كتاب القياس

وهو عشرة فصول

الفصل الأول

في حقيقته

وقد اختلف الناس في حده اختلافا متباينا بيناه في التمحيص والصحيح إنه لا يأخذه الحد ولكن أقرب ما فيه أن يقال

إنه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم أو نفيه بإثبات صفة أو نفيها وقيل أقربه إنه أقوال مخصوصة اللغة ألفت تأليفا مخصوصا ليتميز منها رأي هو مقصود الناظر

مثاله إن الرجل إذا قال لآخر بعتك الشيء الذي في كمي فيقول العالم لا يجوز ويستدل بأن يقول مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلم يجز أصله إذا قال بعتك ثوبا فهذا هو القياس

وقد تألف من أربعة أشياء

فرع وهو المطلوب بيان الحكم فيه

ووصف وهو العلة الجالبة للحكم

وحكم وهو المطلوب إثباته

وأصل وهو المتفق عليه

فأما الفرع فهو المسئول عنه وهو بيع الشيء في الكم

وأما الوصف وهو العلة فهو قولنا مبيع مجهول الصفة

وأما الحكم وهو المطلوب فهو قولك لم يجز وجاز

وأما الأصل فهو قولك بعتك ثوبا وهو المتفق عليه وإليه يرجع الفرع المختلف فيه المسئول عنه

الفصل الثاني

في الدليل على صحة الأصل

القياس أصل من أصول الشريعة ودليل من دلائل الملة انقرض عصر الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم وهو الأعيان والجلة على صحة القول به حتى حدثت الرافضة فأنكروه لأغراض رزية لهم ثم نبغت نابغة شق عليهم بعد شقة النظر وعسرت عليهم مسافة الاجتهاد فقالوا الحكم لله ولرسوله لا فتوى إلا بما قال الله فكانت فتنة للرعاع وكلمة حق أريد به باطل كما قال علي رضي الله عنه للخوارج حين قالوا لا حكم إلا الله وضللوا عليا رضوان الله عليه في التحكيم فقال لهم علي رضوان الله عليه إن الله قد حكم في الشقاق وجزاء الصيد فكيف في حق دماء الأمة

والدليل على صحة القول بالقياس لا يحصى عده وجملته إجماع الصحابة وإنكاره بهت وقد سردنا أقاصيصهم في النوازل وأقيستهم في الوقائع معدودة شيئا فشيئا وحالا فحالا ولم يكن إلا قول عثمان رضي الله عنه بحضرة الملأ الكريم من غير نكير ولا تغيير نرضى لدنيانا من رضية رسول الله لديننا وأرشق عبارة تدل على المعنى ما أشار إليه بعض المتأخرين من العلماء حتى قال النصوص معدودة والحوادث غير محدودة ومن المحال تضمن المعدود ما ليس بمحدود لا سيما الفتنة على هؤلاء المبتدعة الاغترار بالعمومات وليس في الشريعة عموم يستقل بنفسه وبيان ذلك استقراؤها عموما عموما

الفصل الثالث في أقسام القياس

قال علماؤنا أقسام القياس ثلاثة

قياس علة قياس دلالة وقياس شبهة

فأما قياس العلة

فهو كقولنا في أن المرأة لا تتولى نكاحها لأنها ناقصة الأنوثة فلم يجز أن تلي عقد نكاح كالأمة فاتفق العلماء على الأمة لا تلي عقد نكاحها واختلفوا في تعليله فمنهم من قال إن العلة في امتناع إنكاح الأمة نفسها نقصان الرق ومنهم من قال نقصان الأنوثة فنحن عللنا بنقصان الأنوثة وحملنا عليه الحرة

وأما قياس الدلالة

كقولنا علمائنا في الخل مائع لا يجوز به الوضوء فلا يجوز به إزالة النجاسة كاللبن وكقولهم في الوتر صلاة تفعل على الراحلة فلا تكون واجبة كركعتي الفجر فاستدلوا في امتناع الوضوء بالخل على أنه ليس بمطهر في الشرع واستدلوا على الوتر ليس بواجب بفعله على الراحلة وذلك من خصائص النوافل

وأما قياس الشبه فهو على ضربين شبه خلقي وشبه حكمي

فأما الشبه الخلقي فكإجماع الصحابة على جزاء الحمامة بالشاة والنعامة بالبدنة لما بينهما من تشابه الخلقة

