الحد السادس: في الشكر والمدح والحمد والذم والاغتياب والأدعية والتهنئة والهدية والمرض - الفرع الأول

محاضرات الأدباء

الراغب الأصفهاني

الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصفهاني (أو الأصبهاني) المعروف بالراغب والمتوفي سنة 502هـ-1108م

 

الحد السادس

في الشكر والمدح والحمد والذم والاغتياب والأدعية والتهنئة والهدية والمرض

الفرع الأول

مما جاء في الشكر

حقيقة الشكر:

قيل: الشكر ثلاثة: شكر لمن فوقك بالطاعة؛ قال الله تعالى: " اعملوا آل داود شكراً " . ولمن فوقك بالأفضال؛ قال الله تعالى: " إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم" . ولنظيرك بالمكافأة؛ قال الله تعالى: " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " . وقيل: الشكر ثلاث منازل: ضمير القلب، وثناء اللسان، والمكافأة بالفعل، وقال عمر بن عبد العزيز: ذكر النعم؟ شكر.

إيجاب الشكر:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان عليه يد فليكافىء عليها، فإن لم يفعل فليثنين عليه، فإن لم يفعل فقد كفر النعمة. وقيل: إذا قصرت يدك بالمكافأة فليطل لسانك بالشكر.

شاعر:

أعليّ لوم إن مدحت معاشراً ... خطبوا إليّ المدح بالأموال؟

يتزحزحون إذا رأوني مقبلاً ... عن كل متكأ من الإجلال

ذم الكفران:

خطب نصر بن يسار فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من أنعم على قوم فلم يشكروه فدعا الله عليهم استجيب له فيهم، اللهم إني قد أحسنت إلى آل سام فلم يشكروه، اللهم فأذقهم حر الحديد! فما دار عليهم الحول حتى قتلوا جميعاً. وقال الله تعالى: " ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم " . إذا قل الشكر حسن المن. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله قاطعي سبل المعروف! فقيل: من هم؟ قال: من أزهد في المعروف لكفران النعمة.

الحث على استزادة النعمة وارتباطها بالشكر:

قال الله تعالى: " لئن شكرتم لأزيدنكم " . وقال عمر رضي الله عنه: أهل الشكر في مزيد من الله تعالى لهذه الآية، قيل: لا زوال للنعمة إذا شكرت ولا بقاء لها إذا كفرت. الشكر نسيم النعم. النعمة وحشية فإشكلوها بالشكر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوطد الناس نعمة أشدهم شكراً. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك، فإنه لا زوال للنعمة إذا شكرت، ولا بقاء لها إذا كفرت، وإذا كانت النعمة وسيمة فاجعل الشكر لها تميمة. وقال ابن المقفع: استوثقوا عز النعم بالشكر. وقيل: النعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت. قال ابن سقلاب: رأيت البحتري فقلت ما خبرك؟ فأنشد بديهة:

يزيد تفضلاً وأزيد شكراً ... وذلك دأبه أبداً ودأبي!

الحث عن الإسداء إلى من لا يشكر:

عمرو بن مسعدة قيل: لا تصحب من استمتاعه بمالك وجاهك أكثر من امتاعه لك بشكر لسانه وفوائد عمله. وقيل: اصنع المعروف إلى من يشكره ويذكره، واطلبه ممن ينساه.

من تكفل لمسترفده بشكره:

دعبل:

لأشكرن لنوح فضل نعمته ... شكراً تصادر عنه ألسن العرب

البحتري:

فإن أنا لم أشكرك نعماك جاهدا ... فلا نلت نعمي بعدها توجب الشكرا

عمارة بن عقيل:

فلأشكرنك بالذي أوليتني ... ما بلّ ريقي للكلام لساني

أبو تمام:

لئن جحدتك ما أوليت من حسن ... إني لفي اللؤم أحظى منك في الكرم

ولبعض المتأخرين:

لأملأن لسان الشكر فيك فقد ... أطلقته بفعال ملؤه كرم

من لم يرد عنه خوفه عن شكر المحسن إليه:

بعث المنصور إلى شيخ من بطانة هشام، فاستحضره وسأله عن تدبير هشام وأحواله، فأقبل الشيخ يقول: فعل رحمه الله، وقال يوم كذا رحمه الله! فقال المنصور: أقم لعنك الله أتطأ بساطي وترحم على عدوي؟ فقال الشيخ: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا عم غاسلي! فقال المنصور: ارجع إلى حديثك فإني أشهد أنك غرس شريف وابن حرة! ولما قتل مسلمة بن عبد الله يزيد ابن المهلب أمر بأن يحضر الشعراء ليقولوا في ذلك، فلم يألوا أن ذكروه بأقبح ما قدروا عليه، ما خلا رجلاً من بني دارم، فإنه قال: لا أذم رجلاً لا أملك ربعاً ولا مالاً ولا أثاثاً إلا منه، ولو قطعت إرباً إرباً، ولقد رثيته بأحسن ما يرثى به رجل، فأنشد أبياتاً رائعة. فجزاء سليمان خيراً وقال: لا اصطنع فليصطنع مثل هذا.

المظهر عجزه عن شكر المنعم عليه:

أبو الوفاء:

أيادي لا أستطيع كنه صفاتها ... ولو أن أعضائي جميعاً تكلم

وقال بعضهم: شكري لايقع من نعمه المتظاهره موقع النقطة من الدائرة.

شاعر:

ولو أن لي في كل منبت شعرة ... لساناً بيت الشكر فيك، لقصرا

آخر:

واسكتني نعمى كأني مفحم ... ولم أر مثلي مفحماً وهو مقول

آخر:

أيادي منهم ليس يبلغها الشكر

الغساني:

أثقلت بالشكر كل عاف ... فراقب الله في الرقاب

آخر:

ما زلت تحسن ثم تحسن عائداً ... وأعود شاكر نعمة فتعود

فتزيدني نعماً وأشكر جاهداً ... فكذلك نحن! تريدني وأزيد!

