ذكر المحاسن

تحسبن المتعلم والتعليم
أحسن وأجمع ما سمعت وقرأت فيه كلام لأبي زيد البلخي، من رسالة كتبها، وقد عير بأنه معلم، وقيل له إن المعلم ساقط مذموم قبيح الاسم، فقال: ليس يستغني أحد عن التعلم والتعليم، لأن الحاجة يضطر إليها في جميع الديانات والآداب والصناعات والمذاهب والمكاسب. فما يستغني كاتب ولا حاسب ولا صانع ولا بائع عن أن يتعلم صناعة ممن هو أعلم منه، ويعلمه من هو أجهل منه. وقوام الخلق بالتعلم والتعليم. فالمعلم أفضل من المتعلم، لأن صفة المعلم دالة على التمام والإفادة والمتعلم صفته دالة على النقصان والاستفادة. وحسبك جهلاً من رجل يعمد إلى فعل قد وصف الله سبحانه نفسه به، ثم رسوله عليه السلام، فيذمه. أليس قد قال الله عز وجل: " وعلم آدم الأسماء كلها " ، وقال: " وعلمناه من لدنا علماً " ، وقال في وصف نبيه عليه السلام: " ويعلمه الكتاب والحكمة " .


تحسين ما يتطير منه
لما هدد الهادي يحيى بن خالد البرمكي بالقتل إن لم يحمل الرشيد على خلع نفسه، رجع إلى داره مغموماً، وكلم غلاماً له في شيء، فأجابه بما غاظه، فلطمه لطمة انكسرت بها حلقة خاتمه، وطاح الفص، فاشتد ذلك عليه وجزع له. ودخل عليه السيّاريّ الشاعر، فأخبره بالقصة، فقال:
أخلاك من كل الهموم سقوطه ... وأتاك بالفرج انفراج الخاتم
قد كان ضاق ففكّ حلقة ضيقه ... فامسك، فما ريب الزمان بدائم
فما أمسى حتى ارتفعت الداعية لموت الهادي، وصار الأمر إلى الرشيد، فأمر للسيّاري بعشرة آلاف درهم.
ولما خرج طاهر بن الحسين إلى محاربة علي بن عيسى بن ماهان، جعل ذات يوم في كمّه دراهم للصدقة على الفقراء، ثم أسبل كمّه (ناسياً، فانتفضت الدراهم منه). فتطير من ذهابها في غير وجهها، (واغتم لذلك)، فانتصب له من قال:
هذا تفرق جمعهم لا غيره ... وذهابه منه ذهاب الهم
شيء يكون الهم نصف حروفه ... لا خير في إمساكه في الكم
فتسلى به، وأمر له بصلة. ولم يدر الأسبوع حتى ظفر بابن عيسى.
وكان الأفشين بأزاء بابك يحاربه، فانكسر يوماً سيفه، فتطير منه، حتى قال له شاعر كان معه:
إن انكسار السيف كير للعدى ... وبكسره أجناد بابك يكسروا
هذاك فأل للظنون محقق ... وكأنني بالفتح لاح، فأبشروا
فما كان أسرع من أن انجلت المعركة عن الظفر ببابك، ووصل الشاعر ما أغناه.

ولما ولى المأمون الحسن بن رحاء الموصل، وخرج من داره واللواء بين يديه، تعلق ببعض الدروب فاندق، وتطير الناس له من ذلك، فقال الشاعر الضبي:
ما كان مندقّ اللواء لريبة ... تخشى، ولا أمر يكون مزيّلا
لكن ذاك الرمح قصّف ظهره ... صغر الولاية، فاستقل الموصلا
ورفع الخبر إلى المأمون، فأمر أن يولي ديار ربيعة مع الموصل، وقال: إذا استقل اللواء الموصل، فنحن نكثر قليله بزيادة الولاية. وأمر للضبي بمال.


