كتاب النسخ

فيه أربعة أبواب

الباب الأول في حقيقة النسخ

وقد تقطعت المهرة فيه أفرادا وهو أمر عسير الإدراك جدا

قالت المعتزلة النسخ انقضاء أمد العبادة

فرد عليهم بوجهين أحدهما أن الأمد ليس له في الخطاب ذكر

والثاني أن نسخ غير العبادة جائز فلا معنى لتخصيص العبادة بالذكر

وقال القاضي النسخ رفع الحكم الثابت وكيف يصح أن يرتفع حكم لأنه إن ثبت لم يرفع وإن رفع لم يثبت

وإن أراد أن الحكم ثابت فيما مضى مرتفع فيما يستقبل فلم يرفع ثابت

والقاضي رحمه الله أجل مقدارا من هذا الحد وبحره عميق وأرشق عبارة فيه عدم شرط استمرار الحكم وتحقيق ذلك في الأصول

الباب الثاني في جواز النسخ

أنكرته اليهود لوجهين

أحدهما الخبر والآخر النظر

فإما الخبر فما زعموا من قول موسى عليه السلام في التوراة إن هذه الشريعة مؤبدة عليكم إلى يوم القيامة

وأما النظر فلأن النسخ فيه بدء وذلك لا يجوز على الله عز وجل لعلمه بالعواقب ولاستواء المستقبل عنده والذاهب

فأما تعلقهم بقول موسى عليه السلام فهو اختراعهم وأنى يتحقق ما في التوراة وقد أحرقت مرتين واجتمعوا على تلفيقها فما تحصلت ولو ثبت ذلك من قوله فهو عموم وهل كلامنا إلا في نسخ العموم إما لفظا وإما وقتا

وأما تعلقهم بالنظر فمسلكه لائح لنا ولا حجة لهم فيما ذكروه من البداء لأن النسخ الله تعالى ليس بما بدا له وإنما هو مما علمه وأحكمه فاقتضت المصلحة أن يقع التكليف به في وقت ولا يقع في آخر فإلزامه المكلف ظاهرا ولم يطلع على ما في الباطن ثم اطلع فعلم أن الحكمة في إخفائه أولا والمصلحة في تبديله آخرا ولذلك رد الله تعالى عليهم وبين جهلهم فقال (إذا بدلنا ءاية مكان ءاية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين ءامنوا وهدى وبشرى للمسلمين)

الباب الثالث في الناسخ

الناسخ هو الله تعالى في الحقيقة وكلامه مجاز ثان ونبيه مجاز ثالث تركب عليه ولكن جاز إطلاق الناسخ على غير الله تعالى مع معرفة حقيقة الناسخ قصد البيان وإرادة التقريب

فالكتاب ينسخ بالكتاب والسنة تنسخ بالكتاب عند جمهور العلماء وأنكره أصحابنا وأصحاب الشافعي والأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني رحمهم الله وعمدتهم أن القرآن معجز وكلام النبي غير معجز فكيف يرد المعجز بما ليس بمعجز وهذا كلام هائل ليس وراءه طائل ويقال لهم ما أبديتموه دعوى فما الدليل على صحتها ثم يعارضون بنسخ نصف آية لآية كاملة وأكثر نصف الآية غير معجز ولكن ذلك عندنا إذا ثبت طريق السنة قطعا بالخبر المتواتر وأما إن كان خبر واحد فقد تعاطى بعضهم النسخ به وهي مزلة قدم لأن خبر الواحد مظنون ولا يساوي الظن اليقين فضلا أن يعارضه

الباب الرابع

وفيه ثلاث مسائل

المسألة الأولى

يجوز نسخ الحكم مع بقاء التلاوة إجماعا ويجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم عندنا خلافا للمعتزلة حيث قالوا

لا يجوز واحتجوا بأن التلاوة أصل والحكم المستفاد بها فرع لها ويجوز ذهاب الفرع نع بقاء الأصل فأما ذهاب الأصل مع بقاء الفرع فمحال

والجواب عن كلامهم وهو الدليل أن تقول

التلاوة حكم مستقل بنفسه والحكم المستفاد منها حكم مستقل أيضا بنفسه والدليل على كونه مستقلا بنفسه انفراد كثير من الأحكام عن القرآن ونسخ حكم القرآن بحكم السنة

وإذ كان كل واحد منهما معزولا عن صحابه مستقلا بنفسه دون الاخر جاز نسخ كل واحد منهما معزولا عن صاحبه

ويعضد ذلك ما أجمعت عليه الأمة من أنه كان قرآنا يتلى الشيخ والشيخة إذا زانيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم فقد نسخ هذا اللفظ كله إجماعا ويقي حكمه إجماعا

المسألة الثانية

نسخ الأمر قبل الفعل جائز خلافا للمعتزلة

قالوا في شبههم على ذلك فائدة الأمر ابتلاء المكلف واختباره في الإقدام والإحجام والترك والامتثال وإذا وقع النسخ قبل ذلك ذهبت الفائدة فصار الأمر عبثا والله تعالى تجلى عن ذلك

