رجال في الشمس - الجزء الثاني

 

 

الجزء الثاني

الصفقة 

اقتاد مروان زميله أسعد إلى موعده مع أبي الخيزران، وصلا متأخرىن قليلا فوجد أبا الخيزران، بانتظارهما، جالساً مع أبي قيس فوق مقعد إسمنت كبير على رصيف الشارع الموازي للشط.

- لقد اجتمعت العصابة كلها الآن أليس كذلك؟

صاح أبو الخيزران ضاحكا وهو يضرب كتف مروان بكفه ويمد الأخرى ليصافح أسعد.

- هذا هو صديقك إذن.. ما اسمه؟

أجاب مروان باقتضاب:

- أسعد.

- دعيني إذن أعرفكما على صديقي العجوز. " أبو قيس.. " وبهذا تكون العصابة قد اكتملت.. لا بأس أن تزداد واحداً.. ولكنها الآن كافية أيضا.

قال أسعد:

- يبدو لي أنك فلسطيني.. أأنت الذي سيتولى تهريبنا؟

- نعم، أنا.

- كيف؟

- هذا شأني أنا..

ضحك أسعد بسخرية ثم قال ببطء شادا على كلماته بعنف:

- لا يا سيدي.. أنه شأننا نحن.. يجب أن تحكي لنا كل التفاصيل، لا نريد متاعب منذ البدء.

قال أبو الخيزران بصوت حاسم:

- سأحكي لكم التفاصيل بعد أن نتفق، وليس قبل ذلك..

قال أسعد:

- لا يمكن أن نتفق قبل أن نعرف التفاصيل، ما رأي الشباب؟

لم يجب أحد، فأكد أسعد من جديد:

- ما رأي العم أبو قيس؟

- الرأي رأيكم..

- ما رأيك يا مروان؟

- أنا معكم.

قال أسعد بعنف:

- إذن، دعونا نختصر الوقت.. يبدو لي أن العم أبو قيس غير خبير بالأمر، أما مروان فإنها تجربته الأولى.. أنا عتيق في هذه الصنعة، ما رأيكم أن أتفاوض عنكم ؟

رفع أبو قيس كفه في الهواء موافقاً، وهز مروان رأسه، فالتفت أسعد إلى أبي الخيزران..

- لقد رأيت: الشباب سلموني الأمر، فدعني أقول لك شيئا: إننا من بلد واحد.

نحن نريد أن نرتزق وأنت تريد أن ترتزق، لا بأس، ولكن يجب أن يكون الأمر في منتهى العدل.. سوف تحكي لنا بالتفصيل كل خطوة، وسوف تقول لنا بالضبط كم تريد، طبعا سنعطيك النقود بعد أن نصل وليس قبل ذلك قط ..

قال أبو قيس:

- الأخ أسعد يحكي الحق يجب أن نكون على بينه من الأمر ، وكما يقول المثل :

ما يبدأ بالشرط ينتهي بالرضا .

رفع أبو الخيزران كفيه من جيبه ووضعهما على خصريه ، ثم نقل بصره فوق الوجوه جميعا ببطء وببرود حتى قرقراه فوق وجه أسعد :

- أولا كل واحد منكم سيدفع عشرة دنانير .. موافقون ؟

قال أبو قيس..

- أنا موافق

قال أسعد:

- أرجوك .. لقد سلمتني الأمر إذن دعني أحكي ... عشرة دنانير مبلغ كبير ، أن المهرب المحترف يأخذ ، عشر دينارا .. ثم ..

قاطعه أبو الخيزران:

- لقد اختلفنا إذن قبل أن نبدأ، هذا ما كنت أخشاه .. عشرة دنانير لا تنقص فلساً.. السلام عليكم.

أدار ظهره وخطا خطوتين بطيئتين قبل أن يلحقه أبو قيس صائحا :

- لماذا غضبت ؟ الموضوع سؤال وجواب والاتفاق أخو الصبر ..

- حسنا ، نعطيك عشرة دنانير .. ولكن كيف ستأخذنا ؟

ها ! نحن الآن في شغل الجد .. اسمع .

جلس أبو الخيزران على مقعد الإسمنت ووقف الثلاثة حواليه ومضى يشرح مستعيناً بيديه الطويلتين،

لدي سيارة مرخصة لاجتياز الحدود.. ها ! يجب أن تنتبهوا: أنها ليست سيارتي.. أنا رجل فقير أكثر منكم جميعا وكل علاقتي بتلك السيارة أنني سائقها ! صاحب هذه السيارة رجل ثري معروف، ولذلك فإنها لا تقف كثيرا على الحدود، ولا تتعرض للتفتيش، فصاحب السيارة معروف ومحترم، والسيارة نفسها معروفة ومحترمة وسائق السيارة، تبعا لذلك، معروف ومحترم.

كان أبو الخيزران سائقاً بارعاً، فقد خدم في الجيش البريطاني في فلسطين قبل عام 1948 أكثر من خمس سنين، وحين ترك الجيش وانضم إلى فرق المجاهدين كان معروفا بأنه أحسن سائق للسيارات الكبيرة يمكن أن يعثر عليه، ولذلك استدعاه مجاهدو الطيرة ليقود مصفحة عتيقة كان رجال القرية قد استولوا عليها إثر هجوم يهودي.. ورغم أنه لم يكن خبيرا في قيادة المصفحات إلا أنه لم يخيب آمال أولئك الذين وقفوا على جانبي الطريق يتفرجون عليه وهو يدخل من الباب المصفح الصغير ويغيب لحيظات، ثم يهدر المحرك بالضجيج وتمضي المصفحة تدرج في الطريق الرملي الضيق. إلا أن المصفحة ما لبثت أن تعطلت، ولم تجد كل المحاولات التي بذلها أبو الخيزران لإعادتها إلى سيرتها السوية.. وإذا كانت خيبة أمل الرجال كبيرة، فإن خيبة أمله كانت أكبر، ولكن أبا الخيزران - على أي حال- أضاف إلى تجاربه في عالم المحركات تجربة أخرى، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول أن هذه التجربة لم تنفعه حين انضم إلى سائقي سيارات الحاج رضا في الكويت؟

لقد استطاع ذات يوم أن يقود سيارة ماء جبارة أكثر من ست ساعات في طريق ملحى موحل دون أن تغوص في الأرض وتتعطل مثلما حدث لجميع سيارات القافلة.. كان الحاج رضا قد خرج مع عدد من رجاله إلى الصحراء ليغيبوا عدة أيام في القنص.. إلا أن الربيع كان خادعاً، وأثناء عودتهم كانت الطريق تبدو بيضاء صلدة، وهذا ما دفع سائقي السيارات لاقتحامها دون وجل، وهناك بدأت السيارات، الكبيرة والصغيرة، تغوص في الوحل واحدة أثر الأخرى..إلا أن أبا الخيزران، الذي كان يقود سيارته الجبارة خلف الجميع واصل السير ببراعة ودون أن يتعطل ثانية واحدة.. وحين شارف سيارة الحج رضا الرمادية الغارقة حتى ثلاثة أرباع عجلاتها الورائية في الوحل، أوقف سيارته وهبت ثم اقترب من الحج وقال له:

ما رأي عمي الحج رضا أن يصعد إلى سيارتي؟ أن انتشال هذه السيارات يستلزم أكثر من أربع ساعات، وفي هذا الوقت سيكون عمي الحج رضا قد وصل إلى بيته.

قال الحج رضا:

- تمام ! أن صوت محرك سيارتك أرحم من الوقوف هنا مدة أربعة ساعات. وقاد أبو الخيزران سيارته الضخمة طوال ست ساعات فوق تلك الأرض الخادعة التي تبدو بيضاء صلدة بسبب طبقة رقيقة من الملح الذي جف على السطح، وكان أبو الخيزران، طوال الطريق، يحرك مقود سيارته حركات خفيفة وسريعة ذات اليمين وذات اليسار كي تستطيع العجلتان الأماميتان أن تفتحا طريقاً أوسع قليلا من حاجتهما..

لقد سر الحج رضا للغاية من براعة أبي الخيزران وتحدث بذلك لكل أصدقائه طوال شهور.. وقد سر الحج أكثر حين نما إليه أن أبا الخيزران رفض عروضا عديدة للعمل عند سواه، بعد أن تفشت هذه الأخبار، واستدعاه وأثنى عليه ثم زود راتبه قليلا.. ما هو أهم من ذلك أن الحج رضا بات يشترط أن يكون أبو الخيزران رفيقا ضرورياً لكل رحلة قنص أو سفر بعيد.

منذ أسبوع خرج الحج رضا في قافلة من سياراته إلى رحلة قنص أقامها خصيصا من أجل ضيوف ينزلون عنده، وقد كلف أبو الخيزران بقيادة سيارة الماء الكبيرة، التي سترافق القافلة طوال الرحلة وتؤمن الماء الوفير للرجال أثناء الرحلة التي قد تستغرق أكثر من يومين.. لقد ضربت القافلة بعيدا في الصحراء حتى أن الحج رضا فضل أن يسلك في طريق عودته دروباً أخرى تصل به إلى الزبير، ومن الزبير يستطيع أن يسلك الطريق الرئيسي الذي يعود إلى الكويت.. كان من الممكن أن يكون أبو الخيزران الآن في الكويت، مع بقية القافلة لو لم يصب سيارته الكبيرة عطل صغير يضطره للبقاء في البصرة

يومين آخرين حتى يصلحه، ثم يلحق بمن سبق.

