قصة محمد بن أبي المؤمل

قلت لمحمد بن أبي المؤمل: أراك تطعم الطعام وتتخذه، وتنفق المال وتجود به. وليس بين قلة الخبز وكثرته كثير ربح. والناس يبخلون من قل عدد خبزه، ورأوا أرض خوانه. وعلى أني أرى جماجم من يأكل معك أكثر من عدد خبزك.


وأنت لو لم تتكلف، ولم تحمل على مالك بإجادته، والتكثير منه، ثم أكلت وحدك لم يلمك الناس، ولم يكثروا لذلك منك، ولم يقضوا عليك بالبخل، ولا بالسخاء، وعشت سليماً موفوراً، وكنت كواحد من عرض الناس.


وأنت لم تنفق الحرائب، وتبذل المصون، إلا وأنت راغب في الذكر والشكر، وإلا لتخزن الأجر.


فقد صرنا لقلة عدد خبزك من بين الأشياء، نرضى لك من الغنيمة بالإياب، ومن غنم الحمد والشكر، بالسلامة من الذم واللوم! فزد في عدد خبزك شيئاً؛ فإن بتلك الزيادة القليلة ينقلب ذلك اللوم شكراً، وذلك الذم حمداً.


أعلمت أنك لست تخرج من هذا الأمر بعد الكلفة العظيمة سالماً، لا لك ولا عليك؟ فانظر في هذا الأمر، رحمك الله! قال: يا أبا عثمان، أنت تخطئ، وخطأ العاقل أبداً يكون عظيماً، وإن كان في العذر قليلاً؛ لأنه إذا أخطأ أخطأ بتفقه وإحكام. فعلى قدر التفكر والتكلف يبعد من الرشاد، ويذهب عن سبيل الصواب. وما أشك أنك قد نصحت بمبلغ الرأي منك. ولكن خف ما خوفتك، وإنه مخوف! بل الذي أصنع أدل على سخاء النفس بالمأكول، وأدل على الاحتيال ليبالغوا؛ لأن الخبر إذا كثر على الموائد، ورث ذلك النفس صدوداً؛ ولأن كل شيء من المأكول وغير المأكول، إذا ملأ العين ملا الصدر. وفي ذلك موت الشهوة، وتسكين الحركة! ولو أن رجلاً جلس على بيدر تمر فائق، وعلى كدس كمثرى منعوت، وعلى مائة قنو موز موصوف، لم يكن أكله إلا قدر استطرافه، ولم يكن أكله إلا على قدر أكله، إذا أتي بذلك في طبق نظيف، مع خادم نظيف، عليه منديل نظيف.وبعد فأصحابنا آنسون، واثقون مسترسلون، يعلمون أن الطعام لهم اتخذ، وأن أكلهم له أوفق من تمزيق الخدم والأتباع له. ولو احتاجوا لدعوا به، ولم يحتشموا منه، ولكان الأقل منهم أن يجربوا ذلك المرة والمرتين، وألا يقضوا علينا بالبخل دون أن يروه. فإن كانوا محتشمين وقد بسطناهم، وساء ظنهم بنا، مع ما يرون من الكلفة لهم، فهؤلاء أصحاب تجن وتسرع. وليس في طاقتي إعتاب المتجني، ولا رد المتسرع.


قلت له: إني قد رأيت أكلهم في منازلهم، وعند إخوانهم، وفي حالات كثيرة، ومواضع مختلفة. ورأيت أكلهم عندك، فرأيت شيئاً متفاوتاً، وأمراً متفاقماً. فاحسب أن البخل عليهم غالب، وان الضعف لهم شامل، وأن سوء الظن يسرع إليهم خاصة. ثم لا تداوي هذا الأمر بما لا مؤنة فيه؟ وبالشيء الذي لا قدر له؟ أو تدع دعاءهم، والإرسال إليهم، والحرص على إجابتهم؟.


والقوم ليس يلقون أنفسهم عليك. وإنما يجيئونك بالاستحباب منك. فإن أحببت أن تمتحن ما أقول، فدع مواترة الرسل والكتب، والتغضب عليهم إذا أبطئوا. ثم انظر.


قال: فإن الخبز إذا كثر على الخوان، فالفاضل مما يأكلون لا يسلم من التلطخ والتغمير. والجردقة الغمرة، والرقاقة المتلطخة، لا أقدر أن أنظر إليها. وأستحيي أيضاً من إعادتها. فيذهب ذلك الفضل باطلاً. والله لا يحب الباطل! قلت: فإن ناساً يأمرون بمسحه، ويجعلون الثريدة منه. فلو أخذت بزيهم، وسلكت سبيلهم، أتى ذلك لك على ما تريد ونريد.


