سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
العصامي
عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)
ثم وليها مولانا الشريف أبو طالب
بعد وفاة والده الشريف حسن، إذ هو ولى عهده بعده، وظهر بالمظاهر الجميلة، ووطئ بأخمصه تاج المجد وأكليله.
واشتهر بالولاية الباطنة والظاهرة، والمكاشفات الواضحة الباهرة، وانتشرت في الآفاق والأقطار له الكرامات الخارقة.
وكفاه سر الأسرار الغامضة، التي دونها السيوف البارقة، واستولى على الصياصي المتينة الرفيعة، والحصون المنيعة الصنيعة.
وهرعت إلى سيول نداه الوراد، وسقيت بسبب جدواه الأكباد الصواد.
لم تزل دولته محفوظة، وأحواله بعين العناية ملحوظة.
مولده - رحمه الله تعالى - في جمادى الأولى سنة ست وستين وتسعمائة.
فاستمر في الملك إلى أن كان يوم الثلاثاء حادي عشري جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة وألف، وصل مع أذان العصر خبر وفاته، وكانت بمحل قرب بيشة، فحمل في التخت على البغال إلى أن تقطعت وعجزت عن السير فحمل في شبرية على بعير، ووصلوا به إلى مكة ضحوة يوم الأربعاء ثاني عشري الشهر المذكور، وصلي عليه عند باب الكعبة الشريفة بعد أن فتحت، ونادى عليه الريس من أعلى زمزم، وحمل إلى المعلاة، ودفن بها وجعل على قبره قبة.
وكانت وفات آخر ليلة الأحد تاسع عشر جمادى الآخرة.
وتأسف الناس على فقده إلى الغاية، فإنه - رحمه الله تعالى - كان كريماً ليس له نظير في أهل بيته، إلا ما يحكى عن أخيه السيد حسين بن حسن.
وكان مهيباً جداً يكسر من إحدى عينيه لا لعلة بهاء ذكر عن جارية تصب القهوة بين يديه في الديوان أنها أهوت لتأخذ الفنجان من أمام بعض الحاضرين فحبقت، فنظر إليها الشريف أبو طالب نظرة غضب، فلاذت ناحية عن الديوان، وتحاملت على غلصمتها بيدها فكسرتها وسقطت ميتة. فلله منها شهامة حركتها هيبة.
ومما سمع من كرمه أنه قبل وفاته بأيام كان وقع من شيخ زعب جناية فحبسه فيها. ثم أن جماعة الشيخ الزعبي طلبوا من الشريف أبي طالب أن يرضى عليه ويعطوه ما يطيب خاطره، واتفقوا يينهم على مائة فرس وألف بعير وكذا وكذا من الدراهم. ثم أحضروا جميع ذلك ووصلوا به إليه. فقال لهم: أنا ما كان مرادي إلا تأديب الشيخ الزعبي وليس غرضي في طمع منه.
والذي وصلتم به مغ الخيل والإبل هو معاد لكم. ولم يقبل من ذلك شيئاً. وكسا الشيخ الزعبي وجماعته الذين كانوا معه في الحبس بعد أن أطلقهم، وأمر لهم بنفايع جسيمة. فانظر إلى ملك كريم عظيم الشأن.
وأما إعطاؤه الألف الذهب وأمثالها فكثير.
ومما اتفق له أيضاً وذلك قبل أن يلي مكة أنه زار قبر جده محمد صلى الله عليه وسلم، فلما أمسى بوادي مر هو ومن معه أضافه رجل من أهل الوادي يقال له السوداني، فذبح الذبائح ومد للموائد وقدمها.
ثم بلغه أن الشريف أبا طالب لم يتعش من ذلك الطعام ولم يحضره لبعض أشغاله، فعمد السوداني المذكور إلى أربع أو خمس من الدجاج فذبحهن وطبخهن وقدمهن على كيلتين من العيش في زبدية كبيرة صيني، وجاء يحملها إلى الشريف أبي طالب، وقال: يا سيدي هذا عشاء عبدك اجبر خاطره جبر الله خاطرك.
فغسل الشريف يده وأكل من تلك الزبدية لقيمات ودعا له ثم دخل مكة.
فلما استقل بالولاية على مكة وفد عليه السوداني بعد سنة وقبل يده.
فقال له الشريف أبو طالب: الزبدية التي تعشينا فيها عندك تعيش؟ فقال له: نعم يا سيدي موجودة.
فقال: اذهب فائتني بها. فذهب إلى وادي مر وأتى بها.
فأمر له فملئت له ذهباً أحمر كيل الزبيب، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وقد أخبرني الثقة أنه حدثه من شاهد مجامر العنبر موقدة تسير مع نعشه من البيت إلى فراغ الدفن نحو ثلاثة عشر مجمراً تعج في الطرق والأسواق عجيج اللبان.
ومما قيل في مدحه قول العلامة المفيد، البارع المجيد، مولانا وجيه الدين عبد الرحمن ابن عيسى بن مرشد الحنفي مادحه وشارحاً غزواته المقرونة بالنصر والظفر، ومتخلصاً إلى مدح والده الشريف الحسن بن أبي نمي فقال: من الكامل:
نَقعُ العجاجِ لي هياجِ العثيرِ ... أذكَىَ لدينا من دُخانِ العنبرِ
وصليلُ تجريدِ الحسامِ ووقعُهُ ... في الهامِ أشدَى نغمةً من جؤذرِ
وسنا الأسنة لامعاً في قسطل ... أسنَى وأسمى من محياً مسفرِ
وتسربل في سابغاتِ مسرد ... أزهَى علينا من سدوس أخضرِ
وكذاكَ صهوةُ سَابِح ومطهمِ ... أشهَى إلينا من أريكةِ أحوَرِ
ولقا الكمي مدرعاً في مغفرٍ ... كلقا الغريرِ بمقنع وبمخمرِ
ألفَت أسنتنا الورود بمنهلٍ ... علقت به علقَ النجيعِ الأحمرِ
وسيوفنا هجرَت جوار غُمُودها ... شوقاً لهامة كل أصيَدَ أصعَرِ
فتخالُها لما تجرد عند ما ... هاج القتامُ بوارقاً بكنهورِ
وصَهِيل جُرد الخيلِ خيل كأنه ... رَعد يزمجرُ في الجدا المثعنجرِ
ودَمُ العدى متقاطراً متدفقاً ... كالوبلِ كالسيلِ الجرافِ الحورِ
ورءوسُهُم تجري به كجنادلٍ ... قذفَت بها موج السيولِ المقمرِ
غشيَتهُم في العامِ منا فرقَةٌ ... تركَت فريقهم كسَبسب أقفرِ
أودَتهُمُ قتلاً وأطبقَهُم إلى ... أن حطمَ الخطيُّ ظهرَ المدبرِ
تركَت صحاريهم موائد ضمنَتْ ... أشلاء كُل مسود وغضنفرِ
ودعَتْ ضيوف الوَحْش تقريها بما ... أقرى المهند والوشيج السمهرِي
فأجابَهُ من كُل غيل زمرةٌ ... تحدو منارَ عملَّسِ أو قسورِ
وأظلها ظلل نشاط سحابه ال ... مركُوم أجنحة البزاةِ الأنسرِ
فبراثن الآسادِ تضبثُ في الكلا ... ومخالبُ العقبانِ تنشب في المَرِي
شكَرَتْ صنيعَ المشرفيةِ والقنا ... إذ لم تضفها الهبرُ غير مهبرِ
فغدَتْ قبورهم بطونَ الوحشِ من ... ها يبعثُونَ إذا دعوا للمحشَرِ
وخلَتْ ديارهم وأقوَى ربعُهُمْ ... وسرى السريُّ مشمرا عن شمرِ
أنفَتْ من استقصاءِ قتلِ شريدِهِم ... كيما يخبر قائلاً عن مخبرِ
فثنَت أعنة خيلنا أجيادنا ... عَنْ قتلِ كُل مزند وحَزَوَرِ
حتى إذا حان القطافُ ليانع ... من أرؤسٍ تركَت ولما تؤترِ
عصفَت بهم ريحُ المنونِ فألقحَت ... وتحركَت بزعازعٍ من صرصرِ
فدعَتْ سراة كماتنا لقطافها ... بأناملِ القصْبِ الأصم الأسمرِ
فتجهزَتْ لحصادها في فيلقٍ ... لو يسبحُونَ بزاخرٍ لم يزخرِ
