سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
العصامي
عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكي العصامي، مؤرخ، من أهل مكة مولده ووفاته فيها (1049 - 1111 هـ)
ثم وليها مولانا الشريف محسن
فقام بالأمر أحسن قيام، وضبط البلاد والعباد بالضبط التام، وآمن السبل والطرق، وانتظم في سلك طاعته سائر الفرق العاصية في الفرق.
ثم إنهم في العشر الأول من محرم الحرام عرضوا إلى الباب العالي، وأنهوا إلى الجناب الغالي، حضرة مولانا السلطان مراد بن أحمد خان، تغمده الله بالرحمة والرضوان، طالبين إجابتهم إلى هذا المراد، وتقليد المشار إليه إيالة هذه البلاد. فإن بذلك تنتظم الأمور، ويتم أمر الآمر والمأمور، وتنصلح الأحوال، وتتضح طرق الحق على أوضح منوال.
وكان الذاهب بالعرض الأغا محمد بن بهرام. وطلع مولانا الشريف إلى المبعوث.
فلما كان اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان من السنة المذكورة وصل الأغا محمد بن بهرامَ، إلى بلد الله الحرام، فتلقى ما جاء به الأعيان، واستقبلوه إلى الزاهر إجلالاً لما صحبه من البراءة السلطانية. ثم دخل من ثنية كدا المشهورة بالحجون، دخول أمراء الحاج عند وصولهم إذ يحجون. وقد امتلأت بالخلائق الشوارع، وصار كل أحد إلى استقباله يسارع.
فدخل والتشاريف محمولة على أيدي حامليها، فوصل إلى دار السعادة ودخل فيها.
فأفيضت عليه وعلى الأغا مصطفى بن حيدر الترجمان مضلعتان تمييزاً لهما على سائر من كان معهما من جماعة الترجمان. ثم عاد إلى منزلهما مختلعين، وطابت منهما النفس، وقرت بهما العين.
هذا ومولانا الشريف مقيم بالمبعوث السعيدة لاستيفاء الصيام به وإقامة شعار العيد. فبعد أن مضت أيام الصيام، وطلع هلال العيد من الخيام. تهيأ مولانا الشريف للوصول إلى البلد الحرام؛ لتلقى الأوامر السلطانية، والخلع السنية بالإجلال والاحترام.
فوصل بجميع من معه من السادة الأشراف، ما عدا من خلفهم منهم بالفريق لحفظ تلك الأطراف.
فدخل في موكب عظيم، ومهيع كريم، ودخل من باب السلام، إلى البيت الحرام، فقبل يمين الله في أرضه، وأدى بذلك واجب فرضه.
ثم عاد فجلس في فناء جدار زمزم مقابل البيت الشريف، وأحدق به السادة الأشراف والأعيان.
ثم قدمت له البراءة والنامة العظيمة الشأن، فقام على قدميه إجلالاً، ووضعها على رأسه الشريف اعتناءً بشأنها واحتفالاً.
فقرئت في ذلك المحضر والجمع الأكبر، وكان القارئ لها العلامة المفتي عبد الرحمن بن عيسى المرشدي.
وبعد أن تمت القراءة، تقلد مولانا الشريف بالسيف المجوهر، ولبس التشريف الأزهر، وأفاض في ذلك المكان جملاً من القفطان، على كل من له علاقة في هذا الشان.
ثم دخل البيت الشريف بغالب من معه من الأشراف.
ثم بعد بروزه استلم الحجر وطاف، والريس يدعو له عن أعلى قبة زمزم كما هو عادة الأسلاف.
ثم ذهب إلى منزله السعيد، وجاء للتهنئة كل ذي شأن مجيد، ثم أفيضت عليه في ذلك المكان الخلعة الثانية الواصلة من وزير مصر ذي الشان.
فكان ذلك اليوم يوماً مشهوداً، ومن أيام الأعياد معدوداً.
وفي سنة خمس وثلاثين في ثاني عشر جمادى الآخرة منها: توفي السيد إبراهيم ابن بركات ابن أبي نمي، كان من أجلاء أشراف مكة، ورؤسائهم وأغنيائهم.
جمع من الضياع والعقار والإبل والخميل والنعم شيئاً كثيراً جداً. تغمده الله برحمته آمين.
ولما كان آخر صفر سنة سبع وثلاثين وألف: وصل إلى جدة الوزير أحمد باشا متولياً الجهات اليمنية.
فلما وصل إلى محاذاة جدة بحيث يراها، انكسر مركبه وغرقت جميع أمواله، فتعب لذلك، ونزل إلى جدة، وأرسل إلى مولانا الشريف محسن بهدية.
ثم نزل إليه مولانا الشيخ عبد الرحمن بن عيسى المرشدي المفتي الحنفي بمكاتيب من مولانا الشريف محسن، فأقام عنده أياماً.
ثم إن الباشا أحمد: طلب من مولانا وسيدنا الشريف محسن الإعانة، فشرعوا في تدبير ما يرسلون به إليه، وطلب غواصين لإخراج ماله وأثائه، فغاصوا ولم يخرجوا شيئاً، فتخيل الباشا أنهم مأمورون بذلك.
ثم تنكر وتغير وسجن القائد راجحاً بن ملحم الدويدار حاكم جده و الأغا محمد ابن بهرام الشريفي أحد خدام مولانا الشريف، وكان أرسله مولانا الشريف إلى جدة بمكاتيب إلى الباشا، فأرسل مولانا الشريف الشيخ عبد الرحمن قره باش الواعظ الرومي إلى جدة ليتظر في هذا الأمر فلم ينتج شيئاً.
فلما أن كانت غرة شهر ربيع الأول من السنه المذكورة، وصل الخبر بأن الباشا صلب راجحاً الدويدار، وكان السيد أحمد بن عبد المطلب نزل إلى جدة إليه لما سمع به، فنزل على حمار، فقالت له الأقدار: وربك يخلق ما يشاء ويختار، وكان في هذه المدة يتردد إليه.
فلما وصل الخبر إلى مكة بذلك حصل اضطراب وقيل وقال.
فبعد مدة يسيرة وصل خبر وفاة الباشا أحمد، وأن السيد أحمد استمال عسكره، واستولى على جدة وأموالها، وأن جدة نودي فيها لمولانا الشريف محسن، ففرح الناس بذلك كثيراً ففي ثاني يوم الخبر ورد الخبر بأن الأمر عاد إلى ما كان عليه، وأن السيد أحمد نودي له في جدهَ، ومنع الناس من الدخول والخروج. فبرز مولانا الشريف محسن بعساكره وجنوده ونزل ب " ومخ " اسم ماء، أو جبل بقرب جدة من جهة الشام، ووقعت هناك فتنة أن الأتراك خرجوا من جدة لأخذ إبل ترعى في تلك الجهات، فوصل الخبر إلى مولانا الشريف محسن، فركب وركب معه السادة الأشراف والأجناد، فوقعت ملحمة عظيمة قتل فيها من الأتراك فوق الخمسين، وقتل فيها من الأشراف مولانا السيد ظفر بن سرور بن أبي نمي، ومولانا السيد أبو القاسم بن جازان وغيرهما.
ثم بعد مدة وصل مولانا الشريف محسن إلى البلد، وأقام بها وجعل هناك رتبة، وأقام على الرتبة مولانا السيد قايتباي بن سعيد بن بركات.
فلما أن كان آخر شعبان وصل الخبر بأن السيد أحمد بن عبد المطلب خرج هو والعساكر معه إلى جهة مكة، ولم يزل يسير أياماً عديدة، وكان وصوله على جهة وادي مر.
فلما كان يوم سادس عشر رمضان وصل الخبر أنهم قاربوا مكة، فبرز مولانا الشريف محسن هو والسادة الأشراف، والأجناد والعبيد والصروخ في جمع لا يحصيه إلا خالقه، وكان خروجه لذلك بعد صلاة عشاء ليلة الجمعة سابع عشر رمضان من السنة المذكورة، فالتقوا بالقرب من التنعيم، فوقعت معركة فتوحدت تلك الجموع، ولم يبق لهم همة إقدام إلا على الرجوع.
فأطلقت المدافع، وضربت البنادق، ووضح الناصح والمماذق. فتوجه مولانا الشريف محسن ومعه ابنه الشريف زيد، وبعض السادة الأشراف إلى الحسينية، ثم إلى جهة الشرق نحو بيشة، فجمع جيشاً كثيراً من العربان، وقصد الإغارة على الترك المقيمين بالطائف فلم يتفق له ذلك.
ثم سافر إلى مدينة صنعاء اليمن فأقام بها إلى أن توفي عام ثمان وثلاثين وألف سادس رمضان بها بظاهرها، وحمل إليها، ودفن بها في قبة عالية عليها قوام وخدام بمعلوم يصل إليهم من مولانا المرحوم زيد، ثم من بعده من بنيه الأملاك، بدور الأفلاك.
كانت ولادته في جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وتسعمائة بمكة المشرفة، ونشأ فى كفالة أبيه وجده، وكان جده الشريف حسن ينوه بقدره، ويقدمه لنباهته ونجابته وظهور آثار الرئاسة عليه في صغره، وكان يقدمه في الحروب، فيرجع مظفراً منصوراً، وعدوه مخذولاً مقهوراً.
جبل على مكارم الأخلاق، وطار صيته في الآفاق. ولما تولى عمه أبو طالب إمارة مكة أحله محل ولده، ونزله منزلة أفلاذ كبده، إلى أن مات أبو طالب، فشارك عمه إدريس في إمرة مكة، ولبس الخلعة الثانية، ودعى له في الخطبة، وعقد له لواء الإمارة، وضربت النوبة الرومية في بيته لمشاركته في الإمرة ووردت التشاريف السلطانية برسمه، وأتت المراسيم الخاقانية إليه مع عمه.
واستمر شريكاً في الربع إلى أن أذن له بالاستقلال بولاية الحجاز.
فجرى بينه وبين عمه حال أدى إلى قيامه عليه وتابعه جميع الأشراف على ذلك.
فخلع عمه إدريس عن ولايهّ مكة، واستقر في الأمر يوم الجمعة الخامس من شهر المحرم الحرام افتتاح سنة أربع وثلانين وألف كما تقدم ذكر ذلك آنفاً.
وكان رحمه الله من النباهة والسؤدد والرئاسة والكرم والبأس والسياسة بالمحل الأرفع.
إلا أن الله تعالى إذا أراد أمراً هيأ أسبابه، فما تنفع ذوي العقول عقولهم وليس لها إرادته سبحانه إصابة.
وكانت مدة ولايته ثلاث سنين وثمانية أشهر ونصف. رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وغفر له ولأسلافه الأكرمين مغفرة جامعة.
ومما قيل فيه قول مولانا القاضي تاج الدين بن أحمد المالكي رحمه الله تعالى: من البسيط:
لقد جرى بالذِي تختارهُ القدَرُ ... فمُر بما شئتَ إن الدهرَ مؤتمرُ
وضر من شئت وانفَع من تشاءُ ففي ... أكفكَ الواكفاتِ النفع والضرَرُ
والدهر من جيشك المنصورِ قائده ... ألقى يَد السلمِ خوفاً وهو يعتذر
فاغفِر جنيتَه العظمَى لتوبَتِهِ ... إن العظيمَ عظيم الذنبِ يغتفرُ
وقد أتى مقلعاً عن جرمِهِ ملكاً ... يسطو انتقاماً ويعفُو وهوَ معتذر
ذا هيبةٍ رابَ ريب الدهر فانقلَبَت ... تغزو عداه صُروفُ الدهرِ والغِيَرُ
وسطوة تتركُ الآسادَ واجمةً ... لم ينجُ من رعبها ناب ولا ظُفُرُ
به تبلجَ صبحُ الملكِ وابتسمَت ... ثغورُه ودياجي الخطب تعتّكِرُ
وأصبحَ الدستُ معموراً وكافلُهُ ... ملك به أضحَتِ الأملاك تفتخرُ
أخبارُهُ صغرت أخبارهم عظماً ... كما برؤيتِهِ يستصغرُ الخبرُ
ليثٌ إذا خط سطراً نصل قاضبه ... مالَت لتعجمه الخطيةُ السمُرُ
كأنه لاعبٌ يرمي الرءوسَ به ... بالصولجانِ فتلكَ الأرؤسُ الأكرُ
ما كَر بعد ورودِ الحربِ قط وهَل ... يكر من ليس عن وِردٍ له صَدَرُ
ولم يفرَّ وهَل يدنو الفرار فتىً ... بالعزمِ مُدرع بالنصرِ معتجر
فتى له جيشُ عزمِ قد أحاطَ مِنَ الس ... سِت الجهاتِ به التأييدُ والظفَر
ينمى إلى دوحة للملكِ زاكيةِ ... قد طابَ عُنصُرُها والفرع والثمرُ
أَغَرُ ثَبتُ الجنانِ الفارسُ البطلُ ال ... ليثُ الهمامُ الشجاع الصارمُ الذكَرُ
ألقائدُ الخيل إن رامَت مدى وضعت ... في خَطوها يدها حيث انتهى البَصَرُ
من كُل أدهمَ يكسى مِن دَمٍ حُلَلاً ... كأنه بلظَى الهيجاء يستعرُ
وكل أشهَبَ محجولٍ قوائمُهُ ... أغر أَبلجَ ما في باعه قِصَرُ
وكل طرفِ يدكُّ الصخرَ حافرُهُ ... وطئاً تطاير من صدماته الشرَرُ
كأنما تطلبُ الأقدامُ أيديها ... فلا تقر ولم يلحق لها أَثَرُ
تخالُ تصهالَها رعداً يزمجز في ... سحاب نقعٍ مثار برقُة البترُ
مهذبات إذا نار الوغَى استعرَت ... لا بالعنانِ ولا بالشكلِ تنحجرُ
عليهمُ الأسدُ فرساناً مصورةً ... تطيعهم كيف ما شاءوا وتنزجرُ
وكل أصيَدَ مر الحد ذي جَلَدٍ ... ما مسهُ سأم فيها ولا ضَجَرُ
من كُل شهم شديدِ البطشِ منصلِتِ ... كالسهمِ إذ ثارَتِ الهيجاءُ يبتدرُ
وكُل ذي لمةٍ سوداءَ حالكةٍ ... كالليلِ في جنحِهِ قد أشرَقَ القمَرُ
قوم إذا التأمُوا كانُوا الأهلَةَ وال ... أقمار إن سفروا والأسْدَ إن زأروا
كأنهم والصبا تسرِي بنَشْرِهِمُ ... في محكَمِ الزردِ الأكمامُ والزهرُ
بهم حوى الفَخرَ أبناءُ الرسولِ كما ... به على العُرْبِ فخراً قد حوتْ مُضَرُ
يسوسُهُمُ صادقُ الآراءِ فطنتُهُ ... تقضي بما هو آتٍ قبلُ والْفِكَرُ
متوجٌ هو فيهم مثلهم شرفاً ... في قومِهِمْ وهُمُ في قومهم غُرَرُ
إذا بدا بينهم في موكبٍ تره ... كأنه البدْرُ دارَتْ حوله الزهرُ
لو أن مِنْ بعد طه مرسلاً نزلَت ... عليه في وصفِهِ الآياتُ والسوَرُ
صفات أروَعَ لا تحصَى محامدهُ ... وليس يحصُرُها قول فتنحصرُ
وكيف يحصرُ بالألفاظِ قولُ فتَىً ... مطولُ القولِ في معناه مختصرُ
سمحُ الأكف كريمٌ عَم نائله ... معطي الجزيلِ ابتداءً وهو يعتذرُ
كأنما كَفهُ تهمى بنائلِهِ ... غماثم بولي الجودِ تنهمرُ
أو دوحة غَضة الأغصانِ دانية ... قطوفُها بنسيمِ العرفِ تنهصرُ
يَلقَى النضارَ لديه المعتفون قِرَىً ... كأنما لقِراهُم تنحرُ البدرُ
دعاه يا محسناً لما تفرسَ مِنْ ... مرآهُ والدُهُ الإحسان ينتشرُ
فجاء مصداقُ كُل اسم لصاحبِهِ ... منه نصيبٌ بما يأتي وما يَذرُ
فيا أبا الجودِ يا جَم المَواهبِ يا ... أخا الندَى مفخَرَ الأقوامِ إن فخروا
يا بنَ الحسينِ لقد وافَتْكَ واصلة ... عذراءُ قد فاتَ منها غيرَكَ النظَرُ
لم ترضَ غيرك كفواً والصداقُ لها ... صدقُ القبولِ فما لي غيرَهُ وَطَرُ
فلستُ ممن يقولُ الشعرَ مبتغياً ... به افتخاراً وما بالشعْرِ يفتخرُ
سَلْنِي وسَل عنىَ الأقوامَ مختبراً ... لا يعرفُ المرء إلا حين يختبرُ
عمري ولولاكَ يا حامي الذمارِ لما ... صُغْتُ المدائحَ أبديها وأبتكرُ
فسرحِ الطرفَ فيها روضةً أنفاً ... غنَّاءَ يقصرُ يحكى نظمها الدُّرَرُ
ومما قيل فيه أيضاً قول العلامة القدوة المفيد الفهامة مولانا الإمام عبد القادر الطبري الحسيني رحمه الله تعالى: من الكامل:
لا والنواعمِ من جواري العينِ ... ما احتجتُ في حملِ الهوَى لمعينِ
وبما لَهُنَّ عليَّ مِنْ خَلْعِ العذا ... رِ إذا سفرنَ بطرةِ وجبينِ
ولعبْنَ بالألباب عند تمايسٍ ... بمعاطفٍ تزرى الغصُونَ بلينِ
أنا ذلك الصبّ الذي قِدْماً صبا ... بصبا الصبا وإلى الغرامِ حَنِينِي
غيثُ السحائبِ مدمعي وهَوَى لظَى ... نفسي ورعْدُ الصادعاتِ أنيني
يبرينيَ النجديُ من ألم النوَى ... ويذيلني برداً ظبا يبرينِ
ويعلُني الوجدان أعذَبَ موردِ ... ويعلني السلوانُ عنه سلوني
لا يعذلُ المشتاقَ إلا مثلُهُ ... هيهاتَ ذلك فهو بئس قرينِي
ما مرَ بي في العشقِ إلا ما حلا ... لفؤادِ كُل موله وحزينِ
شرعُ الهوَى فرضِي وحُسْنُ تهتُكي ... نَفْلِي ومدْحِي محسناً مِنْ ديني
ابنُ الحسينِ أبو الحُسَيْنِ أخو التقَى ... من لَيْسَ يرضى في العلا بالدونِ
عالي الجنابِ إذا انتحَى وإذا انتخَى ... سهْل الحجاب بغاب ليث عرينِ
ذو هيبةٍ حلتْ قلوبَ عداته ... لو أنهم حَلوا أقاصي الصينِ
من عزمِهِ ساحَ الحديدُ وسالَ إذ ... سلتْ فحاكى السيح من سيحونِ
يروي الأسنةَ والشوازبَ من دَمِ ال ... أعداءِ لا يَرْضَى لها بمعينِ
ويرى المنَى نزعَ النفوس بما بها ... مِنْ كُل غلِّ في الصدورِ كمينِ
ألله ما أعلَى مرامي ظنهِ ... طبق القضا في شأنِ كل ظنينِ
وأحسهُ بالأمْرِ قبل وقوعِهِ ... وخطورِهِ في عالم التكوينِ
يرضيكَ إن هز القنا بشماله ... وإذا انتضَى سيف القنا بيمينِ
فيريكَ لمْعَ البرقِ في ظُلَمِ الحشا ... سيل العقيقِ ومدهق الزرجونِ
ثملَتْ به عللاً رؤوس رماحِهِ ... فبدَتْ معربدةَ بقطْعِ وتينِ
وصحَتْ فأنهلَها الظهورَ فحطَمَت ... أضلاع كل مجدلٍ وطعينِ
وبها حمى أُمَّ القرَى فدعِ القرى ... متسفلاً في الإرتقا بمئينِ
مَنْ ذا يقاومه إذا اشتد الوغَى ... إلا فتَىً يرجو لقاءَ منونِ
هذا التقيُّ الطاهرُ الذيل الذي ... يسمو بعرضٍ في الأنامِ مصونِ
مولى الجميلِ وباذلُ الفضلِ الجزي ... لِ وكاشفُ الخطبِ الجليلِ لحينِ
حكتِ السحائبُ كفهُ فبكَت على ... ما فاتَهُ من سَحهِ بهتونِ
قسماً به لم يحكِه في جودِهِ ... إلا الذي أضمزتُ طَيَّ يميني
فهُمُ هُمُ بيتُ النبوةِ والحجا ... والبر أربابُ التقى والدينِ
إن تلقه لم تلقَ إلا محسناً ... من محسنٍ من محسنٍ بضمينِ
واعقد يمينك إنه من عقدهم ... عين القلادةِ فصلَت بثمينِ
من رام عزاً فلينخ برحابه ... أملاً فيذهبَ عنه ذُلُ الهونِ
ما سامَ مرعَى خصبِهِ متضائلً ... إلا تبدلَ غثهُ بسمينِ
يابنَ النبيَّ إليكَها نونيةً ... بالكافِ قدرَها القضا والنونِ
وافَتكَ كالطاووس تزهو عزةً ... مذ ذُبجَت بغلائلِ التلوينِ
خذ فألها الحسَنَ الجميلَ وقولَها ... كُن كيفَ شئتَ بغايةِ التمكينِ
فالطرسُ منها أخضَر والسطرُ في ... ه أسود يستل بيضَ جفونِي
أثنت عليك ببعضِ حقكَ فاغتفر ... تقصيرها في المدحِ لا التحسينِ
لا زلتَ في أوجِ السعادةِ راقياً ... بدوام عِز في الفخارِ مكين
ودخل الشريف أحمد بن عبد المطلب مكة ضحَى اليوم السابع عشر من رمضان والمنادي بين يديه، وكان دخوله عن الحجون فاضطربت الأفكار، وتعبت الناس، وأول ما بدأ به دخول المسجد من باب السلام.
وفتحت له الكعبة الشريفة فدخلها، ثم عزم إلى المحل الذي أراد السكنى به فنقول: ثم وليها الشريف أحمد بن عبد المطلب بن حسن بن أبي نمي بتولية الوزير أحمد باشا إياه كما تقدم ذكر ذلك، فوقع من العسكر ألفين كانوا متوجهين مع الباشا المذكور إلى جهة اليمن تسلط على بيوت الناس لما في نفوسهم على أهل مكة، فأدى ذلك إلى القيل والقال، وحصل لهم منهم الخوف العظيم، فكان ذلك لما أراد الله سبباً لمخالفة القبائل، وتخطفهم في الطرق لمن مر بهم من الأعراب وغيرهم، وقبض على المرحرم مفتي الحنفية الشيخ عبد الرحمن بن عيسى المرشدي، وحبسه مضيقاً عليه لأمر نقمه منه.
فلما كان موسم السنة المذكورة - أعني سنة سبع وثلاثين وألف - قدم الحاج المصري وأميره قانصوه باشا، وكان بين قانصوه هذا وبين الشيخ عبد الرحمن مودة أكيدة ومكاتبات سابقة.
فلما صعد الحجيج عرفة أتى حريم الشيخ إلى مخيم قانصوه مستشفعات به إلى الشريف أحمد بن عبد المطلب في إطلاق الشيخ، فرق لهن رقة عظيمة، وتوجه متوجهاً إلى الشريف أحمد يوم عرفة فلم يوجهه ولم يؤيسه.
فلما كانت ليلة النحر توفي الشيخ رحمه الله شهيداً، فكان ذلك مع قضاء الله تعالى سبباً لوقوع ما وقع منه في الشريف أحمد بن عبد المطلب.
وفيها ظهر يوم الخميس ثامن عشري ربيع الثاني: توفي مولانا السيد الجليل، ذو المجد الأثيل، خاتمة المحققين، شيخ الإسلام والمسلمين، شمس المعارف والعلوم، ترجمان المنطوق والمفهوم، المتفق على إمامته، والمجمع على ورعه وجلالته. إنسان عين العلماء العاملين، أستاذ الأئمة المدققين. صدر المدرسين العظام، مفتي بلد الله الحرام، مولانا الولي القطب العارف بربه، الفائض عليه مدرار الفيض الإلهي مع كسبه، مولانا السيد الشريف، حاوي مرتبتي العلم والعمل، البالغ فيهما أوج غاية الأمل، الجامع إلى شرف النسب العلي، شرف العلم الجلي، مولانا السيد عمر بن عبد الرحيم البصري الحسيني الشافعي بمكة المشرفة.
أخذ عن الشمس الرملي، والعلامة ابن قاسم، والملا عبد الله السندي، والملا علي بن إسماعيل العصامي، والقاضي علي بن جار الله، والشيخ عبد الرحيم الأحسائي، والسيد مير بالحشاه، والملا نصر الله وغيرهم.
وأخذ عنه شيخنا الشيخ علي بن أبي بكر بن الجمال، وشيخنا الشيخ عبد الله باقشير، وشيخنا الإمام زين العابدين بن عبد القادر الطبري، والشيخ محمد بن عبد النعم الطائفي، والسيد عبد الرحمن كريشة السقاف، والسيد صادق باد شاه مفتي الحنفية، وغيرهم رحمه الله وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاته.
وقد اختلفت الأقوال في سبب قتله الشيخ عبد الرحمن المرشدي، فقيل تعريض الشيخ المذكور بالشريف حين خطبة عقده التي خطب بها في زواج سلطانة ابنة علي شهاب، وكان الشريف أحمد طلب التزوج بها فلم يزوجه، فعرض الشيخ بذلك حيث قال في مبتدأ الخطبة المذكورة: الحمد لله الذي أعز سلطانه ودحض شيطانه.
وقيل: إنه جاء إلى الشريف المذكور عند موت أخيه السيد محمد بن عبد المطلب معزياً لابساً صوفاً أبيض.
وقيل: إن الشريف أحمد حين استولى على مكة، وطلع إلى دار السعادة على فرش الشريف محسن وجد تحت طرف المرتبة فتياً من الشيخ المذكور بتسميتهم بغاة جائرين ظالمين، وبوجوب قتالهم بخطه المعروف واسمه الموصوف، والله تعالى أعلم أياً كان ذلك.
وكانت ولادته سنة خمس وسبعين وتسعمائة، وأرخت بما نصه شرف المدرسين.
وفيها أيضاً كانت وفاة جدي العلامة الشيخ عبد الملك بن جمال الدين بن إسماعيل صدر الدين ابن العلامة المحقق إبراهيم عصام الدين الشافعي المكي الشهير بالعصامي الملقب بخاتمة المحققين.
إمام العلوم العقلية والنقلية، وخاتمة علماء العلوم الأدبية، وعلم الأئمة الأعلام، بحر العلوم المتلاطمة بالفضل أمواجه، وطود المعارف الراسخ، الناتجة لديه أفراده وأزواجه. علامة البشر، في القرن الحادي عشر، والرحلة التي ضربت إليه أكباد الإبل، والقبلة التي فطر كل قلب على حبها وجُبل.
جمع فنون العلم فانعقد عليه الإجماع، وتفرد بصنوف الفضل فبهر النواظر والأسماع. فما من فن إلا وله فيه القدح المعلّى، والمورد العذب المحلى. إن قال لم يدع مقالاً لقائل، أو طال لم يأت غيره بطائل.
مولده كان بمكة سنة ثمان وسبعين وتسعمائة كان تاريخه نعم المولود ذا، وبها نشأ وأخذ عن والده، وعن الشيخ العلامة عبد الرؤوف المكي وعن خاتمة المحققين الشهاب أحمد بن قاسم العبادي والعلامة أحمد بن عواد المصري، والخطيب عبد الرحمن ابن الخطيب الشربينر، وأجازه بمروياته بإجازة بخطه سنة تسع بعد الألف، وعن غيرهم.
وعنه مولانا الشيخ محمد علي بن علان الصديقي، والسيد صادق بادشاه، ومولانا الشيخ عبد الله باقشير الحضرمي، ومولانا الشيخ علي بن أبي بكر بن الجمال الأنصاري، ومولانا القاضي تاج الدين بن أحمد المالكي، ومولانا الخطيب أحمد ابن عبد الله البري المدني، والشيخ محمد بن عبد المنعم الطائفي، وخلق.
ولازم الأمراء والتدريس في كل علم نفيس، وجدد معنى العلم الدريس، واشتغل بالتصنيف والتأليف، وتخلى عن كل أنيس وأليف، حتى بلغت مؤلفاته الستين، بين شرح مفيد ومتن متين، منها شرح الشذور سماه شفاء الصدور، وشرح على القطر، وشرح على الشمائل، وحاشية على شرح التحرير، وشرح على الألفية النحوية لم يتمه، وشرح على الزنجاني، وحاشية على شرح القطر لمصنفه، وشرح على إيساغوجي، وشرح الخزرجية، وشرح على استعارات السمرقندي، وغير ذلك من المصنفات المشهورة تبلغ العدة المذكورة، إلى زهد وورع وصلاح، أشرق نورها في أسرة وجهه ولاح، وبينه وبين علماء عصره مكاتبات كثيرة، وأسئلات سطر عليها أجوباته المنيرة. وكانت وفاته بطيبة ودفن ببقيع الغرقد، رحمه الله وأعاد علينا من بركاته آمين.
وفي سنة ثمان وثلاثين في صفر منها: وقع في أعمال مصوع زلزلة شديدة، ثم تصاعدت إلى بر العبيد، وما زالت تعمل إلى الأجمدة، وفقدت بلد بمن فيها فلا يعلم أخسف بها أم رفعت إلى السماء، ولم تزل الزلازل تعمل فيهم حتى انسد بالحجارة النازلة عنها ما بين جبلين، ويرون لهب النار، وجرَى الدم على وجه الأرض، بعد نبعه منها كجري الماء، واستمر بهم هذا الأمر إلى بعد ذي الحجة، ثم ارتفعت عنهم الزلزلة وجرى الدم، وذهب أثره عن الأرض، غير أنه بقي فيه أثر النار نهاراً، ولهبها ليلاً، فسبحان الفعال لما يريد.
وفيها في رمضان منها كانت وفاة الشريف محسن بن حسين، وقد ذكرناها مع ما يتبعها آنفاً.
ثم استمر الشريف أحمد في الولاية إلى أن حج بالناس حجة ثمان وثلاثين وألف، فجاء للحجاج أمير منفرد، وجاء قانصوه باشا متوجهاً لفتح اليمن، صحبته العساكر، وعدتها ثلاثون ألفاً، وضرب وطاقه في أسفل مكة.
وكانت بين الشريف مسعود ابن الشريف إدريس، وبين الشريف أحمد بن عبد المطلب ممالأة ومواطأة قبل نزوله إلى جدة مضمونها: إني لا أريد الملك لنفسي إنما أريده لك، أو هو بيننا فخذل عني ما استطعت من آل أبي نمي، وثبطهم، وحل عزائمهم، ووعده بذلك ففعل ما فعل، وحصل به على الشريف محسن ما حصل ولله الأمر.
فلما نزل إلى جدة تقمصها لنفسه، ولم يف لمسعود ببعض ما بينهما بل أراد قتله، ففر إلى قانصوه، والتجأ، وصدر قانصوه على الشريف أحمد مملوء بالوجاء، فلما أقبل قانصوه قاصداً لليمن، لاقاه الشريف مسعود من ينبع، أو الخور، وجاء معه مختفياً، ولم يزل به محتفياً، وواجه في المجيء الأول الشريف أحمد قانصوه، ورد عليه تحية القدوم.
ثم عزم على محاربة قانصوه فازداد قانصوه عليه حنقاً على حنق، وشرع يستميل عسكر الشريف أحمد فأطاعوه، فخرجوا من مكة، ثم خيم قانصوه بالزاهر.
ولما أن قضت الحجاج مناسكهم، وذهبوا إلى أوطانهم، تخلف قانصوه بوطاقه أسفل مكة، فلما تحرك للسفر قدم ثقله، ولم يبق إلا وطاقه، وخيام العساكر، فأشار قانصوه إلى شخص يتعاطى خدمته من أبناء الطواف يسمى محمد المياس، أن يحسن للشريف أحمد الوصول إلى قانصوه للوداع ففعل، وذهب إلى الشريف، وحسن له ذلك يوم السبت رابع شهر صفر، فلما كانت ليلة الأحد خامس الشهر المذكور من سنة تسع وثلاثين وألف، ركب الشريف أحمد إليه، وصحبته من الأشراف شبير بن بشير بن أبي نمي، ومحمد بن حسن بن ضبعان، وراجح بن أبي سعد، ومن أعوانه وزيره مقبل الهجالي، وأحمد البشوتي متولي بيت المال وفليقل، فلم يزالوا يدخلون في الصيوان من باب، إلى باب، يمنع عند كل باب طائفة من أتباعه حتى دخلوا، فتحادثا ملياً ثم نصبا رقعة الشطرنج، فلما كانت الساعة الخامسة من الليلة المذكورة قبض على الجميع، فتوفي الشريف أحمد، شهيداً إلى رحمة مولاه، وقتل الهجالي وفليقل، وصلب البشوتي، وأطلق الأشراف فتحركت عساكره، فأظهره لهم ونشر البيرق، ونودي المطيع للسلطان يقف تحية فوقفت العساكر تحية، وخلع على الشريف مسعود بن إدريس. فسبحان من لا يزول ملكه ولا يتغير؛ سبحانه.
ثم حمل الشريف أحمد وأتى به من طريق الحجون، فدفن بالمعلاة رحمه الله من شهيد.
كذا ذكره في الجواهر والدرر في أهل القرن الحادي عشر.
وقد كان الشريف أحمد ليث آل أبي نمي، أديباً فاضلاً نبيهاً مهيباً: من المنسرح:
تَعرِفُ من عينه نجابَتَهُ ... كأنه بالذكاًءِ مكتَحِلُ
أخذ العهد، والطريق على عدة مشايخ، من أجلهم الشيخ أحمد الشناوي، وهو المباشر له بولاية مكة لكنه قال: على الشهادة يا أحمد، قال: على الشهادة.
فكان كثيراً ما يكنى عنها بطلوع الشمس، وعاقب بعد الولاية كثيراً ممن كان قبلُ استبعدها عنه، وسخر منه، وكان له أخدان وجلساء قبل الولاية وبعدها، فحصل لهم الأذية بعد قتله من قانصوه، بوشاية هذا الشخص المسمى بالمياس، منهم السيد الأكرم، مولانا السيد سالم ابن السيد أحمد شيحان، ومولانا الشيخ أحمد القشاشي، ومولانا الشيخ محمد القدسي خليفة سيدي أحمد البدوي، فحبس الجميع، وثقل عليهم حتى افتدوا أنفسهم بمال جزيل كان ذلك بوشاية المياس، أذاقه الله كل باس، يوم يقوم الناس.
وكان للشريف أحمد زوجان من القنا الطويل جداً بسنان مذنب تحته أُكرة من الفضة المطلية، يحمل كل واحد رجل يمشي على قدميه، إذا سار في موكبه يسيران أمامه قريباً منه يصوبانهما، ويصعدانهما بحركة لطيفة التصعيد والتصويب على سواء، وربما كان فيهما جلاجل.
وهذا يفعل إلى الآن أمام إمام اليمن إذا سار في الموكب. انتهى.
قلت: وهذا كان له وجود في زمان الخلفاء العباسيين، فليس أهل اليمن أول مبتدعيه، وقد ذكره شعراء الدولة العباسية في قصائدهم في الخلفاء.
قال القاضي ناصح الدين أبو بكر أحمد الأزجاني، من قصيدة يمدح بها الوزير أنو شروان وزير الخليفة المسترشد بن المستظهر بالله العباسي قوله: من الطويل:
وألوية منهن صقران أوفيا ... عَلَى علمي رمحيْنِ فارتَبآكا
ولَيسَ سوى النسرين من أفقيهما ... لحبهما نَيل العلا تَبِعاكا
وكان إذا سار بالليل لا يوقد بين يديه إلا الشمع الموكبي بدلاً عن المشاعل، وكان دخوله مكة متملكاً لها، وإجفال الشريف محسن صاحب مكة، وبنى عمه عنها ضحى يوم الأحد السابع عشر من شهر رمضان من سنة سبع وثلاثين وألف، فكان رحمه الله يتبجح ويقول: فتحت مكة بالسيف، كما فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلتها في مثل اليوم الذي دخل فيه صلى الله عليه وسلم.
قلت: أما قوله: فتحتها فالمشهور الذي عليه الجمهور أنها لم تفتح عَنوة، وإنما فتحت صلحاً، وما وقع من خالد بن الوليد رضى الله عنه، فإنه نووش بعض قتال مع الأحابيش، وعبدان أهل مكة في أسفلها، وقد نهاه صلى الله عليه وسلم عن القتال، ولكنه لما قوتل قاتل، وهذه هي شبهة القائل، بأنها فتحت عنوة، وقد علمت بيانها.
وكذلك قوله: ودخلتها... إلخ، فإنه لم يدخلها عليه الصلاة والسلام. في سابع عشر رمضان، وإنما دخلها يوم ثامن عشرة بغير خلاف.
تغمده الله برحمته آمين.
ومما رأيته لصاحبه إبراهيم بن يوسف الشهير بالمهتار قوله: من الخفيف:
سنة السبعِ والثلاثينَ بعد ال ... ألفِ جاءَتْ بما به ينفر الطَّبْعْ
دخَلَ السبْعُ مكةَ الله بالجن ... دِ ولا شَكَّ أنها سنة السبْعْ
وكانت مدة ولايته سنة، وأربعة أشهر، وثمانية عشر يوماً.
