مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف‏‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم وصلى اللّه على سيدنا محمد النبي الكريم

 الحمد للّه الذي تواترت ألسنة الذاكرين بذكره وتمجيده، وتواطأت قلوب المحبين على حبه وتعظيمه وتوحيده‏.‏ والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على إنسان عين الوجود الباهر‏.‏ المخصوصة أمته السعيدة بإسناد ما هو صحيح عنه وحسن ومتواتر‏.‏ وعلى آله السادة‏.‏ وصحابته النجوم البررة القادة‏.‏

‏(‏أما بعد‏)‏ فإن علم الحديث الشريف أجل العلوم قدراً‏.‏ وأكملها مزية وأعظمها خطراً‏.‏ ومن حازه فقد حاز فضلاً كبيراً‏.‏ ومن أوتيه فقد أوتي خيراً كثيراً‏.‏ ومن ظفر به ظفر بإكسير السعادة‏.‏ ونال كل المنى ورزق خاتمة الحسنى والزيادة‏.‏

وقد روي عن سفيان الثوري كما ذكره ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث له قال ما أعلم عملاً أفضل من طلب الحديث لمن أراد به اللّه عز وجل قال ابن الصلاح وروينا نحوه عن ابن المبارك اهـ وعن المعلفي بن عمران قال كتابة حديث واحد أحب إلي من صلاة ليلة وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن أبي العباس المرادي قال رأيت أبا زرعة في النوم فقلت ما فعل اللّه بك فقال لقيت ربي فقال لي يا أبا زرعة أني أوتي بالطفل فآمر به إلى الجنة فكف بمن حفظ السنن على عبادي تبوأ من الجنة حيث شئت‏.‏

وفي فهرسة الإمام أبي عبد اللّه القصار ما نصه بشارة عظيمة قال محمد بن عبد العظيم المنذري لرائيه يعني في النوم دخلنا الجنة وقبلنا يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال أبشروا كل من كتب بيده قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فهو معه في الجنة اهـ‏.‏

وفي أذكار النووي عن سهل بن عبد اللّه التستري أحد أفراد هذه الأمة وعبادها أنه كان يأتي أبا داود السجستاني صاحب السنن ويقول أخرج لي لسانك الذي تحدث به حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأقبله فيقبله‏.‏

وعن إبراهيم بن أدهم قال إن اللّه ليدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث وأخرج الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي في كتاب الحجة على تارك المحجة بسنده إلى أحمد بن حنبل أنه قيل له هل للّه في الأرض أبدال فقال نعم قيل من هم قال إن لم يكن أصحاب الحديث هم الأبدال فما أعرف للّه أبدالاً‏.‏

وفي العهود المحمدية كان سفيان الثوري وابن عيينة وعبد اللّه بن سنان يقولون لو كان أحدنا قاضياً لضربنا بالجريد فقيهاً لا يتعلم الحديث ومحدثاً لا يتعلم الفقه اهـ‏.‏

وفي الفتوحات المكية لابن العربي الحاتمي رحمه اللّه أن العالم لا يطلق يوم القيامة إلا على المحدث وأما غيره فيتميز بعمله إن كان له عمل ويحشر في عموم الناس وأما أهل الحديث فيحشرون مع الرسل وهم ورثة الأنبياء وأطال في ذلك فانظره ويروى مرفوعاً‏:‏ ‏"‏اللّهم ارحم خلفائي قيل ومن هم قال الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي وسنتي‏"‏‏.‏

وفي الحديث المتواتر كما يأتي نضر اللّه امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها دعا بالنضرة وهي البهجة والحسن قال ابن عيينة ليس أحد من أهل الحديث إلا في وجهه نضرة لهذا الحديث‏.‏

وقد كان بعض الأئمة الكبار إذا رأى أصحاب الحديث ينشد ويقول‏:‏

أهلاً وسهلاً بالذين أحبهم

 

وأودهم في اللّه ذي الآلاء

أهلاً بقوم صالحين ذوي تقى

 

غر الوجوه وزين كل ملاء

يا طالبي علم النبي محمد

 

ما أنتم وسواكم بسواء‏.‏

وللحافظ أبي طاهر السلفي‏:‏

دين النبي وشرعه إخبار

 

وأجل علم يقتفي آثاره

من كان مشتغلاً بها وبنشرها

 

بين البرية لا عفت آثاره

وروى ابن عبد البر بسنده إلى عبد اللّه بن الإمام أحمد بن حنبل عن أبيه قال‏:‏

دين النبي محمد آثار

 

نعم المطية للفتى الإخبار

لا تعد عن علم الحديث وأهله

 

فالرأي ليل والحديث نهار

ولربما جهل الفتى طرق الهدي

 

والشمس طالعة لها أنوار

وإن أهل هذا الفن قد قسموه أنواعاً‏:‏ ووضعوا في كل نوع منه أوضاعاً‏:‏ ومن أنواعه المذكورة‏:‏ الأحاديث المتواترة المشهورة‏:‏ وقد نهضت قبل هذا الأوان‏:‏ لجمع ما وقفت عليه منها في بطون الدفاتر ومقيدات الإخوان‏:‏ حتى جمعت منها جملة وافرة‏:‏ وعدة جليلة متكاثرة‏:‏ ولما خفت عليها من الدروس والضياع‏:‏ جمعتها مقيد للانتفاع ‏(‏وسمته بنظم المتناثر من الحديث المتواتر‏)‏ وكان ذلك قبل وقوفي للسيوطي على أزهاره المتناثرة، الذي لخصه في فوائده المتكاثرة ثم بعد وقوفي عليه‏:‏ أضفت ما فيه إليه ولم أدع حديثاً من أحاديثه إلا ذكرته‏:‏ وبقولي عند ذكره ‏"‏أورده في الأزهار من حديث فلان‏"‏ ميزته ثم أذكر ما عده فيه من الصحابة أو التابعين‏:‏ مسقطاً لما ذكره من المخرجين‏:‏ فإن تيسرت زيادة نبهت عليها‏:‏ وبلفظة قلت بعد كلامه أشرت إليها وما لم يذكر أتيت فيه بما يسره اللّه على من غير تعرض إليه‏:‏ فيعلم من ذلك أني لم أجد ذلك الحديث لديه وقد قال السخاوي في مبحث المتواتر من شرح الألفية ما نصه وقد أفرد ما وصف بذلك‏:‏ يعني بالتواتر في تأليف أما للزركشي أو غيره اهـ‏.‏