- أنت تريد إذن أن تضعنا داخل خزان ماء سيارتك في طريق عودتك؟

- بالضبط ! لقد قلت لنفسي: لماذا لا تنتهز الفرصة فترتزق بقرشين نظيفين طالما أنت هنا، وطالما أن سيارتك لا تخضع للتفتيش؟

نظر مروان إلى أبي قيس، ثم إلى أسعد فنظرا إليه بدورهما متسائلين:

- اسمع يا أبا الخيزران.. هذه اللعبة لا تعجبني ! هل تستطيع أن تتصور ذلك؟ في مثل هذا الحر من يستطيع أن يجلس في خزان ماء مقفل؟

- لا تجعل من القضية مأساة، هذه ليست أول مرة.. هل تعرف ما الذي سيحدث؟ ستنزلون إلى الخزان قبل نقطة الحدود في صفوان بخمسين متراً، سأقف على الحدود أقل من خمس دقائق، بعد الحدود بخمسين مترا ستصعدون إلى فوق.. وفي المطلاع على حدود الكويت، سنكرر المسرحية لخمس دقائق أخرى، ثم هوب ! ستجدون أنفسكم في الكويت !

هز أسعد رأسه ثم حدق إلى الأرض لبرهة وقد قلب شفته السفلى، أما مروان فقد أخذ يتلهي بقصف عود جاف، وواصل أبو قيس التحديق إلى السائق طويل القامة.. وفجأة قال مروان:

- هل يوجد ماء في الخزان؟.

انفجر أبو الخيزران ضاحكاً وابتسم أسعد:

- طبعاً لا .. ماذا تعتقد ؟ هل أنا مهرب أم معلم سباحة؟.

وكأنما راقت الفكرة لأبي الخيزران فقد مضى يقهقه ويضرب فخذيه بكفيه ويدور حول نفسه..

- ماذا تعتقد؟ هل أنا معلم سباحة؟ أيها الصغير: إن الخزان لم ير الماء منذ ستة شهور !

قال أسعد بهدوء:

- حسبت أنك كنت تنقل الماء في رحلة قنص قبل أسبوع؟

- أوف.. أنت تعرف، تعرف ماذا أقصد.

- لا، لا أعرف.

- أقصد منذ ستة أيام.. إن المرء يبالغ أحياناً.. والآن، هل اتفقنا؟.. دعونا ننهي هذا الاجتماع الخطير!

وقف أبو قيس مهيئا نفسه للقول الفصل ولكنه قبل أن ينطق دور بصره على الجميع وتوقف هنيهة وهو ينظر إلى أسعد كأنه يرجوه العون، ثم اقترب من أبي الخيزران..

- اسمع يا أبا الخيزران.. أنا رجل درويش ولا أفهم بكل هذه التعقيدات.. ولكن قصة رحلة القنص تلك، لم تعجبيني.. تقول أنك حملت للحج رضا، ماء، ثم تقول الآن إن خزان سيارتك لم يشم رائحة الماء منذ ستة أشهر. سأقول لك الحقيقة وأرجو أن لا تغضب : أنا أشك في أنك تملك سيارة ..

التفت أبو قيس للبقية ومضى يكمل بصوت حزين:

- أنا أفضل أن أدفع خمسة عشر ديناراً وأذهب مع مهرب عن طريق الصحراء..

لا أريد مزيدا من المشاكل.

ضحك أبو الخيزران وقال بصوت عال:

- اذهب وجرب.. أتحسب أنني لا أعرف هؤلاء المهربين ؟ سيتركونكم في منتصف الطريق ويذوبون مثل فص الملح ! وأنتم بدوركم ستذيبون في قيظ آب دون أن يشعر بكم أحد.. اذهب اذهب وجرب.. قبلك جرب الكثيرون.. تريد أن أدلك ؟ لماذا تحسب أنهم يأخذون منكم المبلغ سلفا؟

- " ولكنني أعرف كثيرين وصلوا إلى هناك من طريق المهربين ".

- "عشرة بالمئة على الأكثر.. ثم اذهب واسألهم وسيقولون لك أنهم أكملوا الطريق بلا مهرب وبلد دليل، وأن حظهم قد ساعدهم على النجاة. "

- جمد أبو قيس في مكانه، وبدا للحظة أنه موشك على السقوط. ولاحظ مروان أن أبا قيس يشبه والده إلى حد بعيد، فأشاح بوجهه عنه، لم يعد بوسعه أن يركز رأسه على موضوع واحد.. فيما مضى أبو الخيزران صائحا:

- يجب أن تقرروا بسرعة ! ليس لدى مزيد من الوقت لأضيعه، أقسم لكم بشرفي...

قال أسعد مقاطعا بهدوء:

- اترك موضوع الشرف في ناحية أخرى . الأمور تمضي بشكل أفضل حين لا يقسم المرء بشرفه..

التفت. أبو الخيزران إليه وقال:

- والآن يا سيد أسعد، أنت رجل ذكي ومجرب.. ما رأيك؟

رأيي بماذا؟

بكل شيء..

ابتسم أسعد ولاحظ أن أبا قيس ومروان ينتظران أن يسمعا قراره، فمضى يحكي ببطء وسخرية:

أولاً، أعفينا من تصديق قصة رحلة القنص ! يبدو لي أن الحج رضا وجنابك تعملان بالتهريب.. عفوك قليلا، دعني أكمل.. الحج رضا يعتقد أن تهريب الأشخاص في طريق العودة أمر تافه، لذلك يتركه لك، أما أنت فتترك له بالمقابل تهريب الأمور الأهم.. وبنسبة من الأرباح المعقولة، أم تراه لا يعرف أنك تهرب أشخاصا في طريق العودة؟

ابتسم أبو الخيزران ابتسامة واسعة فبانت أسنانه البيضاء النظيفة من جديد وبدا أنه لا يريد أن يجيب أسعد.. قال مروان فجأة:

وقصة القنص؟

أوه ! قصة القنص معدة لرجال الحدود، ليس لنا.. ولكن أبا الخيزران لا يجد بأسا من أن يرويها..

اتسعت ابتسامة أبي الخيزران أكثر من قبل وأخذ يبادل الرجال النظر دون أن يتكلم.. وبدا، للحظة، أنه غبي.

قال أبو قيس:

ولكن ماذا يهرب الحج رضا؟ لقد قلت أنه رجل ثري !.

نظر الجميع إلى أبي الخيزران الذي كف، فجأة، عن الابتسام وعاد وجهه يكتسي بطابع اللامبالاة والتسلط ثم قال بحزم:

- والآن كفوا عن الثرثرة.. يجب أن لا تعتقد يا سيد أسعد أنك ذكي إلى هذا الحد .. ماذا قررتم؟

قال أسعد بهدوء:

- أنا شخصياً لا أهتم إلا بموضوع وصولي إلى الكويت، أما ما عدا ذلك فإنه لا يعنيني .. ولذلك فإنني سأسافر مع أبي الخيزران .

قال مروان بحماسة .

- وأنا سأسافر معكما .

قال أبو قيس :

- هل تعتقدون أنه بوسعي أن أرافقكم أنا رجل عجوز ..

ضحك أبو الخيزران بعنف ثم شبك ذراعه بذراع أبي قيس .

- له ! له ! يا قيس .. من الذي أوهمك أنك عجوز إلى هذا الحد ؟ ربما أم قيس ! له ! يجب أن تأتي معنا ..

كانا قد سارا خطوات قليلة معا وتركا مروان وأسعد واقفين إلى جانب مقعد الإسمنت الكبير ، التفت أبو الخيزران من قوف كتفه وصاح :

- سينام أبو قيس معي في السيارة .. وسأزمر لكل صباح غدا الباكر أمام الفندق .

الطريق 

لم يكن الركوب فوق ظهر السيارة الجبارة مزعجاً كثيراً. فرغم أن الشمس كانت تصب جحيمها بلا هواده فوق رأسيهما إلا أن الهواء الذي كان يهب عليهما بسبب سرعة السيارة خفف من حدة الحر.. كان أبو قيس قد صعد مع مروان إلى فوق وجلسا على حافة الخزان متجاورين أما أسعد فقد رست عليه القرعة ليجلس إلى جانب السائق في الفترة الأولى من الرحلة.

قال أسعد محدثاً نفسه:

- " سوف يأتي دور العجوز أخيراً ليستظل هنا.. ولكن لا بأس، على أي حال، فإن الشمس تبقي محتملة الآن... أما عند الظهيرة فسيكون حظ العجوز حسناً .."

قال أبو الخيزران فجأة، بصوت عال ليسمع عبر هدير المحرك:

- هل تتصور؟.. إن هذه الكيلومترات المئة والخمسين أشبهها بيني وبين نفسي بالسراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار.. فمن سقط عن السراط ذهب إلى النار، ومن اجتازه وصل إلى الجنة.. أما الملائكة هنا فهم رجال الحدود !

انفجر أبو الخيزران ضاحكاً: كأنه لم يكن هو الذي قال ذلك، ثم أخذ يضرب المقود بكلتا يديه ويهز رأسه..

أتعرف؟ أنني أخاف أن تفطس البضاعة، هناك..

أشار بعنقه إلى حيث يجلس العجوز مروان فوق الخزان ومضى يضحك بعنف ..

قال أسعد بهدوء:

- قل لي يا أبا الخيزران.. ألم تتزوج أبدا؟

- أنا؟

سأل بعجب، واكتسى وجهه الهزيل بالأسى كأنه لم يكن يضحك قبل هنيهة..