ومما قيل فيه قول الأديب الأريب إبراهيم بن يوسف المهتار سامحه الله تعالى: من الرجز:
قَضى ولم يقضِ الذي منه يجب ... صَب إذا ما يدعه الشوقُ يُجبْ
أشجاه تغريدُ حماماتِ اللوَى ... وهنا على البانِ فغنَّى فطَرِب
ذكرتُهُ ليالياً مواضياً ... بالشعبِ مِنْ قبلِ الخليطِ ينشعب
إذ عامر بساكنِيهِ عامرٌ ... ظباؤُهُ ترعَى بمرعاه الخَصِبْ
وإذ به الغيدُ بدَت سوانحاً ... تجرُّ من ذيل الصبا بُرداً قشب
مِنْ كل هيفاءِ القوامِ اذا انثنَت ... تكادُ مِنْ لينٍ به أن تنقضب
تبدو بوجهٍ مسفرِ من غيهب ... من شعْرها إلى بني بَدْر انتسب
مِنَ الرعابيبِ اللواتي خَفَفَت ... ربعَ اصطبارِي مثل مغناه الخَرِب
فما وقوفي بالطلولِ بعدهم ... أبكى بها والحيُ عنها مغتربْ
سقيا سقى الله العباد معهداً ... بعامر إنْ ضن دمعي المنسكبْ
ذاك الذي به الظُّبَا تحمِي الظبا ... فكَم به مثلي أسيرٌ مكتئب
لله أيامٌ به تصرمَت ... وكأسُ صفوٍ في لياليها شُرِب
بفتية تراضعوا ثدياً من الْ ... آدابِ كُل للغرامِ منجذب
يوشون شعراً كالرياضِ بينهم ... طويلُهُ يمد لفظ المقتضب
لم ينشدوا إلا شجاني لفظهُم ... ما الشعْرُ إلا ماشجا قلْبَ المحب
كل أخي صبابةٍ وعارفٍ ... يوجدُ فرداً قبل ألا يصطحبْ
بتنا بها كل شكا غرامَهُ ... من الذي يهوَى بقلْبٍ ملتهبْ
والليلُ قد تسترَتْ نجومه ... بسحبها والبدرُ فيها محتجبْ
والمزنُ تبكي لابتسامِ البرقِ أو ... من غضبِ لأحمدَ بْنِ المطلبْ
ألأروَعُ الشهمُ الكَرِيمُ الجد رَب ... بُ الْجد حاوي المَجْد عَنْ أهل اللعبْ
ألفارسُ الخيل إذا الشرُ بدا ... مَع عمرٍو الكرارِ أو معدى كربْ
مملي العيونِ هيبةً إذا مشَى ... مجلي القلوبِ رهبةً إذا ركبْ
هو الكريمُ ابنُ الكريمِ مَنْ له ... ذيل على هامِ السماكِ منسحبْ
مِن معشرٍ هُمُ السراةُ في الورَى ... كُل إلى آل النبي منتسبْ
مُروِي الظبا من الصدا إذا سطا ... مُزْرِي الحيا يوم الندَى إذا يهب
ولم يوجد من هذه القصيدة إلا ما رأيته، ثم إنه مدحه أيضاً وأشرك معه أخاه محمداً بإشارة بعد وقعة البقرة وقد ظهرت شجاعتهما فقال: من الكامل:
إن كان تسآلُ الديارِ كما يجبْ ... يُجدِي فَلِمْ بسؤالها قلبي يجبْ
ما نافعي إن أشكُ بَث صبابتي ... لرسومها والحيُ منها مغتربْ
يا أَحمَدٌ ومحمدٌ وثقَت يدي ... نِعمَ الرجا أبناءُ عبد المطلبْ
ألسابقين إلى الوغَى بعزائم ... تذكى شواظاً كالصوارمِ ملتهبْ
سل عنهما بيضَ الصفاحِ ولهذم الس ... سُمْرِ الرماحِ وجحفَل الجيشِ اللجبْ
هل شاهدوا إلا هما وهما هما ... دَع عنتَرَ الكرارَ أو معدى كربْ
سدتمْ ملوكَ الخافقَين أما ترَى ... من كان يبغي شأوَ غايتِكُمْ غُلِبْ
إن كان من يرجو الشفا بدمائِهِم ... فدماءُ أعبدكُمْ شفاء للكَلِبْ
ثم وليها الشريف مسعود بن إدريس، واستمر في ولايتها، وكانت مكة في زمنه ربيعاً مريعاً سخاء ورخاء، تهب بها رياح الأمن والعدل صباً ورخاء، لم يقع في الوجود شيء في زمنه من الأكدار، ولا يؤثر من الأخبار إلا كل خبر سار، ما عدا ما قدره الله تعالى من سقوط البيت الشريف في زمانه، فجدده سلطان العالم القاثم بحفظ الدين وتشييد أركانه.
وسبب ذلك أنه يوم كان يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان من سنة تسمع وثلاثين وألف: نشأت على مكة وأقطارها سحابة غربية، مدلهمة الإهاب، حالكة الجلباب، فلم تزل تجتمع إلى وقت الزوال، فأبرقت وأرعدت، وأرخت عزاليها وأغدقت، واستمرت تهطل ساعتين ودرجتين، فأقبل السيل من سائر النواحي، وثلم السد الذي يلي جبل حراء، المسمى جبل النور - ثلمة كبيرة وعلا عليه، فدخل المسجد، وساق ما وجد على طريقه من جمال ورجال ومال وأحمال وغير ذلك، وأخرب الدور، واستخرج ما فيها من الأثاث وغيره، وأهدم عليها، فامتلأ المسجد الحرام ماء حتى أنه دخل الماء إليه من جهة باب الزيادة، وزاد حتى اعتلى على باب الكعبة ذراعين عمل، وأهلك الرجال، والأطفال، وكل من وجد في المسجد، وكان أكثر الهالكين: الأطفال الذين يقرؤون القرآن مع فقهائهم، فتعلق بعضهم بالأماكن المرتفعة، وارتفع على بعض السلاسل الحرمية، فوصل الماء إليهم وأهلك الجميع. وكان من هلك به من بني آدم خمسمائة، ومن الحيوان كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحمل جميع ما في المسجد من خزائن، ومصاحف وقناديل وبسط، وغير ذلك، ثم بات المطر يهطل إلى نصف الليل، فلما كان آخر ساعة قبيل الغروب من يوم الخميس العشرين من الشهر المذكور سقط جانب الحِجْر - بكسر الحاء - من البيت الشريف، فسقط جميع ما بناه الحجاج منها، فكان بقاء البيت نحو ألف سنة من الآيات الجلية، فإن البناء المربع الذي تمر به الرياح لا يبقى عادة نحو ثمانين سنة، ومن الجانب الشرقي إلى حد الباب، ومن الجدار الغربي نحو النصف أيضاً، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فقال في ذلك المهتار هذه القصيدة: من البسيط:
ماجت قواعدُ بيتِ الله واضطربَت ... وأهتزتِ الأرضُ من أقطارها وربتْ
وأمسَتِ الكعبةُ الغراء ساقطةَ ... فما أشك بأن الساعةَ اقتربَت
فأي خطب به أحشاؤنا انصدَعَت ... وأيُ هولٍ به ألبابُنا انسلَبَتْ
وجميعها عًلى هذه الركة تركتها استحساناً، وأنفت من ذكرها استهجاناً.
قال المرحوم العلامة الإمام علي بن عبد القادر الطبري يعنيه: وقد نظم بعض المتطفلين على الأدب قصة السيل المذكور مع قصة ما وقع بعده في أبيات تنفر عنها المسامع لركاكتها وقبحها، واستهجان الطباع السليمة لها، يشير بذلك إلى هذه القصيدة التي مطلعها ماجت، ولقد صدق فيما قال رحمه الله.
نعم قوله في تاريخ هدم البيت بالسيل المذكور: من الخفيف:
هدمَ البيت أمر رَب تغشّا ... هُ بسيلٍ لم يحوِ غرقاه ضبط
في نهارِ الخميسِ عشرينَ شعبا ... نَ قبيلَ الغروبِ من عام لغط
لا بأس به. وقال الإمام فضل بن عبد الله الطبري مؤرخاً لذلك: من مجزوء الرجز:
سُئلتُ عَن سيلٍ أتَى ... والبيت عنه قد سقَطْ
متَى أتى؟ قلتُ لهُم ... مَجِيئُهُ كانَ غَلَطْ
وله تاريخ آخر من أبيات رقي إلى قفل بيتَ الله وتتمة المصراع حين هجم وقال القاضي الأحسائي: من المجتث:
مق بعد إخراجِ ترك ... وقَتلِ من ملكَتهُ
للبيت هدَّتْ سيولٌ ... تاريخها دَخَلَتْهُ
فوقع الضجيج العام، والانزعاج التام، في قلوب الأنام، فبرز مولانا الشريف مسعود من داره إلى المسجد الحرام، وحضر معه السادة الأشراف، وفاتح البيت الشريف وهو الشيخ محمد بن أبي القاسم الشيبي، والعلماء والفقهاء والصلحاء، وكان جلوسهم بمقام الحنفي وجلوس الشريف على نفس المحراب كما أخبرني من رآه كذلك، فبرز أمر الشريف مسعود بإيقاد الشموع الكائنة في حاصل المسجد الحرام فأوقدت، وأمر فاتح البيت أن يدخل الكعبة ويخرج القناديل التي بها خشية عليها من الضياع، وأن يرفع الميزاب الشريف أيضاً، فعين الشيخ شخصاً من خدام الكعبة لذلك لكونه في أثر مرض يمنعه من الحركة التامة، فدخل ذلك الخادم ومعه جماعة، وأتى شيخ الوقادين بالمحط، وأخرجوا القناديل، ووضعوها في مخزن فاتح البيت، وختم على المخزن المذكور مولانا الشريف، وقاضي الشرع ونائب الحرم الشريف، ثم انصرف الناس إلى دورهم.
فلما كان يوم الجمعة حادي عشري الشهر المذكور وصل الشريف مسعود، ومعه السادة والأعيان بعد النداء العام بتعاطي هذه الخدمة، وشرعوا في إزالة الطين الكائن بالمطاف، فشمر الشريف مسعود عن أكمامه، وأخذ مكتلاً وحمل فيه من الطين، وفعل الناس كذلك، فجزى الله الجميع خيراً، وأثابهم على فعلهم، فما كان بأسرع من تنظيف المطاف وما حوله فباشر الخطيِب الجمعة، وأقام شعارها، ثم شرعوا في رفع الأحجار، فمنها ما جعلوه خلف مقام الحنفي، ومنها عند ممشى باب السلام بالقرب من المنبر.
ثم إن الشريف جهز قاصداً من مكة، ومعه السيد علي بن هيزع لتعريف باشا مصر المحروسة ووزير جهاتها المأنوسة بهذا الخبر ليعرضه على الحضرة الخنكارية، وصحبتهم مكاتيب مولانا الشريف مسعود، ومحاضر من الأعيان وفتاوي العلماء، فعزم القاصد المذكور من مكة أواخر شعبان، ثم إن الشريف برز أمره العالي إلى المهندسين، والفعلة بتنظيف باطن الكعبة مما وقع فيها من الأحجار والتراب فنظفت، ثم إن الشريف أرسل إلى جدة لتحصيل خشب يجعل على الكعبة لسترها إلى أن يشرعوا في العمارة، فوصل الخشب آخر رمضان، فستروا جميع ما سقط منها، وجعلوا باباً لطيفاً من خشب في الجهة الشرقية.
فلما كان شهر شوال جعل الشريف ثوباً أخضر، وألبسه الكعبة الشريفة بعد أن حضر بالمسجد الحرام، ثم بعد إلباسه دخل الكعبة، وصلى بها، ثم برز فطاف والريس يدعو له على قبة زمزم كعادة أسلافه، وكان الإلباس المذكور سابع شوال من السنة المذكورة.
ولما أن كان خامس عشر شوال وصل القاصد من مصر المحروسة، وأخبر بوصول الأغا رضوان المعمار معيناً للعمارة، وكان وصوله معه، إلا أنه تأخر عن ذلك اليوم، فدخل في اليوم الثاني يوم سادس عشر شوال، ونزل بالجوخي، ثم دخل مكة يوم سابع عشر الشهر المذكور وصحبته نامة سلطانية، وخلعة للشريف مسعود، فألبسه إياها بالمسجد الحرام يوم السبت سابع عشر شوال بعد اجتماع السادة والفقهاء والأعيان، وقرئت النامة، والأحكام الباشوية، ثم شرع الأمير رضوان في تنظيف المسجد الحرام، فأكمل ذلك وفرشه بالحصى، ولم يرد الحجاج إلا وقد تم جميع ذلك.
ثم لما كان يوم الأحد سادس عشري شهر ربيع الثاني من عام أربعين وألف، وصل إلى مكة السيد محمد أفندي متولياً قضاء المدينة الشريفة، ومعيناً لعمارة الكعبة المشرفة، وكان وصوله إلى بندر جدة بحراً، وصحبته نامة سلطانية، وخلعة عثمانية من الحضرة الشريفة المرادية باسم مولانا الشريف مسعود، فقرئت النامة بالحطيم بعد حضور قاضي مكة، وشيخ حرمها، ومولانا السيد عبد الكريم ابن السيد الشريف إدريس نيابة عن أخيه مولانا الشريف مسعود، وحملت الخلعة صحبة السيد عبد الكريم، والسيد محمد أفندي، والأمير رضوان، والأجناد إلى مولانا الشريف مسعود، فلبسها ببستانه بالمعابدة؛ لكونه مقيماً فيه لتوعك مزاجه الكريم.
فاستمر مريضاً بمرض الدق إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى في ليلة الثلاثاء عشري ربيع الثاني سنة أربعين، وكانت مدة ولايته سنة وثلاثة أشهر إلا أربعة أيام، رحمه الله رحمة واسعة.
وضبط الأمير رضوان البلد ضبطاً حسناً وأمر المنادي بالنداء أن البلد بلد السلطان. وما زاد على ذلك؛ دفعاً للفتنة، فجاءت الأشراف وسألوه عن المعيَّن للأمر فأبى أن يعينه وأمرهم بتجهيز الشريف مسعود، فنزل به الأشراف وقت الضحوة إلى مكة على محفة البغال، وغسل وصلى عليه عند الكعبة قاضي الشرع مولانا العلامة حسين أفندي، وخطب عليه خطبة أبكت العيون، وأنكت القلوب، ودفن عند أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد.
ومما قيل فيه من الشعر قول العلامهَ القاضي أحمد بن عيسى المرشدي: من البسيط:
عوجاً قليلاً كذا عن أيمنِ الواديِ ... واستوقفا العيسَ لا يحدُو بها الحادي
وعرجاً بى علَى ربعٍ صحبْتُ به ... شرخَ الشبيبةِ في أكنافِ أجيادِ
واستعطفا جيرةً بالشعْبِ قد نزلوا ... أعلى الكثيبِ فَهُمْ غيي وإرشادِي
وسائلاً عَنْ فؤادِي تبلُغا أملي ... إِن التعلل يشفي غُلَةَ الصادي
واستشفعا تشفَعاً نسألْكُمُ فعسَى ... يقدرِ الله إسعافي وإسْعادي
وأجملا بى وحُطَّا عَنْ قلوصكما ... في سوحِ مُرْدِي الأعادي الضيغمِ العادِي
مسعودُ عَيْن العلا المسعود طالعُهُ ... قَلْبُ الكتيبةِ صَدْرُ الحَفْل والنادي
رأسُ الملوكِ وعينُ الملكِ ساعده ... زَنْدُ المعالي جَبِينُ الجَحْفَلِ البادي
شهمُ السراةِ الألى سارَتْ عوارفُهُمْ ... شرقاً وغرباً بأغوارِ وأنجادِ
نرد غمار العُلاَ في سوحِهِ ونرحْ ... أيدي الركائبِ من وخدٍ وإسآدِ
فلا مناخ لنا في غير ساحتِهِ ... وَجُود كفيه فيها رائح غادي
يعشوشبُ العشبُ في أكناف عقوتِهِ ... يا حبذا العشبُ في الدنيا لمرتادِ
ونجتني ثمرَ الآمالِ يانعةً ... من روضِ معروفِهِ من قبلِ ميعادِ
فأي سوحٍ يرجى بعد ساحته ... وأي قصدٍ لمقصودٍ وقصادِ
ليهنِ ذا الملك أن ألبست حلته ... تُحيي مآثرَ آباءٍ وأجدادِ
لبستها فكسَوتَ الفخرَ ملبسها ... مشَهراً يبهرُ المصبوغَ بالجادِ
علوتَ بيتاً ففاخزتَ النجومَ عُلاً ... والشهبَ فخراً بأسباب وأوتادِ
ولحت بدراً بأفقِ الملكِ تحسدُهُ ... شمسُ النهارِ وهذا حَرُّها بادي
وصنتَ مكةَ إذ طهرتَ حوزتها ... من ثلةِ أهلِ تثليث وإلحادِ
قد غرَ بَعضهُمُ الإمهالُ يحسبه ... عفواً فعادوا لإتلافٍ وافسادِ
فذدتهُم عن حمى البيتِ الحرامِ وهُم ... من السلاسلِ في أطواقِ أجياد
كأنهم عند رفعِ الزندِ أيديهم ... يدعونَ حُباً لمولانا بإمدادِ
وما ارعوَوا فشهرتَ السيف محتسباً ... يا بردَ حَرِّهم في حَرِّ أكبادِ
غادرتهُم جزراً من كل منجدلِ ... كأن أثوابه مُجت بفرصادِ
وأثمَرَ السدرُ من أجسادهم ثمراً ... حلواً بأفواهِ أجداثٍ وأنجادِ
سعيتَ سعياً جنياً من خمائله ... نورُ الأمانِ لأرواح بأجسادِ
فكم بمكَةَ من داعٍ ومبتهلٍ ... ومن محب ومن مثنٍ ومِن فادي
وعادَ كل قصيٍّ مصلحاً وغدَت ... أيامُناً بالهنا أيامَ أعيادِ
نَفي لذيذَ الكرَى عنهم تذكُرُهُم ... وكان من قبل صعباً غير منقادِ
أباحَ سرحك أن يرعَى منازلَهُم ... وقائعٌ لك بين الخرجِ والوادي
من كل أبيض قد صَلَّت مضاربه ... لما ترقى خطيباً منبرَ الهادي
وقادَ كل قصيِّ ذله مهلاً ... مهملاً كل معوج ومنآدِ
وكل أسمر نظام الكُلَى وله ... إلى العدَى طفرة النطام ميادِ
وصانَ وسمك في جأشٍ يخالطُهُ ... عن رَب عز تنضاهُ بأَحشادِ
أسكنتَ قلبهمُ رعباً تذكُّرُهُ ... ينسى الشفوق الموالي ذِكر أولادِ
أقبلتهم كُل مرقالٍ وسابحةٍ ... يسرعنَ عدواً إلى الأعدا بأطوادِ
مِن كُل شهمٍ إلى العلياءِ منتسبٍ ... بسادةٍ قادةٍ للخيلِ أجوادِ
فهاكَ يابنَ رسولِ الله مِدحَةَ مَن ... أورَت قريحته من بعدِ إخمادِ
فأحكَمَت فيكَ نظماً كله غُرَرَ ... ما أحرزَت مثله أقيالُ بغدادِ
أضحَت قوافيه والإحسانُ يشرَحُهاً ... روضَ بديع لإرصادٍ بمرصادِ
ترويه عني الثريا وفي هازئةٌ ... بالأصمعي وما يروي وحمادِ
وتستحث مطايا الزهر إن ركدَت ... كأنها إبل يحدو بها الحادي
وتوقظ الركبَ ميلاً من خمارِ كرىً ... والليل من طولي تدآبِ السرَى هادِي
أتتكَ تشفَعُ إذلالاً لمنشئِها ... فاقبَلْ تذللَهَا يا نَسْلَ أمجادِ
وأسبِل الصفحَ ستراً إن بدا خَللٌ ... تهتك به سِتر أعدائي وحُسادي
وقل تقرَّب إلينا تستعز بنا ... ما حق مثلكَ أن يقصى بإبعاد
لازلتَ يا عز أهلِ البيتِ في دَعَةٍ ... تحف منهم بأنصارٍ وأنجادِ
مسعود جَدُّ سعيد الفأل طالعه ... سعد السعودِ وملقى كل إسعادِ
بحق طه وسبطَيهِ وأُمهما ... والمرتضَى والمثنى الطهر والهادِي
صلى عليهم إلهُ العرشِ ما سجَعَت ... قمرية أو شدا في مكةٍ شادي
وقال مولانا القاضي تاج الدين المالكي فيه أيضاً، وقدمت هي والتى قبلها في يوم واحد يوم الجمعة ثاني رجب سنة تسع وثلاثين وألف: من البسيط:
غُذِيتُ درَّ التصابِي قبلَ ميلادي ... فلا تَرُم يا عذولي فيه إرشادي
غَيُ التصابي رشادي والعذابُ به ... عَذب لديَّ كبردِ الماءِ للصادي
وعاذل الصب في شرعِ الهوَى حرجٌ ... يرومُ تبديلَ إصلاحِ بإفسادِ
ليتَ العذولَ حوَى قلبي فيعذرَني ... أولَيتَ قلبَ عذولي بين أكبادي
لو شامَ برقَ الثنايا والتثني من ... تلكَ القدودِ انثنَى عطفاً لإسعادِ
ولو رأَى هادياً للجيدِ كان درَى ... أن اشتقاقَ الهدى من ذلك الهادي
كم باتَ عقداً عليه ساعدي ويَدِي ... نطاق مجتمعي المخفي والبادي
إذ أعيُنُ العِينِ لا تنفك ظامئةً ... لِوِردِ ماءِ شبابي دونَ أندادي
فيا زمانَ الصبا حُيًيت من زمن ... أوقاتُهُ لم نُرع فيها بأنكادِ
ويا أحبتَنا رؤَّى معاهِدَكُم ... من العهادِ هتون رائحٌ غادِي
معاهداً كُن مصطافى ومرتَبَعِي ... فكَمْ بها طال بل كَمْ طابَ تردادي
يا رائحينَ وقلْبي إثر ظعنِهِمُ ... ونازحينَ وهُم ذكرِى وأورادِي
إن تطلبوا شرْحَ ما أيدي النوى صَنَعَتْ ... بمغرم حِلْفِ إيحاشٍ وايحادِ
فقابلوا الريحَ إذ هبتْ شآميةً ... تروي حديثي لكُمْ موصولَ إسنادِ
والَهْفَ نفسي على مغنًى به سلفَتْ ... ساعاتُ أنسِ لنا كانَتْ كأعيادِ
كأنها وأدامَ الله مشبِهَها ... أيامُ دولةِ صدْرِ الدست والنادِي
ذو الجودِ مسعودٌ المسعودُ طالعُهُ ... لا زالَ في برْجِ إقبالٍ وإسعادِ
عادَتْ بدولتِهِ الأيامُ مشرقةً ... تهز مختالةَ أعطافَ مَيادِ
وقلدَ الملكَ لما أن تقلده ... فخراً على مر أزمان وآبادِ
وقامَ بالله في تدبيرِهِ فغدا ... موفقاً حالَ إصدارٍ وإيرادِ
حق لك الحمدُ بعد الله مفترض ... في كُل آونةٍ من كلِّ حَمّادِ
أنقذتهم مِنْ يدِ الأعداءِ متخذاً ... عند الإلهِ يداً فيهمْ بأنجادِ
داركْتهُنم سُهداً رمقي فعادَ لَهُمْ ... غمضٌ لجفنِ وأرواح لأجسادِ
بُشْراًكَ يا دهْرُ حاز الملكَ كافلُهُ ... بشراكَ يا دهْرُ أخرى بِشْرُها بادِي
عادَتْ نجومُ بني الزهراءِ لا أفلَتْ ... بعودةِ الدولةِ الزهْرا لمعتادِ
واخضَلَّ روضُ الأماني حينَ أصبحَتِ ال ... أجوادُ عقداً على جَياد جَيادِ
وأصبَحَ الدينُ والدنيا وأهلُهُما ... في حفْظِ ملكٍ لظل العدلِ مدادِ
يبيحُ هامَ الأعادي مِنْ صوارمه ... ما استحصدَتْ بالتقاضي كل حَصادِ
شَهْم أيادي أياديه ونائله ... على الورَى أصبحَتْ أطواقَ أجيادِ
يَمْضِي مؤملُ جدوى راحَتيهِ إلى ... طَلْقِ المحيا كريمِ الكَف جوادِ
بذل الرغائب لا يعتدُّهُ كرماً ... ما لم يكُنْ غير مسبوقٍ بميعادِ
والعَفْوُ عن قدرةِ أشهَى لمهجتِهِ ... صينَتْ وأشفى من استيفاءِ إيعادِ
مآثِز كالدرارِي رفعةً وسنىً ... وكثرةً فهْيَ لا تحصَى بتعدادِ
تسمو مناقبَ مَنْ كُل الكمالِ حوَى ... وأنْتَ ذلك عن حَصْرٍ بأعدادِ
فأنتَ من معشرٍ إن غارة عرضَت ... خفوا إليها وفي النادِي كأطوادِ
كم هجمةِ لكَ والأبطالُ محجمةٌ ... ووقفةٍ أوقفَتْ ليثَ الشرَى العادِي
بكلِّ أبيضَ مقصودٍ لمضطهدٍ ... وللمرائرِ والمرانِ قصادِ
فَخْرَ الملوكِ الألى فَخْرُ الزمان بهمْ ... دُم حائزاً مُلْكَ آباءٍ وأجدادِ
وليهنِ حلته أن رحْتَ لابسها ... إذْ أصبَحَتْ خير أثواب وأبرادِ
واستَجل أبكارَ أفكارٍ مخدرة ... قد طالَ تَعنِيسها من فًقْدِ أندادِ
كَمْ رُدَّ خُطابها حتى رأتْكَ وقَد ... أمَتْكَ خاطبةً يا نسْلَ أمجادِ
أفرغت في قالبِ الألفاظِ جوهَرَها ... سبكاً بذهْنِ وَرِي الزندِ وقادِ
وصاغَها في معاليكُمْ وأخلَصَها ... وُد ضميريَ فيه عَدْلُ إشهادِ
يحدو بها العيسَ حاديها إذا زَحَرَتْ ... من طولِ وخْدٍ وإرقالٍ وإرشادِ
كأنما الراحُ بالألبابِ لاعبةٌ ... إذا شدا بَيْنَ سُمارٍ بها شادِي
بفضلها فضلاءُ العصرِ شاهدة ... والفضلُ ما كان عن تسليمِ أضدادِ
فلو غَدَتْ من حبيب في مسامعِهِ ... أو الصفى استحالا بَعْضَ حسادي
واستنزلا عن مطايا القَولِ رحْلهُماً ... واستوقَفا العيسَ لا يحدُو بها الحادي
وحَسبُها في التسامِي والتقدُم في ... عَد المفاخرِ إذ تغدو لتعدادِ
تقريظُها عند ما جاءَتْ معاَرضةً ... عُوجا قليلاً كذا عن أَيْمَنِ الوادي
نشأ الشريف مسعود في كفالة والده الشريف إدريس صاحب مكة، ووقعت له حروب مع ابن عمه الشريف محسن بن الحسين بن الحسن كان الظفر فيها لمحسن، أولها سنة سبع وثلاثين في ربيع الأول منها، وفي بعضها أرسل الشريف محسن ولده محمد فظفر، واستولى على مسعود، وأخذه أخذاً شديداً، وقتل في المعركة السيد حميضة بن عبد الكريم بن حسن، وهاشم بن شنبر بن حسن، ثم دخل الشريف مسعود مكة برضا من الشريف محسن بكفالة الأشراف أنه لا يسعى في خلاف لا بقول ولا بفعل.
رحم الله الجمع رحمة واسعة.
ثم وليها الشريف عبد الله بن حسن، أكبر آل أبي نمي إذ ذاك ملوك البلد الحرام ومدينة جدهم عليه أفضل الصلاة والسلام، دعاه رضوان والسيد محمد المعين للعمارة، وقاضي مكة، وشيخ حرمها، فحضر ومعه من أولاده السيد محمد والسيد حسين، وكان قد تخلف عن الجنازة لذلك، فلما حضر مولانا الشريف عبد الله سأل منه الأمير رضوان لبس خلعة شرافة البلد الحرام، فامتنع من قبول ذلك، فألزموه بذلك حقناً لدماء العالم، وما زالوا به حتى رضي، فألبسه الأمير القفطان وحصل بولايته الأمن والأمان، وكان الاجتماع لذلك في السبيل المنسوب لمحمد بن مزهر كاتب السر الكائن في جهة الصفا المعروف علوه في زماننا بسكن الشيخ علي الأيوبي - رحمه الله تعالى - .
ثم لما كان يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى من السنة المذكورة حضر بالحطيم مولانا الشريف عبد الله بن حسن، والساده الأشراف، والعلماء فدار بينهم الكلام في بقية الجدران، والجدار اليماني، فاتفقوا على الإشراف عليه أولا، فدخل الشريف عبد الله والجماعة إلى الكعبة، وأشرفوا على بقية الجدران، ونصب المهندسون الميزان في الجدار اليماني، فوجدوه خارجاً عن الميزان نحواً من ربع ذراع، ثم برزوا من الكعبة، وجلسوا في الحطيم، فاقتضى رأيهم أن يهدم بقية الجدارين الشرقي والغربي، ثم ينظر في الجدار اليماني، فإن زاد في الميل هدم وإلا فلا، وانفض الجميع على ذلك.
ثم بعد يومين رفع سؤال إلى علماء مكة هل يجوز هدم الجدار اليماني إذا شهد المهندسون بوهنه وسقوطه إن لم يهدم؟ فأجابوا بالجواز، فاعتمد الولاة على ذلك فتعاطوا العمارة، وشرع المهندسون في هدم بقية الجدران، وكان ابتداء الهدم في يوم العشرين من جمادى الأولى سنة أربعين وألف، ثم لم يزالوا كذلك إلى أن أتموا الهدم، وشرعوا في البناء، وحضر في أثناء العمارة مولانا الشريف عبد الله، وحمل مكتلاً فيه نورة، وفعل فعله جماعة من الحاضرين، فلما أن كان غرة شعبان من السنة المذكورة سنة أربعين وألف رفعت الأستار التي حول البيت الشريف، وتكامل بناء الجدران كلها: وفي ثالث شعبان يوم الخميس ركب الميزاب، وبعد النصف من شعبان شرعوا في تنظيف الكعبة المشرفة، وفي يوم الجمعة غرة شهر رمضان ألبست الكعبة الشريفة ثوبها ولله الحمد والشكر.
وفي ذلك يقول القاضي تاج الدين المالكي مؤرخاً لعمارتها، وممتدحاً لمعمرها مولانا السلطان مراد خان بن أحمد خان: من الطويل:
هنيئا لملكِ خصهُ الله واجتَبَى ... وصداهُ للبيتِ العتيقِ بجدهِ
بَنَى البيتَ بعد ابنِ الزبيرِ ولم يَفُز ... سواه بهذا الفَخرِ لا زالَ سعدُهُ
مليك أقامَ الله أيامَ ملكِهِ ... ولا زالَ خفاقاً مدى الدهرِ بندُهُ
مليك ملوكُ الأرضِ طرَّا عبيدُهُ ... تدينُ له شرقاً وغرباً وجندُهُ
مليكٌ حباه الله فخراً وسؤدداً ... وصيتاً مداه لا ينالُ وحدهُ
بتعميرِهِ بيتَ الإله على يَدَي ... مَنِ اختارَهُ رب الورى دام رشده
قَدُونَكَ تارِيخاً لِعامِ بِنائِهِ ... وَفِياً بِضَبطِ الْعامِ حِينَ تَعُدهُ
مراد بني بيتَ الإلهِ وزالدَهُ ... سناءً بها يزْهَى به زِيد مجدُهُ
وله تاريخ نثر هو قوله أسس بنيانه على تقوى من الله وهدى، ولإبراهيم المهتار قوله: من المتدارك:
قَد قيلَ تُرَى مَن يعمرُ بي ... تَ الله ومَنْ يَهْدي لِرَشاًدْ
فأجبتُ بتاريخٍ نَظْماً ... هاً أَعمَرَ بيتَ اللهِ مُرادْ
قلت: يحسن أن يقابل هذا الشعر بقول القائل: من المتدارك:
شعر عظم ماثل لكم ... حجر ضخم ترب ورماد
واستمر مولانا الشريف عبد الله بن حسن متولياً إلى أن حج بالناس موسم سنة أربعين بعد الألف، ثم استهل هلال محرم افتتاح سنة إحدى وأربعين وألف، فأخذ منها شهر محرم، ثم بدا له خلع نفسه من ولاية مكة، فلما كان يوم الجمعة غرة صفر من السنة المذكورة قلد إمرة مكة لولده الشريف محمد بن عبد الله بن حسن، ولمولانا الشريف زيد بن محسن بن الحسين بن الحسن، وكان قد استدعاه قبل ذلك من نواحي اليمن؛ لأنهُ فر إلى تلك الجهة زمن ولاية مسعود مكة لما كان من مولانا الشريف محسن إلى أبيه إدريس أولاً ثم إليه نفسه منه ثانياً، فنودي بالبلاد لهما، وتخلى الشريف عبد الله بن حسن للتوجه إلى عبادة ربه إلى أن أتاه الأمر المحتوم بأمر الحي القيوم ليلة الجمعة عاشر جمادى الأخرى من السنة المذكورة، فكانت مدة ولايته تسعة أشهر وثلاثة أيام.
فاستمر الشريفان محمد بن عبد الله، وزيد بن محسن يدعى لهما على المنابر، والبلاد بهما قارَّة والأحوال طيبة سارة، إلى أن كان العشر الأول من شعبان المعظم من السنة المذكورة وصلت أخبار من جهة اليمن بأن عسكراً خرجوا على الوزير قانصوه، وأن نيتهم الوصول إلى مكة المشرفة وكان ذلك شائعاً على الألسنة.
ثم ورد مورق من القنفدة بخبر وصولهم إليها، ومعه مكاتيب إلى مولانا الشريف محمد، ومولانا الشريف زيد، ومصطفى بك الصنجي المقيم بمكة أو طراقاً من أغاني العسكر المذكور محمود وعلي بك، ومضمون مكاتيبهم أننا نريد مصر، ونريد الإقامة بمكة أياماً لنتهيأ للسفر، فأبى عليهم صاحب مكة خوفاً من الفتنة والفساد، ودفن بعض آبار كانت في طريقهم، فلما وصل الخبر إليهم أجمع رآيهم على دخول مكة قهراً، واستعدوا لذلك بعد أن كتبت الأجوبة بالمنع فحصل في البلد قيل وقال، واضطراب شديد.
فلما أن كان يوم الجمعة عشري شعبان من السنة المذكورة بعد العصر، وهي سنة إحدى وأربعين وألف توجه مولانا الشريف محمد، والشريف زيد، والسادة الأشراف والأعراب إلى جهة بركة الماجن، وقوز المكاسة لأنه بلغهم أن الأتراك قاربوا السعدية، وبرز معهم الصنجق مصطفى بك بعد أن طلب من الشريف محمد خيلاً لمن معه، فتوهم من ذلك ومنعه من الخيل فبرز معه بعسكره وجنوده، فلما أن كان ضحى يوم الأربعاء خامس عشري شعبان المذكور وقع اللقاء بالقرب من وادي البيار بين السادة الأشراف، وبين الأتراك فحصلت ملحمة عظيمة وقتال شديد، وقتل مولانا الشريف محمد بن عبد الله بن حسن صاحب مكة، وقتل معه من السادة الأشراف جماعة منهم: مولانا السيد الجليل أحمد بن حراز، ومولانا السيد حسين ابن مغامس، ومولانا السيد سعيد بن راشد، وخلق آخرون، وأصيبت يد مولانا السيد هزاع بن محمد الحارث فقطعت، ولم تنفصل فدخل بها كذلك إلى مكة، ومر على جهة سوق الليل قائلاً: عذري إليكم يا أهل مكة ما ترونه، وتوجه بقية الأشراف إلى وادي مر.
فبعد تمام الوقعة دخل الأتراك، ونودي بالبلد للشريف نامي بن عبد المطلب بن حسن، وكان دخولهم من جهة بركة الماجن، فتعب الناس أشد التعب، وحصل الخوف الشديد، وتسلطت هذه العساكر على الناس وأتعبوهم وأهلكوهم فسقاً ونهباً وظلماً وشرباً، وتقطعت الطرق وعصت الأعراب، وحمل الشريف محمد بن عبد الله في عصر ذلك اليوم، ودفن بالمعلاة في مقابر آبائه وأجداده بعد أن قاتل قتال من لا يخاف الموت، وكانت مدة ولايتهما سبعة أشهر إلا ستة أيام.
وكان خروج الشريف محمد بن عبد الله - رحمه الله تعالى - إلى لقاء هؤلاء الأتراك في مثل سقوط البيت الشريف في اليوم والساعة فإنه كان يوم عشرين من شعبان بعد العصر من سنة تسع وثلاثين بعد الألف، وخروج الشريف المذكور لذلك في يوم عشرين من شعبان بعد العصر سنة إحدى وأربعين وألف، فبين سقوط البيت الشريف وخروج السيد الشريف سنتان بغير زيادة، فلله هذا الاتفاق.
ثم وليها الشريف نامي بن عبد المطلب، وتوجه مولانا الشريف زيد إلى وادي مر بعد أن دخل مكة ومعه السيد أحمد بن محمد الحارث، ومرا على بيت الشريف نامي بن عبد المطلب فدعاه مولانا الشريف زيد، فخرج إليه، فناوشه بعض كلام، فقال السيد أحمد: ليس الوقت وقت كلام، وكان من جملة ما قاله له مولانا الشريف زيد: من المتقارب:
تجازَى الرجالُ بأفعالِها ... خيراً بخَيْرٍ وشراً بشَر
فالله الله بالحريم. أو ما يقرب من هذا الكلام، ثم سار إلى المدينة الشريفة، وكتب عروضاً بالتعريف بالواقع، وأرسلها إلى باشا مصر صحبة السيد علي بن هيزع حوالة مكة بمصر، ولما وصل الخبر لصاحب مصر، أرسل إليهم سبعة صناجق، وأرسل بخلعة سلطانية لمولانا المرحوم الشريف زيد بن محسن مع الأغا محمد أرض رومي وجماعة من خواصه، وبلغهم أن الشريف زيد بالمدينة، فدخلوا إليها، وخلعوا عليه بملك الحجاز في الحجرة النبوية، وتوجه إلى العسكر وأتوا جميعاً إلى مكة، ووصل خبر ذلك إلى مكة وتحقق، فاضطربت حينئذ آراء العساكر الجلالية اليمنية: فمن قائل: نخرج، ومن قائل: نقاتل، ثم وصل الخبر بأن العساكر المصرية وصلت عسفان، فاقتضى رأي عسكر اليمن أن يرسلوا من يكشف لهم الخبر، فأرسلوا جماعة فوصلوا إلى وادي مر، والعساكر المصرية قد أقبلت، فرجعوا إلى مكة وأخبروا من بها بذلك، فأظهروا حركة الرحيل عنها.
فلما كان يوم الأربعاء خامس ذي الحجة خرجوا كلهم ومعهم مولانا الشريف نامي وأخوه السيد السيد والسيد عبد العزيز إدريس، ولم يبق منهم أحد، وكان بروزهم وقت أذان العصر، فلما أن حاذوا باب النبي صلى الله عليه وسلم المسمى الآن باب الحريريين قال المؤذن: الله أكبر، فسقط بيرق محمود منهم، فكان سقوطه فألاً عليهم، ثم ساروا فنزلوا عند جبل حراء وباتوا، فلما كان أثناء الليل سرى السيد عبد العزيز بن إدريس على نجيبة له أعدت خلف الجبل فقعد عليها، وتوجه إلى ينبع فنجا، فلما أسفر الصبح، ولم يجدوه فعلموا أنه اختلس نفسه، فزاد احتفاظهم على الشريف نامي وأخيه السيد وأمست مكة بعد خروجهم خالية، وكان بها مولانا السيد الشريف أحمد بن قتادة بن ثقبة، فنادى في البلد: إن البلاد بلاد الله والسلطان مراد، وعس البلد تلك الليلة.