قال: أفلست أعلم كيف الثريد؟ ومن أي شيء هي؟ - وكيف أمنع نفسي التوهم، وأحول بينها وبين التذكير؟ ولعل القوم الحواري المتلطخ مقام الخشكار النظيف. وعلى أن المسح والدلك يأتي على ما تعلق به الدسم.


قال: عيالي - يرحمك الله! - عيالان: واحد أعظمه عن هذا وأرفعه عنه، وىخر لم يبلغ عندي أن يترف بالحواري! قلت: فاجعل إذاً جميع خبزك الخشكار، فإن فضل ما بينه وبين الحواري في الحسن والطيب، لا يقوم بفضل ما بين الحمد والذم.


قال: فهاهنا رأي هو أعدل الأمور وأقصدها: وهو أنا نحضر هذه الزيادة من الخبز على طبق، ويكون قريباً حيث تناله اليد، فلا يحتاج أحد مع قربه منه إلى أن يدعو به؛ ويكون قربه من يده كثرة على مائدته.


قلت: فالمانع من طلبه هو المانع من تحويله. فأطعني وأخرج هذه الزيادة من مالك كيف شئت.


واعلم أن هذه المقايسة، وطول هذه المذاكرة، أضر علينا مما نهيتك عنه، وأردتك على خلافه.


فلما حضر وقت الغداء صوت بغلامه - وكان ضخماً، جهير الصوت، صاحب تقعير، وتفخيم وتشديق، وهمز وجزم: يا مبشر! هات من الخبز تمام عدد الرءوس! قلت: ومن فرض لهم هذه الفريضة؟ ومن جزم عليهم هذا الجزم؟ أرأيت إن لم يشبع أحدهم رغيفه، أليس لا بد له من أن يعول على رغيف صاحبه، أو يتنحى وعليه بقية، أو يعلق يده منتظراً للعادة؟ فقد عاد الأمر، وبطل ما تناظرنا فيه.


قال: لا أعلم إلا ترك الطعام البتة أهون علينا من هذه الخصومة! قلت: هذا ما لا شك فيه. وقد علمت عندي بالصواب، وأخذت لنفسك بالثقة، إن وفيت بهذا القول.


وكان أكثر ما يقول: يا غلام، هات شيئاً من قليلة، وأقل منها، وأعد لنا ماء بارداً، وأكثر منه! وكان يقول: قد تغير كل شيء من أمر الدنيا، وحال عن أمره وتبدل، حتى المؤاكلة. قاتل الله رجالاً كنا نؤاكلهم: ما رأيت قصعة قط رفعت من بين أيديهم إلا وفيها فضل!  وكانوا يعلمون أن إحضار الجدي إنما هو شيء من آيين الموائد الرفعية؛ وإنما جعل كالعاقبة والخاتمة، وكالعلامة للبسر والفراغ، وأنه لم يحضر للتمزيق والتخريب، وأن أهله لو أرادوا به السوء لقدموه قبل كل شيء، لتقع الحدة به. بل ما أكل منه إذا جيء به إلا العابث، وإلا الذي لو لم يره لقد كان يرفع يده، ولم ينتظر غيره! ولذلك قال أبو الحارث جمين، حين رآه لا يمس: هذا المدفوع عنه! ولولا أنه على ذلك شاهد الناس لما قال ما قال.


ولقد كانوا يتحامون بيضة البقيلة، ويدعها كل واحد منهم لصاحبه؛ حتى إن القصعة لقد كنت وإن البيض خاصة لعلي حاله. وأنت اليوم إذا أردت أن تمتع عينك بنظرة واحدة منها، ومن بيض السلاءة، لم تقدر على ذلك! لا جرم لقد كان تركه ناس كثير، ما بهم إلا أن يكونوا شركاء من ساءت رعته.


وكان يقول: الآدام أعداء للخبز، وأعداها له المالح. فلولا أن الله انتقم منه، وأعان عليه بطلب صاحبه الماء وإكثاره منه، لظننت أنه سيأتي على الحرث والنسل! وكان مع هذا يقول: لو شرب الناس الماء على الطعام ما اتخموا. وأقلهم عليه شرباً أكثرهم عنه تخماً. وذلك أن الرجل لا يعرف مقدار ما أكل حتى ينال من الماء. وربما كان شبعان وهو لا يدري. فإذا ازداد على مقدار الحاجة بشم. وإذا نال من الماء شيئاً بعد شيء، عرفه ذلك مقدار الحاجات، فلم يزد إلا بقدر المصلحة.