وإما الشبه الحكمي كقول علمائنا في الدليل على أن الوضوء يفتقر إلى النية خلافا لأبي حنيفة طهارة حكمية فافتقرت إلى النية كالتيمم وقد استبعد الشافعي عليه ذلك فقال طهارتان فكيف يفتقران فشبهوا طهارة وطهارة وقد اختلف الناس في قياس الشبه فمنهم من نفاه ومنهم من أثبته ومنهم من فصله وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى

الفصل الرابع في إثبات علة الأصل إذا قاس المعلل على أصل فمونع في العلة في الأصل وقيل له ليست العلة في الأصل ما ذكرت ففي إثباتها للناس ثلاثة مسالك

المسلك الأول الطرد

وقد زعم بعض الناس إنه دليل على صحة العلة وهو قول فاسد لئلا أوجه

أحدها كما يطرد دليل الصحة على زعمه فكذلك يطرد دليل الفساد ومثاله إن المالكي لو قال الخل مائع لا ينبني عليه فلا يجوز إزالة النجاسة به كاللبن لقال معارضه إن الخل مائع مزيل العين فجاز إزالة النجاسة به كالماء

الثاني إن الصحابة وهو القدوة لم يعولوا عليه

الثالث إنه ليس بينه وبين الحكم ارتباط فكيف يدل عليه

فأما الطرد والعكس جميعا فإنه دليل على صحة العلة لأن ثبوت الحكم بثبوته وعدمه بعدمه دليل على إنه علامة عليه

ومثاله أن يقول القائل المالكي إن الخمر محرمة لعلة الشدة المطربة التي فيها فيقول له الحنفي ليست العلة الشدة فيقول الدليل على أنها العلة إن العصير حلال لعدمها فيه فإذا صارت خمرا بوجود الشدة فيها كانت حراما فإذا استحال خلا وعدمت الشدة كانت حلالا واطردت وانعكست فيقول له الحنفي إنما حرمت باسم أنها خمر فهذا الاسم هو الذي وجد مع التحريم وهو الذي عدم مع التحليل فيقول له المالكي إن الأمر كما ذكرت مع اطراد العلة وانعكاسها واطراد الاسم وانعكاسه ولكن علتي أرجح لتنبيه الشارع عليها في قوله تعالى ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) الآية

المسلك الثاني

أن يقول القياس إذا طولب بصحة على الأصل الدليل على صحتها عجزك عن الاعتراض عليها فيقول له المعترض ليس عجزي عنها دليل على صحة قولك فيقول له القائس بلى أو لا ترى أن المعرض للمعجزة دليل على صحة المعجزة وهذا فاسد جدا فليس العجز عن المعرضة حجة فإن المعنى إنما صار إلى القول بالحكم بما ظهر له من الدليل قبل أن يعارضه معارض والتعلق بالمعجزة لا معنى له وغمرات المعجزات ومجاريها لا يحتمل هذا الموضع الخوض فيها

المسلك الثالث في الدليل الصحيح على علة الأصل

وهو ثلاثة أنواع

النوع الأول النص من الشارع

كقوله تعالى ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) وكقوله تعالى (وذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله)

والنوع الثاني الإيماء

كقوله وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم قال فلا إذن

فإذا قال المالكي الدليل على إن الحنطة اليابسة بالمبلولة لا يجوز بيعها بحال إنهما جنسان تقابلا في المعاملة فآل كل واحد منهما إلى النقصان فامتنع بيعهما أصلا كالرطب بالتمر فإذا قال الحنفي ليست العلة في الرطب بالتمر ما ذكرت قيل له قد أومأ الشارع إليها حين سأل أينقص الرطب إذا يبس فلما قالوا نعم منع البيع وهذا أمثاله لا يخفى

النوع الثالث الاشتقاق

وذلك مثل أن يقول المالكي إن الأب يجبر البكر البالغ على النكاح والدليل عليه إنها جاهلة بحال النكاح فلم يجز لها في رأي كالصغيرة