ثم لما كان شروق يوم الخميس سادس ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة، دخل مولانا الشريف زيد بن محسن بمن معه من الصناجق، وكان نزوله بدار السعادة، ثم نزل وقت الضحى من ذلك اليوم إلى المسجد الحرام، فجلس في السبيل الذي بجانب زمزم، ومعه الأمير علي الفقاري أحد الصناجق الواصلين، ثم خرج مولانا الشريف من السبيل المذكور، وطاف بالبيت أسبوعاً، والريس يدعو له على قبة زمزم، ثم خرج المنادي ينادي بأن البلاد بلاد الله، وبلاد مولانا السلطان مراد، ومولانا الشريف زيد بن محسن، ثم طلب بعض الصناجق الخروج إلى الجلالية لقرب إدراكهم، فقال له مولانا الشريف زيد: الرأي أن نحج، وتحج الأمة، وتفلح ثم نلحقهم فيقرب الله بعيدهم ولا يفوتون.
فحج مولانا الشريف تلك السنة بالناس، وأزال الله به عن أهل مكة بل عن قطر الحجاز كل باس.
وبعد أن أتم مولانا الشريف المناسك، وصل إلى مكة بعض العساكر اليمنية بشفاعة إبراهيم باشا أمير الحاج الشامي في تلك السنة.
ولما كان يوم الثلاثاء ثاني محرم الحرام افتتاح سنة اثنتين وأربعين وألف: عقد جلس بالمسجد الحرام عند مقام المالكي حضر فيه مولانا الشريف زيد، وغالب صناجق، وغالب السادة الأشراف، والسادة الفقهاء، وتفاوضوا في أمر العسكر اليماني، فاتفق الحال على أنهم يعزمون إليهم، فبرزوا ذلك اليوم، ومعهم مولانا الشريف زيد وجماعته، فأدركوهم في محل يقال له: تربة فحاصروهم، ثم وقع القتال بينهم بالبندق، فاستمسك علي بك لنفسه من الصناجق على أن يسلم من القتل، والتزم لهم بمحمود بك، فقبلوا ذلك، وأمسكوا محمود بحيلة دبروها، ثم رجعوا فدخلوا مكة المشرفة في أول يوم الخميس ثامن عشر محرم الحرام من السنة المذكورة، ومعهم محمود بك أحد أغاتي العسكر اليمني، فعذب بأنواع العذاب، وطيف به على جمل في شوارع مكة عاري الجسد إلا ساتر عورته، ومد باعه بعصا، وربطت يداه عليها عورضت من خلفه، وشقت عضداه وذراعاه، وغرز فيها مصطفة خرق الزيت الموقدة، ووكل بتلك العصا من يضربها من خلف حيناً بعد حين فيتناثر سقطها على جسده، والعياذ بالله تعالى، ثم علق بكلاب أدخل في رأس ذراع يده اليمنى، ثم أدخل تحت عصب عقب رجله اليسرى، ودفع إلى شجرة جميز عند باب المعلاة فمكث كذلك نحو ثلاثة أيام حيُّا يسب ويفحش ويفجر إلى أن مات، فأنزل وأخذ إلى شعبة العفاريت فأحرق ثَمَّ.
وأما الأغا الآخر علي بك فلم يحصل عليه سوء أصلا وذلك لتدبيره تلك الحيلة على محمود، ولحسن سلوكه حال دخوله مكة مع بعض حريم لمولانا الشريف زيد فإنه آمنهم، ووصلهم بخير، وكان يتردد إليهن ويتفقد أحوالهن ويبشرهن، فكان ذلك سبباً لسلامته، وخلوصه مما وقع لرفيقه.
ثم لما كان أواخر شهر محرم افتتاح السنة المذكورة كان مجمع كبير أمام باب مدرسة السلطان قايتباي، حضر فيه الصناجق والأمراء والقضاة، ثم جيء بالمرحوم مولانا السيد الشريف نامي بن عبد المطلب، وأخيه مولانا السيد السيد بن عبد المطلب، فاستفتيت العلماء فيهما، فأجابوا بحكم الله تعالى، فذهب بهما في شرذمة من العسكر إلى أعلى الردم فتوفيا شهيدين رحمهما الله رحمة واسعة، وغفر لهما مغفرة جامعة آمين.
وكانت مدة ولايته على مكة مائة يوم ويوم وهي عدد حروف اسمه نامي، لأنه دخلها يوم خمس وعشرين من شعبان من سنة إحدى وأربعين بعد الألف، وخرج منها عصر اليوم الخامس من ذي الحجة من السنة المذكورة كما تقدم، وتلك المدة مائة يوم ويوم.
وفي ذلك يقْول المهتار: من الطويل:
تأملْ لدنياكَ التي بصُرُوفها ... أبادَت عُلاَ ملكِ تأطد سامِي
بدا فأضا ثُم اغتدَى الحَق فانقضَى ... فمدةُ نامي عدة أحْرُف نامِي
كذا ذكره الطبرى في تاريخه المسمى بالأرج المسكى في التاريخ المكي فليراجع.
قلت: وقد حكى المقريزي نظير ذلك في السابق، وهو أن العزيز بن برسباي أحد ملوك الشراكسة بمصر خلع يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة وكانت ولايته في في الحجة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، فكانت مدته أربعة وتسعين يوماً بعدة حروف عزيز أربعة وتسعين.
وقد تقدم ذلك في ترجمته، إلا إني عبرت عن الأربعة والتسعين بقولي: ثلاثة أشهر وأربعة أيام، والمعنى واحد.
وفي هذه السنة لم يذهب المحمل من مكة إلا في العشر الأول من شهر صفر. واستقل مولانا الشريف زيد بالملك منفرداً في الأقطار الحجازية كافة، وسعودات الأقدار به حافة، واستنزل أرباب الحصون الشامخة، واستولى على القلاع الراسخة، وملك البلاد البعيدة المنازل، واستخدم العز والظفر والإقبال، وتوالت عليه الخلع والتشاريف السلطانية، وقرت بما يهواه المناشير العثمانية، وملأ قلوب أعدائه خوفاً ورعباً، ورقى في معارج العز مرتقى صعباً، وعطر بثنائه شرقاً وغرباً.
وفي سنة اثنتين وأربعين وألف أو التي قبلها توفي العلامة الشيخ أحمد المقري المالكي التلمساني الأصل والمولد، والفارسي الدار والمنشأ نزيل القاهرة، العلامة الحافظ المسند رحلة الدنيا، شهاب علم روض فضله نضير، ما له في سعة الحفظ شبيه ولا نظير.
وفيها - أو في التي بعدها - توفي السيد أحمد بن مسعود ابن سلطان مكة الشريف حسن بن أبي نمي، كان أديباً فاضلاً من أبناء الملوك النجباء يحب العلماء، وأهل الخير، ويجالسهم، كريماً. وشعره في غاية الحسن والرقة، وله فطنة تدرك رقة الرقة.
ولما وقعت بين القاضي تاج الدين المالكي، وبين غرس الدين المدني المنافرة الشديدة جمع بينهما، وأصلح ما كان منهما.
وله ديوان كله غرر، كل سلك منه لا تذكر معه الدرر.
فهو نابغة بني حسن، وباقعة الفصاحة واللسن، الساحب ذيل البلاغة على سحبان، والسائر بأقواله الركبان.
أحد السادة الذين رووا حديث السيادة براً عن بر، والساسة الذين تفتقت لهم ريح الجلاد بعنبر، فاقتطفوا نوار الشرف من روض الحسب الأنضر، وجنوا ثمر الوقائع يانعاً بالنصر من ورق الحديد الأخضر، لم يزل يقدر من نيل الملك ما لم يف به عَدده وعُدده، ولم يمده من القضاء والزمان مَدده ومُدده، فاقتحم لطلبه بحراً وبراً، وقلد للملوك جِيداً ونحراً، فلم يسعفه أحد ولم يساعد، وإذا عظم المطلوب قل المساعد.
دخل إلى شهارة من بلاد اليمن في أحد الجمادين في سنة ثمان وثلاثين وألف، وامتدح بها إمامها محمد بن القاسم بقصيدة راح بها ثغر مديحه ضاحكاً باسم، وطلب منه فيها مساعدته على تخليص مكة المشرفة له، وإبلاغه من تحليه بولايتها أمله، وكان ملكها إذ ذاك الشريف أحمد بن عبد المطلب وأشار في بعض أبياته إليه، وطعن فيها بسنان بيانه عليه، وهي: من الطويل:
سلُوا عن دمى ذاتَ الخلاخلِ والعقدِ ... بماذا استحلت أخذَ روحي على عَمدِ
فإق أمنَت ألا تقادَ بما جنَت ... فقد قيلَ إن الحرَ يقتل بالعبدِ
وإن أخَذتها دونَ كلي فإنني ... جليدٌ ومضعوفُ العزائم بالصَد
خذا قبلةً منها تديه فإنه ... قتيل ولكن ليس يلحدُ في لحدِ
صريع بسهمِ اللحظِ والبينِ لم تزل ... مقسمةَ أجزاه في القربِ والبعدِ
أخو لوعةٍ لو أن أيسَرَ بعضها ... بصَلدٍ لكان العِهنُ أقوَى من الصلدِ
ومُراً على الوادي الذي قد تفاوَحَتْ ... جوانبه عرفاً بما ضاعَ عَنْ هندِ
وعوجا رقابَ العيسِ فيها عشية ... لنبكي بها عصراً تولى على نَجْدِ
ونقضِي لباناتِ الصبا بمحلةٍ ... بوجنةِ وَجْهِ الدهرِ كالخالِ في الخَدِّ
زمان ووجه الدهْرِ طلقٌ وقدهُ ... نضيرٌ وثغرُ الوصلِ يفترُ عن عقدِ
أجرُّ به ذيل الخلاعةِ رافلاً ... وأركض خيلَ الغي في حلبةِ الرشدِ
وأمرحُ في شرخ الشبابِ وحاسِدِي ... يدعدعُ لي أن أكبُ يوماً على وعدِ
فللهِ أيام وربعْ تصرمَت ... لياليهما عني وعوضَنِي وخدِي
فأصبحْتُ في جيش من الحب أرعن ... على أنني في نهجِهِ مفردٌ وحدِي
أعضُ به كفي وأقرعُ بالحيا ... لساني وما يغني فتيلاً ولا يجدِي
واًنْدبُ أَياماً عَلَى غيضةِ الغَضا ... وَغَيظِي بِها غَيْظ الأسِيرِ عَلَى الْقَد
فحيا الحَيا داراً بنجدٍ وأختها ... معطلة بالغورِ والعَلَم الفردِ
ومنعرج بالجزْعِ هل ماتَ رسمُهُ ... فأحييهِ بالتأبينِ أمْ هُو عَلَى عَهْدي
فثم به قلب فَقِيدٌ حبسنَهُ ... عيونُ المها بين الأجارعِ والرندِ
ولكنَّها لم تَدرِ أن محمداً ... طلوبٌ لنا لو كانَ في مربضِ الأسدِ
إمام شأَى في الفخرِ أهلَ زمانِهِ ... فأنْسَى وأعْيا فيه للقَبْلِ والبَعْدِ
ينادي أمير المؤمنينَ لأنه ... تقمصَها إرثاً عن الأبِ والجَد
وغيث إذا ما النوءُ خوَت رعودُهُ ... فراحاتُهُ في المحْلِ تغني عن الرعْدِ
وضرغامُ حرْب حين تَنْصَلِتُ الظبا ... وينقصمُ المران في السرْدِ والسردِ
إذا انكسَرَ الهًنديُ في رأسِ قرنِهِ ... فمن عرضهِ عضب أَحَدُّ من الهندِي
أخو صبوةٍ بالمكرُماتِ فلم تَزَلْ ... بمنظره في أشرَفِ الزمَنِ الرغْدِ
فبدْرٌ لمستجْلِ ووَرْد لمجتَنٍ ... وغيثٌ لمستجدٍ وليث لمستَعْدِي
وأيامُهُ بيض وخضْرٌ بجودِهِ ... ألا إنها مِنْ عدله زَمَن الوردِ
فإن يكُ بالإفضالِ والبأسِ والتقَى ... ورب الثنا والحِلْم والعِلْم والزهدِ
دعي بأميرِ المؤمنينَ محمدٍ ... خليفتنا المهدي هذا هو المهدي
محكمُ سيفِ الحق في كل ملحدٍ ... ومَرجعُ أهلِ العقلِ في الحل والعقدِ
وطَلابُ وِتْرِ الدينِ في كل مأزقٍ ... ولم ينتصف في المالِ والنفسِ والولدِ
شكَتْهُ المطايا والفيافي لكثر ما ... يطأها ويمطاها إليه مِنَ الوفدِ
ولو أنه خَلى شهارة سائراً ... سارَ إليه القاصدُونَ إلى السد
ولولاهُ لم يُشهَرْ حسام ولم يثرْ ... قتامٌ ولم يُسفرْ ظلامٌ لمستهدي
ولم يقصدِ الوفادُ عنه لسيد ... قطعْنَ بهم هيماءَ للعينِ والصفدِ
ولم تفتخر إلا بما عافَ سادة ... غداةَ افتخارٍ في ندى منَ المجْدِ
ففي الذهْنِ والآراءِ قيسٌ وعتبة ... في الجودِ والهيجاء جودٌ وذو لبْدِ
فلو لامَسَت يومَ الرغائبِ كفهُ ... يدا مادرٍ كانت لها بالندَى تُعْدِي
فيا ليتَ شعرِي من كليب وحِاتم ... على أنهم ما إنْ لهم فيه من نِد
فيابنَ رسولِ الله جئتُكَ شاكياً ... لأعداءِ دينِ الله في الهزْلِ والجِدً
زعانفة لا ينكرُونَ قبيحةً ... ولم يختشوا في الفسْقِ من قاهِرٍ فردِ
ولا مِنْ أميرِ المؤمنينَ محمَدٍ ... حليف الوغَى في الله والسيفِ والحمدِ
وحامِي ذمارِ المجدِ إنْ ضاعَ سوحُهُ ... ولو أنه بَينَ الأساودِ والأسدِ
خطيب إذا ما قامَ في رأسِ منبرِ ... وخَطْبٌ عَلَى ظفرِ المطهمةِ الجرْدِ
فيا لَكَ من حبرِ ليوم مجادِلٍ ... وذمر يُسَمَى في المجالد بالجلْدِ
فليثٌ وغيث في قراعٍ وفي ندَى ... وسعدٌ ونحس للولي وللضدِّ
وخذْهاً عروساً ذاتَ دل تزفها ... من الشكْرِ أجناد فلله من جُنْدِ
مفوفةً دبجْتُهاً بمديحِ مَنْ ... تضوعُ بذكراه على المسْكِ والنَّد
لدينٍ وجاهٍ ذا ارتفاعِ ونجدةٍ ... أعيشُ بها لا للمعايشِ والنقدِ
وإني من القومِ الذين وليدُهُمْ ... ترجيهِ إنهاءُ المطالبِ في المهدِ
أَعَز ملوكِ الأرضِ فرعاً ومحتداً ... وأوفى الكرامِ الغُر في العقدِ والوعدِ
إذا عُددَتْ للصيدِ بعضُ محاسنٍ ... فأحسابُهُمْ في المجدِ تربو على العَد
بأفنيةِ خضرٍ وسود مراجلٍ ... وألويةٍ حمرٍ وألسنةٍ لُد
وأوجهُهُمْ للبيضِ والسمْرِ في الورى ... وأيديهمُ في الحرْبِ للضربِ والشكدِ
ولم يُخلقوا إلا لكشْفِ مُلِمَةٍ ... غشا خطبُهاً أهلَ البسيطةِ بالربدِ
فقمْ يابنَ عِز الدينِ لو كنْتَ واحداً ... فأنْتَ بحمدِ الله غانٍ عن الحشْدِ
وأني وأنتَ الليثُ واللدنُ غابه ... وأشبالُكَ الفرسانُ تعدو على الجردِ
وحولَكَ صِيذ من على غطارفٌ ... هم الناسُ في الهيجاءِ والحَسَب العد
وخيل إذا صاحَ الصريخُ توردَتْ ... ورود القطا نحو الصياحِ إلى الورْدِ
وحظكَ يبدي كل يوم عجائباً ... بها يقهَرُ الأيامَ في الجزر والمد
فلو شئتَ أن تصطاد ليثاً بأرنَب ... لجد له إذ زاحم الجدّ للجد
فما العذْرُ في التأخيرِ والسمْر والظبا ... تقاضاه يوماً في التهائم والنجْدِ
أغثْ مكةَ وانهَض فأنتَ مؤيد ... مِنَ الله بالفتحِ المعوضِ والجد
وقدم أخا وُد وأخر مبغضاً ... يساورُ طعناً في المؤيدِ والمهدي
ويطعنُ في كُل الأئمةِ معلناً ... ويرضى عَنِ ابنِ العاصِ والنجلِ من هِندِ
وكانَ لهم يومَ القيامةِ ثالثاً ... وفي هذه ثانِ لأولِ مَنْ يُردي
ودمتَ مدى الأيامِ للدينِ والعلا ... وبذلِ اللها والأخذِ في الله والرد
ولم يحصل منه على نائل، إلا ما أجازه به من فواضل.
فعاد إلى مكة المشرفة سنة تسع وثلاثين وألف وأقام بها سنتين، ثم توجه أوسط شهر ربيع الثاني من سنة إحدى وأربعين وألف إلى الديار الرومية قاصداً ملكها السلطان مراد بن أحمد خان، فورد عليه القسطنطينية العظمى واجتمع به، وامتدحه بقصيدة فريدة سأله فيها تولية مكة المشرفة، وأنشده إياها في أواخر شوال من السنة المذكورة وهي: من الوافر:
ألا هُبي فقَد بكَرَ النداما ... ومج المزج من ظلمِ النداما
وهينمت القبول فضاعَ نَشر ... روى عن شيخِ نَجْدٍ والخزاما
وقد وضَعَت عذارى المزن طفلاً ... بمَهدِ الروضِ تغذوهُ النعاما
فَهُبي وامزُجِى خمراً بظلمٍ ... لتُحيى ماً أمَتي يا أُماما
ومُني بالحياةِ على أناسٍ ... بشربِ الراحِ صرعَى والطلاَما
فكَم خفر الفوارسُ من وطيسِ ... فتى منا وما خَفَرَ الذماما
وكَم جدنا على قُلٍّ بوفرٍ ... وأعطينا عَلَى جَدب هجاما
وكَم يومٍ ضربنا الخيلَ فيه ... على أَعقابها خلفاً أماما
فنخنُ بنو الفواطِمِ من قريشٍ ... وقادات الهواشمِ لا هِشاما
نرد الوافدين بكل خيرِ ... ونثني البيضَ حمراً والعلاما
برانا الله للدنيا سناءً ... وللأخرَى إذا قامَت سَناما
وخصَ بفضله من أَمَّ مِنَّا ... مليكاً كان سابُورَ الهماما
فَتَى الهيجا مراد الحق من لم ... يخَف فيه للائمة مَلاَما
محش الحربِ إن طارَت شَعاعاً ... نفوس عندها قَلَّ المحاما
وغيث قَطرُهُ وَرِق وتبر ... إذا طارَت به المحل الركاما
فيُفنى سيفهُ حرب وشيكاً ... ويثني سبيه موتاً زُؤاما
وفي شفَتيهِ آجال ورزق ... بها من الصواعِق والسماما
يقودُهُ الملوك الصيد مجراً ... فيمنحُهُ الخوامِعَ والرخاما
وإن وفدوه أغناًهُم وأقنَى ... وأجلَسَهُم على العَليا قِياما
مليكُ الأرضِ والأملاكِ طُرا ... وإبْنُ مليكِها يَمَناً وشاما
ويجري من دَمِ الأعداءِ بحراً ... ولا قَوَدْ عليه ولا أَثاما
ومسقي الجن والأملاكِ غيظاً ... ومُردِي القومِ إذْ يروي الحساما
تسنمَ غاربَ الدنيا فريداً ... وجَد السيرَ إذْ باًتُوا نياما
إذا شملَت عنايته لئيماً ... شأَى بفخارِهِ القَوْمَ الكراما
تعاظَمَ وصفُهُ عن وصفِ شِعري ... كذا مرماه يسمُو أن يُرامَى
ويكبر إن يعانِدَهُ عنيد ... فيرميه ويعظمُ أنْ يُراما
ترفعَ كمه عَن لثمِ ملكٍ ... وتلثمه الضعائفُ واليَتامَى
وينطقُ عنده لَسِنْ ضعيفٌ ... ولا يسطيعُ جبارٌ سلاما
أخو هِممٍ ولم تعلق يداه ... بغانيةٍ ولا ضَمَت مداما
أغر سميدغ ضخمُ المساعِي ... يُسَكنُ في مغارمِهِ السهاما
وخادمُ قَبرِ طه بالمواضي ... ودِين الله والبَيت الحراما
فيا مَلِكَ الملوكِ ولا أبالي ... ولا عذراً أسوقُ ولا احتشاما
أنفتُ بأنني أنزِلكَ فيهم ... بمنزلةِ الرجالِ مِنَ الأيامَى
إلى جدواكَ كلفنا المطايا ... دواما لا نفارقُهاً دَواما
وَجُبْناً يابْنَ عثمانَ الموامي ... إلى أن صِرْنَ من هزلٍ هياما
وذُقْناً الشهْدَ في مغنى الترجي ... وذقنا الصبْرَ من جوعٍ طَعاما
صلِينا من سمومِ القيظِ ناراً ... يكونُ بنورِكَ العالي سلاما
وخُضنا البحرَ من ثلجِ إلى أن ... حَسِبناهُ على البيدا ركاما
نؤمُّ رحابَكَ الفيحَ اشتياقاً ... ونأمُلُ فيك آمالاً جِساما
ومَن قَصَدَ الكريمَ غدا أميراً ... على ما في يَديه ولن يُضاما
وحاشا بَحركَ الفياض إنا ... نرد بغُلَّةٍ عنهُ حياما
وقد وافاك عبد مستميحٌ ... ندا كفيك والشيَمَ الكراما
فقد نَزَلَ ابنُ ذي يزن طريداً ... على كِسرَى فأنزله شماما
أتى فرداً فعاد يَجُرّ جيشاً ... كسا الآكامَ خيلاً والرغاما
به استبقَى جميلَ الذكر دهراً ... وأنتَ أجلُّ من كسرَى مقاما
وسيف لو سما دُوني لأني ... عِصاميّ وأسموه عِصاما
بفاطمةٍ وإبنَيها وطه ... وحيدَرَةَ الذي أشفَى العقاما
عليهم رحمة تهدي سلاماً ... تكونُ لنَشرها مسكاً ختاما
ولا عَجَبٌ إذا ما جاك عاف ... فعادَ يقودُ ذو الجب لهاما
فخذ بيدي وسَميني محلا ... يقربُ منك فيه لَن يُساما
وهب لي مَنصِبِي لتنالَ أجرِي ... وشُكري ما حييتُ له دواما
ققد لَعِبَت ببيتِ الله حقاً ... زعانفُ يستحلُونَ الحراما
فعَن ذا ليسَ مَسئُولاً غداةً ... سِواكَ إذا الورَى بقيَت قياما
وفي أملِي بأن يجزيكَ عَني ... شفيعٌ عفوه يُطفي الأُواما
وفك أَسيرَ أسر ليس يرضى ... بأن يوطا وإن حفي الملاما
رحيماً ليناً فَظاً غليظاً ... على الأعداءِ لن يرضى اهتضاما
عريقٌ في مودتِكُم نصوح ... وَقُوع إن غشا خطب وقاما
فقل سَل تعطَ أعطاكَ الذي لم ... يَخَف نقصاً ولم يخشَ انتقاما
مدى الأيامِ تخفضُ ذا اعوجاجٍ ... وترفَعُ من أطاعَكَ واستقاما
ودمُ في راد عمرِكَ والأعادي ... تمنى في مضاجِعِها الحماما
فأجابه إلى ملتمسه ومراده، وأرعاه من مقصده أخصب مراده، ولكن مُدت إليه يد الهلك، قبل نيل الملك.
قيل: إنه سُم في ختمة قرآن أتى إليه بها بعض الأشخاص في هيئة درويش مهديها إليه، فلما قبلها اختلس الدرويش نفسه، فلما قبلها السيد أحمد سقط فوه، فكان ذلك سبب موته رحمه الله تعالى.
ومن أحاسن شعره قصيدة سينية تشوق كل إنسان، وتدخل على القلوب من الآذان بغير استئذان؛ مطلعها: من الخفيف:
حث قبلَ الصباحِ نجب كُمُوسى... ... ......
وستأتي. وكذلك قصيدة يمدح بها بني عمه ملوك الحجاز آل قتادة، وهي نبذة من أخباره وشجونه، تدل على فضله ولآلئ مكنونه. وهي: من السريع:
حنت فأبكَت ذا شجونٍ حنون ... وغنتِ الورقا بأعلى الغُصُون
وشَق بُردَ الليلِ برق فما ... ظننته إلا حسامَ الجفون
كأنه مذ شَق قلبَ الدجَى ... جبينُ ليلَى في دياجِى القرون
فقمتُ كالهادِلِ في شجوِهِ ... لم أدرِ ما بي فَرَح أم جنون
وأرسَلَ الدمعُ نجيعاً على ... خَدي فيجري أعيناً من عيون
لم أرَ نؤياً لا ولا مجثماً ... وموقداً اْو عَلَماً في دمون
إلا وباتَ الناعمُ الفرشِ لي ... شوكاً وميعاسُ الروابي حُزُونْ
فالبرقُ يوحى في الدجَى رعدةً ... والوُرقُ من شعري تجيدُ اللحون
عهدي بها كانَت كناسَ الظبا ... ومرتَعَ الأسدِ حماةِ الظعون
كل طويلِ الباعِ رَحب الفِنا ... تصدُقُ للوُفادِ فيه الظنون
ليوثُ برقٍ خيسُها مأزق ... أنيابُها فوقَ المذاكِي قرونْ
حتى غدا من بعدهم ربعُها ... مفتأداً جارت عليه السنون
كأنه جسمِي وإن لم يكن ... جسمي فوهماً أو خيالاً يكون
وقفتُ فيه والأسَى والنوَى ... يستلبانِ الصبرَ سلبَ المنون
ألله لي من مهجةٍ مزقَت ... ومقلةٍ عبرَي ونَفسٍ ونون
تحنُ للشعبِ وأوطانِهِ ... مهما سرَى برق بليلٍ دجون
وفتيةٍ من آل طه لَهُم ... في الحربِ أبكارٌ مزايا وعون
مبتذلُ الساحاتِ في قُطرهم ... للخائِفِ الجاني أعز الحصون
وكلهم يومَ الوغَى سيد ... للضد خباط بلبد ظنون
يحمدُهُ السارونَ إن أدلجوا ... ويقتضي النادِي به السامِرُون
لا ينتهي الجارُونَ منه إلى ... شأوٍ ولا يعسفُهُ الجائرون
فيانسيماتِ الصبا عَرِّجي ... بهم وبثي غامضاتِ الشجون
وحاذرِي أن تصحبي لوعَتِي ... واستَصحِبِي بَثي لكَي يفهمونْ
وبلغيهم حالَ من لم يزل ... حليفَ أشجان كثيرَ الشئون
يستخبر الريحَ بأنفاسِهِ ... ويسألُ البرقَ بدمعٍ هتونْ
فشأنه يخبرُ عن شأنِهِ ... بدمعِهِ إن يسأل السائلونْ
ناءٍ عن الأهلِ ضعيف الأسَى ... أًبعد ما فارق قَلب شطون
يحفظُ للزملِ عهودَ الوفا ... وإن طَلَبتَ الخونَ منه يخونْ
وأنتَ يا ساري بشام النقا ... وحادي الظغنِ بذاتِ الرعون
عَرض بذكرِي لا شَجاكَ النوَى ... لعلهم بي بعد ذا يذكرونْ
وقُل لهم والله لو أبعدَت ... أخبارُكُمْ إني كما تعهدونْ
نسيتُمُ صَبّاً غدا دمعُهُ ... من بعدكُم صبَّاً قريحَ الجفونْ
وَهوَ وماضِي العيشِ ما ساعَةٌ ... فيها تناسى جدكم والمجونْ
وهذه السينية المتقدم ذكرها الفائح عطرها لمولانا السيد أحمد بن مسعود بن حسن بن أبي نمي تغمده الله برحمته: من الخفيف:
حُث قبل الصباحِ نجب كُئْوسي ... فهي تجري مجرَى الغِذا فى النفوسِ
وانتخِبها بكراً فقد ثَوبَ الدا ... عِي إليها مِنْ حانة القِسيسِ
بنتُ كَرمٍ إن تَرقِ ملسوعَ راحِ ... وهو جلس لم يَرْتَضِي بالجلوسِ
كشفَت غيهَبَ الخمارِ ولو تر ... شَحُ رمساً ردَت بقا المرموسِ
غرسَتهاً بينَ الحدائقِ والنو ... روز والشط كف بطليموسِ
فَتَلقى أم المسرإت طلقاً ... والندامَى بمهر كيسِ وكيسِ
أطلق النَّدَّ والكبا الرطبَ واستج ... لِ عروساً لا عِطرَ بعد عروسِ
عانساً في الدنانِ عذراءَ لم تط ... مث من عهد جرهم وجديسِ
نارُ أنسِ يعشو الكليمُ ويصبو ... لِفِناها بالذل والتقديس
خرقَتْ حلَّة الجمانِ وأبدَتْ ... مستطير الصباحِ في الحنديسِ
زعَمَ الجاهلونَ فيها بأن قد ... عَصَرَتها قِدماً يدا عبدوسِ
وهي من لُطفها كشَك نفاه ... صادقُ القولِ عند ذي تسويسِ
فأدرها في كاسها دونَ خَدي ... كَ وفوقَ الشقيقِ من خندريسِ
واسقِ بالخيرِ لي الندامَى لتبدو ... قدرةُ الله في المقامِ النفيسِ
لتَرَى أنجماً بفلكٍ وبدراً ... فوقَ غصنِ يختالُ بين شموسِ
ولكل إرب وما أنا بالرا ... ئي شريفاً في جَتبِ وجه خسيسِ
وخرود بجامِها وطلاَها ... وَلماها والخد ينجاب بُوسِي
إن حكينا بالثغرِ والخذ ما في ال ... جِيدِ قلنا ظُلماً وما في الكُئُوسِ
تتلظى غيظاً وتَبسِمُ توبي ... خاً لنا في القياسِ بعد المقيسِ
لم أكن قبلها أصدقُ أن الر ... راحَ ظَلْم في لؤلؤٍ مغروسِ
ظبيةْ رخوةُ العريكةِ تغتا ... لُ أسُودَ الشرَى بِدَهْي شَموسِ
لبسَت من غلائلِ الحسْنِ بُرْداً ... منه كلُّ العقول في تلبيسِ
تتهادَى عجباً فتستقبحُ الرو ... ضَ أنيقاً لجودَةِ التجنيسِ
لو رآها تختالُ تيهاً أبُوهاً ... لخشينا عليه دِين المجُوسِ
كُل حلْوٍ منها استجَد رسيساً ... وقديمي فيها استَمَرَ نسيسِي
تركَتْنِي نِضْواً على نضوِ رسمٍ ... فيه دمعي خلي وسُهْدِي جليسي
موحشاً من هنيدةِ بعد أن كا ... نَ حقيقاً بالمربَعِ المأنوسِ
طالَ ما فلتُ للغدافِرِ واللي ... ث به قد ألقَى عصا السير هيسِي
لنقضي فيه حقوقاً وتبكِي ... فيه وُرقُ الحمَى وثُكْل العيسِ
ونرجي الآمالَ أن تبعث الري ... حَ أريجاً من معهدِ مطلوسِ
فرعَى الله بالأجارعِ عصراً ... وبدوراً غصونُهاً في طموسِ
حيثُ جو الشبابِ سَحْوْ وبحْرُ ال ... لهوِ رَهْوْ لم ألقَ فيه بروسِي
ومحلاً بين الأباطحِ والقب ... بة من طيبَةِ بِسُوحِ الرَئِيسِ
أَحمَدُ الخُلقِ أحمد الخَلْقِ في الل ... هِ غِياثُ المَنْجُودِ والمَبْلُوسِ
شافعُ الأمةِ التي جاءَ فيها ... كنتُمُ من مهيمنٍ قدوسِ
أولُ الأنبياءِ والخاتمُ العا ... صِمُ من هولِ صيلم دربيسِ
يتقي حيدَر وحمزةُ والفا ... روقُ فيه إذ جاشَ قِدرُ الوطيسِ
وكذا في المعادِ عيسَى وإسحا ... قُ وموسَى الكليمُ معْ إدريس
وبه يسألونَ إذ صدم الهو ... ل تجليه في الزمانِ العبوسِ
وهُمُ الفائزونَ لكن لما طَم ... مَ عَلَى الخلقِ من عذابٍ بئيسِ
مهطعينَ الأعناق في مَؤقِفِ الره ... بة لم يستمع لهم من نبيسِ
فينادي سَل تُعطَ واشفَع أيا خي ... رَ شفيع في مسمهر ضَبيسِ
أريحيٌّ بقصده تأنفُ الأخ ... مَصُ أن تحتذى شَواة الرؤوسِ
نَقَلَ الذكرَ للجوامعِ والأح ... كام بعد الأزلامِ والناقوسِ
تَرَكَ الذئبَ والغضنفَرَ والشا ... ة جميعاً من خوفِ غب الفريسِ
أيدَ الدينَ بالذوابلِ والشٌو ... سِ المذاكِي تعدُو وبيض شوسِ
كل ذمر في السلمِ هَين وفي الحر ... بِ أبي يشق أنفَ الخميسِ
كعلي وحمزةَ البِشرِ إن بدَّل بِشر الوجوهِ بالتعبيسِ
بيهسي غابةِ الوشيج وطودَى ... مفخرِ في مؤثلٍ قُدمُوسِ
بهما والبَتُولِ والآلَ والسب ... طَين والمخبتين بالتغليسِ
ألإمامين بالنصوصِ الشهيدَي ... ن قِ البريئين من صدَى التدنيسِ
فرقدَى هالةِ الرياسةِ وابنَى ... مدحضي بالقواضب التبخيسِ
ما رعَى فيهما رئيس ربي الفِد ... يةِ إلا فضلاً عن المرؤوسِ
وبمَق قامَ في مقامِكَ يستس ... قَي به والمحلَقِ الدعيسِ
وبخِليكَ صاحبيكَ ضجيعَي ... كَ ظهيَريكَ في الرخا والبوسِ
ذا رفيق في الغارِ رِدف وذا تن ... فرُ من حِسهِ رقى إبليسِ
وبتلو الإثنينِ جامع أشتا ... تِ المثاني بالرسمِ والتدريسِ
لم يُراقَب للهدى والجيشِ من غي ... رِ فسوقٍ أتى ولا تدليسِ
أدركَ أدرِك ذا غربةٍ وانفرادِ ... وسهادٍ ومدمعٍ مبجوسِ
قد لقى من حصائدِ النفسِ ما لا ... قَى كليب فيها غداةَ البَسُوسِ
ألوحا ألوحا فِدى لكَ ملهو ... ف يناديكَ من ورا طرطوسِ
يا نَبِياهُ يا ولياهُ ياجداه يا غَوثَ ضارعٍ موطوسِ
أنتَ إن أعضَلَ العضالُ وأعيا ... كُل آسٍ دواه جالينوسِي
وإذا ما الخناقُ ضاقَ فلم أر ... جُ لكربي إلاَّك للتنفيسِ
ولقد جرد العقول إلَى أن ... لبست منهُ بزة المخموسِ
وبجدواكَ يقلبُ السعد في الأز ... مةِ سعداً تحديق عَين النحوسِ
يا خفيري إذا ارتهنتُ وما لي ... غَيرُ كسبِي في مضجَعِي من أنيسِ
أبظُلمِ الحوبا أقصرُ عن شأ ... وِ جُدودي وأنتَ أصلُ غروسي
حاشَ لله أن يقصرَ من أَف ... عَمَ فيكم مدحاً بطونَ الطروسِ
فارتبطها من الجيادِ التي تَس ... بقُ خَيل الوليدِ وابنِ سديسِ
وأجزنِي برداً من الأمنِ ما حي ... ك بصنعا حسنا ولا تِنيسِ
وأغثني دنيا وأخرَى بمرآ ... كَ ليهدا رَوعِي ويقوَى رسيسي
واجلُ طرفي بنظرةِ تذهبُ اللىّ وتُسدِي في الحي نِيرَ مروسي
إن أرخ مطلقاً من الذنبِ فالتٌق ... يضُ وقف مسلسلُ التجنيسِ
أو تناسى به فناي وحقي ... فعلَى الحظ دعوة المبخوسِ
إنما أنتَ آصفْ ونجاتي ... منكَ أدنى إليه من بلقيسِ
لو تشفعتَ في سَباً لَعَلِمنا ... أنهم فائزونَ بالمحسوسِ
فعليكَ الصلاةُ ما هَجَّرَ الرك ... ب وحث القِلاَص للتعريسِ
وعلى آلِكَ الكرامِ وأصحا ... بِكَ ما روضَة زهَت بالغروسِ
وأضاءَ الصباحُ من بعد ليلٍ ... واستسرت عروسُهُ بعروسِ
وفيها - أعني سنة اثنتين وأربعين وألف - توفي شيخ مشايخنا الشيخ العلامة برهان الدين أبو الأمداد إبراهيم بن حسن بن علي اللقاني، خاتمة المحققين، وسيد الفقهاء والمتكلمين، إمام الأئمة، وموضح المشكلات المدلهمة، أخذ عن الشمس الرملي، والعلامة ابن قاسم العباس، والشيخ إبراهيم العلقمي أخي الشيخ شمس الدين شارح الجامع الصغير الشرح المسمى بالكوكب المنير والشيخ نور الدين الزياس، والشيخ أبى بكر الشنواني، وغيرهم.
وله كرامات خارقة، ومكاشفات صادقة، أخذ عنه طريق القوم خلق كثير.
وممن أخذ عنه العلوم الشرعية والعقلية، والفنون الأدبية شيخنا العلامة محمد بن علاء الدين البابلي، والشيخ علي بن علي الشبراملسي، وولده إبراهيم وغيرهم. رحمه الله تعالى.