ثم قال ببطء:

- لماذا تسأل؟

- لا لشيء معين.. كنت أقول لنفسي أن حياتك رائعة.. لا أحد يشدك من هنا ولا أحد يشدك من هناك.. وتطير أنت منفردا حيث شئت، تطير.. تطير.. تطير..

هز أبو الخيزان رأسه ثم ضيق جفنيه كي يتلافى ضوء الشمس الذي انصب، فجأة، فوق زجاج الواجهة.. كان الضوء ساطعاً بحدة حتى أنه لم يستطع، بادئ الأمر، أن يرى شيئاً.. إلا أنه أحس بألم فظيع يتلولب بين فخذيه، ثم استطاع أن يتبين، بعد لأي، أن ساقيه مربوطتان إلى حمالتين ترفعانهما إلى فوق، وأن عدداً من الرجال يدور حوله.. أغمض عينيه برهة ثم فتحهما، مرة أخرى، على وسعيهما. كان الضوء المستدير الموضوع فوق رأسه يحجب عنه

السقف ويعشي بصره. ولم يستطع أن يتذكر، وهو مقيد هناك على ذلك الشكل المحكم والغريب، أكثر من شيء واحد حدث له منذ برهة، ليس غير.. كان يركض مع عدد من الرجال المسلحين حين تفجرت جهنم أمامه فسقط على وجهه.. هذا كل شي، والآن، الألم الفظيع ما زال يغوص بين فخذيه والضوء المستدير الضخم معلق فوق عينيه وهو يحاول أن يرى إلى الأمور والأشخاص مضيقاً جفنيه قدر ما يستطيع.. وفجأة خطر له خاطر أسود فبدأ يصيح بجنون، ليس يذكر ما الذي قاله حينذالك، ولكنه أحس بيد تطبق فوق فمه بعنف، كانت تلبس قفازا لزجاً.. ووصله الصوت، كأنما عبر قطن:

- كن عاقلا.. كن عاقلا.. إن ذلك على أي حال أفضل من أن تموت !..

ليس يدري هل استطاعوا أن يسمعوه وهو يصيح من بين أسنانه واليد اللزجة مطبقة فوق فمه ؟ أم أن صوته ضاع في حلقه، أنه، على أي حال، ما زال يسمع الصوت نفسه كأن إنسانا آخر كان يصيح في أذنيه:

- لا .. الموت أفضل.

والآن.. مرت عشر سنوات على ذلك المشهد الكريه.. مرت عشر سنوات على اليوم الذي اقتلعوا فيه رجولته منه، ولقد عاش هذا الذل يوما وراء يوم وساعة أثر ساعة، مضغه مع كبريائه، وافتقده كل لحظة من لحظات هذه السنوات العشر ورغم ذلك فإنه لم يعتده قصد، لم يقبله قط.. عشر سنوات طوال وهو يحاول أن يقبل الأمور، ولكن أية أمور؟ أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن وتبا لكل شيء في هذا الكون الملعون...

كلا إنه لم يقبل، بعد عشر سنوات أن ينسى مأساته ويعتادهما. بل أنه لم يقبل ذلك حتى حين كان تحت المبضع يحاولون أن يقنعوه بأن فقدان الرجولة أرحم من فقدان الحياة. يا إله الشياطين، إنهم لا يعرفون ذلك قط، لا يعرفون شيئا ثم يتنطحون لتعليم الناس كل الأشياء.. أتراه لم يقبل أم إنه كان عاجزا عن القبول؟ منذ اللحظ ات الأولى كان قد قرر أن لا يقبل، نعم، هذا هو الصحيح بل أنه كان عاجزا عن تصور الأمر بتمامه حتى أنه، بعد وعي، هرب من المستشفى قبل أن يشفى نهائيا .. كأن هروبه كان قادرا على تسوية الأمور من جديد، لقد احتاج إلى وقت طويل حتى يعتاد مجرد الحياة.. ولكن تراه اعتادها؟ ليس بعد.. كلما سئل بشكل عابر:"لماذا لا تتزوج؟ " عاد إليه الإحساس الكريه بألم يغوص بين فخذيه كأنه مازال ملقى تحت الضوء المستدير الساطع وساقاه مرفوعتان إلى فوق.

كان الضوء متوهجاً وساطعاً حتى أن عينيه بدأتا تدمعان، عندها، مد أسعد يده فأنزل حاجبة الشمس المستطيلة ليقع الظل على وجه أبي الخيزران:

- " نعم، إن هذا أفضل.. شكرا.. أتعرف؟ إن إبا قيس رجل محفوظ " أحس أسعد بأن أبا الخيزران يريد تغيير موضوع الزواج الذي أثاره بسؤاله فاستجاب لذلك ببساطة:

- لماذا؟

- لو قدر له أن يذهب مع المهربين لكان وصوله إلى الكويت بمثابة أعجوبة لا أكثر ولا أقل.

كتف أبو الخيزران ذراعيه على المقود واتكأ بصدره فوقهما..

- أنت لا تعرف كيف تجري الأمور هنا.. كلكم لا تعرفون.. اسألني أنا.. اسألني، انني أعرف قصصا يبلغ عددها عدد شعر القط!

- إن الرجل السمين يبدو طيباً.. لقد ملت إليه.

أنزل أبو الخيزران رأسه ومسح عرق جبينه بكمه المتكئ على المقود وقال:

- هه ! إن الرجل السمين لا يذهب معلم عبر الحدود وهو لا يعرف ماذا يحدث..

- ماذا يحدث ؟

- لي ابن عم يدعى حسنين، هرب مرة عبر الحدود، وبعد مسير أكثر من عشر ساعات حل، الظلام. عندما أشار المهرب إلى مجموعة من الأضواء البعيدة وقال: تلك هي الكويت.. تصلونها بعد مسيرة نصف ساعة.. أتدري ما الذي حدث؟ لم تكن تلك الكويت .. كانت قرية عراقية نائية ! أستطيع أن أروي لك آلافا من القصص المشابهة. قصص رجال تحولوا إلى كلاب وهم يبحثون عن نقطة ماء واحدة يغسلون بها ألسنتهم المشققة.. وماذا تحسب أنه حدث حين شاهدوا خيام البدو؟ لقد اشتروا جرعة الماء، بكل ما يملكون من نقود أو خواتم زواج أو ساعات... يقولون أن حاتم كان بدوياً.. ولكنني أعتقد أنها مجرد كذبة،.. ذلك زمن راح يا أبا السعد.. راح.. ولكنكم لا تدركون ذلك تحسبون أن الرجل السمين بوسعه أن يعمل كل شيء.. أعرف رجلا عاش في الصحراء وحيداً مدة أربعة أيام، وحين التقطته سيارة على طريق الجهرة كان على وشك أن يلفظ آخر أنفاسه.. أتدري ماذا فعل ؟ كان يريد شيئا واحدا من كل هذه الحياة.. كان يريد أن يعود إلى البصرة فور أن يسترد صحته، ويعود إليها عبر الصحراء أيضاً إذا لزم الأمر.. أتعرف لماذا ؟ قال لي أنه يريد العودة إلى هناك كي يطبق بكفيه حول عنق الرجل السمين ويخنقه، ثم لتقم القيامة.. كان قد بدأ رحلته مع صديقين من أصدقاء شبابه، من غزة، عبر إسرائيل، عبر الأردن، عبر العراق .. ثم تركهم المهرب في الصحراء، وهم لما يعبروا حدود

الكويت.. لقد دفن صديقيه بتلك الأراضي المجهولة وحمل معه هويتيهما على أمل أن يصل إلى الكويت، فيرسلهما إلى أهليهما. لم يكن يريد لأحد أن ينصحه.. كان يقول أنه لا يريد أن ينسى ولا يريد أن يغفر.. وبعد مرور أقل من شهر عاد أدراجه إلى العراق، ولكنهم ألقوا القبض عليه.. وهو الآن يمضي سنته الثمانية في سجن حقير.. ماذا تراك تحسب؟ تأتون إلينا من المدارس مثل الأطفال وتحسبون أن الحياة هينة أتحسب أن أبا قيس لم يكن يقامر بحياته.. وسوف يكون هو الخاسر ! أنا متأكد من ذلك تأكدي من الشمس الملعونة هذه !ٍ غدا حين تصل إلى الكويت ستتذكرني بالخير وتقول: كان أبو الخيزران يحكي الصحيح، ثم تحمد ربك ألف مرة لأنني أنقذتك من أظافر الرجل السمين.. هل رأيت في عمرك كله هيكلا عظميا ملقى فوق الرمل؟

- ماذا قلت؟

- سألتك : هل رأيت في عمرك كله هيكلا عظميا ملقى فوق الرمل؟

- كلا...

دور أبو الخيزران مقود سيارته بعنف ليتجاوز حفره واسعة في الرمل، ثم بدأت السيارة تخب. وترتجف فوق طريق تشبه الدرج المنبسط، وأحس أسعد بأن أمعاءه على وشك أن تقفز من بين أسنانه المصطكة .

- كنت سترى الكثير منها. لو مشيت مع المهربين .. وعلى أي حال ، سوف لن يعني ذلك شيئا ...