فإذا قال الحنفي ليست العلة في الصغيرة جهلها بحال النكاح

قال له المالكي الدليل عليه قول النبي الثيب أحق بنفسها من وليها فجعل النبي الثيب أحق من الولي بسبب ثبوتها وهو اختبار النكاح ومعرفة تفاصيله فكان ذلك دليلا على أن البكر الجاهلة بالتفاصيل فيه على حكم الأصل وهو الحجر

الفصل الخامس في الاستصحاب

وهو على ضربين استصحاب حال الفعل واستصحاب حال الإجماع

فأما استصحاب الإجماع فمثاله قول أصحابنا في التيمم إذا صلى ثم طرأ عليه الماء في أثناء الصلاة فقال مالك يتمادى وقال أبو حنيفة يقطع فاحتج أصحابنا بأن قالوا أجمعنا على أن صلاته صحيحه فمن ادعى أنها قد فسدت برؤية الماء فعليه الدليل

وهذا مما اختلف عليه علماؤنا رحمهم الله فمنهم من قال إنه دليل يعول عليه ومنهم من قال إنه ليس بشيء

والصحيح إنه ليس بدليل لأن موضع الدليل الإجماع وقد زال برؤية الماء فالدليل ليس له تناوله لمحل الخلاف

وإما استصحاب حال العقل فهو دليل صحيح مثاله دليل قول علمائنا في أن الوتر ليس بواجب وإن المضمضة والاستنشاق لا يجبان في غسل الجنابة وأمثالها من المسائل لأن الأصل براءة الذمة وفراغ الساحة من الإلزام وطريق استعمالها في الشرع وليس في الشرع بعد التنبه دليل على وجوب الوتر والمضمضة والاستنشاق فالذي يدعي أم

الوتر الواجب وأن المضمضة والاستنشاق يجبان في غسل الجنابة فعليه الدليل

والمحققون كلهم متفقون على أن هذا دليل شرعي إلا جماعة يسيرة وهمت إنه تعلق بعدم الدليل قالوا والعدم ليس بدليل وقد بينا في كتاب الأصول إن العدم لا يجوز أن يكون في علة وإنه يصح أن يكون دليلا ولا خلاف في ذلك بين العقلاء

الفصل السادس القول في الاستحسان

أنكره الشافعي وأصحابه وكفروا أبا حنيفة في القول به تارة وبدعوه أخرى وقد قال به مالك

واختلف أصحاب أبي حنيفة في تأويله على أربعة أقوال

وأما أصحاب مالك فلم يكن فيهم قوي الفكر ولا شديد المعارضة يبده إلى الوجود وقد تتبعناه في مذهبنا وألفيناه أيضا منقسما أقساما فمنه ترك الدليل للمصلحة ومنه ترك الدليل للعرف ومنه ترك الدليل لإجماع أهل المدينة ومنه ترك الدليل للتيسير لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق

مثال الأول رد الأيمان إلى العرف

ومثال الثاني تضمين الأجير المشترك والدليل يقتضي إنه مؤتمن

ومثال الثالث في إيجاب عموم القيمة على من قطع ذنب القاضي

ومثال الرابع إجازة التفاضل اليسير في المراطلة الكبيرة وإجازة بيع وصف في اليسير

فهذا أنموذج في نظائر الاستحسان وكل مسألة منه مبينة في موضعها ذلك لتعلموا أن قول مالك وأصحابه استحسن كذا وإنما معناه وأوثر ترك ما يقتضيه الدليل على طريق الاستثناء والترخص بمعارضته ما يعارضه في بعض مقتضياته فاكتفوا بهذه النبذة حتى تفهموا تفسير الجملة في كتاب التمحيص وغيره إن شاء الله تعالى

الفصل السابع في ذكر ما يعلل وما لا يعلل من الأحكام

اعلموا وفقكم الله أن الأحكام العقيلة والشرعية على قسمين منها ما يعلل ومنها ما لا يعلل

فأما القول في تعليل الأحكام العقلية فقد بين في موضعه وأما القول في الأحكام الشرعية فهذا بيانه فنقول

