ذكر بني قتادة أمراء مكة: ثم وليها مولانا الشريف أبو نمي

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

العصامي

 عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)

ثم وليها مولانا الشريف أبو نمي

قد سبق ذكر مولانا، وملخص ذلك أنه تشرف بحماية الحرمين الشريفين في ظل والده في عام ثمانية عشر وتسعمائة، واستمر وسعده في زيادة إلى أن مات والده في عام أحد وثلاثين، فمدة اشتراكه مع والده أربعة عشر عاماً، ثم تفرد بهذا المنصب المبارك مع زيادة السعود، وبسط العدل والجود؛ إلى أن أنعم الله تعالى عليه بولده مولانا السيد الشريف أحمد بن أبي نمي، فتقلد هذا المنصب بالتماس والد، من مولانا السلطان سليمان بن سليم خان، وكان ذلك سنة سبع وأربعين وتسعمائة.

وملخص ذلك أنه أرسله إلى الأبواب العالية السلطانية العثمانية، ومن الاتفاق أن معظم من كان مع والده الشريف أبي نمي حال عزمه إلى مصر كان مع ولده هذا أحمد إلى إسلام بول، وصحبته من الهدايا العظيمة اللائقة بالملوك والخيول الأصائل، والصقور والشواهين والأقمشة والأطياب، فلما وصل خبر قدومه عين له السلطان سليمان من قابله على أحسن أسلوب، ثم أنزل في بيوت السلطنة، وأمره أن يدخل عليه بالملابس الحسنية.

وكان مولانا الشريف أحمد جميل الصورة معتدل القامة، حسن اللحية والدليقين، عليه ناموس الشرف المحمدي، وأبهة الملك النبوي.

فلما دخل على السلطان قام له ألفا، ولم يقع هذا لأحد سواه.

ثم أقبل عليه بالبشر التام، وخلع عليه خلعاً متعددة تعظيماً لشأنه، وإظهاراً لرفعته وعناية بجنابه، وأظهر أن وصوله إليه من النعم المعدودة التي تفرد بها عن غيره، وكذلك زوجة مولانا السلطان والدة - السلاطين، وواصلة المساكين - قدمت له هدايا عظيمة، وعرفت أركان الدولة أنه في مقام أولادها محبةً وحنواً.

ثم برزت الأوامر السلطانية له بجميع المرام. ووصل إلى مكة المشرفة على ذلك النظام. وامتدحه القاضي عبد الرحمن باكثير بالقصيدة الرائية: من الطويل:

وفَتْ صبها بعد الجفا غادة عَذْرَا ... ومُذْ لامها قالَتْ لعلَّ لها عُذْرا

المتقدم ذكرها.

ودام سلطانه إلى أن مات في حياة والده الشريف أبي نمي في شهر رجب عام ست وستين وتسعمائة.

ومما قيل فيه مدحاً قول الوجيه عبد الرحمن الكثيرى المذكور: من الكامل:

أَلْعِز ثَاوٍ بين مشتبِكِ القنا ... من رامه قالَتْ له السمرُ القنا

والنصْرُ من مخضرِّ أوراق الظبا ... غصناً به ثمرُ الوقائعِ يجتنى

والمجد في صهواتِ دهمٍ إن عدَتْ ... عقدَتْ سنابكُهُن نقعاً أدكَنَا

والفَخرُ أن تغشى الكتيبةَ باسماً ... ولَكَ الحمامُ من الأسنةِ قد رنا

والثابتُ الجأش الذي يَرِدُ الوغَى ... ويَدُ المنونِ تديرُ كاساتِ الفنا

والحزمُ فتكُكَ بالعداةِ مطاعناً ... ومضارباً ومذففاً ومثخنَا

والعزمُ أن تستسهلَ الصعْبَ الذي ... لو كان لم يمكنْ بعزمِكَ أمكَنا

والمكرمَاتُ أجلُها حُسنُ الوفا ... وأعزهاً الإغضاءُ عمن قد جَنَى

والسودَدُ المحضُ اكتسابُ مفاخرٍ ... ترتادُهاً منها المحامدُ تبتنَي

وأكابِرُ العلياءِ من يولي نَدىً ... يُشْرَى به المجْدُ الأثيلُ ويقتنَى

والهمةُ العلياءُ تصييرُ الذي ... عند الورَى جللاً حقيراً هَينا

والجدُ أن تردَ المهالكَ راقيا ... صعْبَ المخاوفِ لن تؤمّلَ مأمنا

والجودُ هجرُكَ لا فليس يخطُها ... مَلَكَاك إذ كنْتَ الجواد المُحْسِنا

والحمدُ إسداءُ الجميلِ بلا أذى ... من غير أن تبغي الجزاءَ وتمننا

والفضلُ تقليدُ الرقابِ صنائعاً ... لو لم تَرِق بها الورَى لن تُغْبَنَا

والملكُ لا يبني دعائمَ مجدِه ... إلا السلاهبُ والقواضب والقنا

كبنا بني ملك المَلِيك المنتقى ... مِنْ معدنِ السبطَيْنِ شرف مَعْدنا

سلطانُ مكَةَ أحمد الملكُ الذي ... طَوْع لقدرتِهِ المنايا والمُنَى

مَلِكُ الحجازِ أبو سليمان الذي ... في مفرق العليا تبوّاً مسكنا

ملك له ملك تراه محوَّطاً ... بالمرهفاتِ وبالرماحِ مُحَصنا

ملك له ملك تشامخَ عزهُ ... لا ملكَ إلا صارَ قهراً مذعنا

ملك له ملك ذراه على السها ... وأساسُهُ تحْتَ التخوم تمكنا

ملكٌ به أُفقُ المعالِي قد أضا ... وانجابَ عنه ظلام ظُلمٍ أدكنا

ملك تفزعَ غصنُهُ من دوحةٍ ... بالمصطفَى شرفَتْ وطابَتْ أغْصُنا

ملك غذى بلبا الرسالة واعتلَى ... عن كُل مدحٍ بالصرائحِ والكنَى

ملك له البيتُ الشريفُ ومكة ... وله المواقفُ والمشاعِرُ من مِنَى

ماذا عسَى فيه يقالُ ومدحُهُ ... قد جاء نَصاً في الكتابِ مبينا

ويدُ الرسالةِ أكسبَتهُ شمائلاً ... نبويةً منها علاهُ تزينا

وعلى مُحَياهُ أدارَت هالة ... منها سنا القمرَيْنِ يكتسبُ السنا

هو مضغَةُ الطهرِ البتولِ وأصلُهُ ... مِنْ طينة منها النبيُ تكوَنا

وبجده شمسُ الشريعةِ أشرقَت ... ولسانها بالحَق أصبَحَ معلنا

هذي الصفاتُ الجاعلاتُ لربها ... من فوقِ هاماتِ المعالِي مَوْطنا

لم تنتجِ الدنيا له مثلاً وقد ... زانَ الممالكَ والعلا والأزمنا

فاقَ الملوكَ فما بنو العباسِ أو ... ما غيرُهُم ممن نأَى أو من دنا؟!

لا مَجْدَ كان لهم فرادى في العلا ... إلا تملكَهُ وكان له قَنا

ولئِنْ أَتَوا فعلَ المكارمِ مرة ... فله غدَتْ طبعاً وأمسَتْ دَيْدَنا

ملأَ القلوبَ مهابة وملا العيو ... نَ جلالة وملا المسامِعَ بالثنا

وملت معاليه الزمان وعَز عن ... مدحٍ وحَصرُ علاه أعيا الألسنا

رَب الندَى مردِي العدا مُرْوِي الصَدا ... مُولِي الغنَى حُلوُ الخبا رَحْبُ الفِنا

أنشا بديعَ مكارمِ ومآثرٍ ... فيها تنوَعَ مجدُهُ وتفننا

ولكَم مدارسَ في العلا درسَتْ وقد ... عَمَرَت به وغدا حماها بَينا

ولقد ذوى روض المواهِبِ فاغتدى ... بنوالِهِ غَضَّ الثمار لمن جَنَى

أغنى الخلائِقَ من نداه فلم تَجِد ... في دهرِهِ ذا حاجَة مُتَمَسكِنا

وبه لقد عَمَّ الورَى فنوالُهُ ... كَنز الفقيرِ وطوقُ جيدِ من اغتنَى

والرزقُ والأجَلُ المقدرُ طوعُهُ ... وبكفه مر المنا وحلاَ الغِنا

متكفل بالأمنِ في الدنيا فما ... أحد بها ألا وعاشَ مُؤَمَنا

وبرزقِ مَنْ فوقَ البسيطةِ والذي ... تحتَ المحيطةِ قد غدا متضمنا

ولَدَيهِ لا روضُ السماحِ تخاله ... هشماً ولا نَهر الندا مُتَأَسنا

والسخبُ مذ رامَت تجارِي كَفَّهُ ... حُمَّتْ به حسداً وأسقَمَها الضنَى

فالغيثُ في جَبَهاتِها عَرَق جَرَى ... لما جرَت وكبَتْ وأدركَها العَنا

يحبو النوَالَ ويحتبي فكأنهُ ... بحر وطود قد أحل وأردنا

في حلمه فاقَ ابن قَيسٍ بل لدَى ... إحسانِهِ ذِكرُ الندى لن يَحْسُنا

ماضيه للأعداءِ مسنوناً يرى ... وعطاؤُهُ في الحال فرضاً عينا

يهبُ الألوفَ ولم يهبها عندَما ... يلقى عليه لأمَهُ والجَوْشَنا

ويردُ جحفلَ من يحاربه ولو ... ضاهَى الحَصا عن رَده لَنْ يجبنا

بطل ولكن لا يطاقُ ففي الوغَى ... بِشَبا العزائمِ عن ظباهُ له غنى

ومتَى يصل تلقى الكمىَّ مجندلاً ... والذمر خلقاً بالدماءِ مكفنا

يروي الثرَى بدمِ الفوارسِ فالقنا ... تَجرِي عليهم من دماهُمْ أعينا

تقفو الجوارحُ جيشَهُ ثقةً بما ... أَلِفُوهُ في نصر له متيقنا

فَيروا بطاناً آيبين نواهلاً ... بِدَمِ يُطَل فما أذل وأَهوَنا

لم يَذعُ هذا الدهرَ إلا جاءَه ... متعثراً من خوفه لن يأمنا

يخشَى سطاه فلم تحل خطوبُهُ ... ساحاتِهِ وبصَرفِهِ لن يطعنا

لو خَط طِرساً نحوه لولائِهِ ... بالخادمِ المملوكِ كان مُعَنوَنا

فمتَى دعَتكَ خطوبُهُ فالجأ له ... وبإسمِهِ فاعْل النداءَ وأعلِنا

يا أحمد بنَ أبي نُمَي والذي ... ألقَى له الدهرُ القيادَ وأذعَنا

لو زاد شيءً بعد غايتِهِ دعا ... كُل لملكِك أن يزيدَ تمكُنا

من رام مِثلَكَ في الملوكِ فذاك في ... شَرع المعالي مُشْرِكٌ لن يؤمنا

فلأنَت رب البسطةِ العظمَى على ... كُل الملوك من الرشيدِ إلى هُنَا

وأمامَ جيشِكَ رائدُ الظَّفَر اغتدَى ... بالنصرِ والفتحِ المبينِ مؤذِّنا

وبشأنِهِ النصرُ المتينُ قد احتفَى ... بأمرِهِ الفتحُ المبينُ قد اعتنَى

والدهر ساعٍ في الذي تهوَى فإن ... تدعوه أو تدعو أجابَ وأَمَّنا

وأفاكَ تشريفُ المليكِ فكلُّ ما ... تبغيه ثم وغيرُهُ لن يُمْكِنا

فليهنِكَ النصْرُ المفادُ ويهنِكُمْ ... نيلُ المرادِ بما أَقَر الأعينا

فهواتِفُ السراءِ قد صَدَحَتْ به ... وترنَّمَتْ وُرْقُ التهانِي بالهنا

وشدَتْ على أيكِ السرورِ حمائمٌ ... ملأتْ بشائرُها النواحي بالغنا

فَارْقَ العلا ملكاً فملكُكَ غابة ... بك يا هِزَبْر الجحفَلينِ محصنا

ورياضُهُ قد أصبَحَتْ مخضلةً ... منكُمْ وزهْرُ ثمارها حُلْوُ الجَنَى

والماضيانِ تكفَّلا بخلودِهِ ... وبحفظه سَعْدُ السعود تضمَّنا

وإليكَ تبرَ مدائحٍ لو صاغَهُ ... نطقى لغَيرِ علاكَ أَصْبَحَ ألْكَنا

ولحسنها حَسَّانُ يغدو خاضعاً ... لو رام نَظْمَ سلوكها لن يُحْسِنا

طابَتْ شَذاً لما جعلْتُ ختامها ... مِسكَ الصلاةِ تبرُّكاً وتَيَمُّنَا

ثم إن مولانا الشريف أبا نمي رحمه الله تعالى التمس من مولانا السلطان سليمان خان تفويض الأمر إلى ولده الثاني صاحب المقام السامي مولانا الشريف حسن، فتقلد - بعد أن أجيب إلى مراده - حماية الحرمين الشريفين وجدة المعمورة وينبع خيبر وحلى، وجميع ما شمله اسم الأقطار الحجازية، وذلك من خيبر إلى أطراف حلى وأعمال جازان طولاً، ومن أعمال الينبع المبارك إلى حجاز ثقيف، وما اتصل به من أرض نجد عرضاً، وكان ذلك سنة 961 إحدى وستين وتسعمائة، فتفرد بذلك بإشارة والده الشريف أبي نمي لما علم من كفايته وكماله. وخاطبته السلطنة الشريفة. بالألقاب الهاشمية الملوكية.

وشاع وذاع ما في محل ولايته من العدل والإنصاف، والأمن والطمأنينة في حاضرتها وباديتها، وما إليها ينسب ويضاف، وقطع قاطع الطريق، وأخذ حق المظلوم من الظالم وإن كان أقرب حميم وأصدق صديق.

فلما وصل خبر ذلك إلى الأبواب العالية فوضت إليه كل واصل إلى الأقطار الحجازية من أعيان دولتهم وكبرائهم، وأركان سلطنتهم وأمرائهم حسبما يسطر ذلك في المرسوم السلطاني الواصل باسم مولانا المومأ إليه في كل عام.

وكلما طلب من جانب السلطنة العليا مطلوباً من معالي الأمور أو إحساناً لمن يلوذ بمقامه المبرور أجيب بحصول المراد، خصوصاً في سلطنة مولانا السلطان مراد وفي سنة أربع وخمسين وتسعمائة اتفق يوم السابع من ذي الحجة الحرام بمكة المشرفة أن الناس بينما هم بالمسجد الحرام في وقت السحر إذ رأوا دخاناً صاعداً من جانب الكعبة الشريفة، فبادرت الأكابر من الشريف أبي نمي، وولده ومصطفى باشا، وأكابر الحاج يسعون إلى باب الكعبة ففتحوه بعد أن حصل عند عامة الناس غاية الوجل، فوجدوا ناراً في عقب الفرفة اليمنى، ففكت الذرفة، وأطفئت النار، وأعيد الباب على حاله ولله الحمد. ذكر هذا الجزيري في تاريخه.

قلت: الظاهر أن أصل تلك النار شرر طائر من مجامر البخور التي توضع على عتبة البيت الشريف.

وفي سنة خمس وخمسين وتسعمائة - لما كان عيد يوم النحر منها - وقعت فتنة بمنى، وتعرف عند أهل مكة بالهبة، بين مولانا الشريف أبي نمي، وبين أمير الحاج المصري المسمى محمود، وكان الشريف أحمد إذ ذاك قائماً بأمر المملكة عن والده بتفويض من السلطان سليمان كما تقدم ذكر ذلك.

سبب هذه الفتنة أن السيد قايتباي كان بمصر فأقبل إلى مكة من طريق البحر، وكانت بينه وبين أمير الحاج المذكور مواطأة على أن يوليه مكة.

فلما كان يوم النحر علم الأمير أن جماعة الشريف أبي نمي تفرقوا عنه بالنزول إلى مكة للطواف والسعي، فاغتنم الفرصة - وكان السيد قايتباي المذكور أرسى بجدة ولم ينزل إليها - فركب الأمير ليقصد الشريف في داره، فعلم الشريف بذلك فركب، وركبت الأشراف والقواد والجند، فثارت الفتنة، ونزل الشريف إلى مكة ثم أرسل إلى جدة تجريدة من الخيل لحرب السيد قايتباي، فلم تصل إلى جدة إلا وقد توجه منها بحراً عائداً إلى مصر.

وبموجب هذه الفتنة نفر الأمير، وجميع الحاج من منى يوم النفر الأول قبل الزوال، فأراد بعض الحجاج العود إلى منى للرمي قبل فواته، والمبيت مع جند صاحب مكة، فتعذر عليه ذلك، لانتشار الأعراب في الطرق ورءوس الجبال.

ويحكى عن الشيخ العارف بالله تعالى الشيخ محمد بن أبي الحسن البكري أنه كان بمكة حين الفتنة بمنى قد نزل بقصد الطواف والسعي، وكان في منزله وعنده شخص يسمى الشيخ الحرفوش، فحصلت للشيخ محمد البكري حالة جلال، واستمر دائراً في المحل الذي هو فيه كالأسد وهو يقول: حوش حوش يا حرفوش، كالذي ينظر شيئاً فيأمر بإمساكه، ثم سكت حاله، فقال: الآن وقعت بمنى فتنة عظيمة حشناها بإذن الله تعالى فكان الأمر كذلك.