ملأ تتوقُ إلى الكفاحِ نفوسُهُم ... توقانها للقا الرداحِ المعصرِ
يغشون أبطال الوطيسِ بواسماً ... كالليْثِ إنْ يلق الفريسة يكشرِ
وتخالهم فَوْقَ الجيادِ لوابساً ... سدا تموجُ بالحديدِ الأخضرِ
فإذا هُمُ ازدحموا بجزعِ وانثنوا ... أورَى زنادُ دروعهم ناراً ترِى
جيشٌ طلائعه الأوابدُ إن تصخْ ... لوجيبِهِ من قيدِ شهرٍ تنفرِ
بقتادة الملكِ المشيحِ كأنه ... بينَ العوالِي ضيغَم في مزأرِ
ملك تدرع بالبسالةِ فاغتنَى ... يوم الوغَى عَنْ سابغٍ وَسَنوَّرِ
ملك تتوجَ بالمهابةِ فاكتفي ... عند الطعانِ لفرقه عن مغفرِ
ملك إذا ما جالَ يَومَ كريهةٍ ... لم تلق غَيرَ مجدَّلِ ومعفرِ
ملك يجهزُ من جحافلِ رأيِهِ ... قبل الوقيعةِ جحفلاً لم ينظرِ
ملك تسنم ذروةَ المجدِ التي ... من دونها المريخ بل والمشترِي
ملك تذكرنا مواقعُ عضبه ... في الهامِ وقعةَ جدهِ في خيبرِ
ملكْ إذا ما جادَ حدث مسنداً ... عن جودِهِ جودُ الغمامِ الممطرِ
ملك سما عن أن أُصَرَّحَ باسمه ... لسموِّهِ عن كُل وصفٍ مشعرِ
ملكٌ قفا سنَناً سنياً سنه ... للمجْدِ والده الزكي العنصرِ
ألأَشرفُ الشهْمُ الذي خضَعَت له ... شُمُّ الأنوفِ وكلُّ جحجاح سَرِى
ألأَفضلُ السنَدُ الذي بجنابه ... لاذَ الغطارفَة الألَى من حميرِ
ألأكملُ الندبُ الذي أوصافُهُ ... أنسَتْ سما الوضاخِ وابن المنذرِ
ألأكثرمُ المفضال مِنْ إحسانه ... أربَى على كسرى الملوكِ وقيصرِ
ذو الهمةِ العليا الذي قد نَالَ ما ... عنه تقصرُ همةُ الإسكندرِ
شرفاً تقاعَسَتِ الثوابتُ دونه ... لو لم تُمدَ بنوره لم تُزهرِ
هَبْها بمنطقةِ البروجِ مقرُّها ... أمناهِز هذا بُنُوَّةَ حيدرِ
كلا فكيْفَ بمن حواها جامعاً ... نسباً سما بأبؤَةِ المدثرِ
أعظِمْ بها من نسبةٍ نبويةٍ ... علويةٍ تنمى لأصلٍ أطهرِ
قد شرفَتْ بدءاً بأشرفِ مرسلٍ ... ونهاية بالسيدِ الحسنِ السرِيَ
فَخر الخلائفِ درَة التاجِ الذي ... بسواه هَامُ ذوي العُلاً لم يفخرِ
بَشَر ولكنْ في صفاتِ ملائكِ ... جُليَت لنا أخلاقُهُ فاستَبْصِرِ
لم تلقه يومَي عطا ووغىً سوَى ... طَلْق المحيا في حلا المستبشرِ
يلقى العفاةَ وقَدْ تلألأ وجهُهُ ... بسنا السرورِ وذاكَ أنضَرُ منظر
يعفُو عن الذنبِ العظيمِ مجازياً ... جانيه بالحسنَى كأنْ لم يوزرِ
يا سيدَ الساداتِ دونَكَ مِدْحَةَ ... نفحَتْ بعرفٍ مِنْ نداكَ معطَرِ
قد فصلَت بلالئ المدحِ التي ... وقَفَ ابنُ أوسٍ دونها والبحتُرِي
وَافَتكَ ترفُلُ في برودِ بلاغةٍ ... وبراعةٍ لبرودِ صَنعا تزدرِي
صاغَت حلاها فكرة قد زانها ... شَمَم الإباءِ من امتداحِ مقصرِ
ما شانها نَظمُ القريض تكسباً ... لولا مقامُكَ ذو العلا لم تشعرِ
ما شانها إلا اكتسابُ فضائلٍ ... تغنيه عن شَرَفِ العظامِ النخرِ
فوردتُ منهَلَها الرويَّ فلم أجدْ ... أحداً فنلْتُ صفاه غَيْرَ مكدرِ
فَنَهَلتُ منه وعلني بنميرِهِ ... ولبثتُ وارده ولما أَصدرِ
وطَفِقتُ فيه غائْصاً للآلئ ... في غَيرِ نظمِ مديحِكُم لم تنثرِ
لا تدعُنِي العليا رضيعَ لبانِها ... إن كنتُ في تلك المقالَةِ مفترِي
خُذها عقيلَةَ كسرِ خدرِ فصاحةٍ ... سفرت نقاباً عن محيا مسفرِ
جمعت فصاحةَ منطقِ الأعرابِ مَع ... حُسنِ البيانِ ورقة المستحضرِ
لو شامَهَا قُس لما سُمِعَت له ... بعكاظَ يوماً خطبة في منبرِ
شرفَت على ما عارضَتهُ بمدحِ مَنْ ... أضحى القريضُ به كعقدٍ جوهرِي
فاستَجلِها وافَت تهني بالذي ... نفحَت بشائره بمسكٍ أذفرِ
نصر تهز بنوده ريحَ الصبا ... خفقَت على هامِ الأشم الحزمري
هو نجلُكَ المنصورُ دامَ مؤيداً ... بك أينما يَلقَ العزيمةَ يظفرِ
لازلتُما في ظِل مجد باذخ ... وجنودِ مُلكِكُمُ ملوكُ الأعصرِ
مستمسكينَ بِهَديِ جدكم الذي ... بالرغبِ ينصرُ مِنْ مسافة أشهرِ
أهدى الإلهُ صلاتَهُ وسلامَهُ ... لجنابِهِ في طَي نشرِ العبهرِ
ولآلِهِ وصحابِهِ والتابعِي ... نَ لهم بإحسانٍ ليومِ المحشرِ
ما استنشَقَ الأبطالُ في يومِ الوغى ... نَقعَ العجاجِ لدى هياجِ العِثيَرِ
وقال الإمام عبد القادر بن محمد الطبري مادحاً أباه ومتخلصاً إلى مدحه: من الكامل:
قد أقبلت ريحُ القبول بعثيرِ ... نفح القبائل نفحة من عنبرِ
فتأرجَت أرجاءُ مكةَ إذ رُوِي ... خَبَر الوقائعِ في المجامع عَنْ بَرِي
إذ ضمخَت أيدي الكماةِ بنَقعِهِ ... وبمسها العود الرطيب السمهري
فتمايَلَتْ عذباتُهُم بشماله ... لا بالشمولِ ولا العبيرِ الأذفرِ
هزتهم نحو الصبا ريحُ الصبا ... والغَير هز بكل نكبا صرصرِ
هم فتية لا يطربُونَ حياتَهُم ... إلا بحربٍ أو برحب مقفرِ
جوبُ المهامهِ صَارَ منقبةً لهم ... أبداً وهذا شانُ كل غضنفرِ
من كُل أصيدَ لا يرى متلفتاً ... لثباته بين العديدِ الأكثرِ
شهم عَلَندَى بالوشيجِ موشح ... لا بالوثيجِ إذا دعى في المحضرِ
هو في المفر كَمُشمَخِز راسخٍ ... ولدى المكز تراه كالمُسْحَتفِرِ
لله قومْ ما جَنَوا برماحهم ... إلا رؤوساً أينعَت من مثمرِ
كلا ولا نهلَتْ عطاش سيوفهم ... إلا مِنَ العَلَقِ النجيع الأحمرِ
قوم سواهم بالسريرِ مجرد ... وهُمُ سراة فوق جردٍ ضُمَرِ
ألفوا الدروعَ مدى الزمانِ غلائلاً ... أغنتْهُمُ عن لبسِ كل معصفرِ
لا يهتدونَ بجحفَلٍ من قسطلٍ ... إلا بقدحِ جيادِهِمْ في المحجرِ
فهمُ كبَحْرٍ من حديدٍ مائرٍ ... عند المسيرِ وتحتَهُم نار ترِى
حتى إذا دخلَ النزالُ وهاجتِ ال ... أبطالُ في الهيجا هياجَ مزمجرِ
وبدَت زماخرُ كل صنديدٍ إذا ... مدَ السواعد كان قدماً زمخري
يدعو النزالَ إلى نزالِ مسعرٍ ... لهب الوغَى منه بأعسَر مسعرِ
لاقاه غطريفٌ عليه سيطرٌ ... لا يرتجي إلا لقَاءَ عَشَنْزَرِي
يلقى الكريهةَ فاغراً متبسماً ... يخطو بمشيَةِ أرعَنٍ متبخترِ
ويجرُ عُجباً ذيلَ فاضتِهِ التي ... شملَتْهُ بين مزردِ ومزررِ
يلقى المنونَ لِقا المُنَى بمهندٍ ... لا ينتضي إلا بكَف مقذحرِ
دبَّت على متنيهِ في حالِ المضا ... نملُ المنايا دبهاً في المحشرِ
عافَ الجفير فلا مقرَّ له سوَى ... هامِ الشجاعِ المقدم المتهورِ
ظلم النفوسِ لظلمها ممزوجة ... بدَمِ النياطِ بغربِ ذا العضْبِ الفرِي
ففرندُهُ ما زال وهْوَ مدبجٌ ... من أبيضٍ في أسودٍ في أحمرِ