الغالب في أحكام الشرع اتساقها في نظام التعليل إلا نبذا شذت لا يمكن فيها إلا رسم اتباع دون أن يعقل شيء من معناها ولكن فرض المجتهد إذا جاء حكم وعرضت نازلة أن يلحظ سبيل التعليل ويدخلها في محك السبر والتقسيم فإن انقدح له معنى مخيل أو ظهر له لامع من تعليل فينبغي له أن يجعله مناط حكمه ويشد عليه نطاق علمه فإن أبهمت الطريق ولم يتضح له سبيل ولا اتفق ترك الحكم بحالة وتحقق عدم نظرائه وأشكاله

ونحن نضرب لك في ذلك ثلاثة أمثلة تتخذونها دستورا

المثال الأول العبادات وهي نوع لا يجري فيها تعليل بحال لأن يعقل معناها بلى إن قياس الشبه يدخلها كقول علمائنا رحمة الله عليهم في الوضوء عبادة فافتقرت إلى النية كالصلاة

وكقولهم في شهر رمضان إنه عبادة تشتمل على أركان فجاز واحدة أصله الصلاة

وكقولهم إن القيم في الزكاة لا تجوز لأنها عبادة فاقتصرت مورد الأمر دون التعليل كالوضوء والصوم وأمثال ذلك كثيرة

المثال الثاني ما يجري فيه التعليل قطعا كالبيوع والأنكحة والقصاص والشهادات والوكالات وأمثال ذلك من المعاملات فهذا كله يجري التعليل ويلحق فيه الفروع بالأصول

المثال الثالث وهو نوعان

النوع الأول تعليل أصل بأصل كتعليل النكاح بالبيوع فهذا اختلف فيه العلماء فرأى بعضهم إن كل واحد منهما أصل نفسه مقام عن صاحبه في أحكامه معلل فروعه بأصوله وهو الشافعي رحمه ورأى مالك وأبو حنيفة إن كان واحد منهما محمول صاحبه فيما يشتركان فيه في التعليل

ولقد قال مالك رضي الله عنه النكاح أشبه شيء بالبيوع ورأى بعضه إن كل واحد منهما منفرد بنفسه لكن النكاح أخذ شبها من البيوع بما من العوض عن البضع وهو الصداق وأخذ شيئا من الصلاة لما يجوز من عقد النكاح دون ذكر العوض وهو الصداق وهذا القول عندي

أقوى الأقوال في الدليل ولعل مالك رحمه الله إليه أشار وإياه عنى بالشبه وعليه أيضا يدل كثير من مسائل أصحاب الشافعي فليعول على هذا القول

الفصل الثامن

اختلف الناس في حكم الأعيان قبل الشرع

فمنهم من قال إنها محظورة بالعقل ومنهم من قال إنها مباحة بالعقل ومنهم من قال لا حكم لها إلا في الشرع فما قام من الدليل قضى به وقد كثر القول من الناس فيها وعظم التنازع بينهم في أدلتها ومعانيها والأمر فيها قريب جدا لأنا نقول إن كان العقل يحكم فيها بالحظر على الإطلاق لم يجز أن يرد الشرع بإباحة وإن كان يحكم فيها بالإباحة على الإطلاق لم يجز أن يرد الشرع بحظر لأن الشرع لا يجوز أن يرد بخلاف مقتضى العقل فصح أنه لا حكم للعقل فيها بشيء حتى نوعها الشرع قسمين حظر وإباحة بلى إن المقصرين في العلم يقولون فما حكمها بعد ورود الشرع أحكمها الحظر أم حكمها الإباحة فهذا سؤال لا يصدر إلا عن غبي وحكمها في الشرع بحسب وروده المحظور محظور بدليله والمباح بدليله ويستحيل خلو مسألة عن دليل لأن ذلك إبطال للشرع وتعطيل فما اقتضاه الدليل حكم به والله أعلم

الفصل التاسع في ترتيب الأدلة

إذا نزلت نازلة فلا يخلو أن تنزل بمقلد أو بمجتهد فإن كان مقلدا فسيأتي حاله إن شاء الله وإن كان مجتهدا فعليه أربعة فروض

الفرض الأول أن يطلبها في كتاب الله عز وجل وقد عد العلماء آيات كتاب الله الأحكامية فوجدوها خمسمائة آية وقد يزيد عليها بحسب تبحر الناظر وسعة علمه فإن لم يجدها فعليه أن يطلبها في سنة رسول الله وهي نحو ثلاث آلاف سنة فإن لم يجدها فعليه أن يطلبها في مسائل الصحابة وقضايا التابعين إجماعا واختلافا ففي ذلك أمور هدى وما ضل من اقتفى أثارهم واقتدى