فقال العلامة الخطيب عبد الباسط بن أيوب يذكر الواقعة، ويرفع فيها الشكوى من محمود الأمير إلى الخنكار الأعظم مولانا السلطان سليمان خان في قصيدة هي: من الخفيف:

يا إماماً بالعدلِ في الناسِ سارا ... وهماماً قد دَمَّرَ الكُفارا

ومليكاً إحسانُهُ ملأ الأر ... ضَ وأضحَى له الصلاحُ شِعَارا

هذه قِصَّة لبابكَ جاءَتْ ... من أناسِ مما دهاهُم حيارى

فَاتلُها يا خليفةَ اللهِ في الأر ... ض جميعاً عساكَ تأخذُ ثارا

نظمتهاً قريحةٌ شاهدَت في ... عترةِ المصطفَى أموراً كِبَارا

هجمَت دورهم بخيلِ ورجلٍ ... واستباحوا عرضاً ومالاً ودارا

ورُمُوا بالنبالِ في حرم الله فضَحُّوا صغارَهُمْ والكِبَارا

أذكَرَتنا أحوالُهُم بحسينٍ ... ويزيدٍ وأورثَتنا اعتبارا

آل بيتِ الرسولِ حُلَّ حماهم ... واستبيحَتْ لهم دماءٌ جِهارا

ما استمعنا ولا رأينا كَهَذا ... لا رَعَى اللهُ من بهذا أشارا

قد أتانا محمودُ في إمرةِ الحَج ... جِ وقد صَارَ بالأذَى أَمًّارا

فرأينا شخصاً يحاكِي يزيداً ... في سجاياهُ فاجراً جَبارا

أَذهَبَ الشرعَ مذ أتانا وأحيا ... ليزيدٍ بَينَ الورَى آثارا

حَكمَ السيفَ في أعز نفوسٍ ... وسقاها كاسَ الردى وأدارا

قتَلَ الناسَ أظهَرَ السفكَ ظلماً ... جالَ بالسيفِ يمنةً ويَسَارا

تركَ. الهدىَ والضحايا وضحى ... بدماءِ الأشرافِ فيها وسَارَا

حَرَمٌ آمنٌ ويقتل فيه ... عترة المصطفَى جهاراً نَهَارا

إن هذا أمر فظيع شنيغ ... منكَرُ الشانِ يدهشُ الأبصارا

قد تركناً لأجلِهِ واجباتِ ... ورفضنا المبيتَ والإعتمارا

وخشينا من اليزيدي قتلاً ... فركبناً من خوفهِ الأخطارا

تَرَكَ الناسُ في منًى نُسُكَ الحَج ... جِ وخلَوا مبيتَها والجِمَارا

واعتراهُم من اليزيدي ما لم ... يَألفُوة وأُحصِروا إحصارا

وغدا الناسُ بين قتلٍ ونهب ... وأمور تحيرُ الأفكارا

صار فيها العزيزُ عبداً ذليلاً ... والأرقاءُ أصبَحَتْ أحرارا

صَرفت نحوهم صروفُ الليالِي ... وجهَها بعد كان فيه استتارا

ورمتهم عن قوسها بسهامٍ ... أثرَت في القلوبِ منا انكْسارا

فتنة أُحدِثَت بأشرفِ أرضِ الله لا ترتضَى بأرضِ النصَارَى

كَبرَ الناسُ عندما عاينوها ... وبحارُ الدما غدَت تَيارا

أظلم الكونُ والكواكبُ غارَت ... واقشعرت جلودنا اقشعرارا

إن هذا ظلم وجَور عظيم ... قاتلَ الله مَنْ عَنِ الحق جارا

ورماه بأَسهُم صائباتِ ... من يد المصطفَى تربه الصَغَارا

وذُهِلنا من المصيبةِ حتى ... أذْهَب الخوفُ عقلنا والوَقَارا

فتراهم بعد الأمانِ مِنَ الخَو ... فِ سكارَى وما هُمُ بسُكَارى

يابن عثمانَ أنتَ عمرتَ بالعد ... لِ الأقاليمَ بَرَها والبِحَارا

أنتَ طهرتَ سائر الأرضِ ممنْ ... قد تعدوا واستكبروا استكْبَارا

أنتَ كهْف للمسلمينَ حريز ... وملاذ لمن يخافُ ضِرَارا

أنتَ للحق ناصر ومعين ... لكَ سيفْ قد دمَر الأغيارا

أنتَ من أمَ بابَ عدلك يحظَى ... بمناه ويبلُغُ الأوطارا

كيفَ ترضَى أن اليزيديَّ يأتي ... حَرَمَ اللهِ مفسداً كَفارا

سوفَ تأتيه غيرة منكَ حتى ... يتمنى أن لم يُثِر ما أثارا

فأغِث عِترةَ النبيٌ وبادر ... وزدِ الظالمينَ منك خَسَارا

واْرِحهُم من اليزيديً واجعل ... داره بالخرابِ أَرضاً دمَارا

وارحمِ الناسَ إنهم قد أذيقوا ... من أذاه ما لم تذقه الأسارَى

ولكَ الأمْرُ فاقضِ ما أنتَ قاضِ ... فهو واللهِ يستحقُّ النارا

قَسَماً بالحطيمِ والركنِ والبي ... تِ الذي رَبهُ يقيلُ العِثَارا

وبِآلِ النبي والصحبِ والأح ... زابِ طُراً والسادةِ الأخيارا

قد خبأنا له سهامَ الليالي ... وشددْنا القِسيَّ والأوتارا

واستعنا بأعظَمِ الناسِ جاهاً ... واتخذْنا ضريحَهُ مستجارا

يا نبيَّ الهدَى أغثنا سريعاً ... قد أَضَرَ العدا بنا إضرَارا

نحنُ قوم بك استَجْرَنا فنِلْنا ... بمعاليكَ رحمةً وجِوَارا

شاعَ في سائِرِ الجهاتِ الذي قَدْ ... كان فينا وطَبَّقَ الأقطارا

وكان الشريف أبو نمي جم الفضائل، حسن الشمائل، محمود السيرة، طاهر السريرة، قطب زمانه بلا خلاف، عادل وقته فلا سبيل في زمنه إلى الاعتساف.

له النثر الرفيع الفائق، والنظم البديع الرائق، وصفاته جامعة شتات كل فضيلة، وخصاله محمودة جميلة.

ومن صفاته الحميدة المتوارثة له عن آبائه الكرام، رعاية ذوي البيوت القديمة، وإعراضه عن الأفاقين؛ فإن ذوي البيوت كانوا عنده في أوج الإعزاز والإكرام، يظهر مناقبهم، ويستر مثالبهم، وكان يخصهم من بين الأنام بالتحية والقيام، ولا يفرح غيرهم بقيامه لو أنه شيخ الإسلام فلهذا كانت الأمور مضبوطة، والأحوال بوجوه الصواب منوطة.

فطالما التمس منه أعيان دولته القيام لجماعة لا يكونون من ذوي البيوت بعد أن صاروا من أهل الإفتاء، فلم يجب التماسهم، ولم يضبط عليه ذلك لئلا يكون الناس على حد سواء.

فما أجدره بقول القائل: من البسيط:

للهِ درُّ أنو شروانَ مِنْ ملكٍ ... ما كان أعرفَهُ بالعَالِ والسَّفلِ

ولم يفته أن جبر الخواطر مطلوب، بل هو عارف بما هو أدق من ذلك مما تكنه القلوب، غير أنه علم ما يئول إليه ذلك من الفساد، وتجرؤ الأنذال بمساواتهم لأكابر البلاد، وترتب حصول الجور في العباد. فقد قيل: من الوافر:

وتجتنبُ الأسودُ ورودَ ماءِ ... إذا كان الكلابُ يَلغْنَ فِيهِ

فهذا من سياسته التي يحفظ بها الملك ويدوم.

فقد قال تعالى تلك الرسل: " فَضلنا بعَضَهُم عَلىَ بَغض " البقرة: 253 الآية. وقال عليه الصلاة والسلام " أمرت أن أنزل الناس منازلهم " . والحكمة فيما كان يصنعه الشريف - تبعاً لأسلافه - أن ذوي البيوت قد عرفت مودتهم وإخلاصهم من عروق أسلافهم الأقدمين الثابتي الأساس، وانطباعهم على صدق المحبة والوداد فإن العرق دساس، فكانوا جديرين بهذه المزية، ولو لم يكن فيهم شيء من الفضائل، إلا ما ألف منهم، وعرف عنهم من الشمائل.

وأما غيرهم لو أنه أعلم أهل زمانه فلم توجد فيه هذه المزية، وربما يكون إكرامهم سبباً لحصول الأذية.

قلت: هذا قول أحمد الفضل ناقلاً له عن الإمام عبد القادر الطبري.

وهو كما ترى قول جائر في القضية، صادر عن روية بزلال الحق غير روية، وطوية على الحقد والحسد مطوية. وحاش لله أن تكون صفة مولانا الشريف ذلك، وعادته تلك مع أولئك؛ إذ كيف يسوغ لمولانا إلغاء صفة العلم ممن اتصف بها من الأفاضل الأعلام فلا يعظمه بسببها كما قال هذا الشخص، ولو أنه شيخ الإسلام.

ولا يعتبر إلا ذلك الود بفرض وجود المستور في حبات القلوب، وإنما يعلم ذلك علام الغيوب، حماه الله من ذلك، مع علمه - رحمه اللّه - بأن المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فهو تحت طي لسانه، لا تحت طيلسانه.

وأغرب من هذا كله قوله: ولو لم يكن فيهم شيء من الفضائل.

فما أحقه بقول القائل: من الطويل:

إذا كان لا عِلْم لديكَ تفيدُنا ... ولا أنْتَ ذا دِينٍ فنرجُوكَ للدينِ

ولا أنْتَ ممنْ يُزتَجَى لكريهةٍ ... جعلنا مثالاً مثلَ شخصِكَ مِنْ طِينِ

فإذا لم يكن الشخص فيه فضيلة ذاتية، والود لا يعلمه إلا عالم الخفية.

لم يبق سبب للإجلال والإكرام والتحية والقيام، إلا كبر العمائم وطول الأكمام، والاعتماد على رفات العظام، من الآباء والأعمام، ولا ينهض ذلك عند رعاع العوام، فضلاً عمن هو لسادات الأنام إمام، أبي نمي الهمام.

فالحق إعطاء العلم واجبه لكل إنسان، كائناً من كان.

ثم إن كان مع فضيلة ذاته له فضيلة سلسلة علم وبيتوتة، تكلل تاج مجده درر الفخر وياقوته.

ثم أنت ترى قبح ما أورده، وتمثل به في مراده، ووخامة شاهده في استشهاده، وتشبيهه نفسه وأمثاله بالأسود، وغيره بالكلاب، وسيد الجميع بالماء المورود.

فأين الذكاء والفهم؟ لا قوة إلا بالله!.

وفي سنة ثلاث وستين: كان ابتداء حادث المحمل اليماني، والمحدث له الوزير مصطفى باشا النشار المستولى على اليمن من جهة السلطان سليمان خان، وكانت ولايته له سنة اثنتين وستين، فوصل إلى مكة أميراً على المحمل المصري فحج ثم رجع بالمحمل والحجاج، الأمير مراد بك، ثم توجه مصطفى إلى الديار اليمنية، فأحدث اليماني وجعله كالمحملين، ومعه خلعة من جانب السلطنة الشريفة، فبرز مولانا الشريف لملاقاة الخلعة إلى بركة الماجن، ثم وصل هو والأمير والمحمل إلى أن حاذى الشريف داره، فدخلها وتوجه الأمير ونزل عند سفح الجبل الذي على يمين الداخل إلى مكة من ثنية الحجون، ولم يزل كذلك إلى أن بطلت الخلعة والمحمل من سنة تسع وأربعين وألف، وذلك مسبب عن وقوع الفتن القوية، واشتغال الدولة العثمانية بقتال أعداء الله وإعلاء كلمته العلية، ولا بد لليمن من عطفة، ليس فيها تؤدة ولا رأفة.

وفي سنة985 خمس وثمانين وتسعمائة كانت وفاة السيد الأكرم السيد بركات بن أبي نمي، جد ذوي بركات الأقرب.

قال العلامة الفهامة الشيخ علي الشهير بالجم: دخلت على والده مولانا الشريف أبي نمي معزياً له فيه، فانهلت عبرته، فأخذها بمنديل كان في يده، فأنشدته ارتجالاً بيتين يتضمنان تاريخ وفاته فقلت: من الكامل:

يأيها الملكُ العزيزُ ومَن رَقَى ... هَامَ العلا رَفَعَ المهيمنُ شانَهُ

لا تَبْكِ مرحوماً أتى تاريخُهُ ... بركات أنزله اللطيفُ جنانَهُ

فسر بذلك وسُرًى عنه بعض ما كان.

وفي سنة 990 تسعين وتسعمائة ضحوة يوم الأحد تاسع صفر منها كانت وفاة مولانا السيد الشريف قاضي قضاة الإسلام وناظر النظار ببلد الله الحرام، مولانا القاضي الحسين بن أحمد المالكي بالطائف في القرية المسماة بالسلامة، ووصف بالشهيد لذلك، وعد من ألقابه التي وصف بها على زمزم.

ولما بلغ موته ضده مرزا شلبي قال: سبحان الله، عاش هذه المدة في مكة ثم لم يمت إلا خارجها. وأرخ ذلك بقوله " حل عام الخير " .

نعوذ بالله من الحسد وأهله، ووافق تاريخ وفاته في تاسع صفر من السنة المذكورة لفظ تسع في صفر.

وفيها أيضاً كانت وفاة العلامة الشيخ قطب الدين النهروالي مفتي السادة الحنفية يوم السبت السادس والعشرين من شهر ربيع الثاني منها وقت أذان حزورة عند الفجر الثاني، فأرخ بعض الفضلاء ذلك بقوله: قد مات قطب الدين أجل علماء مكة قلت: قد حسبته فوجدته يزيد على سنة الوفاة واحداً، ومثل ذا يغتفر عند المؤرخين على خلاف الراجح منه عدم الاغتفار مطلقاً، فيصير التاريخ هكذا قد مات قطب الدين جل علماء مكة، ولا شك أن المعنى الأول يزول حينئذ ويتحول.

وما زال مولانا الشريف أبو نمي منعم البال، ممتعاً بالأولاد والآل، مجتمع الشمل في سائر الأحوال، مكفي الأمور، دائم السرور، بقيام ولده الشريف حسن بأعباء الملك والخلافة، مظهراً في الرعايا عدله وإنصافه، سالمة ممالكه من المخافة، إلى أن دعاه داعي الحق فلباه، وانتقل من هذه الدار إلى دار كرامة مولاه، ليلة تاسوعا افتتاح سنة 992 اثنتين وتسعين وتسعمائة بالقرب من وادي البيار من جهة اليمن، فحمل إلى مكة، وجهز وصلى عليه بعد صلاة العصر في المسجد الحرام عند باب الكعبة - الأفندي مرزا مخدوم، ودفن بالمعلاة، وبنى عليه قبة موجودة، عليها أوقاف محدودة، وتخلف ولده الشريف حسن لحفظ البلاد، وقطعاً لدواعي الفساد، وجعلت له ربعة بالمسجد الحرام وبالتربة، حضرها الشريف حسن وإخوته وجميع الأشراف والأعيان من أهل مكة والعربان - قدس الله روحه؛ ونور ضريحه.

وعمر الشريف أبي نمي ثمانون سنة وشهر واحد ويوم واحد، ومدة ولايته مشاركاً لأبيه ولولديه الشريف أحمد والشريف حسن، ومستقلاً نحو ثلاث وسبعين سنة.

وكان رحمه الله صاحب خيرات متواترة، ومبرات كثيرة متكاثرة.

أسس لأبنائه معالم الكرم، وحثهم على شريف المناقب والشيم.

نسج بينهم المودة على منوال الصفا، وحملهم على الصدق فيما بينهم والوفا.

وبنى بمكة رباطاً للفقراء الذكور ورباطاً للنساء الشرائف، وأوقف عليهم أوقافاً إلى الآن جارية في صحائفه.

وكان له جملة من الأولاد، منهم: أحمد والحسن وثقبة وبركات وبشير وراجح ومنصور وسرور وناصر وصالحة وشمسية وغبية وصليبة وموزة وراية وغيرهم.

قلت: ورأيت نتفة لبعض شعراء ذلك الزمان ولم ينسبها الكاتب إلى شخص بعينه، وهي في الشريف أبي نمي أحببت ذكرها هي: من السريع:

يا فارسَ الخيلِ قهرْتَ العدا ... ألترْكُ والعُرْبَان والتُّرْكُمَانْ

مولاك أعطاكَ خِصالاً بها ... أصبحتَ في الناسِ فريدَ الزمانْ

فأنتَ في حلْمٍ بعيد المدى ... قَرِيب إحسانِ وحُلْو اللسانْ

فلا تَخَفْ من بعد ذا كربة ... فما قضاه اللهُ بالأمْرِ كانْ

فاللهُ يبقيكَ لنا آمناً ... كما أذقتَ الناسَ طَعْمَ الأمانْ

قلت: قد أبان هذا الشاعر عن فضاخة اللسان لا فصاحته، وضيق البيان لا ساحته، إلا أنه يدخل عن الاعتراض في أمان بيت الأمان، فلعل أن يمحو الإساءة الاإحسان، فسبحان خالق الإنسان.

وقال الشيخ عبد العزيز بن محمد الزمزمي معارضاً قصيدة ابن خطيب داريا التي مطلعها: من السريع:

قُمْ عاطِني الصهباءَ يا مُؤْنِسِي ... ............

وكان هذا الإعراض بإلزام له من مولانا الشريف أبي نمي، فقال يمدحه ويهنيه بعرس ابنه الشريف أحمد بن أبي نمي: من السريع:

لِيَحْتَسِ الصَهْبَاءَ من يحتَسِي ... حَسْبي لمَى مرشفِكَ الألعْسِ

حل فأطلق منه كأسِي ولا ... توحش بحبس الكأس يا مُؤْنِسِي

فِيْ طرفِكَ الوسنانِ والخَد ما ... يهزأ بالوردِ وبالنرجسِ

وجهُكَ لي روض جديد إذا ... أخلقَتِ الأرْضُ القبا السندسِي

رنحت قَدا قال للغصنِ مِنْ ... عِطْفى استعِرْ ليناً ومثلي مِسِ

غَرِّد لنا واشدُ فها أنْت من ... شعركَ كالشُحْرورِ في برْنُسِ

أنتَ سميري ونديمي فلِي ... فاكهة من لفظِكَ الأكْيَسِ

ضوءُكَ في جنحِ الدجَى ساطع ... فذكرُ ضوء الشمْعِ معه نُسِي

فيكَ جميعُ البسطِ يا فاتني ... بسط إذا خلتك في المجلِسِ

لقد صفا العَيشُ بسفْحِ الصفا ... وأحْسَنَ الصنعَ الزمانُ المُسِي

فعاطِنِي من فيكَ مسكية ... ينفحُ منها الطيبُ في المعطسِ

وَاجْلُ صدا نفسي بأنفاسِها ... فإنها تجلُو صدا الأنفُسِ

لها حباب من ثناياك قَدْ ... حكتهُ شهبُ الفُلكِ الأطْلَسِ

طاهرة طِبت وطابَتْ فلم ... يحرمْ تعاطيها ولم تنجسِ

تلك سُلافى لَست من غيرها ... أرتشفُ الراحَ ولا أحتَسِي

ما لي وللخمرِ وشرَابها ... إياكِ يا نفْس بهم تَأْتَسِي

منْ كل سفسافٍ إذا سَفَها ... يبذي ويَهذِي ثم لا يَنْبِسِ

قد نجسوا منها فلم يفكروا ... فى نَجِسِ الماءِ ولم ينجسِ

أخبارُهاً قد درسَت بينهم ... في كُتُب يا ليتَ لم تُدْرَسِ

حديثهم فُحش وجهل فلا ... تسمعُ لا أُفتِ ولا أدرسِ

للهِ أوقاتٌ تقضتْ لنا ... معْ كل شهمٍ فكِه كيسِ

ونحنُ في مجلسِ أنسِ به ... أبو نمي صاحب المجلسِ

سلطان أقطارِ الحجازِ الذي ... بغيره الأقطارُ لم تحرسِ

مولى له ذوق وفهم ففي ... مجلسِهِ الآدابُ لم تبخسِ

للفضل سوقَ عنده نافقَ ... لكلً مثرٍ منه لم يفلسِ

للهِ أخلاقٌ له سمحة ... تقولُ للضيفِ ادنُ واستَأنِسِ

أَيأَسَنِي دَهرِي فلمَّا رنا ... إليه قَالَ ارْجُ ولا تَيْأَسِ

ينسى الذي يوليكَ من فضله ... لكن ثناه شائع ما نُسِي

أعداؤهُ دنسهم لؤمهم وعرضُه الأبيضُ لم يدنسِ

إن عدَّتِ الفرسان فهوَ الذي ... يدعي غداةَ الروع بالأفرسِ

هو المليكُ الممتطِي صهوةً ... من المعالِى قَط لم تمسسِ

تدبيرُهُ الملكَ له دَيدَن ... فلم يَنَمْ عنه ولم ينعسِ

كُل عزيزٍ ذل من بأسِهِ ... وهابه الروميُ والشركسِي

سلِ النصارَى عند ما قارَبُوا ... جدة عن جدهم الأتعسِ

ماذا الذي نَكَسَ أعلامهم ... عنها نَعَمْ لولاه لم تنكسِ

ثم انثنَوا للهندِ والرعبُ في ... قلوبهم سَارَ إلى قبرسِ

نُصِرتَ بالرعب عليهم ولم ... لا بأبيكَ المصطفَى تأتسي

فاستبعَدُوا الأقرَبَ واستَقْرَبُوا ال ... أبعَدَ من طورهمُ الأقدسِ

أتَوْكَ كالبَحرِ فصاروا لدَى ... بحركَ كالحسوةِ للمحتسِي

أتاهُمُ أنكَ في قوةِ ... من العوالي والظبا والقِسِي

أعددت جيشاً لو بهم بحره ... أحاطَ لم يَنْجُوا من المغطسِ

وكل طرفٍ سابق سابح ... في لج بحر النقع لم يغطسِ

يفترسُ الأسد على ظهرِهِ ... من الأعادِي كل مستفرسِ

همْ كأسودِ الغابِ لكنها ... دونهم في شرسِ الأنفسِ

من حسنٍ ينمو إلى سَيدِ ... لهم هِزَبر في الوغَى أحمسِي

نجومُهُم دارتْ على أبلجٍ ... كبدرِ تم بالسنا مكتسي

من دوحةٍ ثابتةٍ غضةٍ ... والأصلُ منها طيبُ المغرسِ

تنمى إلى السبطَينِ مِنْ فاطمٍ ... أكرِم به من نسبٍ أقعسِ

يا ملكاً لو قابَلَ السعْد من ... غرته كيوان لم ينحسِ

إنْ يبسَ الدهْر عَلَى أهلِهِ ... أمّوا فِناءً منك لم ييبسِ

محسنُهُم تحسن في حقه ... وإن أساءوا لسْتَ ممنْ يُسِي

كنتَ لنا نجم حمى أفْقنا ... شهابُهُ من ماردٍ أشرس

يا لَكُما مِنْ ملكَي كورةٍ ... قد كسياها أَفْخَرَ الملبسِ

يا لكما من فارسَيْ غارةٍ ... من خسياه في مغارٍ خُسِي

يا لكما من قائدَي عسكرٍ ... حديدهُ من نقعه مكتسِي

شمساً وبدراً ينفعان الورَى ... نورهما يجلو دُجَى الحندسِ

أبو نمي وابنُهُ أحمد ... ألقسوريُّ الخشنُ الملمسِ

زُفتْ له غيداءُ خرعوبةٌ ... عذراءُ لم تطمثْ ولم تمسسِ

ليهنِه هذا الزواجُ الذي ... أبهَجَهُ بالرشأ الألعسِ

لا زال في عيش لذيذٍ بها ... ودامَ من قَهْوتها محتسي

فاحفظْ علينا الأصْلَ والفرْعَ يا ... رب وحُط ملكهما واحرسِ

يا مَنْ به الشعْرُ سما ذروةً ... على دراري الفلكِ الأطلسِ

هاكَ قريضاً أنتَ أدرَى بما ... في سلكِهِ من جوهرِ أنفسِ

أمرتَنِي أنظمُ شعراً على ... " قُم عاطني الصهباءَ يا مُؤْنِسِي "

فقمْتُ مرتاحاً إلى نظمِهِ ... ولم أحلْ عنه ولم أخنسِ

فَحَب هَذا الأحسن الوَقْع من ... شِعْرِي لدى إصغائِكَ الأكيسِ

أو لا فعُذرى أنني عاجرٌ ... وفيكَ يوفي خبرة الكيسِ

أنمر مِنْ مدحِكَ حتى غدا ... طَلْقُ لساني فيه كالأخرسِ

أيُ فصيح فيك يرجو القَضا ... ولم يَعُدْ كالألكَنِ المبلسِ

فعشْ لنا دهراً ودُمْ للعلا ... والمدْح للراح وللأكؤسِ

ما دُمْت للإقبال رأساً وما ... دامَتْ مواطيك على الأرؤُسِ

وقال الشيخ عبد الرحمن باكثير: وقد اقترح عليه مولانا الشريف أبو نمي معارضة قصيدة الطيبي الخمرية التي مطلعها: من الخفيف:

بَرَزَتْ في الكئوسِ كالإبريز ... ......... ...

فعارضها على البحر والقافية والمعنى واستخلص في مدحه فقال، وذلك سنة 949 تسع وأربعين وتسعمائة: من الخفيف:

خَطَرَت في مثَقفٍ مهزوزِ ... كَمْ به من متيَّيم موكوزِ

ورنَتْ فانتضَتْ حساماً تحلَى ... جفنه من حلاوةِ التلويزِ

سِحْرُ هاروتهِ يخيل ماءً ... ولهيباً في خَدها الإبريزِي

وبتخييله تَبَلَّه قلبي ... في هواه وجُن عقلي الغريزي

ودموعي تَسَلسَلَت فشفائي ... باللقا لا بطلسم وحروزِ

أو بصهباء ريقها حينَ تجلى ... للندامَى بثغرها لا بكوزِ

أو بظلمِ يسقى زهور أقاحٍ ... نابت في وِشَاحها الفيروزي

أو بشهدٍ من الشفاه حلاه ... لم تَشُبْه مرارةُ التمزيزِ

أو بريق من الثنية يُطْفِي ... من حشا مهجتي لَظَى تموزِ

أو بإحداقها إذا ما أدارَتْ ... كاسَ غنجٍ من خمرةِ التغميزِ

أو بساجي لحاظها حين تُومِي ... لوصالي بخافياتِ الرموزِ

أو براح فيها ارتياح لروحي ... وشفاء لقلبي إلموخوزِ

آهِ لو ساعَدَ الشبابُ عليها ... والليالي وموجب التجويز

كُنْتُ دهقانَها الخبيرَ وكانَتْ ... فئة البسطِ في يديَ وحوزِي

غير أن الجواز عز ورأسي ... شابَ والدهْرُ مر قيزاً بقيزِ

فتحامَيْتُهاً وإن كان أمري ... باحتساها أَمْر المبيحِ المجيزِ

خمرة مدت الحباب شباكاً ... لاقتناصِ اللذاتِ وقتَ النهوزِ

هاتها لي تنفي الهمومَ وتوفي ... لي وعدَ السرورِ بالتنجيزِ

هاتِها لي شَمساً مغيب سناها ... في فؤادي وبرجها قطرميزي

هاتها لي روحاً من النارِ حلَّتْ ... جِسمَ نور لظاه طب أزيزي

هاتها تعبدُ المجوسُ لظاها ... ليلةَ المهرجانِ والنيروزِ

هاتها ذوب عسجدِ في لُجَيْنٍ ... ظفرَت منه راحتي بالكنوزِ

هاتها قد غَنِيتُ مذ صار خمري ... من نضارٍ أكتاله بالقفيزِ

هاتها لي قد ضاعَ تمييزُ عقلي ... منذ هَمَت من كاسها بالبروزِ

هاتها لي أدورُ في لَيْلِ سُكري ... بسراجٍ منها على تمييزِي

هاتها فالتهابُها بند جيشِ ... من صدا القلب هَمَّ بالتبريزِ

هاتها لي فلو بَدَتْ جنحَ ليلٍ ... خرقَت أفقَ أدَمِهِ المخروزِ

هاتها لي صفراءَ في جامِ تبرِ ... تتهادَى في حُلةٍ هرموزِ

هاتها لي عروسَ دَن تجلت ... من لآلي حبابِها في حروزِ

هاتها لي كالشمْسِ تجلى بكاسٍ ... كضياءِ النهارِ من غيرِ ميزِ

هاتها لي تروي عظامِي وتسقِي ... من حشايَ نبات أرضٍ جروز

هاتها لي من لام فيها إذا ما ... صَدَحَ الديكُ فهو في توزيزِ

هاتها لي فالعيش عصرُ شراب ... أو شباب يفنى بشمطا عجوزِ

هاتها لي فالعمر من غيرِ راحِ ... أو رداح يمرُ بالتجليزِ

هاتها لي فلَثمُ در حباب ... أو حبيب يغني عن التعويزِ

هاتها لي صرفاً ومزجاً بظلمٍ ... بين دُر وسط اللمى مغروزِ

هاتها لي فليسَ بين نداما ... ى وحُورِ الجنانِ من تمييزِ

هاتها لي فإنني بين بدرِ ... وكثيب وأسمَر مهزوزِ

هاتها لي فإن عندي هلالاً ... فوق غصنٍ على نقا مغروزِ

هاتها لي فمجلسي فيه رُما ... نُ نهودٍ حَلَونَ من تمزيزِ

هاتها كم لَديَ من حُق نهدٍ ... تحتَ مسمارِ عنبرٍ ملزوزِ

هاتها لي ولو كبرتُ وأحنَت ... قوسَ ظهري شيخوخة التعكيزِ

هاتها لي ولو هرمتُ وأوهَى ... حمل كاسى يدي من تعجيزِ

هاتها لي ولو وهَت قوة الشَر ... بِ فحسبي من كاسها تمزيزِي

هاتها لي ولو تدانى حِمَامي ... وتداعَى صحبى إلى تجهيزِي

هاتها لي فمخلصي مِن خطاها ... في معادي مدح المليكِ العزيزِ

ذي المعالي أبى نُمَي تعالَى ... عن بسيطٍ من الثنا ووجيزِ

ملكٌ فاق ملكُهُ ملكَ سابو ... رَ وكسرَى وقيصرٍ وابرويزِ

ملك لا يزالُ كف الثريا ... من معاليه آخذاً بالغروزِ

ملكٌ قد أبانَ للمجدِ معنى ... كان لولا علاهُ كالملغوزِ

ملك قالتِ السما لعُلاَه ... قد خفضتي فبي قفي أو فجوزِي

ملكٌ قال دهره لليالي ... ذا مليكٌ بمثلِهِ لن تفوزِي

هو تاجَ لمفرقِي وطراز ... منه عِطفي قد زِينَ بالتطريزِ

نبوي الأنوارِ نورُ مُحَيا ... ه ُيزيحَ الظلامَ من تبريزِ

نشرَت فوقه النبوة بنداً ... خافقاً بالتكريمِ والتعزيزِ

لا يسامي ولا يُطَاول عُلاهُ ... غَيرُ فدمِ بغيه منبوزِ

هو يبدو في خلعةِ الملكِ سام ... والمسامي في بِذلَةِ الملموزِ

فخرُ كل الملوكِ منه وكل ... خص منه بمفخر مفروزِ

يبهر العقلَ فهو في التختِ بدر ... وهو ليثٌ في لاذِهِ المدروزِ

صار فولاذُهُ أخف وأحلَى ... فوقه مِنْ موشياتِ الخزوزِ

ترجفُ البيضُ منه والدهرُ يمسي ... فزعاً من سطاهُ في تفزيزِ

مستجيراً به وإن رام فعلاً ... في البرايا فمنْهُ كالمستجيزِ

بالتجاريبِ والظبا والعطايا ... منفدُ الدهرِ والعدا والركيزِ

تضحكُ البيضُ حين تنظر قوسي ... حاجبَيْهِ بالغيظِ في تكييزِ

وإذا ما استهل تبكي من الما ... لِ عيون من عسجدِ مكنوزِ

في العطا والسطا وفي العَدْلِ والفض ... لِ وعَمْرو وما ابن عبد العزيزِ؟!

ولدَى حلمه وآرا نهَاه ... ما ابنُ قيسٍ وما نُهَى فَيْروزِ؟!

ملأَ الأرضَ عدلُهُ فالرعايا ... لو تديمُ السرى إلى شهروزِ

هم مِنَ العدلِ في محل حصينٍ ... ومن الأمنِ في مكانٍ حريزِ

أمنوا في زمانِهِ الظلمَ حتى ... أصبَحَ الذيبُ راعياً للمعيزِ

فاطمي يرد صرْفَ الليالي ... عزمُهُ لو بفيلقٍ منه غوزي

ويفل الخميس والأسد فيه ... كنجوم السماءِ أو رمل قوزِ

أرعف السمر بالدما فلهذا ... نحلَتْ من نزيفها بالنزيز

للطلا والكلا انتْشَار ونظْمْ ... بظباه ولَدْنِهِ المهزوزِ

مِنْ سطا الدهرِ فهو أوفى مجيرٍ ... ولوفْدِ الثناءِ أوفى مجيزِ

من يقسه بالسحبِ يخطي ويغدو ... ساخراً بالسحابِ في تطنيزِ

هي تعطي ماءً وتبكِي وهذا ... في ابتسامٍ يجود بالإبريزِ

خدمَتْهُ العلياءُ طوعاً وظلت ... في إباءٍ لغيرِهِ ونشوزِ

كيفَ يوفي الثناءَ فيه قريض ... بعَروضٍ مقطعِ محزوزِ

والكتابُ العزيزُ أثنَى عليه ... بثناءٍ يعلو عن الأرجوزِ

وله المصطفَى دعا بدعاءٍ ... أمنتْهُ أُسْكُفَّةُ الإفريزِ

فعلى الخَلْقِ سعده لو تجزا ... لم تجدْ غير مسعد معزوزِ

يا مليكاً قد جلَّ ذاتاً وقدراً ... عن صريحِ الثناءِ والمرموزِ

في مراضيكَ قد سعى الدهرُ طوعا ... لك منه من غَيْرِ ما تكزيزًِ

والتشاريف وُرْقُهاً بالتهاني ... لك تَشْدو في نغمةِ النيروزِ

وبتخليدِ ملكِكَ الفلكُ الدا ... ئر يَجْرِي في قُطبِهِ المركوزِ

فَارْقَ فَرْقَ العليا وهاك قريضاً ... ألبَسَ الغيرَ حُلَةَ التعجيزِ

واستحق التصدير في المجد فاعجب ... لاجتماعِ التصديرِ والتعجيزِ

فعله في العقولِ فعلُ الحميا ... وتعالى عن حرمةِ التحجيزِ

من يفته سُكْرُ الطلا يلقَ فيه ... شكْر من لا بإهنة الحَد جوزي

ختمه المسك بالصلاة على مَنْ ... خص في فتحِهِ بنصير عزيزِ

ولمولانا الشريف أبي نمي نفسه معارضاً قصيدة التلعفري التي مطلعها: من الكامل:

سَمَحَتْ بإرسالِ الدموعِ محاجري ... ............

فقال طاب ثراه: من الكامل:

نَامَ الخلىُ فَمَنْ لجفني الساهرِ ... إذْ باتَ سلطانُ الغرامِ مُسَامِرِي

جَفَتِ المضاجعُ جانبيَ كأنما ... شوكُ القتادِ على الفراشِ مباشِرِي

وتأججَتْ نارُ الغرامِ وأضرمَتْ ... بين الجوانحِ في مكن سرائرِي

وشجيتُ من ألم الفراقِ وخانني ... صَبرِى الوفئ على الخطوبِ وناصِرِي

أُفٍّ على الدنيا فما مِنْ معشرٍ ... إلا وأودَتْهُم بخطبٍ قاهرِ

فى كل يومٍ للنوائبِ غارة ... أيدي النوائبِ هن أغدرُ غادرِ

خلَتِ المنازلُ من أُهَيْلِ مودتي ... وهُمُ هُمُ في الحي قرة ناظرِي

أهلُ الصفا بين الصفا وطويلعٍ ... ملقى جياد وفيض أشعب عامرِ

يا أهل ودي لو تروني بعدكُمْ ... كغريبِ قومٍ بين أهلي حائرِ

كانوا فبانوا ثُم بان تجلدي ... ومصيرهم لا بُد منه لصائِرِ

من بَعْد جيرانِ الصفا أهلِ الوفا ... سمحَتْ بإرسالِ الدموعِ محاجري

وقال العلامة باكثير أيضاً يمدحه، ويمدح أولاده الشريف حسن، والسيد ثقبة، والسيد بركات، والسيد راجح، والسيد بشير - رحمهم الله أجمعين - : من الخفيف:

أعيون رَنَوا بها أم صفاحُ؟! ... وقدود ماسُوا بها أم رماحُ؟!

وثغورْ تلألأتْ أم بروقٌ؟! ... وثنايا تبسمَتْ أم أقاح؟!

وبدور تضيء في جنحِ ليل ... أم شعورٌ فيها وجوهٌ صباحُ؟!

وعيون جفوفهن سيوف ... أم لحاظْ أحداقها أقداحُ؟!

وظباء حلُوا الغضا وأشبوا ... نارَهُ في جوانحي أم ملاحُ؟!

ومهاة منهن قد فوقَت لي ... سهم قَوسِ من حاجبِ أم رداحُ؟!