لصليلهِ في الهامِ فعلُ الصل في ال ... ملسوبِ مسلوب الفؤادِ المسهرِ
قسماً به إن السيوفَ حديدَةٌ ... لولا يدُ الحسنِ المليكِ القسورِي
ألسيدُ الجَخجَاحُ أَفضَلُ من به ... وبرأيه ظهَرَت نجابةُ حبْدَرِ
ألباسلُ الصنديدُ من فرجَت له ... في مأزقٍ خطية لم تقصرِ
قد أنهلتهاً كفُّه نَحْر العِدا ... فأنهَل غَيث نجيعه المثْعَنْجِرِ
سُمرٌ عَوَالِ للرُدَيْنِ نماؤها ... تروى به علل الورُود المصدرِ
قسماً بها إن العواليَ خوطَةٌ ... لولا يمينُ ابن النبيِّ الأفخرِ
ألباسلُ الشهمُ الأشُم المرتقِي ... ما قصرَت عنه عزائمُ قيصرِ
وتكسرَت آراءُ كِسرَى دونه ... في وترِ سيفٍ إذ حماه بعسكَر
فَعلاَ ابن طه ليْسَ يبرحُ واضحاً ... وبه يرَى الوضاح شِبْهَ مقصرِ
جَل الأشمُ ابن العرانينِ الألَى ... عَنْ أن يقاسَ بمثله ابنُ المنذرِ
ثَبتْ إذا نُوَبُ الزمان تقاذفَتْ ... لا بالغبي بها ولا المستَنْكرِ
ما ظَن أمراً سابقاً أو لاحقاً ... إلا رمَى عن قوسِ غَيْبِ موترِ
أو لويعادى الصخر لانفلق الصفا ... خَوْفاً فمنْ ذا بَعْدَ هذا يجتري
صُغرَى عزائمِهِ إذا جابَ الفَلاَ ... تنحط عنها همةُ الإسكندرِ
لم يُلْفِ في حالَيْ رضاهُ وبطشِهِ ... أبداً سوَى متبسم ومكشر
كملَت بسالتُهُ فأنجَبَ سيداً ... قرتْ به عينُ الشرَيفِ حَزَوَرِ
ليث مخالبُهُ الأسنة والظبا ... يغتالُ قلبَ الفارسِ المثعنجرِ
ليثَ صهيلُ الخيلِ أشهَى عنده ... من صوتِ مزمارِ ورنَّةِ مِزهَرِ
ليث يرى الصهواتِ أنعَمَ من علا ... ظَهْر الأريكةِ أو تسنم منبرِ
ليثٌ أشار عليه والدُه ضحىً ... لغزاةِ قومِ شَمَروا من شمرِ
فاقتادَ ظُهراً جيشَهُ متوجهاً ... لا بالونيَّ المبطئ المستَخْبِرِ
وأبو علي بينهم متأوداً ... عند الكفاحِ تأوُّد المستبشرِ
أَلنصْرُ في أعلامِهِ والسعدُ في ... إقدامِهِ والرعبُ مدة أشهرِ
وبوجهِهِ نورُ النبوة ساطع ... يغنيه عن ظَهْر الطرازِ الأخضرِ
يلقى العدُوَ مشهراً بعلامةٍ ... والغيرُ إنْ لاقَى فغير مشهرِ
يأيها المولَى الإمام المرتضَى ... أنتَ الخليفةُ وارثُ المدَثرِ
قد قمتَ فينا منذراً ولربكَ ال ... أعْلَى نراكَ سموتَ كل مكبرِ
وثيابُكَ الحسنى غدوْتَ مطهراً ... وهجرتَ رُجزاً لا أقولُ لك اهجُرِ
ومنحتَنا منناً تطوًقُ جيدناً ... عقيانُهاً لا منَّة المستكثرِ
يا بن الخلائفِ من قريشٍ هذه ... غُرَرُ الخلائقِ من أبيكَ الأطهر
أوتيتَهاً فبذلْتَ واجبَ حقها ... وحميتَها من أصعَرِ أو أصغرِ
والله قد أعطَاكَ ما لَمْ يعطِهِ ... مَنْ قد مضَى فاحمَدْ إلهَكَ واشكُرِ
ثم وليها الشريف إدريس بن الحسن، وذلك أنه كان المعتاد في قواعد بني حسن أن يكون من يتفقون عليه، ويختارونه هو صاحب الأمر، فاجتمع حينئذ الأشراف جميعهم، وأعملوا رأيهم السديد وحمد غب ذلك صنيعهم فاختاروا مولانا الشريف إدريس بن الحسن فولوه، وأكبروه ورتبوه في الولاية وصدروه، وأشركوا معه في الدعاء على المنابر ابن أخيه مولانا الشريف محسن بن الحسين بن الحسن، وأشركوا معه أخاه السيد فهيد بن الحسن في ربع ما يتحصل من الأقطار الحجازية، وكتبوا بذلك محضراً إلى الروم ثم وصل الجواب كذلك فاستمروا.
فلما كان يوم سابع في الحجة الحرام من سنة اثنتي عشرة وألف كانت عرضة المصري وأميره الأمير حسن الشهير بدَلِي حسين، ووصل معه بثلاث خلع، لبس مولانا الشريف إدريس الخلعة الأولى الكبرى، وهي بفرو سمور تحتها خلعة منفصلة كالبطانة، وهاتان الخلعتان عن خلعة واحدة، ولبس الشريف محسن خلعة بلا فرو، ولبس السيد فهيد خلعة كذلك بغير فرو، ووقف الشريف إدريس في المختلع إلى أن توجه الأمير حسين، ثم جاء أمير الشامي وهو الأمير طهماس، فنزع الشريف إدريس خلعة الفرو، ولبس خلعة الشامي وهي بفرو أيضاً، ولبس الشريف محسن، ولبس السيد فهيد خلعتيهما وكلاهما بغير فرو، وكانت عرضة رائقة لم يحصل فيها مخالفة، وأخلف الله الظنون المخالفة.
وفي سلخ جمادى الأولى من سنة ثلاث عشرة وألف وصل من مصر هجان، وملخص أوراقه أن الشيخ محمد زين العابدين بن محمد البكري مات فجأة في القلعة في مجلس صاحب مصر الوزير إبراهيم باشا، وذلك بعد أن تعشى عنده ودخل معه إلى الخلوة، وشرع في قراءة فاتحة الكتاب فسقط على وجهه، فحركوه فوجدوه ميتاً رضى الله عنه، وكانت وفاته في ثامن عشر ربيع الأولى من السنة المذكورة.
وفي آخر ربيع الثاني منها: اجتمعت عساكر مصر، وقتلت صاحب مصر إبراهيم باشا، وقتلت معه محمد بن خسرو، ولم تقتل سواهما، مع أنه كان حاضراً عنده جملة من الأمراء وقاضي مصر وغيره من الأكابر.
وفي يوم الأربعاء سابع عشر رجب من السنة المذكورة أيضاً: دخل مصر باشا جديد لها اسمه محمد باشا، وهو خادم قرجي الجنس، واستمر إلى ثاني ربيع الأول من سنة أربع عشرة بعد الألف، فعزل بالوزير حسن باشا الواصل من اليمن.
وفي شهر الحجة من السنة المذكورة: وقعت فتنة بمكة بين الأتراك النازلين بالمعلاة وبين عبيد الشريف، فركب حاكم مكة يومئذ القائد راشد بن فايز، فلما أن كان برأس المدعي أصابه سهم لا يعلم من أين جاء فوقع في نحره فكان فيه نحره، وكان من بعض الدور النازل بها بعض الترك فحمل قتيلاً.
وفيها توفي الشيخ الملا علي القاري بن سلطان بن محمد الهروي الحنفي الجامع للعلوم العقلية والنقلية، والمتضلع من السنة النبوية، أحد جماهير الأعلام، ومشاهير أولي الحفظ والأفهام. ولد بهراة ورحل إلى مكة وتديرها.
أخذ عن خاتمة المحققين العلامة ابن حجر الهيثمي، وشرح المشكاة والشمائل الوترية والجزرية، وله شرح على نخبة الفكر وشرح على الشفا وشرح على الشاطبية، ولخص القاموس وسماه الناموس، وله الأثمار الجنية في أسماء الحنفية وله غير ذلك، لكنه امتحن بالاعتراض على الأئمة لاسيما الشافعي وأصحابه، واعترض على الإمام مالك في إرسال يديه، ولهذا تجد مؤلفاته ليس عليها نور العلم، ومن ثم نهى عن مطالعتها كثير من العلماء والأولياء.
وفي سنة ست عشرة بعد الألف: توفي السيد صبغة الله بن روح الله الحسيني قطب مدار الراسخين في العلم والعمل الفحول، وقلب أهل الإشارات والإلهام والوصول، جبل عرفات العرفان، وحبل مستعصم رجال العطف والحنان.