‏(‏قلت‏)‏ إفراده بالتأليف بعد السخاوي جماعة منهم الشيخ الإمام الحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمان بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة إحدى عشرة وتسعمائة وسماه الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة رتبه على الأبواب وجمع فيه ما رواه من الصحابة عشرة فصاعداً مستوعباً فيه كل حديث بأسانيده وطرقه وألفاظه فجاء كتاباً حافلاً لم يسبق كما قال إلى مثله ثم جرد مقاصده في جزء لطيف سماه الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة اقتصر فيه على ذكر الحديث وعدة من رواه من الصحابة مقروناً بالعزو إلى من خرجه من الأئمة المشهورين‏.‏

وعدة أحاديثه فيه ما ذكره هو في آخره مائة لكني عددتها فوجدتها تزيد على ذلك باثني عشر‏:‏ وإلى اللّه تعالى حقيقة الخبر ومنهم الشيخ الإمام الحافظ خاتمة المسندين ذو التصانيف العديدة شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن علي بن طولون الحنفي الدمشقي الصالحي المتوفى سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وسماه اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة ومنهم الشيخ أبو الفيض محمد مرتضى الحسيني الزبيدي المصري المتوفى عام خمسة ومائتين وألف وسماه لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة ومنه أخذ السيد النواب صديق بن حسن بن علي القنوجي البخاري الحسيني الأربعين التي جمعها مما بلغ حد التواتر وسماها بالحرز المكنون من لفظ المعصوم المأمون‏.‏

وقد قال في شرح النخبة للعلامة أبي الحسن محمد صادق السندي المدني ما نصه ‏"‏وقد تساهل السيوطي في الحكم بالتواتر فحكم على عدة من الأحاديث بذلك وأوردها في كتاب سماه الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة اهـ‏"‏ وهو كذلك فإنه ذكر عدة أحاديث ربما يقطع الحديثي بعدم تواترها ويظهر أيضاً من كلامه أنه قصد جمع المتواتر اللفظي ثم أنه كثيراً ما يورد أحاديث صرح هو أو غيره في بعض الكتب بأن تواترها معنوي‏.‏

وهذا قبل الشروع في المقصود بياناً وإيضاحاً وأتى بمقدمة في بيان معنى التواتر لغة واصطلاحاً‏.‏ فأقول

 -1مقدمة ‏عن الحديث المتواتر‏ (التواتر بمثناتين)

- وهو في اللغة قال في المحصول مجيء الواحد أثر الواحد بفترة بينهما ومثله للقرافي في التنقيح ومنه قوله تعالى ‏{ثم أرسلنا رسلنا تتراً‏}‏ أي متتابعين رسولاً بعد رسول بينهما فترة‏.‏

وحكى عن ابن بري أنه مجيء الشيء بعد الشيء بعضه في أثر بعض وتراً وتراً أو فرداً فرداً يعني من غير فترة بينهما وحكى القولين في القاموس فقال والتواتر التتابع أو مع فترات واقتصر في الصحاح على الثاني في كلامه فقال والمتواترة المتابعة ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينهما فترة وإلا فهي مداركة ومواصلة اهـ‏.‏

وفي شرح القاموس نقلاً عن الحياني قال المتواتر الشيء يكون هنيهة ثم يجئ الآخر فإذا تتابعت فليست متواترة إنما هي متداركة ومتتابعة قال وقال ابن الأعرابي ترى يترا إذا تراخى في العمل فعمل شيئاً بعد شيء وقال الأصمعي واترت الخبر اتبعت وبين الخبرين هنيهة اهـ‏.‏

فعلم أن الأول في كلامنا وهو الثاني في كلام المجد أرجح واللّه أعلم

- وفي الاصطلاح قال ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث له عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة قال ولابد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه ومن سئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروي من الحديث أعياه تطلبه اهـ‏.‏

وقال النووي في التقريب هو ما نقله من يحصل العلم بصدقهم ضرورة عن مثلهم من أول الإسناد إلى آخره قال وهو قليل لا يكاد يوجد في روايتهم اهـ‏.‏

وقال الجرجاني في مختصره والخبر المتواتر ما بلغت رواته في الكثرة مبلغاً أحالت العادة تواطئهم على الكذب ويدوم هذا فيكون أوله آخره ووسطه كطرفيه كالقرآن والصلوات الخمس اهـ‏.‏

وعبارة التاج في جمع الجوامع هو خبر جمع يمتنع زاد شارحه المحلي وغيره عادة تواطئهم على الكذب عن محسوس فقوله خبر الخبر ما قابل الإنشاء وهو ما يحتمل الصدق الذي هو المطابقة للواقع والكذب الذي هو عدم المطابقة بالنظر لذاته والإنشاء ما لا يحتملهما وقوله جمع خرج به خبر الواحد والاثنين فإنه لا يكون متواتراً ولا يسمى بذلك وقوله يمتنع خرج به خبر الجماعة الذين لا يمتنع عليهم التواطؤ أو التوافق كقوم فساق أو كفار أمكن بحسب العادة تواطؤهم أو اتفاقهم على خبر فلا يسمى متواتراً فإن لم يمكن تواطؤهم على الكذب وهم فساق أو كفار سمي متواتراً وهذا بالنظر إلى اصطلاح الأصوليين لأن كلامهم في الخبر المتواتر من الناس‏.‏

وأما المحدثون فالظاهر أنه لابد عندهم من الإسلام في رواته لأن كلامهم في التواتر من الحديث على أنه لم يوجد حديث نبوي تواتر بكفار فقط أو فساق حتى يكون للمحدثين نظر إليه كذا قال بعضهم ويخدش فيه أن المحدثين صرحوا أيضا بعدم اشتراط الإسلام والعدالة في رواته كما صرح بذلك الأصوليون فليراجع كلامهم وقولهم لا يقبل ويحتج به من الحديث إلا ما رواه العدل الضابط بأن يكون مسلماً بالغاً إلى آخره ما قالوا في خبر الآحاد لا في المتواتر واللّه أعلم‏.‏

