ذكر المقابح

تقبيح العقل
كان يقال: العقل والهم لا يفترقان. وقال ابن المعتز:
وحلاوة الدنيا لجاهلها ... ومرارة الدنيا لمن عقلا
ومن فصوله القصار: من كان عاقلاً لم يسم إلا غافلاً. ومنها فصل في نهاية الحسن وجودة التمثيل، وهو قوله: العقل كالمرآة المجلوّة، يرى صاحبها مساوئ الدنيا، فلا يزال في صحوه مهموماً متعذر السرور، حتى يشرب النبيذ، فإذا ابتدأ بشربه صدئ عقله بمقدار ما يشرب. وإن أكثر منه غشيه الصدأ كله، حتى لا تظهر له صور تلك المساوئ، فيفرح ويمرح. والجهل كالمرآة الصدئة (فلا يرى صاحبها إلا مسروراً) قبل الشرب وبعده.
ومن قلائد أبي الطيب المتنبي قوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وقال أبو الفتح ابن جني: هذا مثل قولهم: ما سر عاقل قط. وقال آخر: ثمرة الدنيا السرور، ولا سرور للعقلاء.


تقبيح العلم
من أمثال أهل بغداد: " جهل يعولني خير من علم أعوله " . وفي ذلك يقول بعضهم:
وما أصنع بالعلم ... إذا أعطيت بالجهل
ومن أمثالهم: " كف بخت خير من كنز علم " . ومن أشعارهم:
المال يستر كل عيب في الفتى ... والمال يرفع كل نذل ساقط
فعليك بالأموال، فاقصد جمعها ... واضرب بكتب العلم عرض الحائط
ولابن أبي البغل:
الصفو يصفر آمناً، ولأجله ... حبس الهزار لأنه يترنم
لو كنت أجهل ما علمت لسرني ... جهلي، كما قد ساءني ما اعلم

ومما ينسب إلى الجاحظ في ذم العلوم، وهو منحول إياه، موضوع على لسانه، إنه قيل له: ما تقول في القرآن، قال: رياضة الصغير، ومعول الضرير، لا ينال منه الغنى ولا تدرك به الدنيا. قيل: فالأثر والحديث. قال: متناقض الأصول، قليل المحصول، همه مدر وآله محارف. قيل: فالفقه، قال: يعتقد بالآراء، ويتقلد بالأهواء، دقيقه لا يدرك، وجليله لا يتفق. قيل: فالكلام، قال: يستوعب الخواطر ويستكد الضمائر، وصاحبه معرض للتفكير، وهو من علوم المدابير. قيل: فالفلسفة، قال: كلام مترجم وعلم مرجم، بعيد مداه، قليل جدواه، مخوف على صاحبه بطش الملوك وعداوة العامة. قيل: فالطب، قال: رأي مستعجل، وقياس منتحل، موضوع على التخمين والحدس، وتعليل النفس، لا يوصل منه إلى الحقيقة، ولا يحكم له بالوثيقة. قيل: فالتنجيم، قال: صوابه عسير، وغلطه كثير، وكله ترجيم وشيطانه رجيم، حرفه محدود، وصاحبه محروم. قيل: فالتعبير، قال: ظنون وحسبان، لا يثبت به دليل، ولا يقوم عليه برهان، علم ضعيف، وبضاعة كفيف.


تقبيح الأدب
كان يقال: مال عقيم خير من أدب ولود، وكلب صيود خير من أسد قعود. ويقال: إذا كثر الأدب قل خيره، وإذا قل خيره كثر ضيره. وقال بعضهم: حرفة الأدب حرفة لا يسلم منها أديب. وقال آخر: أي أديب لم تدركه حرفة الأدب. وقال الخليل بن أحمد، ويروى للحمدوني، وغيره:
ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به ... إلا تزيدت حرفاً تحته شوم
إن المقدم في حذق بصنعته ... أنى توجه فيها فهو محروم
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي لغيره:
إذا سرك أن تحظى ... وأن تلبس قوهيّا
من الخز مع الوشي ... يمانياً وسوسيا
وأن تصبح ذا عز ... فكن علجاً نبيطيا
وإن سرك حرمان ... به تصبح مقليا
فكن ذا أدب جزل ... وكن مع ذاك نحويا
وهذا مما ينسب إلى الجاحظ في تقبيح الآداب، وهو منحول إياه كما تقدم في تقبيح العلوم. قيل له: ما تقول في النحو، قال: علم مخترع، وقياس مبتدع، ثقيل على الأسماع، قليل الأمتاع، علم معدم، وصناعة معلم، قيل: فالشعر، قال: سلاح دني، ( ) الأعاريب، مبني على زخرف الأكاذيب. قيل: فما العروض، قال: علم مولد، وأدب مستبرد، وكلام مجهول، يستكد العقول، بمستفعل ومفعول، من غير فائدة ولا محصول. قيل: فالغريب، قال: كلام وحشي، وعلم بذي، تمجه الأسماع، وتستثقله الطباع، وصاحبه مملوء بغضاً للعامة وتحامل السفلة. قيل: فالحظ، قال: قليل الرد، يسير الرفد، صناعة محروف وأداة مورق.