صحبه الجم الغفير، وانتفع به الجمع الكثير، أوفرهم حظاً مولانا السيد مرزا، كما أشار هو إلى ذلك في بعض مصنفاته بياناً ورمزاً. وكذلك مولانا السيد أسعد البلخي، والشيخ أحمد الشناوي، توفي بطيبة المنورة، ودفن بالبقيع وقبره ظاهر يزار رحمه الله رحمة الأبرار.
وفيها ورد الأمر من مولانا السلطان الأعظم أحمد خان بترميم المقامات الأربعة حرم الشريف على يد شيخ الحرم حسن بن مراد الرومي، فرممت على أحسن وجه وأتقنه.
وفي سنة إحدى وعشرين بعد الألف: توفي السيد فهيد بن الحسن بعد أن شارك أخاه الشريف إدريس، وابن أخيه الشريف محسن بالربع في جميع الأقطار الحجازية الداخلة تحت حكم صاحب مكة المشرفة البهية، فكثرت أتباعه من السادة الأشراف والحسنان والعسكر بحيث صار موكبه يضاهي موكب الملك، وإذا جلس وقفت الترك يميناً وشمالاً، واتخذ جبالية للبندق نحو مائتين أو أكثر، ولم يحفظ أتباعه وعبيده عن النهب والسرقة فكثر ضررهم على الناس، وشد قوسه على مولانا الشريف إدريس وإخائه، واستل صارم الصرامة عليه في شدته ورخائه، والشريف متورع عن فتح باب المصارمة، وصدع ما لا يلتئم بالجبر والملايمة، فلما زاد - كما تقوله العامة - الماء على الدقيق، ولوحظ ما حقه التفخيم بالترقيق.
وأخذ فهيد بجانب أكمل الدين القطبي، وأراد أن يلبسه قفطان الإفتاء قبل أن يحرم ويلبي.
ووقف الشريف إدريس ذلك الموقف، واعتنق السمهري تعانقاً يثنى، ولواء الخميس العرمرم يرعب ويرجف، وأقسم لا يلبس القفطان إلا وقد ورد السنان نحره.
فقال فهيد: ولو خربت البلاد؟ فقال إدريس: ولو خربت قبل سجره، فعند ذلك تراجعا إلى النهي، وفكرا في المبدا والمنتهى، وعادا وفي قلب كل منهما وقد.
وأخذ مولانا الشريف إدريس من ذلك في حل ما مضى مع فهيد من العهد، خصوصاً لما صمم القطبي ورجع الأمير، ولم يجعل التفكر في عواقب الأمور أصدق سمير، ودخل معه إلى المدرسة المعروفة، ولبس الخلعة الموصوفة، وتجاهه من جماعة الأمير اثنان من الأساكفة أرباب التشهير، وشق الشارع الأعظم حتى انتهى إلى سويقة، وصهيل خيله يسمع من كل شباك وطويقة.
كل ذلك عناد لسيده ومولاه، وكفران لمن خوله هذه النعمة وأولاه.
فأضمر حينئذ الشريف إدريس الحقد على أكمل الدين. كذا في سلافة العصر والأرج المسكي.
ولما أراد الله انقضاء مدة فهيد وفراغ دولته، تغير عليه في الباطن أخوه الشريف إدريس، وأرسل لابن أخيه الشريف محسن بن حسين، وكان إذ ذاك باليمن بأن يأتي بجميع من معه من الأشراف والقواد والعرب، فحضر ومعه أمير حلى محمد بن بركات الحرامي، ونودي بمكة بأن البلاد لله، وللسلطان وللشريف إدريس والشريف محسن، وخلع السيد فهيد من الذكر، ومنع من الربع، وجعل ما كان لفهيد من ربع مغل الأقطار الحجازية لابن أخيه الشريف محسن، ولم يخطب للسيد فهيد، وخطب لمولانا الشريف إدريس أولاً ولمولانا الشريف محسن بعده ثانياً، كل هذا وفهيد في مكة في بيته، وجموعه وافرة، وعدته وعدده المتكاثرة، فاستعد أصحابه للقتال، وأشار إليه أعيانهم بالحرب، فامتنع من ذلك، وطلب من الشريف إدريس شهر زمان ليتأهب للخروج من مكة بعد أن طلب أن يمكن من سكنى مكة بغير ربع، فامتنع الشريف إدريس إلا أن يتوجه إلى حيث أراد من الأماكن والبلاد، فخرج من مكة سنة تسع عشرة وألف، فانضم إلى بعض أكابر الحاج المصري، وسار إلى مصر، وتاريخ قدومه في شهر صفر قدومكم خير سنة عشرين وألف، ثم منها إلى الديار الرومية، واجتمع بسلطان الروم، فيقال: إنه أنعم عليه بإمرة مكة، فعاجلته المنية قبل الأمنية، كذا في تاريخ ابن جار الله.
وأرخ وفاته الأديب إبراهيم بن يوسف المهتار بأبيات فقال: من الرمل:
ما وقوفي بطلولٍ ودمَنْ ... غيرَت سُكانها أيدي الزمَنْ
ليَ شُغْلٌ عَن بكائي رسْمَها ... وسؤالي قَفرَها بعد السكَنْ
بالذي أسْمِعْتُهُ مِن خبرٍ ... حَرَمَ العينَ لَذَاذَاتِ الوَسَنْ
نَعيَ ذي المجدِ الكريمِ المرتجَى ... حاوي العليا فهيد ذو المِنَنْ
فارج الكربِ وماضِي الغربِ في ال ... حَربِ غيثُ الجدبِ ذو الفعلِ الحَسَنْ
مَن أبَت همتُه إلا العلا ... ومراقِي عزها خَيْر ظعن
واصل الروم فوافاه الردَى ... في بلادِ باعدَتْ عنه الوطَن
ليتَ شعْري أيُّ أيدٍ غيبَت ... في الثرى شخصَكَ مِن بَعدِ الكفَنْ
هل درَت ما غَيبته من حِجىً ... ومعالٍ ونوالٍ في قَرَنْ
إن تحجبتَ بأطباقِ الثرَى ... فأياديكَ بشام وَيَمَنْ
لكَ ذكْز بالثنا لا ينقضِي ... صار كالفَرضِ على أهل السنَنْ
رَحِمَ الرحمن مثوَى جدثٍ ... هو في كل فؤاد كالشجَنْ
وسقى الله تراباً ضمهُ ... صيبُ الرضوانِ ما غيث هَتَن
قيلَ لي هلْ قلتَ تاريخاً له ... بارعاً تُمليه أربابُ الفِطَن
قلتُ والخد روٍ مِن أدمعِي ... والحشا بالكَربِ صاد في حَزَن
نصْف بيتِ قد أتى تاريخه ... ماتَ بالروم فهيدُ بن الحَسَن
وفي هذه السنة كانت وفاة أكمل الدين القطبي شهيداً بالأعاضيد، اسم محل به نخل ومزارع بين الطائف والمبعوث والمبعوث إليه أقرب، والشريف إدريس إذ ذاك بالمبعوث.
وفي هذه السنة أيضاً وقعت قتلة بين الجبالية، وبين الحسنان، والقائد جوهر قباني حاكم مكة، تعصبت الحسنان والقواد للقائد جوهر، فتحاربوا أجمعين على أقدامهم بخط القشاشيين إلى الصفا، وكان الظفر للحسنان والقواد وقتل بعض الجبالية.
وفي أوائل العشرين من ذي الحجة الحرام من سنة عشرين بعد الألف: وصل من الديار الرومية الباشا حسن المعمار بميزاب الكعبة المشرفة، أرسل به السلطان أحمد ابن محمد خان، وأمره أن يجعل لها إزاراً من حديد فوقه مثله من الفضة المطلية بالذهب، فبرز أمر صاحب مكة مولانا الشريف إدريس بن الحسن إلى أكابر مكة وعلمائها بأن يلقوا الباشا حسن من الحجون ويمشوا أمام الميزاب، فامتثلوا الأمر وبرزوا، وكان ذلك في آخر النهار، فدخل الميزاب إلى مكة من الحجون وأمامه بعض طوائف الأذكار، وهم يذكرون الله تعالى، فبعد إتمام مناسك ذلك العام وقفول الحجاج إلى بلادهم توجه إلى عمارة العين وكان مأموراً بذلك وصحبته أموال من جانب السلطنة، فاتفق عمل ذلك وأتمه، ثم إنه ركب ميزاب الكعبة بعد قلع ميزابها، وأرسل إلى الحضرة السلطانية، وجعل الإزار المأمور به على الكبة.
واستمر الإزار عليها إلى أن اتفق سقوط بعض الجدران في دولة الشريف مسعود ابن إدريس عام تسع وثلاثين بعد الألف، كما سيأتي تفصيله.
وقد تقدم ذكر بعض ذلك في ترجمة السلطان أحمد بن محمد خان في الباب المعقود لدولة العثامنة، أدامهم الله وأدام بهم الدنيا آمنة.
