الحد الثالث والعشرون: في الملك والجن

محاضرات الأدباء

الراغب الأصفهاني

الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصفهاني (أو الأصبهاني) المعروف بالراغب والمتوفي سنة 502هـ-1108م

الحد الثالث والعشرون

في الملك والجن

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس من خلق الله تعالى أكثر من الملائكة. وعن أبي نجيح عن مجاهد: والمقسمات أمرا؛قال: الملائكة ينزلها الله تعالى بأمره على من يشاء. وعن مسلم عن مسروق: والنازعات غرقاً؛قال: هي الملائكة. وعن الحكم: وما ننزله إلا بقدر معلوم؛قال: بلغني أنه ينزل مع المطر أكثر من ولد آدم وولد إدريس يحصون كل قطرة وأين تقع، ومن يرزق ذلك النبات. وعن العلاء بن عبد الحكيم عن ابن سابط في قوله تعالى " وأنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم؛قال: في أم الكتاب كل شيء هو كائن إلى يوم القيامة، ووكل به ثلاثة من الملائكة يحفظونه، فوكل جبريل بالكتاب أن ينزل به إلى الرسل، ووكل جبريل بالهلكات إذا أراد الله أن يهلك قوماً، ووكله أيضاً بالنصر عند القتال، ووكل ميكائيل بالحفظ والقطر ونبات الأرض، ووكل عزرائيل بقبض الأرواح، فإذا ذهب الله بالدنيا جمع بين حفظهم وبين ما في أم الكتاب فيجدونه سواء. وعن ابن عباس: ويتلوه شاهد منه؛قال: جبريل. وعنا النبي صلى الله عليه سولم: أنه رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح.

وعنالربيع: ذو مرة فاستوى؛قال جبريل. وهو بالأفق الأعلى قال: بالسماء الأعلى يعني جبريل. فأوحى إلى عبده ما أوحى؛قال: على لسان جبريل. ولقد رآه نزلة أخرى؛يعني جبريل رآه في صورته. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الروح الأمين جبريل له ستمائة جناح من لؤلؤ قد نشرها مثل ريش الطواويس. عن ابن شبابة قال: يدبر الأمر أربعة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، فجبريل على الريح والجنود وميكائيل على القطر والنبات وملك الموت على قبض الأرواح وإسرافيل يبلغهم ما يؤمرون به. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل: لم أر ميكائيل ضاحكاً. قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار. عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: يسألونك عن الروح؛قال: ملك له سبعون ألف وجه فيها سبعون ألف لسان، لكل لسان منها سبعون ألف لغة، يسبح الله بكل اللغات. عن ابن عباس قال: أتى نفر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الروح ما هو؟قال: جتند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأرجل يأكلون الطعام، ثم قرأ: يوم يقوم الروح والملائكة صفاً. قال: هؤلاء جند وهؤلاء جند. عن الأعمش أنه قال: سالت مجاهداً عن قوله تعالى " ويقوم يقوم الأشهاد، قال: هم الملائكة.

مما جاء في إبليس والجن

حقيقة الجن:

الجن من الخلق التي لطفت أجسادها ويشهد لحقيقته الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وذكر بعض الفلاسفة ممن لا يثبت القديم: أن لا حقيقة للجن والملائكة.

بعض التحذير الوارد في الشريعة من الشيطان:

قال الله تعالى " وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين؛وذلك من آيات كثيرة. وقال عليه السلام: خمروا آنيتكم وأوكثوا أسقيتكم وأجيفوا الأبواب، وأطفؤوا المصابيح وأكفتوا صبيانكم فإن للشيطان انتشاراً وخطفة. وقال أيضاً: لا تشربوا من ثلمة الإناء فإنها كفل الشيطان. 

رجم الشياطين:

قال الله تعالى: " ولقد زينا السماء الدنيا وجعلناها رجوماً للشياطين " وقال تعالى " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظاً من كل شيطان مارد " وحكى الله تعالى عنهم " إنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً" . وكان الشياطين يتسمعون ما يوحونه إلى أوليائهم. وقد زعم بعض الناس أن الله تعالى جعل الرجوم لنبيه صلى الله عليه وسلم وقال قوم: ليس كذلك فقد قال بشر:

فجال على نفر كما انقض كوكبٌ ... وقد حال دون النقع والنقع يسطع

وقال أمية بن أبي الصلت:

وترى شياطيناً تروغ مضافة ... ورواغها صبر إذا ما تطرد

تلقى عليها في السماء مذلةً ... وكواكب ترمى بها فتعرد

صرع الجن للإنسان وغيره:

عندهم أن الجن يصرع الإنسان لحبه له. وقيل: إن فتى قبيحاً حصل على جارية مليحة فقال لها: ما في الدنيا أملح مني!فجاء إلى بابه يوماً فتى ظريف يطلبه فتطلعت فرأته، فلما عاد قالت له: ألم تقل أن ما في الدنيا أحسن منك وقد جاء فلان يطلبك فرأيته أملح منك؟فقال الرجل يريد أن يقبحه في عينها: هو مليح ولكن له جنية تصرعه كل شهر مرة. فقالت: لو كنت جنيته لصرعته ألفين. واستدل على أن نتيجة الصرع من الجن بقوله تعالى " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " . وقالوا في بعير مجنون: أنه لا يرى ما لا ترى الإبل. وقالوا: قد يجن الجن، وأنشد لدعلج الحكم:

وكيف يفيق الدهر كعب بن ناشبٍ ... وشيطانه عند الأهلة يصرع

تصور الجن للإنسان بصور:

تزعم العامة أن الجن تتصور بأي صورة تشاء إلا الغول فإنها تتصور في صورة امرأة إلا رجليها فإنهما لا بد وأن يكونا رجلي حمار. وقاسوا ذلك بتصوير جبريل عليه السلام بصورة دحية الكلبي، وتصور إبليس بصورة سراقة بن مالك، وبصورة الشيخ النجدي، والغول تتصور للإنسان فتغوله أي تهلكه. ويقولون: من ضربها ضربة قتلها، وإذا زيدت لم تمت ولو ضربت الوفاً.

شاعر:

فقالت: زد، فقلت: رويد أني ... على أمثالها ثبت الجنان

من ادعى أنه قتله الجن:

قالوا: خرج علقمة بن صفوان في الجاهلية يريد مالاً على حمار ومعه سوطك في ليلة، فإذا بشيء يدور ومعه سيف وهو يقول: علقم إنك مقتول، وإن لحمك مأكول. فقال علقمة: شق مالي ولك تقتل من لا يقتلك أغمد عني منصلك. فواثبه وضرب كل واحد صاحبه فخرا ميتين. وقالوا: إن الجن قتلت حرب بن أمية وفيه قالت الجن:

وقبر حربٍ بمكانٍ قفر ... وليس قرب قبر حربٍ قبر

وقتلت سعد بن عبادة وقالت:

قد قتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عباده

... ورميناه بسهمين فلم نخط فؤاده

من ادعى أنه قتل الجن:

من ذلك ما روي أن تأبط شراً قتل غولاً وعاد إلى قومه وقد تأبط رأسه فقيل تابط شراً. وروي أن عمر رضي الله عنه صرع جنياً.

ما نسب إليهم من الداء:

قالوا: الطاعون من الجن وسمي رماح الجن قال:

ولكني خشيت على أبي ... رماح الجن أو إياك جاري

الاستجارة بالجن:

كانت العرب إذا صار أحدهم في تيه من الأرض وخاف الجن يقول رافعاً صوته: أنا مستجير بسيد هذا الوادي، ويصير له بذلك خفارة. ولذلك قال الله تعالى " وأنه كان رجال من الأنس يعوذون برجال من الجن " .

رثى الشعراء:

ادعى كثيراً من فحول الشعراء أنه له رثياً يقول الشعر بفيه وله اسم معروف، من ذلك مسحل شيطان الأعشى وفيه يقول:

دعوت خليلي مسحلاً ودعوا له ... جهنام جدعاً للهجين المذمم

وذكر أن خال مسحل هميم شيطان الفرزدق.

أبو النجم:

إني وكل شاعرٍ من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

وقال آخر:

إني وإن كنت صغيراً سني ... فإن شيطاني كبير الجن

رؤية الجن وسماعهم وصحبتهم:

روي أن ابن علاثة قضى بين الجن في دم. وقال ابن الأعرابي: نزلت بأعرابي فاستطبت ماءه فسالت عن مكانهم. فقال: هو كثير الجان. فقلت: اوترونهم؟قالوا: نعم، مكانهم في ذلك الجبل، وأومأ بيده إلى جبل يقال له سواج. وقد ادعى عدة من العرب أنهم رأوا خياماً وناساً ثم فقدوهم من ساعتهم. 

ذو الرمة:

للجن بالليل في غيطانها زجلٌ ... كما تناوح بوم الريح عيشوم

وقال:

ورمل عزيف الجن في عقداته ... هزير كتضراب المغنين بالطبل

ولا تتحاشى العرب من سماع الهاتف وذلك كثير. وقالوا: دوي الفيافي عزيف الجن، وأصل ذلك أن من سكن الفيافي وتوحش وقلت أشغاله ربما يتوسوس، فيتصور الصغير كبيراً ويتفرق ذهنه ثم يجعل ما يتصوره أحاديث فيحكيها.