تقبيح الكتب والدفاتر
سمعت أبا الحسن الماسرجسي الفقيه يقول: كان شيخنا أبو علي ابن أبي هريرة يقول: من تأدب من الكتاب صحف الكلام، ومن تفقه من الكتاب غيّر الأحكام، ومن تنجّم من الكتاب أخطأ الأيام، ومن تطبب من الكتاب قتل الأنام. وكان يقال: علم لا يعبر معك الوادي لا يعمر بك النادي. وينشد في معناه:
إني لأكره علماً لا يكون معي ... إذا خلوت به في جوف حمّام
وينشد فيه أيضاً:
ليس بعلم ما حوى القمطر ... ما العلم إلا ما حواه الصدر
وأنشدني الأمير صاحب الجيش أبو المظفر نصر بن ناصر الدين فذكرني ما نسيت منها:
صاحب الكتب تراه أبداً ... غير ذي فهم، ولكن ذا غلط
كلما فتشته عن علمه ... قال علمي يا خليلي في سفط
في كراريس جياد أحكمت ... وبخط، أي خط، أي خط
فإذا قلت له: هات إذاً ... حك لحييه جميعاً، وامتخط
وأنشد الجاحظ لمحمد بن بشير، وهو أحسن ما قيل في معناه:
أما لو أعي كل ما أسمع ... وأحفظ من ذاك ما أجمع
ولم استفد غير ما قد جمع ... ت، لقيل هو العالم المقنع
ولكن نفسي إلى كل شيء ... من العلم تسمعه تنزع
فلا أنا أحفظ ما قد جمع ... ت، ولا أنا من جمعه أشبع
وأحضر بالعي في مجلسي ... وعلمي في البيت مستودع
ومن يك في علمه هكذا ... يكن، دهره، القهقرى يرجع
إذا لم تكن حافظاً واعياً ... فجمعك للكتب لا ينفع

وأنشد يونس النحوي لبعضهم:
استودع العلم قرطاساً فضيعه ... فبئس مستودع العلم القراطيس
فقال: قاتله الله ما أحسن صيانته للعلم وأشد صبابته به.
ولأبي بكر الخوارزمي رسالة في آفات الكتب، جمع نكتها بعض تلامذته، في قوله:
عليك بالحفظ دون الجمع في كتب ... فإن للكتب آفات تفرقها
الماء يغرقها، والنار تحرقها ... والفأر يخرقها، واللص يسرقها


تقبيح الخط والقلم
نظر المأمون يوماً في خط أحمد بن يوسف، وهو يكتب بين يديه، فقال: وهو ينتفس الصعداء: يا أحمد أود لو أن خطك لي بنصف ملكي. فقال: يا أمير المؤمنين لو أن في الخط فضيلة لما حرمه الله أعز خلقه وأجل رسله محمداً صلى الله عليه وسلم. فقال: قد سليتني مما كنت أجد يا أحمد.
وكان أبو عيسى بن الرشيد يقول: الخط صناعة باليد، ولا تحسن بالملوك وأولادهم.
وقرأت بخط أبي الفتح كشاجم له:
سل بي عن الأيام تعرف ... أني ابن دهر ليس ينصف
وبلاغة معروفة ... سهلت وأخطأها التكلف
والخط ليس بنافع ... ما لم يكن خطاً مصحف
وسطور خط مونق ... كالروض، والبرد المفوّف
وقال بعض مجان بغداد من الكتاب: ما لقينا من الكتاب؟ فقد أخذنا بحفظ فرائضه وإقامة شعائره، وأما في الآخرة فإنا نلقاه منشوراً بسرائرنا وخفايا صدورنا.
وذكر الجاحظ عاثة الكتاب فقال: أخلاق حلوة، وشمائل وثياب نظيفة، وتظرف أهل الفهم، ووقار أهل العلم، فإذا صلوا بنار الامتحان كانوا كالزبد يذهب جفاءً، وكنبات الربيع في الصيف يعروه هيف الرياح، ولا يستندون إلى وثيقة، ولا يدينون بحقيقة، أخفر الخلق لأماناتهم، وأشراهم بالثمن البخس لعهودهم. فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون.
وقال عبد الله بن المعتز في ذم القلم:
وأجوف مشقوق كأن سنانه ... إذا استعملته اليد منقار لاقط
وتاه به قوم، فقلت رويدكم ... فما كاتب بالكف إلا كماشط

 

تقبيح الوزارة
كان أبو سلمة الخلال أول وزراء بني العباس. فلما قتل قال سليمان بن مهاجر ما أرسله مثلاً سائراً:
إن الوزير، وزير آل محمد ... أودى، فمن عاداك كان وزيرا
واستتم الأمر، وجرت العادة بسوء عاقبة الوزراء.
ولما قال المأمون لأحمد بن أبي خالد: هل لك في أن أستوزرك؟ قال دعني يا أمير المؤمنين يكون بيني وبين الغاية درجة يرجوها الصديق ويخافها العدو، والآفات في الغايات، فلست أريد بلوغ الغاية، لئلا يقول عدوّي قد بلغها، وليس بعدها إلا الانحطاط.
وكان المعلى بن أيوب إذا عرضت عليه الوزارة تمثل بقول العتابي:
تلوم على ترك الغنى باهلية ... طوى الدهر عنها كل طرف وتالد
رأت حولها النسوان يرفلن في الكسا ... مقلدة أجيادها بالقلائد
يسرك أني تلت ما نال جعفر ... في الملك، أو ما نال يحيى بن خالد
وأن أمير المؤمنين أعضني ... معضّهما بالمرهفات البوارد
ذريني تجئني ميتتي مطمئنة ... ولم أتجشم هول تلك الموارد
فإن عليّات الأمور مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود
وقال ابن بسام وقد خلعوا على وزير:
خلعوا عليه وزينو ... ه، ومر في عز ورفعه
وكذاك يفعل بالجما ... ل، لنحرها في كل جمعه
وقال متروك: أكثر الناس عدواً مجاهداً، وحاسداً منابذاً الوزير للسلطان، وذو المكانة عنده لا يرفع عوامله بمثل الصحة والاستقامة في السر والعلانية. وقال: أخوف ما يكون الوزراء، إذا أمن الناس وسكنت الدهماء.
وأنشدني أبو الفتح البستي لنفسه:
أكتاب بست كم تشاجركم على ... وزارة بست، وهي سخنة عين
وخف حنين يا قوم ما تطلبونه ... فكم بينكم، يا قوم، خف حنين
وأنشدني لنفسه:
حرضوني على وزارة بست ... ورأوها من أعظم الدرجات
قلت لا أشتهي وزارة بست ... إنني لم أمل، بعد، حياتي
وله:
وزارة بست وزرها قاصم الظهر ... ومدتها منذ الغداة إلى الظهر