- لماذا ؟

- لأنك ستكون مشغولا عن التفكير به .. أو ، مثلما قال حسنين ، لأنك لا تريد أن تفكر به

ابتسم أسعد ببلاهة ، لمجرد أنه لا يعرف ماذا يتعين عليه أن يفعل ، ثم سأل وهو يلكز أبا الخيزران في خاصرته،

- لماذا تعمل إذن في التهريب

- أنا ؟ أنا لا أعمل في التهريب

ضحك أسعد وضرب كفه فوق فخد أبي الخيزران :

إذن ماذا تسمي هذا؟

- أقول لك الحقيقية؟ أنني أريد مزيداً من النقود .. مزيدا من النقود.. مزيدا من النقود.. ولقد اكتشف أنه من الصعب تجميع ثروة عن طريق التهذيب ... أترى هذا المخلوق الحقير الذي هو أنا ؟ إنني أمتلك بعض المال ! وبعد عامين سأترك كل شيء وأستقر.. أريد أن أستريح .. أتمدد.. أستلقي في الظل وأفكر أولا أفكر.. لا أريد أن أتحرك قط.. لقد تعبت في حياتي بشكل أكثر من كاف ! إي والله، أكثر من كاف

أطفأ أبو الخيزران المحرك بسرعة، يفتح الباب ثم قفز إلى الأرض .. وأخذ يصيح:

- لقد بدأ الجد.. هيا.. سأفتح لكم باب الخزان.. هاها سيكون الطقس كالآخرة، هناك في الداخل..

صعد بخفة فوق السلم الحديدي الصغير وأخذ يعالج باب الخزان المستدير وفكر مروان ببطء: " أن ذراعيه قويتان.. " كانوا يتصببون عرقا ، إلا أن قميص أبي الخيزران كان مبتلا تماما وكان وجهه ويبدو كأنه مطلي بالوحل.

انفتح الباب مقرقعا ورفع أبو الخيزران طرف القرص الحديدي إلى فوق فاستوى واقفا فوق مفصله وبدا باطنه أحمر من فرط الصدأ .. جلس أبو الخيزران إلى جانب الفوهة موسعا ما بين ساقيه المدلاتين وأخذ يمسح عرقه بالمنديل الأحمر الذي يلفه على مؤخرة رقبته، تحت قبة القميص الأزرق، وكان يلهث:

- أنصحكم أن تنزعوا قمصانكم .. الحر خانق ومخيف هنا وسوف تعرقون كأنكم في المقلى . ولكن.. لخمس دقائق أو سبع، وسوف أقود بأقصى ما أستطيع من السرعة.. توجد. في الداخل عوارض حديدية.. في كل زاوية عارضة.. أنني أفضل أن تمسكوا بها جيدا وإلا تدحرجتم كالكرات.. طبعاً ستخلعون أحذيتكم..

بقي الجميع واقفين على الأرض دون حراك، نهض أبو الخيزران ثم قفز إلى تحت وكان يحاول أن يضحك:

- بوسع المرء أن ينام في الداخل لو كان الطقس أرحم قليلا..

نظر أبو قيس إلى مروان ثم نظر كلاهما إلى أسعد.. الذي خطا - تحت تأثير تلك النظرات - خطوتين صغيرتين إلى الأمام، ثم عاد، فوقف من جديد، وكان أبو الخيزران يراقبه.

- أنصحكم أن تعجلوا قليلاً .. إننا ما زلنا في مطلع النهار وبعد قليل سيصبح الخزان من الداخل فرناً حيقيقياً.. بوسعكم أن تأخذوا معكم مطارة ، ولكن لا تستعملوها حين تحسون أن السيارة واقفة..

حسم مروان رأيه فاقترب متسرعاً من السلم الحديدي، إلا أن أسعد سبقه فتسلق العجل ثم انحنى فوى الفوهة المفتوحة وأسقط رأسه داخل الخزان لبرهة وجيزة، ثم عاد فرفعه:

- هذه هي جهنم ! إنها تتقد !

قال أبو الخيزران وهو يفرش كفيه الكبيرتين :

- لقد قلت لكم ذلك من قبل ..

كان مروان قد وصل هو الآخر ودس رأسه داخل الفوهة ثم عاد فرفعه وقد ارتسمت على وجهه علائم الاشمئزاز والرعب . أما أبو قيس فقد وصل إلى جانبهما لا هنا .. وصاح أبو الخيزران من تحت :

- أتعرفون ماذا تفعلون إذا راود أحدكم العطاس؟

ابتسم أسعد ابتسامة باهتة بينما نظر مروان إلى تحت وبدا أن أبا قيس لم يفهم السؤال ..

ليضع إصبعه تحت منخريه مستقيما .. هكذا ..

مثل أبو الخيزران الحركة فبدا وجهه مضحكا وقال أسعد وهو يخطو إلى الأمام :

- لا أعتقد أن أحدنا سيعطس في هذا الفرن .. لا تقلق من هذه الناحية ..

وضع أسعد كفيه على خاصرتيه ووقف إلى جانب الفوهة مطأطئاً رأسه وكأنه يريد أن يرى ماذا يوجد في الداخل.. بينما خلع أبو قيس قميصه ولفه باعتناء تحت إبطه. وبدا صدره مستعرا شائباً وعظام كتفيه بارزة إلى الأمام.. جلس على حافة الفوهة مدليا ساقية داخلها . رمى بقميصه أولاً ، ثم بدأ ينزلق بطيئاً مستقيماً معتمداً على ذراعيه المشدودتين فوق حافة الفوهة حتى إذا ما لمست قدماه أرض الخزان أرخى ذراعيه وجعل ينساب باعتناء، فغاص رأسه ثم توارت ذراعاه..

قوس أسعد جسده وصاح:

- كيف ترى الأمور؟

ودوى صوت عريض من الداخل كأنه آت من عمق سحيق:

- إنه بئر ملعونة.. تعال.

نظر أسعد إلى مروان الذي خلع قميصه ووقف ينتظر بينما بدأ أبو الخيزران يتسلق السلم الحديدي من جديد.

- دور من؟

- دوري.

توجه مروان إلى الفوهة وأدار لها ظهره.. أنزل ساقيه أولا جاعلا بطنه فوق الحافة ثم انزلق الجسد ببراعة، وبقيت الكفان متمسكتين بإطار الفوهة لبرهة، ثم اختفتا.

لحق أسعد بزميليه دون أن يخلع قميصه، وحين وارته الفوهة انحنى أبو الخيزران محاولا أن يرى الوضع في الداخل إلا أنه لم ير شيئا، في كل مرة كان يطل بها كان جسده يحجب الضوء المتسلل من الفوهة فتتعذر الرؤيا، وأخيراً صاح:

- ها ؟

وأجابه صوت عريض:

- ماذا تنتظر؟ عجل، إننا على وشك الاختناق !

أغلق أبو الخيزران الغطاء بسرعة ودور يده المضلعة دورتين ثم انحدر راكضاً إلى مقعده، وبدأت السيارة، قبل أن ينغلق الباب، تلتهم الطريق.. !

في تلك الدقائق القليلة كانت، ثمة، فكرة واحدة تحوم في رأس أبي الخيزران، ليس غير

إن الطريق المحفرة ، التي تشبه درجا منبسطاً تهز السيارة وترجفها بلا هوادة وبلا إنقطاع .. إن هذا العزيز جدير بأن يجعل البيض عجة في وقت أقل مما تستطيع الخفاقة الكهربائية أن تفعل.. لا بأس بذلك بالنسبة لمروان فهو فتى، ولا بأس بذلك بالنسبة لأسعد فهو قوي البنية.. ولكن، ماذا عن أبي قيس؟ لا شك أن أسنانه تصطلك مثل إنسان على وشك أن يموت من شدة الصقيع، ولكن الفرق أنه ليس ثمة صقيع هنا.

بوسع أبي الخيزران أن يتلافى بعض هذا الهزيز لو زاد من سرعته أكثر.. لو جعل هذه الدبابة الجهنمية تسير بسرعة مئة وعشرين بدل التسعين التي يشير لها المؤشر الآن .. ولكن إذا فعل ذلك من يضمن أن لا تنقلب السيارة فوق مثل هذه الطريق الملعونة ؟ لا بأس أن تنقلب السيارة فهي ليست له ، ولكن ماذا لو استقرت على قفاها؟ ثم من قال أن محرك السيارة يتحمل مثل هذه السرعة في مثل هذا الجو وهذه الأرض؟ إنهم يضعون دائمًا على المؤشر أرقاماً عالية ليس من الحكمة أن يبلغها السائق الماهر..

لم يخفف السرعة حين وصل إلى صفوان ، بل إنه - حين دور في الساحة متجهاً إلى اليسار حيث يقوم المخفر لم يرفع قدمه عن مضغط البنزين قيد شعرة بل جعلها دورة واسعة نثرت الغبار في حلقة واسعة.. ولم يرفع قدمه إلا حين ضغط المكبح أمام باب المخفر بعنف، ومرق كالسهم إلى الداخل.

ساحة الجمرك ساحة رملية واسعة في صفوان تتوسطها شجرة كبيرة يتيمة تتهدل أوراقها المتطاولة فترمي ظلا واسعاً في الساحة.. وعلى الأطراف تنتصب حجرات ذات أبواب خشبية واطئة في داخلها مكاتب مكتظة ورجال مشغولون دائماً.. لم يلحظ أبو الخيزران، وهو يقتحم الساحة بقده المديد، سوى بعض النسوة الجالسات في ظل الشجرة ملتفعات بالعباءات. كان ثمة طفل أو طفلان يقفان إلى جانب صنبور المياه وكان الحاجب نائماً فوق كرسي القش العتيق.