تحسين المقابح بالكنايات
حدثني البديع الهمداني قال: كان أبو الحسين أحمد بن فارس يقول: الحدّة عند العلماء كناية عن الجهل، والقطع عند المنجمين كناية عن الموت، والطبيعة عند الأطباء كناية عن الحدث، والماء عندهم كناية عن البول، والنفخ عندهم كناية عن الضراط والفسو. والنصيحة عند العمال كناية عن السعاية، والاستقصاء عندهم كناية عن الحوز. والوطئ عند الفقهاء كناية عن الجماع. وطيب النفس عند الظرفاء كناية عن السكر. والعلق عند اللاطة كناية عن المؤاجرة، والغراب عند الشعراء كناية عن المأبون، لأنه يواري سوءة أخيه. والاقتصار عند البخلاء كناية عن البخل. والزوار عند الكرام كناية عن السؤال. وما أفاء الله عند الصوفية كناية عن الصدقة. والفتوة عند الشطار كناية عن التلصص. ومزح اليدين عند المعاشرين كناية عن الصفع. والانحياز عند الجند كناية عن الهزيمة، ورائحة الشباب عند النساء كناية عن الصنّان. والممنع عند الكتاب كناية عن الأعور. والسليم عند العرب كناية عن اللديغ. وأبو البيضاء عندهم كناية عن الزنجي. والطويلة عند المخنثين كناية عن اللحية. والعمار كناية عن الجن.
وذكر ابن العميد في رسالة له إلى رجل حلف بالطلاق، فقال: حلف أيماناً مغلظة سمى فيها حرائره. ولما برص بلعاء بن قيس الكناني قيل له: ما هذا؟ قال: سيف الله جلاه.
ومن أحسن كنايات الصاحب، وأبي إسحاق الصابي، وغيرهما من البلغاء عن ذكر موت الملوك والأجلة والرؤساء قولهم: انقضت أيامه، استأثر الله به. خانه عمره. لم تسمح النوائب بالتجافي عن مهجته. أجاب داعي ربه. نفذ قضاء الله فيه. لحق بالسبيل التي لا احتراز منها. انتقل إلى جزار ربه. دعاه الله فأجاب دعاه ولبى نداه. نقله الله إلى دار رضوانه ومحل غفرانه. انقلب إلى كرامة الله وعفوه. كتب له سعادة المحتضر، وأفضى به الأمر إلى الأجل المنتظر. طرقه طارق المقدار، واختار الله عزله بنقله من دار البوار إلى دار القرار.


تحسين الكذب
قال ابن التوأم: الكذب في مواطنه كالصدق في مواضعه، ولكن الشأن فيمن يحسنه ويعرف مداخله ومخارجه، ولا يجهل تزاويقه ومضايقه، ولا ينساه بل يحفظه. ومعلوم أن من أجل الأمور في الدنيا الحرب والصلح، ولا بد فيهما من الكذب. أما الحرب فهي خدعة كما قال عليه الصلاة والسلام. وأما إصلاح ذات البين فالكذب فيه محمود، لما فيه من الصلاح، وقد رخص فيه السلف. ولا خلاف في أن الشعر ديوان العرب ولسان الزمان، وأحسنه أكذبه. وكذلك الكتابة لا تحسن إلا بشيء منه. وقد جاء في المثل " أظرف من كذوب " . قال الأعشى:
فصدقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه
وكان العتبي يقول: إني لأكذب في كبار ما ينفعني، لأصدق في صغار ما يضرني. وقيل لجعفر الصادق رضي الله عنه: ربما نكذب الظلمة مخافة شرهم أفنأثم فيه؟ فقال: بل يثيبكم الله تعالى عليه.


تحسين الوقاحة
الوقاحة كالقداحة، لولاها لما استعر لهب، ولا اشتعل حطب.


تحسين الإثم والترخيص في الذنوب
سمعت أبا القاسم عبد الصمد بن بابك يقول: كان أبو الحسن محمد بن عبد الله السلامي المخزومي أشعر شعراء أهل العراق بعد ابن نباتة السعدي. وأمير شعره، وغرة كلامه قوله من تشبيب قصيدة له في ابن عباد:
ونحن أولاك نطلب من بعيد ... لعزتنا، وندرك من قريب
تجرأنا على الآثام لما ... رأينا العفو من ثمر الذنوب
قال: وكان ابن عباد يقول إذا أنشد هذا البيت الأخير: هذا المعنى كان يدور في خواطر الناس، فيحومون حوله، ويرفرفون عليه، ولا يتوصلون إليه، حتى جاء السلامي فأفصح عنه، وأحسن ما شاء، ولم يدر ما رمى به.


تحسين الفقر

كان يقال: الفقر شعار الأنبياء والصالحين، وكذلك قال البحتري:
فقر كفقر الأنبياء وغربة ... وصبابة، ليس البلاء بواحد
وقال بعض الحكماء: الفقير مخف آمن ولا عدو له، والغني مثقل خائف ولا تحصى أعداؤه.
ومن أحسن ما قيل في هذا الباب قول أبي العتاهية:
ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى ... وأن الغنى يخشى عليه من الفقر
وقول محمود الوراق:
يا عائب الفقر أما تنزجر ... عيب الغنى أكبر لو تعتبر
من شرف الفقر، ومن فضله ... على الغنى، لو صح منك النظر
أنك تعصي الله تبغي الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر


تحسين الدين
كانت عائشة رضي الله عنها تستدين من غير حاجة، فقيل لها في ذلك، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان عليه دين، وفي نيته قضاؤه، كان الله تعالى معه إلى أن يقضيه، وأنا أحب أن يكون الله معي. وفي الحديث: مكتوب على باب الجنة: الدين بثمانية عشر أمثاله، والصدقة بعشرة. قيل: ولم ذاك يا رسول الله، قال: لأن المستدين لا يستدين إلا لحاجة وضرورة، والصدقة ربما وقعت في يد غني عنها. وفي حديث آخر: من أدان ديناً وفي نيته قضاؤه أعانه الله عليه وبارك له فيه. وقال بعض السلف: لأن أقرض مالي مرتين أحي إليّ من أن أتصدق به مرة واحدة.
ودخل عمرو بن عتبة يوماً على خالد بن عبد الله القسري، فعرّض به خالد، وقال: إن ها هنا رجالاً إذا خفت أموالهم عوّلوا على الدين، وأخذوا في الاستدانة. فقال عتبة: إن رجالاً تكون أموالهم أكثر من مروءاتهم فلا يدانون، ورجالاً لا تكون مروءاتهم أكثر من أموالهم فيدانون، على سعة ما عند الله. فخجل خالد وقال: إنك منهم ما علمت. ووقّع له بمائة ألف درهم.
وكان سعيد بن سلم يقول: كثرة الدين من علامات المفضلين.


تحسين الحبس
سبق إليه وتفرّد به عليّ بن الجهم حيث يقول:
قالوا حبست، فقلت ليس بضائري ... حبسي، وأيّ مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يألف غيله ... كبراً، وأوباش السباع تردد
والبدر يدركه السرار فتنجلي ... أيامه، وكأنه متجدد
والحبس ما لم تغشه لدنيّة ... شنعاء، نعم المنزل المتورد
بيت يجدد للكريم محله ... ويزار فيه ولا يزور، فيحمد
وكان المبرد يقول: لله در عليّ بن الجهم إذ تفرد بذكر إغماد السيف وسلّه، في قوله: " وأيّ مهند لا يغمد " ، وقوله:
ما ضره إذ بزّ عنه غطاؤه ... فالسيف أهيب ما يرى مسلولاً
وسمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: لم يسمع في الاستهانة بالحبس والجلد على عقوبة السلطان أحسن وأكذب من قول بعض الأعراب:
وما السجن إلا ظل بيت سكنته ... وما السوط إلا جلدة وافقت جلدا


تحسين الأيمان الكاذبة
لم أسمع فيه إلا قول ابن الرومي، وهو من بدائعه التي هو ابن بجدتها وأبو عذرتها:
وإني لذو حلف كاذب ... إذا ما اضطررت وفي الحال ضيق
وهل من جناح على مسلم ... يدافع بالله ما لا يطيق
وقال أبو حنيفة: إذا ابتليتم بالسلطان فخرّقوا أيمانكم بالكذب، ورقّعوها بالاستغفار.


تحسين أمر الرقيب
لم أسمع فيه إلا قول من قال، وهو متنازع:
موقف للرقيب لا أنساه ... لست أختاره ولا آباه
مرحباً بالرقيب من غير وعد ... جاء يجلو عليّ من أهواه
لا أحب الرقيب إلا لأني ... لا أرى من أحب حتى أراه


تحسين أمر الثقيل
أنشدني أبو الفتح علي بن محمد البستي لنفسه:
وإني لأختص بعض الرجال ... وإن كان فدماً، ثقيلاً، عباما
فأن الجبن على أنه ... ثقيل، وخيم يشهّي الطعاما
وأنشدني أبو سعد بن دوست لنفسه:
أتانا ثقيل، فقلت اصبروا ... يخف الثقيل على من صبر
فطيب الجلوس بثقل الثقيل ... كطيب الهريس بلحم البقر
؟تحسين أمر الطفيلي: لم اسمع فيه إلا ما أنشدنيه أبو روح ظفر بن عبد الله الهروي لنفسه:

إن الطفيلي له حرمة ... زادت على حرمة ندماني
لأنه جاء، ولم أدعه ... مبتدئاً منه بأحسان
أهلاً بمن أنساه لا عن قلىً ... وهو يجبيني، ليس ينساني
مائدتي للناس منصوبة ... فليأتها القاصي مع الداني

تحسين الحقد
لم يزل الحقد مذموماً بكل لسان، مقبحاً عند كل إنسان، حتى جرى بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الملك بن صالح الهاشمي كلام يؤذي، إلى أن قال له يحيى: لله درك أي رجل أنت، لولا أنك حقود. فقال عبد الملك: إن كنت تريد بقاء الخير والشر عندي فإني كذلك . ويروى أنه قال له: أنا خزانة تحفظ الخير والشر. فقال يحيى: هذا جبل قريش، ووالله ما رأيت أحداً احتج للحقد، حتى حسّنه وظرّفه غيره.
وقد نظم ابن الرومي هذا المعنى، فقال وزاد في التحسين:
وما الحقد إلا توأم الشكر للفتى ... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
فحيث ترى حقداً على ذي إساءة ... فثم ترى شكراً على حسن القرض
إذا الأرض أدت ريع ما أنت زارع ... من البذر فيها، فهي ناهيك من أرض