فلا تخطبنها إنها ضرة النهى ... وبغيتها روح البعولة في المهر
وله:
وزارة الحضرة الكبيرة ... خطيئة، بل هي الكبيرة
فلا تردها، ولا تردها ... فإنها محنة مبيره


تقبيح عمل السلطان وخدمته
من أمثال هذا الباب قولهم: صاحب السلطان كراكب الأسد، يهابه الناس، وهو لمركبه أهيب. وقولهم: من تحسى مرقة السلطان احترقت شفتاه، ولو بعد حين. وقول العامة: من أكل من مال السلطان زبيبة أداها تمرة. وفي كتاب كليلة ودمنة: مثل السلطان كمثل الجبل الصعب المرتقى الذي فيه من كل ثمرة طيبة، وكل سبع حطوم فالارتقاء إليه شديد، والبقاء فيه أشد.
وكان إبراهيم بن العباس يقول: مثل أصحاب السلطان كقوم ارتقوا جبلاً، ثم وقعوا منه، فكان أبعدهم في المرتقى أقربهم من التلف. وكان يقال: أدوم التعب خدمة السلطان. وقال بعضهم: من أراد العز بالسلطان لم ينله حتى يذل. ومن فضول ابن المعتز: أشقى الناس بالسلطان صاحبه، كما أن أقرب الأشياء إلى النار أسرعها احتراقاً. ومنها: من شارك السلطان في عز الدنيا، شاركه في ذل الآخرة.
ومنها: لا يدرك الغنى بالسلطان إلا نفس خائفة، وجسم تعب، ودين منثلم. وقد ألم به أبو الفتح البستي فقال:
يا من رأى خدمة السلطان عدته ... ما أرض كدك إلا الذل والندم
دع الملوك، فخير من وجودك ما ... ترجوه عندهم الحرمان والعدم
إني أرى صاحب السلطان في ظلم ... ما مثلهن، إذا قاس الفتى، ظلم
فجسمه تعب، والنفس خائفة ... وعرضه عرضة، والدين منثلم
هذا إذا استوثقت أيام دولته والصيلم الأذن إن زلت به القدم وقال أيضاً:
صاحب السلطان لا بد له ... من غموم تعتريه، وغمم
والذي يركب بحراً سيرى ... قحم الأهوال من بعد قح
وأنشدني أبو بكر العوامي لابن عباد:
إذا أدناك سلطان فزده ... من التعزيم، واحذره وراقب
فما السلطان إلا البحر عظماً ... وقرب البحر مذموم العواقب
وكان يقال: ولاية السلطان حلوة الرضاع، مرة العظام. وقال ابن المعتز:
سكر الولاية طيب ... وخماره ذل شديد
كم تائه بولاية ... وبعزله ركض البريد
وكان أبو سهل الهمداني أحد كبار عمال نيسابور يقول: لا تعدّن مال المتصرف مالاً، فإنه يغدو غنياً، ويروح فقيراً.


تقبيح عمل البريد
لما ولي سعيد بن حميد بريد الآفاق، قال فيه أبو عليّ البصير:
بأبي نفس سعيد ... إنها نفس شريفه
لم تزل تحتال حتى ... صار غماز الخليفه
ولأبي الفتح كشاجم في صديق له ولذي بريد مصر:
صرت يا عامل البريد مقيتا ... وقديماً إليّ كنت حبيبا
كنت تستثقل الرقيب، فقد صر ... ت علينا، بما وليت، رقيبا
أفلا يعجب الأنام لشخص ... صار ذئباً، وكان ظبياً ربيبا


تقبيح التجارب
لم أسمع فيه إلا قول إسماعيل بن أحمد الشاشي، وهو من أفراد المعاني:
أخلاّي أمثال الكواكب كثرة ... وما كل نجم لاح في الجو ثاقب
وكنت أرى أن التجارب عدة فخانت ثقات الناس حتى التجارب


تقبيح الذهب
قال سهل بن هارون: اسم الذهب يتطير منه، ولا يتفاءل به. وهو فتان لمن أصابه، رديء لمن رآه، وهو لئيم، من لؤمه سرعته إلى بيوت اللئام، وإبطاؤه عن بيوت الكرام، وشكل الشيء منجذب إليه بالمشاكلة وبالضد. وهو من مصائد إبليس، ولذلك قالوا: أهلك الرجال الأحمران، أي الذهب والخمر.