وفي سنة أربع وأربعين وألف يوم الجمعة ثامن رجب منها توفي الشريف عظيم الشأن مولانا السيد أحمد شيخان باعبود العلوي، ولد بالمخا، كان رحمه الله من أكابر المشايخ الصالحين والأولياء الكاملين واستمر على الحالة المرضية إلى أن وافته المنية، وقدم على رب البرية في التاريخ المذكور ببندر جدة، وحمله ولده السيد سالم من جدة إلى مكة، ووصل به ليلة السبت، ودفن صبح اليوم المذكور على أبيه وأخيه في حوطة آل با علوي.
ولولده مولانا السيد سالم بن أحمد شيحان مؤرخاً وفاة أبيه المذكور بعد أن رآه في منامه قوله: من الكامل:
شاهدتُ في عامِ الوفاةِ بليلةٍ ... غَزاءَ أحمد قائلاً نفسي أحمدي
أُسكِنتَ جناتِ النعيمِ ونعمَ هي ... نُزُلاً فتاريخُ الوفاةِ تخلَّدِي
وفيها توفي بين العصرين سابع عشري رجب الشيخ الأمجد الأوحد شهاب الدين أحمد ابن أبي الفتح الحكمي.
أخذ عنه شيخنا العلامة الشيخ علي بن الجمال الأنصاري المكي، وشيخنا الشيخ عبد الله ابن الشيخ سعيد باقشير وغيرهما.
وله ترجمة طويلة. كانت وفاته بالمدينة ودفن بالبقيع وهو في عشر الخمسين. نفعنا الله به آمين.
وفي سنة خمس وأربعين فجر الثلاثاء ثامن ذي العقدة منها: توفي السيد أحمد بن محمد الهادي بن عبد الرحمن بن شهاب الدين، محتد الجلالة والفخامة، مفرد المقالة والشهامة، العالم العامل بلا زعامة، الحاتم على ناظره القطع له بالفضل السني والكرامة، الولي لله بلا ريب ولا نزاع، الملزم نفسه النفيسة الطاعة له عز وجل والحضور لديه والانقطاع.
ولد ب " تريم " واستوطن مكة، ولازم السيد عمر بن عبد الرحيم، والشيخ أحمد بن علان وغيرهما، واستمر بمكة إلى أن انتقل بها في التاريخ المذكور، ودفن بحوطة السادة بني علوي.
وفيها توفي الشيخ يوسف بن محمد البلقيني بقية الجيل الجليل الذي سلف، ونخبة الحائزين بالعلم السيادة والشرف، رئيس القراء المجيدين، جليس الفقراء إلى الله المنقطعين، إذا قرأ القرآن المجيد رتله ترتيلاً، وحبره تحبيراً، !اذا حار بالنعمان اللبيب في مشكل متشابهه قيل له: اسأل به خبيراً، رحمه الله تعالى.
وفي سنة ست وأربعين وألف ضحوة يوم الأحد تاسع ذي القعدة الحرام: توفي مولانا وسيدنا إمام أهل العرفان، ذو السر الباهر والبرهان، من مزايا مفاخره فقدت الحصر، وبذكر مناقبه يتجمل الزمان والدهر، أوحد الأئمة المعتبرين أولي التمكين، مرشد الطالبين، ومربي السالكين، العالم العامل، والأستاذ الكامل: طاهر الجنان واللسان والأركان، مولانا السيد سالم بن أحمد شيحان، ودفن في عصر ذلك اليوم على والده وجده بالمعلاة، وتاريخ وفاته: صار إلى رحمة الله. وله ترجمة طويلة عظيمة جليلة - رحمه الله تعالى - .
وفيها ليلة الخميس ثالث عشر ذي القعدة: توفي السيد نعمة الله بن عبد الله بن محيي الدين بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علي بن أحمد بن محمد بن زكريا بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن عبد القادر الجيلاني. أحد أكابر الأولياء الذين نالوا الوفا والكرامة، الغني بكمال فضله عن إشارة أو علامة، سطع نور كمالاته، فأخجل النيرين، وأشرقت صفاته المضيئة في الخافقين، وتواترت كراماته في سائر الآفاق، ووقع على ولايته الاتفاق.
اشتهر فلا يحتاج إلى إطناب في الصفات، بما خصه مولاه من أنواع الكمالات.
ولد بالهند، ووصل إلى مكة سنة أربع عشرة وألف، وجاور بها، ولازم الصمت والمسجد سنين، ثم سكن شعب عامر وتزوج، وأولد أولاداً نجباء أجلاء، ثم مرض وأوصى أن يدفن بمحله بشعب عامر المذكور فدفن به، وكانت الحُمى من أقل خدامه يرسلها إلى من شاء أي مدة شاء، ويرفعها متى شاء ياذن الله تعالى، مدحه الأجلاء، ورثوه بعدة قصائد، منهم مولانا وشيخنا الشيخ علي بن الجمال، والأديب البارع أحمد الفضل الكثيري وغيرهما.
وفيها في موسمها يوم الجمعة عشري ذي الحجة الحرام: وقعت فتنة كان ابتداؤها قبل صلاة الجمعة، سببها أن عبداً لبعض السادة الأشراف ورد بفرس سيده الششمة المعروفة بالبزابيز، فوقع هناك بين العبد المذكور، وبين شخص من عسكر مصر تزاحم وتدافع، فضرب الجندي العبد فضربه العبد فجرحه، فلزمه الجندي مع جماعته، فانتدب جماعة العبيد ففكوا العبد، فثارت الفتنة، ولم يكن لصاحب مكة، ولا للأمير علم بذلك، فاجتمع الجندي مع جماعته بمدرسة السلطان قايتباي، واجتمع عسكر صاحب مكة مع العبيد عند منزله، فأقبل كل من الفريقين على الآخر، فأرسل الشريف جماعة لرد عسكره، ونهيهم تسكيناً للفتنة، وبرز أمير الحاج من المدرسة، وبيده عصا لرد عسكره كذلك، وسار على قدميه، فلما وصل إلى قريب من باب علي من أبواب المسجد الحرام سمع صوت البندق، فرجع ودخل من باب الحريريين، ودخل المدرسة من بابها الكائن في المسجد الحرام، فبينما هم كذلك إذ نزل من جهة المعلاة من كان بها من العسكر المصري، ومعهم المدافع، فجعلوا واحداً منها عند الششمة المذكورة وواحداً عند باب المدرسة القايتبائية، فاشتد الكرب على أهل مكة، وأرسل في أثناء ذلك مولانا الشريف زيد رحمه الله تعالى إلى أمير الحاج المصري رضوان بك مشيراً عليه بمنع العسكر المصري جماعته، وكذا أرسل إلى أمير الحاج الشامي الأمير محمد بك بن فروخ، وقتل من العسكر المصري، والعسكر الشريفي أشخاص بالبندق، ولم يزل الأمر كذلك حتى أجنَّهم الليل، فانكف الفريقان، وركب بعض خدام الشريف رحمه الله تعالى بأمر منه ومعه المنادي بالأمان، وأمسى الناس في أمر مريج.
فلما كانت صبيحة يوم السبت سعى أمير الحاج الشامي الأمير محمد بك المذكور بين الشريف، وبين أمير الحاج المصري بالصلح فتعافيا، فنادى قبل صلاة الظهر من ذلك اليوم مناديان: أحدهما من أمير المصري، والثاني من الشامي بالأمان للحجاج، وأهل البلد، وقدم المصري خروجه من مكة في هذا العام على خلاف العادة، فبرز في يوم الثالث والعشرين من ذي الحجة.
وفي سنة سبع وأربعين وألف قدم شعبان أفندي إلى المدينة المنورة ومعه حجر من الماس محفوف بأحجار مختلعة مكفوف بصفائح الذهب والفضة، وهذا الحجر من آثار صدر الدولة العثمانية مصطفى باشا سلحدار، فوضع ذلك الحجر تحت الحجرين اللذين وضعهما السلطان أحمد خان، وأنعم على أهل المدينة بالصدقة الجليلة، وفي ذلك يقول السيد محمد كبريت مادحاً ومؤرخاً: من الخفيف:
زار خيرَ الأنامِ خَيْرُ همامٍ ... قد تَسًمَّى شعبانَ وهو ربيعُ
عَم جيرانَ أحمد بنوالٍ ... دُونَ ذاكَ النوالِ خصْبَ مريعُ
جاءَ بالجوهَرِ الثمينِ لطه ... مِنْ وزيرٍ هوَ الجنابُ المنيعُ
مصطفى المجدِ والندَى والمعالِي ... وسلحدارُ نعمةِ لا تضيعُ
يا له جوهَر تسامَى وسامَى ... بمقامٍ فيه الثناءُ يضوعُ
عند وجْهِ النبي قد وضعُوهُ ... فغدا وهوَ مشرق ولموعُ
كان هذا في عامِ سبعٍ وألفٍ ... وتمامُ النظامِ فيه بديعُ
قلت: في هذا التاريخ لطف إدخال في قوله: وتمام النظام فيه، لأنه يشير بذلك إلى الميم من لفظ النظام وهي بأربعين، فبذلك ثم حساب سبع وأربعين وألف. وكان إهداء ذينك الحجرين الأولين من حضرة مولانا السلطان أحمد خان مع لوح من فضة كبير مكتوب فيه آيات قرانية في سنة ست وعشرين وألف مركب على الشباك القبلي أمام المواجه الزائر، وفي اللوح أبيات آخرها بيت التاريخ، وهو: لوح لسلطان أحمد أهداه حُبّاً خالصاً.
وفيها: توفي العلامة القاضي أحمد بن عيسى المرشدي العمري الحنفي، شهاب الفضل الثاقب، الشهير الماثر والمناقب، من سطع في سماء الأدب نوره، وتفتق في رياضه زهره ونوره، فامتد في البلاغة باعه، وشق على من رام أن يشق غباره اتباعه، لا تلين قناة فضله لغامز، ولا يلمز اْدبه المبرأ من العيب لامز.
كان تولى القضاء بمكة المشرفة، فنال به ما أمله مما طمح بصره إليه واستشرفه. ولما حصل أخوه في قبضة الشريف أحمد بن عبد المطلب، ومنى منه بذلك الفادح الذي قهر به وغلب، حصل هو أيضاً في قبضة القبض والأسر، وأردف معه على ذلك الأدهم بالقسر، حتى جرع أخوه بذلك الكاس، وأنعم عليه بالخلاص بعد الياس. فراش الدهر حاله، وأعاد منها ما غيره وأحاله.
ولم يزل! فارغ البال، من شواغل البلبال، إلى أن انقضت أيامه، ووافاه حمامه.
فكانت وفاته لخمس خلون من ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة.
واتفق تاريخ وفاته صدر البيت المشهور:
من شاء بعدك فليمت ... ............
وله نظم بديم، ونثر يفوق أزهار الربيع.
من نظمه القصيدة الدالية أمتدح فيها شريف مكة الشريف مسعود بن حسن مطلعها: من البسيط:
عُوجا قليلاً كذا عن أيمنِ الوادي ... واستَوقِفا العيسَ لايحدو بها الحادي
منها قوله:
راًسُ الملوكِ يمين الملك ساعده ... زند المعالِي جبين الجحفَلِ البادي
ومنها:
وصان وَسْمك في حاش مخالطة ... عَنْ رَب غَزْوٍ تنضاهُ بأحشادِ
وهي قصيدة بليغة تقدم ذكرها.
وله قصيدة في السيد شهوان بن مسعود مطلعها: من البسيط:
فيروزَجٌ أم وسامُ الغادةِ الرودِ ... يبدو على سِلْك در فيه منضودِ
ومنها قوله في المخلص:
صهباءُ تفعلُ في الألبابِ سَوْرَتها ... فعلَ السخاءِ بشهوان بْنِ مسعودِ
وله ما كتبه على شداد مطيّة الشريف زيد بن محسن - رحمهما الله تعالى - وهو قوله: من مجزوء الكامل:
أفقُ الشدادِ بدَت به ... شَمسُ الخلافةِ والهلالْ
ومِنَ العجائِب جمعُهُ ... لَيْثَ الشرافةِ والغزالْ
وله غير ذلك من غير ذلك - رحمه الله تعالى - .
ثم دخلت سنة تسع وأربعين بعد الألف، في أثنائها أقبل من الديار الرومية بشير أغا الحبشي الطواشي، معه أوامر بمطلق التصرف، وخطوط سلطانية بما يريد من التعرف والتحرف. فلما بلغ الينبع ورد إليه الخبر بوفاة السلطان مراد بن أحمد خان سلطان الزمان، ففاح الخبر بينبع، ثم كتمه بشير ليتم له تنفيذ ما أراد، وقد كان مولانا الشريف زيد هيأ واختار لبشير أغا عدة أماكن من المدارس والبيوت، وأمر بفرشها، وكان من نيته مواجهته إلى مر، وأرسل بعض خدامه إلى ينبع ليرى ما مع بشير من الخيل والرحل والناس، فلما وصل إليها سمع هذا الخبر وتحققه فرجع مسرعاً مجداً به إلى مولانا الشريف زيد، فلما تحقق مولانا الشريف صحة ذلك أمر بتحويل الفرش التي في تلك الأماكن، وغلق بعضها، فلما قارب بشير مكة خرج إليه مولانا الشريف، ولاقاه في الجوخي محل ملاقاة أمراء الحج إذا وصلوا، فلما أن لاقاه وقابله، وفي بال بشير أن الخبر لم يبلغه، وأن يتم له ما أراد من تنفيذ ما شاء على غشاش وغفلة، ثم بعد ذلك لا يضره ظهور الخبر، فلما تدانيا همز مولانا الشريف زيد - رحمه الله تعالى - فرسه مقدماً على بشير مناكباً له قائلاً: الله رحمت أيله سلطان مراد، ومسح على عينيه بالمنديل باكياً أو متباكياً، فسُقط في يد بشير، ودخل بشير كالأسير.
وهذا من جملة سعودات الشريف في القدر المنيف.
وكان مولانا الشريف رحمه الله قد رأى في المنام كأن شخصاً ينشده هذا البيت: من الطويل:
كأن لم يكُنْ أمرٌ وإن كانَ كائن ... لكانَ به أمرٌ نفى ذلك الأَمْرُ
فانتبه رحمه الله، وكتبه بالسواك على رمل في صحن نحاس خشية النسيان، وكانت هذه الرؤيا في الليلة التي أسفر صباحها عن ورود هذا الخبر.
واستمر بشير إلى آخر السنة، وحج وتوجه صحبة الحاج حيث جاء.
فمن الألطاف الخفية لمولانا بما أولاه، وكم، وكفى بالله.
وقد نظم السيد محمد الآنسي المغربي قصيدة يمدح بها مولانا الشريف زيد رحمه الله ذكر فيها قصة بشير، وأورد فيها البيت المذكور وهي هذه: من الطويل:
سَلُوا آل نُعمٍ بعدنا أيها السفرُ ... أعندهُمُ عِلم بما صَنَعَ الدهْرُ
تصدى لشتِّ الشملِ بيني وبينها ... فمنزلي البَطْحا ومنزلُها القَصْرُ
رآني ونعمى لاهيَينِ فغالَنا ... فَشلت يدُ الدهرِ الخئُونِ ولا عُذرُ
فوالله ما مكر العدو كمكرِهِ ... ولكن مكراً صاغه فَهُوَ المكْرُ
فقولاً لأحداثِ الليالي تمهلي ... ويأيهذا الدهْرُ موعدُكَ الحشرُ
سلام على ذاكَ الزمانِ وطيبهِ ... وعيشٍ مضَى فيه وما نبَتَ الشعْرُ
وتلكَ الرياضُ الباسماتُ كأن في ... عواتقها من سندسٍ حُلل خُضرُ
تنضَّد فيها الأقحوانُ ونَرْجِس ... كأعْيُنِ نُعم إذ يقابلها الثغْرُ
كأن غُصُونَ الوردِ قُضبُ زبرجدِ ... تخالُ من الياقوتِ أعلامه الحمْر
إذا خَطَرَت في الروضِ نُعم عشية ... تَفاًوَحَ من فضلاتِ أردانها العطرُ
وإن سحبَت أذيالها خِلتَ حيةً ... إلى الماءِ تسعَى ما لأخمصِها إثرُ
كساها الجمالُ اليوسفي ملابساً ... فأهوَنُ ملبوس لها التيهُ والكِبْرُ
فكم تخجلُ الأغصانُ منها إذا انثنَت ... وتُغضي حياء من لواحظها البترُ
لها طرة تكسو الظلامَ دياجياً ... على غرَّةٍ إن أسفرَتْ طَلَعَ الفَجْرُ
وصحنان خد أشرقا فكأنما ... مصابيحُ رهبانٍ أضاءَ بها الدَّيْرُ
وجيدٍ من البِلورِ أبيضَ ناعمٍ ... كعنْقِ غزالٍ قد تكنفَها الذغرُ
ونحرٍ يقولُ الدرُ إن به غِنىً ... عن الحلْى لكنْ بى إلى مثله فقْرُ
وحقان كالكافورتَينِ علاهما ... من الند مثقال فند به الصبرُ
رويدَكَ يا كافورُ إن قلوبنا ... ضعافٌ وما كُل البلاد هي المِصرُ
تبدى بقدٍّ باسقاً متأوداً ... على نقو من رمل يطوف به نهرُ
يكادُ يقدُّ الخصْر منْ هَيَفٍ به ... روادفها لولا الثقافَةُ والهَصْرُ
لها بَشَرٌ مثلُ الحريرِ ومنطق ... رخيمُ الحواشِي لا هراءٌ ولا نَزْرُ
رأتني سقيماً ناحلاً والهاً بها ... فأدنَتْ لها عوذ أناملها العَشرُ
إذا كنتَ مطبوباً فلا زلْتَ هكذا ... وانْ كنت مسحوراً فلا برئ السحرُ
فقلتُ لها والله يا ابنَةَ مالكِ ... لما شفني إلا القطيعةُ والهَجْرُ
رَمَتنى العيونُ البابلياتُ أسهماً ... فأقصدني منها سهامُكُمُ الحمْرُ
فقالتْ وألقَت في الحشا من كلامها ... تأجج نار أنتَ من ملكنا حُرُ
فوالله ما أنسَى وقد بكرَت لنا ... بإبريقها تسعَى به القينةُ البكرُ
تدورُ بكاساتِ العُقارِ كأنجُمٍ ... إذا طلعَتْ من بُرجها أَفَلَ البدرُ
نداماىَ نُعمٌ والربابُ وزينبْ ... ثلاثُ شخوصٍ بيننا النظمُ والنثرُ
على الناىِ والعودِ الرخيمِ وقهوةٍ ... يذكِّرها دنيا بأقدامِنا العصرُ
فتقتصُ من ألبابنا ورؤُوسِنا ... فلم نَدْرِ هل ذاك النعاسُ أم المكْرُ
معتقةً من عهدِ عادِ وجرهمٍ ... ومودعها الأدنان لقمانُ والنسْرُ
مشعشعةً صفراً كأن حبابَها ... على فُرُشٍ مِنْ عسجدٍ نثر الدرُ
إذا فرغَت من كأسِ نعم وأختِها ... تشابه من ثغريهما الريقُ والخَمرُ
خلا أن ريقَ الثقرِ أشفى لمهجتي ... إذا ذاقه قلبي الشجِي خَمَدَ الجمرُ
وأنفَعُ درياقٍ لمن قَتَلَ الهوَى ... فماتَ ارتشافُ الثغرِ إنْ سمحَ الثقرُ
مذا عرفنا الفَرقَ ما بين كأسِها ... وبين مُدامِ الظلمِ إن أشكَلَ الأمرُ
فوالله ما أسلو هواها على النوَى ... بلى إن سلا بذل النوَى الملك القسرُ
أبو حسنٍ زيدُ المحاسن والعُلاَ ... له دونَ أملاكِ الورَى المجدُ والفخرُ
إذا ما مشَى بين الصفوفِ تزلزلَت ... لهيبته الأقيالُ والعسكَرُ المجرُ
وترجُفُ ذاتُ الصاع خوفاً لبأسِهِ ... فتندك أطوادُ الممالِكِ والقفْرُ
فلو قال للبحرِ المحيطِ ائتِ طائعاً ... أتاه بإذنِ الله في الساعة البحْرُ
تظل ملوكُ الأرضِ خاشعةَ له ... وما خشعَتْ إلا وفي نَفْسها أمْرُ
كريم متى تنزلْ بأعتابِ دارِهِ ... تجد ملكاً يزهو به النهْيُ والأمْرُ
تجدْ ملكاً يغني الوفودَ وينجزُ ال ... وعود وأدنَى بذله الذهم والشقرُ
على جودِهِ من وجهِهِ ولسانِهِ ... دليلانِ للوفدِ البشاشةُ والبِشْرُ
فما أحنفٌ حلماً وما حاتمٌ ندى ... وما عنتَز يوم الحقيقةِ أو عَمْرُو
هو الملكُ الضحاكُ يومَ نزاله ... إذا ما الجَبانُ الوجه قطبه الكرُ
لقد قرَ طرف الملكِ منه لأنه ... لديه النوالُ الحلو والغضَبُ المرُ
حياة وموتٌ للموالي وللعدَى ... لقد جمعا في كَفهِ الجبْرُ والكسْرُ
أنِخ عنده يا طالبَ الرزقِ إن ما ... حواه أنوشِرواًن في عينه نَزرُ
ولا تُصغِ للعذالِ أذناً وإن وَفَوْا ... بإحسانهم منه فما العَبْدُ والحرُ
وهل يستوي عَذبٌ فراتٌ مروّقٌ ... وملحٌ أجاجٌ لا ولا التبْنُ والتبرُ
فلو سمعت أذن العداةِ بمجدِهِ ... مزاياه لاستحْيَتْ ولكنْ بها وقْرُ
فما قَدَرُوا زيدَ العلا حق قدره ... وماذا عليهِم يا تُرَى لهم الخسْرُ
مليكٌ إليه الانتهاءُ فقيصرٌ ... يقصرُ عنه بل وكسرى به كَسْرُ
مليكٌ له عندَ الإلهِ مكانةٌ ... تبوأها من قبلِهِ الياسُ والخِضْرُ
مليك له سرٌ خفيٌّ كأنما ... يناجيه في الغيبِ ابنُ داود والجفر
فإن كذبَتْ أعداءُ زيد فحسبُهُ ... من الشاهدِ المقبولِ قصتُهُ البكرُ
ليالي إن جاء الخَصِيُّ وأكثروا ... أقاويلَ غيٍّ ضاقَ ذرعاً بها الصدرُ
فأيقظَهُ من نومِهِ بعد هجعةٍ ... من الليلِ بيْتٌ زاد فخراً به الشعرُ:
كأن لم يكُن أمر وإن كانَ كائنٌ ... لكانَ به أمرٌ نفى ذلك الأمرُ
وفي طيِّ هذا عبرةٌ لأولى النهَى ... وذكرَى لمن كانَتْ له فطنةٌ تَعرُو
فيا زيدُ قل للحاسدِينَ تحنَّطوا ... بغيظِكُمُ إن لم يطيعُكُمُ الصبرُ
فمجدي كما قد تعلمونَ مؤثل ... وكل حَماًمِ البر يفرسه الصقْرُ
من القومِ أربابِ المكارمِ والعلا ... ميامينُ في أيديهِمُ اليُسرُ والعُسرُ
مساميحُ في اللأوا مصابيحُ في الوغَى ... تصالح في مغناهم الخيْرُ والشر
أسنتهُم في كُل شرقٍ ومغربٍ ... إذا وردَت زرق وإن صدرَتْ حُمرُ
مساعيرُ حرب والقنا متشاجر ... ويوم الندَى تبدو جحاجحة غُرُ
بني حسنِ لا أبعدَ الله دارَكُم ... ولا زالَ منهلاً بأرجائِها القطرُ
ولا زالَ صدْرُ الملكِ منشرحاً بكُم ... فعنكُم ولاةَ البيتِ ينشرحُ الصدرُ
وصَلى على المختارِ والآلِ ربُّنا ... وسَلمَ ما لاحَ السماكان والغفرُ
وفي سنة خمسين وألف يوم الأربعاء ثامن عشر جمادى الأولى: توفي الشيخ تاج الدين زكريا بن سلطان النقشبندي بمكة، ودفن صبح الخميس في رباطه الشهير برباط تاج في سفح جبل قعيقعان، وله ترجمة طويلة.
أخذ عنه الشيخ الأمجد أحمد بن إبراهيم بن علان، وشيخنا الشيخ عبد الله، وأخوه الشيخ محمد ابنا الشيخ سعيد باقشير.
وفيها: توفي الجمال محمد بن أحمد بن حكيم الملك بالديار الهندية.
وفي سنة اثنتين وخمسين وألف ليلة الخميس ثاني عشر صفر منها: توفي الشيخ فتح الله النحاس الحلبي، الشاعر المجيد، والأديب الفريد، الذي شاع ذكره وشعره وذاع، وجمع بين الإسراع والإبداع.
كان من فحول الشعراء في عصره، وفريد النثر والنظم في دهره.
ورزق حظوة عند أهله، وقبولاً يعهد مثله لمثله. ولكنه كان ذا تعاظم في نفسه، وتكبر على جنسه، ولم يسعفه دهره كعادته مع الأدباء، فأدركته حرفة الأدب، وناداه لسان حاله: لا تعجب فإني أبو العجب.
مولده بحلب في حدود الألف. وصحب المشايخ الكبار، وحج وزار.
وأقام بالمدينة على مشرفها الصلاة والسلام، إلى أن أدركه بها الحمام، في التاريخ المذكور ودفن بالبقيع.
وقد عنى بجمع ما تيسر من شعره مولانا العلامة الفهامة برهان الدين الشيخ إبراهيم ابن المرحوم الشيخ عبد الرحمن بن الخياري المدني، فجمعه في ديوان لطيف: ومن بديع شعره قوله مادحاً النبي صلى الله عليه وسلم: من البسيط:
تذكر السفحَ فانهلتْ سوافحه ... وليسَ يخفاكَ ما تُخفي جوانحُهُ
وفي هذه القصيدة بيت يجفل منه الطبع الذكي، ويود أن يكون عند فهمه بليداً أي بليد، وإن كان هو عند أدباء العصر بيت القصيد. وهو قوله: من البسيط:
وما أقولُ إذا ما جئتُ أمدحُ من ... جبريلُ خادمُهُ والله مادحُه؟!
وفي سنة ثلاث وخمسين وألف: أنشأ مولانا الشريف زيد بن محسن سبيلاً وحنفية بمكة المشرفة.
فقال مولانا القاضي تاج الدين مؤرخاً لعمارتهما: من السريع:
لله تأسيس نما خيرُهُ ... وفازَ بالتطهيرِ مَنْ أَمَّ لَهْ
به سبيل وحنفية ... وسلسبيلْ فارتشفْ سلسلَهْ
له نبا في الفيضِ مهما روى ... حديثه أروَى بما سلسلَهْ
سالَت عطاياه لُجيناً فمَنْ ... رامَ نداه نالَ ما أمَّلَهْ
وحيثُ لم تكتفِ سُؤاله ... فلا يكف البذل إذ أرسَلَهْ
لأن من أسَّسَ بنيانَهُ ... غيثُ الورى في السنةِ الممجِلَهْ
مَن نفسُهُ يومَ عطاه ترَى ... إن وهب الدنيا فقد قَلَّ لهْ
توَّجَهُ الله بتاجِ زها ... بجوهرِ المجدِ الذي كَلَلَهْ
والله من وافرِ إحسانِهِ ... أجرَى له الأجْرَ الذي أجزَله
فإنْ تسل عن ضبطِ تاريخِهِ ... فخذْ جواباً يوضحُ المسألَهْ
أسَّسَه سلطانُ أم القُرَى ... زيد يدومُ العز والسعد لَهْ
ولما كان أوائل سنة سبع وخمسين طلع الصنجق الكبير صاحب جدة المسمى مصطفى بك إلى وادي الطائف المأنوس لزيارة الحبر سيدنا عبد الله بن عباس - رضى الله عنهما - وطلع بعده الأغا المكرم بشير أغا غلام المرحوم مولانا السلطان مراد خان بن أحمد خان، وهذا في مجيئه الثاني سنة ست وخمسين بعد الألف متولياً مشيخة الحرم النبوي، فأقام ما شاء الله أن يقيم، ثم لما أن كان نازلاً إلى مكة طالعاً في المحل المعروف بالنقب الأحمر، وجه جبل كراء مما يلي الطائف، وقد تفرقت عساكره خلفاً وأماماً، ولم يبق معه سوى السائس وحامل كوز الماء، اعترضه رجل عربي كان يتعهده بالإحسان إليه، يقال له: الجعفري، فضربه وهو متجرد للإحرام بسكين العرب أنفذها إلى أحشائه، وذهب ولم يدر محله، قيل: إن السائس أراد ضرب القاتل فوقع السيف في مؤخر الحصان، فقمص فسقط عنه الصنجق، فلاحقت العساكر فلم يلبث إلا نحو ساعتين، وتوفي شهيداً إلى رحمة الله.
وكان قتله يوم التاسع والعشرين من جمادى الأخرى من السنة المذكورة، ودخل به مكة في التخت قتيلاً غرة رجب منها، فجهز ودفن في المحلاة أمام قبة السيدة خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان مولانا الشريف رحمه الله تعالى سنتها قد توجه إلى جهة الشرق، فأبعد حتى وصل قريباً من الخرج، وكان القائم مقامه لحفظ مكة مولانا السيد إبراهيم ابن الشريف محمد ابن الشريف عبد الله بن حسن، فاستدنى السيد إبراهيم غالب عسكر الصنجق، وأنزلهم في محل يسعهم بأجياد، وأجرى عليهم الجوامك والأرزاق، وأمر السيد المذكور كيخية العسكر دلاور أغا بالنزول إلى جدة لحفظ البندر، فامتنع أشد الامتناع.
ثم لما كان بعد ليال عديدة نزل بعد هزيع من الليل قاصداً جدة خلسة، فشعر به السيد إبراهيم المذكور، وأرصد له جماعة فأمسكوه وأتوا به فحبسه، ثم اختلس بعض العسكر نفسه، وذهب إلى بشير أغا بالطائف وأخبره بما وقع، فأقبل بشير إلى مكة، ونزل بمدرسة الأغا بهرام بالمسعى، فتردد السيد إبراهيم في الوصول إليه وعدمه لاختلاف المشير، ثم جزم وعزم إليه فتلقاه بما هو الواجب، ثم قال له لما استقر المجلس: لِمَ حبستم دلاور آغا؟ فقال السيد إبراهيم: حبسناه خشية من إضراره وإفساده، فإننا قد ألزمناه مراراً بالنزول إلى جدة فامتنع فارتبنا بنزوله خفية، فقال بشير: أطلقه. فقال: لا أطلقه حتى يصل مولانا الشريف زيد.
ثم قام السيد إبراهيم. فلما كان اليوم الثاني: نزل بشير أغا إلى الأفندي، واستدعوا مولانا السيد إبراهيم فحكم عليه الأفندي بإطلاقه فأطلقه، ثم بعد يومين أو ثلاثة عزم السيد إبراهيم، والقائد رشيد حاكم مكة إلى نحو بركة الماجن للتنزه، فاستجر بشير أغا العسكر ووعدهم، فحملوا أثقالهم وأدخلوها من باب المسجد، وخرجوا بها من باب ابن عتيق، ثم خرجوا بعد العصر حازبين مارين على دار السعادة ثم على السوق ثم على سويقة، إلى أن وصلوا بيت بشير أغا، وكان نازلاً بالباسطية، فوصل الخبر للسيد إبراهيم فوصل إلى البلد، وقال لبشير آغا: ما هذا الفعل. فقال بشير في جوابه: نعم عسكر السلطان، لهم في التربية سنين تأخذهم في خمسة أيام؟!.
وكان في عسكرهم شخص اسمه جاووش كثير الفساد وشرب الخمر والتعدي، فأمر السيد إبراهيم بقتله أينما وجد، فوجد سكران على الطريق، فتناوله عسكر الشريف فقطعوه، فثارت الفتنة وترامى العسكران بالرصاص، وقتل شخص من الناس خلف مقام المالكي وقتل كخية بشير أغا، ولم يزل مطروحاً عند باب ابن عتيق إلى الليل من داخل المسجد حتى رفعه بعض أهل الخير، ثم سعى القاضي أحمد كرباش وغيره بالصلح والمكافة، وألا يصل إلينا منكم أحد ونحن كذلك ما عدا ثلاثة أشخاص معينين من جماعة بشير لقضاء حوائجه من السوق وسكنت الفتنة.
وذكر لي من أدرك ذلك أن مولانا الشريف زيداً رحمه الله تعالى استحسن جميع ما فعله السيد إبراهيم ما عدا قتله للجاووش فإنه لامه عليه، فرحم الله الجميع برحمته الواسعة.
واتفق في مدة وقوع الشنآن بين بشير أغا والسيد إبراهيم بن محمد أن قرأ في صلاة المغرب بعض أئمة الحنفية بسورة الفيل ثم قرأ في صلاة الصبح سورة والفجر، وكان بشير يحضر صلاة الجماعة، فلما فرغ من صلاة الصبح قال لرجل من أهل مكة كان يألفه: انظر أهل مكة يرجمونا بالقرآن؛ لموجب قراءة الإمام المذكور في المغرب بسورة الفيل فإن فيها ذكر أصحاب الفيل " وأرسَلَ عَلَيهم طَبراً أَبابيل " الفيل: 3 إلى آخر السورة، وفي الصبح بسورة الفجر وفيها ذكر عاد " اَلذَينَ طَغَوا في البلاَدِ فأكَثَرُوا فِيها اَلفَسادَ فَصَب عليهم رَبُكَ سَوط عذابٍ " الفجر: 11، 13 الآيات، فبلغ قوله الإمام المذكور - وهو لم يخطر له شيء من ذلك ببال ولا علِق منه بحبال - فارتاع لذلك وارتاب، ولبث البيت وزرر الباب، ومكث على ذلك أياماً، وتمنى أن لم يكن إماماً. وهو اتفاق فيه إيهام، لكنها رمية من غير رام، لطف الله بنا وبه.
ثم عزم مولانا الشريف رحمه الله في عام تسع وخمسين إلى زيارة جده صلى الله عليه وسلم فكان دخوله يوم الخميس ثامن شهر شعبان من السنة المذكورة، فنزل بالقاضية خارج السور. ثم في فجر اليوم العاشر من الشهر المذكور نزل الأفندي زفر قاضي المدينة الشريفة راكباً ومعه ثلاثة من الخدم، فلما كان عند الدفتردارية وثب عليه شخص فضربه بالحد في ظهره أنفدها من صمره فأكب على قربوس الفرس، ولم تزل داخلة به إلى محراب السيد عثمان بن عفان رضي الله عنه وإمام الشافعية قائم يصلي الفجر، فقام بعض الناس إليه، وأنزلوه بآخر رمق وهو يقول: يا رسول الله يارسول الله، ووضع أمام الوجه الشريف، وبعد لحظة قضى عليه، فحشدت عساكر المدينة واجتمعت وأغلقت أبواب سور المدينة، وتفرقت في متارسه، ووجهوا المدافع إلى جهة مولانا الشريف زيد ونادوا: اخرج عنا الآن، وبدا منهم ما هو وصفهم، فبعث إليهم الشريف أكابر جماعته، وأكابر عسكر مصر، فحلفوا لهم بأن لا علم للشريف بذلك ولا شعور، ولوَّموهم على ذلك خطاباً من تحت السور، فتراجعوا وفتح باب السور.
ففي اليوم الثاني استدعي وجوههم لينظر في حال قتلة الأفندي ويبحث عنهم، فأتوا إليه فلم يزل يمسكهم واحداً واحداً وحبسهم مديدة، ثم وقعت في بعضهم شفاعة ففك وذهب بالباقين وهم نحو تسعة أنفس فأمر بإبقائهم في ينبع، فاستمروا إلى مجيء الحاج فاستشفعوا بأمير الحاج فأتى بهم مستشفعاً فيهم، فشفعه مولانا الشريف، ثم لما نزل بعد الحج الصنجق غيطاس أمير جدة من مكة إلى جدة مغاضباً لمولانا الشريف زيد نزلوا معه وكتبوا أنفسهم في دفتر عسكره.
وسبب غضبه الناشئ عنه الحرابة الآتي ذكرها في سنة ستين وألف أمور: منها أنه ورد إلى مكة بعض تجار من الصعايدة، وشخص أعجمي يسمى أسد خان جاءوا من جهة اليمن بتجارة، ونزلوا من البحر إلى بندر القنفدة، ووصلوا إلى مكة براً ولم يدخلوا بندر جدة، فلما أن دخلوا إلى مكة وكان غيطاس بمكة قد وصل للحج فاحتال على الصعيدي وحبسه، وكان الصعيدي ملتجئاً إلى المرحوم السيد هاشم بن عبد الله فلزم السيد علي الشريف زيد في إطلاقه فوعده، ثم إنه أخذته الحمية، فركب إلى الشريف ثانياً، ثم نزل من عنده قاصداً لبيت الصنجق غيطاس لفك الرجل، فنادى مولانا الشريف قائماً من الروشن: ردوا الرجل فمضى، فلما أقبل على البيت لم يقابل إلا بالرجل المحبوس منطلقاً فرجع به.
وقيل: إن حبس غيطاس للصعيدي إنما كان بسبب دين عليه شكا فيه على غيطاس.
ومنها: مجابذة الشريف زيد له لما جعل القرش الحجر بخمسة وأربعين ديواني في صرور أهل مكة بزيادة خمسة على الأربعين المعتادة.
ومنها: إيحاء أولئك النفر من عسكر المدينة، ونسبتهم قتل الأفندي إليه.
ومنها: تردد السيد عبد العزيز ابن الشريف إدريس إليه ومواطأته ووعده إسعافه، بما أبى الله إلا خلافه.