فإن لم يجدها عندهم متفقا عليها أو لم يجدها أصلا فعليه فيما اختلفوا فيه وفيما لم يسمعوه أن يردوه إلى أصل من هذه الأصول الثلاثة المتقدمة إما بتعليل وإما بشبه وإما بدليل هذا إن كانت من مسائل ذلك وإن كان منشأ الاختلاف فيها أو بدء إشكالها من مثار لفظ فعليه أن يطلبه في لغة العرب فإن وجده واضحا بنى عليه وإن وجده مشكلا كشفه إما بآية وإما بحديث وإما بتعليل يظهر به كون أحد الوجهين أقوى من الآخر وإما بشبه يقوي أحد الاحتمالين إلى وجوه آخر لا تحصى في البابين سنشير إلى أصولها في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى

مثال الأول رجل ابتاع أمة ثيبا ثم اطلع على عيب فاختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال

فمنهم من قال يردها ويرد معها المهر وهو شريح القاضي

ومنهم من قال لا يردها بحال ويأخذ قيمة العيب وهو أبو حنيفة

ومنهم من قال يردها ولا شيء عليه قاله مالك والشافعي

فحظ المجتهد إذا نزلت به أن يطلبها حيث دللنا عليها فأما الكتاب والسنة فعاريان عنها عموما أو خصوصا فلم يبق إلا النظر في الأصول اتباع طرق التعليل والتعلق بالشبه والدليل ومباحث النظر فيها مذكورة بجميع وجوها في المسائل فلتطلب هناك والحمد لله

ومثال الثاني إذا لمس رجل امرأة فاختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أقوال

فمنهم من قال ينتقض وضوؤه بكل حال

ومنهم من قال لا شيء عليه بحال

ومنهم من قسم الحال فقال إن اقترنت به لذة انتقض الوضوء وإن عرى عنها لم يلزم فيه شيء وهذه مسألة خبرية موجودة في كتاب الله تعالى موجودة في سنة رسول الله

أما كتاب الله تعالى قوله عز من قائل ( أو لامستم النساء) قرئ أو لمستم النساء وقرئ أو لا مستم مفاعلة واللمس في لسان العرب معروف وهو على ضربين كناية وصريح وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه إن الله عز وجل حيي كريم ويكنى كنى باللمس عن الجماع

وروت عائشة رضي الله عنها إنها قالت فقدت رسول الله من فراشي ليلة واتبعته بيدي فوقعت على أخمص قدميه وهو ساجد الحديث

واختلف قول الشافعي في الملموس واتفق قوله في اللامس فتعارضت تيارات هذه الألفاظ فوجب البحث عن اللمس لغة ومعرفة المجاز فيه والحقيقة والنظر إلى عمومه وخصوصه وترجبح الظاهر فيه على الوجوه المذكور في المسألة فبهذين المثالين يتبين لكم سبل النظر حتى تجدوا دليل المعرفة منها على العين والأثر إن شاء الله تعالى

الفصل العاشر في الاعتراضات على القياس

وهي على ضربين صحيحة وفاسدة

فالفاسد كثير والصحيح محصور واختلف الناس في تعديده فأقل ما اتفقوا عليه عشرة أنواع

النوع الأول المنع

وهو على أربعة أضرب

الأول منع كون الأصل معللا

الثاني منع وجود العلة فيه

الثالث تسلم وجودها فيه لكن منع كونها علة

الرابع تسلم وجود الحكم

ولكل واحد من هذه أمثلة

مثال الأول قول علمائنا في مسألة النكاح بلا ولي ناقصة بالأنوثة فلم يجز نكاحها كالأمة

فيقول الحنفي لا أسلم أن امتناع الأمة من إنكاح نفسها معلل بل هو أمر حكم به الشرع ولم يظهر فيه معنى لأن البضع لا يملك السيد فيه إلا الانتفاع فأما إباحته أو منعه فلا يجوز له

ومثال الثاني أن يقول الحنفي في المسألة بعينها

سلمت لك أن الأصل معلل لكن لا أسلم أن الأمة نقصت بالأنوثة ولا الحرة لأن الشخص لا ينقص بفعل الله وخلقه الذي جبله عليه وإنما ينقص بما يكتسبه من خصال ذميمة