آخر:

فإن يك أربى عفو شكرك عن يدي ... أناس فق أربى نداه على شكري

المستنكف آلاء معطيه عجزاً عن شكره:

المتنبي:

ولم نملل تفقدك الموالي ... ولم نذمم أياديك الجساما

ولكن الغيوث إذا توالت ... بأرض مسافر كرة الغمام

محمد بن أبي عمران:

رويدك لا تعنف علي وأعفني ... على حسب أقضي ما أطيق من الشكر

وقد أجاد أبو نواس في هذا المعنى:

أنت امرؤ جللتني نعماً ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا

لا تسدين إلي عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا

وقد أبدع البحتري في هذا المعنى حيث يقول:

أخجلتني بندى يدي وسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء

وقطعتني بالجود حتى أنني ... متخوف أن لا يكون لقاء!

وله أيضاً:

أيها أبا الفضل شكري منك في نصب ... أقصر فما لي في جدواك من أرب

لا أقبل الدهر نيلاً لا يقوم له ... شكري، ولو كان مسديه إلى أبي!

وقال العثماني في الصاحب:

وفدنا لنشكر كافي الكفاة ... ونسأله الكف عن برنا

فقال العلوي: قد كفيت فإن الصاحب صار لا يعطي شيئاً!

من لا يخفي أياديه:

أياد تتضوع ونعم تسطع وآلاء تتطلع.

الشمردلي:

أياديك لا تخفي مواقع صوبها ... فتعفو إذا ما ضيع الحمد والشكر

وهل يستطيع الأرض ما بعدما انطوت ... على ريها انكار ما فعل القطر

نصيب:

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

آخر:

هب الروض لا يثني على الغيث نشره ... أمنظره تخفى مآثاره الحسنا؟

أبو الحسين الحسنى:

وكيف بكفراني صنائعه التي ... إذا جحدت يوماً أقر بها جلدي

ذكر الحال بأنها منبئة عن المقال:

في المثل: لسان الحال أفصح من لسان الشكر. وقال الجاحظ: نحن نزخرف باللسان والناس يقضون بالعيان، وفي أمرنا أثر ينطق عنا ويتكلم إذا سكتنا.

الموسوي:

وإذا سكت فإن أنطق من فمي ... عني يد المعروف والإحسان

المسلف شكره قبل النعم:

محمد بن عمران:

شكرتك قبل الخير إن كنت واثقاً ... بأني بعد الخير لا شك شاكر

عتبك من شكوته ولما يستوجب:

مسلم:

فما من يد قدمتها كنت مثنياً ... عليك ولكني هززتك للمجد!

وإن شئت ألقيت التفاضل بيننا ... وقلنا جميلاً، واقتصرنا على الحمد

آخر:

وشكر الفتى من غير عرف ولا يد ... ولا منى توليه هزة عاتب

الصاحب:

وإذا الصديق أدام شكري للتي ... لم آتها إلا على التقدير

أيقنت أن العتب باطن أمره ... فسكت محتشماً على التقصير

آخر:

إذا ما المدح صار بلا ثواب ... من الممدوح كان هو الهجاء

دعبل:

لا يقبلون الشكر ما لم ينعموا ... نعماً يكون لها الثناء تبيعا

وقيل: من رضي بالثناء قبل الاستحقاق تبين ضعف عقله.

الحث على الشكر بقدر الاستحقاق:

قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: الثناء من غير الاستحقاق ملق، والتقصير عن الاستحقاق عي وحسد. وقال رجل لابن الأعرابي: إن نصيباً يقول: إنما تمدح الرجال على قدر أثوابها. فقال: إن العرب تقول: على قدر ريحكم تمطرون.

شكر من هم بإحسان وإن لم تفعله:

من لم يشكر على حسن النية لم يشكر على إسداء العطية. وكتب الصاحب: إن شكرت فاشكر النية لا العطية؛ قال الشاعر:

لأشكرنك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف

ولا أذمك إن لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف

ثقل الحمد وتفضيله على الرفد:

محمود:

فلما بلغت أيدي المنيلين بسطة ... من الطول إلا بسطة الشكر أطول

ولا رجعت في الوزن يوماً صنيعة ... على المرء إلا منة الشكر أثقل

آخر:

تبهج لي بعرف تشتريه ... بشكرك إنه بالشكر غال

أبو تمام:

والحمد لله لا ترى مشتاره ... يجنيه إلا من نقيع الحنظل

غل لحامله ويحسبه الذي ... لم يوه عاتقه خفيف المحمل

ومن باب ثقل الشكر ما روي عن بعض الصالحين وقد قيل له: مالك لا تطلب الدنيا؟ فقال: من خاف السؤال عن الشكر طابت نفسه عن المال.

المستغني عن رفد من استغنى عن الشكر:

عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:

لئن طبت نفساً عن ثنائي إنني ... لأطيب نفساً عن نداك على عسري

أبو العتاهية:

ما فاتني خير امرئ وضعت ... عني يداه مؤنة الشكر

ذم من كفر نعمة:

قال الله تعالى: " قتل الإنسان ما أكفره " ! وقال: " وقليل من عبادي الشكور " . وقيل: من لم يشكر الناس لم يشكر الله؛ وأخذه البحتري فقال:

فمن لا يؤدي شكر نعمة خله ... فأنى يؤدي شكر نعمة ربه؟

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا جمع الخلائق يوم القيامة قال بعد هل شكرت فلاناً؟ فيقول: يا رب علمت أنك المنعم فشكرتك، فيقول الله تعالى: لم تشكرني إذا لم تشكر من أجريت ذلك على يده. وقيل: إذا وقع الكفر وجب المن.