وفي سنة إحدى وعشرين بعد الألف: وصل الوزير حاجي محمد باشا منفصلاً عن وزارة اليمن، وكان دخوله إلى مكة غرة شعبان من السنة المذكورة، وصام رمضان، وتصدق وفعل أفعالاً عديدة من الخيرات، وكان وصل معه في مركبه الواصل بحراً فيل صغير أراد أن يهديه إلى الحضرة السلطانية العثمانية، ثم إن هذا الفيل استمر بجدة أَياماً فجاء الخبر بموت السلطان عثمان بن أحمد خان، ثم انتقَل حاجي محمد المذكور ليلة سابع عشري شوال من السنة المذكورة، ودفن ضحى صبيحة تلك الليلة بالمعلاة، وبنيت عليه قبة عظيمة باقية إلى اليوم.
ووقع سنة وصول الفيل غلاء شديد بمكة؛ قال فيها العلامة مولانا عبد القادر بن محمد الطبري تاريخاً وهو على غير الأبحر المتداولة ونصه:
حَرمَ الله حِل ساحتِهِ ... قدم الفيل ضَلَّ عن رشده
كثرالهَمّ يا فَتَى أَرخ ... سَنَة الفيلِ همها يشده
وفي عام ثلاث وعشرين بعد الألف في شهر محرم الحرام منها: وقع مطر عظيم، وفيه برد كبار كل بردة منه قدر شربة الماء بل أكبر.
وفي سنة أربع وعشرين توفي الأديب برهان الدين بن محمد بن مشعل العبدلي السالمي المكي.
كان شاعراً ماهراً له قصائد طويلة يمتدح بها الشريف الحسن بن أبي نمي وغيره، فمن شعره في مليح يهواه وهو يهوى الراح قوله: من مجزوء الكامل:
شمس الطلا بَدرِي غدا ... لم يَصحُ من تعليلها
فالراح قتلةُ قاتلىِ ... وأنا قتيلُ قِتيلِهَا
توفي بالطائف مجاوزاً السبعين.
وفيها توفي الشيخ نور الدين الزيادي شافعي زمانه، القطب العارف بالله في أوانه.
قال في الريحانة: حضرت دروسه زماناً طويلاً وهو كما قلت فيه: من الوافر:
لنورِالدين فَضل لَيسَ يَخفَى ... تضيء به الليالِي المدلهمَّه
يريدُ الحاسدونَ ليطفئُوهُ ... ويأبى الله إلا أن يُتِمه
وله حاشيه على شرح المنهج، وأخذ عنه كثيرون.
وفي سنة خمس وعشرين وألف لليلتين بقيتا من شعبان منها: ورد الأمر السلطاني من حضرة السلطان أحمد على يد الباشا حسن أفندي بعمل شباك نحاس في بئر زمزم ليمنع كل ما يسقط فيها من آدمي وغيره، فجعل على قدر تدوير فم البئر وجعل له ست سلاسل وربطتَ بالحديد الدائر على فمها، وصار الماء فوق الشباك نحو ثلثي قامة.
وفيها توفي الشريف حازم بن راجح بن أبي نمي الحسني: كان من أكابر السادة وأعيانهم، يرجعون في المهمات إلى رأيه السعيد، وتدبيره الحميد.
بلغ من الحزم منتهاه، وطابق اسمه مسماه.
وقد كان رحل مع والده راجح بن أبي نمي إلى مصر حين عزم إليها منافراً لأخيه الشريف، ثم بعد انتقال والده راجح المذكور بمصر رجع إلى مكة فأكرمه عمه الشريف حسن، واعتذر حازم عن عزمه مع والده بأنه لا يمكنه خلاف والده، فقبل عمه الشريف حسن عذره. قاله في الجواهر والدرر.
وفيها توفي السيد سالم بن محمد السنهوري المالكي المصري، أدرك ناصراً اللقاني، وأخذ الحديث عن النجم الغيطي وغيره، وتفنن في العلوم، ومهر في الفقه حتىّ صار معتمد المالكية في عصره، له تعليق على مختصر خليل.
وقد كان للشريف إدريس من العبيد المولدين، ومن الرقيق الجلب ما يزيد على الأربعمائة، ومن المقاديم من العرب جماعة، وكانوا في أَشَر وبَطَر، وتِيهٍ وعَسَر وتجمل ظاهر، يتخيل الواحد منهم نفسه الملك القاهر.
وكان من خدامه وزير مكة القائد أحمد بن يونس وإن كان ولاؤه لذوي بركات، فلما كان النصف الأخير من شهر رمضان سنة ست وعشرين وقعت فتنة سببها أن القائد أحمد بن يونس، وهو الوزير على مكة من قبل مولانا الشريف إدريس وكان وزير مولانا الشريف محسن القائد ياقوت بن سليمان، وكان مولانا السيد محمد بن عبد المطلب نائباً في مكة عن عمه الشريف إدريس لغيبته في الشرف كان قد استفحل أمره، وعظم حتى صارت الأمور كلها منوطة برأيه وتدبيره، موكولة إلى تقديمه وتأخيره.
فتوافق مولانا الشريف إدريس، ومولانا الشريف محسن، فأرسل مولانا الشريف إدريس إلى السيد محمد يأمره بأخذ المهر، وهو مهر العروض من القائد أحمد، وكذلك أرسل مولانا الشريف محسن إلى القائد ياقوت بن سليمان بأخذ مهره منه، ففعل كل ما أمر به.
وكان الأخذ المذكور في صبيحة عاشر رمضان من السنة المذكورة، فحينئذ شاع في البلد عزل أحمد بن يونس، وأرسل مولانا الشريف إدريس إلى القائد ريحان بن سالم حاكم مكة يأمره بالوصول إليه إلى الشرق، فقدم إليه، فقلده منصب الوزارة، فوصل إلى مكة في الشهر المذكور، ووصل الخبر إلى السيد محمد بن عبد المطلب بأن القائد أحمد بن يونس يريد الركوب عليك، وقد اجتمع عنده العدد والعدد، ووصل الخبر إلى القائد أحمد بذلك أيضاً، فركب كل منهما بعد أن ألبس، ووقف عند باب داره، ثم انجلى الأمر، وظهر أن ما أخبر به كل منهما ليس له أصل، فأرسل مولانا السيد محمد بن عبد المطلب إلى مولانا الشريف إدريس، ومولانا الشريف محسن بذلك، فلما كان العشر الأخير عزم القائد أحمد إلى مولانا الشريف بالمبعوث، وكان قد وصل إليه الشريف من محله الأول، فأقام القائد أحمد هناك، فجاء الأمر إلى مولانا السيد محمد بأخذ أموال القائد من داره، وكل ما حوله، وأن يحفظ على ذلك، فلما أن كانت ليلة العيد حصلت حركة من آخر الليل عند بيت السيد محمد، وتفريق سلاح وأدراع، فنزل إلى المسجد، وصلى صلاة العيد فقط، وبرز من المسجد قبل الخطبة، وعزم بالجيش إلى البستان - بستان ابن يونس - فختم على أمواله كلها، وأمر أن ينزل البعض منها إلى البلد، واستمر هو إلى بعد صلاة الظهر، ونزل، والجيش معه بعد أن ختم على بقية الأموال، وقبض على جماعة من المنسوبين إلى أحمد، وحبسهم بعد أن ختم على بيوتهم، ثم فكوا بعد وصول مولانا الشريف إدريس، إلا إبراهيم بن أمين كاتب أحمد، وأعظم المقربين إليه؛ فإنه لم يزل مسجوناً إلى أن قضى الله عليه في السجن.
وأما أحمد فإنه استمر بالمبعوث، فثارت بسببه في ثاني شوال من السنة المذكورة بين ذوي حسن، وذوي بركات فتنة أدت إلى الإدراع والإلباس، ثم رحل إلى كلاخ فأقام بها، ثم رحل منها إلى جهة الشام.
فلما أن كان في أثناء الطريق رجع فوصل إلى مولانا الشريف إدريس، وهو بالشرق في السنة المذكورة، فسجنه وكبله بالحديد، ثم قتله في السنة المذكورة أيضاً في محل يقال له: وادي النار، ودفن هناك، فسبحان الفعال لما يشاء.
وقد كان هذا الوزير في قوة من المال والرجال قد اشتغل بالحال، ولم يفكر في المآل وسار صيته في الآفاق، وأكثر الدخل وأقل الإنفاق وكان ذا تدبير لأحواله حتى جاوز الحدود، فوقع به ما قضاه الملك المعبود اللهم عافية غير عافية، ورأفة منك وافية كافية كذا في الأرج المسكي " .
وفي سنة سبع وعشرين في ذي الحجة منها: قلع الشباك النحاس الذي عمل لبئر زمزم الأفندي السيد محمد بن مصطفى الفناري لما قيل له: إن ماء زمزم تغير طعمه بسبب ذلك الشباك وأن الدلو إذا وقع ربما أمسكه أن يصعد.