الجواب

وهو الدليل أن نقول فائدة الأمر بالحكم المنسوخ قبل الفعل ابتلاء المكلفين والاعتقاد هل يلزمه أم يرده ولا يقبله والابتلاء في الاعتقاد كفر ومخالفة الفعل معصية وهذا أهون من ذلك فلم يعد إذا نسخ حكم قبل الفعل عن فائدة عظمى يستقل التكليف بها في إثارة الفائدة وإبانة المصلحة على أنا لا نسلم أنه يلزم وقوف المكلف على كل فائدة يتعلق بالتكليف والعلم بوجوه المصالح المرادة بالامتثال والزجر

وقد دل علماؤنا عن بكرة أبيهم على وقوع هذه المسألة شرعا بقصة الخليل صلوات الله عليه وسلم فإنه أمر بذبح ولده ثم نسخ ذلك قبل فعله وكان الفداء غير قادح في الاهتداء والاقتداء

والذي أراه أن هذه المسألة ليست من ذلك الباب وإنه أمر خفي على علمائنا ووهم واقعوه من غير قصد وقد بينا ذلك في التمحيص والحمد لله وحده

المسألة الثالثة

النسخ لا يثبت إلا من البلاغ وما رفع قبل نزوله وقبل العلم به منسوخ قطعا لكنه معفو عنه شرعا وقالت طائفة من العلماء لا يعفى عنه وقد كان ذلك جائزا لولا إن الله تبارك وتعالى على لسان رسوله لم يؤاخذ بما مات عليه من لم يبلغه فكان ذلك دليلا على العفو فيه وقد وقعت من ذلك في حياة الرسول نوازل كثيرة منها مسألة وغيرها وفيها غنية عن سواها

كتاب الترجيح

الترجيح في اللغة عبارة عن وفاء أحد المتقابلين من أي معنى كانا وبأي وجه توازنا وذلك في الشريعة عبارة عن وفاء أحد الظنين على الآخر وهو على قسمين

رجحان الألفاظ ورجحان المعاني

فأما رجحان الألفاظ فأن يتعارض نصان أو ظاهران أو عمومان أو دليلا خطاب وذلك بين خمسين مثالا قد عددناها وبيناها في التمحيص وذكرنا قول من زاد عليها عشرين فبلغها سبعين ورأينا من نيف بها على المائة ولكنا في هذه العجالة رأينا أن وجوهها ستة عشر وجها منها عشرة التي في النص ومنها ستة في العموم

أما العشرة في النص فذلك في

الأول أن يتبين على أحدهما مخاييل التأخير إما في الزمان وإما في المكان وإما في الحال فهذه ثلاثة أوجه لا رابع لها

الثاني أن يكون أحد الراويين أوثق

الثالث أن يكون أحد الأثرين أكثر رواة

الرابع أن يكون أحد الخبرين أكثر الرواة والآخر أقل منه لكنهم أوثق قدم الأوثق في الوجهين وقد الأكثر في

الخامس أن يكون أحد الخبرين يعتضد بعمل الصحابة رضوان الله عليهم فيكون اولى وفي ذلك تفضيل

السدس أن يعضد أحد الخبرين بعمل الراوي ويترك الآخر العمل بالحديث الذي روى فيكون المعتضد بالعمل أولى

السابع أن يكون أحد الخبرين يعضده ظاهر من كتاب أو سنة فيكون الحكم به أولى

الثامن أن يكون أحد الخبرين يعضده قياس الأصول والآخر يخالفه فيكون الأول أولى

التاسع أن يكون أحدهما يقتضي احتياطا والآخر أستر فيكون الذي يقتضي الاحتياط أولى

العاشر أن يتضمن أحد الخبرين إثباتا ويتضمن الآخر نفيا فيكون الذي يتضمن الإثبات أولى ولذلك كله أمثلة ونظائر كثيرة

أما الستة التي في العموم

فأن يكون أحد العمومين أكثر رواة لم يخصص

والثاني أن يكون أحد العمومين لم يخصص

والثالث أن يكون أحد العمومين مطلقا والآخر ورد على سبب

والخامس أن يكون أحدهما لا يعارضه دليل الخطاب

والسادس أن يكون أحد العمومين معمولا به فيقدم الأكثر رواة والذي لم يخصص والذي يظهر فيه القصد والذي لم يرد على

سبب والذي لم يعارضه دليل والذي اتصل به العمل على الذي لم يتصل به العمل

وأما المعارضة في المعاني فهي لا تحصى عدة وقد جمعها علماؤنا إلى أكثر من مائة كالأول

ولكنا نشير لكم منها إلى نبذ يسيرة هي كالأصول تكون مفتاحا لبقية الفصول فنقول

إن العلل إذا تعارضت والذي يضبط الرجحان فيها تأصيلا يدل على التفصيل ويغني عنه ثلاث أشياء

أحدها أن يعتضد بنص أو بوجه من وجوه الترجيحات التي قدمناها

الثاني أن تسلم من الاعتراضات أو تكون أقل اعتراضا من معارضها

الثالث أن تكون إحداهما متعدية والأخرى واقفة فتكون المتعدية أقوى ومعنى الواقفة التي ليس لها فروع