وقوله عادة خرج به التجويز العقلي دون نظر إلى العادة أي مجرداً عنها فإنه لا يمتنع ولا يرتفع ولو بلغ الجمع ما عسى أن يبلغ وقوله تواطئهم على الكذب أي لا عمداً ولا غلطاً ولا نسياناً وقوله عن محسوس أي أمر يدرك بالحس أي بإحدى الحواس الخمس الظاهرة كسمع أو بصر وخرج به ما كان عن أمر معقول أي يدرك بالعقل فإنه يجوز الغلط فيه بل قد يتيقن الغلط كخبر الفلاسفة بقدم العالم أو بانتفاء الحشر للأجساد فلا يسمى متواتراً ولو بلغوا في الكثرة ما عسى أن يبلغوا بل لا يسمى بذلك ولو تيقن صوابه كإخبار أهل مصر من الأمصار بحدوث العالم أو بوجود الصانع وقد استفيد من هذا أنه لابد من إفادته للعلم والمتبادر من كلامهم وصرح به غير واحد اشتراط إفادته له بنفسه أو بقرائن لازمة له إما من أحواله المتعلقة به كان يكون لفظاً واحداً وتركيباً واحداً أو المتعلقة بالخبر عنه كأن يكون موسوماً بالصدق أو بالمخبر به كان يكون من عادته أن يقع أي أمراً مستقرب الوقوع احترازاً عما إذا أفاده بقرائن منفصلة عنه زائدة على ما لا ينفك الخبر عنه كالتفجع وشق الجيب في الخبر بموت الولد أو الوالد مثلاً فلا يسمى متواتراً وبه يعلم أن ما يأتي عن ابن الصلاح وغيره من أن ما اتفق عليه الشيخان أو أخرجه أحدهما بالإسناد المتصل كالمتواتر معنا كهو في إفادة العلم لا في التسمية فإنه لا يسمى متواتراً اصطلاحاً لأن إفادته للعلم ليست بنفسه بل بقرائن خارجية كتلقي الأمة لكتابيهما بالقبول وما أشبه ذلك‏.‏

وعلى هذا فقول التاج عقب التعريف السابق وحصول العلم آية اجتماع شرائطه معناه حصول العلم منه بنفسه أو بقرائن لازمة فقط أو مع القرائن المنفصلة وأما منها وحدها فلا يكفي لأن خبر الآحاد قد يفيد العلم بواسطة ما ينضم إليه من القرائن كما يأتي ثم في عبارته على ما قيل قلب والأصل واجتماع شرائطه أي الأمور المحققة له وهي أجزاء ماهيته من كونه جمع الخ آية علامة حصول العلم منه والظاهر هذا إنما يتمشى على القول بأن العلم الحاصل منه نظري لأنه يشترط ح في حصول العلم منه تقدم العلم بالشرائط أي ملاحظتها والالتفات إليها قبل ولا يتمشى على مقابله الراجح من أنه ضروري لأن ذلك لا يشترط بل الشرط عليه وجود الشرائط في نفس الأمر كانت ملحوظة للسامع ملتفتاً إليها أو غير ملحوظة ولا ملتفت إليها وحصول العلم آية اجتماعها والتاج ذهب على هذا الثاني فلا قلب عبارته والنصوص الموافقة له كثيرة‏.‏

قال ابن أمير الحاج في شرح التحرير ما نصه الضابط للخبر المتواتر حصول العلم فمتى أفاد الخبر بمجرده العلم تحققنا أنه متواتر وأن جميع شرائطه موجودة وإن لم يفده ظهر عدم تواتره بفقد شرط من شروطه اهـ وانظر حاشية ابن القاسم العبادي على المحلى ولا بد‏.‏

ثم إن كانوا طبقة واحدة فواضح أنه يحصل التواتر بخبرهم لوجود قيوده المذكورة وإلا بأن كانوا طبقات ولم يخبر عن محسوس إلا الطبقة الأولى اشترط كونهم جميعاً يمتنع تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات من أول السند إلى انتهائه كما أشار إليه السبكي بعد وكما تقدم عن ابن الصلاح والنووي وخرج به ما إذا لم يوجد الجمع في جميعاً ووجد في بعضها فقط فإنه لا يسمى متواتراً لأن الحكم في مثله للأقل غريباً أو عزيزاً حتى يوجد الجمع في كل طبقة ابتداء ووسطاً وانتهاء وخرج أيضاً ما إذا وجد الجمع ولم يوجد العلم في جميع الطبقات أو في بعضها ولو في واحدة منها فإنه لا يسمى متواتراً بل مشهوراً أو مستفيضاً‏.‏

قال الشهاب ابن حجر المكي في فتاويه ولا يكفي احتمال التواتر ولا ظنه كما هو معلوم لأن المشكوك والمظنون لا ينتج القطع اهـ ثم هذا الذي ذكروه من إفادته للعلم هو الحق ومذهب الجمهور معناه في الماضيات والحاضرات وأنكره جماعة من العقلاء كالسمانية والبراهمة وقالوا إنه لا يفيد إلا الظن فيهما معاً ومنهم من أنكره في الماضيات واعترف به في الحاضرات وإنكارهم المذكور مكابرة فإنا نجد من أنفسنا العلم بالبلاد النائية كمكة والمدينة وبغداد وبالأمم الخالية كقوم موسى وعيسى وليس هو إلا بالإخبار‏.‏

قال السعد في شرح النسفية فإن قيل خبر كل واحد لا يفيد إلا الظن وضم الظن إلى الظن لا يوجب اليقين وأيضاً جواز كذب كل واحد يوجب كذب المجموع لأنه نفس الآحاد قلنا ربما يكون مع الاجتماع ما لا يكون مع الانفراد كقوة الحبل المؤلف من الشعرات اهـ والعلم الحاصل به ضروري على الأصح وهو مذهب الجمهور من المحدثين والأصوليين لحصوله لمن لا يتأتى منه النظر كالبله والصبيان ومعنى كونه ضرورياً أنه يضطر الإنسان إليه عند اجتماع الشرائط بحيث لا يمكنه دفعه لا نظري خلافاً للكعبي وأبي الحسن البصري من المعتزلة وإمام الحرمين والغزالي من أهل السنة‏.‏