الخبزارزي:

من لم يلاق كرامات الرجال له ... بالشكر أصبح في طرق الهوان لقي

أبو تمام:

شر الأوائل والأواخر ذمة ... لم تصطنع، وصنيعة لم تشكر

وقيل: هو أكثر من ناشرة. وكان قد أخذه همام بن مرة من أمه وأرادت أن تئده فلما بلغ سعى في قتل همام. وقيل: من لم يحمد صاحبه على حسن العطية كيف يحمد على حسن النية؟ 

مما جاء في المدح ومستحقيه والهجو وذويه

وصف الثناء بالبقاء والترغيب فيه:

فسر قول الله تعالى " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " بأنه الثناء الحسن. وقال تعالى: " وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم " . أي يقال له هذا. أطول الناس عمراً أعمهم بالخير ذكراً في الثناء الباقي على الدهر خلف من نفاذ العمر.

الأسدي:

وإني أحب الخلد لو استطيعه ... وكالخلد عندي إن أبيت ولم ألم

آخر:

وبقاء الذكر في الأحياء للأموات عمر

وقال الروم: ما فني من بقي ذكره، وقيل لبزرجمهر حين كان يقتل: تكلم بكلام تذكره. فقال: الكلام كثير ولكن إن أمكنك أن تكون حديثاً حسناً فافعل.

شاعر في معناه:

وكن أحدوثة حسنت فإني ... رأيت الناس كلهم حديثاً

آخر:

أرى الناس أحدوثة ... فكوني حديثاً حسن

ولم جعل ابن الزيات في التنور قال له خادمه: يا سيدي قد صرت إلى ما صرت وليس لك حامد! وقال: وما تقع البرامكة صنيعهم؟ قال: ذكرك لهم الساعة. فقال: صدقت! وقال:

حب الثناء طبيعة الإنسان

التحذير من ألسنة الشعراء وذمهم:

قيل: اتقوا ألسنة الشعراء فإنها سمة لائحة وأنشد:

وللشعراء ألسنة حداد ... على العورات موفية دليله

إذا وضعت مكاويهم عليها ... وإن كذبوا فليس له حيله

ومن عقل الفتى أن يتقيهم ... ويدفعهم مدافعة جميله

فضل الشكر على الوفر والحمد على الرفد:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنه هرم: ما وهب أبوك لزهير؟ فقال: أموالاً فنبت وأتراباً بليت وأشياء انتسبت. فقال عمر رضي الله عنه: لكن ما أعطاه كموه زهير لا يفنى ولا ينسى! وكتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر: إن كل عقيلة يأتي عليه الدهر فيخلق أثره ويميت ذكره إلا ما رسخ في القلوب من الذكر الحسن يتوارثه الأعقاب.

التخويف من فعل يورث قبح الذكر:

قال بعضهم: فلان حافظ من اليوم أعقاب الأحاديث في غد.

عوف بن محلم:

فتى يتقي أن يخدش الذم عرضه ... ولا يتقي حد السيوف البواتر

أبو لحاد:

حذار الأحاديث التي يوم غيّها ... عقدن بأعناق الرجال المخازيا

حث محب الحمد على إسداء النعم:

قال حكيم: من أحب الثناء فليبصر على بذل العطاء، وليوطن نفسه على الحقوق المرة، وعلى احتمال المؤنة. قال الشاعر:

ما أعلم الناس أن الجود مكسبة ... للحمد لكنه يأتي على النشب

وقال: أي أحدوثة تحب، فكنها.

فضل استقبال الإنسان بممادحه:

خياركم من ملئت مسامعه من حسن الثناء وهو يسمع، وشراركم من ملئت من قبح الثناء وهو يحذر. وقال خالد بن سالم: دخلت على أسامة بن يزيد فأثني علي ثناء حسناً ثم قال لي:إنما حملني على أن أمدحك وجهك لأني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مدح الإنسان في وجهه ربا الإيمان في قلبه. وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أمدح! فقال: وما عليك أن تعيش حميداً وتموت فقيداً. وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل فقد مدح نفسه وأمر العباد بمدحه.

كراهية ذلك:

سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يثني على آخر فقال: قطعت مطاه لو سمع ما أفلح. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المدح ذبح. وقيل: إن الإطراء يدعو إلى الغفلة. ولما جرح عمر رضي الله تعالى عنه أثنى عليه الناس فقال: المغرور من غررتموه، لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع. وقيل: استحياء الكريم من المدح أكثر من استحياء اللئيم من الذم. وأثنى رجل على هشام بن عبد الملك فقال: أنا أكره المدح. فقال: لست أمدحك ولكني أحمد الله فيك!

إستحسان المدح بين الإخوان واستقباحه:

قيل: إذا قدم الإخاء سمج الثناء.

كشاجم:

ومستهجن مدحي له أن تأكدت ... لنا عقد الإخلاص والحق يمدح

وما بي الذي في القلب إلا تبيّناً ... وكل إناء بالذي فيه يرشح

التحذير ممن يمدحك في وجهك تصنعاً:

قيل: أعوذ بالله من صديق يطري وجليس يغري. وكان رجل يكثر على الثناء على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعلم من قلبه خلاف قوله فقال له: أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك! الجاحظ: شر الشكر ثناء المواجه لك المسرف في مدحك، وخيره ثناء الغائب عنك المقتصد في وصفك. وصف العتابي رجلاً بالمداهنة فقال: ذلك إن وجد مادحاً مدح، وإن وجد قادحاً قدح، وإن استودع سراً افتضح.

أبو فراس:

ولا تقبلن القول من كل قائل ... سأرضيك مرأى لست أرضيك مسمعا

التحذير ممن يتجاوز الحد في مدحك:

قيل: كن ممن أفرط في تزكيتك أحذر ممن أفرط في الزراية بك. وقيل: من مدح الرجل بما ليس فيه فقد بالغ في ذمه. وفي المثل: من حقنا أو رفنا فليقتصد. وقيل: من أحب أن يمدح بما ليس فيه استهدف للسخرية.

من وضع نفسه وكره الثناء:

لما ولي أبو بكر رضي الله عنه خطب فقال: إني وليتكم ولست بخيركم؛ فلما بلغ الحسن قوله قال: بلى ولكن المؤمن يهضم نفسه. وقال الفضيل: لو شممتم رائحة الذنوب مني ما قربتموني. وأثنى على زاهد فقال: لو عرفت مني ما عرفت من نفسي لأبغضتني.

