كان ابن العقدى ربما استزار أصحابه إلى البستان. وكنت لا أظنه ممن يحتمل قلبه ذلك على حال. فسألت ذات يوم بعض زواره، فقلت: احك لي أمرك. قال: وتستر علي؟ قلت: نعم، ما دمت بالبصرة.
قال: يشتري لنا أرزاً بقشره، ويحمله معه، ليس معه شيء مما خلق الله إلا ذلك الأرز! فإذا صرنا إلى أرضه، كلف أكاره أن يجشه في مجشة له، ثم ذراه، ثم غربله، ثم جش الواش منه. فإذا فرغ من الشراء والحمل، ثم من الجش، ثم من التذرية، ثم من الإدارة والغربلة، ثم من جش الواش، ثم من تذريته، ثم من إدارته وغربلته، كلف الأكار أن يطحنه على ثوره وفي رحاه. فإذا طحنه، كلفه أن يغلي له الماء، وأن يحتطب له. ثم يكلفه العجن؛ لأنه بالماء الحار أكثر نزلاً. ثم كلف الأكار أن يخبزه.
وقبل ذلك ما قد كلفهم أن ينصبوا له الشصوص للسمك، ويسكروا الدرياجة على صغار السمك، لا يدخلوا في السواقي، فيدخلوا أيديهم في حجرة الشلابي والرمان. فإن أصبنا من السمك شيئاً جعله كباباً على نار الخبز تحت الطابق، حتى لا يحتاج من الحطب إلى كثير.
فلا نزال منذ غدوة إلى الليل في كد وجوع وانتظار. ثم لا يكون عشاؤنا إلا خبز أرز أسود غير منخول - بالشلابي. ولو قدر على غير ذلك فعل.
قلت له: فلم لا يتخذ موضع مذار من بعض دقاق أرضه، فيذري لكم الأرز؟ ثم يكون الخيار في يده، إن أراد أن يعجل عليكم الطعام أطعمكم الفرد، أو إن أحب أن يتأنى ليطعمكم الجوهري.
قال: والله لئن سمع هذا وعرفه ليتكلفه. الله الله فينا، فإنا قوم مساكين! ولو قدرنا على شيء لم نحتمل هذا البلاء! حدثني المكي قال: بت عند إسماعيل بن غزوان. وإنما بيتني عنده حين علم أني تعشيت عند مويس، وحملت معي قربة نبيذ. فلما مضى من الليل أكثره، وركبني النوم، جعلت فراشي البساط، ومرفقتي يدي، وليس في البيت إلا مصلى له ومرفقة ومخدة. فأخذ المخدة فرمى بها إلي، فأبيتها ورددتها عليه. وأبى وأبيت. فقال: سبحان الله! يكون أن تتوسد مرفقك، وعندي فضل مخدة؟ فأخذتها فوضعتها تحت خدي، فمنعني من النوم إنكاري للموضع، ويبس فراشي.
وظن أني قد نمت. فجاء قليلاً قليلاً، حتى سل المخدة من تحت رأسي. فلما رأيته قد مضى بها ضحكت، وقلت: قد كنت عن هذا غنياً! قال: إنما جئت لأسوي رأسك! قلت: إني لم أكلمك حتى وليت بها. قال: كنت لهذا جئت، فلما صارت المخدة في يدي نسيت ما جئت له! والنبيذ - ما علمت - والله يذهب بالحفظ أجمع! وحدثني الحزامي والمكي والعروضي، قالوا: سمعنا إسماعيل يقول: أوليس قد أجمعوا على أن البخلاء في الجملة، أعقل من الأسخياء في الجملة؟ ها نحن أولاء عندك جماعة، فينا من يزعم أنه سخي، وفينا من يزعم أنه بخيل. فانظر أي الفريقين أعقل؟ هأنذا وسهل بن هارون وخاقان بن صبيح وجعفر بن سعيد والحزامي والعروضي وأبو يعقوب الخريمي، فهل معك إلا أبو إسحاق؟ وحدثني المكي، قال: قلت لإسماعيل مرة: لم أر أحداً قط أنفق على الناس من ماله، فلما احتاج إليهم آسوه. قال: لو كان ما يصنعون لله رضاً، وللحق موافقاً، لما جمع الله لهم الغدر واللؤم من أقطار الأرض. ولو كان هذا الإنفاق في حقه لما ابتلاهم الله - جل ذكره - من جميع خلقه.