غادة عذبةُ المراشفِ لميا ... في لماها شهد مذاب وراحُ

لي ببردِ الرضابِ منها اغتباق ... وبظلمِ الشنيب منها اصطباحُ

صاحِ مالي إلا أبل أجاجاً ... من دموعي والثغرُ عذب قراحُ

طفلة لحظها يتيحُ المنايا ... حينَ ترنو به عيونَ وقاحُ

مدنفات تكسو المحب سقاماً ... فاتكات فهن كسرى صحاحُ

في رديني قدها ولحاظَي ... مقلتَيها السيوفُ والأرماحُ

حكَتِ الغصنَ والمتيم منها ... شابه الورق شجوه والنواحُ

وهو في حبها الأمينُ ولكن ... خانه فيه طرفُها السفاحُ

وأبو طالبِ الوصال فؤادي ... قد كواه من هجرها الضحضَاحُ

إن تفض مقلتي دماً لا عجيب ... فحشايَ لقَد ملاه الجراحُ

عاذلي اقصِر فلق يضركَ غي ... كان مني ولم يفدكَ صلاحُ

لذ فيها ذُلى فعندي سواءً ... في هواها الإفسادُ والإصلاحُ

إن تثنت تريكَ غصناً وحقفاً ... ومساءً من تحته الإصباحُ

ردفُها قال للكثيبِ تأخر ... لستَ وَزني فلي عليكَ الرجاحُ

مسندات لنا اعتدالاً وجوراً ... عن قنا قَدها العوالي الصحاح

قد قَسَت مهجةً ورقت خدوداً ... كاد من لحظنا عليها انجراحُ

يعتريها الحيا فتخجَلُ لكن ... جَفنها يعتريه منه انفتاحُ

يا لها من عقيلةٍ دون مرمَى ... خدرِها كم غدَت وما تستباحُ

طلبَت زورتي اختفاءً لئلا ... يعتريها من الوشاةِ افتضاحُ

كيفَ تُخفي زيارتي وهي شمس ... والليالي ضياؤُها فضاحُ

من محيا أبي نمي أضاءَت ... فهو بدر وكوكب وصباحُ

ملك جوهرُ الرسالةِ تاج ... لعلاه وللفخارِ وِشاحُ

قد تحلى به وَزَانَ حُلاَهُ ... إتزازً بفخره واتشاحُ

وَبَنى في مفارقِ الملكِ داراً ... طابَ فيها غدوهُ والرواحُ

حل فيها مراتباً ما لفكرٍ ... لتمني إدراكهن طماحُ

خدمته العلياءُ طوعاً وأمسَت ... ولها عن سوى علاهُ جماحُ

وله همةٌ يضيقُ بها الده ... رُ وفي صَدرِهِ لديها انفساحُ

لعلاها تعنو الدراريْ ولكن ... حاسداها العواءُ والنطَاحُ

راحتاه للصيدِ منها ارتياعٌ ... مثل ما للعفاةِ منها امتياحُ

إن يجد فالمَهَامِهُ الفيح بحرٌ ... أو يجلْ فالشمامُ بيدْ فِسَاحُ

حين يحمى الوطيس والبيضُ تهمي ... بالمنايا وتسلبُ الأرواحُ

وسعيرُ الوغَى يشب جلاداً ... لزنادِ المنونِ منه اقتداحُ

وأسودُ الشرا يطافُ عليهم ... كاس حَينٍ مزاجُها الأتراحُ

ووجوه الكماةِ والشوس فيه ... قد عراها مِنَ النزالِ كلاحُ

يرد الحرب وهو طَلقُ المحيا ... ثابتُ الجأشِ بَاسِمْ مِفْرَاحُ

ويبيدُ الجيوش والأسد فيه ... زمرٌ دون عدهنَّ البطاحُ

وإذا ما وهى من الدهرِ خطبٌ ... أو مُلِمٌّ من صَرفِهِ فَدَّاحُ

لم يزل دجنه ويجلوه إلا ... رأيه فهو ثاقبٌ قداحُ

ما ذوو الشور فيه إلا ظباه ... وقناه فَهُم له نصاحُ

ألمعيُّ يكادُ بالحدسِ يدري ... ما به قد جَرَى القضاءُ المتاحُ

طوَّقَ الخَلقَ بالعطا فثناه ... لا لسانٌ إلا به صَدَّاحُ

ونداه في الخافِقَينِ يلبي ... صوت من شفَّه عَنا واجتياحُ

آيةٌ موسويَّة في يدَيهِ ... للمعالي فيها هُدىً واتضاحُ

فهي طوراً فيها زلالٌ هني ... وهي طوراً فيها سِمَام صُراحُ

ذاتُ ظهرٍ للاستلامِ وبطنٍ ... فيه للرزق والغنَى مفتاحُ

وسجاياه للزمانِ طرازٌ ... نَضدَتهُ بدرِّها المداحُ

علمتهم مديحه حينَ ضَلَّت ... في علاه الأفكارُ والأمداحُ

يا مليكاً علَت حلاه فجلَّتْ ... عن قريضٍ فيه ثنا وامتداحُ

أظهر الملك من بنيك ملوك ... هم مصابيحُ أُفقِهِ حيث لاحوا

بل تراهم ضراغماً أبرزتهُم ... غابة المُلك إذ ألَّم الكفاحُ

فإذا ما انتضيتُمُ لضراب ... أثخنوه فَهُم لديك صفاحُ

وإذا ما فوقتَهم فسهامٌ ... صائبات لمَّا تطيش القداحُ

وإذا ما هززتَهُم لطعان ... جوَّدوه فهم يقيناً رماحُ

سِيما من غزا وجاءَ بنصرٍ ... بالهنا فيه عمت الأفراحُ

حسن من به الممالك تزهو ... ولكل منها إليه ارتياح

فبه روضُهُن يثمرُ عدلاً ... ودُجَى الظلمِ من سماها يزاح

ملك إن غزا ملا الأرضَ جيشاً ... وإذا ما سخا ملاها السماح

زاد تشريف مَكة حين أمسَى ... وَهوَ فيها مليكُها الجحجاحُ

وكذا طيبةُ الشريفةُ زادَت ... منه طيباً فعرفها فَياحُ

رُب عزمٍ يصيرُ الماء جمراً ... يستعيرُ المضاءَ منه السلاحُ

فالقلاعُ المحصناتُ الرواسي ... ما لها غَيرَ عزمه فتاحُ

بالخميس الذي تميد الأراضي ... منه يفنيه عضبُهُ البضاحُ

فإذا العادياتُ هيجن نقعاً ... وملا الجحفَلينِ منه الصياحُ

وأدارَت يد الهياجِ كئوساً ... ليس فيها إلا المنية راحُ

فتراه ثَبتَ الجنانِ قوياً ... جأشه معلماً عراه انشراحُ

وترى القَومَ منه إما قتيل ... أو صريع قد أثخنته الجراحُ

مذ أحست بغزوه القوم آبوا ... ولكل من رعبه ذبَّاحُ

واستذلُوا وأذعنوا وأطاعوا ... ورأَوا أن قتلهم يستباحُ

وآتوا خِيفةً وإلا لكانوا ... جيفةً ما ترَى لهم أشباحُ

ولأمسَت حصونُهُم دارساتٍ ... دِمَناً قد سَفَت عليها الرياحُ

ولأضحَوا قوتاً لكل الضواري ... للذي منسر له أو جناحُ

ولسالَت منها الدماء بحوراً ... لمذاكيه كان فيها سباحُ

لكنِ العفوُ منه مذ كان طَبعٌ ... وله الصفحُ شرعةٌ وصلاحُ

فعفا رافعاً يد القتلِ عنهُم ... وله الخيلُ والظبا واللقاحُ

فهنيئاً له بنصرٍ وفتحٍ ... ما له في الحروبِ عنه براحُ

لم يزل مالكاً له أنتَ ظهر ... وله صنوه الكريمُ جناحُ

ذو المعالي أبو شهاب المرجى ... من لدى جودهِ الغيوثُ شحاحُ

ثقبةُ الملك والندا من علاه ... لا يداني وماله مستباح

لم يزل في معارجِ المَجدِ يرقَى ... ما لمجدٍ عن راحَتيهِ براحُ

روضةُ المكرماتِ منه رباها ... مزهر وَهوَ قبله صَوّاحُ

رَأس أهلِ العطا فكعب الأيادي ... دونه ما عَلَيَ في ذا جناح

أَقسمَ الجود أن تبرّ نداه ... لم يزل وهو هاطل سحاحُ

قد روى عنه نافع ويسار ... وعطاء وواصل ورباحُ

ثَبتَهُم عند ما تُثِيرُ المذاكي ... عثيراً ممكناً عليه المراح

والمنايا مِنَ الأسنةِ ترنو ... ولها ضيغَم الوغَى لماحُ

يلجُ المعركَ المؤجَج طعناً ... من لظى الموتِ جمره لفاحُ

ويبيد الجيوشَ منه بعضب ... فوق غربيه للنفوسِ انسياحُ

لم يضارعهُ في معالِيهِ إلا ... غرةُ العترةِ الصميمُ الصراحُ

بركات إنسان عَين المعالي ... من لقاه للآملين نجاحُ

قد تفَيا روضَى معال ومجدٍ ... وأظلَتهُ منهما أدواحُ

كفه للعفاةِ بحرٌ خضم ... ليس فيه وليسَ منه انتزاحُ

ضيغَم عندما المهند يغدو ... وهو للسفكِ سائل ملحاحُ

وصليلُ السيوفِ والسمرِ تشدو ... في مغارٍ قد طال منه الصياحُ

يتلقى الهيجا بغرةِ وجهِ ... زاد منها وقتَ الهياجِ اتضاحُ

ويخوضُ الوغَى فترضى المذاكي ... عنه والمرهفاتُ والأرماحُ

والهزبرانِ راجح وبشير ... في محياهما الهدَى والفلاحُ

فهما ضيغما نزالٍ وبَحراً ... كرم فيهما السطا والسما

من شذا المصطفَى وريحانَتَيهِ ... طِيبُ ريا ثناهما النفاحُ

فابق والملك بدره في علاكُم ... كامل النور ما أضاء الصباحُ

وهناء ثانٍ بصومِكَ مَع ما ... كان فيه فَهوَ الحلالُ المباحُ

فعلى أجزَلِ الأجورِ صيام ... وعلى أجملِ السرورِ نكاحُ

ولعلياك عَبدُ بابك يُنهِي ... خبراً ذكره لديكُمْ يباح

لرجائي على معاليكَ وعد ... عند ذكراه مطمعي يرتاحُ

لك فَهْمُ وليس يطلبُ مني ... يا إياسَ الذكا له إيضاحُ

فارقَ فَرْقَ العلا وهاكَ قريضاً ... سبكَت تبره القوافي الفصاحُ

فأعرهُ طرفاً ليشرفَ منه ... لفظُ مبناه والمعاني الصحاحُ

بشذا المسكِ من ذكِيِّ صلاتي ... طابَ منه خَتمٌ وطابَ افتتاحُ

فأما الحسن بن أبي نمي بن بركات فكان خليفة الحرمين، شريف الطرفين، أمه الشريفة الحسيبة، السيدة النسيبة فاطمة بنت بساط.

حملت به أمه عام وفاة جده بركات بن محمد في عام أحد وثلاثين وتسعمائة.

قال الإمام عبد القادر الطبري في نشآت السلافة: ولقد أخبرني الشريف حسن رحمه الله تعالى شفاهاً أن والدته حضرت حنوط جده الشريف بركات وهي حامل به فأثر فيها عرف الكافور، وما زالت تلقى الدم حتى خشي على ما في جوفها من الحمل، إلى أن كان شهر ربيع من عام اثنين وثلاثين وتسعمائة، أخذها ما يأخذ النساء من الطلق، فولدته بعد اليأس، وذهب بظهوره عن الناس كل بأس.

فلا شك أنه كان محفوظاً بالعناية الصمدانية حيث سبق في علم الله تعالى جعله خليفة في الأرض، مالك الطول منها والعرض.

مصلحة منه للعباد عامة، ونعمة عظيمة تامة، ينشر على العالم لواء عدله، ويسبغ عليهم جلباب كرمه وفضله، ويحيى مآثر جده المصطفى، ويذكر بأقضيته ما اندرس من أخبار عدول الخلفا، ويظهر سر حكمته، وخفي قدرته، في افتتاح هذا الدين لأقوم، بمحمد صلى الله عليه وسلم، وختمه بأهل بيته المخصوصين من بين الناس، بتولي الله تعالى تطهيرهم من الأرجاس.

وما زال - رحمه الله تعالى - صاعداً في نيرى المعالي، صادعاً قلوب أعدائه بالصعدات العوالي، لائحة عليه مخايل السعادة وهو في مهوده، طالعة من أفق سيادة كواكب مجده وسعوده.

متلمحاً فيه خصال الغر الصيد، مترقباً منه أن يكون في البسالة صاد الصناديد.

فما برح وهو في حجر والده مؤدياً له الحقوق، رافعاً أخمصه الشريفة على هام العيوق، باذلاً له الطاعة، ساعياً في مرضاته بحسب الاستطاعة، ممتثلاً ما يصدر من الأوامر المطاعة، إلى أن لبس أخوه أحمد خلعة الإيالة والإمارة.

فلبس سيدنا الخلعة الثانية لتكوق على ولاية العهد بعد أخيه أمارة.

فاستمر كذلك حتى توفي أخوه الشريف أحمد، فرفلت إليه الخلافة في جلبابها الضافي، وأورده الملك الباذخ موارد منهلها الصافي، بسعي أبيه المرحوم الشريف أبي نمي في عام 961 إحدى وستين وتسعمائة، فلبس الخلعة الأولى، فكان بها أولى.

فلم يزل مشاركاً لوالده أبي نمي في الأمر يدعي له معه على رؤوس المنابر، والتوقيعات السلطانية العثمانية إنما ترد باسمه، والتشاريف الخنكارية إنما تصل برسمه.

ولما كان يوم الخميس الثامن من جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وتسعمائة ورد الخبر إلى مكة المشرفة بوفاة مولانا السلطان سليمان خان، وكان الواصل به سمندر جاشنكير السلطان سليم والده أرسل إلى بلاد اليمن لإعلام مراد باشا صاحب تعز والتهائم وإلى رضوان باشا صاحب صنعا والجبال، وكان لليمن إذ ذاك باشتان.

وهذا الانشقاق هو سبب العصيان والشقاق بأرض اليمن بعد أن كان لا يحكمها إلا باشا واحد من حين فتحها، ولكن كذا قدر.

فوصل سمندر المذكور، واجتمع بالأمير الدفتردار إبراهيم المأمور بعمارة عين عرفة، فأخبر بموت مولانا السلطان، فطلب إبراهيم الأمير قاسم بك نائب جدة، وأمين عمارة المدارس السلطانية السليمانية، واتفقا على الإرسال للقائد محمد بن عقبة حاكم مولانا الشريف حسن بمكة، ليخبروه بذلك، فأرسلا إليه فوصل فأخبراه، فأرسل القائد من وقته مورقاً إلى مولانا الشريف حسن، وكان بالخلصية، وأرسل الآغا محمد بن يونس باش الترك عسكر مولانا الشريف حسن مورقاً آخر، فوصل المورقان إلى الخلصية يوم الجمعة، فركب مولانا الشريف حسن، وتوجه إلى مكة، وكان الأمير إبراهيم والأمير قاسم أرسلا مورقاً إلى القاضي الحسين المالكي وكان بجدة، فركب ووصل إلى مكة يوم الجمعة، واتفقت الآراء أن يخطب الخطيب باسم السلطان سليم ابن المرحوم السلطان سليمان خان، وكانت نوبة السيد أبي حامد النجاري، فأمروه أن يذكر في الخطبة هذه الألقاب: " اللهم وجدد نصرة الإسلام والمسلمين، وشيد قوائم أركان الدين المتين، ببقاء من جددت به أمر الخلافة العظمى، وشرفت بمقدمه تخت السلطنة والملك الأسمى، واخترته خير خلف عن خير سلف، وعوضت به خير عوض عمن درج إلى رحمة الله تعالى وسلف، وآتيته ما لم تؤت كثيراً من العالمين، ومكنته من سرير السلطنة والخلافة أعظم تمكين، وأورثته الخلافة الكبرى كابراً عن كابر، وملكته الإمامة العظمى والسلطان الباهر، وأنرت ببراهينه من مشكاة السعادة سراجاً وهاجاً، وفتحت به للرعية أبواب الأمن والإيمان فطفق الناس يدخلون في دين الله أفواجا.

السلطان الأعظم، والخاقان الأكبر الأفخم، مولى ملوك العرب والعجم، مستخدم أرباب السيف والقلم، ملك البرين والبحرين، سلطان المشرقين والمغربين، خاقان الخافقين والجديدين، خادم الحرمين الشريفين، السلطان ابن السلطان ابن السلطان، السلطان سليم خان، ابن عبدك وفقيرك المندرج إلى رحمتك بقضائك وتقديرك، سلطان سلاطين الزمان، خاقان خواقين الدوران، الفائق بعدله عدل كسرى أنوشروان، المنقاد إلى شرعك الشريف، الممتثل لأوامرك النافذة ودينك الحق المنيف، الواقف عند مراد الله فلا يتعداه، العامل في جميع أموره بتقوى الله، مراعي العمل والإحسان فيمن استرعاه، المجاهد المرابط في سبيل الله، الغازي الذي استوعب عمره في الجهاد كآبائه الغر الغزاة، الذي خرج من بيته مهاجراً، فأدركه الأجل المحتوم، واصطفاه الله إليه وتوفاه.

الداخل في زمرة من أنزل الله في شأنهم بثوابه لهم ورضاه " وَمَن يخرُج مِن بيتِه مهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسوله ثمَ يدٌركهُ اَلموتُ فَقَد وقع أجره على الله " النساء: 100 المرحوم برحمة الله الملك الرحمن، السلطان سليمان خان، أنزل الله عليه شآبيب الرحمة والغفران، وقدس روحه الشريفة وحفه بالروح والريحان، وجعل الملك كلمة باقية في نجله السعيد، وعقبه المديد إلى يوم القيامة، وأعد له ولآبائه الكرام ما يليق بكرمه من أنواع العز والكرامة، يا رب العالمين " .

ثم وصل مولانا الشريف حسن في يوم الاثنين هو وأولاده وبعض إخوته والأشراف ذوي محمد، وسلم الناس عليه، ثم أمر بالنداء على المآذن بالصلاة جامعة في غد على السلطان سليمان، فلما كان صبح يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى حضر مولانا الشريف حسن ومعه السادة الأشراف، وجميع الفقهاء الأعيان، وامتلأ المسجد بالناس، وجلس الشريف حسن بمصلاه إلى أن طلعت الشمس، فوصل إليه الأمير إبراهيم الدفتردار، والأمير قاسم نائب جدة وسمندر جاشنكير فقام لهم، وجلسوا كلهم عن يمينه، ثم حضر الأفندي وجلسوا عن يمين الشريف فوق الأميرين والجاشنكير، وكان على يسار الشريف أخوه مولانا السيد بشير وتحته القاضي الحسين المالكي، فبعد ارتفاع الشمس قدر رمح، قاموا وتوجهوا إلى الكعبة الشريفة، ووقفوا عند الباب الشريف، فأثار مولانا الشريف حسن إلى مولانا القاضي الحسين أن يتقدم لصلاة الغائب، ونادى الريس من أعلى زمزم بهذه الخطبة وهي الصلاة على الميت الغائب العبد الفقير إلى الله، المجاهد في سبيل الله، المرابط لإعلاء كلمة الله، الذي خرج من بيته مهاجراً إلى الله، المستوعب جميع عمره في قتال أعداء الله، القائم بنفسه وماله وجنوده لنصرة دين الله، الواقف عند مراد ربه فلا يتعداه، المراعي للعمل والإحسان فيمن ولي عليه واسترعاه، المعظم لشعائر بلد الله الحرام، المؤيد لآل النبي عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

المتخذ ودهم ذخيرة عند الله تعالى في العقبى، عملأ بقوله تعالى: " قُل لا أسألكم عليهِ أجراً إلا المودة في القربى " الشورى:23 القامع لأعداء بيت النبوة والرسالة، والمفيضى على الحرمين الشريفين مكارمه وأفضاله، السلطان الأعظم سليمان خان، أنزل الله على شآبيب الرحمة والغفران، وجعل قبره الشريف روضة من رياض الجنان، وحف تربته الشريفة بالروح والريحان.

ثم بعد الفراخ من الصلاة توجهوا أجمعين إلى مصلى الشريف عند باب الحزورة فقسمت الربعات، ثم دعا لمولانا السلطان سليمان، وأهدى ثواب ذلك إليه، ثم دعا لمولانا السلطان سليم، فعلوا ذلك ثلاثة أيام، ثم ختموا يوم الخميس منتصف الشهر المذكور.

وكان خروج مولانا السلطان سليمان لهذه الغزوة التي توفي فيها حادي عشري ذي القعدة الحرام من سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة رحمه الله تعالى.

واستمر مولانا الشريف حسن إلى أن انتقل والده الشريف أبو نمي إلى رحمة الله تعالى في أول عام اثنين وتسعين وتسعمائة، فاستقل بالملك وأعبائه، وشد أزره بالتدبير من سائر جهاته وأنحائه، واستخدم الحزم في شدائد الأمور الشاسعة، وسك في محجته الطريق الواضحة الواسعة، فصير ولاية الحرمين خلافة، ومهد القواعد السلطانية والقوانين الحسنية بدون مخافة، وجلس على سرير الملك جلوس متمكن، وبذل الهمة في إصلاح الرعايا بكل وجه ممكن، واستصحب الإقدام في صعائب الأمور، وثبت الأقدام في المواقف التي تهب له بالقبول ولأعدائه بالدبور.