المتنبي:

يحدّث عن فضله مكرها ... كأن له منه قلباً حسودا

ما يقول الفاضل عند مدح الناس له:

كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول إذا مدح: اللهم أنت أعلم مني بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يحسبون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون. وقيل لأعرابي: ما أحسن الثناء عليك؟ فقال: بلاء الله عندي أحسن من وصف المادحين وإن أحسنوا، وذنوبي إلى الله أكثر من عيب الذامين وإن أكثروا.

النهي عن المدح قبل الإختبار:

قيل: لا تهرف قبل أن تعرف. وقيل: لا تحمدن أمة عام شرائها ولا حرة قبل بنائها. وقال رجل لعمر رضي الله عنه: أن فلاناً رجل صدق. فقال: هل سافرت معه أو ائتمنته؟ قال: لا. فقال: إذاً لا تمدحه لا علم لك به، لعلك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد.

عتب من يمدح نفسه:

قيل: خطب معاوية خطبة حسنة فقال: هل من خلل؟ فقال رجل من عرض الناس: خلل كخلل المنخل! فاستدعاه وقال: ما ذاك الخلل؟ فقال: إعجابك به ومدحك له! وقيل لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقاً؟ قال: مدح الرجل نفسه. وقال معاوية لرجل: من سيد قومك؟ فقال: أنا. فقال له: لو كنت كذلك لم تقله. وسئل الشاعر الأهوازي: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت والله أظرف الناس، وأشعر الناس، وآدب الناس! فقال السائل: أسكت حتى يقول الناس ذلك! فقال: أنا منذ ثلاثين سنة أنتظر الناس وليسوا يقولون. ومدح أعرابي نفسه فعوتب في ذلك فقال: أكله إليكم إذا لا تقولون أبداً.

الرخصة في ذلك:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا سيد العرب ولا فخر. وحكى الله تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام أنه قال: إني حفيظ عليم. ولم يستقبح ذلك من الشعراء إذ قالوه نظماً.

عذر من يحوج إلى مدح نفسه ومن عرض بذلك:

قد أحسن ابن الرومي في ذلك حيث يقول:

وعزيز علي مدحي انفسي ... غير أني جشمته للدلالة

وهو عيب يكاد يسقط فيه ... كل حرّ يريد يظهر حاله

ووصف للمنصور مشير بن ذكوان فأمر باشخاصه إليه، فلما دخل قال له: أعالم أنت؟ فقال: أكره أن أقول نعم وفيه ما فيه، أو أقول لا فأكون جاهلاً. فأعجب المنصور بجوابه وألزمه المهدي. وسأل المأمون عبد الله بن طاهر عن ابنه فقال: إبني إن مدحته ذممته، وإن ذممته ظلمته إلا أنه نعم الخلف لسيده من عبده إذا اخترمته منيته.

من عجز الشعراء عن استيعاب مدحه:

الماكي:

جهدت ولم أبلغ مداك بمدحة ... وليس مع التقصير عندي سوى العذر

وفي شعر آخر:

وليس على من كان مجتهداً عتب

آخر:

يزيد على شأوي زياد وجرول ... وقد غودر ابن العبد في نظمه عبدي

أشجع:

مدحناهم فلم ندرك بمدح ... مآثرهم ولم نترك مقالاً

المتنبي:

وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لساناً قائلاً فقل

ابن الحجاج:

هو البحر إن حدثت عن معجزاته ... ضعفت عن استغراق تلك العجائب

وإن رام شعري أن يحيط بوصفه ... أحاط بشعري العجز من كل جانب

من كثرت ممادحه سهل الشعر على مادحه:

قيل للفرزدق: أحسن الكميت في الهاشميات! فقال: وجد آجراً وجصا فبنى. كتب بعضهم: فتحت شيمه على المداح مستغلقات الكلام. وقال آخر: جود آل المهلب تركهم أهدافاً للمديح.

أحمد بن أبي طاهر:

إذا نحن حكنا الشعر فيك تسهلت ... علينا معانيه وذلّت صعابها

فما انتظمت إلاّ عليك عقودها ... وما انتشرت إلاّ عليك ثيابها

ابن الرومي:

كرمتم فجاش المفحمون لمدحكم ... إذا رحزوا فيكم أبيتم فقصدوا

كما أزهرت جنّات عدن وأثمرت ... فأضحت وعجم الطير فيها تغرد

وله:

عجبت لمن يهديه للشعر مدحكم ... وتنطقه أيامكم وهو مفحم

قال نصيب الأصغر:

ما لقينا من جود فضل بن يحيى ... ترك الناس كلّهم شعراء

فأجمعوا على جودته وأنه لا عيب فيه إلا أنه منفرد.

عابدة المهلبية:

فيا يوماً أديل الموت فيه ... وقال السيف للشعراء: قولوا!

من أحيا بأفضاله طريقة الشعر:

أبو تمام:

ملك إذا ما الشعر حار ببلدة ... كان الطريق لطرفه المتحير

وله:

وحياة القريض إحياؤك الجو ... د فإن مات الجود مات القريض

المتنبي:

يا أيها المحسن المشكور من جهتي ... والشكر من قبل الإحسان لا قبلي

عابدة المهلبية:

إليّ إليّ أيتها القوافي ... سيغلي مهرك الملك الجليل

ويروى للخوارزمي:

خذي ثار الكساد من الليالي ... لكل صناعة يوماً مديل

وقيل لذي الرمة: لم خصصت بلالاً بمدحك؟ قال: لأنه وطأ مضجعي وأكرم مجلسي فاستولى بذلك على شكري ومدحي.