ومثال الثالث أن يقول الحنفي

لا نسلم لك أن الأمة ناقصة بالأنوثة وإنما هي ناقصة بالمملوكية

ومثال الرابع أن يقول الحنفي

قولك فلم يجز نكاحها لا نسلم أن إنكاحها لنفسها لا يجوز بل هو جائز عندي لكن للسيد أن يرده وكذلك لو أعتقت قبل رده جاز عندي

النوع الثاني النقض

وهو على ضربين نقض لفظي نقض معنوي

فأما النقض اللفظي

فمثاله أن يقول علماؤنا في بيع الأعيان الغائبة معقود عليه جهلت صفته فبطل بيعه أصله إذا قال لك بعتك ثوبا

فيقول الحنفي هذا ينتقض بالمنكوحة فإنها معقود عليه جهلت صفته ويصح العقد لكن عند أبي حنيفة وعندنا أن نقض العلة الشرعية لا يبطلها بل يجوز تخصيصها

وقال الشافعي لا يجوز تخصيص العلة بحال

وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى

ومثال النقض المعنوي

أن يقول علماؤنا في مسألة بيع الأعيان الغائبة

مبيع مجهول الصفة عند التقاعد حال العقد فلم يجز أصله إذا قال بعتك ثوبا

فيقول له الحنفي

هذا ينكسر بالمنكوحة فإنه معقود عليه مجهول الصفة تجوز

وإنما قيل لهذا كسر لأنه ليس بمبيع وإنما هو منكوح لكن يجمعهما إن كل واحد منهما معقود عليه وهذا يقال له نقض المعنى لأن اللفظ سلم واعترض على المعنى وهذا يدفعه الفرق بينهما

فيقال مثلا في هذه المسألة

الفرق بين النكاح وبين البيع

أن المقصود في البيع الصفات لأن الثمن يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها بخلاف النكاح فإنه ليس المقصود منه الصفات وإنما المقصود منه العين

والدليل على صحة ذلك إنه لو اطلع على عدم الصفات في النكاح لم يثبت له شيء فهذا ونحوه يرفع إلزامه

النوع الثالث القول الواجب

وهو سؤال صحيح متداول بين العلماء

ومثاله أن الماء إذا لم يتغير بالزعفران أو بشيء طاهر فالمخالطة لا تمنع الوضوء أصله إذا اختلط بالتراب

فيقول علماؤنا نحن قائلون بهذا وآخذون بالحكم فإن المخالطة لا تمنع الوضوء إنما الوضوء التغير فبطل دليل القوم

لكن حذاقهم احترزوا عن هذا بأن قالوا فالمخالطة لا تكون سببا لمنع الوضوء فهذا يمنع القول بالموجب لأن المخالطة إن لم تمنع بنفسها فهي سبب المنع

النوع الرابع القول بالقلب

ومثاله قول أصحاب أبي حنيفة في الوضوء

طهارة بالماء فلم يفتقر إلى النية أصله إزالة النجاسة

فيقول علماؤنا يقلب عليهم فنقول

طهارة بالماء فاستوى جامدها ومائعها في النية أصلها إزالة النجاسة فإن جامدها وهو الاستجمار لما لم يفتقر إلى النية لم يفتقر مائعها وهو الماء إلى النية والوضوء لما افتقر جامده وهو التيمم إلى النية وجب أن يفتقر مائعه وهو الوضوء إلا في النية

فاعترض عليهم أصحاب أبي حنيفة بأن القول لا يصح لأنه مجمل فطال الكلام فيه طولا بيناه في مسائل الخلاف والحمد لله وحده