تحسين العمى

 قيل: لما عمي ابن عباس رضي الله عنه، قال:
إن يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي، وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي مقول كالسيف مأثور
وقيل لقتادة: ما بال العميان أذكى وأكيس من البصراء، فقال: لأن أبصارهم تحولت إلى قلوبهم. وقال الجاحظ: العميان أحفظ وأذكى، واذهانهم أقوى وأصفى، لأنهم غير مشتغلي الأفكار بتمييز الأشخاص، ومع النظر يتشعب الفكر، ومع انطباق العين اجتماع اللب، ولذلك قال بشار:
عميت جنيناً، والذكاء من العمى
وكان أبو يعقوب الخزيمي يقول: من فضائل العمى ومحاسنه ومرافقه اجتماع الرأي والذهن وقوة الكيس والحفظ، وسقوط الواجب من الحقوق، والأمان من فضول النظر الداعية إلى الذنوب، وفقد النظر إلى الثقلاء والبغضاء، وحسن العوض عن متراخي الوجد في دار الثواب.
وأنشدني أبو القاسم الطهمانيّ، قال: أنشدني أبو محمد الهاشمي، قال: أنشدني منصور الفقيه المصري لنفسه:
يا معرضاً إذ رآني ... لما رآني ضريرا
كم قد رأيت بصيراً ... أعمى، وأعمى بصيرا
قل لي، وإن إنت أنصف ... ت قلت خلقاً كثيرا


تحسين الوحدة
أنشدني ميمون بن سهل الواسطي، قال: أنشدني القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني لنفسه:
ما تطعمت لذة العيش حتى ... صرت في وحدتي لكتبي جليساً
ليس شيء أجلّ عندي من نف ... سي، فلم أبتغي سواها أنيسا
إنما الذل في مواصلة النا ... س، فدعها، وعش كريماً رئيسا
وأنشدني أبو محمد العبدلكاني لنفسه في باب الهزل والإحماض:
يلومونني في وحدتي والومهم ... ولو أنصفوني صوّب الرأي من لحا
وحسبك من فضل التوحد أنه ... إذا ضاق بطن المرء بالريح سرّحا


تحسين البخل
كان الكندي يقول: من جاد بماله فقد جاد بنفسه، لأنه يجود بما لا قوام لها إلا به. وكان يقول: قول لا يدفع البلا، وقول نعم يزل النعم. وكان أبو الأسود يقول: لو لم نبخل على السؤال بما يسألوننا لكنا أسوأ حالاً منهم. وكان سهل بن هارون يقول: عجبت لمن يسمي القصد بخلاً والسرف جوداً. وكان عليّ بن الجهم يقول: من وهب المال في عمله فهو أحمق، ومن وهبه في عزله فهو مجنون، ومن وهبه من كسبه فهو جاهل، ومن وهبه مما استفاده بحيلته فهو المطبوع على قلبه، المأخوذ ببصره وسمعه. وكان محمد بن الجهم يقول: اتركوا الجود للملوك، فهو لا يليق إلا بهم، ولا يصلح إلا لهم، ومن عارضهم في ذلك ثم افتقر وافتضح فلا يلومن إلا نفسه. وكان يقول: (إذا قبّح السؤال حسن المنع).
ومن أمثال العرب: " الشحيح أعذر من الظالم " . ومن أمثال العجم: " منع الجميع (أرضى للجميع).
ولما جرى الكلام بين أرباب الدولة في استخلاف ابن المعتز بعد المكتفي، وتذاكروا فضله وأدبه، قال العباس بن الحسن الوزير: لا يصلح لخلافة الله في بلاده وعباده من يقول في تحسين البخل:

يا رب جود جر فقر امرئ ... فقام في الناس مقام الذليل
فاشدد عرى مالك، واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل
وأنشدني عبد القاهر بن عبد الوهاب البصري، ولم يسم له قائلاً، وأراه لابن الرومي:
لا تسلم المرء على بخله ... ولمه، يا صاح، على بذله
لا خير في المرء إذا لم يكن ... يحفظ ما يكرم من أجله
أحصف، وأعقل بامرئ حازم ... يلزم ما يلزم من ذله


تحسين قول لا
أحسن ما قيل فيه (نثراً) قول بعض العلماء: من فضل لا أنها افتتاح كلمة التوحيد. يعني قول لا إله إلا الله. وكان الكندي يقول: قول لا يدفع البلا، وقول نعم يزيل النعم. ومن أحسن ما قيل فيه نظماً قول بعض الظرفاء:
قد أجمع الناس على بعض لا ... ولست أنسى أبداً حبّ لا
لأنني قلت له سيدي ... تحب غيري أبداً؟ قال: لا


