاعة. ومما قيل فيه قول ابن غنائم من قصيدة: من المنسرح:
ماخفقَتْ فَوْقَ منكِب عذَبهْ ... على فتىً كابن مُنْجِدٍ ثقبَهْ
ولا اعتزَى بالفَخَارِ منتسبْ ... إلا وفَاقَتْ علاه منتسبَهْ
منتخب من سليل منتخب ... مُنْتَخَب من سَلِيلِ منتخبَهْ
كم جَبَرتْ راحتاه منكسراً ... وفَك من أسْرِ عُسْرَةٍ رَقَبَهْ
فولى الشريف عجلان ولده أحمد عوض ثقبة، وجعل له ربع الحاصل، ثم جعل له ربعاً آخر.
ثم في سنة ست وستين وسبعمائة ورد الأمر من صاحب مصر على يد الأمير بهادر والأمير سفيان الطولوني إلى شريف مكة بإسقاط المكوس والضرائب، وعوض أمير مكة عن ذلك في كل سنة مائة وستين ألف درهم وألف إردب قمحاً ونقر ذلك في دعائم بالمسجد الحرام جهة باب الزيادة وباب العجلة المسمى باب الباسطية أو باب الصفا، وهي موجودة إلى الآن مؤرخة بالسنة المذكورة أعني سنة ست وستين وسبعمائة.
ولما عزل سند ومحمد وولي عجلان من مصر فوصل إلى مكة، وأشرك أخاه ثقبة ثم مات ثقبة فأمر ولده أحمد بالاجتماع بالقواد ليسألهم أن يسألوا له والده أن يشركه معه في إمرة مكة وكانوا يخدمون سنداً، فاجتمع بهم أحمد فأقبلوا عليه وعرف ذلك سند فخاف على نفسه فهرب إلى نخلة، وقيل بل أقام بوادي مر بالجديد واستجار بابن أخيه محمد بن عجلان، ثم وقع بين بعض غلمان سند وبين بعض غلمان أحمد شيء أوجب تغير خاطر أحمد عليه فأمره بالانتقال من الجديد، فانتقل إلى وادي نخلة ثم إلى الطائف ثم إلى الشرق ثم إلى المدينة ثم إلى ينبع، فوصله وهو بها أوراق بني حسن يأمرونه بالقدوم إليهم ليساعدوه على ولايتها فوصل وقصد محاربته فلم يتم له ذلك، فعرض له مرض مات به سنة 763 ثلاث وستين وسبعمائة بالجديد. واستولى ابن أخيه عنان بن مغامس بن رميثة على خيله وسلاحه وذهب به إلى اليمن.
ومما قيل في الشريف سند بن رميثة قول حمزة بن أبى بكر الشاعر المشهور قصيدة هي: من الطويل:
خَلِيلي إما جئتما رَبْعَ ثهمدِ ... فلا تَسْأَلاَهُ غَيْرَ عَنْ أم معبدِ
وإن أَنْتما أبصرتما بانة الحِمَى ... ورَسْماً لذاتِ المبسمِ المتبددِ
فَأَولُ ما تستنشدا عن حلولِهِ ... وتستفهما أَخْبَارَ رَسْم ومعهدِ
عسَى تخبرالأطلالُ عمن سَأَلتُما ... بما شِئتما للمستهامَِ المسهَّدِ
ومنها: من الطويل:
وفي سَنَدٍ أسندتُ مدحاً منضداً ... غَرِيبَ القوافِي كالجمانِ المنضَدِ
هو القَيلُ وابن القَيْلِ سلطان مكة ... وَحامِي حماها بالحسامِ المهندِ
وصفوة آل المُصْطفَى طود فَخرهم ... وبَاني علاهُمْ فوقَ نَسْرٍ وسرددِ
بَنَى ما بني قِدماً أبوه رميثة ... وشاد الذي قَدْ شَادَ من كل سؤددِ
وشن عتاقَ الخيل شُعثاً ضوامراً ... وأفنَى عَلَيْها كل طاغِ ومعتدِي
فروى صفاحَ البِيضِ من مُهَجِ العدَى ... وسُمْرَ القنا مهما اعتلَى ظهْرَ أجردِ
وأبيضَ طلق الوَجْهِ يهتز للندَى ... ويُجْدِي إذا شَح الحيا كل مجتدِي
كريمٌ حَلِيٌم ماجدٌ وابنُ ماجدٍ ... ظَرِيف شريف سيدْ وابنُ سيدِ
إمامُ الهدَى بَحْرُ الندا مهلكُ العدَى ... وَبَدرٌ بدا من آل بيتِ محمدِ
أشُم طويلُ الباعِ ندب مُهَذب ... أغر رحيبُ الصدرِ ضخْمُ المقلَدِ
فدوحتُهُ بين الوَرَى خير دوحةٍ ... ومحتده بين الوَرَى خيرُ مَحْتِدِ
إليكَ جَلَبتُ المَدح إذ أنتَ كفؤُهُ ... وإن أنا أجْلبْهُ لغيركَ يكسدِ
وما مدحكم ألا عَلَينا فريضَة ... ومدحُ سِوَاكُم سنة لم تؤكدِ
ثناؤُكُمُ أَثنَى به اللهُ جهرةَ ... وأنزله وَحياً على الطهْرِ أحمد
فولى الشريف عجلان ولده أحمد عوض ثقبة، وجعل له ربع الحاصل، ثم جعل له ربعاً آخر، ثم ترك له الإمرة على أن لا يسقط اسمه من الخطبة وغير ذلك، فوفى له أحمد بذلك حتى توفي في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وسبعمائة.
وكان عجلان في سنهَ ثلاث وستين وسبعمائة حارب أحمد بن عيسى الحرامي صاحب حلى بمكان يقال له فجرة، فظهر عجلان على أحمد بن عيسى المذكور.
وكان عجلان رحمه الله تعالى شيخاً صالحاً سعيداً اتفق له ما لم يتفق لأسلافه من السعودات فإنه أول من ملك بلاد حلى من أهله السابقين، وبنى الحصون بأجياد، وأرض حسان والمدارس بمكة، وملك العبيد والخيول، والدروع الكثيرة، وأنشأ بمكة سبيلاً للماء بالمروة واستمرت خيراته وحسناته.
ومدحه جماعة من الشعراء منهم الشاعر المعروف بالنشو وغيره وكان له جملة من الأولاد منهم: أحمد وكبيش ومحمد وعلي وحسن.
وتوفي عجلان ليلة الإثنين حادى عشر جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وسبعمائة في جمادى الأولى كما تقدم آنفاً بأرض الجديد، وحمل إلى مكة، ودفن بالمعلاة، وبنى عليه قبة، وبلغ من العمر نحو سبعين سنة رحمه الله تعالى.
ومما مدح به الشريف عجلان قول الشاعر المعروف بالنشو قصيدة هي: من الكامل:
لَولا الغرامُ ووجدهُ ونحولُهُ ... ما كُنتَ ترحمُهُ وأنتَ عذولُهُ
إن كنتَ تنكرُهُ فَسَل عن حالِهِ ... فَالحُب داء لا يفيقُ عليلُهُ
يا من يَلُومُ على الهَوى أهلَ الهوى ... دَعْ لومهُم فالصبْرُ ماتَ حميلهُ
دع عنك من لا خَيرَ فيه من الورى ... لا تَمتَدحهُ وفي الأنامِ بديلُهُ
وامدح مَلِيكَ العَصرِ وابْنَ مليكِهِ ... من شَاعَ ما بين الملا تفضيلُهُ
عجلانُ نَخل رُمَيثَة بنِ محمدٍ ... أمن الَحَوادِثَ والخطوبَ نزيلُهُ
وَرِثَ الَمَكارِمَ كابراً عن كابرٍ ... فنوالُهُ للعالمينَ ينيلُهُ
مِن آل أحمد واحد في عصرِهِ ... فهو الشريف ابن الشريفِ سليلُهُ
ماذا يقولُ المدحُ فيه وما عسَى ... إذ كان يَخْدمُ جدَكُم جبريلُهُ
أما الملوكُ فَكُلهُمْ مِنْ دونه ... كالبَدْرِ في أُفْقِ السماءِ حلولُهُ
سلطانُ مكَّةَ والمشَاعرِ والصفا ... مَنْ لا يَخَافُ مِنَ الزمانِ نزيلُهُ
لو حاوَلَ النجمَ العَظِيمَ لنالَهُ ... تنبيك عِنْهُ رِمَاحُهُ ونصولُهُ
سكنَت مَحَبتُهُ القلوبَ جميعَها ... لما تَقَارَنَ سَعْدُهُ وقبولُهُ
ثم وليها أحمد بن عجلان قبل وفاة أبيه، وذلك بسبب أنه لما جعل له ربع المحصول عوض عمه ثقبة طلب أحمد ربعاً آخر، فأجازه له والده، ثم إن والده لما رأى إقبال الناس على أحمد، ومحبتهم له أراد إغاظته بأخيه محمد بن عجلان فأعطاه خيلاً ودرعاً، فلم ينهض محمد لما أريد منه، فبلغ ذلك أحمد فعاتب أباه عجلان فاعتذر له، وقال له: أنا أترك لك البلاد كلها، فوقع الاتفاق على أن أحمد يعطي أباه عجلان النقد الذي شرط له، وأن يكون له أيضاً في كل سنة الجزء الذي قرر لعجلان بديار مصر في مقابلة إسقاط المكس عما يصل إلى مكة من المأكولات، وعن مكس الحجاج من الديار المصرية والشامية الواردين بحراً وبراً وهو مائة ألف درهم وستون ألف أردب قمح، وأن لا يقطع اسم عجلان من الدعاء في الخطبة مدة حياته، فالتزم أحمد بجميع ذلك، فألح عجلان في تحصيل النقد المشروط على أحمد استعجازاً منه له ليكون سبباً لرجوع الأمر إليه، فيسر الله لأحمد من أعانه على إحضار المال فأحضره، فلم يجد بداً من قبوله فوفاه بجميع ما التزمه من الوعود، واستمر أحمد حتى مات حادي عشر شعبان سنة ثمان وستين وسبعمائة: وكانت مدته ستاً وعشرين سنة.
قال في الدرر الكامنة في أخبار المائة الثامنة كان أحمد بن عجلان عظيم الأبهة واسع الحرمة كثير الرئاسة ملك جملة من العقار والعبيد وعدل وقمع المفسدين.
ثم وليها الشريف محمد بن أحمد بن عجلان ثمان سنين شريكاً لأبيه ومائة يوم مستقلاً بعده، ثم قتل في مستهل ذي الحجة من السنة المذكورة لما حضر لخدمة المحمل المصري بظاهر مكة.
سبب ذلك أن أباه الشريف أحمد بن عجلان كان قد وقع بينه وبين ابن عمه عنان بن مغامس منافرة، فسافر عنان ومعه حسن بن ثقبة إلى مصر فبالغا في شكوى أحمد، وسألا من السلطان برقوق أموراً أجابهم إليها لصدور رقة عنان، فأرسل أحمد بن عجلان بهدية سنية صحبة كبيش إلى السلطان، فلما رأى كبيش رواج عنان كند السلطان ما أمكنه ألا أن يلتزم على أحمد جميع ما أراده عنان وما أمر به السلطان خشية من حصول مكدر على أحمد وعليه، فوصلوا جميعاً إلى مكة فعرف كبيش أحمد بالأمر، وقال له: لابد لك من الموافقة على ما رسم به السلطان لكما أو الفتك بعنان، فاختار الثاني. فاجتمع عنان وحسن بأحمد بعد التوثق منه فما أجاب لمرادهما، ثم فطن عنان لقصد أحمد فيه ففر إلى الينبع وتلاه حسن بن ثقبة، ثم حسن لهما أمير الحاج المصري أبو بكر بن سنقر الجمالي الرجوع إلى مكة، وحسن محمد بن عجلان أن يرجع معهما إلى مكة، وكان قد توجه من مكة مغاضباً لأخيه أحمد وضمن لهم الأمر المذكور أن أحمد يقضي حوائجهم إذا وصلوا إليه ورجعوا، ما اجتمعوا بأحمد قبض عليهم، وضم إليهم أحمد بن ثقبة وابنه علياً بن أحمد بن ثقبة، وقيد الخمسة وسجنهم بالعلقمية من أول سنة سبع وثمانين وسبعمائة إلى موسمها، ثم نقلهم إلى أجياد، ثم أعادهم بعد الموسم إلى العلقمية فدبروا حيلة خروج منها، وربطوا سرراً كانت عندهم بثياب معهم، وصعدوا غير محمد بن عجلان حتى بلغوا طاقة تشرف على منزل ملاصق لسجنهم، فنزلوا منها إليه ففطن لهم بعض الساكنين فصاح عليهم يظنهم لصوصاً فسمع الصياح الموكلون بهم وعرف الأشراف تيقظ الموكلين بهم، فأحجموا عن الخروج ألا عناناً فإنه أقدم، ولما بلغ إلى باب الدار وثب وثبة انفك القيد بها عن إحدى رجليه وما شعر به أحد حين خرج، فسار إلى جهة سوق الليل وما كان غير قليل حتى رأى كبيشاً والعسكر يفتشون عليه بضوء معهم فدنا إلى مزبلة بسوق الليل وأظهر أنه يبول، فأخفاه الله عن أعينهم، فلما رجعوا سار إلى أن لقيه بعض معارفه فعرفه خبره، وسأله في تغيبه فغيبه في بيت بشعب علي في صهريج فيه ووضع على فمه حشيشاً ودابة ليخفي موضع الصهريج، وفي الصباح أتى كبيش إلى ذلك البيت فما وجده فيه فقيل له إن في البيت صهريجاً فأعرض عن ذلك لما أراده الله من سلامة عنان، ثم بعث عنان إلى أقاربه من ذوي راجح وسألهم الإعانة بمركوب له ولمن يسافر معه فأجابوه وأخرجوا له ركائب إلى المعابدة وحملوا عليها فخاراً ليخفوا أمرها على من رآها، فخرج عنان إلى المعابدة ونزل عند امرأة يعرفها فألبسته لباسها، ونمى الخبر لكبيش، فأتى منزلها وسألها فنالت من عنان كثيراً فصدقها كبيش، فلما كان الليل ركب مع رجلين أو ثلاثة الرواحل التي أعدت لهم، فوقفت بعض ركابهم قبل وادي مر، وما وصل هو إلى خليص ألا وقد كلت راحلته، فسأل بعض أهل خليص عن راحلة لبعض أصحابه بلغه أنها بخليص فأخبر بوجودها فأخذها. ويقال: إن صاحبها كان إذا خلص من علفها يقول: ليت عناناً يخلص فينجو عليك فكان ما تمناه، فوصل إلى ينبع ثم منها إلى مصر، واستجار بملكها برقوق أول ملوك الشراكسة بمصر.
فأرسل الشريف أحمد بن عجلان يطلبه، فكتب إليه السلطان يقول: وأما ما ذكرت من جهة عنان فإن الله سبحانه وتعالى يقول: " وإن أَحَد مِنَ اَلمُشركِينَ اَستَجَارَكَ فَأجِره " التوبة: 6 فكيف إذا استجار بنا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأمره بإطلاق الأشراف فامتنع من ذلك، ثم قدر الله أن الشريف أحمد مات في سنة ثمان وثمانين وسبعمائة كما تقدم ذكره، وأقيم عوضه في إمارة مكة ولده محمد هذا ابن أحمد بن عجلان، كان المدبر لأمر ملكه عمه كبيش بن عجلان، فبعد موت أحمد بن عجلان عمد كبيش إلى الأشراف المذكورين وسمل أعينهم جميعاً فتألم الناس لذلك غاية التألم.
ولم يحصل له بعد ذلك راحة، وتوهم كبيش أن ذلك يكون حسماً لمادة الشر ونجاحاً، فكان للشر مفتاحاً.
فلما بلغ السلطان ذلك تغير خاطره على محمد بن أحمد وعلى عمه كبيش بن عجلان، وولى إمرة مكة للسيد عنان بن مغامس، وكتم ذلك عن الناس، وخادع محمد بن أحمد وعمه كبيش بن عجلان بإرسال الخلع والمراسيم وزينت مكة، فلما تجهز الحاج خرجوا معهم بالسيد عنان بن مغامس كآحاد الناس لا يلتفت إليه إذا حضر كل ذلك لما أضمروه، فلما وصل الحاج إلى الزاهر بعثت أم محمد الشريفة فاطمة بنت ثقبة إلى أمير الحاج شركس الخليلي أمير آخور بعد أن أهدت إليه هدايا تسأله عن حال ابنها محمد وعنان فذكر لها أنه لا يعلم على ابنها سوءاً وربما حلف لها على ذلك، فانشرح لذلك خاطرها وحسنت لابنها الإقدام عَلَى ملاقاةِ المحملِ المصري، وَما زَالَت به حَتى وافقها فخرج في عَسكرِهِ إِلى لِقَائِهِ على العادةِ هو وعمه كبيش، فلما أراد أن يقبل الجمل - على ما كان يفعله الشراكسة مِنَ الجهلِ - وثب إليه اثنان من الزعر من المحمل كل واحد بيده خنجر طعناه فمات من حينه، فعوجل بالعقوبة في هذه المدة اليسيرة إذ قد تقدم أن مدة ولايته مستقلاً مائة يوم، نسأل الله حسن الخاتمة ونعوذ به من سوء القضاء.
وفر عمه كبيش إلى جده فتبعوه فلم يحصلوه، وألبسوا الشريف عنان بن مغامس الخلعة، ودخلوا به مكة فوليها عنان بن مغامس، فلما وصلوا إلى أجياد تلقاهم بعض أصحاب الشريف محمد من العبيد والقواد، فتقاتلوا معهم فلم يلبثوا أن ولوا هربَاً.
وَحَج بِالنَّاس الشرِيفُ عنان والناسُ في غايةِ الاضطراب والخوفِ.
ثم لما عزم الحاج أرسل عنان إلى كبيش عسكراً ليخرجَه من جدة ففر منها.
وسامح الشريف عنان الشيبيين فترك ما كان تأخذه الأشراف منهم بالقوة وهو خمسة آلاف درهم في كل عام وجانب من الكسوة مع البرقع وثوب مقام الخليل.
وجرى بينه وبين كبيش فتن وجموع، ولم تصف البلاد له بحيث إنه عجز عن إقامة الجند والأشراف، فأخذ حاصل السلطان وما فيه، ونهب جدة وأموال التجار والمراكب غير مرة.
ثم إن كبيش المذكور عاد إلى جدة وحده، فنهبها وعاث عبيده في الطرقات، فخشي عنان من كثرتهم، وأشرك معه في الإمرة ابني عمه أحمد بن ثقبة، وعقيل بن مبارك ثم أخاه علي بن مبارك ثم دعا لهم معه على المنبر وزمزم، وظن بذلك أن يقوي أمره، ولم يساعده القدر فبلغت أحواله إلى السلطان برقوق بمصر، فعزل عنان في رجب سنة تسع وثمانين وسبعمائة ثم ولى عوضه علي بن عجلان.
فوليها علي بن عجلان في السنة المذكورة بعد عزل عنان حنقاً عليه لما اتفق في ولايته من استيلاء كبيش، وجماعة عجلان وابنه أحمد ومن انضم إليهما وعجز عنان عن دفعهم عن الاستيلاء على جدة، فوصل النجاب إلى عنان ليسلم مكة لعلي بن عجلان، وجماعته في النصف الثاني من شعبان من السنة المذكورة، فأقبل علي بن عجلان في جموع متقدماً فمنعهم عنان وأصحابه من دخول مكة، وامتنع هو وجماعته من آل أبي نمي من تسليم مكة لآل عجلان، فتحارب الفريقان بالقرب من ثنية أذاخر في التاسع والعشرين من شعبان سنة تسع وثمانين وسبعمائة فقتل كبيش بن عجلان، وطائفة من عسكر علي بن عجلان.
فتم النصرُ لعنان ورجع علي ومن معهم إلى محلهم وهو القصر من وادي مر وذلك في سلخ شعبان من السنة المذكورة.
وفي شهر رمضان توجه علي إلى مصر، فأقبل عليه السلطان، وولاه إمرة مكة فأقبل صحبة الحاج المصري في ظل من ولاه.
واستمر عنان بعد خروج علي إلى القصر، ومن معه مقيماً لم يبرح حتى فارقها هو ومن معه عند وصول الحاج المصري إليها وصحبته علي بن عجلان المذكور، فخرج عنان ومن معه وقصدوا الزيمة، فدخلها على وقرئ توقيعه على مقام الحنابلة، وحج بالناس، وعنان مقيم بالزيمة بوادي نخلة اليمانية وكان أصحابه سبقوه إليها، فقصدهم علي بن عجلان في طائفة من الترك فوجدوهم محاربين لقافلة بجيلة فلما أحسوا بهم هربوا وقتل أصحاب علي بن عجلان منهم مبارك بن عبد الكريم من الأشراف وابن شكران من أتباعهم، وعادوا إلى مكة ومعهم من خيل الأشراف خمس، ومن دروعهم ثلاثة عشر درعاً ووصلت قافلة بجيلة إلى مكة فانتفع الناس بها، وعادوا إلى مكة عشري ذي الحجة الحرام.
وبعد رحيل الحاج نزل عنان وأصحابه الوادي وشاركوا علي بن عجلان في أمر جدة، ثم سافر عنان في أثناء سنة تسعين وسبعمائة واصطلح علي بن عجلان والأشراف واستمر متولياً منفرداً بالإمرة إلى أن شاركه فيها عنان في عام اثنين وتسعين وسبعمائة، فوصل إلى مكة في شعبان من السنة المذكورة واصطلح مع آل عجلان، وكان معه القواد ومع علي الأشراف، وكانا غير متمكنين في القيام بمصالح البلد لمعارضة بني حسن لهما في ذلك، واستمر عنان شريكا لعلي بن عجلان حتى فارق عنان مكة متخوفاً من آل عجلان حين أرادوا الفتك به في المسعى وذلك في صفر سنة أربع وتسعين وسبعمائة، وقطع ذكره من الخطبة.
ثم دخل مكة ليتجهز منها إلى مصر بعد أن أخليت له ثلاثة أيام من آل عجلان، ولم يدخل مكة ألا بعد أن استدعي من السلطان إلى مصر هو وعلي، فتوجه إلى الديار المصرية، وتلاه إليها الشريف علي بن عجلان بطلب من الملك الظاهر برقوق كما ذكر.
فأقام عنان بمصر معزولاً مطلقاً ثم مسجوناً بقلعة الجبل، ثم بالإسكندرية ثم بالقاهرة حتى مات بها في ربيع الأول سنة خمس وثمانمائة.
قال صاحب نشأة السلافة: وكان في هذا التاريخ صاحب مكة الشريف حسن بن عجلان، ثم ذكر سبب موت عنان فقال: حصل لعنان مرض خطر يقتضي إبطال بعض جسده فعولج من ذلك لإضجاعه بمحل فيه آثار النار حتى يخلص ذلك إلى أعضائه فيقويها بها ففعل به ذلك فكان أثر النار الذي أضجعوه عليه شديداً، فأحرقه فمات في التاريخ المذكور رحمه الله تعالى.
ورأيت في تاريخ خلفاء الزمن وملوكه، وولاية السالكين أحسن سنن للسيد محمد بن الحسين الحسيني السمرقندي في ترجمة الشريف عنان بن مغامس هذا ما نصه: وبقيا يعني الشريف عنان بن مغامس، والشريف علي بن عجلان على ذلك مدة بعد أن جعلت إمرة مكة بينهما نصفين ما بين وفاق وشقاق، وكيف ينتظم أمر الأملاك مع الاشتراك؟ إلى أن مات عنان قتيلاً في شوال سنة سبع وتسعين وسبعمائة.
وسبب قتله أن أعيان الأشراف والقواد بعد أن قبض على جماعة منهم خودع في ذلك، فأطلقهم فصاروا يكلفونه ما لا تصل إليه قدرته من أخذ الأموال من التجار والحبوب من أهل الوادي والزراع، فكثر بسبب ذلك الهرج والمرج وقل الأمان، وشق على أهل مكة الشريفة قلة الواصل وكثرة الخوف، وافترقت الكلمة بين السادة الأشراف والقواد والعبيد، فاقتتلوا بسبب ذلك ومات عنان بتلك المسالك.
هذه ألفاظه في الكتاب المذكور، والله أعلم بالحقائق.
ولما وصل الشريف علي بن عجلان إلى الديار المصرية، وقبله عنان بن مغامس أقام عنان معزولاً مطلوقاً ثم مسجوناً إلى آخر ما تقدم، وأما الشريف علي فأكرمه السلطان الملك الظاهر، وفوض إليه أمر مكة المشرفة، وأحسن إليه هو والأمراء، ثم سار إلى مكة المشرفة فدخلها وقت الموسم من السنة التي خرج منها فيها سنة أربع وتسعين وسبعمائة، وفي آخر يوم منها قبض على سبعين نفراً من الأشراف والقواد، فلم يزل يخادع فيهم حتى أطلقهم فكتموا له ذلك، وشوشوا عليه حتى قتلوه يوم الأربعاء سابع شوال سنة سبع وتسعين وسبعمائة بوادي مر وهو ابن ثلاَث وعشرين سنة، وحمل إلى مكة المشرفة ودفن بها ليلاً، وكان أخوه الشريف حسن قد حاصره بالزاهر مدة أيام من هذه السنة، ثم توجه إلى الديار المصرية بها، فاعتقل في السنة المذكورة، فلما وصل الخبر بوفاة أخيه علي بن عجلان أطلقه الملك الظاهر برقوق وفوض إليه أمر مكة، وجميع الأقطار الحجازية لوفاة أمير مكة علي بن عجلان قتلاً، وجاء الخير بولايته وقت الموسم.
وكان أخوه محمد بن عجلان وعبيد أبيه، وأخيه أحمد بن عجلان قد استولوا على مكة، وحفظوها حتى وصل إليهم من مصر في رابع عشر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وسبعمائة ومعه يلبغا الناصري وسنقر وعدة من المماليك الأتراك يزيدون على المائة أو دونها، ومن الخيل دون المائة.
ولم تتم السنة حتى وقع بين الشريف حسن وقتلة أخيه على واقعة عظيمة في الخامس والعشرين من شوال من السنة المذكورة، وكان الظفر فيها له عليهم بحيث لم يقتل ممن معه سوى مملوك وعبد، وقتل من الأشراف نحو سبعة ومن أتباعهم نحو الثلاثين، ولم يقتل من أصحاب الشريف حسن فيما قيل غير مملوك وعبد، وكان معه ألف رجل ومائتا رجل من الترك والمولدين والعبيد وأهل مكة من الأعراب.
وأجار على حلة الشريف منصور من النهب فسلمت وكانت الوقعة بمكان يقال له الزبارة بوادي مر قريب من أبو عروة، فقصد الأشراف جهة الهدة، وأقام الشريف حسن بالجديد حتى أتى الموسم، وعظم بذلك أمره واستفحل بذلك قهره حتى أذل كل من عانده وناوأه، وساس الأمور بجدة مع التجار وراعاهم حتى قدموها، وأقاموا بها بعد أن تركوها، واستمر في زيادة قدر وهيبة في القلوب.
قال العلامة الفاسي: فضبط البلاد وحسم مواد الفساد، وأخذ بثأر أخيه يوم الثلاثاء خامس عشر شوال من سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، واستمر مستقلاً بالولاية إلى أن أشرك معه ابنه السيد بركات في نصف الإمرة وذلك سنة تسع وثمانمائة، ووصل توقيعه بذلك في موسم هذه السنة وهو مؤرخ بشعبان منها.