تقبيح الغنى والمال
قال الله عز وجل: " كلاّ إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى " . وقال تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " . وكان يقال: الغنى يورث البطر، ويقرع باب جهنم. ويقال: المال ملول ميّال، وطبعه طبع الصبي، لا يوقف على وقت رضاه أو سخطه. وقد يكون مال المرء سبب حتفه كما يذبح الطاووس لحسن ريشه، ويصاد الثعلب من أجل وبره. ومن أحسن ما قيل في هذا الباب قول ابن الرومي:
ألم تر المال يهلك ربه ... إذا جم آتيه، وسد طريقه
ومن جاور الماء الغزير مجمه ... وسد طريق الماء، فهو غريقه

 

تقبيح المشورة
كان عبد الملك بن صالح الهاشمي يقول: ما استشرت أحداً قط إلا تكبر عليّ، وتصاغرت له، ودخلته العزة، ودخلتني الذلة. فإياك والمشورة، وإن ضاقت بك المذاهب، وأداك الاستبداد إلى الخطأ والفساد.
وكان عبد الله بن طاهر يقول: ما حكّ ظهري مثل ظفري، ولأن أخطئ مع الاستبداد ألف خطأ أحب إليّ من أن أستشير، فألحظ بعين النقص والحاجة.


تقبيح التأني
كان يقال: إياكم والتأني في الأمور، فإن الفرص تمر مرّ السحاب، والآفات في التأخيرات. وكان ابن عائشة القرشي يقول: الفلك أبعد من أن يحتمل معه التأني والتثبت، وخير الخير أعجله. وقيل لأبي العيناء: لا تعجل فإن العجلة من الشيطان. فقال: لو كانت كذا لما قال الله حكاية عن كليمه موسى عليه السلام: " وعجلت إليك رب لترضى " .
وقال القطامي:
وربما فات قوم بعض نجحهم ... من التأني، وكان الحزم لو عجلوا
ومن أحسن ما قيل في هذا الباب قول ابن الرومي:
عيب الأناة، وإن كانت مباركة ... ألا خلود، وأن ليس الفتة حجرا
وقال ابن المعتز:
وإن فرصة أمكنت في العدو ... فلا تبد فعلك إلا بها
وإياك من ندم بعدها ... وتأميل أخرى، وأنى بها
وقال محمد بن بشير:
كم من مضيع فرصة قد أمكنت ... لغد، وليس له غد بموآت
حتى إذا فاتت، وفات طلابها ... ذهبت عليها نفسه حسرات


تقبيح الصبر
كان يقال: الصبر كاسمه، والإنفاق عليه من العمر. ومن أحسن ما قيل فيه قول أبي القاسم بن أبي العلاء الأصفهاني:
فإن قيل لي صبراً، فلا صبر للذي ... غدا بيد الأيام تقتله صبرا
فإن قيل لي عذراً، فوالله ما أرى ... لمن ملك الدنيا إذا لم يجد عذرا
وقال عمر بن أبي ربيعة:
إني لأبغض كل مصطبر ... عن ألفة في السر والجهر
الصبر يحسن في مواطنه ... ما للفتى المشغوف والصبر


تقبيح الحلم
كان يقال: من عرف بالحلم كثرت الجرأة عليه، وقلت الهيبة له.
وقال بعض السلف: الحلم ذل كله. وكان أبو العباس السفاح يقول: إذا كان العفو مفسدة، كان الحلم معجزة.
ولما أنشد النابغة الجعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قصيدته التي يقول فيها:
أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى ... ويتلو كتاباً بالمجرة نيّرا
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه إن تكدرا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أحسنت لا فض الله فاك. فعمر أكثر من ثمانين سنة، ولم ينقص له سن.


تقبيح الشجاعة
قال بعضهم: الشجاعة تغرير بالنفس. والتغرير مفتاح الهلكة.
وكان بعضهم يقول: الفرار في وقته ظفر. وقال محمد بن أبي حمزة العقيلي مولى الأنصار:
قامت تشجّعني هند، وقد علمت ... أن الشجاعة مقرون بها العطب
يا هند لا والذي حج الحجيج له ... ما يشتهي الموت عندي من له أدب


تقبيح الحياء
كان يقال: الحياء يمنع الرزق، وقد قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان. وقال بعض المحدثين: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، وأموركم بالوقاحة والإبرام، ودعوا الحياء لربات الحجال. وقال آخر: هذا زمان يزمن ذوي الحياء، والوقاحة رأسمال وافية.
وقال الشاعر:
ليس للحاجات إلا ... من له وجه وقاح
ولسان ذو فضول ... وغدو، ورواح
وأنشدني اليوسفي الزوزنيّ للحرشي الرازي:
سألت زماني، وهو بالجهل عالم وبالسخف مشهور، وبالنقص مختص
فقلت له: هل من سبيل إلى الغنى ... فقال: طريقان، الوقاحة والنقص


تقبيح الزهد
سئل الشبلي عن الزهد فقال: الزهد لا شيء، لأن الشيء لا يخلو من أن يكون رزقي؛ فأنا لا أدفعه عني بزهدي فيه، ولا يكون رزقي، فأنا لا أحصله برغبتي فيه.