عبيد بن أيوب:

أخو فقراتٍ حالف الجن واتقى ... من الأنس حتى قد نقضت وسائله

من ادعى أنه تجيبه الجن:

يقال: فلان مخدوم إذا كان ذا عزم على الجن فأجابوه، فمنهم عبد الله بن هلال الحميري صديق إبليس، وكرباس الهندي وصالح الدبيري. وقالوا: مكن أراد أن يحبه الجن فليتبخر باللبان ويراعي سير المشتري، ويغتسل بالماء القراح ويكثر من دخول الخرابات. وقالوا: إذا آخى الجني أنسياً أخبره ووجد حسه ورأى خياله. ومنهم الكهان نحو جارية جهينة وكاهنة باهلة وشق وسطيح. والعراف دون الكاهن.

من استهوته الجن:

قالت العرب: استهوت الجن سنان بن أبي حارثة يستفحلونه فمات فيهم. واستهووا طالب بن أبي طالب فلم يوجد له أثر قط، وعمرو بن عدي اللخمي ثم ردوه إلى جذيمة البرش. واستهووا عمارة ابن الوليد بن المغيرة ونفخوا في إحليله فصار مع الوحش. وقالوا: خرافة رجل استهوته الجن ثم عاد يخبر عنها، وبه ضرب المثل فقيل حديث خرافة. وروي أن عمر رضي الله عنه استخبر المفقود الذي استهوته الجن ما كان طعامهم؟قال: الفول، وقيل الرمة، وما لم يذكر اسم الله عليه.

من ادعى أنه من ولد الجن:

ذكرت العرب أن عمرو بن يربوع من ولد السعالى، وذكر أبو زيد النحوي أن سعلاة أقامت في بني تميم حتى ولدت فيهم، فلما رأت برقاً يلمع من نحو ديارهم حنت فطارت إليهم. وفيهم قال الشاعر:

يا قاتل الله ابني السعلاة: ... عمراً وقابوساً شرار النات

أي الناس. وذكروا أن جرهما من ولد الملائكة. واستدل على صحة تناسل الجن من الأنس بقوله تعالى " وشاركهم في الأموال والأولاد " . وقوله " لم يطمئهن إنس قبلهم ولا جان " . وزعموا أن النسناس تركيب ما بين الشق والإنسان.

مساكن الجن:

زعمت العرب: أن الله تعالى لما أهلك الأمة الساكنة ولوبار كما أهلك طسماً وجديساً وعاداً وثموداً، سكنت الجن منازلهم وحمتها من كل من أرادها وأنها أخصب بلد، فإن دنا اليوم منه إنسان غالط حثوا في وجهه التراب، فإن أبى الرجوع خبلوه، وإن من أراده ألقى على قلبه الصرفة حتى كأنهم أصحاب موسى في التيه. وقيل في المثل: لا يهتدي لكذا حتى يهتدي لوبار، وليس بذلك المكان إلا الجن والإبل الوحشية. وقالوا: شيطان الحماطة وغول القفر وجان العشر وشيطان عبقر. ونسب كل شيء في الجودة إلى عبقر حتى قيل: لم أر عبقرياً مثله.

مراكب الجن:

ادعوا أن الجن يركب كل وحش من البهائم والطيور إلا الأرنب لأنها تحيض، والضباع لأنها تركب أيور القتلى والموتى إذا جيفت ابدانهم، والقرد لأنها لا تغتسل من الجنابة، وقالوا يكثر ركوبها القنفذ والورل. وأنشدوا للجن:

وكل المطايا قد ركبنا فلم نجد ... ألذ وأشهى من ركوب الجنادب

ولم أر فيها غير فنقذ بوقةٍ ... يقود قطاراً من عظيم العناكب

وقالوا: من قتل من أول الليل بعض هذه المراكب لم يأمن على فحل إبله، ومتى اعتراه غم أو مرض في ماله وأهله حكموا بأن ذلك عقوبة من قتلهم.

ما نسب فعله إلى الجن:

نسب كثير من الناس أبنية محكمة إلى الجن واستدلوا على أنهم كانوا يبنون بقول الله تعالى " فيهم كل بناء وغواص".

النابغة:

وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد

وقالوا للمأثور من السيوف: عملته الجن. وقالوا في الإبل: فيها عرقاء من سفاد الجن حتى قالوا الحوشية من نسل حوش، وهي إبل الجن، والمهرية منسوبة إلى فحل لهم. وذهبوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كره الصلاة في أعطان الإبل لأنها خلقت من أعنان الشياطين. وقال الجاحظ: جهلوا مجاز الكلام فحملوا اللفظ على غير جهته.