ثم سعى لابنه السيد شهاب الدين أحمد في نصف الإمارة فأجيب إلى ذلك وولى نصف الإمرة شريكاً لأخيه بركات، وولى أبوهما نيابة السلطنة بجميع بلاد الحجاز وذلك في ربيع الأول سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وقرئ توقيعهم بذلك في أوائل النصف الثاني من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، وصار يدعي له ولولديه بمكة وعلى زمزم ويدعي للشريف حسن بمفرده في الخطبة بالمدينة النبوية، وسبب ذلك أنه كان والي المدينة عجلان بن نعير بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني عوض أخيه نابت بن نعير فإنه كان ولي أمرها في هذه السنة، ثم مات نابت في صفر من هذه السنة قبل وصول توقيعه، واستمرت الخطبة باسم الشريف حسن بالمدينة الشريفة إلى أن عزل عنها عجلان بابن عمه سليمان بن هبة بن جماز بن منصور في موسم اثني عشر وثمانمائة، وكان يقدم في الدعاء في الخطبة على عجلان.
واستمر الشريف حسن وولداه إلى أن عزل هو وولداه في هذه السنهَ وهي سنة اثنتي عشرة وثمانمائة عن إمرة مكة بسعي الحساد، ونقل أهل الفساد، ولم يظهر لذلك أثر بمكة، فإن السلطان الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق أسرَ أمر عزلهم لقرب الموسم خوفاً من الهرج والمرج، وولى ابن عمه علي بن مبارك بن رميثة، فلما بلغ السادة الأشراف عزلهم كتموا ذلك عن الخاص والعام، فوصل أمير الحج بيشو المذكور في موكب عظيم، ونظام تام وعساكر عديدة وهو على غاية الوجل من عدم مقابلة الأشراف، ونقص حرمتة بذلك وحفظ أموال الحجاج وحقن دمائهم.
وكان من عناية الله أن مولانا الشريف حسن قابل المحامل الكريمة على العادة القديمة ولبس الخلع السلطانية على أكمل حال وأطيب بال، ثم قابل الأمير المذكور خاصة وأكرمه إكراماً جزيلاً، فانقضى زمن الحج على أحسن الأحوال، وسافرت المحامل وتوجه كل غريب إلى بلده، ولما لم يبق ألا تجهيز الأمير، وتوديعه جهز الشريف حسن هدية عظيمة إلى الحضرة السلطانية صحبة الأمير المذكور بعد كمال رعايته وعظيم العناية به، فبعد الوداع قال له: يعلم الأمير أنا قد بلغنا أن السلطان عزم على عزلنا تصديقاً للإنهاء الباطل الصادر عن فساد كل مفسد وقول كل قائل، فلما بلغنا ذلك لم نفعل فعل أهل الظلم والجهالة الذين إذا وصل إليهم علم العزل نهبوا البلاد، وأكثروا في الأرض الفساد.
فأجابه الأمير بأن هذه بلادكم خلفاً عن سلف، ومولانا السلطان نصره الله محب لكم، وعلامة محبته لكم إخفاء ذلك وسوف تعلمون صحة قولي بما يأتيكم من جواب مشرفاتكم.
فلما وصل الأمير إلى مصر المحروسة وأخبر السلطان بما وقع وقدم الهدية والمكاتيب قابل ذلك بحسن القبول، ثم أرسل إلى مولانا الشريف حسن بهدايا مفخمة، وتوقيعات شريفة مكرمة، فَشَكَرَه فيها شكراً عاماً على ما فعله ظاهراً وما صبر عليه باطناً، ثم صَرح باستِمرار ولديه على ما كانوا عليه من ولاية مكة والأقطار الحجازية جميعها، واستمروا كذلك إلى سنة ثمان عشرة وثمانمائة فعزلوا بالشريف رميثة بن محمد، ثم أعيد في عام تسع عشرة وثمانمائة بعد محاربة شديدة بينه وبين رميثة المذكور من قبل الملك المؤيد، كما يأتي قريباً إن شاء الله تعالى، وهذا كله ببركة الصبر والتحمل والنظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى في حفظ دماء المسلمين وأموالهم، لا سيما الحجاج وجيران بيت الله الحرام لا برحت عناية الله شاملة لحماة بلده الأمين آمين.
وَسبَب العزلِ أَن رجلاً يسمى جابراً الجرشي من أرباب الأموال بجدة لما تَغَيرَ عليه الشريف حسن وصادره، وأخرجه من جدة لأَمرٍ اقتضى ذلك - عزم إلى مصر، وكدر خاطر السلطان على مولانا الشريف حسن ودبرهم في هذا الأمر، وأن يولوا علي بن مبارك هذا وكان محبوساً عندهم بالقلعة سنين فولوه، وأرسلوا صحبته الأمير بيسق أميراً على الحاج المصري، واستعد لحرب الشريف حسن، فلما تحقق مولانا الشريف حسن هذا الخبر استعد هو أيضاً للحرب وجمع من الخيل والرجل ما لم يجمعه غيره.
قيل: كان عدة الخيل ستمائة والرجل يزيدون على خمسة آلاف، وتعب الناس لذلك وضاقت بهم مكة، وتعبت الخواطر وكادت القلوب أن تبلغ الحناجر.
ثم رضي السلطان الملك الناصر على الشريف حسن وأولاده بعد توجه الحاج من القاهرة في السنة المذكورة فأعادهم إلى ولاية مكة، فبعث الأمير بتقليد وخلع صحبة خادمه فيروز ساقي، وكتب إلى أمير الحاج المصري بيسق يأمره بالكف عن محاربتهم، وكان تاريخ تقليد ولايتهم هذه في هذه السنهَ هي سنة اثنتي عشرة وثمانمائة في الثاني عشر من ذي القعدة الحرام، ودامت ولايتهم على ذلك إلى أثناء صفر الخير سنة ثمان عشرة وثمانمائة كما سنذكره.
وقبل وصول الحج بأيام أخمد الله الفتنة بوصول الأمير فيروز الطواشي الساقي المذكور بالخلع والمراسيم يعتذرون إلى الشريف حسن ويطمئنونه أن البلاد بلاده، وسألوا فضله أن يأذن للحاج في دخول مكة ويعطيهم الأمان، فإنهم لما بلغهم تهيؤه تأخروا ولم يقدموا على الدخول.
فقال الشريف حسن: لا يدخلوا ألا إذا سلموا إلينا جميع ما معهم من السلاح وآلات الحرب وإلا ما دخلوها فوافقوه على ذلك ووافقهم على إعادته إليهم عند السفر فدخلوا مكة رابع ذي الحجة الحرام، وجاء الأمير إلى بيت الشريف حسن بأجياد وسلم عليه واعتذر.
قيل: ولم يحج الشريف حسن ولا أحد من أهل مكة ألا ناس قليل مخفون بحيث أن يوم النحر صلوا العيد بمكة ولم يشاهد ذلك قط.
وأصاب الحجيج مشقة عند المأزمين، ووقع قتل ونهب، ولو لم يغث الحجيج أهل الخيل جماعة الشريف حسن لذهب الحاج جميعه، وكذلك ليلة النحر بمنى وكان الفاعل لذلك غوغاء الأعراب.
وفي موسم خمس عشرة وثمانمائة قتل من آل جميل جماعة أهل شر وفساد ففزع الحاج وركب الشريف حسن بنفسه حتى أخمد الفتنة وسلم الله المسلمين.
وفي خامس ذي الحجة عام سبع عشرة وثمانمائة وقع بين القواد وأمير الحاج والناس في صلاة الجمعة أن هجم القواد بخيولهم ملبسة إلى مقام الحنفي يطلبون الأمير، وكَان قد أمسك شخصاً منهم يسمى جراداً وحبسه فتشفعوا بالشريف حسن إليه فامتنع من إطلاقه، فعظم الأمر وجرى القتال وسال الدم في المسجد الحرام، وخرج الأتراك في إثرهم إلى جهة سوق باب إبراهيم، فانهزم القواد ورجع الأمير، ودخل المسجد وأدخل خيله، وسمر أبواب المسجد جميعها ما عدا أربعة أبواب، وباتت خيولهم ملابس والمشاعل تقد في المسجد وغالب الحجيج به، واجتمع القواد في أسفل مكة بمحل يسمى الطنبداوي، وانتهبت البيوت والأسواق، وسلم الله الحاج ببركة الشريف حسن، وصادف ذلك أن مكة في ذلك العام مغلية، فأنشد إذ ذاك بعض الأدباء وفيه تورية حسنة: من مجزوء الكامل:
وقَعَ الغلاءُ بمكةٍ ... والناسُ أمْسوا في جمادِ
والخبزُ قَل فَهَا هُمُ ... يتقاتَلُونَ عَلَى جَرَادِ
والسبب في إمساكه أن أمير الحاج منع الناس من حمل السلاح بمكة، فرأى جراداً هذا وهو حامل سلاح فأمسكه فوقع ما وقع.
قلت: عتو هذا الجيل قديم غير جديد، فلعل الشر إن لم ينقص منهم لا يزيد. ودامت ولاية الشريف حسن مع ولديه بركات وأحمد إلى شهر صفر من عام ثمان عشرة وثمانمائة.
ثم وليها الشريف رميثة بن محمد بن عجلان بن رميثة بن أبي نمي بن أبي سعد الحسن بن علي بن قتادة، تولى عشرين في صفر من السنة المذكورة، وما دخل مكة ولا دعا له في الخطبة ولا على زمزم ألا في العشر الأول من ذي الحجة من السنة المذكورة، وكانت قراءة توقيعه في يوم دخول مكة وهو يوم الجمعة مستهل ذي الحجة سنة ثمان عشرة وثمانمائة، فدعا له الخطيب ودعا له على قبة زمزم حين طوافه بعد صلاة الجمعة، وذكر في توقيعه الشريف بعد الترجمة أنه تولى نيابة السلطنة عن عمه حسن، وإمرة مكة عن ولديه بركات بن حسن وأحمد بن حسن، وذلك أنه لما عزل الشريف حسن برميثة بن محمد بن عجلان فارقها الشريف حسن إلى الشقان فجبا الجلاب هناك، وأمر أهلها بالتدبير أو المضي إلى ينبع، ثم وصل إلى الجديد من وادي مر، واستولى على غلال أصحاب رميثة، واستمر بالجديد إلى جمادى الآخرة من سنة تسع عشرة وثمانمائة.
وفي رجب منها بعث ولده الشريف بركات ومولاه القائد زين الدين شكر لاستعطاف السلطان الملك المؤيد، فأنعم عليه بولاية مكة.
وكتب لة بذلك توقيعاً مؤرخاً من عشر رمضان من السنة المذكورة، وجهز له خلعة صحبة بعض الخاصكية المؤيدية والنجابة السلطانية فانتهوا إليه وهو في ناحية جدة في أوائل العشر الأوسط من شوال، فقصدَ مَكةَ متولياً منفرداً دون ولديه من قبل الملك المؤيد، ثم شاركه ابنه السيد بركات بن حسن سنة أربع وعشرين وثمانمائة بإشارة من الملك المظفر ابن الملك المؤيد صاحب مصر كما سيأتي، فدخل مكة في بكرة يوم الأربعاء سادس عشر شوال من سنة تسع عشرة وثمانمائة، وبأثر طوافه بالبيت قرئ توقيعه وكان يوماً مشهوداً.
وفي ليلة الأربعاء المذكور فارق مكة السيد رميثة بن محمد ومن معه بعد حرب شديد كان بينه وبين عسكر عمه الشريف حسن بالمعلاة يوم الثلاثاء خامس عشر الشهر المذكور استظهر فيه الشريف حسن على من عانده لأنهم لما أقبلوا من الأبطح، ودنوا من باب المعلاة أزالوا من كان على الباب وقربه من أصحاب رميثة بالرمي بالنشاب والأحجار، وعمد بعضهم إلى باب السور فدهنه وأوقد تحته النار، فاحترق الباب حتى سقط إلى الأرض، وقصد بعضهم طرف السور الذي يلي الجبل الشامي مما يلي المقبرة فدخل منه جماعة من الترك أصحاب الشريف حسن ورقوا موضعاً مرتفعاً من الجبل، ورموا منه بالنشاب والأحجار من كان داخل الدرب من أصحاب رميثة فتعبوا لذلك كثيراً، ونقب بعضهم في السور نقباً متسعاً حتى اتصل بالأرض فدخل منه جماعة من الفرسان من عسكر الشريف حسن إلى مكة، ولقيهم جماعة من أصحاب رميثة، فقاتلوهم حتى أخرجوهم من السور، وقد حصل في الفريقين جراحات وهي في أصحاب رميثة أكثر.
وقصد بعض عسكر الشريف حسن السور مما يلي بركة الصارم، فنقبوا فيه نقباً متسعاً ولم يتمكنوا من الدخول منه لأجل البرك فإنها مهواة، فنقبوا موضعاً آخر فوقه.
ثم إن بعض الأعيان من أصحاب الشريف حسن أجار من القتال، وكان الشريف حسن كارهاً للقتال رحمة منه لمن مع رميثة من القواد والعمرة، ولو أراد الدخول إلى مكة بكل عسكره من الموضع الذي دخل منه بعضهم لقدر على ذلك، ولكنه أمضى الجيرة بترك القتال، وبأثر ذلك وصل إليها - لما تعب الناس من النهب والقتل - الخوف - جماعة من العلماء والصلحاء من أهل مكة والمجاورين وحملوا المصاحف والربعات على رءوسهم، وسألوا فضل الشريف حسن في كف عسكره، فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يخرج من عانده من مكة المشرفة، فمضى الفقهاء إليهم وأخبروهم بذلك، فتأخروا عنه إلى جوف مكة، ودخل الشريف حسن ومن معه السور وخيم حول بركتي المعلاة، وأقام هناك حتى أصبح فدخل مكة بكرة يوم لأربعاء سادس عشر شوال كما تقدم ذكر ذلك آنفاً، وطلب الشريف رميثة وأصحابه مهلة خمسة أيام فأعطوها ثم خرجوا إلى ناحية اليمن.
ثم في عام أربعة وعشرين وثمانمائة تسلطن الملك المظفر ابن الملك المؤيد، فأرسل توقيعاً شريفاً للشريف حسن فقرئ بظل زمزم موضوعه أنه فوض أمر مكة إلى مولانا الشريف حسن المذكور، وأشرك معه ولده بركات، وأرسل لهما خلعة سلطانية من خزانته.
ثم وصل مرسوم شريف قرئ بالحطيم بمحضر أفندي مكة وشيخ حرمها والأعيان والصدور، مضمونه على لسان الملك المظفر بأن والده الملك المؤيد انتقل إلى رحمة مولاه، وأنه بويع بعهد من أبيه وموافقة من أهل الحل والعقد من العلماء والقضاة والأمراء، وأنه جلس على سرير السلطنة في ثاني محرم من سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وأن المطلوب من مولانا الشريف حسن وذويه السمع والطاعة وتأمين الأقطار الحجازية، وأنه مبذول لهم من جانب السلطنة الشريفة كمال الرعاية وبذل الجود والعطاء، وكان يوماً مشهوداً.
ثم بعد مدة استمال الشريف حسن ابن أخيه رميثة المذكور وأحضره وصفا له فتغير عليه القواد وقاموا بناصر ذوي ثقبة بن أبي نمي، وهم أولاد أحمد بن ثقبة بن رميثة، وأولاد علي بن مبارك، وأعلنوا بالسلطنة لثقبة بن أحمد بن ثقبة بن أحمد بن ثقبة، وميلب بن علي بن مبارك، وجعلوا لكل منهما نواباً بجدة، فجهز الشريف حسن عليهم فهربوا وقصدوا مكة واحتربوا هم ونائبه فيها مفتاح الزفتاوي فقتلوه وقتلوا جماعة معه ثم رجعوا إلى الغد.
ولما كان النصف الثاني من شوال سنة عشرين وثمانمائة قدم من مصر ولده الشريف بركات بن حسن فسر به، ولما طاف بالكعبة دعى له على زمزم، وصار أبوه الشريف حسن يتفوه له بالولاية ويقول لبني حسن وغيرهم: هو سلطانكم.
وفي ربيع الأول من سنة إحدى وعشرين أظهر للناس أنه تخلى عن أمر مكة لابنه الشريف بركات بحيث أجلسه على المفرشة بالمسجد الحرام، وجلس هو على مفرشة عنده، فجمح ابنه حسن عن طاعة أبيه لكونه قدم أخاه بركات عليه، فأرسل له أبوه الشريف حسن يستعطفه فلم يمل أحمد لذلك، وحمله جماعة من المفسدين على نهب جدة ففعل ولم يسهل ذلك بأبيه، ثم دخل في الطاعة، ثم نكث ومضى إلى ينبع، ثم عاد مع الحاج ثم رجع.
وفي سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة: سأل من الملك المؤيد تفويض مكة لولديه بركات وإبراهيم، وتنصل من إمرتها لضعف بدنه وميله إلى التخلي للعبادة، وتوجه عقب الكتاب إلى صوب حلى آخر صفر.
وفي ثاني عشر ربيع الأول من سنة أربع وعشرين وصل تشريفان له ولابنه بركات، وعهد يتضمن ولايتهما لمكة من الملك المظفر أحمد ابن الملك المؤيد كما تقدم ذكر ذلك، وأراد الشريف حسن أن يشرك ولده إبراهيم مع أخيه بركات، فحصل تنافر بين الأخوين، فوصل إبراهيم من جانب اليمن ومعه الأشراف، وألزموا المؤذن بالدعاء له ففعل، ولم يسهل ذلك بأخيه بركات، وصار يخطب لإبراهيم مع أبيه حسن وأخيه بركات.
وفي سنة ست وعشرين أمر الشريف حسن بقطع الدعاء لولده إبراهيم من الخطبة وغيرها؛ لأنه أمره بمباينة ذوي راجح فلم يفعل.
ولم يزل الشريف حسن مستمراً في الولاية إلى أن صرف عنها هو وولده بركات سنة سبع وعشرين وثمانمائة بالشريف علي بن عنان بن مغامس بن رميثة بن أبي نمي، وكان ذلك بتفويض السلطان برسباي ملك مصر المحروسة.
فوليها الشريف علي بن عنان المذكور وجهز معه الملك برسباي من مصر جيشاً كثيفاً وخيلاً وأميراً يكون عنده كما هو العادة؛ لأنه عزل حسناً المذكور بموت سلطانه الذي ولاه وهو الملك المظفر ابن الملك المؤيد، فخشي السلطان برسباي من مخالفة حسن المذكور ومحاربته لعلي، وكانت توليته في سنة سبع وعشرين المذكورة، فدخل مكة بمن انضم إليه من الأشراف والقواد المنسوبين لعجلان، فطاف والمؤذن يدعو له على زمزم، وقرئ توقيعه بالحطيم على العادة ولبس الخلعة، ثم خرج راكباً من باب الصفا مختلعاً فطاف في شوارع مكة المكرمة، ثم نزل إلى جدة المعمورة لأخذ مواجبه من الواصلين من الهند وترفق بهم غاية الترفق.
ثم عاد إلى مكة ونادى بالأمان، وأن كل من اختار الخدمة من الأشراف والقواد يأتي إلينا ومن لا فلا يقيم عندنا وله منا شهر زمان مهلة.
وقيل: إنه استمال الشريف رميثة بن محمد بن عجلان الذي كان متولياً قبل للشريف حسن، فوصل إليه، فلزمه الأمير قرقماس ووضعه في الحديد، وذهب به إلى مصر صحبة الحاج، فأرسل إلى الإسكندرية هو والشريف مقبل صاحب ينبع، وخرجوا رابع عشر ذي الحجة إلى الشريف حسن، وذلك أن الشريف حسن لم يحدث منه شيء لما عزل بالشريف علي بن عنان بل لما سمع أنه قرب من مكة واصلاً إليها من مصر متولياً صحبة الحاج خرج عنها هو والأشراف الذين معه والقواد، وتنحى بناحية قرب مكة وراسل السلطان برسباي بالكلام اللين وعرفه أن عزله كان بغير سبب فخرجوا إليه وأرادوا أن يهجموا عليه لأنه مكر به بعد التجار، واستدناه فقصدوه ليظفروا به فلم يروه بحماية الله تعالى، واستمر الشريف علي بن عنان إلى أن عزل عنها غرة ذي الحجة من عام ثمان وعشرين وثمانمائة بالشريف حسن.
فوليها الشريف حسن بعهد من ملك مصر برسباي لأنه راسله بالكلام اللين وعرفه عزله بغير سبب كما تقدم، فرضي عليه وأعاده إلى إمرة مكة.
ولما بلغ الشريف حسن هذا الخبر أرسل ولده السيد بركات لمواجهة أمير الحاج المصري فواجهه ودخل هو وإياه إلى المسجد، وحلف له بالله تعالى أن السلطان قد رضي على أبيك الشريف حسن وأنه لا يناله مني ولا من السلطان سوء، وكان الحلف على الملتزم.
فعند ذلك دخل الشريف حسن وواجه الأمير، وأهدى إليه هدايا، وأعطاه مِحَفةً حَج فِيهَا.
ثم إنه حج بالناس وأظهر طاعة السلطان برسباي، وأعلن بالدعاء له، فلما وصل خبر ذلك إلى السلطان برسباي طلب حضور مولانا الشريف حسن إليه فتوجه في الموسم من السنة المذكورة.
فلما وصل أمر السلطان أن يتلقاه الأمراء والأكابر ويمشوا بين يديه.
ولما حضر بين يديه أنعم عليه بالخلع العديدة والإنعامات المزيدة، والتزم الشريف حسن أن يخدم السلطان بثلاثين ألف دينار وأرسل عبده شكر إلى بندر جدة ليأتيه بها، واستمر بمصر على كمال الحشمة ووفور النعمة.
فكتب بعض أدباء مكة إلى السلطان - على لسان مكة - يذكر أنها متشوقة إلى الشريف حسن قوله: من الوافر:
مِنَ البلدِ المُخصَّص بالأمان ... وَكَعبَتِهِ المشرًفة المباني
تقبل كَف سُلْطَانِ البرايا ... أبي النصرِ الموفقِ للمَعَانِي
برسبَاى الذي ملكَتْ يداه ... جَمِيعَ الخَلقِ من قاصِ وداني
وتُنهِى ما بها من عُظمِ شوقٍ ... إلى سُلطَانِها بدر الزمانِ
إلى أن قال: من الوافر:
فَرُد إلىَ سلطاني سريعاً ... فإني كَالجوادِ بِلاَ عنانِ
فسمعها السلطان فرسم للشريف حسن بالتوجه إلى مكة وجهزه، وبرز ثقله خارج الديار المصرية، فاعترض له الضعف فعاد إلى القاهرة ومكث بها أياماً يسيرة، ثم توفي بها سادس عشر جمادى الأخرى سنة تسع وعشرين وثمانمائة، ودفن في حوش الملك الأشرف برسباي المذكور بالصحراء وقبره هناك مشهور يزار.
وله وقائع مشهورة في التواريخ مسطورة مع إخوته، وبنى عمه وملوك مصر والقواد وغيرهم، وكان ذا ثروة عظيمة، وحشمة وافرة جسيمة، وخيرات كثيرة عميمة.
بنى بمكة رباطاً للرجال ورباطاً للنساء، وبنى المارستان، وعمر أوقافه وزاد فيها ما يحتاج إليه، وجدد رباط رامشت عند باب الحزورة، ولم يل مكة قبله من يدانيه في شيء من ذلك.
وقد مدحه كثير من شعراء مكة المعتبرين، منهم الشيخ شهاب الدين أحمد فاسي والد تقي الدين الفاسي مؤرخ مكة، ومنهم شيخ الإسلام شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر المقري، وكان الملك الناصر أحمد بن إسماعيل الغساني صاحب اليمن تشفع إلى الشريف حسن بن عجلان سنة سبع وثمانمائة في ترك التشويش على موسى صاحب حلى وحثه على الموافقة على ذلك القاضي شرف الدين المذكور بقصيدته النونية وهي قوله: من الكامل:
أحسنتَ في تدبيرِ ملكِكَ يا حَسَنْ ... وأَجَدت في تحليلِ أخلاطِ الفتَن
ما كنتَ بالنزقِ العَجُولِ إلى الأذَى ... عند النزَاعِ ولا الضعيفِ أخا الوَهَن
تمسِى ورأيُكَ عن هواكَ معوق ... والغرُّ ملق في يد الأهوا الرَسن
داءُ الرياسةِ في متابَعَةِ الهوَى ... ودواؤها في الدفْعِ بالوجْهِ الحَسَنْ
وإذا الفتَى استَقْصَى لنصرةِ نفسِهِ ... قَلَبَ الصديقُ لحربه ظَهْرَ المجَن
لا تُصْغِ إن شر دعا فالشرُّ إن ... تنهضْ له يَنْهَض وإن تسكُنْ سَكَنْ
وسديد رأْىٍ لا يُحَركُ فتنةً ... سَكَنَت وإن حَركْنَهُ الفِتَنُ اطمأنّ
رَدَ العدوّ إلى الصداقةِ حكمةً ... صَفتْ من الأكدارِ عيشَ ذوي الفِطَنْ
بالسيفِ والإحسانِ تُقْتَنَصُ العلا ... وحصولُها بهما جميعاً مرتهَنْ
لا خيرَفي مِنَن ولا سيف بها ... ماضٍ، ولا في السيفِ ليس له منَنْ
أما حلى فإن خوفَكَ لم يدَعْ ... أهلاً بها للزائرينَ ولا وطَنْ
حلَيْتهُم منها وجسمُكَ وادع ... في مكةِ لم يُحْوِجُوكَ إلى ظَعَنْ
تركوا لك الأوطانَ غَيْرَ مدافعٍ ... وتعلقوا بذرى الشوامخِ واَلقُنَنْ
حفظوا نفوساً بالفرارِ أطلّها ... سيف على الأرواحِ ليْسَ بمؤتَمَنْ
ولحفظها بالفَر أكبرُ شاهدٍ ... لك بالعلا فِلمَ التأسُفُ والحَزَنْ
فاغمد سيوفَكَ رغبةً لا رهبةً ... ما في قتيلِ فرَّ مرعوباً سمنْ
وأكرمْ سيوفَكَ من دِما طرداتها ... فالحُرُ يكرمُ سيفَه أن يمتَهَنْ
قد كان لا يرضَى يخطط سيفَهُ ... في ظهر مَنْ ولَى أبوك أبو الحَسَنْ
وقد اقتدرْتَ وباقتدارِ ذوي النهَى ... تنفل أحقاد الضغائن والإحَنْ
موسَى هِزَبرْ لا يطاقُ نزالُهُ ... في الحرب لكنْ أين موسَى من حَسَنْ
هذاك في يَمَنِ وما سلمَتْ له ... يَمَنٌ وذا في الشامِ لم يَدَعِ اليمَنْ
فانظرْ إلى موسَى وقد لعبَتْ به ... لما سخطتَ عليه أحداثُ الزمَنْ
ذاقَ المرارَ لفَوتِهِ أوطانَهُ ... فَقِهِ مرارةَ فُرقة الرُوحِ البَدَنْ
لو شئتَ وهو عليك سَهْل هين ... لجمعتَ بين الجَفْنِ منه والوسَنْ
بعْ منه مهْجَتهُ وخُذْ ما عنده ... ثمناً يكنْ منك المثمنُ والثمَنْ
هذي مساوَمَةُ الفحولِ ومَنْ يبع ... ما بعتَ لم يعلَقْ بصفقته الغَبَنْ
جئنا بحسنِ الظَّنِّ نسألك الرضا ... والعَفوَ عنه فلا تخيبْ فِيك ظَن
فالحر يكرمُ سائليه يَرَى لهم ... فضلاً كما ابتدءوه بالظن الحَسَن
ويهينُ سائله اللئيم لظنهِ ... في مثله خيراً وذلك لا يُظَن
لا زِلتَ للشرفِ المخَّلد بانياً ... شرفاً ومجداً ثابتاً لِبَني حَسَن
ولما وقع بين الشريف حسن بن عجلان وبين الأمير أحمد بن إسماعيل الغساني صاحب جهات اليمن الحرب منع مسير الجلاب بالحبوب إلى أهل الحرم الشريف، فأنشأ السيد المرتضى قصيدة يستشفع عند الأمير أحمد في إطلاق الحبوب إلى أهل مكة، فقبل شفاعته وأطلقها، وهي هذه: من الكامل:
عطفاً على الحرمَين يا ملكَ اليَمَن ... وتجاوزاً يا خيرَ أملاكِ الزمَن
وارفُق بأهلِ اللهِ في أم القُرَى ... إن لم تكُن أنتَ الرفيقَ فمَنْ ومَن؟!