تقبيح الجود
قال أبو الأسود: الجود تبذير. والمبذرون إخوان الشياطين. وكان يقول: لا تجادوا الله فإنه أجود وأمجد، ولو شاء أن يوسع على خلقه حتى لا يكون فيهم محتاج لفعل. وكان ابن المقفع يقول: إن مالك لا يعم الناس، فاخصص به ذوي الحق من أهلك، ودع الأجانب جانباً.

 

تقبيح القناعة

كان بعض بني المهلب يقول: من اتخذ القناعة حرفة وصناعة تلحف بالخمول، وفاتته معالي الأمور. وقال غيره: القناعة من صغر النفس وقصر الهمة وضعف العزيمة، فلا ترض لنفسك إلا كل غاية. وقال البرقعي من قصيدة:
رأت عزماتي، وفرط انكماشي ... وطول التململ فوق الفراش
وقالت أراك أخا همة ... ستبلغها، فترى ذا انتعاش
فهلا قنعت ولم تغترب ... فقلت: القناعة طبع المواشي


تقبيح الدور والأبنية
فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا، وما وضع لبنة على لبنة. وكان عليه السلام يقول: إذا أراد الله بعبده سوءاً جعل ماله في الماء والطين.
وقال الشاعر:
دع عمل الطين للسلاطين ... لا تك من إخوة الشياطين
فما بقاء الدريهمات إذا ... أنفقن حيناً في الماء والطين
وقال كرماسف: البناء من يوم ابتدائه في نقصان، والغرس من يوم ابتدائه في زيادة.


تقبيح الحمّام
قال بعض السلف: بئس البيت الحمّام، يكشف عن العورة، ويذهب بالحياء. وفي الخبر أن الحمام من بيوت الشياطين. وذم الفضل الرقاشي الحمام فقال: يهتك الأستار، ويذهب بالوقار ويؤلف بين الأقذار.


تقبيح الشباب
قال النابغة الذبياني:
فإن يك عامر قد قال جهلاً ... فإن مظنة الجهل الشباب
وقلت في كتاب المبهج: الشباب للجهل مطية، وللذنوب مطية. وقال العتبي، وهو من أمثاله السائرة:
قالت عهدتك مجنوناً، فقلت لها ... إن الشباب جنون برؤه الكبر
وكان يقال: سكر الشباب أشد من سكر الشراب. وقال ابن المعتز في فصوله القصار: جهل الشباب معذور، وعلمه محقور. وكان يقال: ترفات الشبان نزعات الشيطان. وقال أو الطيب محمد بن حاتم المصعبي:
لم أقل للشباب في كنف الل ... ه، وفي ستره غداة استقلا
زائر لم يزل مقيماً إلى أن ... سود الصحف بالذنوب، وولى


تقبيح الأصدقاء والأخوان
كان عمرو بن العاص يقول: من كثر إخوانه كثر غرماؤه. يعني في قضاء الحقوق. وكان عمرو بن مسعدة يقول: العبودية عبودية الإخاء لا عبودية الرق. وقال إبراهيم بن العباس: مثل الإخوان كالنار، قليلها متاع وكثيرها بوار. وقال الكندي لابنه: يا بني الأصدقاء هم الأعداء. لأنك إذا احتجت إليهم منعوك، وإذا احتاجوا إليك سلبوك وشابوك. وكان بعضهم يقول في دعائه: اللهم احرسني من أصدقائي. فإذا قيل له في ذلك قال: إني أقدر على الاحتراس من أعدائي ولا أقدر على الاحتراس من أصدقائي.
وقال ابن المعتز في فصوله القصار: إخوان السوء كشجر النار، يحرق بعضه بعضاً، وقال أيضاً: إنما تطيب الدنيا بمساعدة الإخوان ونفع بعضهم بعضاً، وإلا فعلى الصداقة الزمان. وما أرجو منها إذا كانت تنقطع في الآخرة، ولا تتصل بما أحب في الدنيا. ولأبي العتاهية:
لست ما استغنيت عن صا ... حبك الدهر أخوه
فإذا احتجت إليه ... ساعة مجك فوه
وقال إبراهيم بن العباس:
نعم الزمان زماني ... الشان في الأخوان
فيمن رماني لما ... رأى الزمان رماني
لو قيل لي خذ أماناً ... من أعظم الحدثان
لما أخذت أماناً ... إلا من الإخوان
وقال ابن الرومي:
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعم أو الشراب
وقال ابن المعتز:
وأفردني من الإخوان علمي ... بهم، فبقيت مهجور النواحي
إذا ما قل وفري، قل مدحي ... وإن أثريت عادوا في امتداحي
فكم ذم لهم في جنب مدح ... وجدّ بين أثناء المزاح
وقال آخر:
آخ من شئت، ثم رم منه شيئاً ... تلف من دون ما أردت الثريا
تقبيح الولد
قال أكثم بن صيفي: من سره بنوه ساءته نفسه. وقال يحيى بن خالد: ما أحد رأى في ولده ما يحب، إلا رأى في نفسه ما يكره.
وقريب من هذا المعنى قول ابن الرومي:
كم من سرور لي ... بمولود أؤمله لغد
وبأن يهدني الزما ... ن، رأيت منته أشد