تحسين أمر الغوغاء والسفل
في الخبر أن الله تعالى ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم. وكان الأحنف يقول: أكرموا الغوغاء والسفهاء، فأنهم يكفونكم العار والنار. وذكر جعفر بن محمد رضي الله عنه، فقال: إنهم ليطفون الحريق، ويستنقذون الغريق، ويسدون البثوق.
وكان سعيد بن سلم يقول: ينبغي للرئيس أن يأخذ في ارتباط السفهاء والغوغاء بقول الشاعر:
وإني لأستبقي امرء السوء عدةلعدوة عريض من القوم جانب
أخاف كلاب الأبعدين وهرشها ... إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب


تحسين البله
كان قابوس بن وشمكير، إذا ذكر إنساناً بالبله قال: إنه من أهل الجنة. يعني قول النبي عليه الصلاة والسلام: أكثر أهل الجنة البله.


تحسين الملال
قرأت في أخبار عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: أنه جرى يوماً في مجلسه بين جلسائه كلام في ذم الملل وتقبيحه والتعريض به، فتغافل وتشاغل ساعة. فلما أكثروا ولم يبقوا في القوس منزعاً، استوى جالساً وأقبل عليهم وقال: ويحكم أتدرون أنكم تذمون ممدوحاً؟ ألا ترون أن الرئيس إذا كان غير ملول اختص بثمرة فضله قوم، بل شرذمة قليلون من خواصه وندمائه (وحرم الأكثرون من أفاضل المستحقين صوب سمائه)، وإذا كان ملولاً ولا يصبر على نفر بأعيانهم استجد الأخوان على تكرر الزمان، واستمالهم بالإنعام، والإحسان، وتشارك الناس في أثاريده، وتضاربوا بالسهام في أياديه ومننه، فقالوا له: والله إن الأمير ليسحرنا بلسانه وبيانه، ويحسن ما تطابقت الألسن على تقبيحه.


تحسين الحجاب
لم يحسنه أحد كتحسين أبي تمام إياه واشتهاره عليه، في قوله لعبد الله بن طاهر:
يا أيها الملك النائي برؤيته ... وجوده لمراعي جوده كثب
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملاً ... إن السماء لترجى حين تحتجب
وأراد ابن نباتة أن يبتدع عليه، فقال وأحسن، ولكن ما شق غباره:
ولو كان الحجاب بغير نفع ... لما احتاج الفؤاد إلى حجاب


تحسين العزل
من أحسن ما سمعت فيه نثراً قول أبي إسحاق الصابي، من رسالة إلى بعض أصدقائه: ليهنك يا سيدي ومولاي أدام الله تعالى عزك العزل، وحاز لك في خفة الظهر بالتخلص من العمل الذي هو، مع هذه العواقب الوخيمة والرسوم الذميمة، بمنزلة الحبائل المنصوبة والأشراك المبثوثة. ومثلك لا يخاطب مخاطبة من حط له محل، بل مخاطبة من وضع عنه كل. ومن إحسان البحتري المشهور قوله:
ليهنك إذ أصبحت مجتمع الحمد ... وباني المعالي والمكارم والمجد
فلا تحسب الحساد عزلك مغنماً ... فإن إلى الإصدار ما غاية الورد
وما كنت إلا السيف جرّد للوغى ... فأحمد فيها، ثم رد إلى الغمد


تحسين الفراق
قال بعض الظرفاء: في الفراق مصافحة التسليم، ورجاء الأوبة، والسلامة من الملل، وعمارة القلب بالشوق، والأنس بالمكاتبة. وكتب أبو عبد الله الزنجي الكاتب: جزى الله الفراق عنا خيراً، فإنما هو زفرة وعبرة، ثم اعتصام وتوكل، ثم تأميل، وتوقع. وقبح الله التلاقي، فإنما هو مسرة لحظة ومساءة أيام، وابتهاج ساعة واكتئاب زمان.

وكتب أحمد بن سعد؛ إني لأكره الاجتماع محاذرة الفراق وقصر السرور. ومع الفراق غمة يخفيها توقع إسعاف النوى، وتأميل الأوبة والرجعى.
وكتب آخر: لو قلت إني لم أجد للرحيل ألماً وللبين حرقة لقلت حقاً. لأني نلت في ساعة الفراق من طيب اللقاء وأنس العناق، ما كان معدوماً أيام التلاقي.
وكان أبو بكر الخوارزمي يقول: من أراد أن يسمع ما يقطر منه ماء الطرف فليستنشد قول محمد بن أبي محمد اليزيدي في

تحسين الفراق
ليس عندي شحط النوى بعظيم ... فيه غم، وفيه كشف غموم
من يكن يكره الفراق، فإني ... أشتهيه لموضع التسليم
إن فيه اعتناقة لوداع ... ورجاء اعتناقة لقدوم