‏(‏فإن قيل‏)‏ الضروريات لا يقع فيها التفاوت ولا الاختلاف ونحن نجد العلم بكون الواحد نصف الاثنين أقوى من العلم بوجود اسكندر مثلاً والمتواتر قد أنكر إفادة العلم به طوائف كما تقدم ‏(‏قلنا‏)‏ هذا ممنوع بل قد تتفاوت أنواع الضروري بواسطة التفاوت في الألف والممارسة والإخطار بالبال وتصورات أطراف الأحكام وقد يختلف فيه مكابرة وعناداً كالسوفسطائية في جميع الضروريات والخلاف فيما قالوه لفظي لا حقيقي لأن إمام الحرمين كما أفصح به الغزالي التابع له فسر كون العلم الحاصل به نظرياً أخذاً من كلام الكعبي بتوقفه على مقدمات حاصلة عند السامع أي على التفات نفسه إليها وملاحظته لها وتقدم علمه بها وهي كونه خبر جمع وكونهم بحيث يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب وكونهم أخبروا عن شيء محسوس لا يشتبه وهذا لا ينافي كونه ضرورياً والمنافي لذلك تفسيره بالاحتياج إلى النظر عقبه هكذا قالوا وفيه نظر والحق أنه حقيقي لأن القائل بأنه نظري يشترط في حصوله تقدم العلم بالمقدمات والقائل بأنه ضروري لا يشترط ذلك بل الشرط عنده وجودها في نفس الأمر أعم من أن تكون حاصلة في النفس أو مغفولاً عنها ولذا يستدلون بحصول العلم على حصولها وتوقف إلا مدى من الشافعية والمرتضي الرافضي عن القول بواحد من الضروري والنظري لتعارض دليلهما عندهما من حصوله لمن لا يتأتى منه النظر وتوقفه على تلك المقدمات المحققة له وتوقفهما يدل على أنهما فهما أن الخلاف حقيقي كما ذكرنا والتوقف هو الذي صححه صاحب المصادر أيضاً واللّه أعلم ثم التواطؤ المذكور إن وقع بين ذلك الجمع في اللفظ والمعنى زاد بعضهم تبعاً لاستظهار ابن قاسم العبادي أو في المعنى فقط مع اختلاف اللفظ لأنه وإن اختلف في حكم المتحد لاتحاد معنى سمى التواتر اللفظي وإن اختلفوا فيهما أعني في اللفظ والمعنى معا مع الاتفاق على معنى كلي ولو تضميناً أو التزامياً سمى التواتر المعنوي كوقائع حاتم في عطاياه وعلي في حروبه وعمر في عدله وجلادته وأبي ذر في زهده وكوقائع الشيخ عبد القادر الجيلاني في كراماته فإنها اتفقت على معنى كلي وهو القدر المشترك بين آحاد تلك الوقائع وهو جود هذا وشجاعة هذا وعدل هذا وزهد هذا وكرامات هذا فيكون ذلك القدر المشترك بينهما بقطع النظر عن متعلقه متواتراً تواتراً معنوياً وإن كانت كل واقعة بانفرادها غير متواترة إلا شيئاً قليلاً من بعض تلك الوقائع فإنه وجد متواتر اللفظ أيضاً وتردد بعض المتأخرين في الاختلاف في الألفاظ أو بعضها مع تقارب المعنى كحديث حنين الجذع فإنه روى فيه صاح وخار وجعل يئن وحن وبكى‏.‏

هل يضر فيكون التواتر معنوياً أو لا يضر فيكون لفظياً والظاهر أنه لا يضر أيضاً وإلا لما صح عد كثير من الأحاديث التي هذا سبيلها من المتواتر اللفظي وقد عدها منه جماعة من الأئمة وقول التاج السابق خبر جمع الخ شامل لقسمي اللفظي والمعنوي وفاقاً للمحلي والشيخ حلولوا وخلافاً للعراقي لأن حمله عليها أكثر فائدة والأصح أنه لا يشترط في رواته إسلام ولا عدالة ولا بلوغ ولا عدم احتواء بلدة واحدة عليهم فيجوز أن يكونوا كفاراً أو فساقاً أو صبياناً وأن تحويهم بلدة واحدة وكذا لا يشترط فيهم عدد محصور ولا صفة معينة بل البلوغ إلى حد وحالة تحيل العادة معهما تواطئهم على الكذب في جميع الطبقات ولو كان العدد في بعضها قليلاً وفي بعضها كثيراً والصفات العلية في الرواة تقوم مقام العدد أو تزيد عليه كما قرره ابن حجر في نكت علوم الحديث وشرح النخبة وعلى اشتراط العدد اختلف في أقل العدد المشروط بعد اتفاقهم على عدم الاكتفاء بالواحد والاثنين فقيل أربعة قياساً على شهود الزنى وقال القاضي أبو بكر الباقلاني أقطع بأن أقول الأربعة لا يفيدون وأتوقف في الخمسة وجرى عليه في جمع الجوامع فقال ولا تكفي الأربعة وفاقاً للقاضي والشافعية وما زاد عليها صالح من غير ضبط يعني بعدد معين وتوقف القاضي في الخمسة اهـ‏.‏

وهو يفيد أنه لو اتفق الأئمة الأربعة بل الخلفاء الأربعة على رواية حديث لا يفيد خبرهم العلم وليس كذلك فالصواب ح القول بأنها قد تكفي وقيل خمسة قياساً على اللعان وقيل سبعة لاشتمالها على أنصباء الشهادة الثلاثة وهي الأربعة والاثنان والواحد وقيل عشرة لقوله تعالى ‏{‏تلك عشرة كاملة‏}‏ لأنها أول جموع الكثرة وهذا قاله الأصطخري قال السيوطي في شرح التقريب وهو المختار وكتابه في المتواترات مبني عليه لأنه جمع فيه ما رواه عشرة من الصحابة فصاعداً كما تقدم التنبيه عليه وفي الإغارة المصبحة على مانع الإشارة بالمسبحة للعلامة السيد محمد رسول البرزنجي الحسيني أثناء كلام له ما نصه وقد قال الحافظ السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة أن كل حديث رواه عشرة من الصحابة فهو متواتر عندنا معشر أهل الحديث اهـ‏.‏

وقيل اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل وقيل عشرون لقوله ‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏}‏ وقيل أربعون لقوله عليه السلام خير السرايا أربعون وقيل خمسون قياساً على القسامة وقيل سبعون لاختيار موسى سبعين رجلاً لميقاته حتى يسمعوا كلام اللّه ويخبروا من وراءهم وقيل ثلاثمائة وبضعة عشر عدة أصحاب طالوت وأهل بدر وقيل ألف وأربعمائة أو خمسمائة عدة أهل بيعة الرضوان قال بعضهم وهذه المذاهب كلها باطلة لا تستحق أن يلتفت إليها وشبهاتهم واهية لا حاجة إلى التصريح بدفعها اهـ‏.‏

وقال في ظفر الأماني في شرح مختصر الجرجاني وهذه كلها وأمثالها أقوال فاسدة والتحقيق الذي ذهب إليه جمع من المحدثين هو أنه لا يشترط للتواتر عدد إنما العبرة بحصول العلم القطعي فإن رواه جمع غفير ولم يحصل العلم به لا يكون متواتراً وإن رواه جمع قليل وحصل العلم الضروري يكون متواترا البتة اهـ‏.‏