المستفاد منه ما يمدح به:

أحمد بن إسمعيل:

وإني وإن أحسنت في القول مرة ... فمنك ومن إحسانك امتارها جسمي

آخر:

تعلمت مما قلته وفعلته ... فأهديت حلواً من جناي لغارس

ابن طباطبا:

لا تنكرنّ إهداءنا لك منطقاً ... منك استفدنا حسنه ونظامه

والله عزّ وجل يشكر فعل من ... يتلو عليه وحيه وكلامه

آخر:

إن جد معنى فمن جدواه معتصر ... أو جلّ لفظاً فمن علياه مهتصر

المعني بكل مدح حسن:

المتنبي:

متى ما أقل في آخر الدهر مدحة ... فما هي إلا في ليالي المكرم

فظنوني مدحهم كثيراً ... وأنت بما مدحتهم مرادي

من يليق به مدحه:

المتنبي:

وأصبح شعري منهما في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقد

ابن الرومي:

خذها هدايا ولم أنكحكها عزباً ... يا ابن الوزير وكم أنكحت من عزب!

علي بن عبد العزيز:

وأرى المديح إذا عداك نقيصة ... فأعافه ولو أنه في حاتم

فإذا امتدحت سواك قال الشعر لي: ... لم ترع حقي إذا أبحت محارمي

 

من يستطاب مدحه:

أبو تمام:

عذبت ممادحه بأفواه الورى ... فثناؤه ينتاب كل مكان

المتنبي:

ألذ من الصهباء بالماء ذكره ... وأحسن من يسر تلقاه معدم

المجمع على مدحه:

ذكر أعرابي رجلاً فقال: كأن الألسن والقلوب ريضت له، فما تعقد إلا على وده ولا تنطق إلا بحمده. وقيل: غاية المدح أن يمدحك من لا معرفة له بك ضرورة إلى مدحك، وأن يسلقك حسن الثناء من عسى أن لا يصل منك إلا نفع.

البحتري:

وأرى الخلق مجمعين على فضلك من بين سيد ومسود

عرف الجاهلون فضلك بالعلم. وقال الجهال بالتقليد

ابن أبي طاهر:

وما أنا في شكري علياً بواحد ... ولكنه في الفضل والجود واحد

من لا يجد أحد عن مدحه محيصاً:

قال أبو عمرو: غاية المدح أن يمدحك من لا يريد مدحك، وغاية الذم أن يذمك من لا يريد ذمك. وكتب بعضهم: الجاحد فضلك كمن سمى النهار ليلاً والشمس ظلاً.

ابن الرومي:

يا من إذا قلت فيه صالحة ... عند عدو أقر واعترفا

آخر:

ليس يستطيع أن يقول المعادي ... فيك إلا الذي يقول الموالي

السلامي:

فما عثرت لكم تهم الأعادي ... على خلق ولا خلق قبيح!

من مدحه صدق غير منحول:

الأحوص:

وما أثن من خمير عليك فإنه ... هو الحق معروفاً كما عرف الفجر

ابن الرومي:

إذا امتدحوا لم ينحلوا مجد غيرهم ... وهل ينحل الأطواق ورق الحمائم؟

وكتب بعضهم: مما يبسط لسان مدحك أمنه من تحمل الإثم فيه وتكذيب السامعين.

من يتزين بممادحه المدح والمداح:

ابن الرومي:

أنت زنت القلائد الزهر قدماً ... ضعف ما زانت القلائد جيدك

الرفاء:

إذا القوافي بذكره اشتملت ... عطرها ذكره وحلاها

آخر:

وتزينت بصفاته المدح

آخر:

على تطيب برياها مدائحنا ... كالمسك تأخذ منه الريح أعرافا

المستغني عن المدح لكثرة فضله:

كتب بعضهم: إذا أنا تعاطيت مدحك فكالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، وهل يخفى ذلك على الناظر؟ البحتري:

جل عن مذهب المديح فقد ... كاد يكون المديح فيه هجاء

المتنبي:

تجاوز قدر المدح حتى كأنه ... بأكثر ما يثنى عليه يعاب

من ذكر أن أحداً لا يستغني عن الشكر:

شاعر:

فلو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لعزة ملك وارتفاع مكان

ولما أمر الله العباد بشكره ... فقال: اشكروا لي أيها الثقلان

مدحك محسناً لم يثلك إحسانه:

أبو تمام:

وحسبي إن أطري الحسام إذا مضى ... وإن كان يوم الروع غيري حامله

عمارة بن عقيل:

أرى الناس طراً حامدين لخالد ... وما كلهم أفضت إليه صنائمه

ولن يترك الأقوام أن يحمدوا الفتى ... إذا كرمت أعراقه وطبائعه

المعتذر إلى رئيس لمدحه غيره:

كان ابن الزيات عاتب أبا تمام في مدحه سواه، فاعتذر إليه بقوله:

أما القوافي فقد عضلت عذرتها ... فما يصاب دم منها ولا سلب

ولو منعت من الاكفاء أيمها ... ولم يكن لك في إظهارها إرب

كانت بنات نصيب حين ضن بها ... عن الموالي ولم تحفل بها العرب

قال بعض الأكابر لأبي هفان: ما لك لا تمدحني؟ فقال:

لسان الشكر تنطقه العطايا ... ويخرس عند منقطع النوال

تبكيت من يذم من لا يستحق الذم:

قام رجل في أيام صفين إلى معاوية فقال: اصطنعني فقد قصدتك من عند أجبن الناس وأبخلهم وألكنهم! فقال: من الذي تعنيه؟ قال: علي بن أبي طالب! فقال: كذبت يا فاجز! أما الجبن فلم يكن قط فيه، وأما البخل فلو كان له بيتان بيت من تبر وبيت من تبن لأنفق تبره قبل تبنه، وأما اللكن فما رأيت أحداً يخطب ليس محمداً صلى الله عليه وسلم أحسن من علي إذا خطب، قم قبحك الله! ومحا اسمه من الديوان. وقف رجل على شيرويه فقال: الحمد لله الذي قتل ابرويز على يديك وملكك ما كنت أحق به منه وأراحنا من عتوه ونكده، فقال للحاجب: احمله إلي. فقال له: كم كان رزقك؟ قال: ألفان. قال: والآن. قال: ما زيد شيء. قال: فما دعاك إلى الوقوع فيه وإنما ابتداء نعمتك منه ولم نزد لك. وأمر أن ينزع لسانه من قفاه.