وفي سنة تسع - بتقديم التاء - وعشرين وألف في سادس عشر جمادى الأولى منها: توفي السيد منصور بن أبي نمي بمكة، وخطب له على زمزم بعد موته، وهو آخر أولاد الشريف أبي نمي موتاً وسنه نحو سبعين سنة، ورأى أولاد أولاد أولاد أولاد أبي نمي، ودفن بالمعلاة وكانت جنازته حافلة.
وفيها: غزا الشريف محسن بن الحسين بجيلة ونواحيها.
وفي يوم الأحد ثامن عشري الشهر المذكور من السنة المذكورة: وقع في المسجد الحرام طراد عجيب بسبب أن جبلياً أراد الطواف، فأودع سيفه عند رجل هندي، فمر به رجل تركي فابتدر الهندي السيف، وقتل التركي، فثار الناس على الهندي، فطردهم إلى باب الصفا، فتكاثر الناس على الهندي، ورموه بالحجارة فطردهم، ثم أحاطوا به، وضربه رجل عند زمزم بإبريق فزلق بالبلاط، وطاح فضرب بجنبية، ومات التركي والهندي.
وفي ليلة الأحد الرابعة والعشرين من جمادى الآخرة منها توفي السيد منجد بن راجح ابن أبي نمي بالمبعوث، وحمل إلى مكة، ودفن بالمعلاة، وكان من أعيان أشراف مكة، يوصف بالكرم.
وفي رجب منها: توفي السيد قتادة بن ثقبة بن أبي نمي ودفن بالمعلاة.
وفيها - أو التي بعدها - توفي العلامة عبد الرؤوف المناوي شارح الجامع الصغير شرحين، وله ترتيب الشهاب وشرحه، وشرح أدب القضاء، وطبقات الصوفية، والأرغام، وغير ذلك. رحمه الله - تعالى - .
وفي سنة اثنتين وثلاثين وألف: توغل مولانا الشريف إدريس، وابن أخيه مولانا الشريف محسن في الشرق، ووصلا بالفريق إلى قرب الأحساء، واجتمعا بذوي عبد المطلب، وكانوا في العام الماضي نافروا عمهم الشريف إدريس فقام الشريف محسن في موافقتهم لعمهم فتم ذلك، وطابت نفوسهم، ووصل الشريفان بفريقهما إلى الأحساء، وضربت خيامهم قبالة الباب القبلي من سور الأحساء، وأكرمهم صاحبها علي باشا الكرامة التامة، وأقاموا نحو ثمانية أيام، ولم يتفق لأحد من أشراف مكة المتولين من القتاديين وصول الأحساء كما اتفق لهذين الشريفين.
وفيه في ثالث ربيع الثاني: دخل الشاه بغداد، وأخذها من يد المتغلب عليها من باشوات السلاطين بني عثمان، وسبب ذلك أن رجلاً من عسكرها يسمى بكر تغلب عليها، وانبسطت يده على مملكتها حتى صار إذا جاء الباشا السلطاني العثماني متولياً عليها لا ينفذ من حكمه إلا ما نفذه بكر المذكور، وغلب على بكر أيضاً ولده محمد، ولكل فرعون موسى، فوصل إليها وزير اسمه أحمد حافظ بجيش كبير، فلما رأى بكر ذلك أغلق أبواب بغداد، وأرسل إلى الشاه ليمكنه من البلاد، وتبقى له رقبته وماله، فأتى الشاه بعسكره، فلما رأى أحمد حافظ قوة الشاه أرسل الخلعة والتأمين لبكر ثم انصرف راجعاً، ولم يزل الشاه في ذلك المكان، وأعطى محمد بن بكر العهود بأن يجعله نائب البلاد، ويؤمنه - كما طلب - على رقبته وماله، ففتح الباب باب السر، فدخل عسكر الشاه، وأظهروا أنواع الطغيان، وقتلوا بكراً وجميع أهله شر قتلة، وقتلوا أهل السنة جميعهم، ثم خرج الشاه منها، وأقام فيها خاناً من خاناته، فأرسل سلطان الروم العثماني وزراء معهم الجيوش الجرارة لأخذها فلم يحصل من أحد فتحُها، حتى قدر الله تعالى فتحها على يد السلطان مراد بن أحمد خان، كما سيأتي ذكره في سنة ثمان وأربعين وألف.
وفيها توفي السيد دخيل الله بن ثقبة بن أبي نمي في بيشة، ودفن بها، وكان من أجلاء الأشراف ورءوسهم وذوي الرأي منهم.
وفيها يوم الإثنين سابع رمضان منها: مات السيد أبو نمي بن عبد الكريم بن حسن ابن أبي نمي بالمبعوث وحمل إلى مكة.
وفيها ليلة الثلاثاء ثامن رمضان المذكور دخل حيدر باشا متولياً اليمن، فنصب دكة في المسجد الحرام، فصلى عليها فأنكر عليه الملا محمد مكي فروخ، ورماه بالحجارة فتبعه العامة فأمر بلزمه فلزم، وقال: لا بد من ضربه خمسمائة ثم طلبه، ولم يضربه وجمع فيها الأئمة الأربعة ونائب المحكمة، وأثبت أنه ما فعل ذلك إلا لعذر، وكتب ذلك في السجل.
وفيها يوم عيد الفطر: كانت وفاة الإمام عبد القادر بن محمد الطبري، وهو الإمام الذي تصدر في محراب العلم والإمامة، وتسنم صهوة جموح الفضل، وملك زمامه، من رفع للعلوم أرفع رايه، وجمع بين الرواية والدراية. فأصبح وهو كاسر الوساده، بين الأئمة والساده، يشنف المسامع بفرائد كلامه، ويبهج النواظر بما تذبجُه أنامل أقلامه.
إذا انفهقت بشقاشق قالِهِ لَهاتُهُ، ثبت حق إفصاح الكلام، وبطلت ترهاته، إلى نسب في صميم الشرف عريق، وحسب غصن مجده بالمعالي وريق، وبيت لم ليس فيه إلا إمام وخطيب وأديب، فَنَنُ فضلِهِ في رياض الأدب رطْب، والطبريون سادة من غير الفضل بريئون.
وهذا الإمام واسطة عِقدهم، ورابطة عقدهم، ومحيي آثارهم، والآخذ من الدهر بثأرهم.
صنَّف وألف، وسبق وما تخلف.
أما الأدب فرَوضه الممطور، وحَوضه الراوية منه السطور.
كانت له عدة من المصنفات. منها: شرح الدريدية المسمى بالآيات المقصورة على الأبيات المقصورة، وحسن السريرة في حسن السيرة، وشرح بديعيته التي على منوال بديعية ابن حجة المسمى على الحجة، بتأخير أبي بكر بن حجة، ونشآت السلافة بمنشآت الخلافة، وشرح قطعة من ديوان المتنبي: سماه: الكلم الطيب على كلام أبي الطيب.
وله عدة رسائل وغير ذلك من حواش وتعليقات. وإنشاء ومكاتبات تهيج البلابل، وتحقق - لولا أنها حلال - سحر بابل.
أمَّ بالمسلمين في المقام ببلد الله الأمين، واتصل بقرب سلطان مكة ونواحيها، وحامي جهاتها وضواحيها، مولانا الشريف حسن بن أبي نمي، فحصلت له من جنابه العظيم مكانة أي مكانة، وزادت علوه رفعة وأعلت مكانه، بحيث حملته على تأليف غالب مؤلفاته المذكورة برسمه، وجعلها خدمة لخزانته المعمورة متوجة بلقبه واسمه، أثمرت عزاً فيه يتنافس المتنافسون، وأينعت مجداً يقال فيه: لمثل هذا فليعمل العاملون هطلت على غرائسها سحائب الإنعامات الحسنية، ونشرت على دوحاتها خلع الإجلال السنية.
ولما وصل إليه بشرح الدريدية، وقرأ ديباجته لدى حضرته العلية، وذكر له أنه أنشأ بيتين هما تاريخ تمام تأليفه، وجعلهما على لسان الكتاب وأراه إياهما، تناول الشريف حسن الكتاب بيده الشريفة، وقرأ البيتين وهما: من مجزوء الرجز:
أرخَنِى مؤلّفي ... ببيتِ شعْرٍ ما ذهَبْ
أحمدُ جود ماجِد ... أجازني أَلْف ذَهَبْ
فتبسم مولانا الشريف، ووضع الكتاب في حجره، ووضع يده الشريفة على رأسه، وقال: على الرأس والعين، والله إن ذلك نزر يسير في مقابلته، وإني أحمد الله تعالى الذي أوجد مثلك في زمني.
ثم لما كانت أيام وفاته، ووصلت مطايا عمره إلى غاية محله وميقاته، وذلك في زمن مولانا الشريف إدريس بن حسن كان سببه المقدر، في كتابه المسطر، أنه انتابت خطبة العيد أحد ولديه، وكانت أول خطبة حصلت لديه، فتهيأ للقيام بأدائها، وأرهف عضب لسانه لإبدائها.
فمنعه بعض أمراء الأروام، الواردين إلى مكة تلك الأعوام، يسمى حيدر باشا، ورغب في أن يكون حنفي المذهب، وأخاف من تعرض له وأمره وأرهب.