والصحيح أن العلم الحاصل منه إن كان عن كثرة العدد وجب حصوله لجميع السامعين وإن كان عن القرائن اللازمة له لم يجب ذلك بل قد يحصل لزيد دون عمرو ولقوم دون آخرين لأن القرائن قد تقوم عند البعض دون البعض وقيل يجب حصوله للكل مطلقاً وقيل لا يجب مطلقاً وفيهما نظر وقد يحصل التواتر عند قوم ولا يحصل عند آخرين لبلوغ طرقه المفيدة له إلى من حصل عنده دون الآخرين كما أنه قد يصح الخبر عند قوم ولا يصح عند آخرين لوصوله إلى الأولين من طريق صحيحة أو طرق أو عدم وصوله إلى الآخرين منها بل من طريق أخرى فيها ضعيف أو كذاب هذا وذكر ابن الصلاح والنووي ومن تبعهما أن مثال المتواتر على التفسير السابق يعز وجوده وزعم ابن حبان والحازمي أنه معدوم بالكلية لا يوجد له مثال قال ابن الصلاح إلا أن يدعي ذلك في حديث من كذب علي الخ فإنه رواه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أكثر من ستين نفساً من الصحابة منهم العشرة وليس في الدنيا أجمع على روايته العشرة غيره وتعقب عليه الحافظ أبو الفضل العراقي بحديث مسح الخف فقد رواه أكثر من ستين صحابياً ومنهم العشرة وحديث رفع اليدين في الصلاة فقد رواه نحو خمسين منهم ومنهم العشرة أيضاً قال السخاوي في فتح المغيث وكذا الوضوء من مس الذكر قيل إن رواته زادت على ستين وكذا الوضوء مما مست النار وعدمه اهـ ويأتي في الكلام على هذا الحديث أعني حديث من كذب علي الجواب عن هذا التعقب وقال الحافظ ابن حجر في توضيح النخبة ما ادعاه ابن الصلاح من العزة ممنوع وكذا ما ادعاه غيره من العدم لأن ذلك نشأ عن قلة الإطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطئوا على الكذب أو يحصل منهم اتفاقاً قال ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجوداً وجود كثرة في الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعدداً تحيل العادة تواطئهم على الكذب إلى آخر الشروط أفاد العلم اليقيني بصحة نسبته إلى قائله ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير اهـ وقد نقله جماعة منهم السيوطي في إتمام الدراية بشرح النقاية وقال عقبه قلت صدق شيخ الإسلام وبر وما قاله هو الصواب الذي لا يمتري فيه من له ممارسة بالحديث وإطلاع على طرقه فقد وصف جماعة من المتقدمين والمتأخرين أحاديث كثيرة بالتواتر منها حديث أنزل هذا القرآن على سبعة أحرف وحديث الحوض وانشقاق القمر وأحاديث الهرج والفتن في آخر الزمان‏.‏

وقد جمعت جزءاً في حديث رفع اليدين في الدعاء فوقع لي من طرق تبلغ المائة وعزمت على جمع كتاب في الأحاديث المتواترة يسر اللّه ذلك بمنه آمين اهـ‏.‏

وقال في شرح التقريب عقب نقل كلام ابن حجر أيضاً ما نصه قلت قد ألفت في هذا النوع كتابا لم أسبق إلى مثله سميته الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة مرتباً على الأبواب أوردت فيه كل حديث بأسانيد من خرجه وطرقه ثم لخصته في جزء لطيف سميته قطف الأزهار اقتصرت فيه على عزو كل طريق لمن أخرجها من الأئمة وأوردت فيه أحاديث كثيرة منها حديث الحوض من رواية نيف وخمسين صحابياً وحديث المسح على الخفين من رواية سبعين صحابياً وحديث رفع اليدين في الصلاة من رواية خمسين وحديث نضر اللّه أمراء سمع مقالتي من رواية نحو ثلاثين وحديث نزل القرآن على سبعة أحرف من رواية سبع وعشرين وحديث من بنى مسجداً بنى اللّه له بيتاً في الجنة من رواية عشرين وكذا حديث كل مسكر حرام وحديث بدا الإسلام غريباً وحديث سؤال منكر ونكير وحديث كل ميسر لما خلق له وحديث المرء مع من أحب وحديث إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة وحديث بشر المشاءين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة كلها متواترة في أحاديث جمة أودعناها كتابنا المذكور وللّه الحمد‏.‏

ثم ذكر أن أهل الأصول قسموا المتواتر إلى لفظي ومعنوي ثم قال قلت وذلك أيضاً يتأتى في الحديث فمنه ما تواتر لفظه كالأمثلة السابقة ومنه ما تواتر معناه كأحاديث رفع اليدين في الدعاء فقد روى عنه صلى اللّه عليه وسلم نحو مائة حديث فيها رفع اليدين في الدعاء وقد جمعتها في جزء لكنها في قضايا مختلفة فكل قضية منها لم تتواتر والقدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع اهـ‏.‏

وفي الفتح الباري أمثلته يعني المتواتر كثيرة منها حديث من بنى للّه مسجداً والمسح على الخفين ورفع اليدين والشفاعة والحوض ورؤية اللّه في الآخرة والأئمة من قريش وغير ذلك اهـ‏.‏

قال الشيخ التاودي في حواشيه على الصحيح وقد نظمت ذلك فقلت‏.‏

مما تواتر حديث من كذب

 

ومن بنى اللّه بيتاً واحتسب

ورؤية شفاعة والحوض

 

ومسح خفين وهاذي بعض

وقال السخاوي في فتح المغيث ما نصه وذكر شيخنا يعني ابن حجر من الأحاديث التي وصفت بالتواتر حديث الشفاعة والحوض فإن عدد رواتهما من الصحابة زاد على أربعين وممن وصفهما بذلك عياض في الشفاء وحديث من بني للّه مسجداً ورؤية اللّه في الآخرة والأئمة من قريش وكذا ذكر عياض في الشفا حديث حنين الجذع وابن حزم حديث النهي عن الصلاة في معاطن الإبل وعن اتخاذ القبور مساجد والقول عند الرفع من الركوع والابري في مناقب الشافعي حديث المهدي وابن عبد البر حديث اهتزاز العرش لموت سعد والحاكم حديث خطبة عمر بالجابية والإسراء وأن إدريس في الرابعة وغيره حديث انشقاق القمر والنزول وابن بطال حديث النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر والشيخ أبو إسحاق الشيرازي قال بعد ذكر الأحاديث المروية عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في غسل الرجلين لا يقال أنها أخبار آحاد لأن مجموعها تواتر معناه وكذا ذكره غيره في التواتر المعنوي كشجاعة على وجود حاتم وإخبار الدجال وشيخنا حديث خير الناس قرني وقد أفرد ما وصف بذلك في تأليف أم للزركشي أو غيره اهـ‏.‏