بخيل راغب في مدح بلا صلة:

الغفالي:

عثمان يعلم أن المدح ذو ثمن ... لكنه يبتغي حمداً بمجان

والناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً ... حتى يروا عنده آثار إحسان

علي بن الجهم:

أردت شكراً بلا بر ومرزية ... لقد سلكت طريقاً غير مسلوك!

البحتري:

خطب المديح فقلت: خل طريقه ... ليجوز عنك فلست من أكفائه

أخذه أبو تمام حيث يقول:

تزحزحي عن طريق المجد يا مضر

عذر من يغتاب مسيئاً:

قال المتوكل لأبي العيناء: إلى كم تمدح الناس وتذمهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساؤوا، وذلك دأب الله عز وجل، رضي عن عبد فمدحه وقال: نعم العبد إنه أواب، وغضب على آخر فزناه فقال: ويلك وكيف زناه؟ قال: إن قال في الوليد: عتل بعد ذلك زنيم، والزنيم هو الداخل في القوم وليس منهم؛ ثم أنشد:

إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقاً ... ولم أذمم الحيس اللئيم المذمما

ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما؟

ابن أبي عيينة:

أنا من عشت عليه ... اسوأ الناس ثناء

إن من كان مسيئاً ... لحقيق أن يساء

تذمم من مدح لئيماً فحرمه:

قال أعرابي وقد مدح رجلاً فخيبه: إن فلاناً تعدى بلؤمه من تسمى باسمه، ولئن خيبني قلوب قافية قد ضاعت في طلب كريم. ومدح بشار المهدي بشعر فخيبه فقيل له: لعلك لم تستجد المدح. فقال: لو مدحت بشعري ذلك الدهر لم أخش صرفه على حر، ولكن أكذب في العمل وأخيب في الأمل وأنشد:

إني مدحتك كاذباً فأثبتني ... لما مدحتك ما يثاب الكاذب

ابن الرومي وقد هجا كبيراً أمل منه كثيراً فأجازه حقيراً:

أتيتك مادحاً فهجوت شعري ... وكانت هفوة مني وغلطه

لذلك قيل في مثل سخيف: ... جزاء مقبل الوجعاء ضرطه!

ولابن ربذة:

مدحت الغالبي بمدح صدق ... فقابل مدحتي بجريب حنطه

فإن لاقيته يا صاح يوماً ... فحي سباله عني بضرطه

أبو هشام الباهلي:

لكل أخي مدح ثواب يعده ... وليس لمدح الباهلي ثواب

مدحت ابن سلم والمديح مهزة ... فكان كصفوان عليه تراب

ومدد أعرابي رجلاً فلم يعطه فقال المادح: إنه أباحني عرضه فتنزهت له.

أبو الهول:

هززتك للعلى فكبوت عنها ... كبو البغل طال به التعني

آخر:

ولم ألبسك ثوب الفخر إلا ... وجدتك قد خريت على الطراز

آخر:

ألا في سبيل الله سعي سعيته ... فمر ضياعاً لا ثواب ولا يد

فخيبة آمالي وعصيان خالقي ... وكفأرة الزور الذي كنت أنشد

متى يستحق الأجر من ظل عاكفاً ... على صنم يعنو له ثم يسجد؟

ومدح مخنث رجلاً فذمه الرجل، فالتفت إلى القوم وقال: أكذب عليه ويكذب علي ليعلم أينا أكذب!

رددت علي شعري بعد مطل ... وقد دنست ملبسه الجديدا

وقلت: أمدح به من شئت غيري ... ومن ذا يقبل المدح الرديدا؟

وما للحي في أكفان ميت ... لبؤس بعدما امتلأت صديدا

من استرده لما حرم الجدوى:

ابن الرومي:

ردوا علي صحائفاً سودتها ... فيكم بلا حق ولا استحقاق

وله:

إن كنت من جهل حقي غير معتذر ... وكنت من رد مدحي غير متئب

فأعطني ثمن الطرس الذي كتبت ... فيه القصيدة أو كفارة الكذب

من لا ليق به المدح:

البحتري:

خطب المديح فقلت: خل طريقه ... ليجوز عنك فلست من أكفائه

منصور بن باذان:

نبت المدائح عن طبائعه ... ولقد يليق بوجهه القذف

سلم الخاسر:

فإن تعطني جرم لأني امتدحتها ... فما علمت جرم لها مادحاً قبلي

مدح أبو خليفة رجلاً فلم يكن منه ما يحب فقال: لله در الكميت حيث يقول:

وقرظتكم لو أن تقريظ مادح ... يواري عواراً من أديمكم النغل

قال أبو نواس لما مات جعفر بن يحيى: لا يكون في الدنيا أكرم منه هجرته وقلت فيه:

ولست وإن أطنبت في مدح جعفر ... بأول إنسان خرى في ثيابه

فأمر لي بعشرة آلاف درهم وقال: اغسل بها ثيابك التي خريت فيها! الموسوي:

مدحتهم فاستقبح المدح فيهم ... ألا رب عنق لا يليق به العقد

من لا يستحق الهجو لحسنه ودناءته:

قال أبو مسلم لأصحابه: أي الأعراض أدنأ؟ فقال بعضهم: عرض بخيل! فقال: رب بخيل لم يكلم عرضه، أدنأ الأعراض عرض ولم يرتع فيه حمد ولا ذم. وقيل للفرزدق: وضعت كل قبيلة إلا تيما. فقال: لم أجد حسباً فأضعه ولا بناء فأهدمه. وقال ابن مناذ لرجل: ما لك أصل فأحقره ولا فرع فأهصره. وقال رجل للنمري: اهجني! فقال: إنما يهجو مثلك مثلك وقال:

إني لأكرم نفسي أن أكلفها ... هجاء جرم وما يهجوهم أحد

ماذا يقول لهم من كان هاجيهم ... لا يبلغ الناس ما فيهم وإن جهدوا

مسلم:

أما الهجاء فدق عرضك ... والمدح فيك كما علمت جليل

فاذهب فأنت طليق جدك إنه ... جد عززت به، وأنت ذليل

المتنبي:

فلو كنت أمرأ يهجى هجونا ... ولكن ضاق فتر عن مسير

أخذه من قول الراعي:

لو كنت من أحد يهجى هجوتكم ... يا ابن الرقاع، ولكن لست من أحد!