إني أشيرُ عليكَ رأى نصيحة ... والمستشارُ من البرية مؤتمَنْ
لا تسلكَن فيهم طريقَةَ قاطِع ... للرحمِ إنهُم هناك كمَن ومَن
ألمَن منكَ وأنتَ مَن سائل ... للمسلمينَ وأنتَ في المَنين مَن
أنت الذي ورثَ المكارمَ عن يدٍ ... ولك المعالمُ والعلومُ بكل فَن
ولكَ السماحةُ والتقَى من أسعدِ ... ولك الوجاهَةُ والعلا من ذي يَزَن
فانظُر بعينِ حقيقةٍ وسماحةٍ ... تلك الأمَاِكنَ والمساكنَ والسكَن
لا تحملنكَ عزة ملكية ... في حربها بخلافِ من فيها سكَنْ
إن الذي فَعَلَ الشريفُ وإن جنَى ... مثلُ الحصاةِ وأنْتَ في عفو حضنْ
من ذا الذي ما ساء قَط ومن له ال ... حسنَى فقَط ومن له العقل الحَسَن
حسن مليك في الحجازِ معظم ... فيها ولكن أين أحمد من حَسَنْ؟!
هذا له يَمَن وهذا ما له ... إلا فضَاضَة ما تفيضُ به عَدَن
ولك المدائن والسفائنُ كلها ... وله يلملَم والجنوبُ إلى قَرَن
أطلق له سُفُنَ البحارِ فإنها ... تجرِي إلى البيتِ العتيقِ على سَنن
بيت له خَضَعَ الملوكُ جلالةً ... وبه تفاضَلَتِ الفرائضُ والسنَن
وأبوكَ أولُ من كساه كما أتَى ... في مُحكَمِ التاريخِ في مَلإ اليمنِ
ولكم به آثار فضلِ ظاهرٍ ... فيما تظاهر من بناه وما بطَن
رسم المظفر فيه مكتوب بما ... ءِ العين أيده المؤيد بالمنَنْ
وعلَى منابرِهِ يشاعُ بذكرِكُم ... بِالصوتِ في الحرمِ الشريفِ إذا ازدجَن
أوَ لَيْسَ في هذا الدعاء لأهلِهِ ... ولمن أقامَ به الأمانُ من الفتَنْ؟!
صُن مكة الغراءَ من فتنِ ومِن ... محن فأنتَ أحق من طفأ الفِتَن
ومن المحاسِنِ في الكلامِ قصيدةُ ال ... مُقري التي جمع البديعَ بها وَسَن
قد قال في أبياتها وبديعها ... لله ذاك القَولُ من قولٍ حَسَن
داء الرياسةِ في متابعة الهوَى ... ودواؤه في الدفعِ بالوجْهِ الحَسَنْ
وإذا الفتى استقصَى لنصرة نفسِهِ ... قَلَبَ الصديق لحربه ظهر المجِنّ
لا تُصغِ إن شر دعا فالشر إن ... تنهضْ له ينهض وإن تسكُنْ سَكَن
وسديدُ رأي لا يحركُ فتنةً ... سكَنَت وإن حركنَهُ الفتنُ اطمأن
رَدَّ العدوَ إلى الصداقة حكمةً ... صفتْ من الأكدار عَيْشَ ذوي الفطَن
هذي نصائحُ أبرزتها فكرة ال ... مقري تفوقُ الدر ليس لها ثمَنْ
فاقبل نصائح تتصلْ بل إنها ... حِكَم تفوقُ الدر يدخله الوَهَن
أنتَ المليك ابنُ المليكِ وليسَ من ... شأنِ الملوكِ الشم إحمالُ الإحَنْ
وترى الطبيبَ إذا تقادم جُرحُ من ... يدويه لاطَفَهُ وغيرَ بالدهن
كل له شجنٌ وما لك في العلا ... شجَنٌ سوى الإصلاح يَا لَكَ من شجن
ولأَنتَ في الإسلامِ رأس واحد ... والرأسُ مهما اعتَل يتبعُهُ البدَنْ
رفقاً بأهلِ المكتَينِ ورحمةً ... بهمُ وعطفاً شاملاً لبني حَسَن
وإذا أردتَ له معاتبةً علَى ... ما فاتَ قَلتَ الصيفَ ضيعتِ اللبَن
لا زلتَ في الشرَفِ المعظَّم خالداً ... ما غردَ القُمري الطروبُ على فَنَنْ
وكان لي من الأولاد جملة، منهم: أبو القاسم وعلي وإبراهيم وبركات.
ثم وليها الشريف بركات بن حسن بن عجلان، وذلك أنه استدعاه السلطان برسباي سادس عشر رمضان من السنة المذكورة وهي ستة تسع وعشرين وثمانمائة، فلما قدم إلى مصر المحروسة أواسط ذي القعدة فوض إليه إمرة مكة المشرفة عوضاً عن والده، وقرر أخاه إبراهيم بن حسن نائباً عنه ثم ألبسهما خلعتين عظيمتين، فوصلا إلى مكة المشرفة ودخلاها بالخلع السلطانية، وقرئ توقيع مولأنا الشريف بركات بالحطيم، على طريقة أسلافه الكرام، لا زال الملك فيهم وفي عقبهم إلى يوم القيام.
قال المقريزي في كتاب السلوك في أخبار الملوك: لما كان ليلة الأربعاء ثالث عشر شهر رجب من عام تسع وثلاثين وثمانمائة بعث الشريف أبو زهير بركات ابن حسن بن عجلان أمير مكة بعثاً فيه يشكو عبيد أبيه الشريف حسن بن عجلان من بطون حرب إحدى قبائل مذحج ومنازلهم حول عسفان نزلوا سنة ست عشرة وثمانمائة، وقد أخرجهم بنو لام من أعمال المدينة النبوية فكثر عبثهم، وأخذهم السابلة من المارة إلى مكة بالميرة، وجعل على هذا البعث أخاه الشريف علي بن حسن بن عجلان ومعه من بني حسن الشريف ميلب بن علي بن مبارك بن رميثة وغيره في عدة من الناس، وسار معهم الأمير أرنبغا أمير الخمسين المركزين بمكة من أماكنه السلطانية وصحبته منهم عشرون مملوكاً، فنزلوا عسفان يوم الخميس رابع عشر الشهر المذكور، وقطعوا الثنية التي تعرف اليوم بمدرج علي، حتى أتوا القوم وقد أنذروا بهم، فتنحوا عن الأرض وتركوا بها إبلاً مع خمسة رجال، فأول ما بدءوا أن قتلوا الخمسة رجال، وامرأة حاملاً كانت معهم وما في بطنها أيضاً، واستاقوا الإبل، حتى إذا كانوا نحو النصف من الثنية المذكورة ركب القوم عليهم الجبلين يرمونهم بالحراب والحجارة، فانهزم الأمير أرنبغا في عدة من المماليك وقد قتل منهم ثمانية ومن أهل مكة وغيرهم نحو الأربعين وزيادة وجرح كثير ممن بقي، وغنم القوم منهم اثنين وثلاثين فرساً وعشرين درعاً، ومن السيوف والرماح والأسلحة والأسلاب ما قيل إن مبلغه ثمناً خمسة آلاف دينار وأكثر، فلما طلعت شمس يوم الجمعة دخل أرنبغا بمن بقي معه من المماليك مكة وهم يقولون: قتل جميع من خرج من العسكر، فقامت عند ذلك بمكة صرخة من جميع نواحيها لم نر مثلها شناعة، وأقبل المنهزمون ناساً بعد ناس في عدة أيام، وحمل الشريف ميلب يوم السبت ميتَاً، ومات بعده بأيام شريف آخر من جراحة شوهت وجهه كله من أعلى جبهته إلى أسفل ذقنه فإنا لله وإنا إليه راجعون.
واستمر الشريف بركات على ولاية مكة إلى سنة خمس وأربعين وثمانمائة ونزل فيها بأخيه علي بن حسن كما سيأتي، وقيل في التي بعدها بموضع يقال له الحشافة بالقرب من جدة، وأجاز له في سنة خمس جماعة من العلماء: الحافظان العراقي والهيثمي والبرهان ابن صديق والمراغي وعائشة بنت عبد الهادي، والشمس الفرسيسي في آخرين، وحدث عنه البقاعي وغيره، كذا في نظم العقيان في أعيان الأعيان للسيوطي.
ونشأ شريف الهمة حسن الأفعال جميل الأخلاق، أشركه والده كما قلناه في إمرة مكة مراراً وكان هو المشار إليه في جميع أحوالها.
ولما توفي والده ارتحل إلى القاهرة بطلب من السلطان برسباي، والتزم بما على والده من المال، واستقر في إمرة مكة بمفرده.
ولما وصل إلى مكة حسنت سيرته في الناس وعم الناس خيره.
ولما مات السلطان برسباي، واستقل الملك الظاهر جقمق في مملكة مصر طلبه إلى القاهرة، فامتنع من التوجه إليه خوفاً منه بسبب واقعة وقعت له مع الظاهر المذكور لما حج وهو أمير في عام سبع وعشرين وثمانمائة، فعند ذلك رام السلطان أن يولي أخاه علياً، وكان علي عنده بالقاهرة لأنه وقع بينه وبين أخيه بركات منافرة سنة اثنتين وأربعين، فعزم إلى مصر فأقام بها إلى أن ولي سنة خمس وأربعين كما سيذكر فلم يوافق على ذلك من أركان الدولة من يعتمد عليه فتوقف، ثم فعله في سنة خمس وأربعين وثمانمائة.
فولى أخاه علي بن حسن بن عجلان إمرة مكة المشرفة منفرداً وجهز معه عسكراً فوصل العلم إلى الشريف بركات وهو بوادي الآبار توجه من فوره إلى جدة وأخلى مكة المشرفة من نوابه، ثم وصل وزير الشريف علي بن حسن قبله إلى مكة وهو القائد مزروع العجلاني ودعا لأمير مكة من غير تعيين على منبرها في رجب من العام المذكور، ثم وصل الشريف علي فدخل مكة، ولما نزل الشريف بركات إلى جدة استولى عليها، فراسله الشريف علي وأخوه الشريف إبراهيم، ومن معهما من الأمراء، وسألوه أن يخرج من البلاد فامتنع ألا من المحاربة، فوقعت بينهما الحرب بالجديد بالقرب من جدة فكانت الغلبة لعلي ومن معه من الأمراء والأتراك، واستولوا على جدة، وتوجه الشريف بركات إلى جهة اليمن هو ومن معه واستمر علي في إمرة مكة مدة قليلة إلى أن قبض عليه مع أخيه إبراهيم يوم الثلاثاء رابع شوال سنة ست وأربعين وثمانمائة، وكبلا في الحديد وظهر عزله بأخيه الشريف أبي القاسم.
فوليها الشريف أبو القاسم بن حسن بن عجلان وكان بالقاهرة، فطلب الأمراء المقيمون بمكة ولده السيد زاهر بن أبي القاسم بن حسن بن عجلان، وألبسوه خلعة ليكون نائباً عن أبيه، فقام بحفظ البلاد ولده السيد زاهر وذهب بالأخوين علي وإبراهيم إلى جدة وأركبا في جلبة إلى القاهرة.
وتفصيل هذه الواقعة هو ما ذكره الجزيري في تاريخه فقال: لما كانت سنة ست وأربعين وثمانمائة وصل حكم من السلطان الظاهر جقمق صاحب مصر مع الأمير تمراز بالقبض على الشريفين علي بن حسن بن عجلان وأخيه إبراهيم وتجهيزهما إلى مصر، فحضر الأمير تمراز إلى مكة في مستهل شوال، فأرسل الأمير بيورلدي إلى الشريف علي بن الشريف حسن أن يحضر هو وأخوه السيد إبراهيم للبس خلعتيهما، فتخيلا من ذلك وكانا بوادي الآبار، ثم اقتضى رأيهما أن يقيم السيد إبراهيم بوادي الآبار وبتوجه إليهم الشريف علي، فوصل إلى مكة في عشاء ثالث شوال وأتاهم في صباحها، فسألوه عن أخيه السيد إبراهيم فذكر لهم عنه عذراً أقامه، فألبس الأمير تمراز الشريف علي خلعة حمراء وحياصة. وقرئ مرسوم السلطان مضمونه: إنه بلغنا أن الشريف علي متشوش الخاطر، فليطب نفساً وليقر عيناً فإنا لا نغير عليه شيئاً أبداً ما دام على العهود والمواثيق، وقد بعثنا له بخلعة ولأخيه إبراهيم كاملية فَرو قاتم، فقرت بذلك عين الشريف فلبسها وطاف بالبيت، فحسن الأتراك للشريف علي أن يرسل إلى أخيه إبراهيم فيصل للبس خلعته السلطانية، فاعتمد الشريف علي قولهم، وأرسل إلى أخيه ثم اجتمعا بهم في المسجد فألبس الشريف إبراهيم خلعته، وكان بعض الأمراء الأتراك اعتذر عن حضوره ذلك اليوم بأنه شرب مسهلاً، فحسن الباقون من الأتراك للشريفين أن يعزما إليه من المسجد لزيارته، وكان نازلاً بمدرسة الباسطية ففعلا، فبعد أن وصلا إليه مع جماعة الأتراك أخرج أحد الأمراء مكتوباً من السلطان، ودفعه لذلك الأمير المزبور فأعطاه لكاتبه فعّربه ثم قرأه، فكان مضمونه الأمر بالقبض على الشريف علي وأخيه إبراهيم، فقبض عليهما وتفرق من كان معهما، وحصلت الغوغاء في البلد ثم استعادوا منهما ما ألبسوهما من الخلع، ثم إنهم سفروهما إلى جدة وأركبوهما البحر إلى مصر.
انتهى ما قاله الجزيري.
قال السخاوي في الذيل: كان الشريف علي بن حسن المذكور حسن المحاضرة كريمَاً، ذا ذوق وفهم، ونظم حتى قيل: إنه أحذق بني حسن وأذوقهم وأفضلهم.
ومن نظمه: من الوافر:
وإن نال العُلاَ قَوم بقومٍ ... رَقِيتُ عُلوَّها فرداً وَحِيدَاً
أقام بمصر بعد أن أخذ هو وأخوه، فاستمر إلى أن مات بدمياط مطعوناً مسجوناً سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة عَن خمسٍ وأربعين سنةً.
ثم وصل أبو القاسم إلى مكة يوم السبت سابع عشر ذي القعدة من سنة ست وأربعين وثمانمائة لابساً خلعة الولاية وقرئ توقيعه بالحطيم ونودي له كما تقدم، واستمر الشريف أبو القاسم في ولاية مكة إلى سنة تسع وأربعين وثمانمائة، فهجم عليه الشريف بركات، ففر الشريف أبو القاسم منها وأقام الشريف بركات بها، فأشيع بمكة أواخر السنة المذكورة أن السلطان أوصى أمراء الحاج بالقبض على الشريف بركات، لاستيلائه على مكة من أخيه أبي القاسم بعد النداء له وقراءة توقيعه عند الحطيم، وكان قد وصل مع الحاج نحو عشرين أميراً لذلك، فجمع الشريف بركات الخيل والرجل، وأكثر من الجمع على العادة وتقدم وواجه أمير الحاج واختلع ولكن لم يدخل لأحد منهم بيتاً كما كان يقع.
فلما كان يوم عرفة لما عزم الأمراء إلى الصلاة بمسجد نمرة وقعت جفلة حال بروزهم وثار غبار شديد فظن الناس أنهم أغاروا على جهة الشريف بركات فاختلط الحاج وألبست الأشراف والقواد وكانت ساعة مهيلة والعياذ بالله وسلم الله المسلمين، غير أن الشريف بركات لم يقف في المحل المعتاد فيه الوقوف له بل وقف وحده ومن معه منفرداً عن الحاج ناحية، ثم نزح بعد النزول إلى منى عن مكة.
وعاد الشريف أبو القاسم إلى ولايته عليها، واستمر الشريف بركات نازحاً عن مكة إلى سنة إحدى وخمسين وثمانمائة.
فلما كان سابع عشر ربيع الأول من سنة إحدى وخمسين وصل قاصد من مصر وذكر أن السلطان قد رضي على الشريف، وأعاد إليه إمرة مكة المشرفة، وسبب ذلك أن ولده الشريف محمد بن بركات توجه إلى مصر بسبب السعي لولده الشريف بركات في إمرة مكة، ودخل القاهرة وحصل له من الملك الظاهر جقمق غاية الإكرام وأنعم على والده الشريف لإمرة مكة المكرمة، فَهَذا هُوَ السبب في رضا السلطان عن أبيه، ووصول القاصد بخبر توليته مكة المشرفة، فلما وصل القاصد إلى مكة بهذا الخبر أمر الشريف أبو القاسم أتباعه بالخروج من مكة إلى وادي البيار، وخرج وأخلى مكة، وذهب إلى مصر، فمات في السنة التي مات فيها أخوه علي وفي شهرها بالطاعون المذكور أيضاً، وكان موته بالقاهرة وصلى عليه السلطان، ودفن على والده الشريف حسن بن عجلان بحوش الأشرف برسباي كذا في الذيل للسخاوي، واستمر الشريف بركات في مكة السنة المذكورة، ثم استدعاه السلطان سنة إحدى وخمسين ليقدم عليه إلى القاهرة فما خالف ولم يمتنع كما امتنع أولاً، وقدم عليه إلى القاهرة مستهل رمضان في السنة المذكورة، فنزل السلطان إلى لقائه إلى الرميلة وبالغ في إكرامه واحترامه، وخرج من القاهرة عائداً إلى مكة عاشر مضان من السنة المذكورة مكرماً مرعياً معاملاً بكل جميل، وحصل له من الإكرام، ما لا مزيد عليه مما لم يقع لأحد من أهله قبله.
وأخذ العلماء عنه بالقاهرة وازدحموا للقراءة عليه لعلو سنده وسمعوا من نظمه.
ثم عاد إلى مكة المشرفة وكان يوم وصوله يوماً مشهوداً عظيماً، وذلك أنه لما كانت ليلة السبت أواسط شوال من السنة المذكورة سنة إحدى وخمسين وثمانمائة دخل الشريف بركات إلى مكة محرماً بالعمرة فطاف وسعى وخرج إلى الزاهر وبات به، ثم دخل مكة في صبح اليوم المذكور لابساً التشريف وقرئ توقيعه بالحطيم، طاف ونودي له بالدعاء على قبة زمزم كعادة أسلافه الكرام ملوك مكة.
ومما وقع في زمانه أن أمير اليمن أحمد بن إسماعيل الغساني المتقدم ذكره آنفاً كتب إليه أن يفرغ له دور مكة وأن يلقاه إلى حلى صحبة قصيدة هي قوله: من الرمل:
من لصَب هاجه نَشرُ الصبا ... لم يزدْهُ البَين ألا طَرَباً
وأسيرٍ كلما لاحَ له ... بارقُ القبلة مِنْ صبيا صَباً
ولطَرفٍ أرق إنسانُهُ ... دون مَنْ يَشتَاقُهُ قد حُجِبَا
لم يزل يشتَاقُ نحلان وإن ... قَدُمَ العهدُ ويَهوَى الطنبا
ما جرَى ذكرُ المغإني في ربا ... صبواتِ الشط ألا انْتَحَبَا
حَبذا صلبُ القعيسا وطَنِي ... ولويلاتِ بها ما أَعْذَبا
وربا البيرَينِ من قبليه ... وشراب بهما ما أعْذَبا
يا أخلاَّيَ بصبيا واللوَى ... وأحبائي بتَياكَ الرُبا
هل لنا نَحوَكُمُ من عودةٍ ... لِنَرَى سدْرَكُمُ والكثبا
فَلَكَمْ خادَعتُ قَلبِي جاهداً ... يتسلىَ عن هَوَاكُمْ فأَبَى
فاذكروا صَبا بِكُم ذا لوعة ... بان عنْكُم كَارِهاً مغتصبا
وإذا عَن له ذِكرَاكم ... صاحَ واغتصَّ الحسا وانتحبا
وإذا ما سَجَعَت قمرية ... صاح من فَرْطِ الأسى واحَرَبا
هَائِم القَلبِ كئيباً دنفاً ... لم يَرَ السلوانَ عَنْكُمْ مَذْهَبا
أترى الحي الذي كَنا وهُم ... جيرة بالشَامِ أيامَ الصبا
ليتَ شعرِي بعدنا هل طَنَبُوا ... برُبا نَحلان بَعْدي طنبا
أو تناءَتْ بهمُ عِيسُهُمُ ... أَو سَبتهمْ بعدنا أيدي سَبا
عجباً للدهرِ ماذا سنهُ ... ولأحداثِ اللَياليِ عَجَبا
ما طلبتُ الذهرَ ألا صعباً ... وطلبتُ السلمَ ألا حَرَبا
ولئن حل بقلبي نُوَب ... مُصمِياتْ تستهل النوبا
وبلاني من زماني محن ... بَلَغَ الضدُ بها ما طلبا
فلعَمرِي ما بلت ألا صفا ... وانتضت ألا حساماً خَشَبا
غير لا أنكر مَعرُوفاً ولا ... عَابِس الوجه إذا الدَهْز كَبا
لا ولا منكرث لو أنه ... وَهَبَ الحوباءَ فيما وَهَبا
وأجل الناسِ صبراً لو على ... غارب المكروهِ يوماً ركبا
إخوتِي بالشامِ بَل يا سادتِي ... وأعز الناس أمّاً وأبا
ومَسَاعِير الوغَى من حسنٍ ... وبنو الحربِ إذا ضاق القبا
ألشناخيبُ الذرَى من معشرٍ ... ألصنَادِيد الكرامُ النجبا
إن قضيتم من هوانا أَرَباً ... ما قضينا من هواكُمْ أَرَبا
أو تناءَت دارنا عنكم ولم ... يأتنا منكُمْ على البُعْدِ نبا
لا تناسَونا وإن طال المدى ... كَم تناءٍ بعد بُعْد قربا
فإِذا ريحٌ جنوبْ جَنبَت ... فاسألوها كيف حال الغُرَبا
فلديها من تَنَاهي لَوْعَتي ... وغرامِي ما يحط الشهُبا
حَبذا لو أننِي من دونكُم ... خائضاً سُمرَ العوالي والظُّبا
وجياد الخيلِ ينثرْنَ على ... مَتَنَاتِ الدّارعِينَ العذبا
ألحق الأقران شُعْثاً شُزبا ... تتعاطَى بالعواليِ شزبا
أيها الرَائِحُ بالشامِ على ... قلقِ السير كَهَباتِ الصَّبا
أو كَسَهم طارَ عن مَحنيهِ ... ذات زورَينِ إذا ما ركبا
قُل لمنْ كان لمأذونِ القضا ... ولأحداثِ الليالي سَبَبا
والذي أوقد نيران الغضا ... زِذ على نارك يا ذا حَطَبا
واستلِبْ ما شئتَ عمداً فعسَى ... عن قريبٍ أن تحط السلبا
إن يكنْ سَركَ ما سا فعَسَى ... كَيْ ترَى من بعدِ هذا عَجَبا
إن ظننتَ الدهرَ يوماً واحداً ... فلقدْ حَاولتَ أمراً كذبا
رب صدعٍ كان أعيا شعبه ... أدركَتهُ رَحمَة فانشعبا
وسرورٍ بعد يأسِ قد أتَى ... وزمانِ بعد بُؤْسٍ أعشَبا
ولكَم فتح منَ اللهِ أتَى ... حيثُ لا يُدرِكُ ساع هربا
فجلا هماً وأطفا حرقاً ... وشَفَى غِلاًّ وجَلى كربا
وأعادَت رحمة البارِي على ... مُؤيسٍ من حالِهِ ما ذهَبا
إن خبوني عنك في مُسْتَودَعِ ... فشهابُ العَزْمِ مني ما خَبا
أو سلا جَفنك لذاتُ الكرَى ... فَجُفُونِي والكَرَى ما اصطحبا
رب ليلٍ بتهُ مرتقبا ... لطلابِ الثأْر أَرْعَى الشهبا
أرقبُ النصرَ سَريعاً طالعاً ... وأراعي الغَفْرَ مهما غربا
لنهارٍ تنقطُ السمْر به ... في الوغَى ما شكلَت بيض الظبا
وجياد الخيلِ في معركةٍ ... مجلبات يرتكبْنَ الغيهبا
فينالُ المُرتَجِى مِنْ ربهِ ... في أَعَادِيه الذي قد طَلَبا
وصلاةُ الله تغشَى دائماً ... أحمَدَ المُخْتَارَ ما هَب الصبَا
فلما وصل المكتوب والقصيدة إلى الشريف بركات بن حسن المذكور تصدى لجواب أحمد بن إسماعيل المذكور السيد الأمجد فصيح الفصحاء عفيف الدين السيد عبد الله بن قاسم الذروي، فكتب إليه هذه القصيدة على لسان الشريف بركات بن حسن بن عجلان، رحم الله الجميع، فقال: من الرمل:
بِالقَنا الخطئ والبيضِ الظبا ... وبِخيلِ تتبارَى سربا
سابحاتٍ مقرباتٍ ضُمرٍ ... أعوجيَّاتٍ عِتَاقِ شُزبا
بُريَتْ آذانُها من جودةٍ ... مثلَ أقلامٍ بها كَمْ كُتِبا
داحسياتٍ إذا ما طردَتْ ... فائتا ما بان عنها هَرَبَا
وإذا ما انحدَرَتْ عن طاردٍ ... سَبَقَتْ لم يَبْغِ منها أربا
عُودَتْ بالحرب حتى إنها ... لم تَزَلْ تَهْوَى التلاقِي طَرَبَا
بدروعٍ سابغاتِ زُعفِ ... شاهدَتْ أيامَ عادٍ وسَبا
صافيات ذات نسجِ محكمٍ ... وقتير مثل أعيانِ الدبا
وببيضِ روسةٍ لامعةٍ ... نصَّهُ صانعه فانْتَصبا
وبأبطال إذا ما استَعَرَتْ ... نارُ حربِ ولظاها التهبا
وردوها برماحٍ ذُبلٍ ... وبأسيافٍ تحزُّ العصبا
نحمي البَيْت ونَحمِي جدة ... وربا حلى وأكناف قبا
بسيوفِ جردَتْ من غمدٍ ... كبروقٍ يخترقنَ الحُجُبَا
قُلْ لمن رامَ يناوينا ومَنْ ... رام يأْتِي بيتنا مُغْتَصِبا
لا تحجَ البيْتَ ألا خاضعاً ... دافعاً عُشْراً لنا ثُم حُبَا
وإذا ما حَجهُ ذو عزةٍ ... ترك الأمْرَ وجا مصطحبا
وإذا ما كان رأساً لم يعُدْ ... عندنا يا صَاحِ ألا ذَنَبَا
سورةُ الفيلِ لنا كافية ... أُتركِ الجَهْلَ وخَل الكذبا
ليس بيتُ اللهِ وادي زمعٍ ... لا ولا دمت لمَنْ قد طلبا
إن بيْتَ اللهِ بيت خصهُ ... منه بالنصْرِ فَلَنْ ينغلبا
دونه خَيْل عتاق شزبٌ ... عسفَتْ بالدارعِينَ النجبا
ومليك من بني حيدرةِ ... طابَ أجداداً وأماً وأبا
بركاتُ المنتقَى من حَسَنٍ ... فارسُ الهيجا إذا ما انتدبا
المُكَنى بالنبي الهاشمِي ... جده الكاشفُ عنا الكُرَبا
أطولُ الناسِ فخاراً سامياً ... وأجلُ الناس طراً حسبا
كَم جَنَى من عرب ذي عزةٍ ... ولمالِ الضد كم قد نَهَبا
ولكَمْ من ملكٍ عانده ... فغدا عن مُلكِهِ منقلبا
لو رآه الموتُ في يَوْمِ الوغَى ... تَرَكَ الأمرَ وحط السلَبَا
ولو أن الليْثَ وافَى سطوَهُ ... نكس الرأسَ وهَزَّ الذنبا
لا ولا يقرى لَحوحاً ضيفه ... لا ولا يقطَعُ حَق الأدبا
وإذا ما البَغْلُ مِنْ قُل حَياً ... رامَ سَبقَ الخيلِ جَهْلاً تَعِبَا
فلما بلغه هذا الجواب تخلف عن الحج، وأمر من يترصد الذروى في بلاده صبياً، فترصدوا له حتى إذا نزل الساحل جازان تحيلوا عليه حتى ركب معهم فساروا به إلى أحمد بن إسماعيل المذكور فحبسه وضيق عليه، فأمر الشريف بركات بفدائه بمائة ألف ناقة، فقال أحمد المذكور: والله ما أخرجه من الحبس حتى ينشعب هذا الصدع، فأنشأ قصيدة في الحبس، فأرسل الله تلك الليلة مطراً فأصبح الحجر قد انشعب بقدرة الله تعالى، فأطلقه وأحسن إليه وأوصله مأمنه. انتهى.