ومن العجائب أن أسر بمن يسر بأن أهد
وقلت في كتاب المبهج: إذا ترعرع الولد تزعزع الوالد. وقال ابن المعتز في فصوله القصار: أفقرك الولد وعاداك. وقيل لعيسى بن مريم عليه السلام: هل لك في الولد، فقال: ما حاجتي إلى من عاش كدني، وإن مات هدني. وقيل لبعض النساك: ما لك لا تبغي ما كتب الله لك. فقال: سمعاً لأمر الله سبحانه، ولا مرحباً بمن إن عاش فتنني، وإن مات أحزنني. يريد قوله سبحانه وتعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " . وقال بعض الحكماء في ذم الأولاد: ملوك صغاراُ، وأعداء كباراً. يريد قوله تعالى: " إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم " . وقال لي أبو محمد عبد الله بن إسماعيل الميكالي: إنما صار ولد الولد أحب إلى الرجل من ولده لصلبه لأن الولد عدوه كما قال الله عز وجل: " إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم " ، وولد الولد عدو العدو، وعدو عدوك صديقك في أغلب الحالات. وفي الحديث المرفوع: الولد مبخلة، مجبنة، مجهلة. وكان يقال: من أراد أن يذوق الحلاوة والمرارة في شيء واحد فليتخذ ولداً. وكان الشيخ أبو الطيب سهل بن أبي سهل الصعلوكي يقول: ما كنت أعرف سبب رقص الصوفية حتى سمعت قول أبي الفتح البستي الكاتب:
يقولون ذكر المرء يحيا بنسله ... وما أن له ذكر إذا لمي كن نسل
فقلت لهم: نسلي بدائع حكمتي ... فإن فاتنا نسل، فإنا بها نسلوا
فكدت أرقص طرباً لحسنه، وعلمت أن الكلام الحسن يرقص.


تقبيح المماليك
من أمثال العرب: " ليس عبد بأخ لك " . ومن أمثال العامة: " الحر حر وإن مسه الضر، والعبد عبد وإن مشى على الدر " . ومن أمثال أهل بغداد: " ما أطيب الغناء لولا العبيد والإماء " . وقال بشار بن برد:
الحر يلحى، والعصا للعبد ... وليس للملحف غير الرد
وقال يزيد بن محمد المهلبي من قصيدة رثى بها المتوكل:
إن العبيد إذا أذللتهم صلحوا ... على الهوان، وإن أكرمتهم فسدوا
ما عند عبد لمن رجّاه من فرج ... ولا على العبد، عند الخوف، معتمد
فاجعل عبيدك أوتاداً تشججها ... لا يثبت البيت ما لم يقرع الوتد
وقال أبو الطيب المتنبي:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد


تقبيح الخصيان
كان يقال: من جب زبه ذهب لبه. وفي ذلك يقول المتنبي:
وقد كنت أحسب قبل الخصى ... بأن الرؤوس مقر النهى
فلما نظرت إلى عقله ... وجدت النهى كلها في الخصى
ونظر خصي إلى رجل أقلف في الحمام، فقال: الحمد لله الذي فضلنا على كثير من خلقه. فقال له الرجل: كل من له خصيتان فله عليك فضل. وابلغ ما قيل في تقبيح الخصيّ قول بعض السلف: لم يلده مؤمن، ولم يلد مؤمناً.


تقبيح الضياع
قلت في كتاب المبهج: الضيعة ضائعة ما لم تدبر بقوة ساعد وجدّ مساعد. وفيه أيضاً: الضياع مدارج الهموم، وكتب وكلائها مفتاح الغموم. وقلت أيضاً في رقعة وكيل لي بضيعة:
يا رقعة طويت على حيّات ... وعقارب كدّرن ماء حياني
ما أنت إلا من تباريح الأسى ... ومفاتح الأحزان والحسرات
وكأن أحرفك الكريهة أعين ... لرواقب، أو ألسن لوشاة
وكذا الضياع رقاع قيمتها إذا ... وافت، أتت بحوادث الآفات
وذكرت الضياع وجلالتها ونوائبها بحضرة أبي العباس ابن الفرات، فأنشد:
هي المال إلا أن فيها مذلة ... فمن ذل قاساها، ومن مل باعها
وأنشد أبو زكريا الحربي لأبي منصور العبدوني، ويروى لأبي محمد السلمي:
قد كانت الضيعة فيما مضى ... تغل من يملكها دائبه
فصار من يملكها موهنا ... مهجته في حفظها ذائبه
يستغرق الغلة في خرجها ... وتفضل الكلفة والنائبه
فإن يقم صاحبها كل ذا ... ينج، وإلا نتفوا شاربه
ولمؤلف الكتاب:
قد قلت قولاً سديداً ... يروي العطاش بمائه
إن الخراج خراج ... دواؤه في أذائه


تقبيح المطر

كان يقال: المطر مفسد الميعاد. والغيث لا يخلو من العيث. وفي كتاب المبهج: قد عاقت الأمطار عن الأوطار، وحالت دون الوصال. وقال أبو نؤاس:
هو الغيث، إلا أنه باتصاله ... أذى، ليس قول الله فيه بباطل
لئن كان أحيا كل رطب ويابس ... لقد حبس الأحباب بين المنازل
وقال أبو علي البصير:
من تكن هذه السماء عليه ... نعمة، أو يكن بها مسرورا
فلقد أصبحت علينا عذاباً ... فلقينا منها أذى وشرورا
أيها الغيث كنت بؤساً ... لي وللناس حنطة وشعيرا
وله:
رحمة صيّرت عليّ عذاباً ... تركت منزلي خراياً يبابا
أمطرتنا خلاف ما أمطرت النا ... س، لبناً وجندلاً وترابا