فقبل أن ينقضي الحج نزل غيطاس إلى جدة، ووصل إليه السيد عبد العزيز المذكور، فوصل الخبر بعد قليل إلى مكة بتولية غيطاس للسيد عبد العزيز مكة ونودي له بالبلاد، وأقام حاكماً فيها ناصر بن سعيد عتيق مصطفى السيوري وظن أنها تكون، وأقبل غيطاس ومعه السيد المذكور بمن معه ومن لمَّ عليه من لفق عسكر المدينة، وخرج عليه مولانا الشريف زيد رحمه الله تعالى، وكان اللقاء يوم الخميس تاسع عشر جمادى الأخرى من سنة الستين وألف فوق التنعيم، وكان في الميمنة متقدماً مولانا المرحوم السيد أحمد بن محمد الحارث بجماعته ومن يليه، وكان في الميسرة كذلك متقدماً قليلاً مولانا المرحوم السيد مبارك بن شنبر بجماعته ومن يليه، ومولانا الشريف زيد بمن معه في القلب، والصروخ ملأت السهل والوعر وتراموا بالرصاص والمدافع، وكلما هم الأشراف بالحملة يقول لهم مولانا الشريف: معكم معكم، كناية عن التلبث والتاني، وارتفع النهار وحميت الشمس فركض من الأشراف جماعة، منهم السيد وبير بن محمد بن إبراهيم، والسيد بشير بن سليمان، والسيد أبو القاسم، فأصيب السيد وبير بالبندق فسقط بين الجمعين، وأصيب جماعة من الجانبين، وحين اشتد الحال أتى مولانا السيد عبد العزيز إلى جمع السيد المبارك بن شنبر داخلاً عليه طالباً للأمان، ولغيطاس ومن معه، فعزم به السيد مبارك إلى مولانا الشريف فأمنه ووقع الصلح، ونصبت للشريف خيمة فنزل بها يستظل، وسأل السيد عبد العزيز من الشريف من يوصل غيطاس إلى مأمنه لأنه أشفق من نهبة العربان له، فأصحبه الشريف خمسين شخصاً من العسكر فذهب إلى جدة راجعاً، وجاء عزله، فذهب إلى ينبع وواجهه الحاج بها، ومكث إلى عود الحاج من مكة إليها وتوجه معهم إلى مصر وتوجه معه السيد عبد العزيز ابن الشريف إدريس رحم الله الجميع، فاستمر غيطاس بمصر سنهَ إحدى وستين، وجاء في موسمها أمير المحمل المصري فتوهم منه مولانا الشريف زيد، ولما خرج للخلعة على العادة لم يكن بينهما مناكبة على المعتاد بل مد له الشريف يده الشريفة فصافحه، ومن عامئذ تركت مناكبة شريف مكة لأمراء الحجيج ولم يقع منه شيء من المضار ولله الحمد والمنة.
وأما مولانا السيد عبد العزيز فأقام بمصر نحو سنتين، ثم جاء خبر وفاته في السنة الثالثة شهيداً بالطاعون رحمه الله.
وفي سنة ثلاث وستين عمرت قبة الفراشين في المسجد الحرام، فقال مولانا القاضي تاج الدين المالكي مؤرخاً عمارتها وممتدحاً معمرها: من الرجز:
أُنظُر لحسنِ قبةٍ جدَّدها ... مؤسساً فَخرُ الملوكِ الأمجدُ
وقُل إذا أَرختَ عاماً كانَ في ... أثنائِهِ بناؤُهُ المشيدُ
عمرها سلطانُنا محمَّدُ ... ألملكُ السامي العليُّ الأوحَدُ
وإن أردت تاريخها باعتبار تمام البناء كله في سنة أربع وستين فقل: المالك بزيادة الألف. ولما أرادوا الشروع في العمل حملوا المؤنة على الحمير، وأدخلوها من باب البغلة ويعرف هذا الباب قديماً بباب بني سفيان بن عبد الأسد؛ كذا قاله الأزرقي. وعرف الفاسي هذا الباب بباب البغلة قال: ولم أدر ما سبب هذه الشهرة، قال العلامة الشيخ محمد علي بن علان: لعل سببها أن بغلته صلى الله عليه وسلم ربطت أو وقفت ثمه في بعض الأوقات والله أعلم.
وفي سنة ثمان وستين وألف: أصاب شاهجهان سلطان الديار الهندية فالج عطله عن الحركة، وحصل بين أولاده حروب كثيرة، ولما أراد الله بالهند خيراً وإحساناً، وقدر ظهور العدل فيهم كرماً وامتناناً، أظهر في حافتيها شموس السلطنة بلا ريب، وأنار في سماء سلطنتها أنوار أورنك زيب، وطوى بساط إخوانه ومزق، وحرق بنار المظلومين لباسهم وخرق، وقتل أخاه دارا شكور واقتلعه هو وأصحابه من ملك الحبور، وأسكنهم دارسات القبور. وكان دارا شكور ذا ذوق وفطنة بهية، وصفات مستحسنة رضية، إلا أنه في آخر عمره صارت سيرته ذميمة، وأحدث مظالم وخيمة.
وفي سنة تسع وستين يوم الجمعة لعشر بقين من شوال منها: توفي مولانا السيد عمار بن بركات بن جعفر بن أبي نمي في الديار الهندية رحمه الله تعالى.
وفيها أواخر شهر رمضان: توفي بالقرية المسماة بالآبار من بلدة الطائف الحميدة الآثار، ودفن في سوح ضريح الحبر ابن عباس طيب الأنفاس، مولانا وسيدنا العلامة، العمدة الصدر الفهامة، القاضي عصام الدين بن علي زاده العصامي، نتيجة الفضلاء الكرام، وسلالة العلماء الأعلام.
الراوي حديث المجد عن أسلافه الأماثل، والحاوي محاسن سلسلة آبائه الفضلاء التي لم يفصلها بحمد الله جاهل، والرافع عماد بيتهم، والمجيب منادى صيتهم وصوتهم، بيت فضل لم ينشأ به إلا قاض وخطيب، فنن فضله في رياض المعالي رطيب.
ولد بمكة ونشأ بها وأخذ العلم عن والده، وعن مولانا السيد عمر بن عبد الرحيم، وعن ابن عمه مولانا الشيخ عبد الملك بن جمال الدين العصامي وغيرهم، ولازم الإقراء والتدريس على الدوام في المسجد الحرام، على طريقة العلماء الكاملين، والأثمة الواصلين.
وخلف ابنين نجيبين كاملين، هما مولانا القاضي علي، ومولانا المرحوم القاضي محمد. انتقل محمد بعد سنوات عن ابنين نجيبين أيضاً.
وتصدر مولانا القاضي على مكانه للإقراء والإفادات، وهو كآبائه على طريق خير وصلاح، قد أشرق نورهما عَلَى محياه ولاح.
أطال الله بقاءه للدين، ونفع بعلومه المسلمين آمين.
وفي سنة سبعين حصل غلاء بمكة وصلت فيه كيلة الحب إلى سبعة عشر محلقاً، فأشار شيخنا العلامة محمد البابلي على مولانا الشريف زيد بإبطال التسعير، فأطلق مناديه بذلك، وأن كل من عنده حب أو ما يقتات به يبيعه بسعر الله، فأظهر كل من عنده الحب، وجلب من سائر البلدان حتى كثر ورخص السعر، وسبب الغلاء: كثرة الجراد بأرض الحجاز واليمن، وأعقبه الدبا فأكل جميع الأشجار والزراعات.
وطبق بعض الأدباء تاريخاً على قوله: غلاء وبلاء نعوذ بالله منهما ومن كل مخوف.
وفي سنة اثنتين وسبعين: عمرت زمزم والبناء الذي عليها ما عدا الجهة القبلية، وأدير باب المصعد إلى قبتها إلى الجهة الجنوبية، فأرخ ذلك قاضي مكة عامئذ - وهو بعض الأروام الواصل منهم كل عام جديد قاض جديد - بأبيات بالتركية آخرها بيت التاريخ بالعربية هو:
قلتُ تاريخُهُ بلفظٍ حَلٍ ... قد بنى الزمزمَ محمَدُ خان
وهي أبيات دون عشرة منقورة في حجر على باب زمزم إلى الآن فسبحان الحكيم.
وفي سنة ثلاث وسبعين وألف يوم السبت بعد الظهر سابع شعبان منها: حصل مطر سال منه سيل كبير ملأ المسجد وغرق فيه نحو ستة أنفس، فتصدى مولانا الشريف زيد لتنظيفه ونادى في الناس، وحضر بنفسه وكذلك صنجق جدة الأمير سليمان بك - وهو يومئذ شيخ الحرم المكي، وقائم على عمارة المقامات وترميم المشاعر - وعمل الأشراف والعلماء والخطباء والمدرسون بأيديهم بعد أن عمل مولانا الشريف زيد بيده، وبذل هو والسنجق مالاً جزيلاً، وأعمل الهمة في ذلك، فتم تنظيفه من سائر جهاته في سبعة أيام، ولله الحمد والشكر.
وقال صاحبنا المرحوم مولانا السيد أحمد ابن المرحوم مولانا السيد أبي بكر بن سالم ابن شيخان مؤرخاً دخول السيل: من الخفيف:
قهقَهَ الرعدُ عندما ابتسَمَ البَر ... قُ فأبكَى الغَمام قَطْر المياهِ
وأذابا قلوبَنا الخوفُ والرع ... بُ فويلٌ لغافلِ القَلْب ساهِي
وأتانا طوفانُ نوحٍ وبالمَو ... تِ قطعنا لولا جنابُ الإلهِ
إن تقل أَوضِحُوا فسابعُ شعبا ... نَ وسبْت ليومِ سِت مُضاهِي
أو ترد عامه المهيلَ فأرخ ... باتَ سيلٌ يطوفُ بالبيتِ داهي
وفي سنة أربع وسبعين وألف: عمرت المقامات الأربعة، مقام الخليل وباقي الثلاثة، وطلاء جميع قباب المسجد بالنورة ظاهراً وباطناً، ورممت جميع المشاعر بعرفات، مسجد إبراهيم، وقبة جبل الرحمة والمشعر بمزدلفة، ومسجد الخيف بمنى، وأعلام الجمرات وحدود الحرم.
وفي سنة ست وسبعين: خرج مولانا الشريف زيد رحمه الله تعالى إلى بلاد جهينة لطلب ثأر السيد مساعد استجره والد مولانا وسيدنا المصنف هذا الكتاب برسمه، المشرف بلقبه الشريف واسمه متع الله بحياته، مولانا المرحوم السيد غالب بن محمد ولي الدم الأدنى، فتوجه بجميع من معه من السادة الأشراف، وأتباعهم وعساكره وعساكر مصر رتبة مكة إليهم وأقام ببدر، وتوجه مولانا المرحوم السيد حمود بن عبد الله إلى زيارة جده صلى الله عليه وسلم، وكنت زائراً معه في كنف جنابه، على خيله وركابه.
وفيها: كان ورود الأغا عماد أفندي الرومي، فاتجه به مولانا السيد حمود في الطريق، وذلك أنه لما وصلنا إلى الخيف - المنزل المعروف - وجدنا مخيمه بها، فمال إليه السيد حمود مع بعض أولاده، وبني إخوته، وبني عمه، ودخلوا عليه، فقام ساعياً حافياً من بُعد فكان أول اجتماعه به هناك، فجلس عنده حيناً من الزمان، ثم خرج وتوجه للزيارة، ثم لما رجع وجد مولانا الشريف زيد مقيماً ببدر، فنزل بمحشوش اسم ماء قرب بدر، ثم توجها معاً إلى حرابة جهينة وكان المرحوم السيد أبو القاسم ابن السيد حمود هو القائم مقام مولانا الشريف زيد بمكة المشرفة عامئذ، وكانت الأمطار قد كثرت بالحجاز فرخصت الأسعار جداً حتى يبع الإردب القمح بثلاثة حروف عددي، والمن والجبن بمحلقين، والألبان واللحوم والخيرات كثيرة، ومثل مكة في هذا ما حولها من الأقطار ولله الحمد والشكر.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وألف: كان هلالها بالأحد، في فجر ليلة الثلاثاء ثالثه كانت وفاة سلطان الحرمين ونواحيهما، والمالئ بعدله وأمنه دانيهما وقاصيهما، مولانا المرحوم الشريف زيد ابن الشريف محسن بن الحسين بن الحسن؛ فصعدت روحه إلى معالم العرش والكرسي، وأفيض عليه من الرضوان سابغ الروح القدسي.
كان رحمه الله متخلقاً بالأخلاق المحمدية، متصفاً بالصفات الكمالية.
كان كثير الحلم والصبر والشفقة على الرعية، بحيث يسمع بأذنيه منهم الأسية، ويعفو ويصفح تأسياً بجده خير البرية.
ولم يضبط عليه أنه قتل شخصاً بغير حق في هذه المدة الطويلة المرضية.
وكان الأقطار والرعية في زمنه آمنة مطمئنة في عيشة هنية. وهو حقيق بأن يلقب مهدي الزمان، رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح الجنان.
كان ولادته - رحمه الله تعالى، وأعاد على المسلمين من بركاته - بعد مضي درجتين من شروق شمس يوم الإثنين السابع والعشرين من شهر شعبان المعظم سنة ست عشرة بعد الألف ببلدة بيشة من أعمال الشرق.
قلت: قد أخبرني مولانا الخطيب العلامة اللبيب تتيجة الفضلاء، وعين الأعيان النبلاء، برهان الدين، الخطيب والإمام بمسجده - عليه الصلاة والسلام - ، إبراهيم بن العلامة الفهامة واحد عصره بلا خلاف، ونسيج وحده كلمة ائتلاف، مولانا المرحوم الخطيب أحمد بن عبد الله الشهير بالبري نقلاً عن والده المذكور أنه حضر في مجلس مولانا المرحوم الشريف زيد بعض متعاطي علم الرمل فضرب تخته ثم قال لمولانا الشريف زيد رحمه الله: قد دل الرمل الصحيح على أنه كان وقت علوق والدتك بنطفتك عند الزوال في شهر رمضان في عام خمسة عشر بعد الألف، فاستغرب مولانا الشريف ذلك لمكان شهر الصوم، ثم إنه سأل والدته عن هذا المعنى فأجابت نعم: كان سيدي أبوك غازياً في شهر رمضان لبعض العرب، فجاء بعد أن أدرك من النصر والنجح الأرب، وكان وصوله في ذلك الوقت الذي ذكره هذا الرجل، فوقع علي، فأدركت الحمل بك من حيني.
هكذا أخبرني - حفظه الله تعالى - نقلاً عن والده الخطيب أحمد البري المذكور. فعلى هذا تكون مدة حمل مولانا الشريف زيد زادت على تسعة أشهر، ولا مانع من ذلك فإن أقصى مدة الحمل عند السادة الحنفية سنتان، وعند السادة الشافعية أربع سنين، وقد اتفق مكث الحمل تلك المدة لأشخاص كثيرة.
وكانت مدة ولايته خمساً وثلاثين سنة وشهراً وأياماً، رحمه الله رحمة واسعة، غفر له مغفرة جامعة آمين.
ولما مات وقعت بمكة رجة كظيمة في التولية على المسلمين وفيمن يقوم مقامه، بين ولده الشريف سعد وبين السيد حمود بن عبد الله، وقام كل من الرجلين أشد قيام، وجمع الجموع وبذل المال، وتحصنوا في البيوت والمنائر، وانضم الأشراف جميعهم إلى السيد حمود، ولم يبق مع الشريف سعد إلا السيد مبارك بن محمد الحارث، والسيد راجح بن قايتباي، والسيد عبد المطلب بن محمد، والسيد مضر ابن المرتضى، والسيد الحسين بن يحيى، والسيد فارس بن بركات، والسيد محمد ابن أحمد بن علي، وهو الذي كان مع المنادي.
وكان في مكة رجل عظيم الشأن قد ورد في العام الذي قبل هذا العام وهو عام ست وسبعين، ورد سنجقاً لجدة وشيخاً لحرم مكة، وهو عماد أفندي المتقدم الذكر أنفاً، فردوا الأمر إليه.
وأحضر خلعة عنده والرسل تسعى من الشريف سعد إليه إلى الضحوة، فاتفق الرأي أن يُلبسوا الخلعة الشريف سعد، فأخذها من تحت ركبته شخص من أكابر عسكر مصر، يقال له: المسلماني، وذهب بها إلى الشريف سعد فلبسها في بيته من غير وعد.
قلت: وكان مجلس عماد أغا في المسجد في دكة عند باب رباط الداودية، وقد كنت إذ ذاك واقفاً أنظر، فبعد أن أخذت الخلعة قيل له: إن ابن الشريف زيد محمد يحيى هو المولى، وقد أخذ له والده أمراً سلطانياً بذلك، فقال لمن أخذ الخلعة: قولوا للشريف سعد: بشرط أنك قائم مقام، قائم مقام، هكذا سمع أذني، فبعد أن ذهبوا بها ومشوا قليلاً دخل المسجد من باب بني سهم المسمى بباب العمرة جماعة من الأشراف، منهم مولانا السيد محمد بن أحمد بن عبد الله، والسيد مبارك بن الفضل بن مسعود، وعبد الله بن أحمد، والسيد محمد بن أحمد بن حراز وغيره في نحو ثمانية عشرة أشخاص، فوقفوا على عماد ورأوا جماعة للأتراك بيدهم الخلعة قد قاربوا باب المسجد النافذ إلى بيت الشريف، فقال لهم عماد: نحن ألبسنا الشريف سعد بشرط أنه قائم مقام أخيه محمد يحيى؛ لأنه هو القائم بعد أبيه المرحوم زيد بأمر سلطاني فلم يردوا عليه خطاباً، ثم إنهم رجعوا من الباب الذي دخلوا منه، ثم إني أحببت الإحاطة التامة بالخبر وذهبت إلى منزل مولانا السيد حمود، فإذا الخيول على الباب، وإذا المجلس والبركة غاصان بالسادة الأشراف، فلم أستقر في المجلس إلا والسيد حمود - رحمه الله - خارجاً من محل الحريم معتماً عمامة زرقاء عليه صوف عودي، فخرج إلى البركة وجلس لحظة خفيفة، وقام عامداً للنزول إلى مولاه المرحوم الشريف زيد وغسله، ومعاناة تجهيزه ودفنه، ومعه نحو ثلاثة أشخاص من بني عمه لا أذكرهم الآن.
فلما كان في أثناء الدرج نازلاً إذا السيد أحمد بن محمد الحارث لاقاه طالعاً، فمذ رآه السيد حمود وقف وقال: لا قطع الله هذه الزائلة، وكان جواب السيد أحمد سمع أذني قوله: إذا جاءتك الرجال كن زبرة فرجع معه، ثم جهز مولانا الشريف زيد وأخرج إلى المسجد الحرام بعد صلاة الظهر، وخرج معه اثنان من الأشراف. أحدهما: ولده السيد حسن بن زيد، والآخر: من أولاد عمه، وأما باقي العسكر والأتباع فلم يخرج منهم إلا النزر اليسير لاشتغالهم بما هم فيه، وطلعوا به إلى المعلاة، ودفن في قبة المرحوم مولانا الشريف أبو طالب في جانبه إلى جهة القبلة.
وكان له مشهد عظيم، وخرج معه أهل مكة، وبكى عليه الصغير قبل الكبير، والحكم لله العلي الكبير.
وكان ذلك اليوم أعظم مصيبة على المسلمين. ولكن نرجع إلى قول رب العالمين " الذَينَ إذا أَصابَتهُم مُصِيبَةٌ قالوأ إنا للهِ وإنا إِليهِ رَاجُعونَ أُولَئِكَ عَليهِم صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ اَلمُهتَدُونَ " البقرة: 157.
ومما قيل في تاريخ وفاته قول أخينا الفاضل الأريب، الشيخ أحمد بن قاسم الخلي وهو تاريخ عظيم عجيب هو قوله: من الخفيف:
ماتَ كهفُ الورَى مليكُ ملوكِ ال ... أَرضِ من لَم يَزَل مَدَى الدهرِمُحسِن
فالمعاني قالَتْ لنا أرِّخُوهُ ... قد ثَوَى في الجنانِ زيدُ بنُ محْسِن
ولمولانا قاضي المسلمين ببلد الله الأمين الإمام العلامة القدوة الفهامة مولانا القاضي عبد المحسن ابن مولانا المرحوم الشيخ سالم القلعي مؤرخاً لوفاته قوله: من الكامل:
يا أهلَ مكةَ إن سيدنا الذي ... مَلَكَ الحجازَ وكانَ فيه الأرشَدُ
رَب السماحةِ والشجاعةِ والحيا ... والحلمِ وصفاه التقَى والسؤددُ
لَقِيَ الإلهَ فكان تاريخِي له ... زيدُ بن محسِن في الجنانِ مخلَّدُ
ومما قيل فيه قول الشيخ محمد بن حكيم الملك رحمه الله تعالى راثياً أباه الشريف محسن ومادحاً له: من البسيط:
صوادحُ البانِ وهْناً شجوُها بادِي ... فمَن عذيرُ فتَى في فَتِّ أكبادِ
صب إذا غنتِ الورقاءُ أرقه ... تذكيرُها نغماتِ الشادِنِ الشادِي
فباتَ يرعفُ من عينَيه تحسبُهُ ... يزبرجُ المدمَعَ الوكافَ بالجادي
جافى المضاجعَ إلف السهدِ ساورَهُ ... سُمُّ الأساودِ أو أنيابُ آسادِ
له إذا الليلُ واراه نشيجُ شَج ... وجذوة في حشاهُ ذاتُ إيقادِ
سماره حينَ يضنيهِ توحُشُهُ ... فيشرئب إلى تأنيسِ عُوادِ
وجدٌ وهمٌّ وأحزانٌ وبرح جوىً ... ولوعة تتلظى والأسَى سادِي
أضناهُ تفريقُ شملٍ ظل مجتمعا ... وضَن بالعودِ دهرٌ خطبه عادِي
فالعمرُ ما بين ضرٍّ ينقضي وضناً ... والدهرُ ما بين إيعادٍ وإبعادِ
لا وصل سلمى وذات الخال يرقُبُهُ ... ولا يؤملُ من سعدَى لإسعادِ
أشجَى فؤاديَ واستوهَى قوى جلدي ... أقوَى ملاعب بين النصْبِ والوادي
عفت محاسنها الأيامُ فاندرسَتْ ... واستبدلَت وحشة من أنسها البادي
وعطلَتهاً الرزايا وهي حالية ... بساكنيها وورَّادٍ وروَّادِ
وعاث صرفُ الليالِي في مَعالمها ... فما يجيبُ الصدَى فيها سوى الصادي
دوارج المور مارَت في معاهدها ... فغادَرَتها عفا الساحاتِ والنادِي
وناعبُ البينِ نادى بالشتاتِ بها ... فأهلُها بين أغوارٍ وأنجادِ
وصوحَت بالبلا أطلالُها وخلَت ... رحابها الفيحُ من هِنْدٍ ومن هادِي
أضحَت قفاراً تجرُ الراسياتِ بها ... ريحُ جنوب وشمل ذيلها الخادِي
كأنها لم تكُن يوماً لبيض مَهاً ... مراتعاً قد خلَت فيهن من هادِي
ولم تظل مغانيها بغانيةٍ ... تغني إذا ما روى مِنْ بَدْرها
ولا عطا بينها رِيم ولا طلق ... رادِي بها بدورُ دُجَى في بُرج منطادِ
ولا تثنتْ بها لمياءُ ساحبة ... ذيل النعيم دلالاً بين أندادِ
فارفتُها فكإني لم أظَل بها ... في ظِل عيشٍ يجلي عذرَحسادِ
أجني قطوفَ فكاهاتٍ محاضرةٍ ... طوراً وطوراً أناجي زينةَ الهادي
هيفاءُ يزرِي إذا ماسَت تمايلها ... بأملَدِ من غصونِ البانِ مَيَّادِ
بجانِبِ الجيدِ يهوى القرط مرتعداً ... مهواهُ حد سحيق فوق أكبادِ
شفاتها بين حُر الدر قد خزنَت ... ذخيرة النحلِ ممزوجاً بها الجادي
إذا نضَت عن محياها النقابَ صبا ... مستهتراً كُلُّ سَجادٍ وعَبادِ
وإن تجلت ففيما قد جلَتهُ دُجَىً ... لنا به في الدآدي أيُّما هادي
وميضُ برقِ ثناياها إذا ابتسمَت ... بعارضِ الدمعِ من مهجورها حادِي
وناظرانِ لها يرتد طرفُهُما ... مهما رنَتْ عن قتيلٍ ما له وادي
وصبحُ غُرتها في ليلِ طُرَّتها ... يومايَ من وَصْلها أو هجرها العادِي
تلكَ الربوعُ التي كانَتْ ملاعبها ... أخنَى عليها الذي أخنَى على عادِ
إلى مراتعِ غزلانِ الصريمِ بها ... يحن قلبي المعنَّى ما شدا شادي
بعداً لدهْرِ رماني بالفراقِ بها ... ولا سقَى كنفيه الرائح الغادي
عَمرِي لقد عظمَتْ تلك الفوادحُ من ... خطوبِهِ وتعدَتْ حدّ تعدادِ
فقدْ نسيتُ وأنستْنِي بوائقه ... تلك التي دهدهتْ أصلاد أطوادِ
مصارع لبني الزهرا وأحمدَ قَدْ ... أذكرْنَ فخا ومَنْ أردى بها الهادِي
لفقدِهِمْ وعلى المطلولِ مِنْ دمهم ... تبكِي السماءُ بدمْع رائحٍ غادِي
وشَق جيبَ الغمامِ البرْقُ من حزنٍ ... عليهمُ لا علىَ أبناءِ عبادِ
كانوا كعقْد لجيدِ المجدِ مذْ فرطَتْ ... من ذاك واسطة أودى بتبدادِ
وهْوَ المليكُ الذي للملكِ كان حِمىً ... مذْ ماسَ من بُردِهِ في خيرِ أبراد
كانتْ لجيرانِ بيتِ الله دولتُهُ ... مهادَ أمن لسرحِ الخوفِ ذوادِ
وكان طوداً بدَسْتِ الملك محتبياً ... ولاقتناصِ المعالي أي نهادِ
ثوَى بصَنْعا فيا لله ما اشتملَتْ ... عليه من مجدِهِ في ضيقِ ألحادِ
فقد حويتِ به صنعاءُ من شرفٍ ... كما حوَتْ صعدةْ بالسيد الهادِي
فحبذا أنتِ يا صنعاءُ من بلدِ ... ولا تغشى زياداً وكْف رعادِ
مصابُهُ كان رزءاً لا يوازنُهُ ... رزءٌ ومفتاح أرزاءِ وأسبادِ
وكان رأساً على الأشرافِ منذ هوَى ... تتابعوا إثْرَهُ عن شبهِ ميعادِ
كهفُ المضافِ إذا ما أزمة أزمَتْ ... من خطبِ نائبةٍ للمتنِ هدادِ
كهفُ المضافِ إذا ما أمحلَت سنة ... يضن في محْلها الطائيُ بالزادِ
كهفُ المضافِ إذا كَر الجياد لدى ... حَر الجلادِ أثار النقْعَ بالوادي
كهفُ المضافِ متَى ما يستباحُ حمى ... لفقدِ حامٍ بورد الكَر عوادِ
كهفُ المضافِ إذا الجلي به نزلَت ... ولم تجدْ كاشفاً منها بمرصادِ
كهفُ المضاف إذا حل المغارم في ... نيلِ العلاَ أثقل الأعناق كالطادِ
كهفُ المضافِ إذا نادى الصريخُ ولَم ... يجد له مصرخاً كالغيثِ للصادِي
كهفُ المضافِ إذا الدفرُ العسوف سطا ... بضيْمِ جارٍ لنيلِ العِز معتادِ
بل لهْفَ نَفْسِ ذوي الآمالِ قاطبةَ ... عليهمُ خيْر مرتادٍ لمرتادِ
كانتْ بهم تزدهِي في السلمِ أندية ... وفي الوغَى كُل قدادِ وميادٍ
على الأرائِكِ أقمار تضيء ومِنْ ... تحتِ الترائِكِ آسادٌ لمستادِ
تشكُو عداهُم إذا شاكى ... شك القنا ما صفا من نسخِ زرادِ
إلى النحورِ وما تحوي الصدورُ وما ... وارَتهُ في جُتحها ظلماتُ جسادِ
جَناجناً فُلُقاً تَحوِي جآ جِئُوها ... مما يقصدُ فيها كل قَصَادِ
بادوا فبادَ من الدنيا بأجْمعِها ... من كانَ فكاك أصفادٍ بأصفادِ
وقد ذوَتْ زهرةُ الدنيا لفقدِهِمُ ... وألبسَت بعدها أثوابَ إحدادِ
واجتثَّ غرس الأماني من فجيعَتِهِمْ ... وأنشدَ الدهرُ تقنيطاً لروادِ
يا ضيفُ أقفَرَ بيتُ المكرماتِ فخذْ ... في ضم رحلكَ واجْمعْ فضلةَ الزادِ
يا قلبُ لا تيأَسَنْ من هولِ مصرعِهِمْ ... وعَز نفسكَ في بؤسٍ وإِنكادِ
بمَنْ غدا خلقاً يا حبَّذا خلفٌ ... في الملكِ من خيرِ آباءٍ وأجدادِ
بحائزٍ إرثَهُم حاوي مفاخِرِهم ... عما حوَى الألفُ من آحادِ أعدادِ
وذاكَ زيد أدامَ الله دولتَهُ ... وزادَهُ منه تأييداً بأعدادِ
سما به النسَبُ الوضاحُ حيثُ غدا ... طريقُهُ جامعاً أشتاتَ أتلادِ
لقد حوَى من رفيعاتِ المكارِمِ ما ... يكفي لمفخَرِ أجداد وأحفادِ
أليس قد نالَ ملكاً في شبيبتِهِ ... ما ناله مَنْ سعَى أعمارَ آمادِ
أليسَ في وهَجِ الهيجا مواقفُهُ ... مشكورةً بين أعداءِ وأضدادِ
أليس أصبَحَ بالتنعيم سابحُهُ ... لج المنايا ليحمي قُلَّ أجنادِ
أليسَ نبئتَ يوم الليثِ أن له ... وثباتِ ليثٍ يزجّى ذودَ نقادِ
أليسَ يومَ العطا تحكِي أناملهُ ... خلجانَ بحْرٍ بفيضِ التبرِ مدادِ
أليسَ قد راحَ في تأسيسِ دولتِهِ ... من جده المصطفى رمْز بإرشادِ
دامَتْ معاليه والنعمَى يذال له ... مصونها وَهْوَ ملحوظ بإسعادِ
ما لاحَ برق وما ناحَت على فَنَنٍ ... صوادحُ البانِ وهنا شجوها بادِي
ومما قيل فيه - أيضاً - قول الإمام الفضل بن عبد الله الطبري الحسيني: من البسيط:
يا ميُّ حيا الحيا أحيا محياكِ ... هَلاَّ بأعتاب عتبي فاهَ لي فاكِ
مَن لي إليكِ وقد أودَى صدودكِ بي ... ولا تزالينَ طوعاً لي أفَّاكِ
يا هذه لم أزَل من بُعدِها وَدُنُو السقم من بعدها موثوق أشراكِ
تيهي أطيلي التجني والجفاء وما ... أردتَ فاقضِيهِ بي فالحسنُ ولاكِ
رفقاً رويداً كإني بالعذولِ علَي ... تطاولِ الصد في ذا الصب عزاكِ
إن لم يعز عزا عيني وقَد حُظِرَت ... مرآكِ فليَهنِ قلبي وهوَ مرعاكِ
حسبِي دليلاًعلى شوقِي المبحِ بي ... إني لَثَمتُ عذولي حينَ سَماكِ
والجفنُ في أرقِ والقلْبُ في حرقِ ... والعينُ في غرقٍ إنسانُهاً باكي
يامهجةَ الصب غيرالصبر ليس وقَد ... حنت بما قد لاقَيْت عيناكِ
ويا عذولي لُمِ اكفُفِ اضْلُل اهدِ تَرَفقْ لِج دَعْ أَوجِبِ اطْلاَقِي وإمساكِي
ويا أسيرةَ حجليها أرَى سَرَفاً ... لُبْسَ الحلى وقد منعْت مرآكِ
عطفاً علَى حالِ من لا يبتغي بدلاً ... وليسَ يشفيه من مشفيه إلاكِ
وأجملي الود واخشَى عدلَ ذي الشرَفِ ال ... مؤيد العز مولايَ ومولاكِ
زيدُ بن محسِنَ سلطانُ الأنامِ إما ... مُ الحضرتَين أمانُ الخائفِ الباكي
كهفُ الضيوتف وثلاَّمُ الصفوفِ وَمَناحُ الصنوفِ وفاءً دون تَشكاكِ
وباسل لو رأَى شزراً على حنقِ ... للموتِ ما اخترم المَشكُو والشاكي
ألقاسمُ الجودَ في سامٍ وذي ضعةٍ ... كواسم الجود في نبتٍ وأشواكِ
يُلقى فيلقى بفَضلٍ غير محتجب ... وشأو شانٍ علا في غَيْرِ إدراكِ
ونهبة لو رأى الضلال صُورتها ... لأصبَحُوا بين أخيارِ ونُسَّاكِ
يهتز للعفوِ من حلمٍ ولاطربٍ ال ... مثموُل من شمسِ شماسٍ وبتراكِ
مهذب رأيه والعزمُ ناصرُهُ ... أغناه عَن أزرِ أعرابٍ وأتراكِ
وذي سطا كم تشاكَى بأسَهُ شاكي ... في الملتقَى وتحامَى بَطشَهُ شاكي
ثنتُ الجنانِ إذا كان الخميسُ وغا ... كأنه بين ظِل الضالِ والراكِ
كم أضحَكَ السيْفَ من باكي يجدلُهُ ... والزحف ما بين مفْتاكٍ وفَتاكِ
ومَنْ يكنْ ذا خليلٍ غير صارمِهِ ... والعزم يوشكُ أن يفجا بأضراكِ
وذي كعوب له من طولِ حامِلِهِ ... طول بمجتمعِ الجَنْبَيْنِ شكاكِ
مخاطب بَلسانٍ ناطقٍ بعجا ... ئبِ المنايا بديهاً يا لَهُ حاكي
هو المليكُ الذي أسْنَى الممالك وال ... أزمان مِنْ بعدِ إسناء وإحلاكِ
وطَبقَ الأرضَ عدلاً والضواحيَ فالضدانِ في أمرِهِ المَنْكى والناكي
ونادَتِ الغُبُر الخضراء لو عقَلَت ... غيظاً به ضرتي أبعدت مرماكِ
وذكْرُهُ أرَجَ الأرجاءَ شاسعةًفَطِيبُ رِيحِ الصبا مِنْ عَرْفه الزاكِي
يا نفْسَ آمِلِهِ بُشْراكِ بشراكِ ... ولو قضيت بإذنِ الله أحياكِ
أو رمْتِ أجناد عُدْم أو نويْتِ بما ... أعياكِ محمله أغنَى وأقْناكِ
أوْرَدَ أَمْسَك حالا أو مُضِي غدٍ ... بسعده كانَ ما تبغين يلقاكِ
ويا سيادتَهُ مِنْ أن يطاولها ... مثلٌ وإياه حاشاهُ وحاشاكِ
ودولَة في حياةِ العمَّرِ غرتُها ... ما الدهْرُ حتى انقضاء الدهْرِ ينساكِ
ويا ليالِيهِ قد دامَتْ بسؤددِهِ ... من أينَ للملكِ شرواه وشرواكِ
ويا أيادِي أيادِيهِ السنيَّة لا ... ينفك حسنكِ مقروناً بحسناكِ
لو كان في عَصْرِهِ بعد النبوةِ مب ... عوثٌ لكان بلا دفعِ وإشراكِ
لوطُرزَتْ باسمه الراياتُ ما حذرَتْ ... أصحابُها غلباً أو حطم دهاكِ
وقالتِ العينُ لو ترنو إليه بها ... سناه يا أرْضُ عني كان أغناكِ
ولو تقدم عهداً كان ممتدحَ ال ... آياتِ في طَي منشوراتِ إصكاكِ
فالحمدُ بعدُ له والحمْدُ قبلُ لمَنْ ... حبا الأنامَ سريَّاً أصله الزاكِي
لا زالَ واقِيَ من والَى ولاذَ به ... وقعَ الخطوبِ بعز منه فَتاكِ
يابنَ الأُلى للعُلاَ شادوا منيعَ حِمى ... يحجه كُل كفافٍ وفكاكِ
بالمجدِ سادوا وداسُوا هامَ شانِئِهِم ... وسيف عزمٍ لروح القرنِ سفاكِ
قد ذاد في شرفِ البطحاءِ أنكَ في ... جيرانها خيرُ فَعالٍ وتَراكِ
مولى الجميل ومنجاةُ الدخيلِ ومن ... حاةُ الخذيلِ سرى بعين أملاكِ
كافِيةْ بُسِطَت وزناً وقافيَةً ... تلوحُ كالدر أو ياقوتِ أسلاكِ
يقولُ لو خالها الحِليُّ خاطره ... حلاك يا من صنيع الفضل حلاكِ
وباعَ قيراطه البرهان منبخساً ... يزيفه في انتقادِ كُل حَكاكِ
وقالَ واسمك يا ذا العِز واسطها ... لطلعةِ البَدرِ أن لا بَدرَ إلاكِ
تبغِي القبولَ وقَد جاءَت معارضةً ... أمثال كفى وفكي قيد أسراكِ
ثم وليها الشريف سعد ابن الشريف زيد ابن الشريف محسن بن حسين بن حسن، لبس الخلعة، ونادي مناديه في البلاد، يسمعه الحاضر والباد، والناس حوله لهم ضجيج كالرعد: البلاد بلاد الله، وبلاد السلطان، وبلاد الشريف سعد.
وانجلت البصائر والأبصار، ذهبت الحيرة، وربك يفعل ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة.
وقد أرخ صاحبنا وعزيزنا الشيخ الأكرم الشيخ أحمد بن قاسم الخلي جلوسه فقال وفيه لطف إدخال بديع: من مخلَع البسيط:
قامَ بأمرِ البلادِ سعد ... أيدَ رَب السماءِ مُلكَه
بغايةِ المجدِ أرِّخُوهُ ... قد نِلتَ بالسيفِ أمرَ مَكَه
ولمولانا المرحوم الإمام فضل ابن الإمام عبد الله الطبري في ذلك قوله: من خلع البسيط:
قالوا لنا اليَومَ ماتَ زيد ... والناسُ تخشى وقوعَ عَركَه
والقومُ يسَّاءلونَ هذا ... قالَ لذا من يرومُ ملكَه
فقلتُ والقيلُ قد تناهَى ... والخلقُ في ضَجةٍ ورَبكَة
بيتاً صحيحاً لهم جواباً ... مُؤَرخاً فيه رُمتُ سَبكَه
يبايعوهُ يملِّكُوهُ ... سعدُ بن زيدٍ شريفُ مَكه
ولأخينا المرحوم القاضي أحمد ابن القاضي مرشد الدين العمري الحنفي قوله مؤرخاً: من مجزوء الكامل:
شمسُ الخلافةِ أشرَقَت ... وبدا منيراً سَعدُها
مذ حازَها الشرَفُ الذي ... بِعُلاَهُ زُيُّنَ عِقْدُها
سعدُ الذي تاريخُهُ ... خَيرُ الملوكِ سعيدها
وكان مع الشريف زيد مملوكان أحدهما تركي الجنس اسمه ذو الفقار، والآخر حبشي اسمه بلال.
أما الأول: فكان عند مولانا الشريف من زمان حتى كبر وصار شيخاً للعسكر اللهام، فقام عليهم أحسن قيام.