النوع الخامس عدم التأثير

وهو سؤال متفق على صحته قادح في التعليل

مثاله أن يقول الشافعي في نكاح الثيب الصغيرة

ذهبت بكارتها بالجماع فلا تزوج إلا برضاها أصله البالغة فيقول علماؤنا لا تأثير لقولكم بالجماع فإنها لو ذهبت بغير ذلك لم تزوج وحقيقة عدم التأثير المطالبة بالعكس والعكس في العلل الشرعية لا يلزم في بعضها ولا في كلها بخلاف العلم والعالمية وشبهها فإنه لا بد لها أن تطرد وتنعكس وذلك لفقه صحيح وهو أن العلة الشرعية لا تتحد بل يجوز أن يثبت الحكم الشرعي بعلل جمة كالحائض المحرمة الصائمة فإنه لا يجوز وطئها لثلاث علل فإذا زال الإحرام بقي امتناع الوطء ولو اغتسلت لبقي امتناع الوطء بسبب الصوم فلو أفطرت لجاز الوطء لارتفاع الموانع كلها وكذلك الزاني المحصن المرتد وفي ذلك الخلاف

وفي ازدحام العلل الشرعية إشكال فإن تماثل العلل حتى تثبيت الحكم بجمعيها أو ترجيحها حتى يثبت الحكم بعضها مزلة قدم فقد فهمتم ما سبق من تعلق الحكم بعلل جمة

ومثال الترجيح أن بيع الغائب المجهول لا يجوز وبيع الخنزير لا يجوز فهاتان علتان لامتناع فلو اجتمعا فكان خنزيرا غائبا لم تستو العلتان فيقال لم يجز بيعة للخنزيرية والغبية معا بل يمتنع بيعه لوصف الخنزيرية خاصة لأنها أقوى وسقط أثر الغيبة هاهنا لأنه أضعف هذا هو المشهور في قول الأكثر والصحيح عند أهل النظر والله أعلم

النوع السادس فساد الموضوع

هو اعتراض صحيح

ومثاله ما قاله أصحاب أبي حنيفة في مسألة النية في الوضوء

طهارة فلم تفتقر إلى النية كإزالة النجاسة فيقال لهم هذا الدليل فاسد الوضع فإن الطهارة في الشريعة من أجل القرب وأعظم العبادات والعبادات والقرب مبنية علة وجوب النية بالقصد إلى المتقرب إليه والاسلاف في الثواب عنده وفساد الوضع قريب من تعليق ضد المقتضى وذلك بين في آداب النظر

النوع السابع في فساد الاعتبار

وذلك مثل أن يقول من ينفي نكاح التفويض

عقد معاوضة فلا يجوز تفويضه إلى الغير أصله البيع فنقول هذا الاستدلال فاسد الاعتبار فإن النكاح لا يجوز أن يحمل على البيع في باب العوض ولأنه يجوز السكوت عنه في النكاح ولا يجوز السكوت عنه في البيع ولأن النكاح مبني على المكارمة والبيع مبني على المشاحة والمكايسة ونشأ الكلام من هذا الاعتراض وبني عليه

النوع الثامن الفرق

وهو اعتراض صحيح يجمع أربع اعتراضات وهو يبرز الفقه ويبين ويثير الدليل ويخص العلة مثاله أن يقول علماؤنا

في أن المسلم لا يقاد منه للذمي منقوص بالكفر فلا يكافي دمه دم المسلم كالمستأمن

فيقول أصحاب أبي حنيفة الفرق بين المستأمن والذمي بين وذلك إن المستأمن ليس من أهل الدار فلذلك لم تكمل له حرمة ولم يجب القصاص على قاتله والذمي من أهل الدار فكان كامل الحرمة

النوع التاسع المعارضة

وذلك أن يستدل المسؤول بدليل فلا يتعلق السائل بشيء من الدليل أكثر من أن يذكر هو دليلا آخر وقد اختلف الناس فيه والصحيح أنه صحيح على ما بيناه في علم النظر والحمد لله وحده

النوع العاشر جعل العلة معلولا والمعلول علة

وذلك مثل قول أصحابنا في النجاسة لا تزال بالخل مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل النجاسة أصله الماء النجس

فيقول أصحاب أبي حنيفة لا نقول أن الماء النجس لم يزل النجاسة لأنه لا يرفع الحدث بل نقول لأنه لا يرفع الحدث لأنه يزيل النجس

وهو سؤال غير ضائر لما بيناه في علم النظر لأن الشرع لا علة فيه ولا معلول على الحقيقة وإنما هي أمارات فلا يمتنع أن يكون كل واحد من الأحكام دليلا على صاحبه وإنما يستحيل ذلك في العقليات لأنها حقائق والحقيقة لا تنقلب