والأطباء يعلمون ما أقول حقاً. ولكنهم يعلمون أنهم لو أخذوا بهذا الرأي لتعطلوا، ولذهب المكسب! وما حاجة الناس إلى المعالجين إذا صحت أبدانهم؟ وفي قول جميع الناس: إن ماء دجلة أمرأ من الفرات، وإن ماء مهران أمرأ من ماء نهر بلخ؛ وفي قول العرب: هذا ماء نمير يصلح عليه المال، دليل على أن الماء يمرئ؛ حتى قالوا: إن الماء الذي يكون عليه النفاطات أمرأ من الماء الذي يكون عليه القيارات.


فعليكم بشرب الماء على الغداء، فإن ذلك أمرأ.


وكان يقول: ما بال الرجل إذا قال: يا غلام، أسقني ماء؛ أو أسق فلاناً ماء، أتاه بقلة على قدر الري؟ فإذا قال: أطعمني شيئاً، أو قال: هات لفلان طعاماً، أتاه من الخبز بما يفضل عن الجماعة، والطعام والشراب أخوان متحالفان ومتآزران؟ وكان يقول: لولا رخص الماء وغلاء الخبز لما كلبوا على الخبز، وزهدوا في الماء. والناس أشد شيء تعظيماً للمأكول إذا كثر ثمنه، أو كان قليلاً في أصل منبته، وموضع عنصره. هذا الجزر الصافي، وهذا الباقلى الأخضر العباسي، أطيب من كمثرى خراسان، ومن الموز البستاني! ولكنهم لقصر همتهم لا يتشهون إلا على قدر الثمن، ولا يحنون إلى الشيء إلا على قدر القلة. وهذه العوام في شهوات الأطعمة إنما تذهب مع التقليد، أو مع العادة، أو على قدر ما يعظم عندها من شأن الطعام.


وأنا لست أطعم الجزر المسلوق بالخل والزيت والمري، دون الكمأة بالزبد والفلفل، لمكان الرخص، أو لموضع الاستفضال، ولكن لمكان طيبه في الحقيقة، ولأنه مالح الطبيعة؛ علم ذلك من علم، وجهل ذلك من جهل! وكان في منزله فربما دخل عليه الصديق له، وقد كان تقدمه الزائر أو الزائران - وكان يستعمل على خوانه من الخدع والمكايد والتدبير، ما لم يبلغ بعضه قيس بن زهير، والمهلب ابن أبي صفرة، وخازم بن أبي خزيمة، وهرثمة بن أعين. وكان عنده فيه من الاحتيال ما لا يعرفه عمرو بن العاص؛ ولا المغيرة بن شعبة. وكان كثيراً ما يمسك الخلال بيده، ليؤيس الداخل عليه من غدائه! - فإذا دخل عليه الصديق له، وقد عزم على إطعام الزائر والزائرين قبله، وضاق صدره بالثالث وإن كان قد دعاه وطلب إليه - أراد أن يحتال له، أو الرابع، إن ابتلي كل واحد منهما بصاحبه.


فيقول عند أول دخوله، وخلع نعله، وهو رافع صوته بالتنويه وبالتشنيع: هات يا مبشر لفلان شيئاًيطعم منه! هات له شيئاً ينال منه! هات له شيئاً! اتكالاً! على خجله أو غضبه أو أنفته؛ وطمعاً في أن يقول: قد فعلت! فإن أخطأ ذلك الشقي، وضعف قلبه وحصر، وقال: قد فعلت، وعلم أنه قد أحرزه وحصله، وألقاه وراء ظهره، لم يرض أيضاً بذلك حتى يقول: بأي شيء تغذيت؟ فلا بد له من أن يكذب، أو ينتحل المعاريض. فإذا استوثق منه رباطاً، وتركه لا يستطيع أن يترمرم، لم يرض بذلك حتى قول في حديث له: كنا عند فلان، فدخل عليه فلان، فدعاه إلى غدائه فامتنع. ثم بدا له فقال: في طعامكم بقيلة أنتم تجيدونها؟ ثم تناول، فلا يزال في وثاقه، وفي سد الأبواب عليه، وفي منعه البدوات. حتى إذاً بلغ الغاية قال: يا مبشر، أما إذ تغدى فلان واكتفى، فهات لنا شيئاً نبعث به؟ فإذا وضعوا الطعام، أقبل على أشهدهم حياء، أو على أكلاً، فسأله عن حديث حسن، أو عن خبر طويل! ولا يسأله إلا عن حديث يحتاج فيه إلى الإشارة باليد أو الرأس! كل ذلك ليشغله! فإذا هم أكلوا صدراً، أظهر الفتور والتشاغل والتنقر، كالشعبان الممتلئ، وهو في ذلك غير رافع يده، ولا قاطع أكله! إنما هو النتف بعد النتف، وتعليق اليد في خلل ذلك؟ فلا بد من أن ينقبض بعضهم ويرفع يده. وربما شمل ذلك جماعتهم. فإذا علم أنه قد أحرزهم واحتال لهم، حتى يقلعهم من مواضعهم من حوال الخوان، ويعيدهم إلى مواضع من مجالسهم، ابتدأ الأكل، فأكل أكل الجائع المقرور! وقال: إنما الأكل تارات، والشرب تارات.