من لا يهتز لمدح ولا يغتم لهجو:

قال رجل لحكيم: لا أبالي مدحت أم هجيت! فقال: استرحت من حيث تعب الكرام. وقيل: من لا يبالي سخط الكرام وشكية الأحرار فطوقه سوءة الحمار. وقيل: ليعد ميتاً من لم يهتز لمدح ولا يرتمض من ذم.

ابن الرومي:

فما يرتاح للمدح ... ولا يرتاح للذم

وله:

لا يبالي الشم عرض ... كله شتم وذم

إبراهيم بن المدبر:

أحق الناس كلهم بعيب ... مسيء لا يبالي أن يعابا

قال أبو نواس وقد تبجح بقلة مبالاته وبما يقال فيه، ويعني بذلك في باب تعاطيه الخسارة!

جريت مع الصبا طلق الجموح ... وهان علي مأثور القبيح

من يشرف بالهجو:

أبو نواس:

أصبح فضل ظاهر التيه ... وذاك مذ صرت أهاجيه

كم بين فضل منذ هاجيته ... وبينه قبل هجائيه

من يصدق هاجيه ويكذب مادحيه:

مثقال:

ما قلت فيك هجاء خلته كذباً ... إلا بدت لك سوآت تحققه

ابن الرومي:

خير ما فيهم ولا خير فيهم ... أنهم غير آثمي المغتاب

منصور بن باذان:

أبا دلف يا أكذب الناس كلهم ... سواي فإني في مديحك أكذب

ونظر رجل إلى أبي هفان يحدث آخر فقال: فيم تكذبان؟ فقالا في مدحك.

من لا يأثم هاجيه:

ورد في الحديث: اذكروا الفاسق بما فيه. وقيل: لا غيبة للفاسق.

عبدان:

وقالوا في الهجاء عليك إثم ... وليس الإثم إلا في المديح

لأني إن مدحت مدحت زوراً ... وأهجو حين أهجو بالصحيح

المهجو بكل لسان:

ذكر أعرابي قوماً فقال: قد سلخت أقفاؤهم بالهجاء ودبغت جلودهم باللؤم، لباسهم في الدنيا الملامه، وزادهم في الأخرى الندامه.

الداعي على هاجيه وعائبه:

نظر الفرزدق إلى رجل ذي عمة فقال:

قبحت العينان تحت العمه

فقال:

بل قبح الهاجي وناك أمه

البسامي:

من هجاني من البرية طرا ... وسعى في مساءتي أو لحاني

فاللواتي عليه حرمهن الله في سورة النساء زواني

أخو دعبل:

بنيت قافية قيلت تناشدها ... قوم سأترك في أعراضهم ندبا

ناك الذين رووها أما قائلها ... وناك قائلها أم الذي كتبا

ذم قبيح الكلام:

قيل: قبيح الكلام سلاح اللئام. وسمع المهلب رجلاً يسب آخر فقال: اكفف فوا الله لا ينقى فوك من سهكها أبداً. وقال يزيد: إياك وشتم الأعراض فإن الحر لا يرضيه من نفسه شين.

النهي عن المشاتمة وذم الغالب منهما:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: البذاء لؤم وصحبة الأحمق شؤم. وقال ابن عامر: دعوا قذف المحصنات تسلم لكم الأمهات. وقيل: المبتدىء شاتم نفسه والبادي أظلم. وشتم رجل حكيماً فقال: اسكت فلست أدخل في حرب الغالب فيها شر من المغلوب. وقال أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه: ما تساب اثنان إلا غلب ألأمهما.

شاعر:

وإنك قد سابيتني فغلبتني ... هنيئاً مريئاً أنت بالسب أحذق!

وقيل: ما تسابّ اثنان إلا انحط الأعلى إلى مرتبة الأسفل. وقال حذيفة بن بدر لرجل: أيسرك أن تغلب شر الناس؟ قال: نعم. قال: لن تغلبه حتى تكون شرّاً منه. نازع رجل المهلب فأربى عليه فقيل: لم أمسكت عنه؟ فقال: كنت إذا أردت إجابته رغبت في غلبة اللئام، وكان إذا سبني تهلل وجهه واستنار لونه وتبجحت نفسه، فإن ظفر فبفضل القحة ونبذ المروءة وخلع ربقة الحياء، وقلة الاكتراث بسوء الثناء.

الحث على قطع مادة الذم بالسكوت عنه:

قيل: من سمع كلمة كرهها فسكت عنها انقطعت وإلا سمع أكثر منها. وما أحسن ما قال الشاعر:

وتقلق نفس المرء من أجل شتمة ... فيشتم ألفاً بعدها ثم يصبر

وقيل: إذا سمعت كلمة تؤذيك فتطأطأ لها تتخطاك.

شاعر:

كلما خفت من لئيم جواباً ... فأطلت السكوت عنه غممته

وشتم الحسن رجل وأكثر فقال: أما أنت فما أبقيت شيئاً وما يعلم الله أكثر.