تحسين الجبن والفرار
سمعت أبا زكرياء الحربي المزكي النيسابوري يقول: رئي شيخ كبير من الجند في بعض الحروب، وقد تأخر عن الصف، واستعد للهروب، فقيل له: أتأخذ رزق السلطان بهذا الجبن؟ فقال: لو لم أكن جباناً لما بلغت هذه السن العالية.
وكان أبو الهذيل العلاف يقول: بشروا الجبان بطول العمر. وكان ابن عائشة القرشي يقول: ما في الدنيا شجاع إلا متهور، ولا جبان إلا متحرر. وكان بعض الجبناء يقول: فر أخزاه الله خير من قتل رحمه الله. وقال آخر: من أراد دوام السلامة فليؤثر الجبن على الشجاعة. وقال آخر: نحن نتأدب بدين الله سبحانه في قوله: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " . وسمع بعضهم من قول: الشجاع موقى، والجبان ملقى، فقال: العيان والخبر والتجربة مما يشهد بقلب هذا الكلام. وقيل لآخر، وقد عزم على الهرب: ألا تجزع من السلطان أن يأمر بإسقاط رزقك؟ فقال: إنما أهرب خشية من سقوط الرزق. ورأى بعض الأمراء رجلاً قد تأخر عن الصف فقال: ويلك لم لا تحارب؟ فقال: أيها الأمير لست اليوم بطيب النفس، فاحسب كم جرايتي لهذا اليوم، فاسترها مني في غيره، ودعني أمرّ في لعنة الله.


تحسين أمر البنات
دخل عمرو بن العاص يوماً على معاوية، وعنده ابنته عائشة، فقال: من هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه تفاحة القلب، فقال: انبذها عنك. قال: ولم؟ قال: لأنهن يلدن الأعداء، ويقربن البعداء، ويورثن الضغائن. قال: لا تقل ذلك يا أبا عبد الله، فوالله ما مرض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الأحزان مثلهن، وإنك لواجد خالً قد نفعه بنو أخته. فقال: يا أمير المؤمنين قد حببتهن إليّ.
وقال معن بن آوس المزني:
رأيت رجالاً يكرهون بناتهم ... وفيهن لا تكذب نساء صوالح
وفيهن، والأيام يعثرن بالفتى ... خوادم لا يمللنه، ونوائح
وقال العلوي الحماني في صديق له رزق ابنة فسخطها:
قالوا له ماذا رزقتا ... فأصاخ، ثمّت قال: بنتا
وأجل من ولد البنا ... ت، أبو البنات، فلم جزعتا
إن الذين تودّهم ... بين الخلائق ما استطعتا
نالوا بفضل البنت ما ... كبتوا به الأعداء كبتا
وهذه نسخة رقعة لابن عباد في التهنئة بابنة: أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بأخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون:
فلو كان النساء كمثل هذي ... لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
والله يعرفك يا مولاي البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادرع اغتباطاً، واستأنف نشاطاً (فالدنيا مؤنثة والرجال يخدمونها (والنار مؤنثة) والذكور يعبدونها)، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة وبها وعد المتقون، وفيها يتنعم المرسلون. فهنيئاً لك ما أوتيت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت.

ونسخة رقعة لأبي الفرج الببغاء: اتصل بي خبر المولود المسعود، كرم الله غرتها، وأنبتها نباتاً حسناً، وما كان من تغيرك عند اتضاح الخبر، وإنكارك ما اختاره الله لك في سابق القدر. وقد علمت أنهن أقرب إلى القلوب، وأن الله بدأ بهن في الترتيب، فقال تعالى: " يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور " ، وما سماه الله هبة فهو بالشكر أولى، وبحسن التقبل أحرى. فهنّاك الله بورود الكريمة عليك، وثمر بها أعداد النسل الطيب لديك. والسلام.


تحسين التحاء الغلام
من أحسن ما قيل فيه، على كثرته، قول الأستاذ أبي الفرج علي بن الحسين بن هندو، رحمه الله:
عابوه لما التحى، فقلنا ... عبتم وغبتم عن الجمال
هذا غزال، وما عجيب ... تولّد المسك في الغزال
ولمؤلف هذا الكتاب، على لسان بعض الرؤساء، ما سبق إلى معناه، وتفرد به:
قالوا تشوك خدّاه وشاربه ... فقلت لا تنكروا ما ليس بالعجب
الشواك في شجرات الورد محتمل والشوك لا عجب في مجتنى الرطب.