وكان كثيراً ما يقول لأصحابه، إذا بكروا عليه: لم لا نشرب أقداحاً على الريق، فإنها تقتل الديدان، وتحفش لأنفسنا قليلاً؛ فإنها تأتي على جمبع الفضول، وتشتهي الطعام بعد ساعة؟ وسكره أطيب من سكر الكظة. والشراب على المليلة بلاء. وهو بعد ذلك دليل على أن نبيذي خالص. ومن لم يشرب على الريق فهو نكس في الفتوة، ودعى في أصحاب النبيذ! وإنما يخاف على كبده من سورة الشراب على الريق من بعد عهده باللحم. وهذه الصبحة تغسل عنكم الأوضار، وتنفي التخم. وليس دواء الخمار، إلا الشرب بالكبار.


والأعشى كان أعلم به حيث يقول:

 

وكأس شريت على لـذة

 

وأخرى تداويت منها بها

 

وهذا - حفظك الله - هو اليوم الذي كانوا لا يعاينون فيه لقمة واحدة، ولا يدخل أجوافهم من النقل ما يزن خردلة! وهو يوم سروره التام؛ لأنه قد ربح المرزئة، وتمتع بالمنادمة! واشترى مرة شبوطة وهو ببغداد، وأخذها فائقة عظيمة. وغالى بها، وارتفع في ثمنها.


وكان قد بعد عهده بأكل السمك، وهو بصري لا يصبر عنه. فكان قد أكبر أمر هذه السمكة لكثرة ثمنها، ولسمنها وعظمها، ولشدة شهوته لها! فحين ظن عند نفسه أنه قد خلا بها، وتفرد بأطايبها، وحسر عن ذراعيه، وصمد صمدها، هجمت عليه ومعي السدري! فلما رآه رأى الموت الأحمر، والطاعون الجارف، ورأى الحتم المقضي، ورأى قاصمة الظهر، وأيقن بالشر، وعلم أنه قد ابتلي بالتنين! فلم يلبثه السدري حتى قور السرة بالمبال! فاقبل علي فقال لي: يا أبا عثمان، السدري يعجبه السرر! فما فصلت الكلمة من فيه حتى قبض على القفا، فانتزع الجانبين جميعاً! فأقبل علي فقال: والسدري يعجبه الأقفاء! فما فرغ من كلامه إلا والسدري قد اجترف المتن كله! فقال: يا أبا عثمان، والسدري يعجبه المتون! ولم يظن أن السدري يعرف فضيلة ذنب الشبوط وعذوبة لحمه. وظن أنه سيسلم له. وظن معرفة ذلك من الغامض. فلم يدر إلا والسدري قد اكتسح ما على الوجهين جميعاً! ولولا أن السدري أبطره، وأثقله، وأكمده، وملأ صدره، وملاه غيظاً، لقد كان أدرك معه طرفاً؛ لأنه كان من الأكلة. ولكن الغيظ كان من أعوان السدري عليه.


فلما أكل السدري جميع أطايبها، وبقي هو في النظارة، ولم يبق في يده مما كان يأمله في تلك السمكة إلا الغيظ الشديد، والغرم الثقيل، ظن أن في سائر السمكة ما يشبعه، ويشفي من كرمه. فبذلك كان عزاؤه. وذلك هو الذي كان يمسك بأرماقه، وحشاشات نفسه! فلما رأى السدري يفري الفري، ويلتهم التهاماً، قال: يا أبا عثمان، السدري يعجبه كل شيء! فتولد الغيظ في جوفه، وأقلقته الرعدة، فخبثت نفسه. فما زال يقئ ويسلح! ثم ركبته الحمى! وصحت توبته، وثم عزمه في ألا يؤاكل رغيباً أبداً، ولا زهيداً، ولا يشتري سمكة أبداً، رخيصة ولا غالية، وإن أهدوها إليه ألا يقبلها، وإن وجدها مطروحة لا يمسها.


فهذا ما كان حضرني من حديث ابن أبي المؤمل. وقد مات. عفا الله عنا وعنه!