وظهر به شأن أهل بيت النبوة من الشجاعة والقوة.

وأذكر بما أبداه من شريف المناقب، أحوال جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

وله الاراء السديدة والغزوات العديدة، في المواطن القريبة والبعيدة، يساعده فيها السيف والقدر، ويخدمه الفتح والظفر، طالما كشف بغزواته كل غمة، وأوضح من الخطب كل واقعة مدلهمة، ووطئ بحوافر خيله سباسب تضل فيها الخطا، وأودية لا يهتدي إليها القطا.

كم فتح بعزمه حصناً صعب المرقى، واقتحم بخيله ذروة لا يصل إليها نظر الزرقا، يتصرف في السعد كأنه عبد بابه، ويتأمر في الظفر كأنه لازم ركابه.

وله السرايا الكثيرة، وهي عن التفصيل غنية شهيرة. لم يؤمر فيها إلا أولاده النجباء، وقل ما أمر غيرهم من الأقرباء.

وكل سراياه لا تعود إلا بالنصرة التامة، وتنبئ في سائر الآفاق عن البشائر العامة. وقد بعث جماعة من أولاده الكرام.

وممن بعثه منهم فأبان عن الفعل الحسن، السيد الحسين بن الحسن.

ومنهم الشريف أبو طالب المصاحب للنصرة، فقد أرسله وعاد بالظفر غير ما مرة.

ومنهم السيد مسعود، فحصل بإرساله السعود.

ومنهم السيد عقيل، فنال في مبعثه غاية التأميل.

ومنهم السيد عبد المطلب، فأصبح بتجهيزه للسؤدد مجتلب.

ومنهم الشريف عبد الله بن الحسن، فكان بعزمه إصلاح جهات اليمن.

وجميع غزواته وسراياه بالنصر مقرونة، وطوالع طلائعه بالحروب ميمونة.

ما اتفق له في شيء منها انكسار، ولا ذمت له في عجاج معاركها إذا ثار آثار. فأما العلماء، فنشروا على رؤوسهم علم المفاخر، وتوجوا لديه بالوقار، ولحق أولهم الآخر.

فخدموا خزائنه المعمورة بالتآليف الحسنة، وأتوا جنابه بالتصانيف اللطيفة في كل سنة.

وأما الشعراء فانتظموا في زمانه انتظام دراري الإكليل، ولبسوا في أيامه ثوب كل فخرجميل.

وقصدوا جوده العميم من سائر الأقطار، ولو جمع جميع مدائحه لكانت أسفاراً كباراً.

ولو قال قائل: إنه يمدح في كل عام بنحو الألف، لأنصف في قوله وما جازف. ولم يزل يتوالى عليهم بره، وما انفك متواترا عليهم لطفه وعطفه وبشره.

يجيز على التأليف بالألف الدينار والأكثر. وينصف الشخص على التصنيف بالمبالغة في الثناء الأعطر.

وما برح يترقى في مصاعد السعد، ويتخطى بأخمصه هامة المجد.

ناشراً راية عدله على مفرق الليالي والأيام.

مقلداً جواهر فضله جيد الأنام.

ولما كان سابع عشر محرم سنة واحدة بعد الألف، حضر مولانا السيد مسعود ابن الشريف حسن، وهو أكبر أولاده بعد السيد حسين بن الحسن نيابة عن أبيه الشريف حسن بالمسجد الحرام، وحضر أكابر العلماء والأعيان لقياس طول الكعبة من داخلها لورود أمر مولانا السلطان محمد بن مراد بذلك ليعمل لها كسوة، فذرعت بالذراع الحديد المصري فعملت وأرسلت.

وورد أمر شريف منه أيضاً أن يخمن ما يحتاج إليه في ترخيم المطاف الشريف، فذرع المطاف الأسطى سفر المعمار والمعلم محمد البحيري المهندس، فكان ذرعه مكسراً بحساب الطرح ذراعاً في ذراع ألفين وخمسمائة ذراع، وقالوا كل ذراع يحتاج إلى أربعة دنانير يكون جملة ذلك عشرة آلاف دينار.

وكان ذلك التخمين في تاسع عشري جمادى الأولى سنة اثنتين بعد الألف.

ثم الذي تحرر عليه القول أن المطاف أربعة آلاف ذراع صرف عليه عشرة آلاف دينار.

وفي هذه السنة توفي الشيخ ربيع بن السنباطي السالك على الطريقة الجميلة، والمالك لأزمة كل فضيلة، مدحه جماعة من الفضلاء ورثاه غير واحد من الأدباء، منهم صاحب الريحانة بأبيات خمسة آخرها بيت التاريخ وهو: من الخفيف:

قد فقدنا فيه اصطباراً فأرخْ ... كل صبرٍ محرم في ربيعِ

ورثاه مؤرخاً الشيخ حسن الشامي بأربعة أبيات آخرها التاريخ وهو: من الكامل:

وإذا ذكَرْتَ ربيعَ أيامٍ مضَت ... أرخ بشوالٍ فراقَ ربيعِ

وفي سنة ثلاث بعد الألف لست عشرة مضت من جمادى الأولى، توفي مولانا السلطان مراد بن سليم، ورثاه جماعة من الفضلاء، منهم الشهاب أحمد المرحومي المغربي فقال: من الطويل:

تهايل من رُكْنِ الصلاحِ مشيد ... بموتِ شهنشاه الملوك مرادِ

فلم يُرَ في تلك الممالكِ مالك ... مُرَادُ الورَى من بعد فَقْدِ مُرَادِي

وفي سنة أربع توفي إمام الحرمين وشيخ المصرين، من كانت العلماء تكتب عنه ما يملي، مولانا شمس الدين محمد بن أحمد بن حمزة الرملي، فاتح أقفال مشكلات العلوم، ومحيى ما اندرس منها من الآثار والرسوم، أستاذ الأستاذين، وواحد علماء الدين، علامة المحققين على الإطلاق، وفهامة المدققين بالاتفاق.

ولد سنة تسع عشرة وتسعمائة بمصر المحروسة. وله ترجمة طويلة جميلة.

وفيها توفي الشيخ علي بن محمد بن علي الشهير بابن غانم المقدسي الخزرجي، شمس العلوم والمعارف، بدر الفهوم واللطائف، قرة عين أصحاب أبى حنيفة، الراقي من معارج التحقيق أعالي الرتب المنيفة.

ترجمه الشيخ عبد الرؤوف المناوي فقال: شيخ الوقت حالاً وعلماً، وتحقيقاً وفهماً، وإمام المحققين حقيقة ورسماً.

وفي سنة ست بعد الألف: تخلف مولانا الشريف حسن بجهة ركبة، وأرسل أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة إلى أخيه السيد ثقبة بن أبي نمي يلتمس منه أن يلبس خلعته أكبر أولاده السيد مسعود بن حسن، فلما كان يوم العرضة خرجا إلى المختلع لبس السيد ثقبة خلعته وهي الثانية رتبة همز الفرس، وتقدم إليها فلبسها متقدمه، ثم قال للداودار: احفظ خلعة سيدك، فلم يلبث السيد مسعود أن توفي غيظاً للنفس الأبية والشيم الهاشمية، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وبنيت على قبره قبة عظيمة باقية إلى الآن.

وفي سنة سبع بعد الألف: توفي العلامة خضر بن عطاء الله الموصلي.

قاد فيه في الريحانة: كعبة فضل مرتفعة المقام، تضمنت ألسن الرواة التزامه، فلله ذلك المتضمن والالتزام.

أقام بمكة مع بني حسن مخضر الأكناف، وصنف باسم الشريف حسن كتابه شرح شواهد الكشاف.

قلت: رأيت بخط جدي العلامة جمال الدين العصامي ما نصه: أشرفني المولى خضر بن عطاء الله على وصلٍ كتب له بأمر مولانا الشريف الحسن بن أبي نمي صورته: الحمد لله. حسن بن أبي نمي: يا أبا محمد ريحان بن عقبة الدويدار سلمك الله.

اعط العلامة المفيد الفهامة خضر أفندي ألف ذهب جديد نصف ذلك حفظاً لأصله خمسمائة ذهب، وهي جائزة كتابي الذي صنفه باسمي. الله الله.

كتبه صبيح بن مقبول بأمر سيدنا ومولانا الشريف أيده الله بتاريخ عشر جماد أول سنة، 1003 وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وبخط مولانا الشريف بيده: الله الله يا ريحان في نجاز ذلك بسرعة انتهى.

رحم الله الجميع ومن شعر خضر المذكور قوله: من الطويل:

تبدلْ عنِ البرشِ المبلدِ بالطّلاَ ... فعالمُ أَهْلِ البرشِ غمْرٌ وجَاهِلُ

فما البرشُ إنْ فتشتَ عن كنهِهِ سوَى ... دويهيةٌ تصفَر منها الأناملُ

وفي سنة سبع بعد الألف طلب الشريف أبو طالب من أبيه الشريف حسن أن يتخلف بالمبعوث ليلبس هو الخلعة، فخرج مع عمه السيد ثقبة إلى المختلع، فتقدم الشريف أبو طالب ولبى الخلعة الأولى خلعة والده متقدماً على عمه، ثم لبس السيد ثقبة الخلعة الثانية، فوقع له ما وقع بسببه لابن أخيه، وأورد مورده الذي كرع فيه، فتوفي إلى رحمة الله تعالى حادي عشر صفر من السنة التي بعدها أعني سنة ثمان بعد الألف.

ومولانا السيد ثقبة أكبر إخوان الشريف حسن.

كان مولده سنة خمس وعشرين وتسعمائة.

وكان رجلاً عاقلاً صبوراً، متحملاً كثير الملايمة والتودد إلى الناس.

وله فضيلة وشعر حسن ومفاكهة لطيفة.

وله من الأولاد ستة ذكور وابنة واحدة. وكان مولانا الشريف حسن يراعيه الرعاية التامة، وكان له محصول كبير جداً من جهات عديدة، فلما مات قرر لكل واحد من أولاده في كل شهر ألف أشرفي فضة غير المقررات السابقة وللبنت خمسمائة أشرفي، وقال لهم: إن والدي الشريف أبا نمي - رحمه الله تعالى - لما فرغ بالسلطنة اختار أن يكون مقرره في كل شهر ألف أشرفي، وأنا أقمت لكل واحد منكم ألف أشرفي عوض الجهات التي كانت لوالدكم أعني من المعشرات، وخراج الأراضي، فإن تلك لائقة بصاحب الأمر.

والله يلهمكم الصبر، ويعظم لكم الأجر.

وفيها توفي رئيس الأطباء داود بن عمر الأنطاكي المتوحد بأنواع الفضائل، والمنفرد بمعرفة علوم الأوائل.

شيخ العلوم الرياضية، سيما الفلسفية، وعلم الأبدان، القسيم لعلم الأديان؛ فإنه بلغ فيه الغاية التي لا تدرك، وانتهى إلى الغاية التي لا تكاد تملك.

له فضل ليس لأحد وراءه فَضلَة، وعلم لم يحز أحد في عصره مثله.

يكاد لقوة حدسه يستشف الداء من وراء حجابه، ويناجيه بظاهر علاماته وأسبابه.

حكى أن الشريف حسن لما اجتمع به أمر بعض إخوانه أن يعطيه يده ليجس نبضه، وقال له الشريف حسن: جس نبضي، فأخذ يده فقال: هذه اليد ليست يد الملك، فأعطاه الأخ الثاني يده، فقال كذلك، فأعطاه الشريف حسن يده، فحين جسها قبلها، وأخبر كلا بما هو متلبس به.

وحكى أنه استدعاه لبعض نسائه فلما دخل قادته جارية، ولما خرجت به قال للشريف حسن: إن الجارية لما دخلت بي كانت بكراً، ولما خرجت بي صارت ثيباً، فسألهما الشريف، وأمنها فأخبرته أن فلاناً استفضها قهراً فسأله فاعترف بذلك. وحكى العلامة شيخنا الشيخ محمد البابلي أن داود الحكيم المذكور مر ببعض الحارات التي يسكنها الضعفاء والفقراء بمصر، فسمع صوت مولود حال ولادته، فقال: هذا صوت بكري، فتفحصوا عن ذلك فوجدوه كما قال، وذلك أن بعض البكريين تزوج ببنت فقير خفية، ووافق حال ولادتها مرور المذكور.

وله ترجمة طويلة في الريحانة وغيرها.

وفي يوم الخميس سادس عشرى جمادى الآخرة من سنة ثمان بعد الألف قبيل المغرب بقليل: أمر مولانا الشريف حسن الشيخ عبد الكريم بن محب الدين القطبي أن يكتب إلى الباب العالي بتوجيه الأمر إلى أكبر أولاده مولانا الشريف أبو طالب، فبعد أن كتب العرض أشار مولانا بتأخيره إلى ما بعد الموسم، ثم أرسل أوائل سنة تسع فأجيب إلى ذلك، ووصل الأمر الشريف السلطاني - أواخر السنة المذكورة - بأن يكون مولانا الشريف أبو طالب مشاركاً له، ودُعِيَ لهما على المنابر.

وفي يوم الإثنين سابع ذي الحجة الحرام منها أعني سنة ثمان كانت عرضة المصري، وأمير حاجه بيري بك، فتوجه مولانا الشريف حسن إلى العرضة هو وأولاده، فلما وصل المختلع أشار أن يلبس خلعة المصري مولانا الشريف أبو طالب، فلبسمها وقبل يد والده.

وأن الخلعة الثانية التي كان يلبسها أخوه السيد ثقبة بن أبي نمي تلبس لثاني أولاده السيد عبد المطلب بن حسن فلبسها، ثم جاء الأمير المذكور إليهما فتحايوا تحية الإسلام، ثم توجه الأمير واستمروا موالينا واقفين إلى أن وصل الأمير طماس أمير الحاج الشامي، فلبس مولانا الشريف حسن الخلعة التي معه ودخلوا ثلاثتهم لابسين الخلع ولم يعهد قبل مثل ذلك، وسبب ذلك توافق أمير المصري والشامي في المنزل بالمختلع في ذلك اليوم.

فألبس الشريف حسن ولديه خلعة المصري وثانيتها، وأشار إلى أمير الشامي بأن يتهيأ ليعرض له في ذلك الوقت لضيق الزمان والاحتياج إلى العرضة لأمير اليماني في اليوم الثاني، وهذا تَدْبِيز حَسَنٌ لأنه تَدْبِيرُ حَسَنٍ.

ثم في اليوم الثاني، وهو الثامن من ذي الحجة: توجه موالينا الأشراف لاستقبال المحمل اليماني، فلبس الشريف أبو طالب القفطان الأول، والسيد عبد المطلب القفطان الثاني، وأمير الحاج اليماني الأمير فرحات الشهير باليازجي وهو من أقارب الوزير حسن باشا صاحب اليمن، فاستمر الشريف أبو طالب على ذلك إلى أن توجه والده الشريف حسن، وكان مقيماً بالمحل المعروف بالبردان، فتوجة منه غازياً إلى جهة نجد في ثامن ربيع الآخر سنة عشر وألف. والفريق مقيم بالمبعوث مشمولاً بنظر الشريف أبي طالب تحت نهيه وأمره، وأمر بضرب النوبة على بابه السعيد. واستمر الشريف حسن ذاهباً إلى أن وصل إلى محل يسمى فاعية فأقام به مدة من الزمان.

ولما كان يوم الثلاثاء غرة جمادى الآخرة من السنة المذكورة أصبح متوعكاً، إلى أن كانت ليلة الخميس ثالث الشهر المذكور انتقل إلى رحمة الله تعالى أثناء الليلة المذكورة، فأخفى موته عن الحريم والخدم والصغار والحشم إلى أن طلع الفجر، فأظهر ذلك وحمل في تختروانه الذي كان يركبه في حياته على البغال، وقد حصلت علامات ذلك من عصر يوم الأربعاء حتى إن أبناءه الذين كانوا معه بذلك المحل أعدوا البغال والبراذين في المنازل صوب مكة؛ لغلبة ظنهم بوقوع الوفاة، وبعد المسافة عن مكة لتكون كخيل البريد المسماة في عرف الأروام ولاقاً، وكان ذلك رأياً حسناً.

فلما توفي جدوا به في المسير فساروا يوم الخميس وليلة الجمعة ويومها، ووصلوا به إلى مكة في أوائل النصف الثاني من ليلة السبت، ولولا مفارقتهم الطريق بموجب الظلام والمطر والغيم، وتعويق السيل لهم في بعض الأماكن - لأمكنهم في دخول يوم الجمعة، مع أن المسافة تزيد على عشرة أيام، وما كان هذا التيسير إلا كرامة للمرحوم، لسرعة وصوله إلى البلد الحرام، وذهب الخبر بوفاته من حينها إلى الشويف أبي طالب بجهة المبعوث، فبمجرد وصول الخبر إليه قصد مكة، وخلف السيد عبد المطلب لحفظ المراح ومن فيه فدخلها ليلة السبت في أول الثلث الثاني قبل دخول جنازة والده، وبمجرد وصول الجنازة شرع في التغسيل والتكفين، وصلى عليه بالمسجد الحرام قبل الفجر، ودفن بالمعلاة، وبنى عليه قبة عظيمة باقية إلى الآن، رحمه الله تعالى رحمة جمة، ووالى عليه صيب الرضوان والرحمة.

مات وله من العمر تسع وسبعون سنة، ومدة ولايته مشاركاً لأبيه أبي نمي، وولده أبي طالب، ومستقلاً نحو خمسين سنة.

وفيها توفي السيد عبد المطلب بن حسن، كان على غاية من الكمال، ومن مشاهير الأبطال، وكان يلبس الخلعة الثانية في حياة أبيه، وكان والده يعتمد عليه في الأمور العظام، ويفتخر به في كل محفل ومقام - رحمه الله تعالى.

وفيها توفي القاضي علي بن جار الله الحنفي المكي القرشي.

انتفع به جماعة: منهم شيخ الإسلام عبد الرحمن، وأخوه القاضي أحمد ابنا عيسى المرشدي، والإمام عبد القادر بن محمد الطبري وغيرهم.

له تصانيف عديدة مفيدة، منها: حاشية على التوضيح، وحاشية على شرح إيساغوجي لشيخ الإسلام زكريا، وتذكرة مفيدة، وفتاوي لكنها غير مجموعة، وديوان شعر منه قوله: من السريع:

قُلتُ لشهرِ الصومِ لما دنا ... مودعاً مني وداعَ الصديقْ

سَلمْ على الموسم باللهِ لي ... وقُل له أقبِلْ فهذا الطريقْ

قلت: ما ألطف قوله أَقبل... إلخ، كأنه يشير إلى أنه كعقبة في الطريق كانت فزالت.

وفيها توفي الملا صفي الدين بن محمد الكيلاني، المكي الشافعي، الطبيب الألمعي، الأريب اللوذعي، أفلاطون زمانه.

شرح خمرية سيدي عمر بن الفارض شرحاً مفيداً جعله باسم مولانا الشريف حسن، وأجازه عليه إجازات عظيمة.