واستمر الشريف بركات إلى أن توهن بالمرضِ سنة تسع وخمسين وثمانمائة، فسأل مشدجدة خاني بك الظاهري أن يرسل إلى الملك يلتمس منه للشريف بركات أن يولي إمرة مكة لولده السيد محمد بن بركات بن حسن؛ لأنه ضعيفُ الجسم ضعيف الحركة، فأرسل خاني بك يسأل في ذلك إلى الملك، فقدرت وفاة الشريف بركات قبل ورود الخبر، وجاء الجواب بعد موته بيوم بولاية ولده محمد بن بركات، وكانت وفاة الشريف بركات بن حسن بن عجلان عصر يوم الاثنين تاسع عشر شعبان سنة تسع وخمسين وثمانمائة بأرض خالد من وادي مر، وحمل على أعناق الرجال، ودخل به مكة أثناء ليلة الثلاثاء، وغسل وصلي عليه بالمسجد الحرام بعد صلاة الصبح، ودفن بالمعلاة وبني عليه قبة موجودة إلى الآن. ورثاه الشهاب المنصوري بقوله: من الكامل:
قالوا قضَى بركاتُ قلتُ يحق لي ... أن أتبِع العبراتِ بالزفراتِ
يا ترحَةَ الأحياءِ عند فراقِهِ ... وبقربِهِ يا فرحَةَ الأمواتِ
والكعبةُ الغَرَّاءُ قالَت قد غدا ... لُنسُ السوادِ عليه من عاداتي
فانظُز إلى آثارِهِ في مكةٍ ... فَرِحَابُها لم تَخلُ من بَرَكَاتِ
وكان رحمه الله مهيباً وقوراً شجاعاً مقداماً غضنفراً كثير الخيرات جزيل المبرات ميمون الحركات، بنى بمكة رباطاً للفقراء وهو موجود، وهم به قاطنون.
له النثر الفائق والنظم الرائق، فمن شعره قوله: من البسيط:
يا من بذكرهِمُ قد زادَ وَسواسي ... وقد شُغِلتُ بهم عَن سائِرِ الناسِ
ومَن تقرَرَ في قلبي محبتُهُم ... وجئتُهُم طائعاً أسعَى على راسِي
سألتكُم شربة من ما مشارِبِكنم ... تُغني عن الراحِ إذ ما لاحَ في الكَاسِ
واستمر في الولاية إلى عام 859 تسع وخمسين وثمانمائة.
وكان ملكاً شهماً عارفاً بالأمور، فيه خير كثير وحلم زائد مع حسن السياسة والشجاعة المفرطة زائد السكينة والوقار، وله بمكة مآثر كثيرة وقرب نافعة؟ منها بمكة رباط للرجال وغير ذلك.
مات بأرض خالد من وادي مر، وحمل على أعناق الرجال وغسل في داره وطيف به كما هو المعتاد، ودفن بالمعلاة، وبنى عليه ولده الشريف محمد قبة وتأسف الناس لفقده، تغمده الله برحمته.
وكانت مدة ولايته تسع سنين من سنة إحدى وخمسين إلى سنة تسع وخمسين وثمانمائة.
وكان له من الأولاد جملة منهم الشريف محمد بن بركات بن حسن بن عجلان. ولي مكة بعد وفاة أبيه.
وقد تقدم ذكر التماس أبيه ذلك في مرض موته.
وفي عصر يوم الثلاثاء في يوم دفن والده وصل المرسوم بالإجابة إلى ما سأل فيه والده، وصحبة المرسوم خلعة الولاية عوضاً عن أبيه، فلما ورد المرسوم بذلك كان محمد غائباً ببلاد اليمن لحفظ بعض أموال والده، فدعي له على زمزم بعد صلاة المغرب من ليلة الأربعاء، فلما كان يوم الجمعة قرئ المرسوم مخاطباً فيه السيد بركات ومضمونه: إنه ورد إلينا كتاب الأمير خاني بك مشدجدة بالثناء على المخدوم، وقد بلغنا ضعفه وتوعك جسمه وقلة حركته فأقمنا مقامه في إمرة مكة ولده السيد محمد بن بركات.
والمرسوم مؤرخ بسادس عشر رجب سنة تسع وخمسين وثمانمائة.
فلما كان رابع شوال من السنة المذكورة وصل كتاب من السلطان الملك الظاهر أيضاً إلى السيد الشريف محمد بن بركات بالعزاء في والده الشريف بركات، وتوقيع باستقراره واستمراره في إمرة مكة عوضاً عن والده مؤرخ في أوائل شهر رمضان من السنة المذكورة، ودام إلى سنة ثمانين وثمانمائة.
ثم استناب ولده الشريف بركات بن محمد بن بركات، ثم توفي هو عام ثلاث وتسعمائة كما سيأتى ذكره، ومدة ولايته خمس وأربعون سنة.
ومن فتوحات الشريف محمد عام ثلاث وسبعين: أنه غزا طائفة زبيد ذوي مالك ابن رومي بين خليص ورابغ، وقتل منهم سبعين رجلاً وقتل شيخهم رومي وأخاه مالكاً وغنم منهم أموالاً عظيمة من جملتها ثلاثون ألف بعير.
وفي سنة سبع وسبعين وثمانمائة من دولته اتفق أن أمير الحاج المصري منع الحاج العراقي من دخول مكة وخرج الأتراك والشريف محمد بن بركات بن حسن وغالب العسكر ملبسون، فلما احتاطوا بالحاج العراقي أمروهم بالدخول إلى مكة، فلما دخلوها أمسكوا الأمير والدوادار وأخذوا المحمل العراقى، وزنجروهما وأركبوهما جملين، ودخلوا بهما مكة، ثم بعد الحج عزموا بهما إلى مصر، ومن بعد تلك السنة لم يدخل محمل من العراق إلى مكة إلى الآن.
وفي عام إحدى وثمانين وثمانمائة ورد مرسوم السلطان قايتباي - طاب ثراه - بأن عشر اليماني بينه وبين الشريف محمد بن بركات مناصفة، وبأن لمولانا الشريف محمد كل مال الموتى الذين لا وارث لهم إلى أن يبلغ ألف دينار جديد، فما زاد على ذلك كان للسلطان، وبأن أموال اليتامى في حفظ أمير السلطان بمكة بعد أن كانت في حفظ قاضي الشرع الشريف.
ووصل محمل من العراق فلم يدخلوا به إلى مكة المشرفة، وبذلوا على دخوله مكة وطلوعه عرفة مالاً جزيلاً فلم يوافقهم على ذلك مولانا الشريف محمد المذكور.
وفي سنة اثنين وثمانين: بنيت المدرسة الأشرفية القايتبائية بمكة المشرفة.
وفيها غزا الشريف محمد على جازان، ونهبها وأحرق حصنها، وأخرب سورها وقتل عدة مستكثرة من رجالها، وغنم شيئاً كثيراً من أموالها، وأسر طائفة عظيمة من نسائها وأطفالها، وكان معظمهم من الأشراف، وتبلغت العساكر من أموالهم وأولادهم ونسائهم بأموال كثيرة وباعدهم في سائر الأطراف.
قال العلامة جار الله بن فهد القرشي المكي: وكان ذلك فتحاً عظيماً أوجب جلالة مولانا الشريف محمد ورجحانه على من سلف من هذا البيت المبارك، وخافته القبائل وامتلأت من مهابته الصدور.
وفي عام أربع وثمانين كان حج مولانا السلطان قايتباي - رحمه الله - وصحبه من الديار المصرية أعيانها المشهورون من العلماء والصلحاء، وأولاد الرؤساء أهل الحل والعقد، وتجهز بالأوضاع السلطانية، وصحب من الدواب والخلع والأموال ما لا يحصره عد ولا يحويه حد، وخرج لاستقباله الشريف محمد وولده الشريف هزاع، والقاضي إبراهيم بن ظهيرة وولده القاضي أبو السعود، وقابلوه في بدر في افتتاح ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة على أجمل حال من كثرة العساكر وجمالتهم بالسلاح المذهب والثياب الحرير الفاخرة، والخيل المسومة والذخائر والركاب الملبسة بأنواع الذهب، والحلية النظيفة والسيوف المسقطة.
وقد تقدم شرح ذلك بأبسط من هذا عند ذكر ترجمة السلطان قايتباي في الباب السادس المخصوص بولاة الشراكسة فلا حاجة بنا الآن إلى تكريره.
واستمر الشريف محمد بن بركات على الولاية وحمدت سيرته في البلاد، واطمأن بوجوده العباد، ولم يزل في زيادة علو وارتفاع، وتوافر نعم وخيرات وساع، كل ذلك مع فعل الخير والإحسان، والمبرات التي شمل بها القاصي والدان، وتكرار زيارة جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، والإحسان إلى المجاورين بالحرمين الشريفين، والمحلين المعظمين المنيفين، خصوصاً من يتوسم فيه الخير والصلاح، وفاق في ذلك من تقدمه من أسلافه الكرام.
ووقع في أيامه من العدل والطمأنينة ما لم يقع فيما تقدم من الأيام، وفوض إليه نيابة السلطنة بالأقفار الحجازية، والاستنابة في المدينة المنورة والينبع ممن يختاره، وصرح باسمه الشريف على منبر المدينة بعد السلطان وقبل صاحبها، ونفذ أمره في جميع الأقطار الحجازية من أعمال الينبع كنبط والحورا وما فوق ذلك من الشام إلى أعمال جازان وما والاها من اليمن والبلاد الشرقية على التمام، وما حول ذلك من بلاد الحجاز وسراتها وبجيلة وأعمالها، وانفرد في ذلك بعلو شأن.
وتحدث بهيبته وسطوته القاصي والداني، ولطالما جهز جيوشه وسراياه إلى من خالف عليه وناوأه، وظفر بهم كل الظفر، واستأصل أموالهم وملكهم وقهر، كقتال أهل الينبع لما لم يوافقوا على الخضوع، وأجلى الجميع من بلادهم وكفهم عن مقاصدهم ومفاسدهم.
وكأهل جازان لما وقع منهم ما وقع من العصيان، فقتلهم واستبى، وملك بلادهم واجتبى.
وكقتل أهل زبيد وإهانتهم، ثم إكرامهم لما دخلوا في الطاعة وإعانتهم.
وكقتل أهل حلى والعايد، وتشريدهم كل التشريد، وإخراجهم من البلاد، والقبض على أميرهم الحرامي وجعله مع أهل الجرائم والعناد، إلى غير ذلك مما لا يحصيه قلم كاتب ولا ديوان حاسب.
ولقد كان والله حسنة من حسنات الزمان، ومنة عن الله تعالى على القاصي والدان، تواضعاً وأدباً وفهماً وعقلاً ومداراة واغتفاراً مع حسن الشكالة ووضاءة الصورة والمواظبة على الطواف والجماعة عند وصوله إلى المحل الشريف ومزيد الوقار، والسكون والعدل، وكف جماعته عن أذى الرعية ومسايسة للتجار وعدم الطمع والتطلع لما في أيديهم ومجاملتهم والذب عنهم، وفعل الخير الذي يحصل به الثواب العظيم كرباط بمكة المشرفة مع ما وقفه عليه والسبل العديدة بطريق الوادي وجدة، وآبار كثيرة يحصل بها النفع للمسافرين، كالذي بطريق المدينة الشريفة، وبجهة اليمن وغير ذلك من الحسنات، ولم تزل دولته قائمة قويمة وأموره منتظمة وأحواله مستقيمة.
وهو مبجل معظم عند الملوك لا يخالفونه فيما يختار في جميع الأقطار الحجازية، ويراعون خاطره في جميع الأحوال المنسوبة إليه، إلى أن اختاره الله تعالى لدار البقاء ونقله إلى دار كرامته، فانتقل إلى رحمة الله تعالى في شهر محرم الحرام سنة ثلاث وتسعمائة بوادي الآبار، وحمل على أعناق الرجال إلى مكة المشرفة، وغسل في بيته ودخل به المسجد وطيف به أسبوعاً وصلي عليه عند باب الكعبهّ بعد أن نادى له الريس على زمزم بصيغة الصلاة على الملك العادل أبي الفقراء والمساكين، إلى غير ذلك من التراجم.
ودفن بالمعلاة وبنى عليه ولده قبة عظيمة موجودة إلى الآن.
ومن جملة خيراته سبيل بالنوارية وسبيل آخر أوقف على ذلك أوقافاً كثيرة وهي بوادي مر شهيرة.
ضاعف الله ثوابه وأحسن في العقبى مآبه.
وخلف من الأولاد ستة عشر ذكراً غير الإناث منهم خميصة وجازان وهزاع وبركات وقايتباي وعلي وراجح.
ثم وليها الشريف بركات بن محمد بن بركات بن حسن بن عجلان.
كانت ولادته سنة إحدى وستين وثمانمائة في ربيع الأول بمكة.
أمه عمرة بنت محمد بن علي بن أحمد بن ثقبة بن رميثة.
دخل القاهرة سنة ثمان وسبعين وثمانمائة، وذلك بسبب أنه ورد إلى مكة المشرفة في السنة المذكورة مرسوم من سلطان مصر بطلب سلطان مكة المشرفة الشريف محمد بن بركات عوضاً عنه، فأرسل الشريف محمد بن بركات ولده الشريف بركات بن محمد بن بركات عوضاً عنه ومعه قاضي القضاة إبراهيم بن ظهيرة، وولده القاضي أبو السعود بن ظهيرة وجماعة من أقاربه، فأكرم السلطان ومن دونه موردهما، وأشركه مع أبيه محمد ابن بركات بن حسن بن عجلان، ورجع متزايد العز.
ووقع في أيام الثمان من سنة إحدى وتسعين وثمانمائة بين ترك أمير الحاج الأول وأمير المحمل قتال عند باب بازان بالمسعى وشج فيهم جماعة من الفريقين والتحم القتال بضرب السيف والدبوس ورمي النشاب، ثم سكنه الله بمجيء أمير الأول ثم أحضروا القضاة والفقهاء وكتب بذلك محضر.
وفي سنة تسعمائة اتفق أن الحاج المصري خرج عليه العرب فأخذوا غالبه؛ وكذلك الغزاوي خرجوا عليه ولكن لم يظفرهم الله به، وكذلك الحاج الشامي خرجوا عليه وأخذوه أجمع وأسروا بعض التجار، وكل ذلك فعل بني لام المفسدين، ولم يسمع بمثل هذا الاتفاق في سنة واحدة، ولم يزل الشريف بركات يتزايد حتى استقل بالملك بعد وفاة والده الشريف محمد سنة 903 ثلاث وتسعمائة، وكان السلطان يومئذ محمد بن قايتباي، وتزايد في الترقي في العلوم والفضائل حتى صار مرجعاً في حل الأمور المشكلات ودفع العدو، كم سافر للأعداء فرجع مسروراً وبالظفر محبوراً.
وقد ترجمه العلامة الشيخ عبد العزيز بن فهد الهاشمي في مؤلف له سماه غاية المرام، بأخبار سلطان البلد الحرام وساق نسبه في ديباجته وختمه باستيفاء أخباره وما مدح به. وملخصه: أنه سمع الحديث بالقاهرة في رحلته الأولى في السنة المذكورة وهي سنة ثمان وسبعين وثمانمائة على المسند شهاب الدين أحمد الشناوي ثلاثيات البخاري وحضر مجلس بدئه وختمه، وأجازه من عدة من البلدان جملة من لمشايخ: منهم عبد الرحمن بن خليل التابوتي، وأسماء بنت المهراني، وأم هانئ الهوريني، ونشوان الحنبلية، وهاجر المقدسية، والعلم صالح البلقيني، والسعد بن الرزي، والشهاب الحجازي، والبرهان البقاعي، وقاسم بن الكريك، وابن قطلوبغا الأمير الأقصرائي، وأبو بكر بن صدقة المناوي، والمعز الكناني، والتقى الشمني، والجلال بن الملقن، وأخته صالحة، والبهاء المصري، والجلال القمصي، والتقى ابن فهد، ووالده أبو بكر وعمر، وأخوه عطية، وعبد الرحيم الأسيوطي، وإبراهيم الزمزمي، وأحمد السوايطي، والقاضي عبد القادر المالكي، وأبو الفضل المرجاني، وأبو الفرج المراغي، وزينب بنت الشويكي، وآسية بنت جار الله الشيباني، وإبراهيم ابن قاضي عجلون، وأبو ذر الحلبي، وأحمد بن الصلف، وأبو السعود العراقي، أبو نافع الأزهري، والتقى القلقشندي، والشموس الخمسة: الأفقهسي، والقلواني، والزفتاوي، والسخاوي، والشيخ الفخر السيوطي، والكمال إمام الكاملية، والمحب بن الشحنة، ويحيى المناوي، وخلق كثير.
وخزَج له الشيخ الرحلة جار الله بن عبد العزيز بن فهد عن أربعين شيخاً من مشايخه أربعين حديثاً في فضل أهل البيت النبوي سماها غاية الأماني والمسرات، بعلو سلطان الحجاز أبي زهير بركات وذلك في سنة ست عشرة وتسعمائة، وقرأ على الشريف بركات بعضها بمنزله دار السعادة من أول الأربعين التي خرجها له إلى آخر الحديث الثالث مع الكلام على الحديث وأجاز له روايتها عنه، وكتب له بخطه تحت طبقة سماعها ما صورته، الحمد لله ما ذكر من القراءة والإجازة صحيح في تاريخه، وكتبه الفقير بركات بن محمد بن بركات عفا الله عنه وعن والديه والمسلمين أجمعين وكانت القراءة المذكورة في يوم الأربعاء رابع عشر ذي الحجة الحرام سنة 917 سبع عشرة وتسعمائة، وحصل للشريف بركات غبطة عظيمة بتخريج تلك الأحاديث، وأكرم بذلك الشيخ جار الله المذكور إكراماً عظيماً كما هو شأنه من إكرام العلماء.
وأجاز الشريف بركات جار الله المذكور في استدعاء كتبه إليه الشيخ جار الله مؤرخ بيوم الجمعة ثالث عشر ربيع الثاني عام خمس عشرة وتسعمائة.
وكتب له الشريف بركات بالإجازة في السنة التي بعدها.
وصورة ما كتبه الشريف بركات: الحمد لله الذي نظم جواهر السنة في سلك السند، ووصل من إلى جنابه استند، وقطع من أعرض واستبد، وخذل من كفر وجحد.
أما بعد، فقد أجاز كاتبه الفقير إلى الله تعالى بركات بن محمد صاحب مكة المشرفة عفا الله عنه لمن ذكر في هذا الاستدعاء المبارك ما يجوز لي وعنى روايته بشرطه المعتبر، عند أهل الأثر، وأسأله ألا ينساني من دعواته، في خلواته وجلواته. والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
واستقر الشريف بركات في ولاية مكة منفرداً بعد وفاة أبيه، وكانت وفاة أبيه يوم الأربعاء رابع ربيع الثاني سنة ثلاث وتسعمائة، وقرئ مرسومه بالحطيم بحضرة كاتم السر البدري محمد بن مزهر لوصوله بقصده وقصد أخيه هزاع، وأذن له في تولية المدينة للسيد فارس بن سامان الحسيني زوج أخته الشريفة حزيمة.
واستمر على الولاية المذكورة إلى أن خالعه أخواه هزاع وأحمد المدعو جازان في سنة أربع وتسعمائة، ثم اصطلحوا، ثم كانت الحرب بين هزاع وبركات سجالاً.
قال الشيخ الفاضل أبو الضياء وجيه الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الديبع الشيباني في كتابه بغية المستفيد: لما كان يوم الأربعاء سلخ ذي القعدة من سنة ست وتسعمائة - بتقديم التاء - كانت وقعة السيد هزاع بن محمد بن بركات بن حسن بن عجلان مع أخيه الشريف بركات بن محمد بن بركات بن حسن بن عجلان، وهي أول وقعة انكسر فيها صاحب مكة الشريف بركات بن محمد المذكور وهزم فيها هزيمة عظيمة، واستولى الركب المصري على خزائنه ونسائه وأمواله.
والأصل في ذلك أن الملك العادل طومان باى صاحب مصر لما تولى بعد الأشرف جانبلاط طرد رجلاً من أمراء جانبلاط يقال له قانصوه المحمدي فخرج إلى مكة، فلما دخلها لم يلتفت إليه أحد من كبرائها لا الشريف بركات ولا القاضي ولا غيرهما خوفاً من السلطان طومان باي، فلما فقد طومان باي وتولى الأشرف قانصوه الغوري ليلة عيد الفطر من سنة ست وتسعمائة أرسل إلى قانصوه المحمدي إلى مكة وجعله نائب الشام، فلما وصلت إليه الكتب بذلك وهو بمكة في أول ذي القعدة جاءه الشريف بركات والقاضي أبو السعود للسلام عليه فلم يأذن لهما وكان في نفسه عليهما شيء لعدم التفاتهما إليه سابقاً، وكان الشريف هزاع حينئذ بمكة فعامله قانصوه على أن يجعل إليه ولاية مكة ويخلع أخاه بركات منها، ثم أمره بالخروج إلى الينبع، وأرسل إلى أمير الحاج المصري أن يواجه الشريف هزاع ويطلق المراسيم السلطانية عليه، ويلبسه الخلع السلطانية ففعل ذلك، ولبس الشريف هزاع خلعة أخيه بركات، وألبس أخاه أحمد الملقب جازان خلعته التي كان يلبسها مع أخيه بركات، وأقبل مع الركب المصري إلى مكة ومعه الأشراف بنو إبراهيم في نحو مائة فارس منهم، فلما علم بذلك الشريف بركات خرج إليهم من مكة إلى وادي مر، والتقى الجمعان هناك وتقاتلا، فانكسر الشريف هزاع مرات، وقتل من أصحابه نحو الثلاثين ومن الركب المصري رجل، ومن الحجاج نحو الخمسة، ونهب أطراف القافلة، فلما رأى ذلك الركب المصري حملوا مع الشريف هزاع على أخيه بركات حملة واحدة، فانكسر حينئذ بركات وقتل ولده المسمى بأبي القاسم في جماعة من عسكره، واستولى هزاع والركب المصري على مِحَفَة الشريف بركات وما فيها من الأموال والنساء والأطفال، وهرب الشريف بركات إلى جدة فنهبها ثم إلى حدة فنهب أكثرها، ودخل الشريف هزاع إلى مكة صحبة الحاج المصري فاضطربت أحوال الناس وكثر النهب والخوف في الطرقات، ورجع حجاج البحر من الطريق، وكانوا قريباً من جدة، وكان عذر الشريف بركات إذا شكا الناس إليه ما يلقون يقول: اشكوا إلى سلطان البلد واطلبوا منه أمانها، فقد أمنتها إذ كنت سلطاناً، وأما الآن فأنا واحد منكم.
فلما استقر هزاع جاءته الناس يصطرخون من كل جانب التجار وغيرهم من الناس وربما سبوه، فضاق خاطره ولم ينتظم أمره، فدخل على عمه إبراهيم بن بركات فشكا إليه حاله، فأمره بالخروج في صحبته فخرج إليها والشريف بركات يومئذ مقيم بماء يقال له العد بين جدة وحدة، ثم أمره بالوقوف بجدة وتقدم إلى بركات فقال له: إن أخاك هزاع بجدة في ألفي فارس من الترك ولا طاقة لنا بمقاومتهم، فإن أحببت تعرضت بينكما بهدنة يأمن الناس فيها ويحجون إلى عاشر المحرم على أن يعطيك أخوك هزاع ثلاثة آلاف أشرفي قبل يوم النحر، فإن فعل ذلك وإلا فلا ذمة له، فرضي بذلك بركات ظناً أن قول عمه إن هزاعاً في ألفي فارس حق. فسكن بعض خوف الناس ورجع هزاع إلى مكة.
وكان الحج ضعيفاً ولم يحج الشريف بركات في هذا العام، وسلم هزاع إلى أخيه بركات ما التزمه عمه إبراهيم من المال، ولما عزم الركب المصري علم هزاع أنه لا طاقة له بمقاومة أخيه بركات، فتوجه صحبة الركب الشامي، فتبعه الشريف بركات فحماه الركب الشامي منه. فرجع بركات إلى مكة وأمنت الناس.
وخرج هزاع إلى ينبع، وجمع جموعاً منها وعاد لحرب بركات مرة ثانية، وذلك يوم الأحد التاسع من جمادى الأولى عام سبع وتسعمائة، فالتقوا في طرف البرقاء، فانكسر فيها بركات أيضاً وهزم وقتل أخوه أبو دعيج في سبعة من الأشراف من بني أبي نمي، وقتل من الأتراك الذين مع بركات سبعة وقيل أربعة عشر نفراً، وكان مع هزاع من الخيل مائتا فارس ومن الرجل ثلاثة آلاف وخمسمائة ومع بركات خمسمائة فارس ورجل كثير.
فلما انهزم بركات توجه إلى اليمن فأقام بالليث، ووصل هزاع إلى ظاهر جدة في يوم الثلاثاء ثامن الشهر المذكور، ونادى بالأمان وقرر أحوالها، وجعل محمد بن راجح بن شميلة وزيره بها وعبداً من قواده حاكماً، وأرسل أخاه جازان إلى مكة ليقرر أحوالها، ثم لحقه إليها في عساكره، ووصلت إليه المراسيم والخلع السلطانية من البحر من سلطان مصر على يد أمير يقال له إلياس في يوم الثلاثاء ثامن عشر الشهر المذكور، فأرسل له الشريف هزاع بستين جملاً وثلاثين راحلة، وأمره بالطلوع إلى مكة فوصل إليها، فلبس الخلعة وقرئت المراسيم واستمر سلطاناً إلى أن توفي يوم الثلاثاء خامس عشر رجب الفرد من السنة المذكورة بوادي الآبار فحمل إلى مكة، ودفن بها يوم الأربعاء صباحاً.
ولما فرغ من دفنه تولى إمرة مكة أخوه الشريف جازان بعده بمساعدة القاضي أبي السعود بن ظهيرة وإعانته له بنفقة وسلاح.