وكان ذا هيبة ورأى سديد، صاحب قوة وبأس شديد، فدعاه مولانا الشريف في بعض الساعات إليه، وأوصاه على بنيه وعولته - رحمة الله عليه - .
فلما انتقل الشريف إلى دار الآخرة، امتثل مولاه أوامره، وقام على قدميه وشمر، وكشف عن ساعديه وشد المئزر، ورتب العساكر في المدارس بلصق المسجد الحرام المعمور، ووزعهم على المنائر والدور، ووضع المدافع على رؤوس المنافذ والطرقات، وضبط قانون الحرابة من سائر الجهات، هذا ومولانا السيد حمود لم يبرح من بيته مع بني عمه وشيعته، ونار الفتنة قائمة أشد قيام، قلنا: يا نار كوني برداً وسلام.
ثم بعد ذلك جلس مولانا الشريف سعد للتهنئة والسرور، وتأطد له الملك بفأل اسمه والحبور، ودعا مشايخ العرب وأهل الدرك وألزم كلا بجهته، ولم يقع ولله الحمد بمكة المشرفة شيء من النهب أو القتل أو الخوف " فَليَعبُدُوا رَب هَذا البيتِ اَلَذِي أَطعَمَهُم مِن جوُع وَآمَنَهُم مِن خَوْفِ " قريش: 3،4 ومن لطف الله - سبحانه - أن كان انتقال مولانا الشريف زيد - رحمه الله تعالى بعد انقضاء الحج وتوجه كل إلى بلده.
وكان بمكة المشرفة يومئذ بعض تجار من حجاج الشام تخلفوا عن أميرهم، وقد جرت العادة بذلك أنهم يقيمون مدة لقضاء حوائجهم بعده، ثم يتوجهون ويجتمعون به في المدينة المنورة، فلما أرادوا السفر طلبوا من مولانا الشريف سعد - حفظه الله تعالى - أن يأمر من يوصلهم المدينة خوفاً على أنفسهم وأموالهم، فأجابهم إلى ذلك - كان الله له - ، وأرسل معهم السيد فارس ابن المرحوم بركات بن حسن، ومعهم جمع من العسكر، فأوصلوهم المدينة الشريفة سالمين، ولله الحمد والمنة.
ثم أمر حاكم الطائف، وكان بمكة جمع من أهل الطائف من الحجاج قد أحصروا عن أولادهم وأموالهم، ولم يمكنهم التوجه شفقة، فجهز جماعة من العسكر صحبة حاكم المذكور، فساروا بهم من ليلهم، فوصلوا إلى الطائف من طريق يعرج، نادى مناديه في البلاد من ساعته.
ولما وصل الخبر بوفاة الشريف زيد - رحمه الله تعالى - إلى الطائف قبل وصول الحاكم اضطربت البلاد اضطراباً شديداً، وعزل السوق وكل أغلق بابه ونزع ثيابه، دفن أسبابه، إلى أن وصل الحاكم، فاطمأنت حينئذ الخواطر من البوادي الحواضر، وكان إذ ذاك مولانا السيد زين العابدين بن عبد الله بن حسن بالطائف أولاده وأتباعه، فلما وصل هذا الخبر ركبوا الجياد، وداروا البلاد، ونأدوا بالأمان، فخمدت بذلك داعية البغي والطغيان، وطمنوا الناس، وأمروهم بالرجوع إلى السوق، وبسط الدكاكين ففعلوا وامتثلوا، وحمدوا ربهم وشكروا، وكان وصول الحاكم آخر ذلك النهار. ولما كان يوم الرابع من انتقال مولانا الشريف وهو يوم جمعة أراد الخطيب أن يخطب فوقف عن الخطبة لسبب من الأسباب، يدريه أولو الألباب، فصلى الناس الظهر.
وأما مكة فخطب الخطيب بها، ودعا للشريف سعد بالنصر والتأييد، والناس في عيش رغيد. وفي هذا الوقت وقع طراد في جهة المثناة قريباً من وادي وفي بين قبيلتين: قريش والحمدة من ثقيف واستمر إلى وقت العصر، وحصل بينهما بعض راحات، وكان بمكة المشرفة يومئذ جماعة من الأعراب أهل خيل وركاب لما بلغهم موت الشريف زيد رحمه الله انطلقوا على رؤوسهم إلى البلاد، وكل من وجدوه في طريقهم أخذوه بالظلم والعناد، وأكثروا في الأرض الفساد، إن ربك لبالمرصاد، وما كان من طريق الحجاز فوقع فيها الخوف والنهب، والقتل والضرب، وكل من ظفر بصاحبه أخذه، وأهل القرى ترفعوا عن الطرقات، واجتمعوا في بعض الجهات خوفاً على أنفسهم وأموالهم.
وفي اليوم الثالث من موت مولانا الشريف - سامحه الله تعالى - وهو يوم الخميس - : وقع اضطراب كبير من بعد الظهر إلى بعد العصر بين مولانا الشريف مد، ومولانا السيد حمود، وكل منهما جمع جيوشه، وتحصنوا في البيوت والمنائر، وركبوا جماعة السيد حمود في الضلع الذئ خلف بيته والجبل المعروف بجبل عمر، وتراموا بالرصاص من بعد، ولم تحصل مواجهة، ثم إنهم استمر بهم حال وكل يوم يصبحون في قيل وقال، وكل من الشريفين واثب على قدميه كسبع الصيال، سبحان الله يؤتي الملك من يشاء وهو الكبير المتعال.
فلما كان اليوم الثالث عشر من يوم الوفاة: وقع الاتفاق بين مولانا الشريف سعد ومولانا السيد حمود على قدر معلوم من المعلوم وعينت جهاته، وكان يوماً عظيماً عندنا أيها الناس، وحصل بذلك الأمن وارتفع البأس وأمر مولانا الشريف بالزينة ثلاثة أيام، وظهر السرور وزالت الحزون، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون.
وكتب محضر من الشريف سعد عليه خطوط الأعيان من الأفندي وشيخ الحرم والمفتي وأعيان البلاد على مراتبهم وعساكر مصر كذلك، وذهب به بلال أغا إلى مصر المحروسة، فأوصله باشا مصر ومعه مكتوب آخر من عبده إلى الأبواب العلية، فلما وصل فتح وقرئ في ساعة مباركة طالعها سعد السعود، ثم أمر برد الجواب على ما يسر الخواطر والألباب، " واللهُ يَرزقُ مَن يشاءُ بِغَيْرِ حِساب " البقرة: 212، ولذلك كتب مولانا السيد حمود محضراً ليس عليه إلا خطوط السادة الأشراف، فأرسله صحبة رجل مصري يسمى الشيخ عيسى، فقدر الله أنه مات عقب دخوله مصر بيومين، فوجدوا العرض في تركته، ولم يصل مقصده.
وكذلك كتب عرضاً مولانا السيد محمد يحيى بن زيد من المدينة الشريفة وكان بها، ووضع أعيان المدينة خطوطهم عليه، والتزم بأربعين ألف دينار للوزير الأعظم. قلت: قد كان أخرج مولانا الشريف لولده السيد محمد يحيى أمراً سلطانياً بولاية مكة فلم يتمكن من إنفاذه خشية ما يترتب على ذلك من المفاسد، وعدم الرضا من بقية أولاده وبنى عمه، وكان في كل سنة - غالباً - لم يحج معه إلا اثنان من أولاده هما حسن ومحمد يحيى، وكان السيد محمد يحيى بالمدينة فطلبه للحج في ذلك العام وهو عام ست وسبعين، فامتنع لأمر يريده الله، فقال مولانا الشريف زيد عند امتناعه: " إنَكَ لا تَهدي من أَحببت " القصص: 56.
وكان الشريف سعد ابتعد نحو الشرق فجاء وتقرب من والده، وحج معه ذلك العام وكان من أمره ما كان، والكل فعل الله سبحانه.
وأنشد لسان الحال عن الشريف سعد فيما قصد وأم: من الكامل:
وإذا السعادة لاحظتك عيونها ... نم.........
واستمر الناس منتظرين لورود الخبر السلطاني والتشريف الخاقاني نحو ستة شهر، وفي كل شهر يأتي المبشر من مصر المحروسة بتمام الأمر لمولانا الشريف صعد ويلبس خلعة البشارة، وفي ذلك إشارة لأهل الإشارة.
ولما كان يوم الخميس خامس عشر جمادى الآخرة، حصل بين بعض العسكر العبيد شنآن بالمعلاة، فتراموا بالحجارة وسلت السيوف، ولم يقع بينهم قتال، وكان هناك بعض أولاد الشريف - حفظهم الله تعالى - فقاموا بينهم وأصلحوا لقضية.
ثم دخل علينا شهر رجب الأصم، فلما كان يوم الجمعة رابع الشهر عند الغروب حصل بين مولانا الشريف سعد، وبين جماعة السيد حمود شنآن كبير، وصاح الصائح في العسكر، فاجتمعوا وكل واحد منهما جمع جموعه، وتزبروا وتحصنوا في البيوت والجبال، وتراموا بالبندق ليلتين بيوميهما على الشاخص والخيال، ولم يفقد من كل طائفة إلا رجل أو رجلاًن، ومات من الرعية شخصان خطأ من غير قصد، وكل ذلك مع فراغ الآجال.
فلما كان وقت الضحى وقع الصلح بينهم، ونادى المنادي بالأمان، فأمنت الناس واستبشروا وحمدوا ربهم وشكروا.
ثم إنه استمر الحال هكذا إلى اليوم الثاني والعشرين من الشهر المذكور، فجاءت البشري بالتحقيق بأن الأمر قد برز لمولانا الشريف سعد، فلما كان صبح يوم الجمعة سادس عشري رجب المذكور، دخل رسول مولانا السلطان محمد خان - نصره الله - وأيد به الإسلام - إلى مكة المشرفة حرسها الله تعالى بالبيت الحرام في موكب عظيم، ومعه خلعة نفيسة من مولانا السلطان ومصلاه الذي يصلى عليه ومكتوبان معه من هنالك بأن الأمر له من غير شريك ولا منازع في ذلك، فدخلوا بها من باب السلام إلى المسجد الحرام، فلبسها في الحضرة الشريفة تجاه بيت الله والمقام بحضرة الساعة الكرام والعلماء الأعلام، وجيوش الإسلام، ما بين خاص وعام.
ثم قرئ المرسوم السلطاني، وفيه غاية التعظيم والإجلال، ونشر محاسن لمولانا الشريف سعد أعزه الله بجاه جده الأمين، والوصية على الرعية والقيام بمصالحهم. وأمان الزوار والحجاج والمعتمرين، وهو مفند مستبين محرر، مؤيد بنص " إناً فتحنا لَكَ فَتحاً مُبينا ليغَفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَمَ مِن ذَنْبِكَ وَما تأخرَ " الفتح: 1، 2، ومع ذلك كان لفظه عذباً وجيزاً، مبشراً بنص " ويُتِمَ نِعمَتَهُ عليكَ وَيهديَكَ صِرَاطاً مستَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصراً عَزيزا " الفتح: 2، 3. ثم إنه توجه إلى البيت الشريف، ووقف بالباب والتزم بالملتزم والأعتاب، وذهب إلى دار السعادة وجلس للتهنئة مسروراً، وكان ذلك في الكتاب مسطوراً.
ونودي بالزينة سبع ليال، بعد أن كان الناس في حالة مخوفة في ذلك اليوم، فاطمأن البال، وكفى الله المؤمنين القتال.
ولما لبس الخلعة واستقر له الأمر وسرى عنه ما كان يجده من الكيد والقهر، وبدل الله العسر باليسر، وأيده بالنصر، مدحه الفضلاء بقصائد مجيدة، وأشعار بأمطار سماء الأفكار مجيدة.
وكنت ممن تشرف بالانتظام في صلك نظامهم النضير عوده، اللامع في أفق المعالي مزايا ممدوحهم وسعوده، فقلت من بحر الطويل من العروض المقبوضة والضرب التام والقافية من المتواتر قولي: من الطويل:
سقَى الغَيثُ ذَياكَ الأُبيرِقَ والسقطا ... فأنبَتَ في أرجائِهِ الرندَ والأرطا
وحَيَّا رُبا تلكَ المعاهدِ فاكتسَت ... رياضٌ لها من نسجِ إبرته بَسطا
معاهدُ لمياء البديد تعطرَت ... ومائِثُ ميثاها بما تسحَبُ المِرطا
لها بَشَر كالماءِ إذ قَلبها صفا ... وناظرُها كالسيفِ لكنه أسطَى
إذا ما دجا ليلٌ حكى ليلَ جَورها ... وإن لاحَ نجمُ الأفقِ سمنا به القرطا
رداحٌ إذا لاحَت فكالشمسِ أو رنَت ... فكالظَّبيِ أو ماسَت ترى الحل والربطا
أراشَت لأحشائِي رواشقَ مُقلَةِ ... ترَى نبلها يُصمِي الفؤادَ إذا أخطا
هيَ السحرُ إلا أنه سر خالقٍ ... عليه يصيرُ الحيرُ من رقها أوطا
لها سلكُ در ضمنَ خاتمِ عسجدِ ... طلى لعساً يا حسنَ ختمٍ حوى سِمطا
وجيد أعارَ الريم حسنَ التفاتِهِ ... فلا صَيد فيه لا تَراهُ ولا لعطا
ومهضمُ كشحٍ مخمص الغورِ رقةً ... له جَسَدِي من بعضِ أسقامِهِ أعطَى
كما قد أنالَ الجسم فَترَة جَفنها ... نحولاً فكافاها عَلَى وفقه المعطَى
رهينة خدرٍ يكسبُ الحلى ... حُسنها جمالاً ولولا ذاكَ للشَّيْن ما غطَّى
كأن قد براها الله حسناً كما تشا ... فيا طولَ ذاكَ الحسن في القامةِ الوسْطَى
سقاها ومرباها سُحُوح مِنَ الحيا ... ورَوَى على أكنافها الأثل والخمطا
فيا شَوْقَ أحشائِي للحظَةِ لَحْظها ... وإني بها إذْ قد نأتْ دارها شَحْطا
بلَى قد نأت عني ولا بَين بيننا ... وبُذلتُ مِنْ عين الرضا بالجفا سخْطا
كذلكَ أخلاقُ الغواني ومَنْ يرمْ ... بهن الوفا كالمبتغِي في الأضا قرْطا
ومَم لم يذُدْ ذَوْدَ التصابِي وسربه ... قصاراهُ فيه أن يذلق وينحَطَّا
ويمسي صريعَ العينِ لا ناصر له ... سوَى عَبْرة يَروِي تفجُّرُها سطَّا
نعَم لو نحا في كل أمرٍ يئودُهُ ... مليكَ الورَى سعد بن زيد لما شطَّا
مليكْ له من طينةِ المجْدِ جوهر ... به ازدانَتِ الدنيا وقدْماً هي الشمْطا
شريفُ العلا والذاتِ والوصْفِ منتم ... إلى خَيْرِ أصلٍ طابَ في قنسه ربْطا
مليك رقا في قنةِ المجدِ رتبَةً ... تجل سواها أن يقاسَ بها هبْطا
شريفْ أتيحَت فيه أسرارُ والِدٍ ... هو القطْبُ لا ريباً بذاكَ ولا غمطا
مليكُ بلادِ الله سعد العلا ومَنْ ... يشابه أباه في علاهُ فما أخْطا
طويلُ البنا رحْبُ القنا منهلُ الغنا ... مزيلُ العنا مولى المنا باللُّها سفْطا
عريضُ الجدا غوْثُ الندا موردُ الندا ... حمامُ العِدَى مردِي الردا للهُدَى فرطا
فيا ابنَ رسولِ الله وابْنَ وصيَّهِ ... ودرةَ عقْدٍ أنْتَ أنْتَ له وسْطا
لقد حطتَ أكنافَ الخلافةِ عزمةً ... وقمتَ بها حفظاً وشَيدتها ضبْطا
وأيدتها بالحزمِ والرأْيِ حينئذْ ... ثبَّت جناناً لا فزوعاً ولا قنْطا
فأنسيتَنا حزْناً ولم نَنْسَ من مضَى ... تغشَّت شآبيبُ الرضا رمْسَهُ همطا
أبى الله إلا أن تحل محلهُ ... بمرتبة عزت لغيرك أنْ تمطَى
فوافاكَ بالتأييدِ ما كان كامناً ... مِنَ الأَزَلِ العُلْوِي ينتظرُ الشرْطا
فما خط تقليداً على الطرسِ كاتبٌ ... ولكن قضاءُ الله من قبلِهِ خَطَّا
إذا أبرمَت في سابقِ العلْمِ لامرئٍ ... عنايته استغنَى العشيرة والرهْطا
ولكنني أرجُو منَ الله جمعَهُمْ ... على خيرِ حالٍ ما رجاه بمستبْطا
فطأ في العلا فالسعدُ وطأ لاسمِهِ ... أشار لذا بحْرُ الطويلِ رَوِيَّ الطَّا
إليكَ ابنَ خَيْرِ الناسِ عذراءَ مدحة ... غَذَتها القوافي لا سنادْ ولا إِيطا
أتاكَ بها فكرِي الكليلُ ومَهرُها ... قَبُولُكَها منُّي وحَسبي به إعْطا
سأملأُ ديواني بمدحِكَ مدحةً ... لشعرِيَّ كَي يستوجبَ الحمدَ والغبطا
فدُم وابقَ واسلَم لا برحتَ مؤيداً ... على العز مهما أنْ تحاوله تعطَى
ولا زلتَ محفوظَ الجنابِ عزيزَهُ ... رعاياكَ لا تخشَى اهتضاماً ولا قَنْطا
مدى الدهرِ ما طابَ القَرِيضُ بمدحِكُم ... فأخجَلَ مسكَ الختْمِ والند والقُسطا
ولما تم أمر الصلح بين الشريف سعد، وبين السيد حمود، واستقرت البلاد وأهلها لأن استقرارهم باستقراره، وتعبهم بتعبه وهو معهم كالرأس مع الجسد، وكالمضغة وهي القلب كما ورد. جاءه مولانا السيد حمود - رحمه الله تعالى - إلى بيته موافقاً له فيما يحبه ويهواه هو وأتباعه يهنونه ويباركون له فيما منحه الله وأعطاه، وصار يتردد إليه بكرة وعشية مظهراً له الود والصداقة مليناً له القول من غير تعب ولا حماقة، وكان في هذه المدة يطلبه ما كان وزيادة، ولم يخالفه مولانا الشريف في قول ولا فعل بل يجيبه إلى ما أراده أدام الله نعمه عليه وإمداده بحيث أن الرعية نسبت هذه الموافقة منه إلى أثر عمل من الأعمال من الحركات والسكنات، لكن إنما الأعمال بالنيات.
وفي هذه المدة كان بمكة المشرفة غلاء في الطعام كالحب ونحوه في شعبان ورمضان وشوال واشتد في آخر الوقت وعدم من الأسواق، ووصلت الكيلة الحب إلى خمسة عشر محلقاً والرز كذلك، وفي أول ذي القعدة حصل الفرج بدخول المراكب المصرية، وزال التعب عن المسلمين ببركة قدوم الحجاج الوافدين.
ثم إنه حصل تنافر بين مولانا الشريف سعد، والسيد حمود من جهة عدم الوفاء بالمعلوم الذي له مع ما في خاطره من التعب، فدعته الأنفة إلى الخروج لهذا السبب، فبرز يوم الأربعاء ثامن في القعدة الحرام من سنة سبع وسبعين وألف، وأقام بالزاهر مدة، وهو من الغيظ في أعظم شدة، فبرزت إليه لموادعته، واستغرقت اليوم أجمع في محادثته، فكان من جملة كلامه جواباً لقولي: لعل مولانا - حفظه الله - يتداركه الله بسعة فيها حصول المنا، فيكفيكم الله بسببها تعب الجلا والعنا: ما أرى، إلا أن بيت الشريف قتادة المستشهد به في سابق الزمان، قد قارب مصداقه في هذا الأوان، يشير إلى قوله: من الطويل:
مصارعَ آل المصطفى عُدتِّ مِثل ما ... بدأت ولكن صِرْتِ بين الأقاربِ
فقلت: الله يقمر بخير، ويكفيكم كل ضيم وضير.
ولم تزل الرسل بينهما تسعى في حسم مادة الشقاق، ولم يتفق الحال إلا على عدم الاتفاق. فتوجه إلى وادي مر وأقام بمن معه من السادة الأشراف والأتباع والعبيد، وسبورهم تصل إلى مكة أسفلها وأعلاها يدلجون بالليل إذا يغشى، ويصلون الشمس وضحاها، وأخذوا فرساً من مربطها لبعض خدام الشريف أسفل البلد، وذهبوا ولم يذهب إليهم أحد، كل ذلك استحثاث منهم للخروج إلى البراز والمنازلة، والظهور عن العمران التي لا تطول فيها تلاوة سورة المجادلة، والشريف سعد - حفظه الله - لم يستخفه الطيش، ولم ينفذ إليهم خاء خيل ولا جيم جيش.
وأقبل جماعة من الشام، ومن مدينة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فصدهم الخوف عن الدخول لما هم قاصدون إليه، ومكثوا أياماً بقرية من القرى، وحصل لهم من التعب ما لا مزيد عليه، حتى وصل إليهم الحاج المصري فدخلوا معه مكة مشرفة. ولم يزل الشريف سعد - متع الله بحياته - ولسان حاله يتلو في المبدأ والمعاد " وأفوِضُ أَمرِي إِلَى الله إِن اَللهَ بَصِير بِالعِبادِ " غافر: 44.
وأما مولانا السيد حمود - رحمه الله - : فإنه لما كان يوم السبت رابع ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة قدم على الحاج المصري، والأمير عليه أزبك بك، فركب إليه هو ومن معه من السادة الأشراف والأتباع والعبيد، فعقدت الأشراف من أنفسها طوقاً علي وطاق الأمير وعسكره، ولم يدخل إليه إلا ثلاثة أشخاص: مولانا السيد حمود، ومولانا السيد أحمد الحارث، ومولانا السيد بشير بن سليمان، فأنهوا إليه حالهم وعدم الوفاء من الشريف سعد فيما التزم لهم من معاليمهم ومجانيهم، وأننا أيها الأمير لا ندع أحداً يحج إلا إن أخذنا ما هو لنا وكان قدره مائة ألف أشرفي، فالتزم للسيد حمود أن ينقده الشريف قبل الصعود خمسين ألفاً منها.
فقبل مولانا السيد حمود التزامه، وخلي سبيله ومن معه.
فلما دخل الأمير مكة يوم خامس ذي الحجة الحرام، خرج إليه الشريف سعد إلى المختلع فلبس الخلعة المعتادة على العادة، ثم كلمه الأمير فيما التزمه للسيد حمود، ومن معه فصَدق التزامه، وأسلم خادم مولانا السيد حمود الخمسين الألف قبل الصعود من السيد إبراهيم بن محمد بإحالة من مولانا الشريف - حفظه الله تعالى - .
ثم لما دخل أمير الشامي في سابع ذي الحجة: توجه مولانا الشريف إليه كذلك، ولبس الخلعة المعتادة على العادة.
ثم في اليوم الثامن توجه إلى عرفة، وفي الثاني من أيام منى لبس الخلعة المعتادة، وفي اليوم الثالث نفر الناس إلى مكة المشرفة، وهم آمنون مستبشرون، وأما أهل مكة ومن حولهم من القرى، فلم يحج منهم في هذا العام إلا القليل؛ وكذلك الأعراب لما وقع بهم من التعب والكدر، والخوف والضرر، كل شيء بقضاء وقدَر.
ثم لما كان يوم الاثنين عشرين ذي الحجة الحرام وصل مكة مولانا السيد حمود، ومعه السيد عبد المعين بن ناصر بن عبد المنعم بن حسن، والسيد محمد بن أحمد ابن عبد الله بن حسن، والسيد بشير بن سليمان بن موسى بن بركات بن أبي نمي، والسيد مبارك ونافع ابنا السيد ناصر بن عبد المنعم في نحو تسعة أشخاص، ومن العبيد نحو خمسة وستين عبداً، وما ذاك إلا لأن أمير الحاج، وكبار العساكر قصدوا الصلح بينه وبين مولانا الشريف، وتردد الرسل بينهم وبينه يطلبونه لذلك، وألزموه بمحاضر من جماعة الأفندي الأعظم وصلوا إليه إلى وادي مر، فجاء وحضر عند مولانا الأفندي، وحضر الأمراء ووجوه أركان الدولة، وعماد أغا وأكابر العساكر، فأرسل مولانا الشريف سعد بلال أغا وكيلاً عنه في الخصومة والدعوى، فاغتاظ مولانا السيد حمود من ذلك، وأراد الفتك به في ذلك المجلس، فذهب مسرعاً فزعاً، فأرسل الشريف أخاه السيد محمد يحيى وكيلاً عنه، وتطالبا على يد الحاكم الشرعي، وطال المجلس، ولم يقع بينهما اتفاق، ثم ادعي عليه بما أخذ من طريق جدة من الأموال، فلم يثبت عليه وجه شرعي في ذلك، وطلب مولانا السيد حمود أن يتوجه إلى الديار المصرية، ويرفع أمره إلى الحضرة السلطانية فأذنوا له، واتفق الحال على ذلك.
ثم إنه لما توجه الحج الشامي وسائر الحجاج توجه معهم حتى وصل إلى بحر فتخلف عنهم وأقام فيها مدة.
ولما دخلت سنة ثمان وسبعين وألف، توجه مولانا السيد حمود من بدر إلى ينبع في شهر صفر منها، وأرسل ولده السيد المرحوم أبا القاسم بن حمود، وأرسل، مولانا السيد أحمد بن الحارث ولده السيد محمد بن أحمد، ومعهما السيد غالب بن زامل بن عبد الله بن حسن وجماعة من ذوي عنقاء السيد بشير، ومحمد وظافر بني واضح، والسيد محمد بن عنقاء وولده، وأرسل معهما قوداً هدية إلى باشا مصر المسمى عمر باشا نحو ستة أفراس منهن البغيلة والهدبا والكحيلة، فساروا إلى أن بلغوا الحوراء المنزلة المعروفة، فلاقاهم قاصد من إبراهيم باشا المتولي بعد صرف عمر باشا بمكاتيب متضمنة للأمر بالإصلاح، والاتفاق على نهج النجاح، فرجع السيد غالب بن زامل صحبة القاصد إلى مكة لينظر ما يتم عليه الحال، فتنقطع مادة القيل والقال، وتسقط كلفة الارتحال.
فأقام القود ومن معه بالحوراء نحواً من خمسة عشر يوماً ينتظرون الفرج بعد الشدة، فلم يصل إليهم خبر بعد هذه المدة، فلما لم يصلهم خبر ساروا إلى مصر فدخلوها ليلة عيد المولد، وقدموا مكاتيبهم والقود لإبراهيم باشا، فأكرمهم وأعظمهم وأضافهم واحترمهم، فاستمر الحال كذلك إلى شهر جمادى الآخرة، ولم يرجع ذلك القاصد من مكة إلى مصر، فأشيع بها أن السادة الأشراف قتلوه، فحصل الهرج والمرج، وجاءت الأكاذيب فوجاً بعد فوج، فأشار بعض الأشقياء عَلَى الباشا بإمساك السيدين أبا القاسم ومحمداً، فأمر بنقلهم من محلهم الأول وهو قايتباي إلى بيت يوسف بك.
وقد كان وصل السيد محمد يحيى إلى مكة أواخر سنة سبع وسبعين، وتقدم أنه هو الذي كان وكيلاً عن أخيه الشريف سعد في الدعوى على السيد حمود لما حضر بمجلس أفندي الشرع في موسم السنة المذكورة، فاستمر معه إلى عقب ذهاب الحج، ثم طلب من أخيه الشريف سعد أن يجعل له ربع محصول البلاد وينادي له فامتنع الشريف من ذلك، فغضب وبرز من مكة متوجهاً إلى السيد حمود وأقام بالزاهر مدة، ثم إن هذا الخبر بلغ مولانا السيد أحمد بن زيد وكان بالشرق، فجاء مسرعاً ولحقه قبل أن يتوجه وأرضاه بجملة من المال، فلم يرض إلا بالمشاركة بالربع وبالنداء في الحال، وتوجه ولحق بالسيد حمود واتفق معه، ولما لم يحصل اتفاق بين مولانا الشريف سعد، وبين مولانا السيد حمود بعد وصول القاصد للإصلاح، أرسل مولانا الشريف سعد إلى الديار المصرية، وإلى مولانا السلطان ذا خبرة بما جرى وما كان.
وكذلك أرسل مولانا السيد حمود - رحمه الله تعالى - وعرف وأقام كل منهما يعلل ويعسى ويتشوف.
وبرز مولانا الشريف سعد إلى الزاهر في موكب عظيم، وأقام ينتظر فرج المولى الكريم.
وكان بروزه يوم عشرين من ربيع الأول من سنة ثمان وسبعين.
وفيها - أعني سنة ثمان وسبعين - ظفر بالبلد المعروفة بالقنفذة برجل يتعاطى السكة خفية وهو ممن يتسمى بالقضاء، فيسمى القاضي عبد الواحد، فضرب ضرباً مبرحاً وحلقت لحيته وأتى به مكة مكتوفاً مجرحاً، ثم أطلق فذهب إلى الحجاز الأعلى، وكان أمر الله هو الأعلى.
ولنرجع إلى ذكر السيدين المذكورين فنقول: لما نقلا إلى بيت يوسف بك المذكور أقاموا عنده أياماً، ثم أمر الباشا إبراهيم بتجهيز تجريدة خمسمائة عليها السنجق يوسف بك المذكور فنقلوا بعد عزمه إلى بيت أغاة الأنكشارية، واحتفظ بهما احتفاظاً تعظم به البلية، ومنعوا الخارج والداخل، ولم يقرب منهما صديق ولا خل، وسارت التجريدة المذكورة وهي نحو ألف بالخدم وخمسمائة وأكثر، معهم الحجاج والتجار والخدام والأرقاء والأجراء، ولما كان يوم الأربعاء تاسع عشري جمادى الأولى من السنة المذكورة وصل الخبر بتجهيز مدد من العسكر نحو خمسمائة أو يزيدون، ومعهم مستلم جدة المعمورة، وعزل عماد أغا عن مشيخة الحرم رفيع القُنة، ولله الحمد والمنة.
وفيها وصل مولانا السيد سعيد بن شنبر بن الحسن من بيشة متوجهاً إلى مولانا السيد حمود وجماعته بالينبع، فوصل إليه وحضر معه الحرابة الآتي ذكرها، وكان آخراً وفاته بتلك البلدة، رحمه الله برحمته الواسعة، وغفر له مغفرة جامعة.
وفي هذه المدة أيضاً: وقع في طريق الطائف أن جماعة الحمارة المترددين بين مكة والطائف من طريق كرا بأموال الناس وأمتعتهم - نزل عليهم جمع من عرب الشرق، فأخذوهم وربطوهم وساقوهم وضربوهم وانتهبوهم، ثم ساروا بهم إلى قرب المبعوث، ثم أطلقوهم بعد يومين عرايا مسلبين مجرحين مضربين.
وفيها في السادس عشر من شهر رجب وصل المبشر من جدة يخبر بوصول رسول من الباشا معه خلعة ومرسوم.
وفي ليلة السابع عشر منه: رجع مولانا الشريف سعد إلى داره السعيدة، فلما كان الصباح، توجه العسكر بأجمعهم إلى ملاقاة رسول الباشا فدخلوا به في موكب عظيم إلى بيت مولانا الشريف ولبس الخلعة، وقرئ المرسوم بحضرة عسكر السلطان، السادة الأعيان، وفيه ما لا مزيد عليه من التعظيم والتمجيد، وحصل لمولانا به غاية السرور، وللرعية كمال الفرح والحبور.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشر رجب الفرد الحرام: وصل إلينا خبر من نحو الشام، حارت فيه العقول والأفهام، بواقعة ينبع وما جرى فيها من الأحكام، بتقدير الملك العلام، أن التجريدة التي جهزت من مصر أوقع بهم السيد حمود في جيش لهام، من أهل ينبع وجهينة وعنزة وخاص وعام، فأخذوهم عن آخرهم، وقتلوهم وسلبوا أموالهم وأسروهم ولم يسلم منهم إلا نحو المائة، وكان معهم مال جزيل فذهب شذر مذر بعد أن تفرق أصحابه شغر بغر، وأمسكوا كبيرهم السنجق يوسف بك، وكان من القتلى من السادة الأشراف خمسة أشخاص هم السيد شبير بن أحمد بن عبد الله، والسيد سرور بن حسين بن عبد الله، والسيد إلياس بن عبد المنعم بن حسن وشخص من ذوى عنقاء يسمى السيد زين العابدين بن ناصر، تغمدهم الله بالرحمة والرضوان، وأسكنهم أعلى فراديس الجنان: من الطويل:
وقَتلى أيادي الخيلِ بَين وجوهِهِم ... فخيرُ المنايا ما يكُونُ مِنَ القَتلِ
وانتهبت الأعراب الأجمال بالأحمال، ثم أمر مولانا السيد حمود بجمع حريم السنجق وحريم غيره في مخيم كبير، وأجرى عليهم المصروف والقوت، وقدر الله للسنجق في تلك الأرض أن يموت، وكان اللقاء يوم الأربعاء رابع عشر رجب من سنة ثمان وسبعين المذكورة.
وقد كان مولانا السيد حمود أرسل إلى العسكر قبل قدومهم عليه أن ليس لكم طريق علينا إن لم يكن السيد أبو القاسم والسيد محمد معكم، فأشار بعض كبار العسكر على يوسف بك المذكور بالعدول عن هذا الطريق، وسلوك طريق خالية عن التعويق، فأجابه السنجق بفساد رأيه ولم يمتثل، وكان أمر الله شيئاً قد فعل.
وزوار الرسول عليه الصلاة والسلام الذين خرجوا على النصف من رجب لما كانوا في الطريق، وهم ذاهبون بلغهم خبر العسكر وما وقع لهم، فاضطربوا وأشكل عليهم الأمر، وترددوا بين أن يرجعوا إلى مأمنهم أو يتوجهوا إلى مقصدهم، فردوا الأمر إلى سيد القافلة وكبيرها مولانا الشيخ عيسى بن محمد المغربي الثعالبي - وكان متوجهاً معهم - فأشار عليهم بالتوجه من طريق القاحة وهي معروفة، وكان سابقاً يسلكها الأولون، وفيها عمائر وآثار بناء وعيون إلا أنها هجرت الآن، فسلكوا بالأمان تلك الأنحاء، وتلقاهم شيخ العرب وسلطانها القائم بخدمة الحرمين منذ أزمان الشهاب أحمد بن رحمة بن مُضيان، وتوجه بهم إلى المدينة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فسلكوها آمنين، وخرجوا على النازية قريباً من الروحاء، ثم إنه خرج بهم وأوصلهم إلى حيث لاقاهم، ورجعوا سالمين أولاهم وأخراهم.
غير أن بعض الزوار لما وصلوا قرب المدينة قريباً من المحل المسمى مفرح تقدموا عن القافلة، وقد جرت العادة بذلك، فرحاً وشوقاً إلى ما هنالك، فنزل عليهم السراق فأخذوا ما معهم في تلك الفجاج، وحصل لهم جراحات وشجاج.
وأهل المدينة الشريفة لما بلغهم ما وقع للعسكر وقع عندهم الاضطراب الشديد، والتعب الذي ما عليه من مزيد، وانقطعت عنهم سبل الوارد، وغلا السعر في المقتات بل لم يجده واجد.
وأما أهل مصر: فلما وصل إليهم الخبر التهبت نيران الغضب في أحشائهم، فظهر منها بوجوههم الشرر، فقتلوا من ظفروا به من أتباع السيد أبي القاسم والسيد محمد، وتتبعوهم في الأماكن اللواتي استخفوا فيها، ونادوا في البلاد بالوعيد الشديد لمن ستر خبية أحد منهم تحذيراً وتنبيهاً، وأمر بالسيدين المذكورين إلى حبس الدم المسمى في عرفهم عرق خانة والأمر لله سبحانه، بعد أن طلب الباشا من العلماء الفتوى بجواز قتلهم فلم يفتوه، فأمر باعتقالهما لما كان والداهما وبنو عمهما اقترفوه، وأورثه ذلك غيظاً وقهراً، أنسياه كريمة " وَلا تزُر وازِرَةٌ وزرَ أُخْرَى " الاسراء: 15، فاستمر إلى أن عزل شيطان إبراهيم باشا عام ثمانين، ودخل مصر حسين باشا المعروف بابن جان بلاط متولياً لها، فما غفل عن شأنهما ولا لها، بل سأل عن سبب حبسهما والداعي إليه.
وكشف الله عن بصر بصيرته بما أفاض من نور الحق عليه، فأخبر بما وقع بالعسكر من أبويهما فقال: هل كان الواقع قبل وصولهما أو بعده؟ فقيل له: بعده بمدة.
فقال: لا ينسب شيء من ذلك إليهما، ولا يعد ذنب أولئك عليهما، وأمر بإخراجهما واستدناهما وأكرمهما، وأقام لهما المقرر كل يوم وشهر، وخيرهما بين الإقامة والعود إلى الدار والمقر، وأنزلهما في بيت نقيب الأشراف، ووالى عليهما الإنعام والألطاف.
فلما كان شهر رمضان سنة ثمانين، استدعاهما ذات ليلة النقيب إلى الإفطار عنده، وأعد من فاخر الأطعمة عمة، فذهب السيد أبو القاسم إليه مع جملة من الأحباب.
وأما السيد محمد فلم يذهب إليه، وكأنه توهم واستراب.
ثم لما كانت الليلة الثانية دعاهما أيضاً واستنكر عدم وصول السيد محمد إليه في الليلة الأولى، وكلف من الأطعمة ما أظهر به اليد الطولى، وردد الرسائل إليه تترى، مرة بعد أخرى: فقوي الريب عند السيد محمد وتمكن، وتحقق ظناً أن عمل الباطن مبطن، فامتنع واعتذر ببعض الأعذار.
وذهب إليه السيد أبو القاسم وكفى في التحرز سور الأقدار. ثم خرج السيد محمد على ركائب أعدت له في جماعة وهو شديد العزم والمُنة، حتى وصل إلى مكة ولله الحمد والمِئة.
وأما السيد المرحوم أبو القاسم ابن السيد حمود فاستمر إلى أن أتاه قضاء الله بالأجل المحتوم، ففاز بالشهادة من وجهين: الغربة والطاعون المشئوم، في شهر شوال سنة إحدى وثمانين وألف، رحمه الله برحمته، وآواه سوح جنته.