تقبيح الورد
كان ابن الرومي يذم الورد ويهجنه ويقبحه، لأن كان يزكم من رائحته. فقال فيه ما هو من نوادر التقبيح وعجائب التشبيه:
وقائل لم هجوت الورد مقتبلا ... فقلت من سخفه، ومن غمطه
كأنه سرم بغل حين سكرجه ... عند البراز، وباقي الروث في وسطه
وبلغني أن الأمير خلف بن أحمد كان يعجب جداً بقول أبي الفتح البستي وينشده ويردده:
لا يغرنك أنني لين اللمس ... فغربي إذا انتضيت حسام
أنا مالورد فيه راحة قوم ... ثم فيه لآخرين زكام


تقبيح النرجس
لما قبح ابن الرومي الورد وهجنه وهجاه، وفضل النرجس عليه، تصدى له نفر من الشعراء بالمعارضة والمناقضة، وهجو النرجس وفضلوا الورد عليه. فمنهم ابن الحاجب، ومن أجود ما قال فيه قوله:
يا ظلوماً يفضل النرجس الرذ ... ل على الورد، قد تحاملت فاقصد
صبغة الورد صبغة الدم، والنر ... جس مثل العيون في الشبه يوجد
ملك الجسم كله الدم لا العي ... ن، عقول الورى بذلك تشهد
قد رأينا الأعمى يعيش بلا عي ... ن، وإن يفقد الدم المرء يفقد
وإذا كان ذا كذا، فدم الإن ... سان من عينه أجل، وأمجد
ولشتان بين خدين، هذا ... أصفر لونه، وهذا مورد
فلماذا مدحت لونين، كل ... منهما عيبه مبين مؤكد
صفرة اللون علة، والبياض ال ... محض عيب محدد ليس يحجد
ومنهم أبو العلاء السروري يقول بعده بزمان:
انظر إلى نرجس تبدت ... صبحاً لعينيك منه طاقه
واذكر أسامي مشبهيه ... بالعين في دفتر الحماقه
وأي حسن يرى لطرف ... مع يرقان يحل ماقه
كراية ركبت عليها ... صفرة بيض على رقاقه
وكان أبو بكر الخوارزمي يقول، إذا أنشد هذا البيت: أراد أبو العلاء أن يهجو فمدح، وقصد أن يقبح فحسّن، ولو نحا نحو وصفه مادح لما زاد.


تقبيح البنفسج
أنشدني الأمير أبو الفضل الميكالي لنفسه في ذلك:
يا مهدياً لي بنفسجاً سمجاً ... وددت لو أن أرضه سبخ
أنذرني عاجلاً مصحفه ... بأن وصل الحبيب ينفسخ
بعد أن أنشدني في تحسينه:
يا مهدياً لي بنفسجاً أرجا ... يرتاح صدري له، وينشرح
بشرني عاجلاً مصحفه ... بأن ضيق الأمور ينفسح
وأنشدني العوامي الرازي والهمداني لأبي العباس الضبي في البنفسج ما لم أسمع أحسن منه وأملح وأظرف في معناه، وهو قوله:
ومهفهف قال الإله لحسنه ... كن مجمعاً للطيبات، فكانه
زعم البنفسج أنه كعذاره ... حسناً، فسلوا من قفاه لسانه
لم يظلموا في الحسن إذ مثلوا به ... فلشد ما رفع البنفسج شانه


تقبيح الكافور وماء الورد والبخور

قرأت فصلاً للصاحب بن عباد، من جواب رقعة وردت عليه في التماس أشياء عدة: أما الكافور فأخرته عنك تطيراً منه، فلونه لون البهق، بل لون البرص، وهو مفرط البرد، لا يصلح للشيخ ذي السن، يخشى منه الفالج، وتحذر معه اللقوة، وترتفع له الحرارة الغريزية، وبفقدها تفقد النفس وتنقص البنية. وهو، بعد، من طيب الأموات، أحياك الله أطول الحياة. ثم اسم الكافور يجانس اسم الكفر، وقد برأك الله منه، ونزهك عنه. أما ماء الورد فخير منه الماء القراح العذب الزلال. ألا ترى أن الطهارة لا تجزي به، وهي تجزى بماء الآبار والسواقي والأنهار، ثم لا يروي الظمآن، ولا يبرد غلة العطشان، وطالما رش على المقابر، وصب على الأكفان. وأما البخور فمما لا يرغب فيه لذي ظرف ومروءة ولطف. وقد ناسب لفظ البخور لفظ البخر، وهو أسود كريه المنظر، كأنه أعضاء الزنج بثت، أو جوارح الحبشة قطعت.