فلما علم بذلك بركات سار إلى مكة فدخلها منتصف شعبان وفر منه جازان.
ولما استقر بها بركات جاءته من مصر خلع ومراسيم بالاعتذار إليه من مباطنة أمير الحاج لأخويه هزاع وجازان، فلبس الخلعة وطاف بها.
وكان قاضي مكة أبو السعود بن ظهيرة مباطناً لجازان، فكتب إليه يستحثه ويعده بالإعانة ووعده أن يقبض له على بركات إذا وصل جازان قرب مكة، وعين لذلك القبض ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان، فظفر الشريف بركات بكتاب أبى السعود فاستدعاه فلما دخل عليه - وكان قد أظهر السرور والفرح بولاية بركات - أوقفه على الكتاب فأنكر ذلك، فقبض عليه في سابع رمضان وأخذ أمواله وعقاره وعذبه.
ثم بعث به وأهله إلى جزيرة القنفذة، وأمر نائبه عليها أن يركبه سنبوقاً، ويغرقه ففعل ذلك به، وغرق يوم الأحد الثاني من ذي الحجة سنة سبع وتسعمائة، وأولاده وعياله ينظرون إليه.
ثم إن الشريف بركات توجه مع الحاج إلى ينبع لكون أخيه جازان نهب الحاج الشامي عند خليص حال قدومه إلى مكة، فحاربه مع أهلها سادس عشر ذي الحجة الحرام سنة سبع وتسعمائة، فكسر بركات كسرة ثالثة ونهبوا نهباً فاحشاً وقتل ولد إبراهيم مع جماعة من عسكره، وعاد بركات إلى مكة مريضاً، ثم مات بها ولده السيد عجلان، ثم جاءه الخبر أول صفر سنة ثمان وتسعمائة بمجئ أخيه جازان بعسكر عظيم، وبركات مريض لا يمكنه المحاربة، فتوجه إلى جهة اليمن وأقام بها إلى شهر رجب حتى شفى وجمع جموعاً كثيرة وعاد لمكة فلقى بها أخاه جازان بالمنحني فقاتله بها، فانكسر بركات كسرة رابعة، وفر جماعة الأشراف آل أبي نمي إلى جهة جبل حراء لمباطنتهم لجازان، فثبت هو وبعض خواصه للحرب ساعة، ثم توجه إلى اليمن أيضاً فتبعه جازان بعسكره فخلفه الشريف بركات في خيل قليلة وعاد من غير طريقه، ودخل مكة في غيبة جازان يوم الجمعة حادي عشر شعبان، ففرح به أهلها لظلم أخيه جازان فيها، وبذلوا الهمة في مساعدته ونصرته، وحفروا خنادق علو مكة وأسفلها وحاربوا أعداءه من خلفها، وعاد إليه جازان في صبح الأربعاء ثالث عشري رمضان من أسفل مكة من جهة المسفلة، وحاربهم مع سكانها مرة خامسة، وأظهر له الأتراك همة عالية حتى هزم جازان، وتركهم ولم يتبع منهم أحداً، وقتل جماعة من الفريقين وجرح آخرون، وتوجه جازان منهزماً إلى جهة حدة وأقام هو وجماعة ببئر شميس وهم خائفون وجلون، والعسكر يتخطفهم كل ساعة ليلاً ونهاراً، حتى أرسلوا يطلبون النجدة من أهل ينبع فجاءهم عسكر كبير ورحلوا معهم لحرب مكة مرة سادسة في صبح يوم السبت رابع شوال من السنة المذكورة، وجاءوا من شعب أذاخر والخرمانية من أعلاها، وكان الشريف بركات واقفاً مع خواصه خلف الخندق من باب المعلاة، فانهزم عسكره من غير قتال، وثبت هو والأتراك وأذاق عداه الحرب والعراك لشجاعته وهمته وقوته ونجدته حتى زحزحهم عن مصافهم، وكان تحته فرس يقال لها الجرادة وأنه أقحمها الخندق وهو بمفرده ففر منه الجيش باْجمعه وهو يضرب بالسيف قذالهم حتى أبعدوا عنه قاصدين الينبع، فذرع بعد ذلك عرض الخندق فكان سبعة أذرع.
ثم إنه توجه إلى اليمن فدخل الأعداء مكة وأهانوا أهلها، وآذوهم لمساعدتهم الشريف بركات وحبهم له، فبينما هم كذلك إذ وصلت تجريدة من مصر فخرج الأعداء هاربين، فعاد الشريف بركات إلى مكة ثالث عشر ذي القعدة من عام ثمان وتسعمائة وتوجه لملاقاة مقدم التجريدة المقر الأشرف قيت الرحبي فواجهوه بالطاعة والكرامة، وخلع عليه بالزاهر ودخل معه مكة بإخوانه وعسكره وابن عم أبيه عنقاً حتى وصلوا إلى مدرسة الأشرف قايتباي بالمسعى فقبض على الشريف بركات ووضع في الحديد مع بعض إخوته وجماعة، وانهزم الباقون وحج بهم كذلك، ثم ذهب بهم إلى مصر، ومر بهم على الينبع، واتفق مع أهلها على تولية جازان على مكة.
ودخل قيت الرحبي ببركات ومن معه مصر على هذه الصفة، فأنكر الناس عليهم دلك، وما هان ذلك على السلطان الغوري وتعب من ترك مكهَ في أيدي العصاة.
وفي ذلك يقول أبو الطيب أحمد بن الحسين العليف المكي قصيدته الكافية يسلي بها الشريف بركات ويحثه على الصبر وهي هذه: من الطويل:
عزيزٌ على بيتِ النبوَّة والمُلك ... مقام على ذُل المهانةِ والفَتْكِ
وأعظَم ما يلقَى الكريمُ من الأذَى ... على النفْس ما يلقى من الضيْمِ والضنْكِ
برَغمِ العلا والمجدِ والسيفِ والنلدى ... حَصَلتَ أبا عجلانَ في قبضةِ التُركِ
وعز على العلياءِ حجلكَ أدهم ... وطوقك لا مِن خالص التبر في السبكِ
وتلكَ لعَمرُ اللهِ أدهَى مصيبةٍ ... أصم بها الحاكي عن الحادثِ المحْكِي
عدمت الليالي ما أمَر صروفَها ... وأخلَقَها باللؤمِ في الفعلِ والترْكِ
أَذُل وغُل بعد عِز ومنعةٍ ... وأَشرُ النوى بعد الأسرةِ والمُلك
لحا الله دهراً لا يدوم سرورهُ ... على حالة إلا استحالَت على وشْك
بنفسي أبا عجلان والفئةَ الألَى ... بنوا مجدَهُم بالسمهريةِ والبركِ
ونالوا المعالِي بالعوالِي فأصبحَت ... بهم بيضَةُ العلياءِ مرفوعَةَ السمْكِ
ملوك رعينا الجُودَ حَول حماهم ... خصيباً وساهمناهُمُ المالَ بالشركِ
رحَلْتُم فربعُ الأنسِ ما زال موحشاً ... خلياً وستر العِز أصبَحَ في هتكِ
وغادرتم في الكَربِ جيرانَ طيبةٍ ... كذا جيرة البَطحَاءِ والحرم المكي
وأسلمتُمُ كل القلوبِ إلى الأسَى ... فهذا الورَى ما بينَ باكٍ ومستٌبْكِي
ولما استقلت للمسيرِ جمالُكم ... وحادى النَّوى يَشكي إلينا، بما يشكِي
وسرتُمْ وسار الجودُ يمشي أمامَكُم ... وظلت بنو الآمال مِنْ خلفِكُمْ تبكْني
وإن الجبالَ الشّم والمجدَ والعُلاَ ... تَسيرُ بها يزلُ الجمالِ على وشكِ
فلا اكتحلَت بالنومِ عيني بَعدَكُم ... ولا ابتسمَت غُرُ الثغورعن الضحكِ
ولا باتَ ذو ملكِ قريراً بملكِهِ ... ولا مهجَة إلا على لاعج مُنْكِي
فصبراً أبا عجلانَ للحادِثِ الذي ... يَئُولُ إلى عقبى السلامَةِ والفَك
حرام على العلياء تنكح خاطباً ... سواك وإن كانَت تَئُولُ إلى فركِ
أراد بك الحساد كيداً فصادفوا ... جنابكَ لا يحكى لكَيِدِ ولا يحكِي
فجاءُوكَ من أبنا أبيكَ لعَجزهم ... فَلِلهِ أرحام تقطعن عن شبكِ
فهانوا عليهم بعد ذاك فأصبَحُوا ... يسومُونَهَم بالذل والخسفِ والهَتك
وأنت أبا عجلانَ ملء عُيُونِهِم ... كمالاً وأَهدَاهم إلى الرشدِ والنسكِ
فليسَ لها إلاك كُفءٌ وصاحبٌ ... وما زالَتِ العلياءُ مانعةَ الشرك
ولا عَن رضا منهم تركتَ وربما ... يكونُ ظهورُ الفضلِ للشيء بالتركِ
لعمركَ ما ساموك خطةَ عاجز ... توهَمها الجاني سبيلاً إلى المسك
سوَى أن رأَوا فيكَ الكمالَ لدِينهم ... فأدوا بك الطاعاتِ في الحَج والنسْكِ
وما استَصحَبوا علياكَ إلا ليأمنوا ... مِن الخَوف في الأموالِ والخيلِ والبَركِ
ولو شئتَ حكمتَ المهندَ والقنا ... عليهِم ولكن سرتَ في طاعة الملكِ
لئن بَلَغَت منكَ الليالي جهالةً ... فما زالَتِ النكبا تهب على الفُلكِ
وإن نالتِ الأعداءُ متكَ بزَعمها ... فيا طالما كانَت بما نِلتَه تَحكِي
ورب ابتسامٍ جاءَ من جانبِ البكا ... ورُب بكاء جاء من جانِب الضحكِ
أما في رَسُولِ اللهِ يوسف أسوة ... لمثلِكَ محبوساً على الظلمِ والإفكِ
أقام جميلَ الصبر في السجنِ بُرهةَ ... فآلَ به الصبرُ الجميلُ إلى الملكِ
فعما قريب يورقُ العودُ بالمنى ... وتعبقُ أرجاءُ العلا منكَ بالمسكِ
وتأتي علىٌ رغم العدو مملكاً ... وتظفرُ بالتقليدِ والتاجِ والزمكِ
ويرجعُ باقي العيش حلواً كما مضَى ... وتأوي إلى سامِي سَريرك والملكِ
ثم إن الغوري أطلق الشريف بركات من الغل، ورتب له مع جماعته النفقات، وصار يتردد إليه الشريف بركات وإلى أمرائه، ففر إلى مكة، وذلك أواخر سنة تسع وتسعمائة، فظفر في طريقه بقاصد أعدائه متوجهاً إلى السلطان وهو السيد بطاح الحسيني فقتله وفاز بما معه من المال والهدية.
وفي مدة غيِبته بمصر قتل الأتراك المقيمون بمكة أخاه جازان، وذلك أنه لما كان صبح يوم الجمعة التاسع من شهر رجب سنة تسع وتسعمائة قتل الشريف جازان بن محمد في المطاف عند باب الكعبة في الشوط الثالث من طوافه، قتله جماعة من الأتراك بمواطأة من أخيه حميضة بن محمد، وولوا أخاه حميضة فحج بالناس ذلك العام.
ثم إن الشريف بركات واجه الحاج المصري في طريقه من مصر إلى مكة هارباً من مصر كما تقدم ورحل، وذلك بمواطأة الدويدار، ووصل إلى مكة سابع ذي الحجة معه جيش عظيم من بني لام وأهل الشرق وسائر المفسدين، فمنع الناس من الوقوف يوم الخميس حتى صالحه أمراء الحاج على أربعة آلاف أشرفي يسلمونها ويخلى بينهم وبين الوقوف يوم الجمعة ففعل، ووقف الناس بعرفات ومزدلفة ومنى. وهرب حميضة ودخل بركات مكة، ثم توجه إلى زيارة جده المصطفى، ثم قصد جهة الشرق فتزوج بالشريفة غُبيَة بنت حميدان بن شامان الحسيني، فحملت منه بالسيد الجليل في المجد الأثيل ذي العز والسعد أبي نمي محمد في أوائل سنة إحدى عشرة وتسعمائة، وولدته ليلة تاسع ذي الحجة من السنة المذكورة، وكان طالعه سعداً أكبر، ارتفع بولادته كل شر منذ ظهر، وتوالت على والده البشائر، وصفت منه عن الأكدار السرائر، وكان والده يمسح على ناصيته ويقول: كنت في أكدار وكروب متوالية، حتى ظهرت لي هذه الناصية. ولم يزل أبو نمي راقياً معارج المجد، مستخدماً للإقبال والعز والسعد.
ثم إن السلطان الغوري أرسل بتفويض إمرة الحجاز إلى الشريف بركات، فقدم أخاه السيد قايتباي في ولاية مكة وأشرك معه ولده علي بن بركات، وكان كل منهما يختلع، وينفرد عنهما الشريف بركات بالدعاء في خطبة الجمعة، وكان بينه وبين أخيه قايتباي صداقة عظيمة، ودامت إلى أن مات السيد قايتباي يوم الأحد حادي عشري صفر الخير عام 918 ثمان عشرة وتسعمائة بأرض حسان من وادي مر، وحمل على أعناق الرجال ومعه أخوه الشريف بركات وصلى عليه بالمسجد، وطيف به أسبوعاً كعادة أسلافه ولاة مكة ودفن بالمعلاة.
ثم إن الشريف بركات أرسل ولده الشريف أبا نمي إلى القاهرة وصحبته السيد عرار بن عجل، وفي خدمته القاضي صلاح الدين بن ظهيرة الشافعي، والقاضي نجم الدين بن يعقوب المالكي وذلك في سنة 918 ثمان عشرة وتسعمائة، وسن السيد أبي نمي إذ ذاك ثمان سنين، فأكرمهم السلطان الغوري وقابلهم بكل جميل.
وحكى عن مزيد حفق الشريف أبي نمي أن السلطان الغوري وضعه في حجره وقال ما سورتك. فأجابه: " إنا فتحنا لك فتحاً مبينا " ً، فأعجب الغوري ذلك وتفاءل به، وأشركه مع والده الشريف بركات في نصف ولاية مكة وهو بذلك السن، فصار يخطب له مع أبيه على منابر الحرمين الشريفين.
ثم حجت خوند أم السلطان الغوري وولده الناصر محمد وصحبتهما كاتب السر محمود بن إنجا في سنة عشرين وتسعمائة، فأكرمهم الشريف بركات، وقام بهم أحسن قيام وطلبوا منه السفر معهم لمجازاته وإكرامه فوافقهم على ذلك وسار معهم إلى القاهرة، ودخلها مرة ثالثة فأنعم عليه الغوري بخلع سنية وإكرامات مرضية لم يسبق إلى مثلها ولم يشاركه أحد في فضلها.
وهنأه الشعراء بذلك، منهم العليف المشهور بالقصيدة الآتي ذكرها بعد، وبقصيدة أخرى منها قوله: من الخفيف:
أَتتَ رلث القضيبِ والبُزدِ والسي ... فِ ورَلث الكُمَيتِ والمزراقِ
لو رأى المصطفَى أناسْ عياناً ... حَلَفُوا أنكَ ابنُهُ بالاللاقِ
سِرْتَ نحوالمليكِ مَغ صاحِبِ السز ... رِ على مَتْنِ سابحٍ سثاقِ
فذكرنا مَسْرَى النبيئ وجِبْرِي ... ل إلى الحق فوق ظهرِ البُراقِ
فتلاقَى البحران جمعاً على المَز ... جِ فطوبَى لبَخرك الدفاقِ
وبلقتَ الذي بلقتَ بتدبي ... رِ من اللهِ فوقَ سنعٍ طباقِ
ثم أصبحت في حماك وقد تَم ... مَتْ بما كان من رضاً واتفاقِ
ومنهم الفاضلة الأديبة ستيتة بنت القاضي كمال الدين محمود بن شيرين القاهرية، وذكرت الإنعامات التي انفرد بها الشريف بركات في قصيدة دالية هي قولها: من الطويل:
قِفُوا واسمعوا قولاً صحيحاً له سنَذ ... عن الأشرفِ الغورفي ما عنه يعتمد
وما نالَ مولانا الشريف من العطا ... ثمانية ما نالَهاً قبله أحَذ
فأوَّلها يدعي له بمقامِهِ ... كما يُذعَ للسلطان هذا به انفرذ
وأسمعه القيناتِ في وَشطِ دارِهِ ... وذلكَ ثاني ما ذكزتُ من العدَدْ
وثالثُهاً يوضغ له بإزائِهِ ... لمرتبة علياًءَ في بِزهِ اجتهدْ
ورابعُها يطعفهُ باليد ما يشا ... كوالِدِ مولودٍ إذا يُعْنَ بالولَدْ
وخامسها سارا فلم ير نعله ... لمهل حتى حامل النعل قد وَرَدْ
وسادسها جازاً جميغا بداره ... فأنزله بين العسمماكِرِ واتفَرَذ
وسابعُهاً فرشُ المصفى بيمه ... وصفؤا جميعاً هكفا غاية المَمَذ
وثامنها ما كان يَؤم ولمحاعِهِ ... وكبت اْعحاه ووفاه ما وَعَذ
وزاد ثلاثاً رفعة لمقامِهِ ... بسنجقه والطبل والجند للبوذ
وقد نال ها منه بالبز رالتقَى ... وصِفقِ مقالي والوفاء لما وَعَذ
وفلك فقملُ الله يؤتيه من يشا ... ويخسأ عَؤاء كذاك ومق حَسَذ
وهذه ستيتة بنت شيرين أديبة عجيبة فاضلة كاملة من جملة تلامذتها الشيخ العلامة جار الله بن فهد القرشي الظهيري.
وكان الشريف بركات بليغاً مصقعاً له النظم الرائق والنثر الفائق، فمن نظمه قوله في الغوري في سفرته الثانية إلى القاهرة عام تسع وتسعمائة وهو قوله: من الطويل:
هَلُفوا معى نحو الصلاح وسارعُوا ... إلى جامعِ للذكرِ والحُمن!ن جامعُ
تأضسىَ بنياه على الخَيرِ والتقَى ... ألمنمتَ تراه بالمحاسِنِ ساطِعُ
أيا قانصوه اسممَغ بحفك قضتي ... فإني لِشَزحِ الحالِ نحوك رافِعُ
بليتُ بجور من زمايئ أمضني ... ومالى ولا في الناس غَنرَكَ نافعُ
وحفك ما أفني! مالى ومُفجَتي ... سوَى لرضا السلطانِ واللهُ سامعُ
فإن يكُ قد أرضاكَ ما قد لقيته ... فإثى به راضيى بَلَى ثم قانعُ
ولى أسوةٌ في الناسِ بال!الحة الألَى ... لَكَنم بذلوا أرواحَهُنم ثم بَايَعُوا
ونظم الغوري موشحاً وسأل من الشريف بركات أن يعارضه.
ومطلع موشح الغوري:
يا غزالاَبلحظِهِ يُتشِى ... نشأَةَ اكوَسِ
فقال الشريف بركات:
اكمم ال!ز وَيكَ لا تقشِى ... بالزشاً الألعسِ
فهو يزرى الغصونَ إذ يمشى ... في الرداءِ السندسِي
ماعلى الص!ث في الهوَى عار ... إن تما!ى الكَمَذ
إن لي في الغرامِ أوطار ... واصطبارى نَفَذ
والفواحى في لومهم جاروا ... وأنا أُبدى الجَلَذ
رَلث يا فا الجلالِ والعرش ... كق به مؤنسِي
وبوصل الحبيبِ في الفرش ... جُذ ولا تَخبِسِ
يا غزالأ بوصله تحرك ... كل ما يستسطالت
غايتى في الغرامِ من أمرك ... أننى مستَرَابْ
جُذلمن في هواك لايشرك ... زينبًما والربالمحت
لم أزل في وصاله أرشي ... كى يجى قخلِسِي
هل لهذا القتيلِ مِن أرش ... يا فنَى الأنفسِ
وكان رحمه الله شهماً عند الوفاء وحفظ العهود، وإكرام الشعراء والوفود، مع العفة والصيانة، وملازمة الخير والديانة، وإظهار الخيرات، ومواصلة المبرات.
أوقف بعض الجهات على أنواع الصلات، وبنى رباطاً سفل مكة، وأسكنه الفقراء فى حياته، وأقر الله عينه بمشاركة ولده أبي نمي له في الولاية كما شارك هو والده. ثم لما قدر الله تعالى زوال دولة الغوري، وأفضى ملك مصر والحرمين إلى مولانا السلطان سليم خان ملك الروم، وذلك في رجب سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة وجهه أبوه الشريف بركات مرة ثانية إلى مواجهة السلطان الأعظم والخاقان الأكرم السلطان سليم خان، فوصل إليه إلى القاهرة بعد حربه للغوري، ودخل مصر سثة ثلاث وعشرين وتسعمائة فقابله الخنكار بالعناية والرعاية، وأقر الشريف بركات على ما كان عليه من الولاية، وأبقى أبا نمي على مشاركة والده، فعاد أبو نمي قرير العين. واستمر الشريف بركات مشاركاً له ولده أبو نمي حتى قضى نحبه ليلة الأربعاء رابع عشري ذي القعدة الحرام سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة بمكة الشريفة على فراشه.
ثم صلي عليه يوم الأربعاء بالمسجد الحرام، وطيف به حول الكعبة أسبوعاً كعادة أسلافه ولاة مكة الكرام، ودفن بالمعلاة وبنيت عليه قبة عظيمة وهي موجودة إلى الآن.
وكان مدة ولايته مشاركاً لأبيه محمد وولده أبي نمي وإخوته نحو ثلاث وخمسين سنة وعمره إحدى وسبعين سنة، وكان له من الأولاد ثقبة وأبو القاسم وحازم وواصل وسند وعلي وأبو نمي محمد هذا المذكور بعده.
وقد تقدم في ترجمة والده بركات أنه ولد ليلة تاسع ذي الحجة الحرام سنة إحدى عشرة وتسعمائة، وأن أمه عبية بنت حميدان بن شامان الحسيني، وكان يكنى نجم لدين، شارك أباه بركات في ولاية مكة كما تقدم، وعمره ثمان سنين ولاه الغوري.
وهي آخر ولاية صدرت من الشراكسة سنة ثمان عشرة وتسعمائة، ثم أبقاه السلطان سليمان خان على مشاركة والده سنة ثلاث وعشرين لما قدم عليه بالقاهرة بعد حربه للغوري، واستيلائه على مصر، وهي أول ولاية صدرت من العثامنة.
ثم استقل بأعباء السلطنة بعد موت أبيه، وكان استقلاله بها في سن عشرين سنة، فوصلت إليه المراسيم السلطانية السليمانية، فخمدت بولايته الفتن، وابتهج بملكه وجه الزمن.
ولم يزل ممتعاً بمكارم الشيم، متقلباً في صنوف النعم. وقد رزق الذرية الصالحة، ودانت له رقاب الأمم.
ولما كان موسم خمس وأربعين وتسعمائة، وصل إلى مكة الباشا سليمان من جهاد الفرنج بالديار الهندية عازماً إلى الديار الرومية، فأرسل معه الشريف أبو نمي ولده السيد أحمد بن أبي نمي لمواجهة السلطان سليمان بن سليم خان، وفي خدمته السيد عرار بن عجل والقاضي إبراهيم بن ظهيرة والقاضي تاج الدين المالكي، فوصلوا القاهرة ثم توجهوا منها إلى الديار الرومية في البر فوصلوا بالسلامة والعز والكرامة، واجتمع السيد أحمد بالسلطان سليمان وجلس على يساره، فقابله بالإكرام، وعامله بالاحترام، وأشركه مع والده أبي نمي في ولاية مكة وذلك سنة ست وأربعين وتسعمائة، وأقام مدة متوعكاً بالروم حتى فاته الحج في ذلك العام،، ومات السيد عرار بالطاعون، ثم عاد إلى القاهرة عام سبع وأربعين.
قال الشيخ محيى الدين عبد القادر محمد الشهير بالجزيري في كتابه درر الفوائد المنظمة: فعاد الشريف أحمد إلى مكة عام سبع وأربعين وتسعمائة وهو في غاية الرفعة والجلالة متولياً ما كان والده يتولاه، وأنعم عليه السلطان سليمان بعلم مكمل بطبلخانة سلطانية رومية على أكمل هيئة فاخرة.
فبمقتضى ذلك صار الشريف في منعة وحمى ممن يرد إلى الأقطار الحجازية من أمراء الحاج وغيرهم من أكابر الأروام، ومن أراد الاجتماع به من أكابرهم يأتي إليه إلى بيته ومحل عزه منفرداً وفي جماعة قليلة فيقصده للسلام عليه، ولا يذهب الشريف لأحد منهم أصلاً.
وتوجه قاصداً مكة فلاقاه والده أبو نمي في وادي مر، وجعل له سماطاً عظيماً حضره الأعيان، ثم قرئت مراسيمه بمكة بالعشر الأول من ربيع الأول سنة سبع وأربعين وتسعمائة، وألبس الخلعة السلطانية وطاف بها، وصار يدعي له على المنابر، وسعت إلى أبوابه الشعراء والأكابر.