وفي هذا العام وقع من عسكر المدينة وعامتهم القيام على أفندي الشرع، لحال اقتضى القيام على ما زعموه، فرجموه أو كادوا أن يرجموه، ثم تعدوا فزادوا في العتو والطغيان، وانتهكوا حرمة سيد ولد عدنان، حتى أن بعضهم سحب السلاح في الحرم، ولم يرقب حرمة سيد الأمم، وكذلك هجموا على بيت نائبه الشريف وتكلموا عليه، ولم يراعوا من هو منتسب إليه.
وحصل أيضاً لأهل الطائف في هذا العام تعب وجوع وخوف حتى خشي كل منهم تلافه، واجتمعت عليهم الكلمات الثلاث: برد وجوع ومخافة، ووصلت كيلة الحب إلى خمسين محلقاً وغيرها قريب منها.
وفي شهر رجب المذكور من سنة ثمان وسبعين وألف: وقع بطريق الطائف بالقرية المعروفة بالسيل أن كانت أحمال متوجهة إلى الطائف مشتملة على أرز وسمن وتمر وبن وقماش، وغير ذلك تدخل في عشرين بعيراً نزل عليهم بعض الأعراب من عتيبة أهل البادية فلم يبقوا منهم باقية، وحصل بينهم وبين أهل السيل قتال، فقتل من أهل القرية واحد وحصل في باقيهم جراحات، وأخرب القوم البلاد، اللهم عليك بكل باغ ذي عناد.
وكذلك اجتمع طائفة من هذه الفئة الباغية، والعصبة الطاغية، وداروا في أطراف مكة ونواحيهْا يتخطفون الناس، ويؤذون المسلمين، فويل لهم من مالك يوم الدين.
وكذلك أهل مكة: كانوا في شدة وغلاء، وجهد وبلاء، طحنوا الفول والحمص وجعلوه خبزاً فلم يجز إلا بعض الإجزاء، وبلغ ثمن الإردب القمح أربعين ديناراً إلى خمسين بل عدم بالكلية، ووزن الخبز الذي يباع في السوق بمحلق جاء وزنه أوقية، وكل شيء خرج في ثمنه عن معتاده، ولكن لطف الله سار في عباده.
ومن ظن انفكاك لطفه عن قدره، فإنما ذاك لقصور نظره.
وفي يوم الأحد سادس رمضان منها اجتمع الرعية، وتوجهوا إلى مولانا الشريف. ورفعوا أصواتهم بين يديه، يشكون الناظر والمحتسب عليه، فأمر بإحضارهما وحكم بعزلهما وحبسهما لتواتر الخبر عنده بظلمهما وبأكلهما الرشا. وسبحان الله يفعل ما يشا.
وفي هذه المدة: وصلت قافلة من مدينة الرسول معهم مال جزيل، فلما كانوا بالقرية المسماة مستورة، أقبل عليهم أقوام فأخذوا جميع ما معهم، قيل: إنه يدخل في خمسين ألفاً والله أعلم.
وفي ثامن عشر رمضان المذكور، وصل إلى وادي مر وإلى جَدة ونواحيهما جملة من قبيلة عتيبة عرب الشرق أهل الفساد والطغيان في مائة مردوفة - وقيل: مائتين - فأخذوا ما وجدوا وانصرفوا، قابلهم الله بما اقترفوا.
فلما بلغ مولانا الشريف سعد خبرهم أرسل في طلبهم جمعاً من الأشراف والعسكر، عليهم اْخوه مولانا الشريف أحمد، فأخذ في أثرهم عدة ليال، وبلغ من الظفر بهم أعظم منال.
فلما كانت ليلة الثالث والعشرين من رمضان، وصل مكة مبشر من عنده بأنه ظفر بهم، وأخذهم وقتلهم وحصل منهم مال كبير، خذلهم الله تعالى وأذل منهم الكبير - والصغير.
وفي الليلة المذكورة أيضاً: جاء مبشر من جهة مصر بتوجه العسكر والمراكب بالطعام لأهل بلد الله الحرام.
وفيها أيضاً: ظهر عمود من نور نحو الغرب مهيل طويل، وغلظه كطوله غلظ أعظم النخيل وحصل به خوف ورعب للمسلمين، وهو من الآيات للمعتبرين.
وظهر في الليلة الثانية والثالثة، لكنه في الطول أكثر بحيث إنه امتد إلى ثلث السماء، ثم إنه صار يضعف نوره ويتقهقر إلى ليلة الثامن من شوال لم يظهر له نور بالكلية ولا أثر، والله أعلم بحقيقة ذلك وما يترتب عليه من المنافع والمضار. نسأله سبحانه اللطف فيما جرت به الأقدار.
وفي آخر الشهر: وصلت جلاب من اليمن وسواكن، ففرقت على أهل السوق وفرح بذلك الناس وتباشرت بنزول السعر.
وفي الاثنين: كانت السماء معلولة ولم يظهر الهلال، فلما كان وقت العشاء ثبتت الرؤية عند حاكم الشرع بشهادة جمع من عدول المسلمين وثبت الفطر، وتواتر الخبر بعد ذلك به. والحمد لله رب العالمين.
وفي ليلة ثالث شوال: تباشرت الناس بوصول المراكب، وتواجدت الحبوب في الأسواق، وكم لله على الناس من نعم على الإطلاق.
ثم عقب ذلك أن اشتد الأمر على المسلمين ورجع إلى ما كان عليه بحيث إن غالب الفقراء والضعفاء يكون الواحد منهم ماشياً فيطيح فيموت، ومنهم من يكون جالساً فتهفت روحه، وقد شوهد ذلك، وصار الفقراء يجتمعون في المذبح ويتلقون الدماء ليأكلوها.
وذكر أن بجة كانوا يدورون على الطعام في السوق فلا يجدونه، وأرسلوا إلى مكة يطلبونه، مع أن جدة مملوءة من الطعام، لكنه في أيدي التجار بل الفجار كما قاله سيد الأبرار للمحتكرين. اللهم عليك بهم وجميع المفسدين.
وأما أهل مكة المشرفة، فقد اجتمع عندهم في هذا العام من الأمم ما لا مزيد عليه، لأن الجدب والمحط عام في أرض الحجاز ونواحيها، وكل من اشتد به الحال صار يأتيها هارباً من بلده إلى بيت الله العتيق، يأتونه من كل فج عميق؛ وحلت الميتة والبسس والكلاب، بعد أن بيع ما يملك من أثاث البيت والثياب، وصار الفقراء يهجمون على البيوت، فتعب منهم الناس، وصاروا يغلقون الأبواب.
وفي هذا الشهر اتفق أن جارية لبعض الأعراب يعرفون بالمشارية دخلت يوماً بيتاً، فلم تجد فيه إلا امرأة عجوزاً وهي من جماعة عسكر مصر فخنقتها فقتلتها، ورآها بعض الجيران فدخلوا عليها وأمسكوها ودعوا ابن بنتها فجاء مع جماعة العسكر، فأخذوها وطلعوا بها إلى مولانا الشريف فلم يُثبتوا وحبسوها عندهم يومين. وفي اليوم الثالث عصبوا على قتلها فقتلوها يوم الجمعة رابع عشري شوال عند الششمة المعروفة بالبزابيز.
قلت: ويقال: إنها كانت صاحبة لابن بنتها وكانت المقتولة تنهاه عنها، وتحذره منها فظنت أنها بقتلها يخلو لها وجه صاحبها فكان هو القاتل لها والله أعلم أيا كان ذلك.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشري شوال المذكور: وصل خبر من جدة بوصول جماعة من العسكر الرتبة بحراً، وفي يوم الأربعاء: دخلوا مكة المشرفة، وأخبروا بخروج العسكر من مصر وهم يدخلون في ثلاثة آلاف، وبتجهيز المراكب لأهل الحرمين وللعسكر.
وفي ليلة الجمعة غرة ذي القعدة: كان حريق بأعلى مكة بالمعابدة. وفي الليلة الثانية: كان أيضاً حريق بشعب عامر بالقرب من ضريح والد سيدي أحمد البدوي نفعنا الله به.
وفي الليلة الثالثة: انقض نجم كبير مهيل نحو الشرق. وفي ليلة الخامس منه: احترق سوق المعلاة جميعه. وفي اليوم السابع: وصل مبشر بوصول مركب هندي بالقرب من جدة المعمورة، ووصل منه جماعة وفرح المسلمون.
ثم بعده بنحو يومين: دخل مركب من بنقالة وفيه خير كثير، وفي الأول هدية سنية، لمولانا الشريف ألهمه الله العدل في الرعية، وهذه من أعظم السعودات وأيمن الاتفاقات.
وفي يوم الثلاثاء ثاني ذي القعدة الحرام؛ برز عسكر الشريف لما بلغه تحرك السيد حمود لنهب ينبع، فجهز من مكة نحو المائتين عليهم بلال أغا ليقيموا بينبع البحر أرسلهم رتبة، فاتجهت هذه الرتبة بعسكر التجريدة بواسط ليلاً وردها معه مقدم التجريدة محمد جاوش إلى بدر، ثم أقبل بمن معه إلى مكة، وأقبل معه بلال أغا، وذهبت الرتبة إلى ينبع البحر فأقامت به إلى وصول مولانا الشريف سعد مع الحاج المصري وعسكر التجريدة.
وفي هذه المدة اشتد الحال على أهل مكة، حتى أن غالبهم باع حوائج بيته وثيابه ولم يبق له شيء، وصار يسأل الناس، ومنهم من باع أولاده، ومنهم من رمى بهم، واتفق لبعض أصحابنا - رحمه الله تعالى - أنه اشترى بنتاً من أبيها بحرفين.
وفي يوم الخميس خامس عشر الشهر المذكور: أصبح عماد أغا من جدة، بعد أن كان توجه بحراً إلى مصر ووصل الطور، ورجع لأمر من الأمور، والله أعلم بما تكن الصدور.
وفي سابع عشري الشهر المذكور: دخلت عشرة مراكب جدة بالسلامة، وهذه ممظم كرامة، وفيها العسكر والحجاج والطعام وجرايات أهل مكة وخير كثير، وذلك من لطف الله على الأنام.
وفي أول ذي الحجة الحرام: دخل حجاج البحر مكة المشرفة، ومعهم العسكر من جدة المعمورة، وحصل بدخولهم فرج كبير للمسلمين.
ودخل في اليوم الرابع منه الحاج المصري وصحبته خلعة من مولانا السلطان محمد خان وخلعة أخرى من الباشا كلاهما لمولانا الشريف سعد أطال الله بقاءه. وفي اليوم الخامس دخل المحمل المصري، وكان الحجاج في هذا العام قليلين، فخرج جمع يسير، وخرج قبلهم العسكر المعينون للتجريدة، فتلاقوا قبل ينبع بيومين أو ثلاثة ودخلوا سواء، وأقاموا فيها أياماً نحو خمسة أو ستة، وهم يكاتبون السيد حمود، ويعرفونه وهو يرسل الجواب والكلام الشديد، فحملوا عليه وأقبلوا فوجدوا الخيام قفراً والمزار بعيد، ثم إنهم عقدوا بينهم شورى، فاتفق الرأي أن بعضهم يقيم لحفظ البلد، والبعض الآخر يحج وهم الأكثرون، ثم إنه توجه العسكر ومعهم سنجقان والثالث محمد جاوش وهو رئيس العسكر وكبيرهم وشيخ الحرم وسنجق جدة المعمورة، فدخلوا مكة في موكب عظيم يوم سبع من ذي الحجة، وفي العسكر اثنا عشر كاشفاً تحت كل كاشف جماعة، ومعه نقارة مضروبة على رأسه كما هو عادة أهل مصر.
وفي اليوم الثامن: دخل الحاج الشامي واليماني والمدني، وفيه طلعوا إلى عرفات.
وأما أهل العراق وأهل نجد وأهل الحجاز وسائر العرب لم يحجوا لما حصل لهم من التعب والجوع، والخوف المذهب للهجوع.
وفي هذا العام: جاء الحجاج بدراهم محلقة فاسدة، مطيرة كاسدة، وأخربوا بها معاملة البلاد بحيث إن كل ثلاثة منها بدرهم من الجياد من حيث القدر والقيمة فصار كل يردها، فغلت الأسعار، وأمسك كل على ما عنده من الطعام، وهلكت الرعية، ووقعت الفتنة بين المسلمين بسببها، وبلغ ثمن الشريفي الأحمر إلى ثلاثة ونصف، وإلى أربعة إلا ربع والقرش بخمسة وسبعين.
قلت: هذا في تلك السنة، وأما اليوم فهو بسبعة حروف ونصف. انتهى.
وفي يوم الإثنين سادس عشر ذي الحجة: طلع محمد جاوش إلى المعلاة في موكب عظيم، ولبس خلعة جاءته من حضرة الباشا، وفي حال توجهه قتل ستة أشخاص من أتباع السيد حمود، وأتى بهم من ينبع مفرقين اثنان بالمسعى، واثنان بالمدعي واثنان عند باب المعلاة.
وفي يوم الخميس سادس عشري ذي الحجة الحرام: توجه الحاج المصري والعسكر ومولانا الشريف سعد أعزه الله إلى ينبع نحو السيد حمود، وأقام أخاه مولانا الشريف أحمد مقامه على مكة المشرفة، وكان يوم بروزهم شديد الحرارة وتحركت فيه السموم بالشوب، وهلك بسببه جمع كبير من الحجاج والدواب، وذلك بلا شك زيادة في الأجر والثواب، وكانت الوقفة في هذا العام بالإثنين، من غير شك ولا خلاف بين اثنين.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين، في يوم الثلاثاء غرة محرم الحرام منها خرج المحمل الشامي، ثم إن العسكر ومولانا الشريف لما توجهوا إلى ينبع، ضربوا شورى في أنهم يقيمون هناك، أو يتوجهون خلف السيد حمود، أو يرجعون إلى مصر، فاتفق الرأي أنهم يذهبون إلى مصر.
وأقام مولانا الشريف ومن معه من الجيش ومحمد جاوش، وأمسك مولانا شريف جماعة من المفسدين الذين كانوا في الحرابة قتلوا في عسكر السنجق يوسف والحجاج، وأخذوا أموالهم وغيرهم من العربان، وحبسهم في السجن، وكبلهم بالقيود والأغلال، وغرمهم ما نهبوه من تلك الأموال.
وفي يوم الإثنين سادس صفر من السنة المذكورة - أعني سنة تسع وسبعين - بزز مولانا الشريف أحمد أسبابه وعسكره إلى جهة المبعوث لإصلاح تلك الجهات والطرقات. أصلح الله شئونه في السكنات والحركات.
وفي يوم الأحد ثاني ربيع الآخر: وقع حريق وقت العصر كبير في شعب أجياد وراء جبل أبي قبيس وسلم الله المسلمين.
وفي رابع عشر من جمادى الأولى: ورد علينا خبر من الشام بوصول خلعة من، الباشا لمولانا الشريف سعد - أسعده الله تعالى وأسبغ عليه نعمه ووالى - وأنه لبسها يوم أربع منه ومعها مكتوب بتفويض أمر الحرمين الشريفين ونواحيهما إليه من غير شريك.
ثم إنه أمر بقتل أربعة من المفسدين، وبهدم السور الذي يتحصنون فيه فهدموه حجراً حجراً بأيديهم، وكذلك أمربإقامة الجماعة والجمعة بناديهم.
وفي هذا الشهر: تواتر الخبر من جهة أرض اليمن باشتداد الجدب والقحط فيها كالقنفدة وصبيا والتهائم ونواحيها، وفي بعض الأيام بالقنفدة وجدوا في دار امرأة حجامة رجلين مقتولين، أححدهما مأكول، والآخر شرعت في أكله، وأعضاء أطفال منها طرى ومنها يابس، فأمسكت وغرقت في البحر، وقيل: وضعت على الجزيرة التي أمام القنفدة وسط البحر ففقدت صبيحة ليلة الوضع.
وأما أهل الطائف فلحقوا شدة عظيمة، بلغت الكيلة الحماط ثلاثين محلق غير موجودة فما بالك بغيرها، وما صار أحد يخبز عيشه في الفرن؛ لأنهم يخطفونه من شدة الجوع، ويهربون، بل يخبزونه في البيوت ويستترون، هذا بالنسبة إلى من له قدرة، نسأل الله أن يمن علينا بنظرة.
أما الفقير فما أكله غير الجلود والعظام، والدماء الميتة، ولم يجسر أحد يمشي وحده، إن أحوجه الأمر إلى الخروج تسلح وقرأ حزبه وورده.
وكذلك أهل الحجاز الأعلى هربوا من بلادهم وتركوها، وغالب أهل القرى والبادية جاءوا إلى مكة هاربين وإلى رب البيت ملتجئين وخاضعين، وهم يصيحون: الجوع الجوع ويتضرعون، وفي الطرقات يتصرعون.
وفي يوم عشرين من هذا الشهر: أمر نائب الشريف مولانا المرحوم السيد بشير ابن سليمان على مكة؛ لأنه أنابه مولانا الشريف أحمد عند خروجه إلى جهة المبعوث أمر بشنق رجل من الأعراب، فشنق عند الششمة المعروفة بالبزابيز، والسبب في ذلك أنه هو ورجل آخر قتلا رجلاً من أبناء الطواف في طريق جحة، ومثلا به وأخذا ما معه، فأمسك أحدهما وهرب الآخر.
وفي أول هذا الشهر: أخبر الثقة عن جماعة ثقات أنهم وجدوا في يوم من الأيام حيواناً يشبه الضبع بأعلى مكة نحو المنحنى فقدم على حمار، فرآه بعض الناس، فاجتمعوا عليه وذهبوا خلفه، فدخل بعض البيوت ووجد امرأة فجرحها، فدخلوا عليه وقتلوه، ولم يعرفوا ما هو فسموه الغول.
وفي يوم الأحد ثامن عشري الشهر المذكور: كسفت الشمس بعد اصفرار من غير سواد نحو ساعتين.
ولما كان أول جمادى الأخرى اشتد البلاء بالمسلمين، والفقراء والمساكين، فعند ذلك قذف الله تعالى في قلوب بعض عباده الرحمة والشفقة، فاجتمعوا على أمر هو أنهم يجعلون شيئاً من حطام على أهل القدرة والطاقة، ليكون لهم ذخيرة عند الله يوم الحسرة والفاقة، وهم ثلاثة منهم الاثنان العالمان العاملان: مولانا الشيخ عيسى ابن محمد المغربي الثعالبي الجعفري، ومولانا الشيخ محمد بن سليمان، والثالث قطب الوجود والزمان، ذو السر والبرهان، الولي الصالح، صاحب القول الراجح، مولانا السيد عبد الرحمن المغربي الشهير بالمحجوب.
ثم إنه انتدب لخدمة الفقراء، والقيام بمصالحهم بعض الإخوان من أهل الخير والصلاح، ونادى مناديهم بلسان الحال: يا عباد الله، حي على الفلاح، فابتدروا وتقدموا إلى حضرة مولانا القائم مقام، وهو السيد بشير بن سليمان، فأجابهم بالتحية والإكرام، وأعطاهم ما قدر عليه طمعاً في دار السلام.
ثم توجهوا إلى كبراء البلاد، فأعطي كل بقدر ما قسمه الله وأراد. وكتب مولانا الشيخ إلى مولانا الشريف سعد، وكتب أيضاً إلى أخيه مولانا الشريف أحمد فأجابا، وأمرا خدامهما وأتباعهما بشيء من البر مقداره عظيم؛ ليكون لهما ذخيرة عند رب العالمين، إذ هو صلة للفقراء والمساكين.
فلما اجتمع من الدراهم والطعام ما فيه البركة رأوا أن يجعلوه دشيشة مع دشيشة السلطان مرتين أول النهار واَخره على الدوام والقدر الذي يطبخ في الوقتين أربعة أرادب وشيء.
وكان فتحها في خامس جمادى الأخرى من سنة التسع والسبعين، فحصل بها نفع كبير للمسكين والفقير. فجزى الله المتصدقين، والعاملين عليها، والقائمين بها أفضل الجزاء، ورضى عنهم أحسن الرضا.
وفي يوم الخميس ثامن رجب من السنة المذكورة: ورد خبر وفاة المرحوم مولانا السيد أحمد بن السيد علي بن باز بن حسن من اليمن رحمه الله رحمة واسعة.
وفي ليلة سابع عشر رمضان، حصلت رحمة من السماء علينا، وعلى أطراف مكة، فحصل بها فرج كبير، وسرور للمسلمين كثير.
وفي ثالث شوال: وجدت بنت مراهق مقتولة في بعض الأزقة قريباً من سوق العطارين، والسبب في ذلك أن عليها بعض حلي فقتلها قاتلها لذلك.
وفي اليوم الرابع: انتقلت امرأة ودفنت، ثم أصبح أولادها يزورونها، وكان يوم جمعة فوجدوا قبرها منبوشاً، وإذا كفنها قد سرق فخافوا وتشوشوا تشوشاً شديداً، فتركوها وجاءوا يسألون عن الحكم الشرعي هل تكفن ثانياً أم لا، فأجيبوا بما ذكره علماء الأعلام أن الميت إذا سرق كفنه يكفن ثانياً ما لم يتفسخ، ويتفرق اللحم عن مظام.
ووقع من بعض السوقة المفسدين أنه تكلم مع الدولة في مظلمة يحدثها على المسلمين. وجعل على نفسه شيئاً من الدراهم ليأخذها من إخوانه المؤمنين، ويتقرب بها إلى الجحيم، ويتباعد عن جنة النعيم، فبلغ ذلك حاكم الشريف القائد أحمد بن جوهر كان الله له في عونه، فضربه حتى بلغ به الهلاك ثم حبسه فشفع فيه فأخرج محمولاً إلى بيته، وشاع أمره وظهر، وأقام ثلاثة أيام وفي الرابع أخذه القضاء والقدر.
وفي يوم الإثنين حادي عشري ذي القعدة بعد طلوع الشمس بساعتين: وقع أمر مهيل، هو أنه ظهر من عين الشمس، أو بالقرب منها ضوء هائل كالنجم، ثم إنه استطال، وامتد إلى جهة المغرب، وحصل لمن رآه حال بدئه غشاوة على بصره، وارتعدت فرائصه، وانزعجت منه القلوب، وهو مشتمل على زرقة وصفرة وحمرة، ثم إنه ذهب طرفاه، وبقى الوسط، واتسع في العرض فخرج منه صوت كالرعد، ولم يكن في السماء غيم ولا سحاب، وظن بعض الناس أنه صوت مدفع، واستمر ساعة، وفيه عبرة لأولى الألباب، ثم اضمحل الباقي من ذلك الشعاع إلى سحاب. ثم إن الناس كثر كلامهم في ذلك، وقالوا: لا بد لهذا من شأن عظيم، حيث إنهم لم يروا مثل ذلك، ولم يسمعوا بمثله في الزمن القديم.
وحكى بعض الناس أنه ذكر هذه الحادثة في جمع، وتحدث بها، وإنهم قالوا لم يشاهد مثلها في ماضي الزمان، وكان فيهم رجل أكبر منهم سناً فقال: أنا شاهدت مثل ذلك وأعظم منه، كنت في الخيف فوق الصفراء متوجهاً إلى المدينة الشريفة، ومعي جماعة فسرنا بعد شد الأحمال إلى الروحاء، فلما كنا بملاوي الخيف، وكان الوقت بعد المغرب فإذا السماء انفرجت، وخرج منها ضوء ساطع ملأ الوادي، وتساقط منه شهب حتى أيقنا بالهلاك في تلك البوادي، واستغثنا بالرسول وتشهدنا، وتشفعنا بمن نحوه قصدنا، ثم ذهب واضمحل، وبقى شيء من الضوء في ذلك المحل، فخرج منه صوت مهيل كالرعد فظننا أن الجبال تساقطت فاستغثنا وتشهدنا كذلك، ثم ذهب واضمحل، فسرنا سريعة فإذا هو قد وقع مرة ثانية، وكنا كلما وصلنا قرية نسأل أهلها عما رأينا فيقولون: رأينا ما رأيتم وشاهدناه، وكان عاماً في سائر الأقطار، فسبحان الله الفاعل المختار.
ثم سألناه عن مدة هذه الواقعة فقال: لها الآن ست وعشرون سنة بهذه السنة. فقلنا له: كيف كان عاقبتها؟ فقال: لم نر إلا الخير والسلامة ولله الحمد والمنة. انتهى.
وفي هذا اليوم بعينه وهو الحادي والعشرون من شهر ذي القعدة الحرام من سنة تسع وسبعين وألف: بني الشيخ العلامة العامل العارف الكامل مولانا الشيخ محمد ابن سليمان المغربي في صحن المسجد الحرام بعض أحجار ليضع فوقها حجراً كبيراً مكتوب فيه شاخصان من حديد يستفاد منه بالظل ما مضى وما بقى من النهار بالتماس جماعة من المسلمين، وليكون نفعه عاماً للأمة أجمعين.
فعند ذلك قال جماعة من الجهلة ممن لا خلاق لهم: إن هذه الحادثة التي وقعت في السماء بسبب هذه الواقعة التي في الأرض؛ لأنهما كانتا في يوم واحد في ساعة واحدة، فكان الناس في شأنها حيارى.
وقال بعضهم: إن هذه صومعة النصارى. وكثر منهم القال والقيل، فاستعان بالله تعالى عليهم وتلا " حَسبُناً الله وَنِعْمَ اَلْوَكِيلُ " آل عمران: 173، فرفع الأمر إلى سيد الجميع مولانا الشريف سعد - لا زال من المسعدين - فأمر بوضعها على رغم آناف المعتدين، وذلك قبل وضع الحجر الذي فيه الكتابة، فجاء إليه المعلم ليضعه فوق سطح ذلك البناء، فجاء رسول من حاكم الشرع الشريف ومنعه، فتوجه إليه المعلم فقال له: لا تفعل حتى نكتب في ذلك سؤالا إلى المفتى، فكتب فأجاب: إنه إذا كانت فيه مصلحة أو منفعة جاز وضعه باتفاق علماء الإسلام. وهذا القول من الحاكم الشرعي إنما هو بوسوسة بعض الحسدة اللئام.
ونظير هذا الحجر موجود في مسجد النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي غيره من المساجد الكرام.
ثم إنهم كتبوا له مكتوباً، وفيه كلام لا يليق بالمقام، فتعب الشيخ من ذلك وطلب من الحاكم الشرعي أن يجمع بينه، وبين خصمه فلم يفعل، وجاء إلى بيت الشيخ، واعتذر وأمر بوضع الحجر، فوضع في اليوم الثاني واستمر.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشري ذي القعدة: دخل مولانا الشريف سعد مكة المشرفة فحل بها السعود في موكب عظيم خفقت به البنود، ودعا له المسلمون بالنصر والظفر والتأييد - حفظه الله تعالى.
وفي يوم السبت سادس عشري الشهر المذكور: دخل جدة مركب من الشام، وغراب به مستلم جده، وصحبته مكاتيب مضمونها عزل القاضي، ونائب المسجد الحرام.
وفي ليلة الأحد سابع عشري الشهر المذكور: دخل مكة مولانا الشريف أحمد ابن الشريف زيد في موكب عظيم هو به حقيق، وكان في جهة الشرق.
ودخل شهر ذي الحجة الحرام اختتام سنة تسع وسبعين، كان أوله بالخميس، فلما كان يوم الرابع منه: وصل رسول من المدينة الشريفة يخبر بأن صحبة الحاج الشامي رجلاً عظيم الشأن، يسمى: حسن باشا بيده أوامر من مولانا السلطان يحكم في الحرمين الشريفين، ويتبصر فيهما نيابة عن خليفة الزمان.
فلما كان قرب المدينة الشريفة برزت له عساكرها وكبراؤها فتلقوه بالقبول، فدخل في موكب عظيم، وتوجه إلى حضرة الرسول.
والسبب الداعي إلى وصول هذا الرجل أن أهل المدينة أرسلوا جماعة منهم، ومعهم مكاتيب إلى الحضرة العليةِ، يرفعون إليه من مولانا الشريف سعد وأتباعه فيها الشكية، فأرسل هذا الرجل ليجري الحق إلى معالمه، وينصف المظلوم من ظالمه.
فلما استقر بالمدينة البهية بالمدرسة القايتبائية اجتمع إليه أهل المدينة، وشكوا إليه الجور والشطط والحال الفظيع، والأمر الفرط، وسلطوه على جماعة من أعيان البلد ممن ينتمون إلى الشريف سعد في القدر الخطير، فأحضروا في حالة شنيعة من الإهانة والصفح والسحب، وأنواع التعزير، ثم وضعوا في السجن بعد أن كبلوا بالحديد، وكان لهم عنده بالقتل تهديد.
ومنع الخطيب من ذكر مولانا الشريف سعد بالدعاء على المنبر، وأذاع عليه في بلد جده هذا المنكر.
فلما بلغ ذلك مولانا الشريف تعب من هذا الفعل، وأخذ منه الحذر، وفوض أمره إلى من بيده القضاء والقدر.
ولما برز من المدينهْ متوجهاً إلى البيت العتيق صار مناديه ينادي في الطريق.
وفي اليوم السادس: دخل الحاج المصري مكة ولبس مولانا خلعته المعتادة من قديم الزمان، ودخل في اليوم الذي قبله الحجاج بأمان. وفي اليوم السادس أيضاً دخل الحاج الشامي، ثم بعد الظهر بين الصلاتين دخل الباشا حسن المذكور في موكب عظيم بالآلاى والطبول والزمور، وهو راكب في تخته، إلى أن وصل إلى باب السلام، فنزل ودخل المسجد الحرام.
وفي اليوم السابع، دخل المحمل الشامي، ولبس مولانا خلعته المعتادة بعد أن خرج في ذلك الموكب السامي، وكان في العادة أن يقسم بعض الصدقات لأهالي مكة قبل الصعود فبها ينتفعون، ومنها يحجون، فمنع من ذلك، فلزم عن منعه لقعود، وتلوا " إِنا للهِ وإنا إليهِ رَاجِعوُنَ " البقرة: 156. وكذلك مولانا الشريف تعب من أحواله السابقة، وقال: لا أحج في هذا العام إن لم يظهر ما بيده من الأوامر فننظرها كاذبة أم صادقة، وأرسل بذلك إليه وإلى الأمراء، وشدد في الكلام، ووقع في البلاد اضطراب وانزعاج، وعزلت الأسواق، وغلقت الأبواب، وخلت الطرق والفجاج، وجمع مولانا الشريف جيشه، وقام على قدميه، وشمر ولسان الحال ينطق: الله أكبر الله أكبر.
ثم إن الأمراء، وكبار العساكر، وأركان الدولة أتوا إلى مولانا الشريف، وقبلوا يديه، وخضعوا رؤوسهم وأنصتوا لديه، وقالوا: أنت الأصل، وإن لم تحج فإن الأمة لا يحجون، والتزموا له بالعهود والمواثيق أنه لا يقع خلاف، وكل ما تريده يكون، فعند ذلك نادى مناديه في البلاد بالأمان والاطمئنان، وأن الناس يحجون آمنين من السوء والعدوان. وأما أهل المدينة فتركوا الحج؛ خوفاً على أنفسهم من جريرة ما فعلوه من الآثام والأوزار. وأما الأعراب وأهل البوادي فمنهم من ترك الحج لخوف الطريق الموجب للإضرار، ومنهم من توجه للحج فبلغهم في أثناء طريق وصول الباشا، ومن معه وما معه من الأخبار، فرجعوا إلى أهاليهم.
ثم إن مولانا الشريف صعد إلى عرفات، ولم يحصل شيء من المخالفات، وكانت الوقفة بالجمعة. وفي هذا الشهر: لم يقع بين مولانا الشريف وبين حسن باشا اتفاق إلا أنه أوصل الفقراء حقوقهم، وكل يوم يحضرون بين يديه مع الإهانة من عسكره، فمن الناس من يدعو له وأكثرهم يدعون عليه.
ثم دخلت سنة ثمانين وألف، كان هلالها بالسبت. فلما كان اليوم الثاني منه سعى جماعة بينهما بالصلح، منهم أمير المحمل الشامي الأمير عساف ابن الأمير محمد فروخ، وكان الاجتماع بينهم بعد العصر من اليوم المذكور بالمسجد الحرام خلف مقام الحنفي بحضرة الخاص والعام، ثم تفرقا ورجع كل منهما إلى بيته بالحبور، وأرسل كل منهما نوبته إلى بيت الآخر فدقت الطبول والزمور، وكانت ساعة مباركة سر بها الكبار والصغار، فيها إشعار بحصول الوفاق، وصفاء الأكدار، وأرسل كل منهما هدية سنية، والله أعلم بما اشتملت منهما النية.
وفي اليوم الثامن من محرم افتتاح سنة ثمانين وألف، توجه بعد العصر مولانا الثريف سعد، وأخوه مولانا الشريف أحمد إلى حضرة الباشا حسن، فاقابلهما بالتحية والإكرام. وجلسا عنده ساعة في أنس وصفاء وتعطف في الكلام، فلما أرادا القيام ألبس كلا منهماً ثوباً نفيساً يليق بهما، وقام لهما ومشى على الأقدام، وخرجا من عنده إلى البيت السعيد، وقبلا الحجر الأسود السعيد، وسألا من فضل الله المزيد.
وفي اليوم العاشر من الشهر المذكور أراد الباشا السفر إلى جدة المعمورة، فلما كان بعد العصر، توجه إلى حضرة مولانا الشريف سعد - حفظه الله تعالى - بالقرآن العظيم، ومكث عنده ساعة من الزمان، ولم يذق عنده شيئاً زعم أنه صائم طلباً للغفران.
ثم إن مولانا الشريف أمر بتقديم فرس مسرجة محلآة تساوي ستمائة دينار، اللهم ألف بين قلوب عبادك كما ألفت بين الثلج والنار. ثم إنه لما نزل إلى جدة حكم وتكبر وطغى وتجبر.
وفي يوم الخميس ثالث ربيع أول من السنة المذكورة: نهب عسكر الشريف السوق وأخذوا منه ما وجدوه من عيش وتمر ولحم وسمن، وأفسحوا في تلك الأفنية، وطلعوا إلى قهوة النخل، وزعموا أن فعلهم إنما هو للحاجة الملجئة من تأخر الجامكية الشريفية، وأقاموا بها تلك الليلة ويومها على تلك العصبية.
ثم نزلوا إلى أسفل مكة وأرادوا التوجه إلى نحو اليمن، فتوجه إليهم ابن الشريف زيد مولانا السيد حسن، وصحبته الشيخ أبو بكر العرابي، وشيخ العسكر، والتزموا لهم ما أرادوا، فرجعوا إلى البلد فأعطوهم ما كان لهم وزادوا.
وفي ليلة الخامس من شهر ربيع الأول من سنة ثمانين وألف: دخل مكة مولانا المرحوم السيد محمد يحى ابن المرحوم الشريف زيد أسكنهما الله في الجنان القصور، وحصل بدخوله الهناء والسرور.
فلما أصبح الصبح تكلم العسكر الذين هم بمكة مقيمون، في دخوله البلد وهو من الجماعة الذين هم الناهبون القاتلون. فأجابهم مولانا الشريف بأن عنده مكتوباً من حضرة الباشا بأنه يصطلح مع بني عمه، فأخرجه لهم، وقرأه عليهم، وسجله عند قاضي المسلمين، فسكتوا ورجعوا.
وفي ليلة الخميس عاشر الشهر ثالث عشر ربيع الآخر: قتل بعض الأتراك زوجته خنقاً طمعاً في مالها، واعتصب له جماعة، وطلبوا البينة عليه فلم تقم، فخلي سبيله.
وفي اليوم الخامس عشر منه، قتل عبد أسود عتيق لبعض العرب رجلاً من جماعته كذلك لدنياه، وذلك عند بئر طوى، فبئس ما نوى.
وأمسك فأقر فشنق في اليوم الثاني في مشنق محمود الأعور.
وفي هذا الشهر أو الذي قبله نفى مولانا الشريف رجلين إلى بلدة بيشة أحدهما من أولاد مكة والآخر من أشراف الأزبك المجاورين، انتقل هذا إلى رحمة الله مولاه، وبقي الآخر إذ أبقاه الله.
وفي يوم الجمعة خامس عشر الشهر المذكور، وقع بين عسكر الشريف شنآن، وافترقوا فرقتين، وتقاتلوا ساعتين، وحصل فيهم جراحات، وأسفرت عن سلامات، وكان آغاتهم قد طلع إلى المعلاة لزيارة قبر مولاه، فأرسلوا له رسولاً، ونزل إليهم قبل حضوره مولانا الشريف أحمد بن زيد - حفظه الله - ففرق جمعهم وأطفأ، نارهم، وألف بينهم، وقبل أعذارهم.
وفي هذا الشهر: توجه مولانا السيد محمد بن زيد إلى قبيلة بني سعد في جمع سير، وهم في منعة وشاهق خطير، وأراد قتالهم لخروجهم عن الطاعة، وأظهر كل منهم تمرده وامتناعه. فأرسل وعرف أخاه مولانا الشريف سعد، فجمع جمعاً وأمرهم بالمسير إليه والذهاب.
فبينما هم كذلك إذ وصل الخبر إليه بأنه وقع الصلح على المال لتسلم الرقاب، ودخل جمادى الأخرى وكان بالأحد. وفي اليوم الثالث منه آخر النهار انتقل الأخ الأعز المرحوم شهاب الدين القاضي أحمد ابن القاضي مرشد المرشدي الحنفي العمري - رحمه الله تعالى - .
وفي يوم الجمعة سادس الشهر، ضرب سردار العسكر ناظر السوق وأهانه، ومكث الناظر المذكور أياماً لا يخرج من بيته بسبب جرح رجله من الضرب، وسببه طلب السردار من الناظر أن يزيد له في السعر ليبيع هو وجماعته ما عندهم من الطعام المحتكر، فمنع من الزيادة، فحقد عليه لذلك، وتسبب له بسبب من الأسباب، حتى بلغ من ضربه ما يقابل به يوم الحساب.
وأما حسن باشا لما وصل جدة دخل بيته، وأغلق بابه، وأجلس أعوانه وحجابه، وجعل حاكماً يحكم على المسلمين حكم الظالمين.
فمن جملة حكم ذلك الحاكم على ما قيل أنه جعل على كل ميت شيئاً كما فعل فرعون فيمن قبله من الأولين، وتفرق جنده في البلاد إذ تأمروها، وكثر أذاهم فيها وما عمروها، بحيث إنهم يدخلون السوق، ويأخذون الطعام وغيره قهراً من غير رضاً، وإذا توجه المظلوم إلى الباشا لم يقدر عليه، ولا هناك أحد يلتجأ إليه، وإن رفعوا الأمر إلى حاكمه ضربهم، وأمر بحبسهم، ولم ينقض لهم أرب، ومع ذلك ليس قوله إلا؛ برى جدي، بري زيدى عرب، فمن الناس من أمسك بيته، ومنهم من فر وهرب، ومنهم من رفع هذا إلى مولاه فارج الكرب، ليكشف هذه المحنة، ويهلك من كان السبب.