يحكى عنه غرائب، منها: أنه مر عليه بجنازة بعض الطرحاء فدعا به، وأخذ من دكان بعض العطارين شيئاً نفخه في أنف الطريح فجلس من حينه، وعاش مدة بعد ذلك، فسئل عن ذلك فقال: رأيت أقدامه واقفة فعلمت أنه حي.

ومنها: أن بعض التجار كان يطعن في معرفته، فأرسل إليه بعض الفقراء بغصن من نبات له رائحة طيبة، فلما شمه التاجر انتفخ بطنه، وعجز الأطباء الموجودون عن علاجه، فاضطر إلى صاحط الترجمة، واستعطفه فأعطاه سفوفاً من ذلك النبات بعينه فعوفي مما به.

ومنها: أن بعض أولاد الشريف حسن أصابته علة، فأمر صفي الدين المذكور أن نجعل له كوفية من عنبر، ففعلت فزالت العلة، ثم أصابت تلك العلة بعينها بعض الرعية فعمل له كوفية من ضفع البقر فعوفي، فقيل له في ذلك، فقال: نعم العلة واحدة، لكن ولد الشريف نشأ في الرائحة الطيبة، فلو عملت له من الضفع لزادت عليه، والآخر بعكسه، فداوينا كلا بما يناسبه.

وكان يأمر من أصابه مرض بالخروج من مكة، ولو إلى المنحني؛ لأن هواء مكة في غاية الاعتدال لكن رائحة البالوعات تفسده، ولهذا بنى له هناك بيتاً يسكنه من به مرض رحمه الله تعالى.

وقد رزق مولانا الشريف حسن من الأولاد نحو خمسة وعشرين ذكراً، منهم: سالم وعلي وأبو القاسم وحسين ومسعود وباز وأبو طالب وعقيل وعبد المطلب وعبد الله وعبد الكريم وعبد المحسن وعدنان وإدريس وفهد وشنبر وعبد المنعم والمرتضى وهزاع وعبد العزيز وعبيد الله وجود الله وبركات وقايتباي ومحمد حارث وآدم، ومن الإناث نحو اثنتين وعشرين: شمسية وروضة وأرينب وصمدة وبلخشة وياقوتة وفاطمة وعزيزية وزين الحبوش وريمة وجربوعة وزين الشرف وسلامة وكثيرة وفاطمة أيضاً وعزيزية أيضاً ومنى ومزنة وحريملة وهيفاء وراية وعزا وغيرهن. آخرهن موتاً ياقوتة.

ومات منهم جملة من الذكور والإناث في حياته.

وورثه سبعة عشر ذكراً وأربع عشرة أنثى.

ووزع مخلفه بين أولاده ما عدا السلاح والخيل والعبيد فعادتهم أنها لصاحب أمر بعده.

ذكر ما منحه الله من الفراسة المقتبسة من الحضرة النبوية، والخلافة العلوية. فمن ذلك: أنه سرقت الفرضة السلطانية بجدة المحمية، وضاع منها قماش له صورة وأموال كثيرة، ولم يكسر بابها ولا نقب جدارها، ولا أثر يحال عليه في معرفة المطلوب والطالب، بل حبل مسدول من بعض الجوانب، فلما عرض على حضرته الشريفة الكريمة هذه القصة العظيمة طلب الحبل المذكور ثم شمه ثم قال: هذا حبل عطار، ثم دفعه إلى ثقة من خدامه، وأمره أن يدور به على العطارين، فعرفه بعضهم، وقال: هذا حبل كان عنده اشتراه مني فلان، ثم نقله من رجل إلى رجل إلى أن وصل بشخص من جماعة أمين جدة المعمورة، ثم وجدت السرقة بعينها في المحل الذي ظنها فيه.

ومنها: أن رجلاً من التجار سرق له مال عظيم بمحل معين، فلما رفع قصته إلى مولانا الشريف حسن قال له: هل وجدت في محل السرقة شيئاً من آثار العرب؟ فقال وجدت هذه العصا، فنظر إليها الشريف فوجد بها علامة، فقال: هذه العصا عليها علامة الطائفة الفلانية، فاتفق بسعده وبركة جده حضور رجل من أعيان هذه الطائفة وبيده عصا عليها نظير العلامة المذكورة فعرفه مولانا الشريف حسن بالحال،، ألزمه بتحصيل المرام، فصدق الله فراسة مولانا المشار إليه ورجع المال لصاحبه. ومنها: أن رجلاً تاجراً عطاراً مغربيُّاً بمكة المشرفة هرب له عبد، ثم وجده فطلب العبد البيع، فأجابه لذلك سيده، فاشتراه رجل بمال عظيم ثم أعتقه، فبعد مدة فقد التاجر مالاً كثيراً من دكانه وحاصله، فرفع قصته إلى مولانا الشريف حسن، فأمره أن يخفي أمره ويترك ذكره. ثم سأل عن مشتري العبد المذكور هل هو من أهل المال الكثير حتى يشتري مثل هذا العبد بماله ويعتقه، وهل سبق له عتق قبل ذلك؟ فأجيب بأنه لم يقع منه عتق، وليس له مال بل هو فقير يصرف الفلوس، وظهر الآن له نوع يسار، فطلب الشريف العبد على غفلة ثم خاطبه بغير واسطة، وعرض له بأنه بلغني أمانتك، وأنك نصحت في خدمة مولاك، وأنه قصر في رعايتك فطلبت البيع، وقد أصبت فيما فعلته.

وعرض عليه أن يجعله مقدماً عنده، ففرح العبد لذلك، ثم تغافل عنه مدة وطلبه ثانياً وعرض له ببخل سيده، وأنه يستحق كل ما تفعل فيه ثم قال له: بلغني أنك جمعت من مراجلك ثمنك، وأعطيته لفلان يعني المشترى، فاشتراك به ونعم ما فعلت، فصدق العبد جميع ما قال له مولانا، فأمر بحبسه بلطف وطلب المشتري، ثم قال له: مرادي أستخدم عبد التاجر المغربي الذي أعتقته.

فأجاب بشكر العبد والثناء عليه وأنه يليق بذلك، ولم يزل يتلطف به حتى أقر بما أقر به العبد، فأمر بحبسهما معاً ثم ضربهما ضرباً شديداً حتى أحضر جميع ما فقده تاجر إلا قليلاً، ثم أمر بصلب العبد والمشتري بعد التعزير والنكال الشديد فصلبا، فتعجب الخاص والعام من هذه الفراسة المسطورة.

ومنها: أن رجلين مصري ويمني تنازعاً في جارية ادعى كل منهما ملكها من غير إقامة حجة شرعية، وتحير في أمرهما سائر الحكام من أهل الشرع والعرف، فرفعت القصة إليه؟ فلما سمع دعوى كل منهما وعدهما بالنظر في أمرهما في مجلس ثان، اختلى باليمني وسأله عن اسم الحب الحنطة فقال هو البُر، ثم اختلى بالمصري، سأله عما ذكر فقال هو القمح، ثم سأل الجارية عن اسم الحب المرة بعد المرة فقال: أم بر، فلما نطقت باللغة اليمنية قال لها والقمح ما هو؟ قالت؛ لا أعرفه، فلما تم ذلك عنَّ له اختبار ما منحه الله من الفراسة، فأحضر المصري وتلطف به ووعده بعدم المؤاخذة فاعترف بأنها ملك اليمني وزالت الشبهة ببركته ووصل الحق إلى مستحقه.

ذكر بعض فتوحاته بذاته، وأولاده الكرام في حياته: أولها قصة شمر وسببها يوم الفريش: لا يخفى أن فتوحات الملوك والغزوات وما لهم من السير والسريات لا يمكن ضبط الخاص منها والعام، سيما بسماداتنا حماة البيت الحرام، وخصوصاً مولانا الشريف حسن جد صاحب هذا الكتاب. فمن ذلك قصة الفريش: وهي أنه في عام ثلاث وستين من القرن العاشر كان أمير المدينة المنورة السيد مانع الحسيني، وكان من أجل الأمراء قدراً وأرفعهم ذكراً، بلغ بمصاهرة موالينا وساداتنا حماة الحرمين محلاً منيفاً رفيعاً، وعزاً منيعاً، وشوكة قاهرة، وحرمة وافرة.

وكانت عادة أمراء المدينة السابقين يسلمون لبني عمهم من السادات بني الحسين، ولعربان عَنَزَة وضفير ونحوهم مواجب ومرتبات من الأموال الجزيلة والحبوب والأقمشة الجليلة، فمنعهم من ذلك الأمير مانع استخفافاً بهم وعدم.مبالاة، فجمع كل من الطوائف المذكورة جماعته وحضر معهم. فأما السادة الأشراف آل نعير فمقدمهم الأمير منصور بن محمد أمير المدينة المنورة، وابن أميرها سابقاً.

وأما السادة الأشراف من آل جماز فمقدمهم أولاد مولانا الأمير جماز.

وأما طائفة العريان فمقدهم الشيخ المعروف بأبي ذراع وغيره من أكابرهم.

فلما خرج ركب الحاج المدني على عادتهم أواخر ذي القعدة، وأصبحوا بوادي الفريش صحبتهم الطوائف المذكورون في جمع من الأشراف عظيم، ومن العربان بخيل وركاب مع اللبوس والزانات، وأحاطوا بالركب جميعه، وكان في الركب الأفندي الأعظم عبد الرحمن قاضي المدينة المنورة، والجناب العالي الأمير محمد ابن حسن، وشيخ الحرم المدني، وأعيان المدينة من وجوه العرب، وسادات بني الحسين، فكان موقفاً شنيعاً، ومنظراً قبيحاً وقع فيه قتل وسلب وطعن وضرب، وأهل الركب محرمون، والطوائف المذكورة مجرمون.

وسلم أعاظم الركب وأعيانه، ثم انفصلوا بعد أن التزم لهم القاضي، وشيخ الحرم المذكوران بحصول مواجبهم وعادتهم، فلما وصل خبر ذلك إلى الشريف حسن سكت على ذلك مطمناً خواطر الحجاج، حتى انقضت أيام المناسك، ثم أرسل سرية من شجعان الفرسان، وأمر عليهم السيد عجل بن عرار برسم حماية الركب المدني إلى وصوله المدينة، ثم يستمرون بها حفظاً لها، ولأهلها باطناً وظاهراً، ثم بعد ذهاب الحجيج من مكة نادى بالمسير إلى غزو الطوائف المذكورة، فخرج بذاته العزيزة في عسكر جرار وجيش كالبحر الزخار، ما بين سادة كرام وأعراب وأروام، بالخيول الملبسة والدروع، والبنادق والمدافع، والشجعان المشهورين في الوقائع والمجامع.

فلما بلغهم أن الملك المنصور الهزبر المعروف المشهور قصد اللحوق بهم على كل حال، شمروا نحو شمر، وهربوا إلى رؤوس الجبال، فقصدهم إلى منازلهم ومساكنهم، وخرب شمر المذكورة لأنه من أمنع مواطنهم، ثم قبض على أعيان الطوائف المذكورة الذين شنوا الغارة وكبل أشرافهم بالجنازير الحديد، ودخل بهم وهم أسرى بين يديه مدينة جده السعيد صلى الله عليه وسلم، وكان يوم دخوله موكب عظيم، حضره مولانا الأفندي، وشيخ الحرم المذكوران أعلاه.

وأظهر كل منهما حصول مراده وبلوغ مناه، وتعجبوا من دخول الأشراف بالزناجير، وهم من أولاد الأمراء، وتحققوا بذلك عظم مولانا الشريف، وقوة سلطانه بمدد جده خير الورى.

وكان هذا الغزو أول ظهور مولانا الشريف حسن، وقوة شأنه في ظل والده الشريف أبي نمي وأيام زمانه.

ومن ذلك قصة مضبع: سار إليه بنفسه المطمئنة، وذلك في حدود عام اثنين وثمانين وتسعمائة.

وسببه أنة ظهر من أهل مضبع نقض للعهود، ومخالفة لشرع الملك المعبود؛ لأن مضبع المذكور حصن منيع بأعلى واد وسيع، وأهله في نعم الله رافلونه، وللمنعم بها كافرون، يمنعون كل من وصل إليهم، ولو علم عصيانه لديهم، وكلما حذرهم مولانا الشريف المخالفات تحذيراً، ما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً.

فسار إليهم في جم غفير من السادات وأتباعهم من أعيان دولته الشريفة، وأمراء مملكته المنيفة.

أخبر السيد نافع منهم أن العساكر التي سار بهم يزيدون على خمسين ألفاً ما بين راكب وراجل، ولاحق وواصل، يمرون على الجبال فيدكونها دكاً، وينزلون بالرمال فيبكونها بكاً.

فلما وصلوا مضبع وجدوه جبلاً رفيعاً وحصناً منيعاً ليس في أخذه مطمع.

فأحاطوا بجهاته الأربع ثم صعدوا على اسم الله تعالى تالين " إلا تنصرُوُه فَقَدْ نصره الله " التوبة: 40 فقاتلهم قتالاً شديداً، أفنى فيه شباباً وأشاب منه وليداً، حتى انتصر عليهم نصراً عزيزاً، وفتح الله له من حصونهم فتحاً مبيناً، فضرب الرقاب، وأخذ الأموال، ورتب فيه من يحفظه من شجعان الرجال، ويقيم به الشريعة المحمدية على أحسن منوال.

ثم قصد إلى تخت عزه مكة الغراء - شرفها الله تعالى بالكعبة الجليلة - فمر على بجيلة وأمرهم بالتزام الشريعة المحمدية، فخالفوا أوامر الله وأوامره العلية، فقاتلهم إلى أن طلبوا العفو، وبذلوا الأموال فأجابهم إلى ذلك.

وأخذ منهم عدة من دروع الحديد العراض الطوال يقال إنها قريب من خمسة.آلاف، نال منها السادة الأشراف، وجميع من حضر من سائر الأطراف، وصار خراجها يحمل إلى حضرته الشريفة كل عام على مر الدوام.

وهذه السرية نى حكم السرايا الهاشمية إلى الكفار، من سار فيها فله أجر المجاهد بلا إنكار.

قلت: ذكر العلامة الجد جمال الدين العصامي أن هذه الغزاة كانت سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة، وذكر أنه أرخها ببيت كامل بديع هو قوله:

صادَ الصناديدَ أعطَى المُلكَ واجبَهُ ... حامي حِمَى بَلَدِ اللهِ الأمينُ حَسَنْ

هكذا ذكره بيتاً مفرداً، فلم أدر أهو من قصيدة له أم من قطعة.

وهو بيت بطين المعنى، رصين المبنى.

ومن ذلك غزوة سوق الخميس، ويسمى زهران، يتصل به قرن ظبي والصفا والمخواة وجبل عظيم يسمى مَلَس.

كان من شأن هذه المواضع أن سكانها لا يورثون النساء جملة كافة خصوصاً البنت التي منعها من أعظم سنن الجاهلية ومانعوها هم الكفار شرعاً.

ومن عادتهم أن يمنعوا كل من وصل إليهم خصوصاً العصاة لولاة الأمور، والذين يأكلون أموال الناس بالباطل والفجور، ثم تكرر منهم ما ذكر من القبائح.

ونصحهم مولانا الشريف المشار إليه، وهددهم فلم ينقادوا للناصح والنصائح، فبرز أمره المطاع إلى أكبر أولاده الكرام السيد الحسين الأسد الضرغام بدر التمام أن يقصدهم في محالهم، فقاتلهم وقتل أعظم رجالهم، وحاز نفائس أموالهم، وفاز بأسر نسائهم وأطفالهم.

فلما ملك البلاد والعباد، ووصل البشير بنصرته إلى والده وجده خير والد من خير أجداد، برزت أوامره المطاعة، أن ينصب حاكماً شرعياً وأميراً ليقيم نظام السنة والجماعة، فتم ذلك على الأوضاع الشرعية ونقل خراجها إلى الخزائن الشريفة العلية.

ثم غزا معكال. وذلك أنه بعد مدة قريبة برز مولانا الشريف حسن إلى غزو معكال بأقصى البلاد الشرقية لأمور فعلوها، فيها طعن على الدولة الإسلامية، وحسبك السنة النبوية المبرورة: " الفتنة من ههنا " وأشار إلى الجهة المذكورة، فقام مولانا المشار إليه في ذلك حماية لبيضة الإسلام خصوصاً حجاج بيت الله الحرام، وزوار جده محمد عليه الصلاة والسلام، فوصل دارهم وقاتلهم فيها احتقاراً بهم وعساكر الإسلام الله تعالى يحميها ويبلغها بسعده أقصى أمانيها في جمع كذلك بن يزيدون على خمسين ألفاً، وطال مقامه فيهم حتى استأصل أهل الدار رجالاً وأموالاً وكل من كان إليهم إلفاً.

فتحدث أعداؤه المخذولون أنه مات وعسكره انكسر نظير ما وقع لجده صلى الله عليه وسلم بخيبر.

فلما وصل خبر ذلك لأهل سوق الخميس سول لهم عدو الله أخوهم إبليس، فقتلوا الحاكم الشرعي والأمير المذكورين شقاقاً منهم في الدارين.

فلما عاد مولانا الشريف من الشرق سالماً في النفس والأهل والمال، غانماً ملك معكال، وما قرب منه من سائر المحال، ودخل مكة على أجمل الأحوال، ومشايخهم بين يديه في الحديد والأغلال، ثم أقاموا في ظل نعمه مدة عام كامل، فطلبوا من فضله وإحسانه الشامل أن يكونوا خدامه في محل سلطانهم، وأن يحملوا إليه ما يرضيه كل عام من محصول أوطانهم، فأجابهم إلى مطلوبهم، وأمر عليهم محمد بن عثمان بن فضل حيث لم يبق من بيت سلطنتهم إلا هذا النسل.

ثم عزم على غزو سوق الخمبس؛ لفعلهم المذكور الخسيس.

فقصدهم بنفسه الزكية افتتاح سنة سبع وثمانين وتسعمائة، فاجتمع بسوحه من بادية مكة المشرفة طوائف هذيل وغطفان وعدوان وبني سعد وما اتصل بهم من المؤلفة، فاجتمعوا بناديه الفسيح رحابه، المنيع جاره وأحزابه، فنظر إليهم أمير دار المضيف، فاستكثر ما يجب لهم من المصاريف.

فقال على لسانهم لمولانا الشريف: لعل سيدي يعجل بالمسير، فإن الجيش كبير.

فقال له الشريف: أجبهم عني بأني أطعم صغيرهم حتى يشب، وشابهم حتى يشيب.

ثم سار بهم بعد مدة، فلما وصل واديهم، ونزل مخيمه المعظم في ناديهم، قال لهم بعض عقلاء الرجال: اطلبوا من مولانا الصلح، فأجابوا جواب أهل الغرور والهوس، على سبيل التهكم: اسألوا عن الصلح جبل ملس.

فقبل تمام القال، صعدت الرجال على الجبال، وعم القتل معظم الرجال، وأسر النساء والأطفال.

ثم قبض على مائة وسبعين من أشرافهم، وكبلهم في الحديد في أعناقهم وأطرافهم.

فأحضروا له من الدروع والأموال جملاً كثيرة لا يحويها المقال، فأخذ ذلك من جملة الغنائم، وأقام شريعة جده سيد العوالم.

ثم عاد إلى مكة المشرفة، فدخلها في شهر رمضان في موكب عظيم قد أضاء، لم يسمع بمثله فيما مضى، وبين يديه الجماعات المقبوضون كل عشرة في كبل حديد، وشيخهم مع ولديه في الحديد، راكب في حال غير جميل.