وممن مدحه مهنئاً للشريف أحمد بالولاية العلامة وجيه الدين عبد الرحمن بن عبد الله باكثير بقصيدة رائية هي هذه: من الطويل:
وفَت صبَّها بعد الجفا غادَةٌ عَذرا ... ومذ لامَها قالَت لعل لها عذرَا
وزارَت ولكن بعد طولِ تشوقِ ... إليها ولا لَومَ عليها ولا إزْرَا
وجاءته والأشواقُ جاذبةٌ لها ... وشاكَتهُ ما تلقاه وهوَ به أدرَى
وأطفَتْ ببردِ الوصلِ حرَّ بِعَادِه ... فباتَ ولا يشكو بعاداً ولا حَرا
وأصبَحَ في أهلِ الغرام منعماً ... بمَق لحظُها يبرى ومنه الضنا يبرا
مهاةُ فلاةِ غادة عربيةٌ ... عقيلةُ حَي كالضراغِم بل أضْرَى
عزيزة قوم مستحيل وصالها ... ولو بذل العشاق أنفسهم مهرا
محجبة ما إن تُنَالُ لناظِرٍ ... جعلنَ لها بيض الظبا والقَنا خِدرَا
ممنعة لَحظ الحسام رقيبها ... يكقم من يحلو له لفظها المُرَّا
رَدَاح كساها الحُسنُ حُلَته كما ... بمقلتها هاروتُ قد أَودَعَ السحْرا
مهفهفةٌ كاللَدنِ أما سوارها ... فمثرٍ وأما بندها يشتكي الفَقرَا
لها اللهُ خودٌ حين تخطو تخالها ... من التيهِ والإعجاب ثاملة سَكرَى
إذا ارتج منها الردفُ واهتر قَدُّها ... ولاح مُحياها وأسبَلَتِ الشَعرا
رأيتَ كثيباً فوقه غصن بانةٍ ... عليه هلال والظلامُ له سِتْرَا
رَنَت جؤذراً ماسَت قضيباً تأرجَت ... عبيراً سطَتْ ليثاً ولكنها أجرا
بدت قمراً طرفى وقلبي منازل ... لها أغرقَت هذا وذا أججتْ جمرا
لها كَفَلٌ كالحقفِ يقعد قدها ... إذا نهضَست قدأَتعَبَ العِطفَ والخَصْرا
طويلةُ مجرى العقدِ والجيد قد حلا ... بعقدٍ حكى في النظم مبسمها الدرا
إذا ابتسمَت خلتَ الشتيتَ ووشمها ... لآلٍ بها خَفَّت زُمُزدةً خضرا
عليها جَرَى ظَلم يعز مذاقُهُ ... فلم ندر ظَلماً ذلك العذبُ أم خمرا
أدارَت على العشَاقِ خَمْرَ عيونها ... فأضحَوا نشاوَى هائمين بها سَكرَى
فلا تعجبوا مِنْ كَسرِ أجفانها إذَن ... فبالشرعِ كاسُ الخمرِيَ يستَوْجبُ الكَسرا
كتمْتُ هواها غير أن محاجري ... بما صنته خَط ابن مقلتها سَطرا
تمن على المضنَى بإرسال طيفها ... إليه ومَن ذاق الصبابة لا يكرَى
رعا الله دهراً كنتُ سلطانَ عشقِهِ ... وكانت غصونُ العمرِ يافعةً خضرا
ولما مضَى عضرُ الشبيبة وانقضَى ... ومَر وما أحلاه من زمَنٍ مَرا
ونَبهني من نومِ جهلي وشيبتي ... صَباحُ مشيبٍ لاحَ في مَفرِقِي فَجرا
دعاني هواها للتصَابِي فلم أُجِب ... وقُلتُ له أرهقتني في الهوَى عُسرا
أبعد مشيبي تَبتَغِي مني الصبا ... لقد جئتَ ياداعي الهوَى خُطةً نكرا
فمالي وللتشبيب بالغِيدِ والظبا ... وبالوشمة الخَضرا وبالوجنة الحَمرا
وقلبيَ قد أطلقته من يد الهوَى ... وكان لسلطانِ الغرامِ من الأسرَى
وفكرِيَ عن صوغِ المديحِ فطمتُهُ ... سوَى صَوغِ مدحي في ابن فاطمة الزهرا
أبى الظفر المنصورِ أحمد من رَقَى ... سماءَ المعالى وامتطى الأنجُمَ الزهرا
ومن قد علا هامَ الممالكِ مذ نشا ... ودبرها من قبل أن يبلغ العَشرا
ومَق جَر من فوق النجومِ ذيولَهُ ... فقنعتِ الجوزا وعممت النسرا
علا ذروةَ في المَجدِ أكسَبَ فخرُها ... بني هاشمٍ عِزاً كسا جدهم فخرا
ومِن دوحة السبطَين أنبع غُضنه ... ومن نفحة الريحانَتَين ملي عطرا
به افتخرَتْ آل النبي وعظمَت ... قريش وسادَت قومها مُضَرُ الحمرا
ومن حَازَ في سن الشبيبة رتبةً ... مِنَ العقلِ والتدبيرِ فاقَ بها عُمرا
يدبرُ أمرَ الملكِ منه بهمةٍ ... له علَتِ السُيوق واعتلَتِ الغفرا
ويعلو سريرَ الملكِ ليثاً موقراً ... مهيباً كما يعلو المُطَهمةَ الشَّقرا
ويحميه رأيٌ منه ضاهى رماحه ... إذا ما حَمَتهُ أو ضوازمه البَترا
شهاب إذا ما رمْتَ رأياً وإنْ ترد ... أخا غارةِ يروي القنا خلته ذمرا
شُجَاع ربى بَين الأسنةِ والظبا ... ومنذُ نشا أرضى الضوارم والسمرا
إذا جال في الهيجَاءِ والخيلُ تدعي ... فإن كماةَ الحربِ تجعلهُ سِترا
هزبز تخافُ الأشدُ من سطواته ... ألستَ تراها خيفة تسكُنُ القفرا؟!
جوادٌ لقد أخطا الذي قاسَ جودَهُ ... بسحبٍ وهذا كفهُ يمطرُ التبرا
عطاياه لا تحصَى بعد ولا فَمٍ ... ولا قلمٍ بل بعضها جَلَّ أن يُدْرَى
مجمعة فيه ماثرُ من غدا ... معاصره والآتِيينَ ومَنْ مَرا
شريفُ السجايا من لؤَيِّ بن غالبٍ ... محاسنه تُتْلَى وإحسانه تَتْرَى
ولا عيبَ فيه غَير إفراطِ سؤددٍ ... وبذل نوالٍ يسترق به الحرا
أبى الله إلا أن تكونَ له العلا ... على كُل من في الأرضِ مِنْ خلقه طرا
من المسجدِ الميمونِ أحمد قد سَرَى ... إلى المسجدِ الأقصَى فسبحانَ مَنْ أَسرَى
ويمَّم ملكَ الرومِ ممتطياً على ... نجائب عز في الغُدُو وفي المَسْرَى
وسار لسلطانِ. البسيطةِ مَنْ له ... جميعُ ملوكِ الأرضِ خاضعة قهرا
مليك له ملك كملكِ سَمِيهِ ... وأكبره عَن أن أفوه به ذِكرا
تكفل للدنيا بأرزاقِ أهلِها ... فكل ابن أنثى لا يجوعُ ولا يَعْرَى
ومد على أبنائها من أمانِهِ ... رواقاً فلا يخشونَ بؤساً ولا ضُرا
وألبسهم جلبابَ عدلِ طرازه ... لكم ذمَّتي إن لا مخاف ولا ذُعْرا
ونوَّلَ كلاًّ ما يريدُ فمن يرد ... غِنًى أو حياةً ذاك رزقاً وذا عُمرا
خليفةُ عدلِ بالإمامةِ قائم ... وإن جل ذاتاً عنهما وعلا قَدرا
له البسطةُ العظمَى على الخلقِ كُل من ... تحيطُ به الخضرا وتحملُهُ الغبرا
له الملكُ والكرسيُ والتاجُ والعلا ... له الوقتُ والأملاكُ تعنو له قَسرا
تخر إلى الأذقانِ في عَتَبَاتِهِ ... سُجُوداً عليها لا ثمينَ له صغرا
وتلثُم حصبا بابِهِ بمباسمٍ ... لهم شَرُفَت عن كونها تلثم الدرا
وتعتدهُ فخراً، ومقدمُ أحمد ... عليه مع التعظيمِ تعتدُهُ فخْرا
به هزتِ اسطنبولُ مِعطَفَ تائِه ... وأضحَى به إيوانها باسماً ثغرا
وشزفَ منها ملكها ومليكها ... ودَؤلتها هزت وشدتْ به أزرا
وجر به إقليمها ذَيلَ معجب ... وفاق أقاليمَ البسيطةِ إذ جَرا
ومَغ عِظَمِ الخنكارِ لما بدا له ... محياه كادَت أن تخفَّ به السرا
ولما رأى نورَ الثبُوةِ ساطعاً ... يُضئ له من صبحِ غرَّته الزهرَا
وشاهد منه صورةً نبيويةً ... جمال سناه يبهر العقل والفكر
ملا عينه منه وقاراً وهيبةً ... وحملها من نور طلعته وقرا
وشرفها منه بمرأى جلاله ... وهيبته مرأى النبي بالاستقرا
وقربه منه وأدنى محله ... وأجلسه من تخت سلطانه الصدر
وبالغ في تعظيمه خافضاً له ... جناح اتضاع ما أشاب به كبرا
وأدناه منه ثم حياه مطرقاً ... ووافاه بالبشرى وأهدى له البشرى
وفيَّأه من جوده ظل روضةً ... أمانيه من أكمامها أطلعت زهرا
وأثمر فيها غرس رجواه مدنياً ... إليه قطوفاً لا تكلفه هصرا
وأينع فيها غصن آماله كما ... مطامعه منها مزاودها شكرا
وأفق رجاه عمه سحب فضله ... وأجرى له منها بجريته نهرا
وألبسه تشريفةً عاقداً له ... ولاية ملك من زبيد إلى مصرا
وأعطاه ما الآمال تنفد دونه ... وكل الأماني دون غايته حسرى
وأكرم مثواه وأحسن نزله ... وأدخاه من ملكه جنةً خضرا
هنا طرفه فيها وأمري جنانه ... فلله ما أهنا ولله ما أمرى
به قد تسلى عن حبيب ومنزل ... فأصبح لم ينشد قفا نبك من ذكرى
ولكنه عن ذكر والده وعن ... رعاياه لم يغفل ولم يستطع صبرا
فحرك منه ساكن الشوق باعث ... يحث مطايا عزمه منه بالإغرا
فعاد إلى أوطانه عود مرهف ... إلى غمده من بعد أن جاوز النحرا
وجاء كما يرضى الممالك والعلا ... وبيض الظبا والملك والنهي والأمرا
وأصبح نجاب السرور مخلقاً ... وقد أرج الأرجاء من عطره نشرا
وطبقت الأرض التهاني لعوده ... إلى ملك يشدو لها هاتف السرا
فقلصه مذ بلغته دياره ... حرام على الأكوار تعلو لها الظهرا
علينا لها لثم النحور وفرشنا ... خدوداً لممشاها لنوفي لها النذرا
فيابا سليمان الندى والذي اعتلى ... على صهوة العلياء مذ شرب الدرا
ليهنك ما قلدت فاستخدم الظبا ... وسمر القنا والسعد والعز والنصرا
فمثلك لم ننظر مليكاً معظماً ... تظلله الخضراء في حلة صفرا
فلا زلت سلطان الحجاز وفخره ... وتاج بني الزهرا وغرتها الغرا
فهم سبب التقوى وهم أنجم الهدى ... وهم شرف الدنيا وهم سادة الأخرى
بهم تفرج الغما بهم يكشف البلا ... بهم ترفع اللأوا بهم ندفع الضرا
بهم يأمن الناس المخاوف في غد ... إذا خيف أن تعطى الصحائف باليسرى
وهم أهل بيت أذهب الله رجسهم ... وطهرهم من أن ينيط بهم وزرا
وهم نعمة الباري على الخلق إذا غدوا ... نجاةً لهم لكن نعمته الكبرى
على خلقه في الأرض نجم العلا أبو ... نميّ الذي قد فاق في عدله كسرى
مليكً له نور النبوة هالةٌ ... محياه منها قد أضاء لنا بدرا
مليكٌ له نهر الرسالة موردٌ ... فأكرم بمورودٍ وأكرم به نهرا
به شرف الله الزمان وأهله ... وحلى به الدنيا وزان به الأخرى
وأنطق أفواهً الثناء بحمده ... وأجرى له من كل ناطقه شكرا
وتوج هامات المنابر باسمه ... وزان به الأقلام والطرس الحبرا
وأرسل جبريل الأمين لجده ... خديماً وفي أوصافه أنزل الذكرا
فما ذا عسى فيه يقال ومدحه ... أتانا به التنزيل في صورة تقرا
ومن كان جبرائيل حامل مدحه ... ومادحه القرآن لا يرتضي الشعرا
ولو نظمت زهر النجوم قلائداً ... بجنب علاه كان في حقه هجرا
هو ابن الألى مدوا سرادق مجدهم ... وفخرهم فوق السماكين والنسرا
ملوكٌ غضاريفٌ جحاجح نخبة ... ليوثٌ غيوثٌ سادةٌ قادةٌ غرا
صناديد صيدٌ أوجب الله مدحهم ... وحسبهم إلا مودتهم أجرا
وهم أهل بيت لا صلاة لكل من ... يصلي ولا يجري لهم ضمنها ذكرا
وهم تاج أركان الصلاة وذكرهم ... طراز على عطفي تحياته الأخرى
غدا حبهم فرضاً وطاعتهم هدىً ... وقربهم منجىً وبغضهم كفرا
ومدحهم فخراً ولا سيما أبو ... رميثة منهم حبه زادني فخرا
هو الملك المنصور أندى الورى يداً ... وأغرزهم حظاً وأوسعهم صدرا
وأرجحهم عقلاً وأشرفهم أباً ... وأصوبهم رأياً وأكثرهم برا
يفوق ملوك الأرض عزاً وهمةً ... وبأساً وجوداً يفضح الليث والبحرا
يصيرُ حد السيف كلا بحلمه ... ويتركُ وردَ الماءِ من عزمِهِ جمرا
إذا ما دهى أمر من الخَطبِ فادح ... تبيتُ بردِّ الأمرِ مقلته سَهْرا
ولم يستَتِر إلا بضوءِ حسامِهِ ... ولم يستشِر إلا الرُدَينْيةَ السمرا
وإن رام أمراً فالقضاءُ مُسَاعِد ... له والليالي ليس تَعْصيِ له أمرا
هو البَطل المقدَامُ في يومِ غارةٍ ... يقوم مقاماً يُرعِدُ العسكَر المجرا
عواليه في نَظمِ الكلى جَادَ صنعها ... كما في الطلاَ أسيافُة جادَت النثرا
إذا اربد تفتر الأَسِنَّةُ والظبا ... وتَجرِي بُكا عينِ النضار إذا افترَّا
يداه لنفعِ الخلقِ مملوءةٌ ندًى ... فيمناه واليسرَى بها اليُمن واليسرا
ورُب يراعٍ تشخصُ البيضُ هيبةً ... لسطوتِهِ والسمرُ تنظُرُه شَزرا
إذا ما جرَى في الطرس قُل قَدرٌ جَرَى ... فإن شَاءَه خيراً وإن شاءه شَرّا
مليك إذا حاولت ضبطَ صفاتِهِ ... فلن تستطع ضَبطاً لذاك ولا حَصرا
فيا با نُمَيّ الملك والملك الذي ... يجل عن الألقابِ والمدحِ والإطرا
لقد صدَحَت في الكونِ صادحةُ الهنا ... تُغَرِّدُ فيه بالمسَرِّةِ والبشرَى
بمقْدَمِ من أنتجته وادخَرتَهُ ... وليّاً لعهدِ الملكِ أَعظِمْ به ذُخْرا
بمقدمه ورق البشائِر قد شَدَتْ ... وكل فؤادٍ من بشائرها استرا
وقد عَمَّ أقطارَ الحجازِ قدومُهُ ... سروراً كما عَمّ العراقَين مَعْ بُصْرَى
ووافَى وكل شيق لِلقَائه ... كما اشتاقَ حيٌّ عامَ إجدابِهِ القطرا
قد آنسَ البيتَ الشريفَ وأهله ... ومكَّة والركنَ المكرمَ والحِجْرا
وأضحَى محيّا مكةٍ متهللاً ... سروراً بمرآه وناظرُهُ قَرَّا
وكان له عيداً ولكنه غَدا ... لباغِضِهِ نحْراً وحاسده فِطرا
وخلعته الصَّفرَاء منها لَقَدْ رَمَوا ... سَوَاداً وذكرَاها ملا سمعَهُم وقرا
به قد تحلتْ والمراسيمُ شُرفَت ... وشرف مُهديها له والذي يَقْرا
فدم وليدُنم والملكُ طوعُ يديكما ... ومدحُكُما يستغرقُ الحمدَ والشُكرا
وهاكَ من الدر النضيدِ قصيدةً ... تَغَارُ قوافِي الشعْرِ مِنْ رَسمها بالرا
منقحةَ المعنَى مُصَحّحَة البنا ... مهذَّبة الألفَاظِ طَيبَةَ المقرا
تضوَّعَ رَيَّاها عليكَ ولم أكُن ... على مِثل كافورِ أضِيعُ لها نَشرَا
لعمرِيَ لا أرضَى القريضَ بِضَاعةَ ... ويَبخَسنِي لَو أنني قُلْتُهُ دُرا
وما الشعرُ إلا دونَ قَدرِي وبعض ما ... لذاتي من فضلٍ ولم ينضبطْ حصرا
وُدونَكَها مسكُ الصَّلاةِ خِتَامُهاً ... على أحمد المحمودِ في الفتحِ والإِسرَا
هذا ما ذكره الكثيري في الوسيلة وغيره.
وقد ذكر السيد محمد السمرقندي ذلك مفصلاً مع زيادات، وبعض مخالفات أحببت ذكر جميعه تتميماً للفائدة.
قال: تشرف مولانا الشريف بركات بن محمد بن أبي نمي بن بركات بن حسن بن عجلان بحماية الحرمين الشريفين بعد وفاة والده الشريف محمد بن بركات سنة ثلاث وتسعمائة، وكان سلطان مصر يومئذ محمد ابن السلطان قايتباي.
ثم في جمادى من العام المذكور تولى الشريف يحيى بن سبيع إمرة الينبع، ووقعت بمكة فتنة عظيمة بين الشريف بركات وأخيه هزاع، وارتحل هزاع مع أخيه أحمد الجازاني في خمسمائة فارس من ذويهما ونزلوا بالينبع وكاتبوا السلطان في إمرة مكة بمائة ألف دينار جديد، وافترقت الدولة مع الأخوين فرقتين، لكن سعد بركات غالب. ثم إن السلطان برز أمره العالي بتعيين المقر الكريم البدري محمد بن مزهر لإخماد الفتنة المذكورة.
وفي عام ست وتسعمائة تسلطن الملك قانصوه الغوري بتخت مصر، فجهز للشريف هزاع بن محمد خلعة سنية بإمرة مكة المشرفة صحبة أمير الحاج، فلاقاه من ينبع ولبس التشاريف السلطانية، وسبق إلى مكة لتمهيد البلاد وتطمين العباد، فلاقاه الشريف بركات خارج مكة فاقتتلا قتالاً شديداً، فانكسر هزاع، ولحق بأمراء الحاج فأعانوه، وأقبلوا بجموعهم من العساكر والحجاج على الشريف بركات، فولى عن محاربتهم إلى جدة وما يليها، ونهب بعض عساكره كل ما مروا به.
ودخل الحجاج مكة ومعهم الشريف هزاع وهم على غاية الخوف والوجل من الشريف بركات، وترك أكثر الناس الحج خوفاً على أنفسهم وأولادهم، وأهاليهم.
ثم إن الشريف بركات جمع عساكره وتوابعهم ونزل ببدر راجياً من الله ما حصل لجده عليه الصلاة والسلام من النصر. فعاد الحاج المصري والشامي بعد قضاء المناسك والشريف هزاع معهم حماية لهم، فلما قرب من بدر ولى هارباً إلى يحيى بن سبيع بالينبع، فعاد الشريف بركات إلى مكة وأقام بها، واستمر هزاع بالينبع والحرب بينهما سجال.
وفي عام سبع وتسعمائة مات الشريف هزاع فدفن بمكة، وبعد موته عقد مجلس في الحطيم صدره القاضي أبو السعود بن إبراهيم بن ظهيرة وفيه القضاة والحكام والأمراء من العرب والأروام وفيهم الشريف جازان، ومالك بن رومي شيخ طائفة زبيد وأعيان الشرفاء الكرام وتفاوضوا فيمن يليق لإمرة مكة المشرفة وطال بينهم الكلام، فقال مالك بن رومي: ما أمير مكة وسلطانها إلا جازان، وما كان هزاع إلا به وبركات ما له إلا السيف، فسكت الحاضرون جميعهم طويلاً، فقال القاضي أبو السعود: فمن يليها الآن وتكون في وجهه؟ فقال مالك: الشريف جازان وبنو إبراهيم معه في ذلك، فنودي لجازان في شوارع مكة بالبلاد.
ثم كان بين الشريف بركات والشريف جازان حروب متعددة، ومواقف متكررة لحق ضررها الحاج، واختلفت كلمة العربان، وخرجوا على الحجاج، ونهبوا أموالهم، وقتلوا رجالهم في جميع الطرقات وسائر المنازل.
وفي هذا العام وهو عام سبع وتسعمائة رفعت الشكوى إلى الأبواب السلطانية بأن جازان استولى على مكة ومعه الشريف يحيى بن سبيع، وجمع من بني إبراهيم، وأنهم صادروا من كان بها من التجار والرؤساء، وأخذوا من المولى شمس الدين العيني خمسة وعشرين ألف دينار، وأن بني إبراهيم تحكموا في أهل مكة بالبلص والفساد، وأن يحيى بن سبيع هذا رأس الفتنة، وضجت المجاورون وعزم الجميع على الهرب من مكة في أربعين مركباً أعدوها ببندر جدة فمنعهم الشريف جازان، ووعدهم برفع المكاره عنهم، وطمن خواطرهم، والتزم لهم أن يجهز مع كل مسافر من الحجاج من يوصله إلى مأمنه، فلم يقبلوا منه ذلك؛ لأن ميلهم إلى الشريف بركات أكثر، وقلوبهم محبة له؛ وذلك لعدم طمعه في أموالهم، وكف الأذى عنهم بكل طريق بحيث يدفع من ماله لأهل الشوكة من العربان سكان البوادي لأجل حماية الحجاج، وعطفوا على الشكوى عدة مكاتيب لمولانا الشريف بركات أن يقيم بمكة أميراً لها وجميع من بها من العسكر والرعايا عون له على جازان عناية من الله تعالى به، فوصل إليها.
فلما بلغ ذلك الشريف جازان أقبل محارباً للشريف بركات فاقتتلا قتالاً شديداً في مواقف عديدة وصدق مع الشريف بركات من ذكر فيما وعدوه به من الإعانة، فكانت الكسرة على جازان فهرب إلى اليمن، ثم وصلت الحجاج ولم يكن بمكة أحد من جماعة جازان غير ولد يحيى بن سبيع، فلبس الخلعة نيابة عن جازان بولايته السابقة، وكان مولانا الشريف بمكة على غاية من القوة والشوكة فلم يحدث بمكة حادثاً، إجلالاً لشعائر الدين وحقناً لدماء المسلمين.
فلما شاهد ذلك أمراء الحاج، ورؤساء الوفاد ألزموا الشريف بركات بالتوجه إلى الأبواب السلطانية لتحصل له كرامات بالإمرة وغيرها من مراعاته السنية، مكافأة لصنيعه المذكور وسعيه المشكور، فتوجة وتوجه معه إخوته قايتباي وأبو الخير وعنقا، فقابلهم السلطان مقابلة عظيمة، وألبسهم خلعاً تليق بأحسابهم النبوية الكريمة.
واستمر على غاية الاحترام والاحتشام، مع الكفاية التامة من اللباس والشراب والطعام.
فوردت بمحضرهم إلى الأبواب السلطانية كتب من نائبهم بمكة المحمية بأن الشريف جازان لم تسكن مع ولايته الفتن، وحصل لأهل مكة من جماعته أنواع الظلم والجور والمحن، وبأن الأمير بكباش مكة المشرفة صار يؤمن الشريف جازان، ويظهر له الشفقة والمحبة فصار يتردد بالحرم الشريف ويكثر الطواف، فاتفق أن هجم عليه طائفة من الأتراك المماليك وقتلوه بالمطاف ضرباً بالخناجر والسكاكين، ثم احتزوا رأسه.
وأن الباش المذكور ألبس أخاه الشريف حميضة خلعة بإمرة مكة لغيبة الشريف بركات عنها، وأن الناس يتمنون الشريف بركات راضين عنه.
فلما وصل الخبر إلى مصر بذلك توجه الشريف بركات مع أخويه المذكورين من مصر إلى الحجاز من غير إذن من السلطان، ثم أرسل مطالعة إلى السلطان يذكر فيها أنه عبد لمولانا السلطان، وإنما توجه خوفاً من الطاعون، فمنع السلطان جميع من كان مع بركات من عيال وأتباع من التوجه إليه، ورسم عليهم بمصر المحروسة، فلما كان موسم عام تسع وتسعمائة برز أمير الحاج المصري في شوكة عظيمة، وعساكر جرارة وزيادة في السلاح والمدافع خوفاً من الشريف بركات، فلما بلغ الشريف بركات الخبر أرسل رسولاً إلى أمير الحاج وصل إليه في عيون القصب معه مكاتيب مضمونها أن الحج يتوجه مع سلامة الله تعالى لا خوف عليه، وأنه في خدمة، السلطان بحراسة الحاج، وتطمين سائر الحجاج بمكة وعرفة حتى يؤدوا المناسك جميعها، ويعلنوا بالدعاء لمولانا السلطان ثم يعودون إلى أوطانهم، وأنه باذل نفسه وأولاده وإخوته ورجالهم ومالهم.
فلما بلغ الخبر إلى السلطان رضي عن الشريف بركات رضا تاماً، وجهز إليه عياله وأتباعه، وبلغت الأخبار أهل مكة فتهيئوا للحج بعد عزمهم على تركه، وكانت سنة هنية أهل مكة فرحون بما آتاهم الله من فضلة بوجود الشريف بركات بين أظهرهم على عادته الجميلة.
إن الشريف حميضة قابل الحاج المصري مع يحيى بن سبيع بالينبع ولبس الخليفة بتولية الباش المذكور، فبلغ ذلك الشريف بركات فمنعه من دخول مكة، وكان معه طائفة من بني إبراهيم وحلفائهم فأشاروا عليه بالخروج على الحاج وقتالهم وقتل جماعة الشريف بركات وأخذ أموالهم، ففعلوا ذلك، وحصلت شدة عظيمة من النهب والقتل، ثم أجمع رأيهم على دخول مكة ووقوفه منفرداً بعرفة وألا يقع بينهما حرب حتى ينقضي زمن الموسم، ويدفع حميضة إلى الشريف بركات خمسة آلاف دينار ذهباً.
فلما وصل بنو إبراهيم إلى مكة تحركت نفوسهم الخبيثة وضغائنهم السابقة فنهبوا بعض دور مكة وعاثوا حتى في الحرم الشريف، فبادر الباش ومن معه لقتالهم وقتل أربعة من أعيانهم، وذهب الشريف حميضة مع يحيى بن سبيع إلى الينبع وجمعوا جموعاً على نية أخذ الحج وقطع الطريق، فلما وصل خبر ذلك إلى السلطان رسم بالقبض على جميع من بمصر من بني إبراهيم والصيادلة المتسببين بالشوارع طالصيارف والعطارين ونحوهم والإحاطة بسائر أموالهم وقبضها وأخذ ما بأيديهم من السلاح، خصوصاً من أراد اللحوق بيحيى بن سبيع ومن معه.
ثم عين تجهيزة عظيمة من الأبطال والشجعان وأعيان الفرسان ومقدمهم الأمير خاير بك الأشقر، وأمرهم بالقبض على جميع من خرج من الطاعة وحمل من يليق حمله وقتل من يستحق القتل.
فلما وصل الخبر إلى يحيى بن سبيع جهز قاصداً معه عشرون ألف دينار بشرط إبطال التجهيزة المذكورة، وأن كل من بالحجاز طائع، فلما وصلت زادت في غضب السلطان، فجهز زيادة على الأولين أمراء متعددين، وصرح لهم أن يفتكوا بيحيى بن سبيع وببني إبراهيم وبجميع من يناصرهم ويكثر سوادهم، وأن يمهدوا جميع الأقطار الحجازية.
فالتقوا مع يحيى بن سبيع ومالك بن رومي والشريف حميضة وجميع بني إبراهيم وتوابعهم غرة شوال بالدهناء بالقرب من ينبع، وسبق الخبر إلى مكة إلى مولانا الشريف بركات وأن جماعة من بني إبراهيم تواعدوا على تبييت العساكر السلطانية وأن يأتوهم ليلاً متفرقين إيهاماً للكثرة، ولأنهم لا يعرفون البلاد والغريب أعمى، فركب الشريف بركات من فوره فوافق وصوله نزول العسكر وليس عند بني إبراهيم من وصوله خبر، فاجتمع من بني إبراهيم سبعون فارساً وقصدوا ما قصدوا، فركب الشريف بركات سريعاً وفاجأهم بالدهناء وقاتلهم من الظهر إلى الليل، ففر أهل الخيل ووقع القتل في الرجالة واقتلع منهم خيولاً وظهر عليهم ظهوراً هاشمياً والعساكر السلطانية ينظرون إلى موقف مولانا الشريف بركات وشجاعته وقوة بأسه حتى تحيرت عقولهم، ثم عزموا لقضاء حجهم وأداء مناسكهم.
وفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة كان مولد مولانا الشريف أبي نمي بن بركات كما سيأتي ذكره. وفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة حج الشيخ أجود بن زايد في جمع عظيم يقال إنهم يزيحون على ثلاثين ألفاً.