أبو الخيزران متعجل اليوم !

- نعم.. الحج رضا ينتظر.. إذا تأخرت طردني.

- الحج رضا لن يطردك ، لا تخف.. لا يمكن أن يعثر على شاب مثلك.

- هه ! الشباب يملأون الأرض كالفقع.. لو أشار بيديه لتهاووا فوقه كالذباب.

- ماذا تحمل معك؟

- أسلحة ! دبابات! ومصفحات ! وست طائرات ومدفعين..

انفجر الرجل ضاحكاً من أعماقه وتناول أبو الخيزران الأوراق من تحت يديه بخفة وانطلق إلى الخارج .. قال في ذات نفسه وهو يدخل إلى غرفة أخرى : " أصعب المراحل انتهت " بعد دقيقة واحدة خرج من الغرفة الأخرى.. وبأقل من لمح البصر كان يدور المحرك فيمزق السكون الضارب فوق صفوان وينطلق إلى الطريق من جديد.

فيما كانت السيارة تنطلق كالسهم تاركة وراءها خطاً من غيوم الغبار كان أبو الخيزران ينزف عرقاً غزيراً يصب في وجهه ممرات متشعبة تلتقي عند ذقنه.. كانت الشمس ساطعة متوهجة وكان الهواء ساخناً مشبعاً بغبار دقيق كأنه الطحين: " لم أر في حياتي مثل هذا الطقس اللعين.. " فك أزرار قميصه فلامست أصابعه شعر صدره الغزيز المبتل.. كانت الطريق قد استوت، ولم تعد السيارة ترجف شأنها من قبل فزاد من سرعته - كان المؤشر يندفع إلى الأمام ككلب أبيض مربوط إلى وتد.

نظر إلى الأمام بعينيه الغارقتين في عرقه فتبين نهاية الهضبة الصغيرة.. وراء هذه الهضبة تحتجب صفوان، وهناك يتعين عليه أن يقف.

زود ضغط قدمه فوق المضغط كيما تتسلق السيارة الهضبة دون أن تتباطأ، وأحس بأن عضلة ساقه قد تكورت حتى أوشكت أن تتمزع، الأرض تنطوي والسيارة تزأر، والزجاج يتوهج والعرق يحرق عينيه، وما تزال قمة الهضبة تتراءى له بعيدة كالأبد.. يا إلهي العزيز العلى القدير، كيف يمكن لقمة هضبة ما أن تعني كل هذه المشاعر التي تموج في شرايينه وتصب لهبها على جلده الملوث بالوحل عرقا، مالحا ؟ يا إلهي العلى الذي لم تكن معي أبداً، الذي لم تنظر إلى أبداً، الذي لا أؤمن بك أبداً. أيمكن أن تكون هنا هذه المرة؟ هذه المرة فقط؟

رف عينيه رفات سريعة ليغسل العرق عن جفنيه، وحين فتحهما آخر مرة كانت قمة الهضبة قد صارت أمامه..

وصل إلى أعلاها فأطفأ المحرك وترك " السيارة تنزلق قليلا ثم أوقفها وقفز من الباب إلى ظهر الخزان.

خرج مروان أولاً : رفع ذراعيه فانتشله أبو الخيزران بعنف وتركه مفروشا فوق سطح الخزان.. أطل أبو قيس برأسه ثم حاول أن يخرج إلا أنه لم يستطع، عاد فأخرج ذراعيه وترك أبا الخيزران يساعده.. أما أسعد فقد استطاع أن يتسلق الفوهة. كان قد خلع قميصه.

جلس أبو الخيزران فوق سطح الخزان الساخن. كان يلهث وبدا أنه قد كبر عن ذي قبل.. بينما انزلق أبو قيس ببطء فوق العجلات واستلقى في ظل السيارة منبطحا على وجهه . وقف أسعد هنيهة يتنشق بملء صدره. كان يبدو؟ أنه يريد أن يتكلم إلا أنه لم يستطع .. وأخيراً قال لاهثاً :

أووف ! الطقس هنا في غاية البرودة !

كان وجهه محمرا ومبتلا، وكان بنطاله مغسولاً بالعرق أما صدره فقد انطبعت عليه علائم الصدأ فبدا وكأنه ملطخ بالدم.. نهض مروان وهبط السلم الحديدي بإعياء.. كانت عيناه حمراوين وكان صدره مصبوغاً بالصدأ وحين وصل إلى الأرض وضع رأسه فوق فخذ أبي قيس ومدد جسده ببطء إلى جانب العجل.. بعد لحظة تبعه أسعد ثم أبو الخيزران فجلسا واضعين رأسيهما فوق ركبهما المطوية.. قال أبو الخيزران بعد فترة:

- هل كان الأمر مخيفاً ؟

لم يجبه أحد.. فدور نظره فوق وجوههم فبدت له وجوهاً صفراء محنطة، ولولا أن صدر مروان كان يرتفع ويهبط، ولولا أن أبا قيس كان يتنفس بصفير مسموع، لخيل إليه إذن أنهما ميتان..

- قلت لكم سبع دقائق.. ورغم ذلك لم يستغرق الأمر أكثر من ست.

نظر إليه أسعد ببرود بينما فتح مروان عينيه دون أن ينظر إلى شيء معين ودور أبو قيس وجهه إلى الناحية الأخرى.

- أقسم لك بشرفي. ست دقائق ! انظر إلى الساعة يا أسعد. ست دقائق بالضبطا انظر ! لماذا لا تريد أن تنظر؟ لقد قلت لكما ذلك، قلته منذ البدء، وأنتم تعتقدون الآن أنني أكذب عليكم.. ها هي الساعة انظر.. انظر.

رفع مروان رأسه ثم استند على عضديه وأخذ ينظر، ملقياً رأسه بعض الشيء إلى الوراء، باتجاه أبي الخيزران.. لم يكن يبدو أنه يراه بوضوح..

- هل جربت أن تجلس هناك ست دقائق؟

- لقد قلت لكم..

- ثم إنها لم تكن ست دقائق.

- لماذا لا تنظر إلى ساعتك.. لماذا ؟ إنها في رسغك، هيا انظر.. انظر.. وكف عن التحديق بي كالمجنون..

قال أبو قيس:

- إنها ست دقائق.. كنت طوال الوقت أعد .. من الواحد إلى الستين: دقيقة، هكذا حسبت.. عددت ست مرات.. في المرة الأخيرة عددت ببطء شديد..

كان يتكلم بصوت منخفض وببطء.. فقال أسعد:

- ماذا بك يا أبا قيس، هل أنت مريض؟

- أنا؟ أنا؟ أوف، كلا.. لكنني أتنفس حصتي من الهواء.

وقف أبو الخيزران ونفض عن بنطاله الرمل ثم ثبت كفيه فوق خاصرتيه وأخذ ينقل بصره بين الرجال الثلاثة:

- هيا بنا.. يجب أن لا نضيع وقتا أكثر.. أمامكم حمام تركي آخر بعد فترة وجيزة.

نهض أبو قيس واتجه إلى غرفة السائق بينما تسلق أسعد السلم الحديدي وبقي مروان جالساً في الظل.

قال أبو الخيزران:

- ألا تريد أن تنهض

- لماذا لا نستريح قليلا؟

صاح أسعد من فوق:

- سنستريح كثيرا بعد أن نصل وليس قبل ذلك.. هيا..

ضحك أبو الخيزران بصوت عال.. ثم ضرب بكفه فوق كتف مروان وقال:

- تعال اجلس إلى جانب أبي قيس، إنك نحيل ولن تضايقنا كثيراً. ثم إنك، كما يبدو متعب جدا.

صعد مروان فجلس إلى جانب أبي قيس بينما صاح أبو الخيزران بصوت عال قبل أن يغلق الباب:

- البس قميصك يا أسعد وإلا شوتك الشمس..

قال مروان لأبي الخيزران بصوت موهن:

- قل له أن يترك باب الفرن مفتوحا عله يبترد.

صاح أبو الخيزران جذلا :

- واترك باب الخزان مفتوحاً..

هدر المحرك ومضت السيارة الكبيرة ترسم في الصحراء خطاً من الضباب، يتعالى، ثم يذوب في القيظ..  

الشمس والظل 

شق العالم الصغير الموهن طريقه في الصحراء مثل قطرة زيت ثقيلة فوق صفيحة قصدير متوهجة.. كانت الشمس ترتفع فوق رؤوسهم مستديرة متوهجة براقة، ولم يعد أحد منهم يهتم بتجفيف عرقه .. فرش أسعد قميصه فوق رأسه وطوى ساقيه إلى فخذيه وترك للشمس أن تشويه بلا مقاومة.. أما مروان فقد اتكأ برأسه على كتف أبي قيس وأغمض عينيه.. وكان أبو قيس كدق إلى الطريق مطبقاً شفتيه بإحكام تحت شاربه الرمادي الكث.

لم يكن أي واحد من الأربعة يرغب في مزيد من الحديث.. ليس لأن التعب قد أنهكهم فقط بل لأن كل واحد منهم غاص في أفكاره عميقاً عميقاً.. كانت السيارة الضخمة تشق الطريق بهم وبأحلامهم وعائلاتهم ومطامحهم وأمالهم وبؤسهم ويأسهم وقوتهم وضعفهم وماضيهم ومستقبلهم.. كما لو أنها آخذة في نطح باب جبار لقدر جديد مجهول.. وكانت العيون كلها معلقة فوق صفحة ذلك الباب كأنها مشدودة إليه بحبال غير مرئية.