ثم أمر بذبح أربعة عن الحاكم كما ذبحوه؛ وذلك بسوء ما فعلوه.

ومن ذلك في عام تسع وثمانين وتسعمائة: سار إلى ناحية الشرق مرة ثانية لمخالفة وقعت بينهم متناهية، في جيش كثيف جرار، ومدافع كبار، تنسف الجبال وتفتح الأمصار، ففتح مدناً وحصوناً تعرف بالبديع والخرج والسلمية والإمامية، ومواضع في شوامخ الجبال تزيد على ما سبق بأمثال أمثال، فقويت شوكته وعز سلطانه، وتحقق عند ذوي البصائر أنه بعناية الله تعالى كل حين يعلو شأنه.

ثم عين من رؤسائه من ضبطها، على أمور التزمها وشرطها، فعاد مؤيداً منصوراً، وعلم سعده منشوراً.

فأخبره بعض عيونه التي يبثها في البلاد لتأتيه بأخبار العباد، أن جماعة من شوكة بني خالد تجمعوا وتحزبوا، ومن طريقك ترصدوا وتقربوا، في جمع من الشجعان والأبطال حتى جرائد الخيل وكرائم الجمال. فتدارك مولانا المشار إليه من الحزم والعزم ما أمكن، وقدم من قدم، وأخر من أخر، وأكمن من أكمن.

فوافاه الجيش الخالدي فوجد مولانا على غاية الحذر فتقابلا وتقاتلا، فهرب الخالدي وانكسر، فقتل مولانا أكثرهم عمداً، وغنم خيلاً وإبلاً وعمداً، ولم ينج منهم إلا الهارب، ومن خيلهم ورجلهم وإبلهم إلا الذاهب.

وهذه النصرة أعظم في صدور الأعداء شوكة ونكاية، وأعلى منصباً وأجل ولاية. وهذه المذكورات عيون غزواته الشهيرة، وسواها كثيرة كبيرة.

ذكرما خوله الله من فصاحة اللسان، وبديع البيان، في توقيعه بالبنان، والحكم بفصل الخطاب والتوفيق للصواب.

فمنها: لفظ " العزة لله سبحانه وتعالى " فمولانا المشار إليه وجميع سلفه الكرام وجون به في توقيعاتهم الفخام.

ولا يخفى ما في هذه اللفظة من جوامع الكلم وحسن الأدب مع ذي الجلال الإكرام، والعظمة والإنعام، والإشارة إلى قوله تعالى: " فَإن العِزَّةَ للهِ جمَيعاً " النساء: 139 المستوجبة لعزة كاتبها وقائلها، وتواضعه مع كمال شرفه في الذات والصفات.

ومن ذلك: أن جميع توقيعاته يرقم فيها بعد الجواب لفظ " على الوجه الشرعي، والقانون المحرر المرعي " وهذا من خصوصيات مولانا الشريف حسن المشار إليه دامت رحمة الله عليه.

ومن ذلك: أن جميع ما يرقمه من الكلمات ولو كثرت خال من النقط بحيث تتبع أهل الخط أكثر تحريرات مولانا فلم يجدوا فيها نقطة.

ولعل مراده بذلك دفع المماثلة لخطه ورفع المشاكلة حتى يبعد عن التزوير.

ومن ذلك: سلامته من الحشو المخل والتطويل الممل.

ومن ذلك: أن قاضياً من قضاة المدينة الشريفة عرض عليه مكتوب، وقف صحيح العبارة بمحكمة الشرع، مضمونه: أن الأوقاف المشروحة به لا تؤخر إلا بشروط مرعية ذكرت فيه، وعين فيه أموراً لا تمكن الإحاطة بها إلا بعد قراءة المكتوب جميعه، وقراءته تحتاج إلى زمن طويل، فلما وقف مولانا الشريف حسن عليه قال من أول نظرة: هذا فرع من أصل يحتاج إلى اتصال وثبوت بالطريق الشرعي، فعرض له القاضي المشار إليه بأن مثل هذا يبعد تزويره، وأن الخصم في ذلك السيد مانع أمير المدينة الشريفة وهو أميركم، وكان مولانا الشريف حسن متكئاً، فاستوى جالساً، ثم استقبل القبلة، وقال للقاضي: يا مولانا سيدي ووالدي الشريف الكبير أبو نمي ليس عندي على وجه الأرض أحب منه وأكرم، ومع ذلك والله العظيم وحق هذه الكعبة المدبجة لو ارتكب باطلاً ما وافقته عليه، فإن قلتم ثبت عندي هذا المكتوب حكمت بموجبه على الفور.

فعجب القاضي المذكور من فرط ذكاء مولانا وسرعة فهمه ومتانة ديانته وتحير منه واستحيا من قوة معرفته بالمقصود واستوائه جالساً. ثم ذكر والده الكريم، وتقرير محبته وطاعته له، ثم فسر بعدم موافقته على الباطل، وهذا من نور النبوة بلا شك ولاريب.

ومن ذلك أن جميع ما يرقمه للخاص والعام يبدؤه بذكر الله تعالى، ويختمه بالصلاة والسلام على جلى محمد خير الأنام.

ثم يتبع ذلك بقوله: حسبنا الله ونعم الوكيل.

وفي ذلك ما لا يحد من الخير ولا يحصى، ولا يحصر ولا يستقصى.

ويكفيك أنه من أفعال العلماء العاملين والصلحاء الكاملين.

ومن ذلك: معرفته للعبارة التركية، وأكثر اللغة الفارسية، وغيرهما من ألسن البرية، ولكنه لا يكتب بذلك ولا يتكلم، حذراً من غلطة لسان أو سبق قلم فيستعمل الترجمان في الكلام، وكذلك في المكاتيب على الدوام.

ومن ذلك: أنه إذا اشتكى عليه صاحب ظلامة، أو دعوى يسمع شكواه جميعاً ثم يتشاغل عنه ثم يستعيده ما قال، فإن اختل كلامه اختلالاً فاحشاً استدل على عدم صدقه، وأقبل عليه بوجه يليق به.

وفي هذا من الكمال ما لا مزيد عليه، وهو كونه يحفظ القصة مع طولها من أول سماع، ثم يستنبط من مخالفة ألفاظها حكماً بالغة يقف بسببها على حقيقة أمر صاحبها، وليس ذلك إلا من إلهامات إلهية مستفادة من قوله صلى الله عليه وسلم: " الحاكم ينظر بنور الله تعالى " .

ذكر كرمه وجوده وإنعامه على وفوده، خصوصاً العلماء والصلحاء والفقراء والشعراء.

فمنه عند زيارة جده صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه في أول عام ولايته للأقطار الحجازية أخبر من يعتمد على نقله أن عطاياه للعلماء والشعراء فقط كانت ما يزيد على ألفي دينار ذهباً جديداً.

ومنه، وهي من عطاياه الشريفة، وتفرداته وأولياته المنيفة: أنه إذا عقد نكاحاً لنفسه أو لأولاده يطلب أعلام العلماء وأعيان الصلحاء؟ تبركاً بحضرتهم، واغتناماً لدعوتهم، فإذا تم ذلك العقد أمر بكتابة أسماء الحاضرين، ثم يعين لكل منهم شيئاً نافعاً من المال مصلحاً للبال، مع تمييز أهل العلم والصلاح، والشرف والدين والفلاح.

ومن ذلك: ما أخبر به مولانا العالم العامل الفقيه حاتم القاضي الشافعي بناحية صبيا أن في صحبته، وصحبة غيره عدة قصائد جاء بها من اليمن في مدح الشريف حسن.

وأنه أجاز شعراء اليمن مع عدم حضورهم ما يجاوز ألفين من الدنانير الذهب الجديد، وأن جائزة كل شاعر يرسلها إليه مع حامل قصيدته.

وقال: هذه كانت عادته دامت سعادته، وذلك على الاستمرار، مع جميع الشعراء من سائر الأقطار.

ومن ذلك: ما أخبر به بعض حملة القرآن العظيم، المتشرفين بمدح جده الرسول الكريم. قال: حضرنا بين يدي مولانا الشريف حسن، في صبيحة ليلة عرسه على بعض الشريفات المخدرات في جمع عظيم بمكة، فقرأنا ما تيسر من القرآن العظيم، ثم أنشدنا ما يسره الله من المدائح الشريفة، فوصلت إلى مولانا الشريف معشرة متوسطة مملوءة من الذهب الجلالي. واحد بعشرة من قبل عمة السلطان جلال الدين أكبر، فأمر بجميعها لأهل المديح المذكورين. مع كثرة ما فيها، ولم ينظر إليها إلا نظر إحاطة لأجل المكافأة، وقال: هذا نصيب الجماعة، رفع الله ذاته الشريفة الفاخرة، وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة.

ومن ذلك: أنه زار في بعض الأعوام قبر جده عليه الصلاة والسلام، وكان عادة ساداتنا حماة الحرمين الشريفين لما وصلوا إلى الزيارة يتصدقون على جيران الحضرة النبوية صدقة خاصة تشتمل على أسماء العلماء والحكام والصلحاء والخدام، وسكان الربط والأرامل والأيتام، والعساكر السلطانية الخيالة والحصارية، وخدام العمائر الخاقانية، وخدام العين الزرقاء الروية، ولكل اسم قدر معين من الأشرفية الفضة كل أشرفي عشرة محلقة، فأمر مولانا الشريف حسن أن يجعل مكان كل أشرفي فضة دينار جديد ذهب.

ثم اتفق لمولانا زيارة ثالثة صرف فيها أموالاً جزيلة في وجوه متعددة.

منها: أنه أمر بالصدقة أن توزع على عادتها القديمة، فلما صرف معظمها قال له السيد محمد بن سعد نقيب الأشراف بالمدينة المنورة: إن في هذا الدفتر المبارك جماعة كانوا صغاراً فكبروا، وبالعلم تقدموا وتصدروا، فاستوجبوا من مولانا كمال العناية ووافر الرعاية.

فأجاب جواباً شاملاً لأعلى مراتب الفضل والأدب، وأجل مناصب السؤدد والحسب، وقال: إن هذا الدفتر أمره لمولانا الوالد الشريف أبي نمي فيصرف على حكمه من غير زيادة ولا نقصان، ثم جدد دفتراً برسم زيادة الإحسان لمن ذكرنا عاليه من عظماء السادة، ثم أنعم على أهل الدفتر الجديد بأضعاف ما هو مقرر في الدفتر السابق، ثم برز أمره الشريف بأن يعطى لكل من وصل معهم من الأتباع، وأتباع الأتباع عطاء لائقاً بمقامه الخطير، عم القريب والبعيد، والأحرار والعبيد، والصغير والكبير.

ثم تصدق صدقة مخفية بعد أن مضى ثلث الليل على العميان والمرضى، والنساء والعاجزين من الزمنى، والمقعدين قصدهم بذلك إلى أماكنهم، قيل: بنفسه الشريفة، وقيل: مع من يعتمد عليه.

ومن حسناته التي تفرد بها: أنه كان في كل زيارة عند منصرفه من باب الحرم النبوي يأخذ في يده الشريفة كيساً مملوءاً من الذهب والفضة، ثم يجتمع عليه فقراء الحضرة النبوية وأطفالهم لما هو مقرر معلوم عندهم من إحسانه، فيلاطفهم عند كل محل فسيح، ثم يقول: أنثر عليكم من هذا المال. فإذا قالوا: نعم، نثر عليهم من ذلك جملة فيزدحمون على أخذ ذلك، وهو ينظر إليهم مع كمال السرور والفرح، ويستمر على ذلك مرة بعد أخرى حتى ينفد جميع ما عنده.

واتفق له - رحمه الله رحمة واسعة - في بعض زياراته المقبولة، وكان يفعل ما ذكر من نثر الدنانير والدراهم، فاستوقفته امرأة تشكو عليه حالها.

فوقف لها والمطر نازل عليه من غير حائل، وهي آخذة بلجام فرسه مع غاية الازدحام يميناً وشمالاً، وخلفاً وأماماً.

فلم يبرح حتى انتهت شكواها، وتركت لجام الفرس باختيارها وهواها، فانظر إلى هذا المقام، أيها الناظر بعين الإنصاف، فما أجله من مقام، ولا غرو فذلك نفح طيب سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام.

ومما مدح به مولانا الشريف حسن ما قاله العلامة الفاضلي الشيخ نور الدين علي الشهير بالجم، معارضاً لزائية الطيبي، وعبد الرحمن الكثيري فقال: من الخفيف:

خطرَت في موشياتِ الخزوز ... وتثنت بأسمرٍ مهزوزِ

ونضت من جفونها النعْسِ سيفاً ... فأراقَت دمَ الفتَى المحروزِ

وأماطَتْ عن العقيقِ فأبدَت ... بارقاً من وشاحِهاً الفيروزي

وتثنتْ فللحلي تناغٍ ... في قضيب من خالصِ الإبريزِ

غادة في وشاحها حينَ تبدو ... من لآلىً حُليِها في جروزِ

غادةٌ تسلبُ البدورَ إذا ما ... سَفَرَت عن موشمِ مغروزِ

غادة قد سعَت بكاسِ مدام ... مزجَته بالغنجِ والتغميزِ

خندريساً دفعْتُ عقلى فيها ... حينَ همَّت من دونها بالبروزِ

لبسَتْ من حبابها تاج دُر ... فجلاها مديرها في خزوزِ

هي شمس يديرها بَدرُ أفقٍ ... فوقَ لدنٍ مثقفٍ مهزوزِ

إِسقِنِيها مزجاً بظلم لماها ... كي أداوي بها لظَى تمُوزِ

إسقنيها ودَع مقالَ سفيهٍ ... قد أطال الجدالَ في التجويزِ

إسقنيها على الشروطِ فإني ... أمرؤ لا أقولُ بالتجليزِ

إسقنيها في روضة من شقيقٍ ... طرزَتَها يدُ الحيا تطريزي

إسقنيها وهادلُ الورقِ يشدو فوقَ شاطى النهورِ بالملغوزِ

إسقنيها مَع كل أحورَ أحوَى ... كاملِ الحسنِ كالقنا المركوزِ

إسقنيها وعنفوانُ شبابي ... يافع والسرورُ حال النهوزِ

إسقنيها فزوج الكهل ظلما ... بعجوزٍ تمشي على عكوزِ

إسقنيها قديمة العهدِ بِكرا ... تَوجَتها الملوكُ حال البروزِ

إسقنيها فما خلاصِيَ منها ... غَير مدحِي لنجلِ طه العزيزِ

حسن من رقَى سمو المعالي ... فهو للفضلِ والثنا كالمجيزِ

ملك لو توعدَ الدهرَ يوماً ... أصبحَ الدهرُ منه في تفزيزِ

كفه إن تجافتِ السحبُ غيث ... وَدقه باللجينِ والإبريزِ

زاده اللهُ في البسيطةِ بسطاً ... وحماة بحفظِهِ المحروزِ

ووقاه من حادثِ الدهرِ طُرا ... ما تلى الذكر في الكتَابِ العزيزِ

وقال الشيخ على المذكور أيضاً يهنيه بالظفر في غزوه جبل شمر، وإيقَاعه ببني لام، وذلك سنة أربع وستين وتسعمائة: من الخفيف:

كيف يكفيكَ من دمِ الأبطالِ ... ما أسالَتْ لكَ الظبا والعوالي

قد بكَتْ رحمةَ عليهم مواضب ... ك نجيعاً جرى بميم ودالَ

وانثنَتْ عنهمُ الرماحُ امتنانا ... بعد جازَت مراتب الإِعتدالِ

لم تزل ممتط لهم كل غادٍ ... سابق في النفوسِ والأموالِ

ذى جبينٍ مغررٍ بالثريا ... وأيادٍ منعولةٍ بالهلالِ

وأديمٍ قد شقَّ من شفقِ الأف ... ق وعَدوِ كالريحِ في الإرسال

وحساماً يروى عَنِ المجد قولاً ... أعرَبَتهُ الرماحُ بالأفعالِ

أعجمي لكن له ترجمان ... بلسانِ الطلا فصيحُ المقالِ

كلما كلم الرؤوس بلفْظٍ ... صَدَقتْهُ الأعناقُ بالإنفصالِ

وجياد جُردٍ تخوضُ المنايا ... لبلوغِ المنَى وحُسْنِ المالِ

وليوثٍ تلقى الحتوفَ اشتياقاً ... كلقي الحبيبِ حينَ الوصالِ

يا مليكاً رمى الزمانَ بسهمٍ ... لم يكنْ للزمانِ منه ببالِ

زعم الدهرُ أن يصيبَ رعايا ... ك بضيمٍ حاشاك من ذا المحالِ

ما درى الدَهرُ أي قومٍ نزال ... إِعتراه وأَي خصمِ جدالِ

ما درى أنكَ المليكُ الذي سُد ... تَ جميعَ الملوك بالإجمالِ

ما درى أنكَ الكريمُ الذي قد ... خُص بالمكرماتِ من ذي الجلالِ

ما دَرَى يابنَ فاطمٍ وعلي ... وابنَ خَيرِ النسا وخيرِ الرجالِ

أنكَ الماجدُ الذي عَم أهلَ ال ... أَرضِ شرقاً ومغرباً بالنوالِ

ما درَى أنكَ الذي لا تلاَقي ... في نزالٍ ولا بِشُم الجبالِ

يَسأَمُ المجد والدواوين والأَق ... لام والفَضل والحجي والمعَالِي

والعوالي والمشرفية والغا ... رَات والخَيل واللقا والنزالِ

كم تخطت صدراً وشكَّت فؤاداً ... وتمطَتْ بمفرقٍ وسبالِ

وأسالَت في الشرق سيل نجيعِ ... سارَ في الغربِ بالرواسي الثقالِ

وسبَت حلة وحلت محلاّ ... قصر البَدر عنه في الإتصالِ

ما بنو لام ما قبائلُ نجدٍ ... ما لقاءُ الفرسانِ والأبطالِ؟!

إن هُمُ في لقاكَ إلا شياهٌ ... بمخاليبِ الأسدِ والأشبالِ

جعلتهم بزاتك الشُّهب طعْماً ... حينَ مزقتهم برشقِ النبالِ

حين أمطرتَهُمْ سحابَ المنايا ... وبروقُ الظبا عليهم تلالِي

والرزايا لخَيْلها واثبات ... فيهمُ مرعدات بالتصهالِ

أين منهُمْ حلمٌ وصفح جميل ... منك حاطَ الورَى بأيدي الكمالِ؟!