فضاق بالإمام نجده ووهده، وجهد في إزالة المانع فلم يجد جهده؛ لأن مولانا الشريف إدريس لم يكن في ذلك الوقت بالبلد.
فلما لم يحصل إلا على اليأس، ولم يلق لضنا دائه من آس، صعد كرسيه وتنفس الصعدا. ففاضت نفسه لوقته كمدا، وألقى على كرسيه جسداً.
وقدمت جنازته ذلك اليوم للصلاة عليه، والخطيب على المنبر ناظر إليه.
وقيل: إنه مات مسموماً. وكانت ولادته سنة ست وسبعين وتسعمائة. وأرخت بما نصه أشرف المدرسين رحمه الله تعالى.
ولما بلغ الشريف إدريس وفاته بذلك تعب تعباً شديداً لما كان للإمام عبد القادر عنده من المحبة، فدخل مكة رابع شوال، ومعه الشريف محسن، وجمع الأشراف والقواد في موكب عظيم، وأكرمهما حيدر باشا غاية الإكرام، فطلبا منه التوجه إلى اليمن، وأحضر له ما يحتاجه من إبل وغيرها.
وفي سنة ثلاث وثلاثين وألف قبيل الظهر من يوم الأحد سابع جمادى الآخرة وقع مطر عظيم، سالت منه أودية مكة، وامتلأ منه المسجد الحرام، وعلا الماء حتى حاذى الحجر الأسود، فقال الشيخ محمود الحناوي تاريخاً في ذلك وهو من الحسن بمكان: من السريع:
قد جاءنا سَيل مِنَ الله في ... جُماًدىَ الآخر يا ذا النظَرْ
فى مسجدِ الله الحرامِ الذي ... سعَت إلى علياًه كُلُ البَشَرْ
سيل عظيمْ ما رُئى مثلُهُ ... تاريخه: ألماءُ حاذى الحَجَرْ
وفيها توفي الشيخ الأمجد شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن علان في اليوم السادس عشر من شعبان منها الصديقي الشافعي ودفن بالمعلاة بالقرب من قبر السيدة خديجة أم المؤمنين. كان إمام التصوف في زمانه، وأوحد علومه وعرفانه.
وفيها في شعبان: توفي السيد الجليل، الرئيس النبيل، أبو القاسم بن بشير بن أبي نمي في الشرق، وحمل إلى مكة، وخطب له على زمزم كعادة أسلافه.
ثم توفي فيه أيضاً أخوه السيد بركات بن بشير بمكة فجأة بعد موت أبى القاسم بأربعة أيام.
ثم توفي فيه أيضاً السيد علي بن أبي طالب بن حسن بمكة وخطب له على زمزم. واستمر الشريف شريكاً لعمه الشريف إدريس على صدق الكلمة، والنصح في الألفة بالخدمة والمساعدة في الأحوال، والمعاضدة له في المؤيدات الثقال، إلى أن اجتمع أهل الحل والعقد، ومن إليهم المرجع من قبل ومن بعد، من بني عمه السادة الأشراف، الذابين عن حمى هذه الأكناف، والعلماء والصلحاء، وأعيان سكان البطحاء، فرفعوا الشريف إدريس عن ولاية الحجاز، ومنعوه من أن تكون له علاقة في ذلك المجاز، ووسدوا الأمر إلى السيد الشريف المحسن، ووكلوا الحال إليه في حفظ هذا الموطن.
فأشيع في البلد يوم الأربعاء ثالث محرم الحرام من سنة أربع وثلاثين وألف أن السادة الأشراف قد أقاموا الشريف محسن مستقلاً بالأمر، فحصل بين الشريف إدريس، وبينه بسبب ذلك ما يوجب المنافرة.
وحصل اضطراب عظيم في البلد وحركة كبيرة، وقسمت آلات الحرب من الجانبين.
فلما كانت صبيحة يوم الخميس رابع محرم الحرام من السنة المذكورهَ: ألبس كل من الشريفين بمن معهما من العساكر والجنود ووقف على باب داره، فبرز من جماعة مولانا الشريف محسن شرذمة من جانب عقد مولانا السيد بشير وبنية النداء بالبلد لمولانا الشريف محسن استقلالاً بمفرده، فقبل وصولهم العقد رمتهم الجبالية المرصدون في مدرسة السيد العيدروس بالبندق، وقتل من الجماعة المذكورين بالبندق مولانا السيد سليمان بن عجلان بن ثقبة، والقائد مرجان بن زين العابدين وزير مولانا الشريف محسن فرجع الباقون.
وفي ضحى هذا اليوم ركب مولانا السيد أحمد بن عبد المطلب ومعه رحل، والمنادي بين يديه ينادي بالبلاد للشريف محسن، ولم يزل هذا الاضطراب بالبلد ذلك اليوم جميعه، ومن ألطاف الله تعالى أن الجماعة بالمسجد الحرام قائمة ذلك اليوم، والأسواق موجودة فيها الأقوات لم يحصل تغير أصلاً في ذلك اليوم.
فلما كان ليلة الجمعة خامس محرم الحرام من السنة المذكورة وقع الصلح بين الشريفين على أن يستقل مولانا الشريف محسن بالبلد، ويكون الكف عن المحاربة ستة أشهر، منها ثلاثة يكون مولانا الشريف إدريس فيها بالبلد، وثلاثة بالبر، فاتفق الحال على ذلك، ودعا الخطيب لمولانا الشريف محسن بمفرده يوم الجمعة، كذا نقله المرحوم الإمام على ابن المرحوم العلامة الإمام عبد القادر الطبري في تاريخه.
والذي نقله غيره من الثقات أن مولانا الشريف إدريس لما ضويق، وأجلبت عليه السادة الأشراف ومن معهم، أرسل الشريف إدريس إلى الشريف محسن، والسادة الذين معه فطلب مهلة شهرين في البلد، وأربعة أشهر خارجها؛ ليتأهب للسفر إلى حيث شاء، فأعطاه الشريف محسن ذلك، وشرط عليه أن لا يحدث شيئاً من المخالفات، فاستمر عليه شهر محرم وصفر فمرض فيه حتى خيف عليه.
وفي ليلة المولد الشريف خرج من مكة، وكان قد أضعفه المرض، فما طاف للوداع إلا في محفة، وخرج من مكة كذلك.
كذا في كتاب عقود الجواهر والدرر في أهل القرن الحادي عشر للسيد محمد الشلى.
ولما خرج الشريف إدريس توجه إلى جهة الشرق.
ولما كان غرة رجب من السنة المذكورة: ورد خبر وفاة إدريس إلى مكة في نواحى جبل شمر، ودفن بمحل يسمى ياطب منها، ومن الاتفاق أن حساب ياطب بالجمل اثنان وعشرون سنة عدد مدة ولايته مجبورة، وكان يكنى أبا عون.