ذم من ينزه عن سبه:

قيل: ذم من كان خاملاً إطراء. وشتم رجل آخر فلم يرد عليه، فقيل له في ذلك فقال: أرأيت لو نبحك كلب أتنبحه، أو رمحك حمار أكنت ترمحه؟ وقال آخر:

قد ينبح الكلب النجوما

آخر:

وما كل كلب نابح يستفزني ... ولا كلما طن الذباب أراع

شاعر:

شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت منه النفس والعرضا

ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعضّ الكلب إن عضّا

علي بن الجهم:

بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين

ينيلك منه عرضاً لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون

ونحو ذلك ما قال جرير لذي الرمة: هل لك أن تهاجيني؟ فقال: لا إن حرمك قد هتكتهن الأشعار فما فيهن مرتع! شاعر:

أو كلما طنّ الذباب زجرته ... إن الذباب إذاً علي كريم

وقيل لنصيب: ألا تهجو فلاناً وقد حرمك؟ فقال: إنما كان ينبغي أن أهجو نفسي حيث سألته! فقيل: ويحك قد هجوته بأشد هجاء! أبو علي بن عروس الشيرازي:

ومتى هجيت فقد مدحت لقد غلا ... سوم البعوضة إن رماها الصائد

عبد الله بن خلف:

دناءة عرضك حصن منيع ... يقيك إذا شاء منك الضبيع

فقل لعدوّك ما تشتهي ... وأنت الرفيع المنيع الوضيع

من لا يخاف لكونه ممتنعاً بغيره:

قيل: وقف جدي على سطح فمر به ذئب فأقبل الجدي يشتمه، فقال الذئب: لست تشتمني وإنما يشتمني المكان الذي تحصنت به! منصور بن باذان:

لو كنت أجسر أن أقولا ... أشفيت من نفسي الغليلا

لكن لساني صارم ... منئت مضاربه فلولا

آخر:

وما جهلت مكان الآمريك بذا ... يا من هويت، ولكن في فمي ماء

إجابة من عابك تعويضاً بما عابك به:

كتب ابن مكرم إلى أبي العيناء: لست أعرف طريقاً للمعروف أحزن ولا أوعر من طريقه إليك، لأنه ينضاف إلى حسب دنيء ولسان بذيء، وجهل قد ملك عنانك! فكتب إليه أبو العيناء في أسفل رقعته:

وأنت رعاك الله فينا فإنما ... مدحت بفضل ضعفه فيك يوجد

فعدوه أبلغ من الأول. قال ابن مكرم لأبي العيناء: يا مخنث! فقال: وضرب لنا مثلاُ ونسي خلقه. وقال ابن ثوابة لرجل: يا مأبون! فأنشد:

كلانا يرى الجوزاء يا جمل إن بدت ... ونجم الثريا، والمزار بعيد

وقال رجل لآخر: يا دعي! فقال:

عبد شمس أبوك وهو أبونا ... لا نناديك من مكان بعيد

وقال رجل لآخر: يا ابن الفاعلة! فقال له ذاك: يا ابن الصالحة أكذب حتى أكذب؛ وعلى هذا المعنى قال:

ثالبني عمرو فثالبته ... فأثم المثلوب والثالب

قلت له خيراً، وقال الخنى ... كل على صاحبه كاذب

وقال رجل لشاعر: أنك تغتاب المحصنات. فقال: إذاً لا بأس على عيالك مني.

تعويضات عن الأجوبة في الذم بالنثر والنظم:

لما قال كعب الأشتر لزياد الأعجم:

وأقلف صلى، بعد ما ناك أمة ... يرى ذاك في دين المجوس حلالا

فقال زياد: لا جزيت أمه خيراً فقد أسبرته أني أقلف! ولما قال جرير لابن الرقاع:

يقصّر باع العاملي عن العلا ... ولكن أيرا العاملي طويل!

قال ابن الرقاع:

أأمك كانت أخبرتك بطوله ... أم أنت امرؤ لم تر كيف تقول؟

فقال: لم أدر كيف أقول. ولما قال أرطاة بن سهية للربيع بن قعنب:

لقد رأيتك عرياناً ومؤتزرا ... فما دريت أأنثى أنت أم ذكر

فقال الربيع:

لكن سهية أدرى يوم زرتكم

ومر الفرزدق بباب المكاري فقال:

وكم من هن يا باب ضخم حملته ... على الرجل فوق الأخدري المراكب

فقال باب: قد حملت النوار فيمن حملت. فقال الفرزدق: غلبني والله! ولما قال مسكين الدرامي:

ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي ينزل القدر

قالت امرأته: نعم لأن القدر والنار للجار. ولما قال إبراهيم بن هرمة:

لا منع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل

قال المزيد: صدق ابن الخبيثة، فإنه يشتري شاة الأضحية فيذبحها من ساعته. وتبجح رجل فقال: إن أبي ممن قال فيهم شاعر:

يقوم القعود إذا أقبلوا

فقال له: صدقت لأنه كان بين يديه حمل شوك.

من قصد مدحاً فاتفق منه هجو:

عيب على جرير قوله:

تعرضت تيم لي عمداً لأهجوها ... كما تعرض لاست الخارئ المدر

فقيل: جعل نفسه است الخارئ، ولو هجى بهذا لكان كثيراً! وقد تقدم في هذا المعنى باب في كتاب الشعر.

التهديد بالهجاء:

لما هجا جرير حنيفة بقوله:

إن اليمامة أضحت لا أنيس بها ... إلا حنيفة تفسو في مناحيها

لقيه عطية بن دعبل الحنفي فقال: يا جرير إنك قد عرفت نصرة الفخم وإن لي سيفاً يختصم الجزور فوالله لئن عدت لهجاء قومي لأسيلنه منك بشرطين. فقال: لا أنطق بعد هذا، فأعف هذه المرة! وتهدد الفرزدق رجلاً بالهجاء فقال له: قل وأصدق! فقال: إذاً أقول خيراً.

أبو القاسم بن أبي العلاء:

دع الفضائح تخفى ... والليث في الغيل رابض

وله:

لا تخرجني من خيسي فتنكرني ... وتؤذي الناس أحياء وأمواتا

كأنني بك ضيّعت موعظتي ... وجئتني نادماً والأمر قد فاتا