وفي سنة ثلاث عشرة وتسعمائة وصل مولانا الشريف بركات إلى جبل الروحاء بالقرب من المدينة الشريفة وقتل مالك بن رومي الزبيدي الذي كان سبباً في نهب مكة المشرفة وقتل أولاده الثلاثة معوض وقادم وداغر وأخاه مشهون بن رومي وطائفة كثيرة منهم ومن أتباعهم من ذوي روايا وذوي جماعة، وفرح الناس بقتلهم وطيف برؤوسهم في البلاد وأرسل بها إلى مصر فنصبت على أبواب سورها، وكانت حجة هنيئة، وطابت الخواطر واطمأنت القلوب.
وفي سنة خمس عشرة وتسعمائة توجه السيد عرار بن عجل بهدية من مولانا الشريف بركات تشتمل على أقمشة نفيسة ورقيق جميل وخدام حسان وعشرين ألف دينار ذهباً وعشرين فرساً مسمية وما يتبع ذلك ويناسبه وثلاثة آلاف دينار للدوادار،، فقابله السلطان مقابلة عظيمة وألبسه خلعة لقدومه وخلعة عند تقديم الهدية، وخلعة عند الوداع، وأرسل معه هدية عظيمة للشريف وخلعاً سنية، ثم حلف له أيماناً مؤكدة أني راض عن الشريف بركات رضاً تاماً خصوصاً لما وصلت إلينا رؤوس زبيد ومن معهم لأن في نفسي منهم حراً شديداً بموجب خروجهم على الحجاج، وقتلهم ونهبهم المرة بعد المرة، وقطعهم الطريق في أيام سلطاني وكسر ناموسي، ولو لم يشف خاطري الشريف بركات من طائفة زبيد بخصوصهم لخرجت إليهم بنفسي.
وكتب لمولانا الشريف كتباً عظيمة فيها تعظيم تام وخاطبه بلفظ مولانا وشريفنا، وفوض إليه أمر الأقطار الحجازية حتى ينبع، فلما وصل السيد عرار بما معه من الهدية والخلع والشكر التام حصل لمولانا الشريف بركات السرور التام، ومدحته الشعراء ومن أعظمهم مولانا شهاب الدين أحمد بن الحسين بن العليف المسمى شاعر البطحاء بقصيدة ذكر فيها ظفره بزبيد وقتله شيخهم مالك بن رومي، وقد أجاد فقال: من الطويل:
ذرى العز ما قامَت عليه الممالكُ ... وما شَيدتهُ المرهفاتُ البَوَاتكُ
وما أَعتَقَت فيه الفوارسُ في الوغَى ... وما صافَحَتْ فيه الصفَاحُ النيازكُ
وقتلُ العدا صبراً كما شاءتِ الظبا ... ونيل المنَى والفائتُ المتداركُ
وما المجدُ إلا ما وترت به العدَى ... فدارَتْ بهم رِيح الحمام الحَواشكُ
وعزم يبيد الخَيلَ والعيس بالسرَى ... تكل به أخفافها والسنابِكُ
لعمرُكَ ما تغني الشجَاَعةُ في الفتَى ... إذا الرأْيُ في تَدبِيرها لا يُشَاركُ
ولا يرفعُ الجودُ الجوادَ لفعلِهِ ... إذا لم يكُنْ والطبعُ للنفسِ مالكُ
وما لم يكنْ قطعُ الكريمِ كوصلِهِ ... وألا فما تغنِي السيوفُ البواتكُ
فدى لأبي عجلانَ من رام سعيَهُ ... ومِن دون ما رام الحتوفُ النواهكُ
فتَى تردُ الآمالُ منهلَ جودِهِ ... فتصدرُ عنه وهوَ جذلانُ ضاحكُ
إذا سارَ سارَ الجودُ يحدُو ركابَهُ ... وإن بركَت عَنْ سيرها فَهْوَ باركُ
يذودُ عن المجدِ الأثيلِ بطاعنٍ ... له عزمات في القلوبِ سوالكُ
حمى حوزةَ العَلياءِ منه مهند ... إذا ما انتضَى ماضي الغرارينِ باتكُ
وفي التاجِ غيثْ بالحيا متهلل ... وفي الدرعِ ليثٌ والتريكة زامكُ
أباد العدا فاستَدرَكَ السيف فوته ... ومن قبلها في الغِمْدِ لا يتماسكُ
وذاقَت به سوء النكالِ بما جَنَتْ ... فأضحَتْ ومثواها الكدَى والدكادكُ
شفا بالقنا حر النفوسِ من العدا ... وزالَتْ به تلك الهمومُ السوادكُ
عزيزْ عليه أن ينامَ ولم تَقُم ... بأرضِ العدا بالصافناتِ المعاركُ
فتَى الحربِ لا تثنيه خود عن الوغَى ... رَدَاح ولا تصبيه دُعْج ركاركُ
أبَى غيرَ ظل الرمحِ أن يدرك المنَى ... فلما انقضَى حنَّتْ إليه الأرائكُ
وأقسم لا يثني عن الحربِ عزمَهُ ... إلى أن ترى فيه الدماء سوافكُ
أباحَ حمَى الأعداءِ منه بغارةٍ ... كأن الضحَى فيها من النقعِ حالكُ
يؤلبُ مِنْ أبنا أبيه عصابة ... كِرَام سَرَاة كالجبالِ سوامكُ
أقاموا صدُورَ الناعجاتِ وجَنْبها ... إليها المَذَاكِي في السلاحِ شوائكُ
كأَن مواطي الصافناتِ أهلَةٌ ... ووَطْءَ مطاياهم بُدُور فوالكُ
نماهم إلى العلياءِ والمجدِ والندَى ... أبوةُ صدقٍ أخلَصَتْها السبائكُ
مناعيرُ في الهيجا مساعيرُ في الوغَى ... إذا نكصَتْ عنها اللئامُ الضرائكُ
يذبونَ عن أحسابِهِمْ بسيوفهم ... إذا ضربَتْ صفحاً لديها الوكاوكُ
ثَوَوْا في ظهورِ اليعملاتِ كأنما ... مجالسُهُمْ كيرانها والمياركُ
سَرَوْا لاقتناصِ المكرماتِ يذودُهُمْ ... عن النومِ هَم بالجوانِحِ سادكُ
يهزونَ أشطانَ القنا في أكفهم ... كأن أعاليها بروق نوابكُ
إذا سار فيهم خِلْتَ بدراً وأنجماً ... ثوابت في أفلاكها لا دوالكُ
ويَقْدُمُهُمْ ماضِي العزيمةِ مقدمٌ ... على الهولِ ميمون اللثام مباركُ
يشيح به ظامِي الفصوصِ مطهَّمٌ ... وأورق مَفْتول الذراعَينِ تامكُ
أبو حَسَن السامي بنَفسٍ ووالدٍ ... وفي منهجِ العلياءِ والعز سالك
كريمُ المساعِي صادقُ الوعد مَنْ غدا ... وليسَ له في المكرماتِ مشارك
وأنتَ أبا عجلانَ رائشُ نبلهم ... إذا دهمَتْ تلك الخطوبُ النواهكُ
وكَمْ لك أعضاد شداد على العدا ... وأنتَ لعلياهم سنام وحاركُ
إذا وعد الله الفتَى منه نصرةً ... وعزاً وسعداً أيدته الملائكُ
أرادت زبيد في جنابكَ دولة ... فضلت بها أوهامها والشكائكُ
غَوَت عن طريق الرشد منها سفاهةً ... وجهلاً وغرتها ظنون بواشكُ
متى كانتِ الأوغادُ ترقَى إلى العلا ... وتسمو إلى عالي الأمورِ الزكازكُ
وتخطبُ أوشاب الشوايا مراتباً ... وتنهضُ للحربِ الزبون الحواتكُ
طرقتهم وقتَ الهجيرِ بصكةٍ ... عمي لديها فاتك العزمِ فاركُ
وطفتَ عليهم يا همامُ بنيةٍ ... كما طافَ بالبيتِ المعطم ناسك
فغادرتَهُم صرعَى بكل تنوفةٍ ... تناوحهم ريحُ الصباه والروائكُ
تَقَاعَسَ منها مالك ومشهون ... وكُل لدى الهيجاء ألوى مماحكُ
وقامَ بها ميل المقرضِ واستوَى ... ومن قبلها في مشيه يتباوكُ
وطار بها خوفاً أخوه وقلصَت ... خصاه وولى وهو حيرانُ عانكُ
وزين وبازان بروك وقادم ... وداغر في البوغاءِ بئس المباركُ
لعمرُكَ لو لم تطلُب القومَ غالهم ... بسعدِكَ مِن دونِ الطلابِ المهالكُ
وأغناك عَن حَث المطيةِ رائدّ ... من الذل فيهم حابل النومِ حابكُ
لئن كنتَ عن عمدِ هدمتَ عروشَهم ... فإنك بانيها قديماً وسامكُ
توهمها الرومي نهضةَ عاجزٍ ... ولم يَدرِ أن الليثَ بالعيرِ فاتكُ
جرى طرفه ملء العنانِ إلى المدى ... وطرف الردى في جَفنه عنه ساهكُ
أخذْتَ علية كلَّ نَقب ثنية ... فضاقَت عليه بالرحابِ المسالكُ
وما زالَ يجري في هواهُ وغيه ... وأنتَ له وسطَ العرينةِ باركُ
وهان على الأيامِ ما هو فاعل ... وعز على العلياءِ ما أنتَ تاركُ
إلى أن نضَت عنه الحياةُ قناعها ... فعاجَلَهُ منكَ الحمامُ المواشك
فجرعته كأساً أعل بمثلها ... أبوك أباه فارتدَى وهو هالك
ولم ينجِهِ منكَ الفرارُ لحينِهِ ... فأصبَحَ مملوكاً ومن قبلُ مالكُ
وكيف وأنتَ المُعلِمُ الفَردُ في الوغى ... ورمحكَ طعانْ وسيفكَ باتكُ
قضى فيه حُكم المشرفي بعدله ... فبعداً له عن منهجِ العدلِ نازكُ
كذا فليكُن عزمُ الكريم وإنما ... على قدرِ عزماتِ الكرامِ المداركُ
فِدَاكَ أبا عجلانَ كل مملك ... فأنتَ سماء والملوكُ حبائكُ
خذِ المدْحَ مني يا همامُ فإنما ... بقَدْرِ بناء البيتِ تسمو المدامكُ
ودع ما سواى يا كريمُ فإنني ... أنا الشاعز المحكيُّ والغَيرُ حائكُ
ودونَكَ يا بن الأكرمَينِ تحيةً ... تفوحُ كمسكٍ أحكمته المداوكُ
وأخرَى حباها الله لطفاً ورحمةً ... تهني علياً بالشفا وتباركُ
وتهنا بها العلياءُ والسيفُ والندَى ... فكل لما قد كان يشكوه ناهكُ
وقد سرَّني النصْرُ العزيزُ على العدا ... وحُكمُ القنا والمغنَمُ المتداركُ
سرورا به عينُ الزمانِ قريرةٌ ... وثغرُ الليالي بالتبسُّم ضاحكُ
ودُمْ يا أبا عجلانَ ملكاً مؤيداً ... تتيه به العليا وتَزْهُو الممالكُ
ولا زلْتَ تَحيا في سرورٍ وغبطةٍ ... وشانِيكَ يَحْيا في المذلِة رامكُ
وفي سنة سبع عشرة عاد الشريف راجح من القاهرة قاصداً أخاه الشريف بركات صحبة السيد عرار بن عجل ليصالحه بشفاعة من السلطان ومن أخيه السيد قايتباي، فقابله مولانا الشريف بركات بالقبول واصطلحا صلحاً شافياً، وصارا كنفس واحدة إلى أن مات كل منهما.
وفي سنة ثمان عشرة توفي السيد قايتباي، وتعزى فيه أخوه الشريف بركات.
وتوفي السلطان بايزيد ملك الروم، وتولى ولده السلطان سليمان خان في بلاده قبل فتح مصر. وفي هذا العام توجه الشريف أبو نمي بن بركات إلى مصر المحروسة صحبة القاضي علاء الدين ناظر الخواص السلطانية، ومعه من أعيان مكة شيخ الإسلام صلاح الدين بن ظهيرة الشافعي وشيخ الإسلام القاضي نجم الدين بن يعقوب المالكي وولده القاضي محمد، والقاضي تاج الدين وجملة من أعيان السادة، وطائفة من أعيان قوادهم بنظام عظيم، وأبهة وافرة وخيول أصيلة وركائب مسمية مع الملابس الفاخرة، والسلاح المذهب، والسروج والأكوار اللائقة بالزمان والمكان، قاصداً منصب آبائه الكرام من السلطان الغوري بتخت مصر، فلما وصلت أخبار خروجه من مكة برزت الأوامر السلطانية إلى رئيس الزمان الماضي أحمد بن الجيعان، أن يخرج لملاقاتهم على أحسن أسلوب.
فخرج إليه بفرس عظيم، وسرج مغرق، وكنبوش مذهب، وكاملية مخمل بسمور، كل ذلك من خاصة السلطان وخزائنه المحفوظة، ومعهم ما يليق من الطعام، ثم بعد قلل تلقاهم أمير كبير، وباش العساكر المنصورة خير بك الدوادار، وجمع عظيم من القضاة، والمباشرين من كاتب السر إلى من دونه، فلما وصلوا المحل المعروف بالبركة ضرب لهم مخيم عظيم سلطاني، وبسطت لهم فرش من الخزانة العامرة جديدة، ومقاعد مشركسة بالذهب الصرف، ونصبت له وسائد سلطانية.
ثم نزل الشريف أبو نمي في أعظم خيمة من الخيم السلطانية، ثم نزل كل رئيس من الذين معه في خيمة هيئت له، ثم مد لهم سماط عظيم سلطاني تضرب به الأمثال.
ثم بعد فراغه منه مد سماط الطارئ من الحلاوات والعسليات، وما يلائم ذلك، ثم بعد فراغه مد سماط الشرابات والفواكه الموجودة، ثم ركب في موكب عظيم لا يحصى كثرة، حتى في دخل البلاد في أعظم منظر وأبهى أسلوب، والخاصة والعامة معلنون بالدعاء له مظهرون الفرح والسرور بملاقاته.
ثم سار إلى المدرسة الأشرفية الغورية فنزل بها، ثم مد له سماط بعد سماط كما شرح، وفي جميع هذه المدة يخاطب مولانا أركانُ الدولة ورؤساؤها بالألفاظ الملوكية، مع ظهور غاية البشر وكمال الفرح، ونهاية السرور، وعظيم الهناء، وناهيك بمجلس جمع أشراف الزمن، ورؤساء الوقت، وعلماء العصر، وفصحاء الدهر.
ثم ركب مولانا الشريف أبو نمي من المدرسة المذكورة في موكب عظيم إلى الديوان، وكان السلطان حين ذاك جالساً بصدر الديوان، فلما دخل مولانا الشريف من باب الحوش أشرف عليه السلطان وهو في الملابس الحسنة الحسنية بالدليقين والعمامة على القبع والأنوار النبوية مشرقة عليه، والعناية الصمدانية ناظرة إليه، تعجب من هيئته الباهرة، وامتلأت عينه بمهابته، وطلعته الطاهرة، فأمر أن ينصب له كرسي بمفرده.
فلما دخل الديوان قام له ألفاً وقبل جبينه الشريف وقد زاده الله شرفاً، وأراد مولانا تقبيل يد السلطان فامتنع السلطان من ذلك أدباً مع المقام النبوي، والجناب العلوي، فغلب على ذلك مولانا الشريف فاحتضنه، وسلم عليه، وقربه لجانبه، وأقبل عليه بالمحادثة والملايمة، ثم أجلس من معه من القضاة والأشراف، وجابرهم بخطابه العذب، وأنصفهم في الجلوس غاية الإنصاف، ثم أقبل على الشريف أبي نمي ووضعه في حجره.
وكان سنه إذا ذاك ثمان سنين وقال له ما اسمك. فقال محمد أبو نمي الغوري فحصل للغوري سرور عظيم بذلك فقال له: أنت أشطر من أبيك.
ورأيت في نشآت السلافة للإمام عبد القادر بن محمد الطبري أنه قال له بعد وضعه في حجره: ما سورتك؟ فقال: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " ، ولم تكن إذ ذاك سورته هي فأعجب السلطان ذلك وتفاءل به واستبشر قلت: كلاهما يدل على مزيد الحذق والذكاء. ولا عجب إذا صدر من سلالة المصطفى.
وعندى أن الأولى - وهي التي ذكرها السمرقندي - أحذق، وأذكى لعود الذكاء وأعبق.
ثم ألبسه كاملية سلطانية ثانية بمسح ذهب بمقلب سمور من خاص ذخيرته، وقام السلطان ثانياً لوداعه، ثم ركب من القلعة السلطانية إلى محل سكنه، ثم رتب له السماط السلطاني صباحاً ومساء مع الطارئ، وتوابعه مع الافتقادات له، ولجميع من معه مما لم يسبق نظيره في الدولة السلطانية الغورية.
ثم إن مولانا الشريف استأذن في التوجه إلى الأقطار الحجازبة فكتب له توقيع شريف جليل خوطب فيه بألفاظ التكريم، والتبجيل.
ثم وجه إليه من الذخائر السلطانية سنجقاً وأربعين مملوكاً وخلعاً سنية لوالده الشريف بركات ومبلغاً من النقد له صورة برسم من صرف الطريق، وكذلك جميع ما يحتاج إليه من الدقيق، والأرز، والسمن، والعسل، والسكر، وسائر زاد الطريق، وكذلك جميع من في صحبته من الأعيان أنعم عليهم بالعامات، معجلة ومرتبات على عادة أمثالهم، وبرز من مصر على صورة جميلة مع إظهار الإنعامات السلطانية.
ولما وصل الخبر بقدومه زينت البلاد، وانشرحت صدور العباد، وخرج لملاقاته الأعيان من مكة، فدخلها رافلاً في نعم الله تعالى التي تفضل بها عليه، وعلى آبائه وأجداده، فلا زالت في أولاده ثم في أحفاده، فطاف بالبيت الحرام، ودعي له على زمزم أسوة آبائه الكرام، ثم قرئ توقيعه الكريم بمحضر جيران بيت الله الحرام، ثم خرج إلى دار السعادة فمدحته الشعراء على عادة أسلافه بعدة قصائد من أعظمها قصيدة أحمد بن الحسين العليف أيضاً يهنئ أباه بعوده إلى سرير ملكه، ووصول ولده الشريف أبي نمي من القاهرة سنة ثمان عشرة المذكورة وهي هذه: من الخفيف:
خدَمَتْكَ الحظوظ والأقسامُ ... وجرَتْ باختيارِكَ الأحكامُ
وقضَت بالذي تريدُ الليالِي ... واستقامَت لأمرِكَ الأيامُ
وأطاعَتْكَ المرهفاتُ المواضِي ... والمذاكِي والسمْرُ والأقلامُ
وكفَاكَ المحذور أي شريفٍ ... وحَمَاكَ التدبير والإلهامُ
ووقاكَ الإلهُ ما أضمَرَ الده ... رُ وما سولَت له الأوهامُ
لا تخف منه نبوةَ واهتضاماً ... عادةُ اللهِ لا يضامُ الكرامُ
خصَّكَ الله بالعنايةِ منه ... وكَلاَكَ الوقارُ والإعظام
حسبُكَ اللهُ أن يطيشَ بك الظن وأن يستفزكَ الإيهامُ
ليس للملكِ غَيْر ذاتِكَ كُفءٌ ... أنتَ للملكِ يا همامُ نظامُ
لكَ فيه ولا عليك امتنانٌ ... قدم راسخ ومجد قدامُ
وطدتْهُ سيوفُ آبائكَ الغُر فدانتْ لها الملوكُ العظامُ
دون ما يضمرُ الغبي من الغَدْ ... رِ جلاد وعْر وموت زؤامُ
يكبتُ الغيظُ حاسديك جميعاً ... وتزولُ الأحقادُ والأدغامُ
قد بلاكَ الزمانُ حلواً ومراً ... فإذا الشهْدُ فيه داءْ عقامُ
ورآك العدوُ هضبةَ عز ... دون مرآك شامة وشمامُ
لو على الأمْر عارضتك الليالي ... قارعَتْهاً الأقدارُ والأحكامُ
لم يكنْ غَيْرُ ما تريدُ ولو كا ... ن فإن العزيز مَنْ لا يضامُ
لا يقيمُ الفتَى على الضيْمِ ما دا ... م له الرمْحُ خادماً والحسامُ
وإذا أنكَرَ الديارَ كريم ... فالمطايا دليلهُن الخطامُ
ظِلهُ رمحُهُ وعصمتُهُ السي ... فُ ومثواة صهوةَ أو سنامُ
لا يناجِي على العزيمةِ إلا ... نفسَهُ والكريمُ لا يستضامُ
يقطع الأمرَ دونَ كل مشيرٍ ... ويناغي الردَى إذا القومُ خامُوا
لَيسَ عزاً إلا ضمور العوالي ... والظبا والإسراج والإلجامُ
هكذا فلتكُن كرام المساعي ... وعلى مِثلهاً يكونُ المقامُ
فهنيئا أبا زهير بعودٍ ... لسريرِ به السرورُ دوامُ
مَهدَتْهُ لك الخفافُ المواضِي ... وجلاه بعزمِكَ الإقدامُ
لم تجدًد لك الولاية عهداً ... أنتَ مِنْ قبلها مليك همامُ
لا أهنيكَ بل أهني بك المل ... كَ فقد حزتَهُ وأنتَ غلامُ
أنتَ يابا زهير أعلَى محلاً ... فعلام الهناءُ والإعلامُ؟!
لم ترثه كلالةً لا ولا العه ... دُ حديث به ولا الإلمامُ
هَدأ الملكُ بعد طولِ جماحٍ ... مذ تولَيْتَ واستقامَ النظامُ
وكساه حلاكَ رونَقَ حسنِ ... لم تبده الشهورُ والأعوامُ
لكَ في الملكِ سالفْ وقديم ... سادة قادة ملوكْ كرامُ
جمعوا البأْسَ والندا في أكف ... يُستَهَلُّ الردَى بها والركامُ
تستذمُ الملوكُ منهم فينجو ... نَ وإن كان المستذم رمامُ
دوخوا الدهر والممالكَ حتى ... قَعَدُوا منهمُ الملوك وقاموا
واستباحُوا حماهُمُ وأقاموا ... ميلهم بَعدَ عزهم فاستقاموا
كَسَبُوا العز بالرقاقِ المواضِي ... ورَعُوا الناسَ والملوكُ سوامُ
قلدتها الولاية البيض والسم ... رُ وطَعْنٌ فذ وضرب تُؤَامُ
وكماةٌ تسيرُ فيها المنايا ... طائعات كأنها خُذامُ
من لؤي بن غالبٍ كل فردٍ ... منهمُ في اللقاءِ جيش لُهَامُ
يوسعون الجموعَ ضرباً وطعناً ... ولو أن الجموعَ سامَ وحامُ
يستظلُونَ بالرماحِ وبالبي ... ضِ لدى الحربِ والطيورُ حيامُ
إن أصابوا فما جَنَوْهُ جبَارٌ ... أو أصِيبوا فثارُهُمْ لا ينامُ
كُل الوى يختالُ للموتِ عجباً ... حين يُدعي وثغره بَسامُ
برماحٍ تعوجُ في الهامِ طوراً ... وعلى الفوز في الصدور تقامُ
وارِدَات إذا مرقنَ لطعنٍ ... قصُرَت دون وقعهن السهام
وصفاح إذا انتضَوهاً لحرب ... كان من بعضِ تابعيها الحِمامُ
مخلصات إذا برزنَ من الغِم ... دِ كأن الفرندَ فيها ضرامُ
مرهفات كأنهن لدى الضر ... بِ ركوع وسُجد وقيامُ
وعتاق إذا تداعوا لحَربٍ ... عزمَت قبل أن يناطَ اللجامُ
غاديات إلى الوغَى رائحات ... يستوي النورُ عندها والظلامُ
قد تبرقَعنَ بالحديدِ ولكن ... عاريات لباسهن القتامُ
علمتها التجاربُ الكرَ والفرَ وكيفَ الإقدامُ والإحجامُ
لم يزدنا البشير عما علمنا ... ه ولا خامَرَ العقولَ اتهامُ
عمركَ الله لو تراخَى قليلاً ... بشرتنا بسعدكَ الأحلامُ
أنتَ روح للملكِ والغيرُ جسم ... لا تقاسُ الأرواحُ والأجسامُ
ذاتُكَ القطبُ للسيادةِ والآ ... لُ نجوم وأنتَ بدر تمامُ
وإذا كان في المقاييس قرب ... كنتَ نوراً ومن سواك كمامُ
كيف يسمو إلى معاليكَ قَومٌ ... سهرَت مقلتاك فيها ونَامُوا
أين كانوا أبا زُهَيرَ وقَد ذُد ... تَ عن الملكِ والخطوبُ عظامُ
حين أدجَى ضياؤها وتوارَى ... صبحها فانجلَى بك الإظلامُ
كنتَ طَلاع نَقبها والثنايا ... يومَ أنتَ المقدمُ المقدامُ
همةٌ دونها الثربا وحَزم ... واعتزام وسطوةَ وانتقامُ
لم أقل ما أقولُ جهلاً ولكن ... يظهر الأمرُ إذ يزولُ اللثامُ
منصب جل وقعه منكَ لكن ... أنتَ أعلَى مكانةً إذ تسامُ
فاحفظِ الملكَ بالعشائِرِ والما ... ل فأنتَ المجزبُ الصمصامُ
وابذلِ الجهدَ يا أخا الحزم فيه ... فالفتَى بعد بذلِهِ لا يلامُ
ليس يخفَى عليك يابا زهيرٍ ... سبب النقض فيه والإبرامُ
وإذا الداءُ في الخوافِي تعدى ... لقدامَى الجناحِ منه السقامُ
وإذا كان في السيوفِ اضطراب ... قرعَت حدها سيوف كهامُ
أنتَ في الناسِ كاسمك البر فيهم ... بركات على الأنام جسامُ
إن دهراً أتيتَ فيه لدهرٌ ... سحرٌ كله وليل تمامُ
أنت عينُ الوجودِ فيه ولولا ... ك تساوَي الإيجادُ والإعدامُ
قصرَت عن مدى خطاكَ المساعِي ... حيثُ كانَت لك المساعي الكرامُ
وتباهَت بك الممالكُ فخراً ... وتهادَت آثارَكَ الأيامُ
وَتسامَيتَ فوق فرعِ السماكَي ... نِ ومِنْ دون أخمصَيكَ النعامُ
جزْتَ حد الكمال في كل وصفٍ ... قصرَت عنه في الصفاتِ الأنامُ
كرمٌ في شجاعةٍ ووفاء ... وحياءً وحرمةً وذمامُ
وارتفاع إلى العلا وسُمُو ... وحنو ورحمة وانهضامُ
وارتياح إلى الثنا وسماحٌ ... واحتفال بشأنه واهتمامُ
وأيادٍ إذا استهل نداها ... يستمدُ الحياة منها الغمامُ
لا يزيدُ الثناء فيكَ ولكن ... يتحلى إذا ذكرت النظامُ
عظمَتْ ذاتك الشريفةُ عنه ... ونبَت دون وصفِكَ الأفهامُ
وتعالَيتَ أن يحيطَ بك المد ... حُ وفيه براعةٌ وانسجامُ
لم أزل ظامئاً إلى مدحِ عليا ... ك وبي دائماً إليه أُوَامُ
علمتني هباتك النظم والنث ... ر وكيف الإنجادُ والإتهامُ
أتعَبَت فكرتي حسانُ سجايا ... ك وأعيا على البليغِ الكلامُ
والهنا في أبي نمي المفدى ... والأماني والجمعُ والإلتئامُ
فرعُ غرسِ ينمي إلى خير أصلٍ ... جاء تال وفي السباقِ إمامُ
وابنُ ملكٍ ومنبرٍ وسريرٍ ... ومدى الغايةِ التي لا ترامُ
سيدٌ أدركَ السيادَةَ طفلاً ... وبنى المكرماتِ وهو فطامُ
خفقَت رايةُ السعادةِ والمل ... ك له والبنودُ والأعلامُ
وله اهتر منبرٌ وسريرٌ ... وبه استبشَرَ الصفا والمقامُ
لا عجيب إن نال وهوَ صغير ... ما حواه الآباءُ والأعمامُ
ما على الشبل أن يحوزَ المعالِي ... وأبوهُ الغضنفرُ الضرغامُ
فهنيئاً له السياعة والمج ... دُ جميعاً والعز والإحترامُ
بَلَغتَكَ الآمالُ فيه الذي رم ... تَ فلله الحمدُ والإنعام
دمْتَ حتى ترى السيادَةَ والمل ... كَ لأولادِه وأنتَ الزمامُ
خذ مديحاً أهداه عبد محب ... ما له في فتَى سواكَ مرامُ
وله بالثنا عليكَ وَبِالشُك ... رِ وبالمدحِ والدعاءِ غرامُ
أنا في مدحِكُم جرير وفي الحم ... دِ جميلٌ وفي الهنا هَمَامُ
رشتُمُ بالنوال والجودِ والفض ... لِ جناحِي كما تراشُ السهامُ
قِسْ ثنائي على ثناءِ سوَائِي ... تَدْرِ أن الكلامَ منه كلامُ
واقسم اللحظَ بيننا يا أخا الجُو ... دِ فأنْتَ المهذبُ المقدامُ
لَوْ دُعِيناً إلى التناصُفِ في الحُك ... م لبذَّ الضعيف منا الملامُ
وبقَدْرِ البليغِ والبلغ في القو ... ل يكُونُ الإعرابُ والإعجامُ
ومن الشعرِ للعقولِ جلاءٌ ... ومن الشعرِ للنهَى بِرْسَامُ
يفعلُ المدحُ في الكرامِ كما تف ... علُ في عقلِ شاربيها المُدَامُ
ويفيدُ الكريمَ عزاً ومجداً ... ويحطُّ الجوادَ قول سخامُ
وخيار الرجالِ في الشعْرِ من كا ... ن له فيه بسطة واحتكامُ
فابْقَ للملكِ والممالكِ عزّاً ... ولك المدحُ مبدأ وختامُ
ما توالَتْ عليك غُرُّ القوافي ... وتغنت على الغصونِ حمامُ
وعلى المصطفَى وآلٍ كرامٍ ... وصحابٍ تحيةٌ وسلامُ
وفي عام عشرين وتسعمائة حج محمد ولد السلطان الغوري مع والدته في تجمل عظيم جداً، وخرجوا من مصر في الجمال المزينة، والأكوار المشركسة، والمحاير المرصعة بالذهب، ومحفة خوند في ثبتها ذهب مرصع بالجواهر، فخرجت لها السادة الأعيان من أعيان مكة المشرفة، وأركان الدولة من حين قاربت الينبع، وقابلها الشريف أبو نمي نيابة عن والده من خليص، ومد لها من الأسمطة، والحلويات، والفواكه، أصناف متعمدة في عدة منازل، وقابلها الشريف بركات من خارج مكة، فلما وصلت رأس الردم ترجل كل من لقيها حتى مولانا الشريف بركات، وأخذ بلجام مركبها إلى باب السلام، ثم حملت محفتها على الأعناق إلى القصر بباب إبراهيم. فلما توسطت المسجد وولدها بين يديها قال مقدمها: يا خوند، اشكري نعمة الله تعالى فإن مولانا الشريف بركات حامي حمى الحرمين، حامل المحفة الشريفة إجلالاً وتعظيماً، وقد فرش الديباج تحت جمال المحفة، ثم فرش تحت الأقدام بالمسجد الحرام، وهي تقسم على مولانا الشريف بركات، بأن يترك الحمل المرة بعد المرة، فلما وصلت القصر علو باب إبراهيم أشارت بأن يكون ولد السلطان في مدرسة ملك التجار رامشت، وأمير الحاج المصري مع أركان الدولة في خدمتها، كأقل العبيد، ثم أمر لها مولانا الشريف بركات بسماط عظيم أبهر العقول، ثم حمل إليها من الأغنام، والعسلان، والسمون، والفواكه، ما لا يحصى ولا يحصر، ثم تردد عليها مولانا الشريف أبو نمي بعرفة ومنى ومكة، وضاعف إليها من فضل والده الهدايا، والافتقادات، والأقمشة العالية، والتحف النفيسة؛ لأنه قريب العهد بموالاتها له، ثم سافر معها مولانا الشريف بركات إلى مصر المحروسة فأقبل عليه السلطان إقبالاً عظيماً جداً، وشكرت للخوند جميل سعيه وجزيل مراعاته، فوقع ذلك عند السلطان موقعاً عظيماً، سيما حمل المحفة وما في معناه، وأنعم عليه بإنعامات جزيلة، منها خادمان وعشرون مملوكاً، وخيول أصيلة، وجمال برسم الدر والنسل، مما تقتنيه الملوك من كبر الجثة، وحسن المنظر، وطيب الأصل، وغزارة اللبن، وحلاوته، ويقال إن الإبل المعروفة بالمصرية من تلك، وجمال للحمل، وعشرة آلاف دينار حوالة على بندر جدة المعمورة، وخلعاً سلطانية نفيسة، وأذن له في المسير إلى وطنه فوصل مكة المشرفة في شهر رجب من العام المذكور، وزينت البلاد، وصنع الأمير حسين الكردي، وهو من أمراء الغوري بجدة صنع للشريف ضيافة هائلة، وقابله هو وأعيان مكة من خارجها، وكان يوم وصوله عندهم من أعظم الأعياد.