لو أتوا حَاقِنِي دماهُمْ لفازوا ... مِنْكَ بالمكرماتِ والأفضالِ

وغدوا في مسرَةٍ وهناءٍ ... وأمانٍ من الوبا والوبالِ

غَيْرَ أن الإله جَرَّدَ فيهمْ ... سيفَ قَهْرٍ ماضي المضاربِ صالي

ورماهُمْ بقهرمانِ ملوكِ ال ... أرضِ ماضي القضا شديد المحالِ

حسن الذات والصفات عظيم ال ... مَجدِ سامي العلا شَرِيف الخصالِ

مخجل البدر قاهر الدهْر مزْرِي ال ... بحْرِ بالجود والنهَي والجمالِ

خَفَقَتْ بالسعودِ راياتُهُ البِي ... ضُ فراحَتْ كالزهْرِ جنح الليالي

دام للدينِ ناصراً في نعيمٍ ... أبداً سرمداً بغَيْرِ زوالِ

ما هَمَتْ في العدا بروقُ مواضِي ... هِ بنصْرٍ مسترسلٍ هَطَالِ

وشدَتْ مادحي عُلاَهُ وقالَتْ ... كف يكفيك من دمِ الأبطالِ

وقال أيضاً يمدحه، ويهنيه بالفتح، ويعزيه بعمه السيد حازم رحمه الله تعالى: من الخفيف:

آهِ مابي من جلنارِ الخدودِ ... وعذابِي منها بذاتِ الوقودِ

ومصابِي مِنْ مائساتِ قدودِ ... أطلعَتْ بالبها ثمارَ النهودِ

كُل هَيْفَاءَ تَنْثَنِي بِقوام ... غُصْن بَانٍ على كَثِيبِ زَرُودِ

ذات ثَغْرِ كالدر في لازورد ... برضابِ يحكي ابنة العنقودِ

نافح عن مسك ذكي وعطرِ ... عنبري وفاتقِ عن ورودِ

يلمعُ البرق والدراري توارى ... حينَ تفتر عن شتيتِ برودِ

كم حلا لي فيه التغزل مَعْ كُل ... لِ غزالٍ وغادةٍ أملودِ

حبذا دولَةُ الشبابِ وعصرٌ ... بالتصابِي قد مر كالمطرودِ

زرتُهُم والشبابُ يشفعُ لي وال ... عَيشُ يخضزُ منه يانعُ عودي

في ليالٍ بسامر في رياضٍ ... مشرقاتٍ في ظلها في عقودِ

بين اَسٍ ونرجسٍ وورودٍ ... كعذارٍ وناظرٍ وخُدُودِ

وحمامُ الآراكِ تشدو بمَدْحِ ال ... ملكِ الأمجدِ الكريمِ الجدودِ

حَسَنُ الذاتِ والصفاتِ بدا في ... أفق المجد بَدْر هذا الوجودِ

قمر أشرَقَ الحجاز ووَجهُ ال ... كونِ من نوره وهو في المهودِ

فظننا عيسى بن مَريَمَ قد جا ... ء لإصلاح دَهْرنا المفسودِ

فَهو إن لم يكنْ نبياً فإبْنُ ال ... أنبياءِ الكرامِ سامي المجودِ

وابنُ مَنْ جاء بالهدايةِ والرش ... دِ وسَن الحدودَ في المحدودِ

وابنُ مَنْ قد شَق السمواتِ عزماً ... ودنا من إلهِهِ المعبودِ

زُرهُ إن شئتَ أن تزور سُلَيما ... نَ جلالاً وصالحاً في ثمودِ

شَيدَ الدينَ بالعوالى وأضحَى ... بالمعالي كالوالِهِ المعمودِ

وحَمَى البيتَ والحطيمَ بيضٍ ... مسرفاتٍ تجاوزَتْ في الحدودِ

وبِخَيْلٍ سوابقٍ وجيادٍ ... سابحاتٍ تدوسُ قلْبَ الحسودِ

لابساتٍ من الدماءِ جلابي ... بَ تهادَى مخضباتِ الزنودِ

ترتمِي في سحابةٍ من نسورٍ ... وأُسُودِ من جيشِهِ والجنودِ

وبغابٍ من القنا والعوالِي ... مرسلاتٍ لغل قلبِ الحقودِ

قاذفاتِ بكل ظبيٍ غرير ال ... لَحْظِ لكن القَفبَ من جلمودِ

وبهم أبيض المحيا مُغِير ال ... بَدر بالتم والبها والسعودِ

واهبُ الخيلِ والممالكِ والأع ... مارِ والرزْقِ للعبادِ الوفودِ

يختشي الدهْرُ من سطاه وَتَخْشا ... هُ المنايا بالحادثاتِ السودِ

ناشراً من لوائِهِ كل عدلٍ ... باسطاً في بساطِهِ كُل جودِ

كتب النَّصر في حواشيه إني ... عَندُ رِق لذلك المعقودِ

دامَ في رفعةٍ ونَشرٍ وطَيٍ ... للمعالي وخافقاتِ البنودِ

ما همي الغيثُ بالربا وأضا البَدْ ... رُ فحاكَى لبشرِهِ المعهودِ

واستهلت بالشرقِ سحب غزار ... تَغْشَ شمساً ثوَت ببرجِ اللحودِ

حازم الملكِ سيد الشهدا مَنْ ... بلقاهُ قد زَانَ دارَ الخلودِ

غسلته حور الجنانِ مَعَ الوِلْ ... دَانِ في حوضِ الكوثرِ المورودِ

وادرجته الأملاكُ في سندسي ... بحنوطٍ من رحمةٍ معدودِ

فعزاء آل النبي بحق ... وهناء بالنصْرِ والتأييدِ

وهناء بالصومِ في رمضانٍ ... وهناء بالفطْرِ والتعييدِ

دمْتَ للملكِ والممالكِ والخَل ... قِ مَدَى الدهر دائماً في سعودِ

ما هَمَي الغيثُ حاكياً جودَ كَفَّي ... كَ فأبكَيْتَهُ بجودِ الجودِ

وغدا طائرُ الجوانحِ مِني ... بمديحِ المليكِ في تغريدِ

قال الشيخ عبد الرحمن بن أبي كثير يمدحه: من الخفيف:

أَشعِفِى الصبَّ باللقا والتلاقِي ... وانقذِيهِ من القِلَى والتلافِي

وارحَمِي من يد الهوَى أسلَمَتْهُ ... للتباريحِ من جوى وتجافِي

مستهاماً له التصبرُ أضحى ... خائناً في الغرامِ والدمع وافِي

هام في حُبً غادة لو أعارَت ... نورها الشَمْس لم تُرَعْ بانكسافِ

ظَلمُهاً القرقفي يسقي أَقَاحاً ... أو لآلٍ من الثنايا الرهافِ

حف دُرَّا بها زُمزدُ وشْم ... فتحلَّى منه بحسنِ اكتنافِ

حرسَتْهُ منها بعثال قَد ... حيثُ أمست معسولةَ الترشافِ

وبه قد حمَت دروراً لذيذاً ... ووروداً من أنملِ القطافِ

لو أرتْكَ الأثيثَ فوق المحيَّا ... وتثنى القوامِ في الأردافِ

شِمتَ بدراً يضئ في جنحِ ليلٍ ... وقضيباً يميسُ في الأحقافِ

أيأستنِي بقسوةِ القفبِ لكن ... أطمعتني الأعطاف بالإنعطافِ

فكأني في الحُب ما بين يأسِ ... ورجاء في موقفِ الأعرافِ

لم تفوق سهماً من الحسنِ إلا ... وحشا العاشقينَ كالأهدافِ

أسقمتني منها جفونٌ ضعافٌ ... وعجيبٌ يأتي الضنا مِنْ ضعافِ

هي دائِي وأطلبُ البرء منها ... كيف داءٌ يكونُ للسقمِ شافي

فاتكْ لَحظُها ولم نَرَ عضبا ... قاتلأ وهو مغمد في غِلافِ

وبه قد غَزَتْ فكل فؤادٍ ... متلفٌ بالجراح والإذفافِ

كمواضي سلطانِ مكة لما ... ينتضيها للفتكِ والإتلافِ

حَسَن مَنْ له الملوكُ عبيدٌ ... كالرعايا مهشومة الآنافِ

ملك ما له من الخلقِ مثل ... في المعالي وما له مِنْ مُكافي

ملكْ مَنْ رآه يسجدُ ذُلاً ... لو رآه سابُورُ ذو الأكتافِ

ملكٌ لو به البريةُ لاذوا ... لغَدَوْا منه في غِنَى وكنافِ

ملك ملكُهُ رياضُ أمانِ ... مثمرات بالعدلِ والإنصافِ

ملكٌ ملكه سماءُ معالٍ ... آمنٌ بَدْرُها من الإنخسافِ

ملكٌ قد تلا الكتاب علينا ... فيه وصفا من أعظمِ الأوصافِ

فَهْوَ إبْنُ الضحَى وطه وياسي ... ن وطاسين وابن نونٍ وقافِ

كُل ملكٍ فعينه لمعالي ... ذاته لا تزالُ في استشرافِ

بدرُ كل الملوكِ في أُفُقِ المل ... كِ وتاج لهامة الأشرافِ

بحلاه بنو الرسولِ تحلتْ ... وذووه وآل عبد منافِ

كل مجد فما له عَن مداه ... مانع من تقاصرٍ وانكفافِ

فالدرارِىْ في الأفقِ قد فاقَها في ... شرفٍ باذح وفي إشرافِ

باتفاقٍ فاق الملوكَ علواً ... وعلا الكُل ما خلا من خلافِ

فسجاياه في العلا كسجايا ... حيدرِ جدهِ بغيرِ تنافِي

فاعلاتٌ له بيوتَ ثناء ... سالمات بسعده من زحافِ

ألمعيٌّ يدري الذي غَابَ عنه ... بذكاءٍ يجلو له كُل خافي

ومتى أسقَمَ النهَي كَشفُ صَعبٍ ... فتجدهُ يزيلُه كالشافي

كعبة تقصدُ الوفود حماها ... جاعلي بابه لهم كالمطافِ

قد غدا للحُفَاةِ فيه معاذٌ ... وملاذٌ ومأمنٌ من مخافِ

وأنامَ الأنامَ في ظل عدلٍ ... وارفٍ لم يزل على الخلق ضافي

وجرَى رزقُهُم على راحتيه ... فهي ترضى كُلاً برزقٍ وافِ

منهلُ المكرماتِ كان أجاجا ... وبه صارَ حالىَ الوردِ صافي

ورباه الذاوِي غدا منه روضاً ... ذا زهورٍ أنوارُهُ في اختلافِ

ا فنداه قوادمُ الريحِ تَعيا ... عن مجاراتِهِ وتبقى خوافِي

من يقسه بالسحبِ يخطِي فهذي ... تعطِ ماءً ودمعُها في انذرافِ

وهو يعطيكَ باسِمَ الثغرِ طلقاً ... وعطاياه عَسجَدٌ بالجزافِ

كاتباه لم يكتُبا لفظَ منع ... منذ منشاه لا عليه ولا في

يهبُ الألفَ ثم لم يَهَب الأل ... فَ فكل لديه بالآلافِ

إن يَجُد فالنوال يملا الأراضي ... أو يَجُل فالنقيعُ يملا الفيافي

ضيغَم إن حمي الوطيسَ فأذكَى ... جمرَ طعنٍ ما إن له من طافي

ورأيت الكماة تسقى مداماً ... من منونٍ بأكؤسِ الأسيافِ

وحياضَ المنونِ تلجئ كُلا ... لورود من صابها واغترافِ

خاضه جاعلُ الفؤادِ دلاصاً ... والظبا عزمةً كحد الرهافِ

وبه اختالَ لابساً بردَ بأسٍ ... خاطراً فيه مُعلِمَ الأطرافِ

وأبادَ الجيوشَ بالقتلِ حتى ... صبَّرَ السيفَ والقنا في رعافِ

ولكَم من جحافلٍ صرنَ منه ... رمماً ما اهتَدينَ للإنصرافِ

ولكم من كتائبٍ من سطاهُ ... قد تفانوا بالخوفِ والإرجافِ

فهو يخشَى ويرتجي يوم بطشٍ ... ونوال للمعتلِي والمضافِ

يا مليكاً قد جل عن كل وصفٍ ... حيثُ فيه مدح من الله كافي

لو نظمنا فيكَ الدراري مديحاً ... لا يوازِي مقدارَكُم ويكافي

دم لك الملكُ خالداً والعوالِي ... والمواضِي في عزة وعوافي

والجديدانِ يخدمانِكَ طوعاً ... بالذي شِئتَهُ بغيرِ خلافِ

والمقاديرُ في مراضيكَ تسعَى ... أبداً بالإسعادِ والإسعافِ

وصلاة ختامها المسكُ تغشَى ... جَدكَ الطُّهرَ سيدَ الأشرافِ

وكان الشريف حسن - رحمه الله - استخدم في آخر عمره سنة ثلاث بعد الألف بشخص من أبناء الحضارم، يسمى: عبد الرحمن بن عبد الله بن عتيق.

كان عبد الله بن عتيق تزوج بنتاً من بنات الشيخ محمد جار الله بن أمين الظهيري، فجاءت منه بعبد الرحمن هذا وأخيه أبي بكر، فتحشر عبد الرحمن المذكور في الشريف حسن وبقي يفهمه النصح في الخدمة، وسحر الشريف حسن إلى أن تمكن منه غاية التمكن، وبقي حاله كما قال الشاعر: من السريع:

أمركَ مردود إلى أمرِهِ ... وأمرُهُ ليس له رَدُّ

فتسلط عبد الرحمن المذكور على جميع المملكة، وتصرف فيها كيف شاء، وبقي كل من يموت سواء كان من أهل البلد، أو من التجار، أو من الحجاج يستأصل ماله بحيث لا يترك لوارثه شيئاً، ولا المحلق الفرد، فإذا تكلم الوارث أظهر له حجة أن مورثه كان قد اقترض منه في الزمن الفلاني كذا وكذا ألف دينار، ويقول: هذا الذي أخذته دون حقي وبقي لي كذا وكذا، وطريق كتابته لهذه الحجة وأمثالها على ما بلغني ممن أثق به أن كتبة المحكمة تحت أمره وقهره، فيأمرهم بكتابة الحجة فيكتبونها، وعنده أكثر من مائة مهر للقضاة والنواب السابقين، فيمهرها ويأمر عبد الرحمن المحالبي أن يكتب إمضاء القاضي الذي قد مهر الحجة بمهره، ويكتب خاله الشيخ علي بن جار الله، وأخوه الشيخ عبد القادر بن محمد بن جار الله شهادتهما. ويكتب الشيخ علي أيضاً عليها ما نصه: " تأملت هذه الحجة فوجدتها مسددة، ويشهد بذلك محمد بن عبد المعطي الظهيري، وابن عمه صلاح الدين بن أبي السعادات الظهيري، وأحمد بن عبد الله الحنبلي الظهيري وغيرهم.

ثم إنه يظهر الحجة ويقرأها بين الناس.

وجميعهم يعرف أنها زور لا أصل لها ولا يقدرون أن يتكلموا بكلمة واحدة خوفاً من شره وقوة قهره، واستولى بهذا الأسلوب على ما أراد كما أراد، وإذا شُكِيَ علي الشريف حسن - رحمه الله تعالى - يقول: هذه حجة شرعية، وشهودها مثل هؤلاء الجماعة الأجلاء كيف أردها؟ فنفرت قلوب الناس من ابن عتيق، وضجوا وضجروا، وكل من أمكنه السفر سافر، وما تأخر إلا العاجز.

وكان مولانا الشريف أبو طالب كلما سمع شيئاً من هذه الأمور تألم غاية التألم، فأول ما استقل بالسلطنة أرسل من المبعوث قبل وصوله إلى مكة رسله بمسك ابن عتيق، فمسك يوم الجمعة بعد العصر في ساعة نحوسية، واستمر في الحبس يوم السبت والأحد، فلما وصل الشريف أبو طالب وتولى أمر والده الشريف حسن ودفنه استدعي ابن عتيق وسأله عن أفعاله فقال: قد فعلت جميع ذلك، ثم رده إلى الحبس.

ففي ليلة الإثنين أخذ ابن عتيق جنبية العبد الوصيف المرسم عليه وهو نائم، فاستيقظ العبد وخلصها منه، فلما أصبح الوصيف أخبر سيده الشريف أبا طالب بذلك، فجبذ جنبيته، وقال له: خذ هذه وقل لابن عتيق لا تسرق الجنبية في الليل، هذه جنبيتي إن كنت تريد أن تقتل نفسك فاقتلها، وأسرع بإرسالها إلى جهنم وبئس المصير.

فلما جاء الوصيف، وقال له ما قاله الشريف أبو طالب أخذها منه، وأدخل منها في بطنه نحو إصبع ثم أخرجها، ثم أعادها وأدخل منها ضعف الأول، ثم أخرجها ثم أدخلها جميعاً، ثم أخرجها وقال: وامالى.

واستمر ذلك اليوم إلى ظهر الغد يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة من سنة 1010 عشر وألف، فخرجت روحه إلى غير رحمة، فقد كان مرتكباً جميع أنواع المعاصي، حتى لقد بلغني من جماعة بكثرة أنه كان يسجد للشمس، وأما انتهاكه للشرع الشريف فشيء لا يوصف، وكان يتبجح، ويقول: الشرع ما نريده.

ولقد أبطل في أيامه عدة من المسائل الشرعية كالوصايا والعتق والتدبير، وباع أمهات الأولاد بأولالدهن، قائلاً: هذه حجة شرعية أن فلاناً سيدها اعترف أن ماله جميعه لفلان فوطؤها حرام عليه والولد ولد زنا.

وكثيراً ما يأخذ حجة العتق، ويمزقها ويتملك المكتوب له العتق فيها حتى أنه بقي إذا مات شخص من أرباب الصرور والحبوب والجهات أظهر على المتوفي فراغاً من هذا الأسلوب، ويتناول المحلول جميعه، ثم هو يبيعه على شخص آخر، فسبحان الحليم الذي لا يعجل يمهل ولا يهمل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن ربك ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يكن ليفلته " .

فقد أخذ ابن عتيق على غرة وقتل نفسه، ورمى به في درب جدة في حفرة صغيرة بلا غسل، ولا صلاة ولا كفن، ورمت عليه العامة الأحجار.

وعملت الفضلاء فيه تواريخ، منها قول بعضهم: من الرجز:

أشقى النفوس الباغيَة ... ابنُ عَتيق الطاغيَهْ

نَارُ الجحيمِ استعوَذَت ... منه وقالَت ماليَه

لمَّا أتَى تاريخُهُ ... أَجِبْ لظى والهاويَه

ذكر هذا العلامة الخطيب المفتي عبد الكريم بن محب الدين القطبي، ومن خطه نقلت.

وهذا الشيخ عبد الكريم: هو ابن محب الدين أخي الشيخ قطب الدين المؤرخ النهروالي فيكون ابن أخيه وقطب الدين عمه.

وأما قطب الدين نفسه فلم يعقب سوى أربع بنات لا غير. انتهى.

وأرخت أيضاً وقاته بما لفظه: " يأتي من ألطاف الله ما لا يكون في البال " ، ولهذا واقعة هي ما أخبرني به بعض آل الخواجا الشهير بالكركية.

وذلك أن ابن عتيق كان قد قصد جدة بأذية من قسم أذاياه التي كان يؤذي المسلمين بها مما ذكرناه، وأمهله في طلب المال ثلاثة أيام، فلما خرج الخواجا من عنده أتى بيته، وهو في غاية التعب والقلق، فلما كان اليوم الثالث كان القبض عليه من خدام الشريف أبي طالب، ونفذ الله سبحانه فيه حكمه، وقد ألهم الخواجا المذكور تكرار قوله: " يأتي من ألطاف الله ما لا يكون في البال " ، وألزم جميع أهله بتكرارها، ففرج الله عنه سبحانه، وكانت تاريخ وفاته كما تقدم ذكرها.