سوف يكون بوسعنا أن نعلم قيساً وأن نشتري عرق زيتون أو عرقين، وربما نبني غرفة نسكنها وتكون لنا، أنا رجل عجوز قد أصل وقد لا أصل.. أو تحسب إذن أن حياتك هنا أفضل كثيراً من موتك؟ لماذا لا تحاول مثلنا؟ لماذا لا تنهض من فوق تلك الوسادة وتضرب في بلاد الله بحثاً عن الخبز؟ هل ستبقي كل عمرك تأكل من طحين الإعاشة الذي تهرق من أجل كيلو واحد منه كل كرامتك على أعتاب الموظفين؟

وتمضي السيارة فوق الأرض الملتهبة ويدوي محركها بلا هوادة..

شفيقة إمرأة بريئة.. كانت صبية يافعة حين طوحت قنبلة مورتر بساقها فبترها الأطباء من أعلى الفخذ.. وأمه لا تحب أن يحكي إنسان عن أبيه. زكريا راح.. هناك، في الكويت، ستتعلم كل شيء. ستعرف كل شيء.. أنت ما زلت فتى لا تفهم من الحياة إلا قدر ما يفهم الطفل الرضيع من بيت ! المدرسة لا تعلم شيئاً. لا تعلم سوى الكسل فاتركها وغص في المقلاة مثلما فعل سائر البشر.

السيارة تمضي فوق الأرض الملتهبة، ويدوي محركها بهدير شيطاني..

ربما كانت قنبلة مزروعة في الأرض تلك التي داس عليها فيما كان يركض، أو

ربما قذفها، أمامه، رجل كان مختبئاً في خندق قريب، كل ذلك لا يهم الآن.

ساقاه معلقتان إلى فوق وكتفاه ما زالتا فوق السرير الأبيض المريح والألم الرهيب يتلولب بين فخديه.. كانت، ثمة، امرأة تساعد الأطباء. كلما يتذكر ذلك يعبق وجهه بالخجل.. ثم ماذا نفعتك الوطنية ؟ لقد صرفت حياتك مغامراً ، وها أنت ذا أعجز من أن تنام إلى جانب امرأة ! وما الذي أفدته ؟ ليكسر الفخار بعضه. أنا لست أريد الآن إلا مزيداً من النقود.. مزيداً من النقود. السيارة تمضي فوق الأرض الملتهبة.. ويدوي محركها بالهدير.

دفعه الشرطي أمام الضابط فقال له: تحسب نفسك بطلا وأنت على أكتاف البغال تتظاهرون في الطريق ! بصق على وجهه ولكنه لم يتحرك فيما أخذت البصقة تسيل ببطء نازلة من جبينه، لزجة كريهة تتكوم على قمة أنفه.. أخرجوه، وحينما كان في الممر سمع الشرطي القابض على ذراعه بعنف يقول بصوت خفيض: " يلعن أبو هالبدلة ".. ثم أطلقه فمضى يركض. عمه يريد أن يزوجه ابنته ولذلك يريده أن يبدأ.. لولا ذلك لما حصل الخمسين ديناراً كل حياته.

السيارة تمضي فوق الأرض الملتهبة، ويهدر محركها مثل فم جبار يزدرد الطريق...

الشمس في وسط السماء ترسم فوق الصحراء قبة عريضة من لهب أبيض،

وشريط الغبار يعكس وهجاً يكاد يعمي العيون.. كانوا يقولون لهم إن فلاناً لم يعد من الكويت، لأنه مات، قتلته ضربة شمس، كان يغرس معوله في الأرض حين سقط فوقه وفوقها، وماذا،؟ ضربة شمس قتلته، تريدون أن تدفنوه هنا أو هناك؟ هذا كل شيء، ضربة شمس ! هذا صحيح، من الذي سماها ضربة؟ ألم يكن عبقريا ؟ كأن هذا الخلاء عملاق خفي يجلد رؤوسهم بسياط من نار وقار مغلي. ولكن أيمكن للشمس أن تقتلهم وتقتل كل الزخم المطوي في صدورهم ؟ كأن الأفكار كانت تسيل من رأس إلى رأس وتخفض بهواجس واحدة، لقد التقت العيون فجأة : نظر أبو الخيزران إلى مروان ثم إلى أبي قيس فوجده يحدق به، حاول أن يبتسم ولكنه لم يستطع فمسح عرق جبينه بكمه وقاله بصوت خفيض:

- هذه جهنم التي سمعت عنها.

- جهنم الله؟

- نعم.

- مد أبو الخيزران يده فأطفأ المحرك، ثم نزل ببطء فتبعه مروان وأبو قيس بينما بقي أسعد معلقاً فوق.

جلس أبو الخيزران في ظل السيارة وأشعل لفاقه ثم قال بصوت خفيض:

- لنسترح قليلاً قبل أن نبدأ التمثيلية مرة أخرى.

قاله أبو قيس :

- لماذا لم تتحرك بنا مساء أمس فتوفر علينا برودة الليل كل هذه المشقة؟

قال أبو الخيزران دون أن يرفع بصره عن الأرض:

- الطريق بين صفوان والمطلاع تمتلئ بالدوريات في الليل.. في النهار لا يمكن لأية دورية أن تغامر بالاستطلاع في مثل هذا القيظ..

قال مروان:

- إذا كانت سيارتك معصومة عن التفتيش.. فلماذا لا نبقي خارج ذلك السجن

الرهيب؟

قال أبو الخيزران بحدة :

- لا تكن سخيفاً .. هل أنت خائف إلى هذا الحد من البقاء خمس أو ست دقائق في الداخل ؟ لقد اجتزنا أكثر من نصف الطريق ولم يبق إلا الأسهل..

نهض أبو الخيزران واقفاً ثم اتجه، إلى المطارة المعلقة خارج الباب وفتحها:

- سوف أقيم لكم حفلة غداء رائعة حين نصل.. سأذبح دجاجتين..

رفع المطارة وصب في فمه الماء فبدأ يسيل من ركنيه مزرزبا إلى ذقنه ثم إلى قميصه المبتل، وحين ارتوى صب ما تبقي في المطارة فوق رأسه وترك الماء يسيل على عنقه وصدره وجبينه وبدا شكله عجيباً. علق المطارة من جديد خارج الباب وفرش كفيه الكبيرتين وصاح:

- هيا بنا.. لقد تعلمتم الصنعة جيدا.. كم الساعة الآن ؟ إنها الحادية عشرة والنصف.. احسبوا.. سبع دقائق على الأكثر وأفتح لهم الباب.، تذكروا ذلك جيدا .. الحادية عشرة والنصف..

نظر مروان إلى ساعته وهز رأسه ، لقد حاول أن يقول شيئاً إلا أنه لم يستطع، فمشى خطوات قليلة إلى السلم الحديدي وبدأ يتسلقه.

طوى أسعد قميصه وغاص في الفوهة.. تردد مروان قليلا ثم تبعه متكئاً ببطنه فوق الحافة منزلقاً ببراعة وقسوة بينما هز أبو قيس رأسه وقال :

- سبع دقائق؟

ربت أبو الخيزران على كتف أبي قيس ونظر مباشرة في عينيه ، كانا واقفين هناك معاً يتصببان عرفاً، ولكنهما لم يستطيعا الكلام.

تسلق أبو قيس السلم بثبات ثم أسقط ساقيه داخل الفوهة فأعانه الشابان على النزول.

أغلق أبو الخيزران الباب ودور الذراع المضلعة دورتين ثم قفز إلى الأرض متعجلا وانطلق إلى مقعده.

بعد دقيقة ونصف فقط اجتاز أبو الخيزران بسيارته الباب الكبير المفتوح في الأسلاك الشائكة المشدودة حول مركز المطلاع وأوقف سيارته أمام السلم . العريض الذي يرقى إلى البناء المقرمد ذي الطابق الواحد، والذي تمتد على جانبيه غرف صغيرة ذات شبابيك واطئة مغلقة، بينما تقوم بضعة عربات لبيع المأكولات قبالته، وكانت أصوات مكيفات الهواء تملأ الساحة بالضجيج.

لم يكن ثمة، غير سيارة أو سيارتين واقفتين في طرف الساحة الكبيرة بالانتظار، كان الصمت مطبقا بكثافة إلا من أصوات هدير مكيفات الهواء المثبتة على كل الشبابيك المطلة على الساحة، ولم يكن هناك سوى جندي واحد واقف في كوخ خشبي صغير يقع إلى جانب الدرج العريض.

ارتقى أبو الخيزران الدرج مسرعاً واتجه إلى الغرفة الثالثة إلى اليمين، وفور أن فتح الباب ودخل أحس، نتيجة للنظرات التي انصبت عليه من قبل الموظفين، أن شيئاً ما سوف يحدث، إلا أنه لم يتباطأ ودفع أوراقه أمام الموظف السمين الذي كان يجلس في صدر الغرفة.

- ها ! أبو خيزرانة !

قال الموظف وهو ينحي الأوراق من أمامه بلا مبالاة متعمدة ويكتف ذراعيه فوق الطاولة الحديدية..

- أين كنت كل هذا الوقت؟

قال أبو الخيزران لاهثاً :

- في البصرة.

- سأل عنك الحاج رضا أكثر من ست مرات.

- كانت السيارة معطلة.