وفي يوم الثلاثاء ثاني رجب الحرام، دخل سلطان من سلاطين الأعجام، وقد كان أرسل له مولانا الشريف سعد إلى جمة رسله يهنونه بالسلامة، ويبلغونه التحية والكرامة، وصحبتهم خمس أو ست من التخوت، وتوجه إليه مفتي الإسلام، والخطيب ببلد الله الحرام القاضي إمام الدين ابن القاضي أحمد المرشدي، ولاقاه من نحو مرحلة، وقابله بالتحية والإكرام، وجاء معه ودخل به المسجد الحرام من باب السلام.
وأرسل مولانا الشريف إليه هدية سنية، وأنزله في بيت من بيوت آبائه الأسلاف الزكية. ثم بعد ذلك أرسل السلطان المذكور لحضرة مولانا الشريف مقابلا لما أهداه له من الإنعام مالاً جزيلاً من الذهب والفضة، وكذلك جاء من سلطان الهند مال عظيم في هذه الأيام، فذهب الضيق والتعب من القلوب والأجسام.
وفي يوم الأربعاء رابع عشري رجب المذكور: انتقل بالوفاة إلى رحمة مولاه مولانا وسيدنا ومأوانا وسندنا شيخنا شيخ الإسلام والمسلمين، خاتمة الأئمة المحققين، خادم حديث سيد المرسلين، الجامع بين الأصول والفروع، الحافظ لكل متن ومجموع، الحائز فضيلتي العلم والنسب، الحائز طرفي الكمال الغريزي والمكتسب، رئيس العلوم العبقري، جار الله أبو مهدي عيسى بن محمد بن محمد الثعالبي الجعفري، الهاشمي نسباً، المالكي مذهباً، المغربي منشأً ومولداً الحرمي وطناً ومحتداً. إمام الحرمين الشريفين، وعلم المغربين والمشرقين. جامع أشتات العلوم النقلية، ومبرز خفايا لطائف الآراء العقلية، محمي رسوم الرواية بعد ما عفت آثارها، ومشيد مبانيها بعد ما انهار منارها، وسالك مسالك أئمة السلوك، ومالك ملاك أمره في مجانبة كل مليك ومملوك. ولد ببلده ونشأ بها على اشتغال عظيم بالعلوم النافعة. وأخذ عن عدة مشايخ في علوم عديدة.
قلت: هو شيخي الذي تخرجت به في عدة من الفنون إتقاناً، عقائداً وأصولاً ونحواً وصرفاً ومنطقاً وبياناً. تغمده الله برضوانه، وأحله فسيح جنانه. آمين.
وفي اليوم السابع والعشرين من رجب المذكور آخر النهار وقع بين عسكر المدينة، وبين العرب قتال زاغت فيه الأبصار، وكان من العصر إلى وقت الاصفرار.
فلما أقبل الليل وأدبر النهار، تفرق الجمعان، وبات عسكر المدينة في غاية التنبه والاحتدار، طول ليلهم بالبندق إلى وقت الأسحار.
وكان القتلى من العرب نحو خمسة عشر رجلاً. فلما أصبح الصباح، ونادى منادي الفلاح، حفروا لهم حفرة نحو السبيل، ودفنوهم بها، وقتل من أهل المدينة حران وعبدان. بذلك تواتر الخبر عن غير واحد من الإخوان.
وهؤلاء العرب من قبيلة تعرف بحرب، ولم نعلم حرب هذا جدهم لمن ينسب، الى أي جيل يحسب. وهم جمع كبير يشتمل على قريب من خمسين فخذاً كل فخذ يشتمل على جماعة لهم جد خاص، وعليهم الدرك في حفظ الطريق من عسفان إلى المدينة الشريفة.
والشيخ الذي جماعهم عليه وانتماؤهم إليه كان يسمى أحمد بن رحمة، أفاض الله عليه الرحمة.
ولما أقبل الليل منعهم شيخهم المذكور عن القتال، وردهم إلى المحل المسمى بذي الحليفة شرعاً، وبأبيار علي عرفاً. ثم أرسل له كبير المدينة الشريفة بالطلب والأمان، فتوجه إليهم، ومعه جمع من العربان، فجعل الفريقان يختصمان، ويدعي كل منهما على الآخر بالبدء بالعدوان، على يد الأفندي، وشيخ الحرم والأعيان. فأصلحوا بينهما وانقطع النزاع عنهما، وألبس الشيخ خلعة نفيسة، وألبس بعض خواصه جوخاً، على أن ما مضى لا يعاد، بذلك وقع الاتفاق والأمان. ونادوا على القافلة بالرحيل، مع التعزيز والتبجيل.
ثم دخل شهر شعبان المعظم وكان بالأربعاء، وفي خامسه وصل رسول من باشا مصر المحروسة إلى حضرة مولانا الشريف يبشره بالنصرة المأنوسة لمولانا السلطان محمد خان أيده الله بالسعد المديد، على أهل الشرك والطغيان أرباب مالطة وكريد. فألبسه مولانا الشريف خلعة ثمينة، ونادى مناديه سبع ليال بالزينة، وذلك على القواعد القديمة، وحصلت بذلك للمسلمين بشرى عظيمة.
ومدة محاصرة أهل الإسلام للكفرة المشركين اللئام نحو ثلاثين من الأعوام. ثم إن الكفرة جعلوا للمسلمين مالاً عظيماً حالاً ومؤجلاً يأخذونه منهم كل عام بالتمام، وأن لا يتعرضوا للمسلمين بحال من الأحوال لا في الأسفار ولا في دار المقام. والمدة التي اتفقوا عليها نحو مائة من الأعوام. على ذلك وقع الصلح والاتفاق، وكفى الله المؤمنين الشقاق. فرجعوا إلى أوطانهم بالخيرات والإنعام، ولهم في الآخرة دار السلام.
ومما يتعلق برسول الباشا أنه جاء بعزل أفندي الشرع، وبتولية القاضي عبد المحسن القلعي نيابة القضاء عن الأفندي المستجد، وبعزل مفتي الحنفية القاضي إمام الدين المرشدي، وتولية الشيخ إبراهيم بيري زاده مقامه إذ له هناك مستند.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشري شعبان المذكور من سنة ثمانين وألف؛ ورد خبر وقعة مولانا السيد حمود مع ظفير القبيلة المعروفة بنجد، وكان فيها عدة وقعات: وقعة قفار مع عَنزة، ووقعة بني حسين، ووقعة هتيم العوازم، ووقعة مطير وغيرهم.
وسبب وقعة ظفير أنه انضم إلى جهامة مولانا السيد حمود قبيلة من ظفير يقال لهم الصمدة، ثم انضم إليه شيخهم الأكبر مع جماعته الأدنين، وعصبته الأقوين، كان محباً للسيد حمود بمنزلة العين للإنسان، والإنسان للعين. وهو ذو شهامة وصرامة، يعرف بابن مرشد سلامة، فوقع من جماعته جرم اقتضى أن يؤاخذوا بما هو المعتاد المنوي عليهم في مثله، وهو أخذ الشعثاء والنعامة، وفي خيار أوائل الأباعر، وخيار تواليها، فلم يرضوا بذلك، وقالوا هو جور وحيف، وليس عندنا دون ذلك إلا حد السيف، فأشار سلامة المذكور إلى مولانا السيد حمود وقال له: اربطني ولستَ في ذلك بمُلام، فوالله لتأخذن ما تريد على التمام.
فقال: كلا والله لا ربطتك ونخوة آبائي الكرام، وكيف ذاك وفي بطنك من عيشي طعام، وكفى به التزام ولزام فذهب سلامة إلى قومه، وقد تهيئوا للقتال والنضال والعدوان، وتهيأ كذلك مولانا السيد حمود ومن معه من بني عمه ومن الصمدة وعَدوان.
فانخزلت الطائفة من الصمدة، وولت ناحية ناجية، وانكفأ الجمعان بعضهم على بعض، واختلط الفرسان فلم يبن الطول من العرض. وقتل من الساعة الأشراف مولانا السيد زين العابدين بن عبد الله، ومولانا السيد أحمد بن حسين بن عبد الله، السيد شنبر بن أحمد بن عبد الله.
وصوب مولانا السيد ظفير ابن السيد زامل بن عبد الله أصاويب. وكذلك صوب مولانا السيد باز بن هاشم بن عبد الله، إلا أن الله سبحانه منَّ بالعافية عليهما ولله الحمد.
ثم إن السيد غالب بن زامل صبحهم بعد مُدَيدة، فحلم عن ستين لحية منهم، ولم يشف عن واحد من القتلى كبده. ولم تزل معهم ظفير في قتل وطراد إلى أن أصلح بينهم مولانا المرحوم الشريف أحمد بن زيد، كما سيأتي ذكر ذلك في محله. وفي تاسع عشري رمضان: وقعت بمكة صاعقة جهة الشبيكة قتلت رجلاً واحداً. وفي رابع عشر شوال: بلغنا أن الباشا حسن اْظهر بويوردي وقرأه على الأتراك بأن محصول جدة له يصرفه في عمارة المسجد وغيره، فتعب منه مولانا الشريف سعد، وأرسل له ونهاه عن ذلك، فلم يرجع وفعل فعل القسوس، فقامت بينهما النفوس. ونزل السيد محمد بن يعلى في خيل ورجل وخدام، وواجهه فقابله بالتحية والإكرام، وكان بينه وبين مولانا الشريف مباينة وظنن، فتعب الناس من ذلك لما يترتب عليه من الفتن، ولكن كفى الله المخوف ودفع، ولم يحصل شيء من المكاره.
وفي يوم الخميس سادس عشري الشهر المذكور: وصل ثلاثة من الأعراب بخبر سار للمسلمين بأن صاحب جدة معزول، فأخلع عليهم مولانا الشريف أدام الله له النصر والتمكين.
ودخل شهر ذي الحجة الحرام اختتام سنة ثمانين وكان بالإثنين. وفي يوم الجمعة خامس الشهر وصل مبشران: أحدهما من أتباع مولانا الشريف ممن يتلقى عن الحج الأخبار، والآخر من أتباع عماد أغا، ومن الحجاج والزوار، يبشران بوصول قفطان لمولانا الشريف من حضرة مولانا السلطان.
وفي اليوم السادس دخل الحجاج مكة المشرفة ووصل القفطان والمكتوب، فلبس وقرئ بالمسجد الحرام، بين زمزم والمقام، بحضرة الخاص والعام.
وكان ممن حج في العام جماعة من الأعيان، أركان دولة آل عثمان، أخو الوزير وعمه، وابن أخيه وأمه. فتوجه إليهم مولانا الشريف حال القدوم لسلام التحية، وأرسل لهم بهدية سنية.
وبعد نزولهم إلى منى توجه إليهم، ونص جميع ما جرى له من حسن باشا عليهم. فأرسلوا إليه فحضر، وتكلموا عليه وزجروه فانزجر.
وفي الاجتماع به مرة ثانية جمعوا بينه، وبين مولانا الشريف، وأصلحوا بينهما الحال، والحمد لله على كل حال. وكانت الوقفة بالثلاثاء.
وفي خامس عشري ذي الحجة المذكورة، انتقل الأخ الصالح رضى بن حسن الطاهر.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وألف، في ثالث محرم الحرام يوم الجمعة رحل المحمل الشامي، وفي سادسه انتقل مولانا المرحوم الشيخ عبد الكبير بن محمد وفي يوم الجمعة سابع عشر الشهر المذكور، نودي لمولانا وسيدنا الشريف أحمد ابن المرحوم مولانا الشريف زيد في البلاد بالربع، وأمر الخطيب يدعو له عَلَى المنبر مع أخيه دام مجدهما، وكان النداء قبيل الصلاة في اليوم المذكور.
وبعد صلاة عصر ذلك اليوم أرسل إليه الباشا حسن جماعة نوبته فضربت في بيته، فأرسل إليهم فوق ما كانوا يطمعون. فخرجوا وهم يتشكرون.
وكفا في اليوم الثاني والثالث على ما مضى عليه الأولون. وفي ثاني يوم جلس للتهنئة والمباركة، وألبس الخطيب ثوباً نفيساً، وأنفق في ذلك اليوم مالاً على الأتباع الفقراء تبشيراً وتأنيساً. وكان قدومه على المسلمين بكل خير.
ومما اتفق في هذا العام أن رجلاً من قبيلة النفعة يسمى عمير، ويكنى بأبي شويمة قتل جماعة منهم اثنان من ثقيف من قبيلة تسمى الحمَدَة ولهما إخوة وبنوعم، فكانوا في طلبه يتجسسون الأخبار، فدخل في هذه السنة بلدَهم، وجاء راكباً جواده، ووقف إلى قبة الحبر وزار، ثم دخل إلى السوق، فرآه بعض أقارب القتيل، فصاح به، وضربه ضربة ادَّرَقها ثم ضرب فرسه فقطع عرقوبها فحركها فلم تطاوعه للفرار، سقط إلى الأرض فلحقه وقد صدمه الجدار فضربه ثالثة على أم رأسه فشقه فبرك عليه، وأراد ذبحه فمنعه الحاضرون، ثم قام نحو الخلاء وهو في سكرات الموت، صاح الصائح الحقوا غريمكم قبل الموت، فتلاحقه الرجال يرمونه بالحجارة والنصال حتى سكن أنينه، وكانت هذه الواقعة يوم الخميس رابع ربيع آخر.
ثم إن أولاد عمير المذكور صاحوا في عشيرتهم وذويهم، واستثاروهم على قتلة أبيهم، فأتاهم بنو سعد وعتيبة وجمع من العربان، ثم اجتمعوا وتهيئوا للقتال.
وحصل في الطائف القيل والقال، فاجتمعت ثقيف، واستنصروا حلفاءهم لما بلغهم وصول القوم إلى لية ونواحيها، وبالقرب من القوم قبيلتان من ثقيف بنو محمد وثمالة فتوجهوا نحو القوم فأخذ القوم ينهزمون إلى أن وصلوا إلى عباسة بالخداع منهم والاحتيال، وهؤلاء البعض منهم والبعض الآخر كمن واختفى وراء الجبال حتى توسطت ثقيف، فإذا القرم منعطفون عليهم والكمين خارج إليهم، فاحتاطوا بهم فقتلوا الرجال، وأخذوا الأموال وأمسكوا جماعة عندهم مأسورين وهرب باقيهم. ثم إن القوم نزلوا إلى القرية وأخربوها وأخذوا الحبوب، وقطعوا الثمار وأحرقوا بعض الدواب بالنار، وكان بالقرية أولاد الشريف، وحاكم الشريف فارسلوا إليه فعرفوه. ففي صبيحة يوم الثلاثاء تاسع ربيع الآخر من السنة المذكورة، وصل من مكة نحو المائة من العسكر أرسلهم مولانا الشريف لحفظ البلد وحراستها.
وفي اليوم التاسع والعشرين من الشهر المذكور: لبس مولانا الشريف سعد خلعة النصر والتأييد بالأبطح جاءته من صاحب مصر المحروسة بعون الله العزيز الحميد، وكان متوجهاً إلى الشرق؛ لإطفاء نار فتن المفسدين والعتاة المتمردين. ودخل شهر جمادى الأولى، وتوجه مولانا الشريف إلى المبعوث، ووصل في سابع عشره إليه - أيده الله - تجاه جده خير مبعوث، وأرسل قبائل العرب فأجابوا بالسمع والطاعة، فنصفهم وأنصفهم، ولو شاء كشف عنهم من الستر قناعه، لكنها غير شيمة جده صاحب الشفاعة، ثم وصل منه إلى الطائف.
وفي هذا العام: وقع الصلح بين مولانا الشريف، والسيد حمود، فكان وصول مولانا السيد حمود - رحمه الله - إلى مولانا الشريف سعد بالطائف فلاقاه ملاقاة الابن البار لأبيه، وألبسه في الحال فروة السمور، وطيب خاطره بكل ما يرضيه.
ثم بعد يوم والذي يليه، عقد معه المبايعة على محكم الأساس، في ضريح الحبر ابن عباس، ولم يدخل مكة معه بل تخلف في مخاليفها، وكان به للمسلمين أعظم أسباب تأليفها.
وفي شعبان من السنة المذكورة: وصل رسول من باشا مصر، ومعه مكتوب من مولانا السلطان، ومعه خلعتان واحدة منهما لمولانا الشريف سعد، والأخرى لمولانا الشريف أحمد - حرسهما الله تعالى - وكانا غائبين في أرض الحجاز، لإصلاح البلاد، وقمع أهل الظلم والعِناد. فاجتمع العسكر الذين بمكة ليلاقوا رسول مولانا السلطان بالتبجيل والإعظام، وليدخلوا به على ما جرت به القواعد، فأتوا به من أعلى مكة، وأدخلوه من باب السلام، ووضعوا الخلعتين في مقام الخليل، عليه السلام.
ودخل شهر رمضان وكان بالثلاثاء. ولما كانت ليلة الثالث والعشرين منه: دخل مولانا الشريف سعد مكة في موكب عظيم تمام، ومكث يومه والذي يليه، ثم نزل اليوم الثالث إلى المسجد الحرام، ولبس الخلعة الشريفة بين زمزم والمقام، بحضرة السادة الأعلام، وعساكر الإسلام، وقرئ المرسوم السلطاني، وفيه مالا مزيد عليه من التبجيل والإعظام. وكذلك مولانا الشريف أحمد لبس خلعته في هذا اليوم، وذلك أنه طلب من أخيه بعد النداء له بالربع والدعاء على المنبر أن يرسل إلى الحضرة العلية، ويعرف بذلك لتصل إليه الخلعة في كل عام وتقرر، فأرسل وعرف بذلك في مكتوب، فجاءه الجواب على وفق المطلوب. وقد سبقهما إلى مثل هذا الآباء والجدود، وفضل الله ليس بمحمود.
وفي يوم الجمعة خامس عشري الشهر المذكور، دخل شخص أعجمي المسجد الحرام، والخطيب قائم على المنبر يعظ الأنام. فتقدم نحو الخطيب، وصرخ صرخة أزعجه بها، وأشغل جنانه، والسيف في يده سليل جمع عليه كفه وبنانه، فأومأ نحوه، بالسيف وقرقر، وقال: أنا المهدي، الله أكبر.
فدافع عن الخطيب بعض الحاضرين بالسلاح والحجر، ومنعه منه وحجر، حصل منه جراحات لعدة أشخاص، فاجتمعوا عليه وضربوه، وطرحوه إلى الأرض وقتلوه، ثم إنهم أخذوا برجله، والى خارج باب السلام سحبوه. فلما قضيت الصلاة، رجعوا إليه فأخذوا برجله، وصاروا يجرونه مع الضرب والإهانة، والحياة به باقية، فويل لهم من الله - سبحانه - إلى أن وصلوا به المعلاة وأحرقوه هناك بالقرب من بركة المصري، وهذا أمر عظيم تحار فيه الأفكار، كون المسلم يهان هذه الإهانة، ويقتل بغير موجب ثم يحرق بالنار، نعوذ بالله من مكر الله.
ودخل شهر الحجة وكان بالسبت: دخل الحجاج يوم الخامس والأمير والمحمل يوم السادس. ولبس مولانا الشريف سعد والشريف أحمد خلعتيهما مع المصري والشامي، وهذه أول خلعة لبسها مولانا الشريف أحمد في هذا الموكب، ثم حجا بالناس.
ولما كان اليوم الثالث من أيام منى بعد انتصاف النهار نفر الباشا حسن إلىمكة وإلى رمي الجمار، في موكب عظيم تشخص عنده الأبصار، والجند محدقون به إحداق الهالات بالأقمار.
فلما كان واقفاً عند العقبة لرمي الجمرة رماه ثلاثة رجال بثلاث بنادق، فخر على وجهه إلى التراب، فتلقاه جنده ورفعوه إلى التخت، وتحيروا فيما نزل بهم من هذا المصاب بهذا المُصاب، ونزلوا به إلى مكة في ذل وانكسار، وصاروا يقتلون من لاقوه من الناس من غير اختيار. فوصلوا به إلى مكة وأغلقوا عليه الدار، وتحصنوا في البيوت، ودخل جمع منهم المسجد بالسلاح والنار، ورموا فيه البندق نحو بيت مولانا الشريف سعد، وهتكوا حرمة بيت الله في الأستار، ووجهوا المدافع في الأربع الجهات، واحترس نهاية الاحتراسات.
ثم إن مولانا الشريف سعد توجه بعسكره إلى مكة خلفه بعد حين ملبسين مدرعين.
وأما الحجاج فمنهم من نفر إلى مكة، وأدخل أسبابه، ومنهم من لم ينفر، وجمع أهله وماله، وأغلق بابه.
ولما نزل الحجاج إلى مكة، واستقروا بها مكثوا خمسة أيام وأكثر مضطربين، وفي كل يوم تراهم رافعين لأسبابهم وواضعين، وكبراء الحجاج والأمراء يسعون بينهما في جمع الشتات.
وسبب الاضطراب: أنه قطع على مولانا الشريف استحقاقه من ناصفة جدة، فطالبه بها فامتنع وتجبر، وتنكر وتنمر. فوثب عليه مولانا الشريف في طلب حقه، وجمع جيشه وكبر.
فعند ذلك أصلح الله الأحوال، واتفق الأمر على إعطاء شيء من المال، وكان قدره ثلاثين ألف قرش.
ثم استعفوا مولانا الشريف سعد من الثلث، وأعطي عشرين ألف ريال، فسلمت لمولانا الشريف - أعزه الله بجاه النبي والآل - .
ثم لما توجه الحاج المصري يوم سابع عشري ذي الحجة الحرام المذكور، توجه معه حسن باشا، ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين، اتفق أنه لما رحل حسن باشا صحبة الحاج المصري من مكة إلى المدينة الشريفة أقام بها، فوفد عليه فيها مولانا السيد محمد ابن السيد أحمد بن محمد الحارث، فألزمه بالذهاب إلى والده السيد أحمد الحارث، واستلحاقه إليه إلى الممينة الشريفة، فذهب السيد محمد المذكور فوصل إلى أبيه بالمحل المسمى بالشعري من أرض نجد، فأتى إلى المدينة الشريفة، فلما حضره نادى له بالبلاد بعد أن ألبسه خلعة، وقطع الدعاء للشريف سعد في الخطبة، ودعا للشريف أحمد الحارث.
وقد كان مولانا الشريف سعد خرج صحبة الحاج أو عقبه حتى وصل إلى ينبع، فأقام به. ولما بلغه ما فعله حسن باشا بالمدينة الشريفة من قطع اسمه من الخطبة، وتوليته للسيد أحمد الحارث والنداء له، أرسل إلى السيد أحمد الحارث كتاباً في غاية اللطافة، واللين والرقة لا الكثافة، مضمونه بعد مزيد الثناء، وحميد الدعاء: إن هذا الواقع الذي سمعنا به؛ من تقمصك برد الملك وأثوابه، فهذا أمر أنت بيته الأعلى، ومثلك أحرى به وأولى، فإنك أنت الشيخ والوالد، الحائز كل كمال طريف وتالد، فإن كان هذا محكم الأساس في البنيان جار على مقتضى مرسوم السلطان، نحن بالطاعة أعوان، وإن كان الأمر خلاف ذلك، وإنما كان من تسويلات هذا الظالم الغادر، وتنميقات ذلك المذمم غير الظافر، فأجل حلمك أن تستخفه نكباء طيش، أو أن تستنزله أخلاط الأشاوب وغوغاء الجيش.
فأرسل إليه الجواب مولانا السيد أحمد الحارث؛ بأن الأمر لم يكن على هواى، وإنما هو إلزام، مع علمي بأن هذا الابتداء لا يكون له تمام.
فاستشعر حسن باشا أن من نية مولانا الشريف سعد المسير إليه، فتهيأ للقتال، واعتد ولفق مع عساكر المدينة ما قدر عليه بالجد لا الجد، وصنع أكراً من حديد قريباً من مائتين تسمى قنابر تملأ بالرصاص والحديد يرمى بها من بعد إلى الجيش، فيفسد فيه ملأها المتناثر.
وكلما أراد المسير ثبطه السيد أحمد الحارث وثناه، وأظهر له الرأي في عدم المسير ومناه. فعزم مولانا الشريف سعد وأخوه مولانا الشريف أحمد إلى المدينة الشريفة الظالم أهلها إذ ذاك، وصمم على القتال عزماً ليس معه انفراك.
وكان مولانا السيد حمود - رحمه الله - نازلاً بالمبعوث في المربعة المنسوبة إلى لانا السيد محمد الحارث، وكنت إذ ذاك نازلاً عنده في تلك البقعة، وصلت إليه إشياقاً لمحياه السعيد، وفرحاً بعد طول الغيبة بأنس الرجعة، فلما كان يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى بين صلاتي الظهر والعصر من سنة اثنتين وثمانين المذكورة إذ نحن بفارس على فرس عري يدك الأرض دكاً، فأقبل حتى دنا، فإذا هو السيد أحمد بن السيد حسن بن حراز رسولاً من مولانا السيد أحمد الحارث، والباشا حسن بمكتوبين يستدعيان مولانا السيد حمود للانضمام إليهما، ففتح المكتوبين، وقرأهما وتمقل ألفاظهما ومعناهما فنبذهما إلي، وقال: اقرأهما ثانياً علي، فقرأتهما، فإذا مضمون الأول الذي من الباشا حسن بعد الثناء والوصف الحسن: إننا قد ولينا أخاكم السيد أحمد الحارث بأمر سلطاني معنا، صحيح في اللفظ والمعنى، والقصد أن تجمعوا الشمل، ولا تشقوا العصا، وتكونوا عوناً لأخيكم على من خالف وعصى، ولكم ما تريدونه من الجهات والمعينات وزيادة، فوق ما جرت به القوانين والعادة، وهذا حاصل ما فيه فلا حاجة إلى التكثير، ولا ينبئك مثل خبير. ومضمون كتاب مولانا السيد أحمد بعد العبارة، وإظهار الود والاشتياق، والحنو والإشفاق: إنني يا أخوك لم يكن لي هذا الأمر ببال، ولم ألتفت إليه بالقال ولا بالحال، وإنما لحقني ولدك محمد إلى الشعري، وكرر علي القول مرة بعد أخرى، ولم أوافقه حتى رأيت جدك النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قائلاً لي: وافق محمداً وخلاك هلام، فحينئذ رجعتُ، وكان ما سمعت، والقصد إني أخوك الذي تعرفه ولا تنكره، فأقبل إلينا فهو أعظم جميل نذكره، والسلام.
ثم فكر مولانا السيد حمود ساعة، فكأنه كشفت له الفراسة عن وجه الغيب قناعه. وقال: كأني برسول الشريف يصابحنا إن لم يماس، فكأنه في مرآة الغيب ناظر، فقبل الغروب إذا الراكب المنيخ بالفناء ابن بسيان جاسر. فتقدم إليه، وقبل يديه، وأخرج مكتوبين أحدهما من مولانا الشريف سعد، والآخر من أخيه مولانا الشريف أحمد، مضمونها استحثاثه في المسير إليهما، والحضور لديهما، وأن حسن باشا قد شمر عن ساقيه للحرب، وكشر عن نابيه للطعن والضرب، واستشهد مولانا الشريف سعد بقول الشاعر: من الوافر:
وما غلظت رقابُ الأُسدِ حتى ... بأنفسها تولت ما عَناها
وأتبعه بقوله: وأنت تعلم أن الأمر الذي يعنانا يعناك، وأدري بما يئول إليه الأمر في ذاك، وهذه ألف دينار صحبة الواصل المذكور إليك، فأدرك أدرك أدام الله فضله عليك. واستشهد مولانا الشريف أحمد ببيت الهمزية.
ثم إني قلت لمولانا: ما صواب الرأيين ويتوجه العزم إلى أي الوجهين. فقال: إلى سعد صاحب الفضل ومولاه، فبيني وبينه في ضريح الحبر عتلات الله. فلو اعترضني عبد الله لكفحت وجهه بالسيف دونه والله ثم والله.
ثم توجه على الركاب يومه الثاني، وقوض الأخبية، وفارق المباني، حتى وصل إلى مولانا الشريف سعد وأخيه. وهما بالمحل الذي عذب بحلولهما بعد أن كان اسمه ملحة، فوافاه القضاء بما وافق مراده، وأنتج نجحه من ورود القاصد بعزل حسن باشا وطلبه، وانخرام حسابه وتقطع سببه.
ثم ارتحل من المدينة. فلما كان بطريق غزة وتلك النواحي، توفي فدفن في ذلك المحل الناحي. وأتت إلى مولانا الشريف سعد خلعة باشوية صحبة ذلك القاصد، وكان إرسالها ضرباً من المكايد.
ثم في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة قبل قدوم الحاج بقليل: قدم محمد جاوش بجيوش نحو أربعة أو خمسة آلاف ضرب أوطاقه في أسفل مكة الزاهر، بمن معه من العساكر، وصاروا يدخلون مكة عشرة سواء خمسة سواء وثمانية سواء، ويعودون إلى خيامهم خارج مكة للمبيت، ثم قدم صحبة الحاج الشامي شخص يسمى حسين باشا السلحدار بنحو ألفين، وقد وسد من تلك الديار، أن يعمل بما يتوراه نظره ويختار.
فلما كان اليوم السابع من ذي الحجة: خرج لملاقاة المحمل الشريف الشامي على العادة، إلا أنه لم يخرج إلا من الثنية العليا المسماة بالحجون أعلى البلاد، فوقف إلى أن يصل بها الواصل، كما هو عادة الأوائل، فلم يصل إليه أحد، بل طلب منه أن يأتي إلى مخيم الأمير، وهذا الأمر على شهامته غير يسير.
فعطف عنان فرسه راجعاً من طريق الشبيكة إلى مكة المشرفة. فخشوا من وقوع فتنة يذهب فيها الأقوياء والضعفاء، فأرسلوها مع من لحقه بها في أثناء الطريق، وهُدُوا بذلك إلى طريق الرشاد والتوفيق.
ثم صعد الحجاج إلى عرفات، وأفاضوا إلى المزدلفة، ثم منى ذات المثوبات. فلما كان يوم النفر، وهو اليوم الثاني من أيام منى ترددت الرسل من الشريف إلى أمير الحاج الشامي لما هو المعتاد من الخلعة التي صحبتها المرسوم السلطاني، التي يلبسها ذلك اليوم مع المرسوم الذي يقرأ، فيسمعه القاصي والداني، فلم يؤت بها إليه، فعلم مولانا الشريف أن المدار بهذه العساكر القبض عليه، فأضمر الصولة عليهم والمسير، ولم يبال بذلك الجمع، وإن كان حصره عسير. ثم رجح الانكفاف بالذهاب، وإغلاق ما للشرور من سائر الأبواب، ففر ومن معه على الخيل والركاب، فجزاه الله عن المسلمين أحسن جزاء، بحرمة محمد ومن والاه.
ولما كان ظهر اليوم الثاني عشر: حضر حسين باشا، ومحمد جاوش، وأكابر الدولة، وأمراء الحاج، واستدعوا جماعة من الأشراف، منهم: مولانا المرحوم السيد أحمد بن محمد الحارث، ومولانا السيد بشير بن سليمان، ومولانا الشريف بركات بن محمد، وأظهر أمراً سلطانياً بصريح اسم مولانا الشريف بركات في شرافة مكة، وأنها تحت تصرفه، وله ملكها ملكة، وألبس خلعة الولاية في ذلك الجمع.
ونزل إلى مكة المشرفة في موكب يبهر العين، ويدهش السمع، ونزل إلى بيت أبيه المعروف بزقاق ظاعنة، ووقفت على بابه الخيول صافنة، وهرعت السادات إليه والأعيان، والحضر والعربان، يهنئونه بالملك والولاية، ويدعون له بطول البقاء والثبات بتوفيق العناية.
وما أسرع من انقلاب الحال، ولكل زمان دولة ورجال. وأرخ بعضهم عام ولايته بقوله نثراً ما نصه: بارك الله لنا في بركات، إلا أنه لسنة ثلاث وثمانين، والتولية إنما كانت في موسم اثنين وثمانين، لكن التفاوت بزيادة سنة أو نقصها عند أهل التاريخ مغتفر. وكانت مدة ولاية مولانا الشريف سعد ست سنين إلا أحدا وعشرين يوماً. وورد في ذلك الموسم كتاب من الوزير الأعظم أحمد باشا الكبرلي لمولانا السيد حمود بن عبد الله، وكتاب من باشا مصر له أيضاً وكذلك كتابان من الوزير المذكور ومن باشا مصر لمولانا السيد أحمد الحارث، وكذلك كتابان للمرحوم السيد بشير بن سليمان. والمضمون من الجميع واحد والعبارات مختلفات.
أما كتاب مولانا السيد حمود الذي من الوزير فنصه: فرع ذؤابة هاشم، ونبعة وشيج المحامد والمكارم، السيد حمود نظم الله عقوده، وأباد حسوده آمين. وبعد: فلا يخفى عليكم أن الكعبة البيت الحرام، ومطاف طواف الإسلام، هو أول بيت وضع للناس، وأسس على التقوى منه الأساس، وأنه لم يزل في هذه الدولة العثمانية العلية آمناً وأهله من النوائب، وروضاً مخصباً بأحاسن الأطايب، إلى أن ظهر من السيد سعد من الأمر الشنيع، ما يشيب عنده الطفل الرضيع، وما كفاه ذلك حتى شدد الخناق على أهل المدينة البهية، وأذاقهم كأس المنون روية. فلما بلغ هذا الحال السمع الكريم السلطاني، أمر بعزل السيد سعد عن شرافة مكة وتفويضها إلى الشريف بركات، ليعمل بها بحسن التصرفات، وتكونوا له معيناً وظهيراً، وناصحاً ومشيراً، وكل من يتفرع غصنه من دوحة فاطمة الزهراء، وتتصل نسبته إلى الذرية الغراء، تهدونه إلى طريق الخير والصلاح، وترشدونه إلى معالم النجح والفلاح، وأنتم على ما تعهدونه من التكريم والتبجيل، والله على ما نقول وكيل.
ومما قيل فيه قولي هذه القصيدة: من البسيط:
صَبٌّ أَلَم به طيفُ الكرَى فصَبا ... وعَن أحِبَّاهُ لم يردد عليه نَبا
وقد تغذى لبانَ الحبِّ منذ نشا ... ولم يزل بالغواني مغرماً طَرِبا
تناهَبَت عقله سودُ اللحاظِ فَلَم ... يُبقِينَ فيه لغيرِ الغِيدِ مُطَّلبا
فصارَ يصبُو إلى سعدَى وآونةً ... إلى سعادَ وأياماً يَجُرُ ربا
ولا ملامَ عليه فالتنقلُ من ... سَلمَى للبنَى لدَى شرع الهوَى نُدِبا
فيا عذولَيَّ كفَّا عن ملامكما ... فلا أرَى لي في نُصحَيكما أَرَبا
لله عَقل أضلته الحسانُ على ... عِلمِ فهامَ بها نأياً ومقتربا
مِن كُل ممنوعةٍ روس الأسنةِ لو ... رام التصورَ إدراك لها حُجِبا
مرقوبة الحفظِ حد السيف ليرقُبُها ... فهل سمعتُم بسيفٍ عد في الرقبا
عقيلةُ الحي من سمرِ الرماحِ لها ... سور وفي صفحاتِ المرهفاتِ خبا
وخدرُها الثانِ من سترِ الحشاء فَمِن ... نياطي القلبِ قد مدَت لها طُنُبا
ها مقلتي لَهَبُ الهجرانِ سَيلَها ... على الخدودِ فظنوا مدمعي سكبا
مَن لي بمَن فوَّقَت من قوسِ حاجبها ... سهماً أراشَتهُ بالأهدابِ قد هُحدبا
معسولة الثغرِ يطفي بردُ ريقتها ... نيرانَ من بلظَى هجرانها انتَهَبا
لمياءُ رشفُ رضاب من موشمها ... درياق من بهواها قلبُهُ لسبا
يهدي الذي قد أًضلتة ذوائبها ... جبينها لامعاً باد ومنتقبا
كأنه البرقُ أو كالصبحِ أو كضيا ... سَعدِ بنِ زيدٍ إذا ما قامَ منتدبا
أبا مساعد راعيها مملكها ... من حَل رتبةَ مجدِ جازَتِ الشهبا
خلاصَةُ العنصُرِ الزاكِي المطهر من ... جذرِ الوصي الرضِي أكرِم بذاك أبا
عليهِ سربالُ تقواهُ وعفته ... ومن شمائِلِ علياه رِداً وقَبا
أغرُ أزهَرُ فياضٌ أناملُهُ ... من معشرِ في رياضِ المجدِ نبت ربا
محاسنُ السادةِ الماضينَ قد جمعَت ... فيه كجَمعِ الغديرِ القطْرَ منسكبا
سمحٌ إذا سيَم للجدوَى يميدُ كما ... يمِيدُ حاشاهُ صرفَ الراحِ مَنْ شربا
له يَد خُلِقَت للجودِ فهوَ لها ... طبع كما العينُ للإبصارِ قد رتبا
هو المحكمُ عضبيه إذا انتضَيا ... يومي جلاد جدالٍ مفْصلاً أشبا
مفوهٌ في كلا عضبَيهِ متَّسعٌ ... كلما وكلما إذا ما قال أو ضَرَبا
يمناهُ واليُمنُ يمتدانِ في لُزَزٍ ... قد أدركا في مداهُ السبْقَ والقصبا
مستأسدٌ بَين عينَيهِ عزائمه ... إذا تراءَت له أكرومَةْ وثبا
ولا تعاظمه أقطارُ محمدةٍ ... ولو غدا منكب الجوزا لها سَبَبا
ولا يميلُ من العلياءِ إن صعُبَت ... ولا يضل صواب الرأيِ إن نَشِبا
إليكَ يا ابنَ الكرامِ الأطولين يداً ... في المكرماتِ وفي الهيجا أحدَّ شَبا
عروسَ فِكرِ كوشيِ الروضِ باكرَهُ ... غيث فَرَفَّ بنورٍ مزهرٍ وربا
يحلُو بها فَم راويها فتحسبُهُ ... صَباً ترشفَ من عذب اللُّما ضَرَبا
وتنشقُ الورد منها أذنُ سامعها ... حتَى تراه إلى إنشادِها طَرِبا
خلائق كفتيتِ المسكِ طيبة ... تلاق طيب سَراة سادَة نجبا
فاسلم على كاهلِ العلياءِ مرتقياً ... وصافن المجد غَطَى منهما عقبا
ودُم على خفضِ عيشٍ ما يرنقُهُ ... رب الحوادثِ ما هَب النسيمُ صَبا