تقبيح القمر
ابلغ ما قيل في ذلك وأجمعه وأبدعه قول بعض ظرفاء الأدباء، ممن سكن دور الكراء، وقد قيل له: انظر إلى القمر ما أحسنه، فقال: والله، لا أنظر إليه لبغضي له. قيل: لم؟ قال: لأن فيه عيوباً، لو كانت في حمارة لرد بالعيب. قيل: وما هي؟ قال: ما يصدقه العيان، وتشهد به الآثار. إنه يهدم العمر يقرب الأجل، ويحل الدين، ويوجب كراء المنزل، ويقرض الكتان، ويشحب الألوان، ويسخن الماء، ويفسد اللحم، ويعين السارق، ويفضح العاشق والطارق.
وتأذى به ابن المعتز ليلة من ليالي الصيف، فقال في تقبيحه، مثل ما قال ابن الرومي في تقبيح الورد:
يا سارق الأنوار من شمس الضحى ... يا مثكلي طيب الكرى، ومنغصي
أما ضياء الشمس فيك فناقص ... وأرى زيادة حرها لم تنقص
لم يظفر التشبيه فيك بطائل ... متسلحاً بهقاً كوجه الأبرص


تقبيح الشراب
عاتب الضحاك بن مزاحم صديقاً له على شرب النبيذ، فقال: إنما أشربه لأنه يهضم الطعام. فقال: ما يهضم من دينك أكثر. وقيل لبعض الحكماء: اشرب معنا النبيذ، فقال: لا أشرب ما يشرب عقلي. وقال آخر لابنه: يا بني إياك والنبيذ، فإنه مفسدة للمال والدين. وقيل لبعضهم: النبيذ كيمياء الطرب. فقال: نعم، ولكنه إكسير الحرب.
وذمه بعض الحكماء فقال: من مثالبه أن صاحبه ينكره قبل شربه، ويعبس عند شمه، ويستنقص الساقي من قدره ويمزجه بالماء الذي هو ضده، ليخرجه عن معناه وحده، ثم يكرع فيه على المبادرة، ويعبه ولا يمصه، ويجرعه ولا يكاد يسيغه، ليقلّ مكثه في فمه، ويسرع في اللهوات اجتيازه، ثم لا يستوفيه كله، ويرى أن يبقي فضلة في كأسه، ويشاح الساقي في المناظرة على ما بقي منه عند رده، ليصرف عن نفسه عادية شره، ويسلم من مكروه عاقبته، ويتنقل بعقبه ما يكسر من سورته، ويخفف من بشاعته، ويمنع من قذفه، كما يفعل بطبيخ الغاريقون، وحب الأصطمخيقون.


تقبيح الغناء والسماع
قال الحطيئة لقوم نزلوا به: جنبوني يا بني فلان الغناء، فإنه رقية الزنا. وسمع سليمان بن عبد الملك ذات ليلة في معسكره غناءً، فأمر بصاحبه أن يخصى، ثم قال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الجمل ليرغو فتستبضع له الناقة، وإن الرجل ليغني، فتغتلم له المرأة. وكان الكندي يقول لابنه: يا بني إياك والسماع، فإنه برسام حاد، وذلك أن المرء يسمع فيطرب، ويطرب فيسمح، ويسمح فيعطي، ويعطس فيفتقر، فيفتقر فيهتم، ويهتم فيمرض، ويمرض فيموت. وللبديع الهمداني من رقعة إلى تلميذ له توفي أبوه، وخلف مالاً: يا مولاي ذلك المسموع من العود يسميه الجاهل نقراً، ويسميه العاقل فقراً، وذلك الخارج من الناي هو اليوم في الآذان زمر، وهو غداً في الأبواب سمر. وطلب بعض المغنين ماله من بعض المبخلين فقال له المسئول: إعلم أن المال روح، والغناء ريح، ولست أشتري الريح بالروح.


تقبيح الهدية
أهدي إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه هدية، فردها، فقيل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقبل الهدية. فقال: قد كانت الهدية له هدية، وهي لنا رشوة، وقد لعن الله الراشي والمرتشي.

وقال بعض السلف: الهدية في عمل السلطان رشوة. وأهدي إلى دهقان هدية، فكرهها، وأظهر الجزع عليها، فعاتبه أصحابه، فقال: لئن كان ابتدأني بها، إنه ليدعوني إلى أن أتقلد له منة، ولئن كان كافأني على معروف لي عنده، إنه ليسألني أن آخذ ثمن ذلك. فمن أي هذين لا أجزع.


تقبيح الشكر إلا لله عز وجل
قرأت في كتاب الأجلة والرؤساء للقاضي أبي الحسين ابن عبد العزيز الجرجاني عن ابن التوأم: إنما يجب أن تشكر الله من أنه جاد عليك، فلك جاد، وإن نصحك فنفعك أراد، من غير أن يرجع إليه جوده بشيء من المنافع بجهة من الجهات، وهو الله سبحانه وتعالى. ألا ترى أن عطية الرجل لصاحبه لا تخلو من أن تكون لله أو لغيره. فإن كان لله فثوابها على الله، ولا معنى للشكر، وإن كانت لغير الله، فلا تخلو من أن تكون لطلب المجازاة وحب المكافأة. وهذه تجارة معروفة، والتاجر لا يشكر على تجارته وجر المنفعة إلى نفسه. وإما أن تكون تخوّف يده، أو لسانه، أو رجاء نصرته ومعونته، فلا معنى لشكر من هذه إحدى أحواله. وإما أن تكون للرقة والرحمة. ولما يجد في قلبه من الألم. ومن جرى على هذا السبيل فإنما داوى نفسه من دائها، وخفف عنها ثقل برحائها، فلا يجب شكره على هذه الحالة. فأما من مدحه بشار بن برد بقوله:
ليس يعطيك للرجاء وللخوف، ولكن يلذ طعم العطاء
فأي معنى لشكر من يعطيك لاجتلال لذته، واجتذاب راحته ومسرته.
كمل الكتاب، وتم بحمد من فضله عمّ، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
وكان الفراغ من رقم هذه الأحرف في خامس شوال المبارك، من سنة ثمان وعشرين وألف من الهجرة.