ضج الموظفون الثلاثة الذين يشغلون الغرفة ضاحكين بصخب فالتفت أبو الخيزران حواليه حائراً ثم ثبت نظره على وجه الرجل السمين :

- ما الذي يضحككم في هذا الصباح ؟

تبادل الموظفون النظر ثم انفجروا ضاحكين من جديد.. قال أبو الخيزران متوتراً وهو ينقل قدماً ويضعها مكان الأخرى :

- والآن يا أبو باقر .. لا وقت لدي للمزاح.. أرجوك . مديده فقرب الأوراق إلى أمامه، إلا أن أبا باقر عاد فنحى الأوراق إلى طرف الطاولة وكتف ذراعيه من جديد وهو يبتسم ابتسامة خبيثة:

- سأل عنك الحاج رضا ست مرات..

- قلت لك: كانت السيارة معطلة.. ثم إنني والحج رضا نستطيع أن نتفاهم حين نلتقي.. وقع الأوراق رجاء، إنني على عجل..

قرب الأوراق من جديد إلا أن أبا باقر نحاها مرة أخرى.

- كانت سيارتك معطلة؟

- نعم ..أرجوك إني مستعجل.

نظر الموظفون الثلاثة إلى بعضهم وضحكوا بخبث - ولكن بصوت خفيض - كانت طاولة أحدهم فارغة تماماً إلا من كأس شاي زجاجي صغير، وكان الآخر قد كف عن عمله وأخذ يتابع ما يحدث.

قال الرجل السمين المسمى أبو باقر وهو يتجشأ:

- والآن.. كن عاقلا يا أبو خيزرانة.. لماذا تتعجل السفر في مثل هذا الطقس الرهيب ؟ الغرفة هنا باردة وسوف أطلب لك استكانة شاي.. فتمتع بالنعم !

حمل أبو الخيزران الأوراق ثم تناول القلم من أمام أبي باقر ودار حول الطاولة حتى صار إلى جانبه فانحنى ودفع له القلم وهو يدفع، بذراعه، كتف أبي باقر:

- في طريق عودتي سأجلس عندك ساعة، ولكن الآن دعني أمشي كرامة لباقر وأم باقر.. خذ.

إلا أن أبا باكر لم يمد يده وبقي يحدق إليه بعينين بلهاوين وهو على وشك أن ينفجر بالضحك.

- آه يا ملعون يا أبا خيزرانة ! لماذا لا تتذكر أنك على عجلة حين تكون في البصرة ؟ ها ؟

- قلت لك أن السيارة كانت في الكاراج :

دفع له القلم مرة أخرى إلا أن أبا باقر لم يتحرك :

- لا تكذب يا أبو خيزرانة.. لا تكذب.. الحج رضا حكى لنا القصة من الألف للياء..

- أية قصة؟

نظر الجميع إلى بعضهم فيما انقلب وجه أبي الخيزران الهزيل فصار مبيضاً من فرط الرعب وأخذ القلم يرتجف في يده.

قصة تلك الراقصة.. ما اسمها يا علي؟

أجاب على من وراء الطاولة الفارغة:

كوكب.

ضرب أبو باقر طاولته بيده واتسعت ابتسامته:

كوكب ! كوكب ! يا أبا خيزرانة يا ملعون.. لماذا لا تحكي لنا قصصك في البصرة ؟ تمثل أمامنا أنك رجل مهذب، ثم تمضي إلى البصرة فتمارس الشرور السبعة مع تلك الراقصة.. كوكب.. آه.. كوكب هذا هو الاسم.

طاح أبو الخيزران محاولا أن لا يتجاوز حد المزاح.

أي كوكب وأي بطيخ ! دعني أمضى قبل أن يطردني الحج..

قال أبو باقر:

- لا يمكن ! حدثنا عن تلك الراقصة.. الحج يعرف قصتك كلها وقد رواها لنا.. هيا.

- إذا رواها الحج لكم.. فلماذا تريدونني أن أرويها مرة أخرى .

وقف أبو باقر وصاح كالثور:

- إذن.. إنها قصة حقيقية !.. قصة حقيقية !

دار حول الطاولة حتى صار في منتصف الغرفة. كانت القصة الفاجرة قد هيجته.

لقد فكر بها ليل نهار، ركب فوقها كل المجون الذي خلقه حرمانه الطويل الممض، كانت فكرة أن صديقاً له قد ضاجع عاهرة ما، فكرة مهيجة تستحق كل تلك الأحلام:

- تذهب إلى البصرة وتدعي أن السيارة قد تعطلت.. ثم تمضي

مع كوكب أسعد ليالى العمر! يا سلام يا أبو خيزرانة.. يا سلام يا ملعون..

ولكن قل لنا كيف أحبتك؟ الحج رضا يقول أنها من فرط حبها لك تصرف نقودها عليك وتعطيك شيكات.. آه يا أبو خيزرانة يا ملعون !

اقترب منه، كان وجهه محمرا وكان من الواضح أنه أمضى وقتاً طيباً وهو يتفكر في القصة كما رواها الحاج رضا له على الهاتف.. انحنى فوق أذنه وهمس بصوت مبحوح:

أتراها فحولتك؟ أم قلة الرجال؟

ضحك أبو الخيزران ضحكة هستيرية ودفع الأوراق إلى صدر أبي باقر الذي تناول القلم دون وعي وأخذ يوقعها وهو يرتج بالضحك المكبوت، ولكن حين مد أبو الحيزران يده ليتناولها خبأها أبو باقر وراء ظهره ومد ذراعه الأخرى بينه وبين أبي الخيزران.

في المرة القادمة سأذهب معك إلى البصرة.. أتوافق؟ تعرفني على كوكب هذه.. الحج رضا يقول إنها جميلة حقاً.

قال أبو الخيزران راجفاً وهو يمد ذراعه محاولاً أن يصل إلى الأوراق:

- موافق..

- بشرفك؟

- بشرفي..

ضج أبو باقر بالضحك من جديد وأخذ يهز برأسه المدور وهو يعود إلى مكتبه بينما اندفع أبو الخيزران بأوراقه إلى الخارج وصوت أبي باقر يلاحقه:

- يا ملعون يا أبا خيزرانه ! خدعنا أكثر من سنتين، وانكشف الآن.. آه يا ملعون يا أبا خيزرانه.

اقتحم أبو الخيزران الغرفة الأخرى وهو يحدق إلى ساعته، كانت تشير إلى الثانية عشرة إلا ربعاً.. توقيع الأوراق الأخرى لم يستغرق أكثر من دقيقة.. وحين صفق وراءه الباب لسعه القيظ من جديد ولكنه لم يهتم بالأمر وقفز الدرج العريض مثنى مثنى حتى صار أمام سيارته، حدق إلى الخزان لحظة وخيل إليه أن حديده على وشك أن ينصهر تحت تلك الشمس الرهيبة، استجاب المحرك لأول ضغطة، وطوى الباب في لحظة دون أن يلوح للحارس.. الطريق الآن معبدة تماماً وأمامه دقيقة أو دقيقة ونصف ليتجاوز أول منعطف يحجبه عن مركز المطلاع، لقد اضطر إلى تخفيف السرعة قليلا حين التقى سيارة شحن كبيرة، ثم عاد فأطلق لسيارته كل العنان الممكن وحين وصل إلى المنعطف صفرت العجلات صفيراً متواصلا كأنه النواح وكادت أن تمس الرصيف الرملي وهي تقوم بدورتها الشيطانية الواسعة.. لم يكن في رأسه أي شيء سوى الرعب وخيل إليه أنه على وشك أن يقع فوق مقودة مغمياً عليه.. كان المقود ساخناً وكان يحسه يحرق كفيه الخشنتين ولكنه لم يخفف من تمسكه به، كان المقعد الجلدي يلتهب تحته وكان زجاج الواجهة مغبراً يتوهج ببريق الشمس.

أزيز عريض ترسله العجلات كأنها تسلخ الإسفلت سلخاً من تحتها، أكان من الضروري أن تتفلسف يا أبا باقر؟ أكان من الضروري أن تقيء كل قاذوراتك على وجهي وعلى وجوههم؟ يا لعنة الإله العلى القدير عليك، يا لعنة الإله تنصب عليك يا أبا باقر! وعليك يا حاج رضا يا كذاب ! راقصة؟ كوكب؟ يا لعنة الله عليكم كلكم..

أوقف السيارة بعنف وتسلق فوق العجل إلى سطح الخزان.. وحين لامست كفاه السطح الحديدي أحس بهما تحترقان ولم يستطع أن يبقيهما هناك فسحبهما واتكأ بكميه - عند الكوعين - فوق حديد السطح ثم زحف إلى القفل المضلع، وأمسكه بطرف قميصه الأزرق ودوره فانفتح مقرقعاً واستوى القرص الحديدي الصدىء مستقيماً فوق مفصله.

حين ترك القرص لمح عقارب الساعة الملتفة على زنده: كانت تشير إلى الثانية عشرة إلا تسع دقائق. وكان زجاجها المدور قد تشقق - شقوقاً مضلعة صغيرة. الفوهة المفتوحة بقيت تخفق بالفراغ لحظة، كان وجه أبي الخيزران مشدوداً إليها متشنجاً وشفته السفلى ترتجف باللهاث والرعب، سقطت نقطة عرق عن جبينه إلى سطح الخزان الحديدي وما لبثت أن جفت.. وضع كفيه على ركبتيه وقوس ظهره المبتل حتى صار وجهه فوق الفوهة السوداء وصاح بصوت خشبي يابس:

- أسعد !