تحسين سواد اللون
أحسن ما قيل في ذلك قول أبي يوسف القاضي، وقد جرى ذكره عند الرشيد: يا أمير المؤمنين من فضل السواد أنه لم يكتب كتاب الله سبحانه إلا به. والنور في السواد، يعني سواد النظر.
وقد أكثر الشعراء في تحسين السواد، ومدح السودان. فمن ذلك، قول أبي حفص الشطرنجي في جارية سوداء:
أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده
لا شك، إذ لونكما واحد ... أنكما من طينة واحدة
وقول أبي محمد العباسي:
إن سعدى، والله يكلأ سعدى ... ملكت بالسواد رقّ سوادي
أشبهت ناظري وحبة قلبي ... فهي في العز ناظري وفؤادي
لن يرى الناظرون شيئاً، وإن أشر ... قال: حسناً، إلا بنور السواد
وقول بعض الكتاب في غلام أسود:
قالوا عشقت من البرية أسوداً ... مهلاً علقت بأضعف الأسباب
فأجبتهم ما في البياض فضيلة ... وأرى السواد نهاية الآراب
أهوى السواد، لأن شيبي أبيض ... يؤذي الفتى، وأحب لون شبابي
وكذاك في الكافور برد قاطع ... والمسك أصبح أطيب الأطياب
وبه تزين كفّ كل خريدة ... وبه تتم صناعة الكتاب
والله ألبس أهل بيت محمد ... لون السواد، فكف عنك عتابي
وجاء ابن الرومي فزاد عليهم، وأحسن وأبدع، في وصف جارية سوداء، وتحسين لونها، حيث قال من قصيدة:
غصن من الآبنوس ركّب في ... مؤتزر معجب ومنتطق
سوداء لم تنتسب إلى برص الشق ... ر، ولا لمعة، ولا بهق
أكسبها الحب أنها صبغت ... صبغة حب القلوب، والحدق
فانصرفت نحوها الضمائر وال ... أبصار، يعبقن أيما عبق
وبعض ما فضل السواد به ... والحق ذو سلم، وذو نفق
أل يعيب السواد حلكته ... وقد يعاب البياض بالبهق
وقول بعض الظرفاء:
يكون الخال في خد قبيح ... فيكسوه الملاحة والجمالا
فكيف يلام مشغوف بمن قد ... تراه كله في العين خالا
وقال أبو إسحاق الصابي في غلامه يمن:
قد قال يمن، وهو أسود، للذي ... ببياضه استعلى علوّ الخائن
ما فخر وجهك بالبياض، وهل ترى ... أن قد أفدت به مزيد محاسن
ولو أن مني فيه خالاً زانه ... ولو أن منه فيّ خالاً شانني
وقال فيه أيضاً:
لك وجه كأن يمناي خطت ... ه بلفظ تمله آمالي
فيه معنى من البدور، ولكن ... نفضت صبغها عليه الليالي
لم يشنك السواد، بل زدت حسناً ... إنما يلبس السواد الموالي
واقترح عليّ صديق لي بغزنة أن أقول في غلام له هندي، من أحسن أبناء جلدته، فقلت:
هذا غزال الهند في الغزلان ... كمثل عود الهند في العيدان
وجه بديع الحسن في الغلمان ... مصور من حدق الحسان

مركب من ملح الخيلان ... كأنه في ناظر الإنسان
إنسان عين الحسن في الزمان


تحسين الشيب
في الخبر أن الله سبحانه يقول: " الشيب نوري، وأنا أستحي أن أعذب نوري بناري " . وقال بعض البلغاء: الشيب حلية العقل، وسمة الوقار، وعنوان التجربة، وشاهد الحنكة. وقال آخر: الشيب زبدة مخضتها الأيام، وفضة سبكتها التجارب. وقال آخر: إذا شاب الغافل سرى في طريق الرشد بمصابيح الشيب. وقال ابن المعتز في فصوله القصار: عظم الكبير فإنه (عرف الله قبلك، وارحم الصغير فإنه أغر بالدنيا منك). وللبديع الهمداني من رسالة: جزى الله المشيب خيراً، فإنه أناة، ولا رد الشباب فإنه هنات، وأظنهما لو مثلا لمثل الشباب كلباً عقوراً، والشيب شيخاً وقوراً، ولاشتعل الأول ناراً واشتهر الآخر نوراً. فالحمد لله الذي بيض القار، وسماه الوقار، وعسى الله أن يغسل الفؤاد كما غسل السواد، إن السعيد من شابت جملته، ولم تخص بالبياض لحيته.
ومما يستحسن لدعبل قوله، وهو أول من مدح الشيب من الشعراء:
أهلاً وسهلاً بالمشيب، فإنه ... سمة العفيف، وهيبة المتحرج
وكأن شيبي نظم در زاهر ... في تاج ذي ملك أغر متوج
وقوله:
أحب الشيب لما قال: ضيف ... لحبي للضيوف النازلينا
وللبحتري:
وبياض البازي أصدق حسناً ... إن تأملت من سواد الغراب
وسمعت أبا الحسين محمد بن الحسين الفقيه الفسوي النحوي يقول: كان الصاحب بن عباد يجن على شعر البحتري، ويغلو في تقريظه والإعجاب به. وكان ينسف من قصائده، وينظر فيها، ولا يستغرق إلا التي أولها:
أبكاء في الدار بعد الدار ... وسلوّاً بزينب عن نوار
والقصيدة في استهداء غلام رومي ووصفه. وإلا التي أولها:
ها هو الشيب لائماً فأفيقي ... واتركيه إن كان غير مفيق
(وعهدي به ينشدها ويردد أبياتها هذه، ويهز رأسه لها):
عذلتنا في عشقها أم عمرو ... هل سمعتم بالعاذل المعشوق
ورأت لمة ألمّ بها الشي ... ب فريعت من ظلمة في شروق
ولعمري لولا الأقاحي لأبصر ... ت أنيق الرياض غير أنيق
وسواد العيون لو لم يملّح ... ببياض، ما كان بالموموق
أي ليل يبهى بغير نجوم ... وسحاب يندى بغير بروق
قال: وكان مما يستحسن قول ابن الرومي:
قد يشيب الفتى، وغير عجيب ... أن ترى النور في القضيب الرطيب