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة الفرقان بين الحق والباطل لما تكلم على الخوارج ما نصه فلهذا جاءت الأحاديث الصحيحة بقتالهم والأحاديث في ذمهم والأمر بقتالهم كثيرة جداً وهي متواترة عند أهل الحديث مثل أحاديث الرؤية وعذاب القبر وفتنته وأحاديث الشفاعة والحوض اهـ‏.‏

وفي كتاب مسلم الثبوت في أصول الفقه للشيخ محب اللّه بن عبد الشكور في الكلام على المتواتر ما نصه المتواتر من الحديث قيل لا يوجد وقال ابن الصلاح إلا أن يدعي في حديث من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فإن رواته أزيد من مائة صحابي وفيهم العشرة المبشرة وقد يقال مراده التواتر لفظاً وإلا فحديث المسح على الخفين متواتر رواه سبعون صحابياً وقيل حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف متواتر رواه عشرون من الأصحاب وقال ابن الجوزي تتبعت الأحاديث المتواترة فبلغت جملة منها حديث الشفاعة وحديث الحساب وحديث النظر إلى اللّه تعالى في الآخرة وحديث غسل الرجلين في الوضوء وحديث عذاب القبر وحديث المسح على الخفين اهـ‏.‏

وفي تأويله لكلام ابن الصلاح شيء مع ما تقدم عن السيوطي من الأمثلة الكثيرة لما تواتر لفظا‏.‏

بل الظاهر أنه ما قصد في كتابه في المتواترات إلا جمع المتواتر اللفظي وإن كان لا يسلم له في كثير من أحاديثه وقد اعترض شارح مسلم الثبوت الشيخ عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري تأويله المذكور قائلا ما نصه ثم في هذا التأويل أيضاً شيء فإنه قد تواتر قوله صلى اللّه عليه وسلم ويل للأعقاب من النار رواه اثنا عشر صحابياً مقطوع بعدالتهم أكثرهم من أصحاب بيعة الرضوان‏.‏

وقد تقدم تواتر لا نورث ما تركناه صدقة ولعل تأويل قوله أنه مبالغة في القلة اهـ وفيه أيضاً نظر على ما تقدم عن الحافظ وغيره من كثرة أمثلته إلا أنه اعترض ذلك بعضهم بأن الذي له أمثلة كثيرة هو المتواتر تواتراً معنوياً وأما المتواتر اللفظي فلا وكثير مما قيل فيه أنه لفظي يظهر عند النظر فيه أنه معنوي‏.‏

وفي ظفر الأماني ما نصه ما ذكره في شرح النخبة من الاستدلال على وجود المتواتر ووجود كثرة ضعيف جداً تعقبه من تكلم عليه اهـ‏.‏

ثم قال شارح مسلم الثبوت عقب ما نقلناه عن أصله في مثال المتواتر ولم يرد يعني مؤلفه الحصر فيه أي فيما ذكر في كلامه فإن أعداد الركعات وذهاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بدر واحد وسائر الغزوات والأذان والإقامة والجماعة وفضائل الخلفاء الراشدين وفضل أصحاب بدر بعمومهم متواترة من غير ريبة وسيجيء إن شاء اللّه تعالى حديث لن تجتمع أمتي على ضلالة بمعناه متواتر وكذا حديث الحوض والمغفرة والشفاعة وغيرها فافهم اهـ‏.‏

وبالجملة فالمتواتر من الحديث كثير جداً إلا أن أغلبه تواتره معنوي وأكثر الأمور المعلومة من الدين ضرورة متواترة معنى ومراد العلماء حصر اللفظي لأن الثاني لا يكاد ينحصر ولكن نحن نشير في هذا المجموع الذي لا يخلو بحول اللّه تعالى عن نكات جمة زائدة إلى كثير من المتواترات معنى مما وقفت على النص بتواتره تكميلاً للفائدة ثم الغالب أني لا أذكر من روى الحديث من الأئمة المخرجين وإنما أعدد رواته من الصحابة فقط أو مع بعض التابعين وتارة استوعب وتارة لا بحسب التيسير ثم اذكر من نص على تواتره من أئمة التحرير لأن القصد بيان المتواتر‏.‏ لا تتبع الطرق ولا بيان من خرجها من ذوي البصائر، ورتبته على الأبواب الفقهية، وبدأت فيه بحديث الأعمال بالنية‏.‏ لاستحباب السلف وغيرهم البداءة به والتصدير‏.‏ في جميع الأمور المهمة من غير تقصير؛ مع أنه متواتر المعنى، صحيح الأصل والمبنى‏.‏

وقد قال النووي في أذكاره كان السلف وتابعوهم من الخلف يستحبون افتتاح المصنفات بحديث الأعمال بالنيات تنبيها للمطالع على حسن النية واهتمامه بذلك واعتنائه به روينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمان بن مهدي قال من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث وقال الإمام أبو سليمان الخطابي كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديم حديث الأعمال بالنية أمام كل شيء ينشأ ويبتدأ من أمور الدين لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها اهـ وقال في بستانه استحب العلماء أن تفتتح المصنفات بهذا الحديث وممن ابتدأ به البخاري في صحيحه اهـ‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ اختلفوا في خبر الواحد المحتف بالقرائن المصدقة له هل يفيد العلم وهو ما عليه الامدى وابن الحاجب وغيرهما واختاره السبكي في جمع الجوامع أو لا يفيده مطلقاً ولو وجدت القرائن وهو ما عليه الأكثرون‏.‏