دوى الصدى داخل الخزان فكاد أن يثقب أذنيه وهو يرتد إليه، وقبل أن تتلاشى دوامة الهدير التي خلقها نداؤه الأول صاح مرة أخرى:

- يا هوه..

وضع كفين صلبتين فوق حافة الفوهة واعتمد على ذراعيه القويتين ثم انزلق إلى داخل الخزان.. كان الظلام شديداً في الداخل حتى إنه لم يستطع أن يرى شيئاً بادئ الأمر، وحين نحى جسده بعيداً عن الفوهة سقطت دائرة ضوء صفراء إلى القاع وأضاءت صدرا يملؤه شعر رمادي كث أخذ يلتمع متوهجاً كأنه مطلي بالقصدير.. انحنى أبو الخيزران ووضع أذنه فوق الشعر الرمادي المبتل : كان الجسد بارداً وصامتاً. مد يده وتحسس طريقه إلى ركن الخزان، كان الجسد الآخر ما زال متمسكاً بالعارضة الحديدية. حاول أن يهتدي إلى الرأس فلم يستطع أن يتحسس إلا الكتفين المبتلين ثم تبين الرأس منحدراً إلى الصدر، وحين لامست كفه الوجه سقطت في فم مفتوح على وسعه.

أحس أبو الخيزران أنه على وشك أن يختنق، كان جسده قد بدأ ينزف عرقاً بشكل مريع حتى بات يشعر أنه مدهون بالزيت الثقيل ولم يدر، أهو يرتجف بسبب إطباق هذا الزيت على صدره وظهره، أم بسبب الرعب؟ تحسس طريقه منحنياً إلى الفوهة وحين أخرج رأسه منها لم يدر لماذا سقطت في ذهنه صورة وجه مروان دون أن تبرح. لقد أحس بالوجه يلبسه من الداخل مثل صورة ترتجف على حائط فأخذ يهز رأسه بعنف وهو ينسل من الفوهة فتحرق رأسه شمس لا ترحم.. وقف هنيهة يتنشق هواء جديداً، لم يكن ليستطيع أن يفكر بأي شيء، كان وجه مروان يطغي في رأسه مثل نبعة انبثقت هادرة من الأرض شامخة إلى علو رهيب.. وحين وصل إلى كرسيه تذكر أبا قيس، كان قميصه ما زال موضوعاً على المقعد إلى جانبه فتناوله بأصابعه وقذف به بعيداً.. ودور محرك سيارته فبدأ يهدر من جديد، ومضت السيارة تدرج فوق المنحدر ببطء وجبروت.

التفت وراءه، عبر النافذة المشبكة الصغيرة، فشاهد القرص الحديدي مفتوحا مستويا فوق مفصله يأكل باطنه الصدأ.. وفجأة غاب القرص الحديدي وراء نقاط من الماء المالح ملأت عينيه. كان الصداع يتآكله وكان يحس بالدوار إلى حد لم يعرف فيه.. هل كانت هذه النقاط المالحة دموعاً ؟ أم عرقاً نزفه جبينه الملتهب؟

القبر

قاد أبو الخيزران سيارته الكبيرة حين هبط الليل متجهاً إلى خارج المدينة النائمة.. كانت الأضواء الشاحبة ترتعش على طول الطريق، وكان يعرف أن هذه الأعمدة التي تنسحب أمام شباك سيارته سوف تنتهي بعد قليل حينما يغرق في البعد عن المدينة.. وسوف يعم الظلام.. فالليلة لا قمر فيها، وأطراف الصحراء ستكون صامتة كالموت.

انحرف بسيارته عن الطريق الأسفلت ومضى يتدرج في طريق رملي إلى داخل الصحراء. لقد قر قراره منذ الظهيرة على أن يدفنهم، واحداً واحداً، في ثلاثة قبور... أما الآن فإنه يحس بالتعب يتآكله فكأن ذراعيه قد حقنتا بمخدر.. لا طاقة له على العمل.. ولن يكون بوسعه أن يحمل الرضا ساعات طويلة ليحضر ثلاثة قبور.. قبل أن يتجه إلى سيارته ويخرجها من كاراج الحاج رضا. قال في ذات نفسه أنه لن يدفنهم، بل سيلقي بالأجساد الثلاتة في الصحراء ويكر عائداً إلى بيته.. الآن، لم تعجبه الفكرة، لا يروقه أن تذوب أجساد الرفاق في الصحراء ثم تكون نهباً للجوارح والحيوانات.. ثم لا يبقي منها بعد أيام إلا هياكل بيضاء ملقاة فوق الرمل.

درجت السيارة بصوت هزيل فوق الطريق الرملي، ومضى هو يفكر.. لم يكن يفكر بالمعنى الصحيح، كانت أشرطة من مشاهد مقطعة تمر في جبينه بلا أي توقف أو ترابط أو تفسير.. وكان يشعر بإرهاق مر يتسرب في عظامه كقوافل مستقيمة من النمل.

هبت نسمة ريح فحملت إلى أنفه رائحة نتنة.. قال في ذات نفسه :"هنا تكوم البلدية القمامة " ثم فكر: " لو ألقيت الأجساد هنا لاكتشفت في الصباح،

ولدفنت بإشراف الحكومة " دور مقود سيارته وتتبع آثار عجلات عديدة حفرت طريقها قبله في الرمل ثم أطفأ فانوسي سيارته الكبيرين وسار متمهلاً على ضوء الفانوسين الصغيرين، وحين لاحت أمامه أكوام القمامة سوداء عالية أطفأ الفانوسين الصغيرين.. كانت الرائحة النتنة قد ملأت الجو حواليه ولكنه ما لبث أن اعتادها.. ثم أوقف سيارته وهبط.

وقف أبو الخيزران إلى جانب سيارته لحيظات ليتأكد من أن أحداً لا يشاهده ثم صعد ظهر الخزان: كان بارداً رطباً.. دور القفل المضلع ببطء، ثم شد القرص الحديدي إلى فوق فقرقع بصوت متقطع.. اعتمد ذراعيه وانزلق إلى الداخل بخفة.. كانت الجثة الأولى باردة صلبة، ألقى بها فوق كتفيه، أخرج الرأس أولاً من الفوهة ثم رفع الجثة من الساقين وقذفها إلى فوق وسمح صوتها الكثيف يتدحرج فوق حافة الخزان ثم صوت ارتطامها المخنوق على الرمل، لقد لاقى صعوبة جمة في فك يدي الجثة الأخرى عن العارضة الحديدية، ثم سحبها من رجليها إلى الفوهة وقذفها من فوق كتفيه.. مستقيمة متشجنة وسمع صوت ارتطامها بالأرض.. أما الجثة الثالثة فقد كانت أسهل من أختيها..

قفز إلى الخارج وأغلق الفوهة ببطء، ثم هبط السلم إلى الأرض، كان الظلام كثيفاً مطبقاً وأحس بالارتياح لأن ذلك سوف يوفر عليه رؤية الوجوه ، جر الجثث - واحدة واحدة - من أقدامها وألقاها على رأس الطريق، حيث تقف سيارات البلدية عادة لإلقاء قمامتها كي تتيسر فرصة رؤيتها لأول سائق قادم في الصباح الباكر.

صعد إلى مقعده ودور المحرك ثم كر عائدا إلى الوراء ببطء محاولاً قدر الإمكان أن يخلط آثار عجلات سيارته بالآثار الأخرى، كان قد اعتزم أن يعود إلى الشارع الرئيسي بذلك الشكل الخلفي حتى يشوش الأثر تماماً.. ولكنه ما لبث أن تنبه إلى أمر ما بعد أن قطع شوطاً فأطفاً محرك سيارته من جديد ثم وعاد يسير إلى حيث ترك الجثث فأخرج النقود من جيوبها؟ وانتزع ساعة مروان وعاد أدراجه إلى السيارة ماشياً على حافتي حذائه.

حين وصل إلى باب السيارة ورفع ساقاً إلى فوق تفجرت فكرة مفاجئة في رأسه.. بقي واقفاً متشنجاً في مكانه محاولاً أن يفعل شيئاً، أو يقول شيئاً.. فكر أن يصيح إلا أنه ما لبث أن أحس بغباء الفكرة، حاول أن يكمل صعوده إلى السيارة إلا أنه. لم يشعر بالقوة الكافية ليفعل.. لقد شعر بأن رأسه على وشك أن تنفجر، وصعد كل التعب الذي كان يحسه فجأة، إلى رأسه وأخذ يطن فيه حتى أنه احتواه بين كفيه وبدأ يشد شعره ليزيح الفكرة.. ولكنها كانت ما تزال هناك.. كبيرة داوية ضخمة لا تتزعزع ولا تتوارى ، التفت إلى الوراء حيث ألقى بالجثث، إلا أنه لم ير شيئاً، ولم تجد النظرة تلك إلا بأن أوقدت الفكرة ضراماً فبدأت تشتعل في رأسه.. وفجأة لم يعد بوسعه أن يكبحها داخل رأسه أكثر فأسقط يديه إلى جنبيه وحدق في العتمة وسع حدقتيه.

انزلقت الفكرة من رأسه ثم تدحرجت على لسانه:

- " لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟... "

دار حول نفسه دورة ولكنه خشي أن يقع فصعد الدرجة إلى مقعده وأسند رأسه فوق المقود:

- لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى:

- لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