وولد في ذي القعدة سنة أربع وسبعين وتسعمائة، وأمه هيا بنت أحمد بن حميضة ابن محمد بن بركات، وكانت وفاته رابع عشري جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وكانت مدة ولايته إحدى وعشرين سنة ونصفاً رحمه الله تعالى رحمة واسعة: ومما قيل فيه قول مولانا القاضي تاج الدين المالكي وهو: من الطويل:
زها بكَ دستُ الملكِ والتاج والعقْدُ ... غداةَ إليك الحلُّ أصبَحَ والعَقْدُ
مُطاعاً بعطفِ الله بعد رسولِهِ ... أولي الأمرِ فالعاصِي لأمرِكَ مرتدُ
أبا شرف إدريس منتخبَ العلا ... أبى الشرَفُ الوضاحُ غيرَكَ والمجْدُ
لقد طلبَتْ شمْسُ الخلافة بدرَها ... فقارَنها في الأوْجِ والطالعُ السعدُ
قنصْتَ العلاَ بالزاعبيةِ والنهَى ... هما شركاها لا الأمانِيُ والوعْدُ
وقمتَ بعبءٍ آدَ غيرَكَ حملُهُ ... منال المهاري ليْسَ تدركه الربْدُ
وشرفتَ دسْتَ الملكِ حين حللته ... ومرقاتُكَ المرقالُ والفَرَسُ النهدُ
فكنْتَ به إدريس إدريسَ إِذْ رَقَى ... مكاناً علياً خصه الصمَدُ الفرْدُ
وكنْتَ ولم تُفْتَنْ سليمانَ إذ دعا ... فأوتيت ما لا ينبغي لفتى بَعْدُ
وما لم ينله غيرُ آبائكَ الألى ... ربوعُ الندا شادُوا وزَنْدَ العلا شَدُوا
ملوك هم الأنيابُ للملكِ والسوَى ... اذا نُسبوا كانوا الزوائدَ إذ عُدُّوا
تولَوْا وأفضَى ملكهُمْ لمحجب ... تصادم تِيجان الملوك إذا يبدو
تأخر عصراً فاستزادَكَ في العلا ... كما ازدادَ بالتأخيرِ ما ترقُمُ الهندُ
وأصبَحَ عطلاً جِيدُ مَنْ رام عقدها ... سواه وأضحَى يستضيء به العقْدُ
تفردَ طود الملك بالمجدِ جامعاً ... مزاياه فَهْوَ الجامعُ العلَمُ الفردُ
رأى إن عدته خلَة منه خلَة ... نصيره قصراً عليه فلا يَعْدُو
فيا ملكاً بالفضْلِ أذعَنَ ضِدهُ ... وما الفضْلُ إلا ما أقرَّ به الضدُ
بكَ الدسْتُ يزهو يوم سِلْمِكَ والندَى ... ويومَ الوغَى يزهو بك السرْجُ والسرْدُ
وما زلتَ في حالَيكَ سلمٍ وضده ... عليكَ رِواًقُ المجدِ يرفعُ واًلبَنْدُ
فيشقى بكَ الجإني ويسعدُ مخفقٌ ... ويأمنُ مطرودٌ وترهبُكَ الأسدُ
إذا بيتَ الأعداءُ أمراً تضاءلَت ... لدى خطبِهِ الآراءُ واستَتَرَ الرشدُ
وترتَ قويمَ الفكرِ قوساً لوترهم ... وأنفذتَ سهمَ الرأي ليس له رَد
وحكمتَ فيهم قاضياً غيرَ مغمدٍ ... هو العزمُ لم يكهم له أبداً حَدُ
وقدتَ من القود الجيادِ مقانباً ... إذا طلبَت يدنو بتقريبها البُعْدُ
وغَل إلى الأعناقِ أَيدِيَ بطشهم ... مِن الرعبِ جيش ليس تكبو له جردُ
فأحياهُمُ في الأرضِ موتَى كأنهاعليهِم وقد ضاقَت بما رَحُبَتْ لَحْدُ
سجايا أبي لا يجارُ طريدُهُ ... ولا راع يوماً جار غفوته طردُ
مليكً هو الطودُ الأشَمُ للائذٍ ... هو البطَلُ المطعانُ والأسد الوردُ
جواد له في المالِ صولةُ ثائرِ ... تحكم في الجاني وأحفَظَهُ الحقدُ
طوَت نحوه بالوفْدِ كل تنوفةٍ ... بخات بخد الأرضٍ من وخدها خَدُ
وجاد فلم يفقد مراماً بجودِهِ ... فقل عوضاً عن جاد قد فقد العقدُ
هو البحْرُ عذبٌ للموالي، وللعدَى ... عذابٌ لهم مِنْ لجه الجزرُ والمَد
هو الغيثُ يهمِي للولي وليه ... فينبتُ إلا أنَّ منبته الحمْدُ
ويعدو العدَى وسمى هامى ربابه ... وتبلغهم منه الصواعقُ والرغدُ
أخا الجودِ قد قلدتَ جِيدي ودُونَ ما ... تقلدتُّ أعناقُ المطامعِ تنقَدُّ
وأمطيتَنِي من كاهلِ العز مركباً ... تريني ذكاً كالغورِ صهوتُهُ النجدُ
فقمْتُ خطيباً في المحافلِ بالثنا ... وبالشكرِ أتلو ذا وذاكَ به أشدُو
ينافسنِي قومٌ شأؤتُ وقَصَّروا ... وما كضليع ضالع خلفه يعْدُو
ويبخسُ منهم دُر نظمِي زعانفٌ ... فواعجباً مِنْ أينَ للنقَدِ النَقْدُ
سماءُ سِماتِ الفضلِ لفظي نجمها ... ولم يخفِهِ ألا تَرَى ضوءَهُ الرُمدُ
وإني لما خولت أهلْ ولم أكُن ... كقولِ حسودِ إنما أسعَدَ الجدُ
ولستُ مُدلاًّ حين أسمو وِإن يكُن ... هو الفخرُ يوم الفخرِ والشرف العِد
ولكن بنفسي والعبودية التي ... بها شَرَفُ الآباء من قبلُ والجدُ
وإني لأرجُو منكَ ما نال من مَضَى ... ولا عجَبٌ إن عَزَّ بالسيدِ العَبدُ
بقيتَ بقاءَ الدهرِ فينا مؤملاً ... بك التاجُ يزهو والغلائلُ والبُرْدُ
وقول الإمام عبد القادر الطبري رحمه الله تعالى: من الكامل:
مالِي وللغيدِ الغواني النعَسِ ... ولريمِ رامةَ والغزالِ الألعسِ
ولبانةِ الجرعاءِ في شرقي الغضا ... ولسَجْع ورقِ الأيْكِ عند تأنسِ
ولنظم عقيانِ القريضِ ونثْرِهِ ... من كُل أَنفَسِ جَوْهَرٍ في أَنفسِ
واًنا الذِي قَذَفَ الزمان بِجاحِظٍ ... من عَيْنِهِ بي مغضباً وَهوَ المُسِي
ورمَى بأسهمه مقاتِليَ التي ... بَعُدَت عليه فحط عالي مجلسِي
وإذا قنى من صَبرِ مر قضائِهِ ... كأساً برغمي أن أكون المحتَسِي
هو دُمَّلُ الليلِ الذي لم يندمل ... إلا بصَبرِ مؤمِّلٍ لم ييأسِ
صابرتُهُ حتى ظفرتُ بفجْرِهِ ... وحصلتُ منه على شفاءِ الأنفسِ
بضياءِ صبحِ العدلِ من إدريس من ... أهدى الضيا فمحا ظلامَ مغلسِ
ألسيد الحامي الذمارَ بهمةِ ... تسمو على الفلكِ الأثيرِ الأطلسِ
أولي وأوَّل باسلِ تَخِذَ العجا ... جَةَ درعهُ يَوْمَ الوغَى كالبرنسِ
لم يكترث بمهمة وبكفه ... عند اللقا صُمُّ الردَيني الأخرسِ
والنطقُ منه الطعنَةُ النجلاءُ في الن ... نجلاء من عينِ العَدُو الأشوسِ
وإذا انتضى الهنديَّ خزَت أرؤس ... ودَّت بقطعِ أنها لم ترؤسِ
دَل المنيةَ حين ضَلَت سبلها ... فبه اهتدَت لفؤادِ كلِّ مترسِ
بيمين أروَعَ يضربُ البَطَلَ المُدَر ... رع نافذاً منه لقطع العضرسِ
كالبَرقِ في الظلماءِ من نقعِ الوغَى ... يروي سناً لكن بخَطفِ الأرؤسِ
فرذاذُهُ العلَقُ النجيعُ وسَحُّهُ الز ... زلق الفجيعُ من الطلا المتبجسِ
لله ما أمضاهُ عندَ توحشٍ ... وأمضَّهُ في الوهمِ عندَ تأئسِ
والسيفُ بالكَف التي كفت أذىً ... لا بالحديدِ وطبعه المتيبسِ
لولا يدا إدريسَ ما خطت بها ... في الهامِ شَكل مخمس ومسدسِ
هذا المليكُ ابنُ المليكِ ابنِ الملي ... كِ ابْنِ المليكِ ابنِ المليِكِ الأرأسِ
زاكي الأرومةِ من هيولي هاشمِ ... عالي النجارِ من النبيِّ الأقدسِ
ذو الهمة العليا التي مِنْ دونها ... زُحَل فما باقي الجوارِي الكُنسِ
هو في النُّهَى سَحْبانُ وائلَ والذكا ... ءِ إياسُ والجَدْوَى ابنُ مامَةَ واحْبِسِ
كملَت فضائله فلو مسَّ الورى ... أذيالُهُ لرأيْتَ كُلاَّ مكتسي
يأيها الملكُ الرفيعُ مقامُهُ ... فوقَ الثوابتِ في الرفيعِ الأقعسِ
لكَ عِلْمُ إدريس ودينُ محمدٍ ... وعلا سليمانِ وحكمةُ هرمسِ
فافخَر على الأملاكِ مِنْ صنعا إلى ... صِينٍ ومِنْ شرقِ لمغربِ تونسِ
بِالله أنْتَ فثقْ به لا بالورَى ... مِنْ آدمي في الوجودِ ولو نسِى
وإليكَهاً عذراءَ فِكرٍ عانس ... من بعدِ عهدكَ فهْيَ بكْرُ العُنَّسِ
عربية غنيتْ بوصفِكَ واقتنَتْ ... حُر البديعِ فما أتَتْ بمجنّسِ
ذكرتْ عهوداً بالحمى فتلفعَتْ ... خجلاً ووافَتْ في رداءٍ سندسي
تختالُ فيه إلى المليكِ وتنتضِي ... بيضَ المدائحِ من قرابِ الحندسِ
فاقبلْ وقابلها بطَلْقِ جبينك الْ ... مأنوسِ لا لاقاهُ قطْب تعنسِ
وانظرْ إلى حالِي فأنْتَ خبيرها ... قدماً وقدِّرْ بالوفاءِ وهندسِ
واسلم على طولِ الزمانِ ممتعاً ... بثناءِ كُل مفوهٍ ومدرسِ