وقال التاج السبكي في شرح المختصر أنه الحق أو يفيده مطلقاً ولو عدمت القرائن بشرط العدالة وعزي إلى الإمام أحمد واستشكل وقال الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني وابن فورك يفيد المستفيض الذي هو من خبر الآحاد عندهما علماً نظرياً فهي أقوال أربعة حكاها في جمع الجوامع ورجح غير واحد من أئمة الحديث أن خبر الآحاد المحتف بالقرائن أي التي تسكن النفس إليها ولا يبقى معها احتمال البتة تفيد العلم النظري ومن ثم ذهب الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في مقدمة علوم الحديث له في جماعة من الأئمة منهم من الشافعية أبو إسحاق وأبو حامد الاسفرائنيين والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ومن الحنفية الإمام السرخسي ومن المالكية القاضي عبد الوهاب ومن الحنابلة أبو يعلى وأبو الخطاب وابن الزغواني وابن تيمية إلى أن ما اتفق على إخراجه الشيخان أو أخرجه أحدهما بالإسناد المتصل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم مما لم يبلغ التواتر كالحديث المتواتر في حصول العلم به والقطع بصحته وكان من يسمعه فيهما أو في أحدهما سمعه من في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسموهما وجلالتهما وشفوف تحريهما وتلقي الأمة المعصومة في إجماعها عن الخطأ لكتابيهما بالقبول تصديقاً وعملاً وتلقي الأمة للخبر المنحط عن درجة المتواتر بالقبول يوجب العلم النظري وعزى النووي في التقريب للمحققين والأكثرين خلافه وأن إخراجهما أو أحدهما للحديث لا يفيد إلا الظن يعني القوى وقال في شرحه لمسلم قد اشتد إنكار ابن برهان على من قال بما قاله الشيخ يعني ابن الصلاح وبالغ في تغليظه قال السيوطي في شرح التقريب وكذا عاب ابن عبد السلام على ابن الصلاح هذا القول وقال إن بعض المعتزلة يرون أن الأمة إذا عملت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحته قال وهو مذهب رديء اهـ‏.‏

وقال الحافظ ابن حجر ما ذكره النووي مسلم من جهة الأكثرين أما المحققون فلا فقد وافق ابن الصلاح أيضاً محققون وقال في شرح النخبة بعد ذكره لخبر الآحاد المحتف بالقرائن وأنه يفيد العلم النظري على المختار خلافاً لمن أبى ذلك ما نصه والخبر المحتف بالقرائن أنواع منها ما أخرجه الشيخان في صحيحهما مما لم يبلغ التواتر فإنه احتف به قرائن منها جلالتهما في هذا الشأن وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر إلا أن هذا مختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر وما عدى ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته فإن قيل إنما اتفقوا على وجوب العمل به لا على صحته أي القطع بها منعناه وسند المنع أنهم متفقون على وجوب العمل بكل ما صح ولم يخرجه الشيخان فلم يبق للصحيحين في هذا مزية والإجماع حاصل على أن لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة وممن صرح بإفادة ما خرجه الشيخان العلم النظري الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني ومن أئمة الحديث أبو عبد اللّه الحميدي وأبو الفضل ابن طاهر وغيرهما ويحتمل أن يقال المزية المذكورة كون أحاديثهما أصح الحديث ومنها أي أنواع المحتف المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل وممن صرح بإفادته العلم النظري الأستاذ أبو منصور البغدادي والاستاذ أبو بكر بن فورك وغيرهما‏.‏

ومنها المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين حيث لا يكون غريبا كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل ويشاركه فيه غيره عن الشافعي ويشاركه فيه غيره عن مالك بن أنس فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم انظر بقية كلامه‏.‏

وممن انتصر لابن الصلاح سراج الدين البلقيني وقال ابن كثير أنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأشار إليه قال السيوطي في شرح التقريب هو الذي اختاره ولا أعتقد سواه قال السخاوي في فتح المغيث على أن شيخنا قد ذكر في توضيح النخبة أن الخلاف في التحقيق لفظي قال لأن من جوز إطلاق العلم قيده بكونه نظرياً وهو الحاصل عن الاستدلال ومن أبي الإطلاق خص لفظ العلم بالمتواتر وما عداه عنده ظني لكنه لا ينفي أن ما احتف بالقرائن أرجح مما خلا عنها اهـ وفيه أن أرجحيته لا توجب العلم وإنما توجب الظن القوي فهذا التوفيق فيه نظر وقد انتصر جماعة من المتأخرين في هذه المسألة للنووي ومن وافقه وبالغوا في رد ما لابن الصلاح وابن حجر ومن ذكر معهما وقالوا أن جلالة شأن البخاري ومسلم وتلقي الأمة لكتابيهما بالقبول والإجماع على المزية لا يستلزم القطع والعلم غاية ما يلزم أن أحاديثهما أصح الصحيح لاشتمالها على الشروط المعتبرة عند الجمهور على الكمال وهذا لا يفيد إلا الظن القوي أي المزاحم لليقين ولا يفيد اليقين قالوا وهذا هو الحق الذي يجب أن يعول عليه‏.‏

‏(‏قلت‏)‏ ويؤيده حكم جماعة من أهل الكشف على بعض أحاديثهما بعدم الوقوع كحديث شق الصدر الشريف ليلة الإسراء الواقع في الصحيحين وأنكره صاحب الإبريز كشفاً وراجع شروح توضيح النخبة للحافظ ابن حجر تستفد وهذا أوان الشروع في المقصود بعون اللّه الملك المعبود‏.‏

حديث الافتتاح‏:‏ (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‏)‏

1- ‏ (‏إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‏)‏‏.‏

- جعله بعضهم مثالاً للمتواتر ورده ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث له فقال وحديث الأعمال بالنيات ليس من ذلك السبيل أي سبيل المتواتر وأن نقله عدد المتواتر وزيادة لأن ذلك طرأ عليه في وسط إسناده ولم يوجد في أوائله على ما سبق ذكره اهـ‏.‏
وفي التقريب للنووي ما نصه وحديث من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار متواتر لا حديث إنما الأعمال بالنيات اهـ أي فليس بمتواتر لأن شرطه وجود عدة التواتر في جميع طبقاته بأن يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب عن جمع كذلك إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه صلى اللّه عليه وسلم وليس ذلك بموجود هنا إلا أن يراد التواتر المعنوي فيصح لأنه متواتر معنى لكونه ورد في طلب النية في العمل أحاديث كثيرة كما يأتي وقال المنذري في الترغيب زعم بعض المتأخرين أن هذا الحديث بلغ التواتر وليس كذلك فإنه مما انفرد به يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد ابن إبراهيم التيمي ثم رواه عن الأنصاري خلق كثير نحو مائتين وقيل سبعمائة وقيل أكثر وقد روي من طرق كثيرة غير طريق الأنصاري ولا يصح منها شيء كذا قال الحافظ علي بن المديني وغيره من الأئمة وقال الخطابي لا أعلم في ذلك خلافاً بين أهل الحديث واللّه أعلم اهـ‏.‏
وقال العراقي أطلق بعضهم على الحديث اسم الشهرة وبعضهم اسم التواتر ولا كذلك وإنما هو فرد ومن أطلق ذلك أراد الاشتهار والتواتر في آخر السند فقد قال ابن المديني رواه عن يحيى بن سعيد سبعمائة رجل اهـ‏.‏