وفي عام اثنين وعشرين وتسعمائة، وقعت المقاتلة بين السلطان الغوري، والسلطان سليم بن بايزيد ملك الروم بمرج دابق خارج حلب المحروسة، وغلب السلطان سليم الغوري وفقد في المعركة.
ثم إن السلطان سليم خان وصل المحروسة بعد قتلة عظيمة بالريدانية بين العساكر العثمانية، ونائب سيده السلطان الغوري طومان باي، وذلك في شهر ذي الحجة من العام المذكور، ولم يحج من مصر ركب، ووصلت الكسوة للكعبة الشريفة بحراً صحبة مزهر الخادم.
ثم لما استقر مولانا السلطان سليم وتوطد ملكه لمصر، وأعمالها، وانتظم له الملك من دار الخلافة الإسلامية قسطنطينية، إلى غاية المملكة المصرية أنهى إليه بعض الحساد أن جميع الملك والسلطان طرازه الأعظم ملك الحرمين الشريفين، وأعمالهما، والدعاء لمولانا على منابرهما، فشرع في تجهيز جيش كثيف للحرمين الشريفين، وكان بمصر القاضي صلاح الدين بن ظهيرة كان السلطان الغوري صادره بطلب عشرة آلاف دينار ذهباً فعجز عنها فحمله إلى مصر بالترسيم، فلما وقع، ما شرح من تبديل الدولة، وبلغ القاضي المذكور ما عزم عليه مولانا السلطان سليم اجتمع بمولانا بيري باشا الوزير الأعظم، وعرفه عظمة مولانا الشريف، ومراعاته للسلطنة الشريفة وحسن سياسته، وتدبيره وأن يُرسَلَ إليه مكتوب سلطاني بما يقتضيه الرأي السلطاني، فاستقر الحال على كتابة توقيع سلطاني، وكتابة مراسلات من مولانا الوزير المذكور، ومن مولانا القاضي صلاح الدين إلى مولانا الشريف بركات، بأن يقابل التوقيع السلطاني بالقبول ويرسل ولده إلى الحضرة السلطانية السليمية بتهنئتها، وتعريفها بكمال الطاعة والانقياد، ونهاية الامتثال والمحبة والاتحاد، فوافق الشريف بركات على جميع ما ذكر، وأرسل ولده الشريف أبا نمي نائباً إلى مصر المحمية، فقابل مولانا السلطان سليم خان طاب ثراهما وعظمه تعظيماً مضاعفاً، وخوله وحباه، وعاد سالماً غانماً في ظل والده حامياً حاكماً ودام عزهما إلى أن توفي والده مولانا الشريف بركات عام إحدى وثلاثين وتسعمائة كما شرح مفصلاً، ودفن بمكة بعد طوافه والنداء على زمزم، وقبره معلوم يزار عليه قبة، الدعاء عنده مستجاب، رحمه الله رحمة واسعة. ومما قاله الشهاب أحمد بن حسين: من البسيط:
ألعِز تحتَ ظلالِ البيضِ والأسلِ ... يومَ الطعانِ وسبق السيف للعذلِ
والمجدُ ما شاد ذكراً أو بنى شرفاً ... يبقَى وما شدَ ركنَ الملكِ والدولِ
والعزم ما خَضعَ الأعدا لهيبتِهِ ... ذُلأ وما صَيَرَ الأفكارَ في شغلِ
لا تحملُ الضيمَ نَفسُ الحُر لوبلغَت ... منها الليالي بأمرٍ غيرِ محتملِ
صمم إذا سمت أمراً عز مدركُهُ ... فما ينالُ العُلا من كان ذا كَسَلِ
وانهض سريعاً إلى الغاياتِ محتقباً ... فذو العزيمةِ لا يمشي على مَهَلِ
كم فرصةِ عرضَت في طيها ظَفَر ... فاتَت بتدبيرِ رأيٍ غير معتدلِ
ما لم تكُن برداءِ العز مرتدياً ... فدَع طِلاَبَ المعالِي عنكَ واعتَزِلِ
واغض الجفونَ على ذُل ومسكنةٍ ... واصبرعلى الضيم صَبرَالعود ِواحتملِ
ما عَز من باتَ والآمالُ تخدعُهُ ... على اكتسابِ العُلا والمجدِ بالحيلِ
ولا اجتنى العِز إلا فاتك بَطَل ... يَروِي القنا من نجيعِ الخيل والقللِ
ليس المذلةُ من شأنِ الكريم فدع ... عنك الهُوَينَى وسِر للعز في عَجَلِ
وارحَل عن الدارِ لا مستعظماً خطراً ... ولا مريداً سوى العلياءِ من بدلِ
وعللِ النفسَ عن إلفٍ وعن سَكَنٍ ... واجعل هواك لغيرِ الأعينِ النجُلِ
إن الكريمَ إذا ما جَدَّ في طلبٍ ... حث المطية في وخدٍ وفي رَمَلِ
لا يَسأَلَن سوى الهندي عارفة ... إن العزيزَ لغَيرِ السيفِ لم يَسَلِ
فالسيفُ أصدقُ ما تشفى الغليل به ... وهوَ الدواءُ من الأدواءِ والعِلَلِ
فاجعل له الحُكم في أمر تحاولُهُ ... واقطَع على حُكم مايقضى به وصِل
مرأى العدُو على حالٍ يعز بها ... داء على الحُرً لم يبرح ولم يزلِ
لا يدركُ الثأرَ إلا كل ذي حسبٍ ... بالسيفِ مشتملٍ بالرمحِ معتقلِ
مثلُ الشريفِ أبي عجلانَ من شرُفَت ... قناته بنجيعِ الفارسِ البطلِ
ألفإطمي الذي عزت مناقبُهُ ... عن النظائرِ والأشباهِ والمثلِ
مَلك إذا راية للمجدِ قد رُفِعَت ... ينالها وسوَى علياًه لم يَنَلِ
ذو عزمةٍ كغرارِ السيفِ ماضيةٍ ... وهمةٍ في العلا تسمُو على زُحَلِ
يرى العواقبَ من مرآةِ فكرتِهِ ... غيباً ويقضي بحُسنِ الرأي في العملِ
حامِي الحقيقةِ في ورد وفي صَدَرٍ ... ماضِي العزيمةِ مقدام على الحللِ
مولّى إذا ثَوبَ الداعِي وقد لقحَت ... حَرب يلبيه لا مستفهماً بِهَلِ
يقضي على مهج الأعداءِ عامله ... وسيفه في الطلا يروى من العَلَلِ
مِلء المفاضة من بأسٍ ومن كرمٍ ... ومن حياء وحلم غير منتحلِ
أمضى من الصارمِ الهنديِّ همته ... عزماً وأسرَى إلى الأرواحِ من أجلِ
تفرعَت عن صميمِ المجدِ دوحتُهُ ... من معدنِ الوحي مثوى خاتم الرسلِ
موصولة برسولِ اللهِ نبعتُهُ ... أكرِم بفرعٍ بذاك الأصل متصلِ
مقابل بين فرعَي دوحة شرفَت ... بين البتولِ وبين الطالبي علي
مغني الرسالة والتنزيل معهده ... أعظم بذلكَ من بيتٍ ومن نُزُلِ
أعز من سَبَحَت جردُ العتاقِ به ... وأوجَفَت يعملاتُ الأينقِ الذللِ
فخراً وعزا بني الزهراءِ إن لكُم ... فضلاً به ما له في الناسِ من مثلِ
يابن الملوكِ الألَى شادوا ممالكَهُمْ ... بسلةِ السيف والعسالةِ الذبلِ
يزيدُ مَرُّ الليالى عزهم شرفاً ... كالعضْبِ يزدادُ إرهافاً مع الأزلِ
تسنموا غاربَ الأهوالِ وامتزجوا ... مَعَ الخطوبِ امتزاج النومِ بالمقلِ
ألضاربينَ على أكنافِ مُلْكِهِمُ ... سرادقَ العز من بيضِ ومن أسلِ
والسالكينَ إلى العلياءِ في نَهَجِ ... أعيَت مساعيه أهلَ الأعصر الأوَلِ
سقَاهُمُ الوَحْي من صافي مواردِهِ ... ماءَ النبوةِ عداً ليس بالوَشلِ
لولاك يا بركات الجودِ ما اعتدلَتْ ... للملكِ قائمة آلَتْ إلى مَيَلِ
كم عزمةٍ لك في الأعداءِ صادقةٍ ... أمضَى من الهندوانيات في القللِ
تكفلت لك أطرافُ الرماحِ بهم ... والمرهفات وكُل بالوفاءِ مَلِى
في مأزقٍ ضيق صوت الكماة به ... قرع الصوارم بالخطية الذبلِ
طرقتَهُ ثابتَ الأركانِ مبتسماً ... كالليْثِ يفترُ عن أنيابِهِ العُصُلِ
هتكْتَ فيه حجابَ الدارعين عَلَى ... سُمْرِ القنا غَيْرَ رعْديدِ ولا وَكِلِ
ورُبَّ ملحمةٍ ماجَتْ بكثرتها ... صافَحتَهاً بِقِرَاعِ البيضِ والأسلِ
وفيلق مظلمِ الأقتارِ مصطلم ... برق الأسنة يهديه إلى السبلِ
وردتَهُ وحياضُ الموتِ مُتْرعة ... طَلقَ المحيا بوجه مسفِرٍ جذلِ
ثم أنثَنَيْتَ وقد غادرتَهُ أثراً ... وجئْتَ بالسبْى والأسرَى مع النفلِ
وحزتَ بالنصْر ما ترجوه من أملٍ ... وفزْتَ منه بسهمِ الناضلِ الخصلِ
عزمٌ وحزم وإقدام وعارضة ... في جحفلٍ لَجِبٍ أو مجمعِ حفلِ
أوصافُ مجدِكَ في بأسٍ وفي كرمٍ ... تصرفَتْ بين طعمِ الصابِ والعسلِ
ئالغيثِ كالليثِ في حالَي نَدَى ورَدَى ... ترجَى وتخشى لرزقِ أو على أجلِ
ترْوِي السيوفَ دماء الناكثين كما ... تَقْرِي الضيوفَ سديفَ الكُومِ والإبلِ
مثل الغضنفر في الهيجاءِ يَوْمَ وغًى ... وفي السماحةِ مثْل العارضِ الهطلِ
أدركتَ بالصبر ما تَعْياً الملوك به ... ونلْتَ بالحزم ما يُرْبى على الأملِ
في معشرِ مَرَقُوا في الدينِ وارتكَبُوا ... محارماً آذَنَتْ بالإثمِ والزللِ
لما نوَوْكَ وعَين السعدِ كالئة ... صَبرتَ صبرَ كريمِ غيرِ محتفلِ
وكُنْتَ كالبدرِ وارَى ضوءَ غرته ... حيناً وآبَ مآبَ الشمسِ في الحملِ
ما زلْتَ تملي لهم والمَوْتُ ينظرهم ... شَزْراً بطرفٍ خفيِّ غير منتقلِ
ورُعْبُ ذكرك يجري في خَوَاطِرِهِمْ ... جَرْىَ السقام بجسْم الواهنِ الوَجِل
ينامُ طرفُكَ والأوهامُ تُسْهرهم ... خوفاً وتهدأَ والأفكارُ في جَدَلِ
حتى إذا أينَعَتْ للقطفِ أرؤسُهُمْ ... وحانَ بالسيفِ منها منتهى الأجلِ
صَدَمْتهم بخميس لو صَدَمْتَ به ... هضابَ رضوَى لعادَتْ منه في خَلَلِ
يكادُ يسمع وَقْعَ المرهفاتِ به ... مَنْ بالخريبة ممتدُّاً إلى ثُؤَلِ
ويستنيرُ بروقاً مِنْ أسنته ... بنو حرامَ الغواةُ النازلون حلِى
كم في جوانبِهِ للوحشِ معترك ... وفوقَ حافاتِهِ للطيرِ من زجلِ
دَبتْ إليهم مناياهم بصدمته ... دبيبَ كاسِ الطلا في الشارِبِ الثملِ
ناموا وما نمتَ عن وتْرٍ تحاوله ... والقومُ في غفلةٍ يرعَوْنَ كالحملِ
ما زلْتَ تركُضُ في مضمارِ غايتهم ... دليلك النصْرُ في حِل ومرتحلِ
في مقنبٍ من عتاق الخيلِ ذي رهَجٍ ... مدرع برداءِ الروعِ مشتملِ
وفتيةٍ ألفوا حر المصاعِ به ... كأنهم تحْتَ ظل السمرِ في ظللِ
مالوا عليهم بأطرافِ القنا فكَأَنْ ... وقت الضحَى من مثار النقعِ كالطفَلِ
حتى بَلَغْتَ الذي حاولْتَ بُغْيَتَهُ ... فيهِمْ وجاوَزْتَ حَدَّ القولِ في العملِ
شفيْتَ نفساً رعاها اللهُ ما بَرِحَتْ ... عزيزةَ الذاتِ مذ كانَتْ ولم تَزَلِ
للهِ دَرُكَ من طَلابِ واترةٍ ... غَادَرْتَ رَبْعَ العدَى رسماً على طَلَلِ
تركتهم جزراً في كل موحشةٍ ... للوحشِ والطير كالأنعامِ والثللِ
أذقْتَ آباءهم ثكْلَ البنين كما ... أَيمْتَ منهنَّ ذات الدل والكحلِ
ومُذ سفكْتَ دماءً من نجومهمُ ... كففْت بادا الحجا عن بيضة الكللِ
لما رأوك على آثار جزَتهم ... طاروا مطار القطا الكدري والحَجَلِ
وإنما ينزعون الكل من خَوَرٍ ... قوائم الخيلِ والأقدام من وحلِ
وصارَ كُل زعيمٍ في عشيرتِهِ ... يقولُ لا ناقتي فيها ولا جَمَلِي
أين المفرُ وخيلُ اللهِ طالبةٌ ... والسعْدُ يغتالهم في السهْلِ والجبلِ
كفَى بسيفكَ وعظاً في مصارِعِهم ... لكل منهزمٍ منهم ومنخَزلِ
مذ عاينوا الذبْحَ في أحلافِهِنم نَزَعُوا ... إليكَ مِنْ وهنٍ فيهم ومِن وهلِ
لا تُعطِهم يا أبا عجلان عارفَةً ... وما يرومُونَ من وجه ومن قبلِ
ولا تُتَابع هجاراً في رعايتهم ... ليس الشجيُّ رَعَاكَ اللهِ مِثلَ خَلِي
لا تحرقُ النارُ إلا كَفَّ لا مسها ... ولا أخو كَبِد حَرى كذى بَلَلِ
واذكُر على القرب ما نالوا وما فَعَلُوا ... في أهلِ دارِكَ من فتكِ ومن غيلِ
واعلَم سلمْتَ بأن القومَ قد حشدوا ... وليسَ مطلبهم إلاكَ من رَجُلِ
ثَلوا عروشَكَ واجتاحوا حِمَاكَ به ... وجاذَبُوكَ رداءَ العز في النزلِ
فاغضَبْ لنفسِكَ أودَع كل مكرمةٍ ... تبقَى وقوضْ خيامَ العز وارتحلِ
واذُكر أبا القاسم السامي ومصرعَهُ ... كذاك مصرعَ إبراهيمَ حينَ ولِي
السادةُ القادةُ الأملاكُ من حَسُنَتْ ... بذاتهم بهْمَةُ الأيامِ والدولِ
لا تجعلِ المالَ عن أرواحهم بدلاً ... من اللئامِ فبئسَ المالُ من بَدَلِ
لا تتركِ الحزمَ عيناً ثم تطلبه ... ديناً فتقرعَ سنَّ النادمِ النكلِ
ولا تقيلنهُم باللهِ عثرتَهُم ... واقطَعْ عرى كل ذي غدرٍ وذي نغلِ
ولا يَغُرنكَ منهم ودُّ مبتسم ... فالخوفُ يظهرُ وُدَ الخائنِ الدغلِ
يطوون أحشاءَهُمُ منكُم على ضمدٍ ... ويضحكُونَ لديكُمْ ضحكةَ العَلِل
فاشدد يديكَ ولا ترثي لحالتهِم ... فطبعُهُم عن خبيثِ اللؤمِ لم يحلِ
لا تأمنَن غدرهُم فالذئبُ عادته ... إن ينتهز فرصةَ في غفلةِ يَصُلِ
إن تبقِ منهم مع الإمكان باقيةً ... نسِبْتَ للوهنِ في الأمصارِ والحللِ
وجرِّد السيفَ لاستئصالِ شأفَتهِمْ ... في كُل شيخٍ وفي طفلٍ ومكتهلِ
لا تقطعِ الرجلَ من قوم وتتركهم ... والرأسُ منهم صحيح غيرُ منجدلِ
فالحلمُ زين ولكن يابن حيدرةٍ ... في غير موضعِهِ ضربٌ من الخَبَلِ
والصفحُ عن مجرمِ من بعدِ مقدرةٍ ... عجزْ ولستَ بذي عجز ولا مللِ
فِيمَ التقاضِي وما بالعهدِ من قِدَمٍ ... والجرحُ منهم طري غيرُ مندمل؟!
حاشا علاك أبا عجلانَ من ملكٍ ... تُعطِى الدنيةَ أو تؤتى من الختلِ
يأبى لك العزُّ أن تلقاه معتذراً ... أو ناهجاً في طريقِ اللومِ والعذلِ
وأنتَ من سادةٍ شُم لهم آنفٌ ... عن أن يقيموا على ضَيمٍ ولا دخلِ
بيضُ الوجوهِ غطاريف جحاجحة ... تنكبوا عن طريقِ الجبنِ والبخلِ
أهْلُ الحمايا وأهلُ الذنب ما برحوا ... عن الحريمِ وعِرْض غير مبتذلِ
جمعتَ ما كان فيهم فيكَ مفترقاً ... من المحاسنِ بالتفصيلِ والجملِ
ودُونَكُمْ قولَ نصحِ يا بني حَسَنٍ ... يفيدُ كل ذكيِّ القَلبِ مشتعلِ
أنتُم بنو الحربِ تدعوكُم وتنهضُكُمْ ... أحسابُكُم لاقتحامِ الحادثِ الجللِ
شُدُّوا إلى حومةِ الهيجا مآزِرَكُم ... وشَمرُوا لطلابِ الثارِ في عجلِ
ما بالُكُم ورياحُ النصرِ مقبلة ... تثاقلونَ وذُلُ الدهرِ في الثقلِ
إن لم تديروا رحَى الهيجاء مسرعةً ... فما يفيدُ صهيلُ الخيلِ في الشكلِ
عيشُوا على العزِّ أو موتُوا على ثقةٍ ... موت الكرامِ وخَلُوا الدار عن حولِ
فَمَنْ يبلغُ عني غَيرَ معتذرٍ ... يحيى بن سبع مقالاً غير ذي خَطَلِ
ومالكاً وابْنَ قيمازٍ وشيعَتَهُم ... والتابعين من الأوشابِ والسفلِ
لا بدَّ أن يبلغ الموتورُ غايتَهُ ... ويشرب الكأْسَ ساقيها على عللِ
فالصبْرُ يحمدُ والأيامُ كافلة ... عقبى النجَاحِ ونيل السؤلِ والأملِ
إن تجحدون أبا عجلانَ فرصَتَهُ ... فيكُم وما كَان في أيامِهِ الأولِ
سَلُوا مَوَاضِيهِ عنها فهي تخبركُم ... فالسيفُ والرمُح أزكَى شاهدٍ وولي
كم ناشكم بالقنا في عُقرِ دارِكُمُ ... حتى اعتَصَمتُم ببذلِ الخيلِ والخولِ
وكَم سقاكُم غداةَ الروعِ من يده ... بالسيفِ كأس الردَى عَلاًّ على نَهَلِ
وكم أذاقكُمُ حرَّ الجلادِ به ... في مأقطِ الحربِ والأقدامُ لم تزلِ
لولا العرانينُ من أبنا أبِيهِ لَما ... جاوزتم الرمل من خوف ومن فشل
ولا وطئتُم على ذُل ومنقصةٍ ... مواطئاً ما لكُم فيهن من قِبَلِ
ليس القضا بكُمُ يشفي ضمائره ... إن القضاءَ مِنَ الأشباهِ والمثُلِ
وإنما طَهر اللهُ البلادَ به ... من مِلَةٍ خرجَت عن أشرفِ المللِ
وعللتهم أمانيهمِ علَى غَرَرٍ ... واللهُ في كُل هذا علة العللِ
سمتم مقاماً رفيعاً فَوقَ رتبتكُم ... ولا يقاسُ نهيقُ العيرِ بالصهلِ
فلو رجعتُم إليه باذلينَ له ... طوعاً طوى كشحَهُ فيكم على مَلَلِ
وسُقْتُمُ المالَ في مرضاتِهِ فعسَى ... يغضى قليلاً ومَن للعور بالحولِ
دُمْ ظافراً يا أبا عجلانَ في دعةِ ... قريرَ عينٍ بما أدركتَ من أمَلِ
فقدْ أقمْتَ اعوجاجَ الملكِ من أَوَدٍ ... وصار معتدلاً من كان ذا مَيَلِ
وخُذْ نسيجَ ثناءٍ صافياً حسناً ... يكسوكَ من وَشْيه أبهى من الحللِ
عروس مَدْحٍ تَهَادى في منصَّتها ... تجرُّ بالحسن ذيلَ التيه والغزلِ
حَلَيتها من سجاياكَ التي شرُفَتْ ... عقودَ دُر بها زانَتْ من العطلِ
يفوحُ بين قوافيها لمُنْشِدِها ... من طيبِ ذكركَ عرف المسك في حللِ
جَلَتْ صفاتك قدراً أن يحيطَ بها ... حُسْنُ الروية أو إحسانُ مرتجلِ
واسلَمْ فإنكَ زينُ الدينِ ناصرُهُ ... وافخرْ فإنكَ تاجُ الملكِ والدولِ
ثم الصلاةُ على المختارِ مِنْ مُضَرٍ ... محمدِ المجتبَى من سائِرِ الرسل