تحسين المرض
حدث الصولي: أن أبا ذكوان قال: سمعت إبراهيم بن العباس يصف الفضل بن سهل ذا الرئاستين ويقدمه، ويصف علمه وكرمه. وكان فيما حدثني به أن قال: برأ الفضل من علة كان قد وجد بها، فجلس للناس، فهنئوه بالعافية. فلما فرغوا من كلامهم قال لهم: إن في العلل نعماً لا ينبغي للعقلاء أن يجهلوها، فمنها تمحيص الذنوب، والتعرض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، واذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للمثوبة، وحض على الصدقة، وفيء قضاء الله وقدره بعد الخيرة. فحفظ الناس كلامه، ونسوا ما قال غيره.
وكان يقال: بمرارة السقم توجد حلاوة الصحة. وقال بعض العلماء البلغاء: رب مرض يكون تمحيصاً لا تنغيصاً، وتذكيراً لا تنكيراً، وأدباً لا غصباً. وقال ابن المعتز: قلت لبعض فقهائنا، وأنا مريض وقد سألني عائد بحضرته عن حالي: أتراني إن قلت أنا في عافية كاذباً؟ فقال: لا، إذا أعلك الله في جسمك، فقد أصحك من عيوبك.


تحسين الموت
في الحديث المرفوع: الموت راحة لكل حد. وقال بعض السلف: ما من أحد إلا والموت خير له من الحياة، لأنه إذا كان محسناً فالله تعالى يقول: " وما عند الله خير وأبقى " ، وإن كان مسيئاً فإن الله سبحانك يقول: " إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً " .

وعن ميمون بن مهران قال: بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فكثر بكاؤه بين يدي ربه، ومساءلته إياه الموت، فقلت: يا أمير المؤمنين لم تسأل ربك الموت وقد صنع الله على يدك خيراً كثيراً؟ أحييت سنناً، وأمتّ بدعاً، وفعلت وصنعت، وفي بقائك كل راحة وخير للناس؟ فقال لي: أفلا أكون كالعبد الصالح حين أقر الله عينه، وجمع شمله، وأعلى أمره، فقال: رب أتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث، " فاطر السماوات والأرض، أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلماً، وألحقني بالصالحين " . فما دار الأسبوع حتى مات رحمة الله عليه.
وقال بعض الفلاسفة: لا يستكمل الإنسان حد الإنسانية حتى يموت، لأن الإنسان حي ناطق ميت. وقد أحسن من قال: إن الصالح إذا مات استراح ، والطالح إذا مات استريح منه. وقال آخر: إذا كان في النوم الراحة الصغرى، ففي الموت الراحة الكبرى. وقال بعض الشعراء، وهو متنازع:
جزى الله عنا الموت خيراً، فإنه ... أبر بنا من كل بر، وأرأف
يعجل تخليص النفوس من الأذى ... ويدني من الدار التي هي أشرف
وأنشدني أبو القاسم بن حبيب المزكي قال: أنشدني أبو المطرّف الدينوري، قال: أنشدني منصور الفقيه لنفسه:
قد قلت إذ مدحوا الحياة وأسرفوا ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف
فيها أمان لقائه بلقائه ... وفراق كل معاشر لا ينصف
وقد أخذه أبو أحمد بن أبي الكاتب، فقال:
من كان يرجو أن يعيش فإنني ... أصبحت أرجو أن أموت لأعتقا
في الموت ألف فضيلة، لو أنها عرفت، لكان سبيله أن يعشقا
وأنشدني أبو الحسن الدلفي لابن لنكك البصري:
تحن والله في زمان غشوم ... لو رأيناه في المنام فزعنا
أصبح الناس فيه في سوء حال ... حق من مات فيه أن يتهنّا