وفي شرح التقريب للسخاوي أنه لا يصح التمثيل به للمشهور فضلاً عن المتواتر وإنما يمثل به للغريب قال لأن الحكم في مثله للأقل اهـ‏.‏

وحاصل ما للأئمة فيه أنه حديث فرد غريب باعتبار أوله بل تكررت الغرابة فيه أربع مرات باعتبار آخره لأنه لم يصح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم كما قاله غير واحد من الحفاظ إلا من حديث عمرو لا عن عمر إلا من رواية علقمة ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم التيمي ولا عن التيمي إلا من رواية يحيى بن سعيد الأنصاري ومداره عليه وأما بعد يحيى فقد رواه عنه أكثر من مائتي إنسان أكثرهم أئمة وفي كلام الحافظ أبي عبد اللّه محمد بن علي الخشاب أنه رواه عنه مائتان وخمسون نفراً وذكر ابن منده أسماءهم مرتبة على حروف المعجم فبلغت ثلاثمائة أو أربعة قال الحافظ ابن حجر في أماليه المخرجة على مختصر ابن الحاجب الأصلي وقد وقع لي من رواية ثلاثة غير من سمى وذكر الحافظ أبو موسى المديني أن الحافظ أبا إسماعيل الهروي المعروف بشيخ الإسلام ذكر أنه كتبه عن سبعمائة رجل من أصحاب يحيى قال الحافظ وهذا يمكن تأويله بأن يكون له عن كل نفس من أصحاب يحيى أكثر من طريق فلا تزيد العدة على ما سمي ابن منده فإن الرواة عن يحيى لا يبلغون هذه العدة فيما نعلم وأكثر من سمي ابن منده ما وقفنا على رواياتهم اهـ‏.‏ وقال في تخريج أحاديث الرافعي تتبعته من الكتب والأجزاء حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقاً اهـ‏.‏

وذكر أبو القاسم عبد الرحمان ابن منده في كتاب التذكرة له أنه رواه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مع عمر علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وأبو ذر وعبادة ابن الصامت وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عمر وابن عباس ومعاوية وعقبة بن عامر وعتبة بن عبد السلمي وجابر وأنس وعتبة ابن الندر وعتبة بن مسلم وهلال بن سويد وذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير أنه سأل المزي عن كلام ابن منده هذا فاستبعده ووجهه الحافظ أبو الفضل العراقي في كلامه على ابن الصلاح بأن مراده أن هؤلاء رووا أحاديث في مطلق اعتبار النية لا خصوص هذا اللفظ ونبه على أن الأخيرين ليسا بصحابيين قال الحافظ وقد ورد بلفظه من حديث أربعة من المذكورين وهم أبو سعيد وأنس وأبو هريرة وعمر اهـ‏.‏

وذكر الحافظ أبو الفضل العراقي أنه رواه ثلاث وثلاثون صحابياً أي وهم من تقدم ويزاد عليهم أبو الدرداء وسهل بن سعد والنواس بن سمعان وأبو موسى الأشعري وصهيب بن سنان أبو أمامة الباهلي وزيد بن ثابت ورافع بن خديج وصفوان ابن أمية وغزية بن الحارث والحارث بن غزية وعائشة وأم سلمة وأم حبيبة وصفية بنت حيي ويعني أنهم رووا أحاديث في مطلق النية لقول ولده الولد العراقي هو منحصر في رواية عمر وما عداه ضعيف أو في مطلق النية اهـ‏.‏

وذكر ابن منده أيضاً أنه رواه عن عمر غير علقمة جماهير منهم ابنه عبد اللّه وجابر وأبو جحيفة وعبد اللّه بن عامر بن ربيعة وذو الكلاع وعطاء ابن يسار وناشرة بن سمي وواصل ابن عمرو الجذامي ومحمد بن المنكدر وأنه رواه عن علقمة غير محمد بن إبراهيم سعيد بن المسيب ونافع مولى ابن عمر وأنه رواه عن محمد غير يحي أخوه عبد ربه بن سعيد وحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق وداود بن أبي الفرات ومحمد ابن عمرو ابن علقمة الليثي وكان ابن منده هذا هو الذي ادعى تواتره فلذلك احتاج إلى هذا التكلف الذي ذكره فإن أراد التواتر المعنوي فذاك وإلا فممنوع لأنه لم يصح له طريق غير طريق عمر ولم يرد بلفظ حديث عمر إلا من حديث أبي سعيد وقد صرحوا بتغليظ راويه فيه وحديث علي وفيه من لا يعرف وحديث أنس وهو غريب جداً وحديث أبي هريرة وهو ضعيف وسائر أحاديث الصحابة المذكورين إنما هي في مطلق النية كحديث يبعثون على نياتهم وحديث لا عمل لمن لا نية له وحديث ليس للمرء من عمله إلا ما نواه وحديث نية المؤمن خير من عمله وحديث ليس له من غزاته إلا ما نوى وحديث ولكن جهاد ونية وحديث رب قتيل بين الصفين اللّه أعلم بنيته وحديث لك ما نويت يا يزيد وما أشبه ذلك وقد قال السيوطي في منتهى الآمال في شرح حديث إنما الأعمال ورد في مطلق النية أحاديث كثيرة جداً تزيد على عدد التواتر ثم ذكر بعضها من حديث أنس وابن عباس ورافع بن خديج وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وغزية بن الحارث وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعقبة بن عامر وأبي ذر وأبي الدرداء فانظره وانظر أيضاً أمالي الحافظ ابن حجر المخرجة على مختصر ابن الحاجب الأصلي وشرح التقريب للسيوطي في الكلام على الشاذ وإرشاد الساري وغير ذلك وبهذا كله تعلم ما في قول الشعراني في البدر المنير حديث الأعمال بالنيات رواه الشيخان لكن بزيادة إنما الأعمال رواه ثلاثون صحابياً فهو من الأحاديث المتواترة اهـ‏.‏
ثم هذا الحديث من الأحاديث التي لم يذكرها السيوطي في الأزهار لأن مراده فيه واللّه أعلم بيان المتواتر اللفظي لا المعنوي وإن أورد فيه الكثير مما هو معنوي أيضاً واللّه المرشد‏.‏