حدثني تمام بن أبي نعيم، قال: كان لنا جار وكان له عرس. فجعل طعامه كله فالوذقا.
فقيل له: إن المؤنة تعظم، قال: أحتمل ثقل الغرم بتعجيل الراحة، لعن الله النساء! ما أشك أن من أطاعهن شر منهن.
وحديث سمعناه على وجه الدهر: زعموا أن رجلاً قد بلغ في البخل غايته، وصار إماماً، وأنه كان إذا صار في يده الدرهم، خاطبه وناجاه، وفداه واستنبطه.
وكان مما يقول له: كم من أرض قد قطعت! وكم من كيس قد فارقت! وكم من خامل رفعت! ومن رفيع قد أخملت! لك عندي ألا تعرى ولا تضحي! - ثم يلقيه في كيسه، ويقول له: اسكن على اسم الله في مكان لا تهان ولا تذل ولا تزعج منه! - وأنه لم يدخل فيه درهماً قط فأخرجه، وأن أهله ألحوا عليه في شهوة، وأكثروا عليه في إنفاق درهم، فدافعهم، ما أمكن ذلك. ثم حمل درهماً فقط. فبينا هو ذاهب إذ رأى حواء قد أرسل على نفسه أفعى لدرهم يأخذه. فقال في نفسه: أتلف شيئاً تبذل فيه النفس، بأكلة أو شربة؟ والله ما هذا إلا موعظة لي من الله! فرجع إلى أهله، ورد الدرهم إلى كيسه - فكان أهله منه في بلاء. وكانوا يتمون موته والخلاص بالموت أو الحياة. فلما مات وظنوا أنهم قد استراحوا منه، قدم ابنه فاستولى على ماله وداره. ثم قال: ما كان أدم أبى؟ فإن أكثر الفساد إنما يكون في الإدام. قالوا: كان يأتدم بجبنة عنده. قال: أرونيها. فإذا فيها حز كالجدول، من أثر مسح اللقمة! قال: ما هذه الحفرة؟ قالوا: كان لا يقطع الجبن، وإنما كان يمسح على ظهره فيحفر، كما ترى! قال: فبهذا أهلكني، وبهذا أقعدني هذا المقعد! لو علمت ذلك ما صليت عليه! قالوا: فأنت كيف تريد أن تصنع؟ قال: أضعها من بعيد، فأشير إليها باللقمة! ولا يعجبني هذا الحرف الأخير؛ لأن الإفراط لا غاية له. وإنما نحكي ما كان في الناس، وما يجوز أن يكون فيهم، أو حجة أو طريقة. فأما مثل هذا الحرف فليس مما نذكره. وأما سائر حديث هذا الرجل فإنه من البابة.
قال ابن جهانة الثقفية: عجبت ممن يمنع النبيذ طالبه؛ لأن النبيذ إنما يطلب ليوم فصد، أو يوم حجامة، أو يوم زيارة زائر، أو يوم أكل سمك طري، أو يوم شربة دواء. ولم نر أحداً طلبه وعنده نبيذ، ولا ليدخره ويحتكره، ولا لبيعه ويعتقد منه. وهو شيء يحسن طلبه، وتحسن هبته، ويحسن موقعه. وهو في الأصل كثير رخيص، فما وجه منعه؟، ما يمنعه عندي إلا من لاحظ له في أخلاق الكرام! وعلى أني لست أوجل - بما أهب منه - على نبيذي النقصان؛ لأني إذا احتجت عن ندمائي بقدر ما أخرجت من نبيذي، رجع إلى نبيذي على حاله، وكنت قد تحمدت بما لا يضرني؛ فمن ترك التحمد بما لا يضره، كان من التحمد بما يضره أبعد.
فذكر ابن جهانة ماله من الكرم بهبة نبيذه، ولم يذكر ما عليه من اللؤم بحجب ندمائه.
قال الأصمعي أو غيره: حمل بعض الناس مدينيا على برذون، فأقامه على الارى. فانتبه من نومه، فوجده يعتلف. ثم نام فانتبه، فوجده يعتلف. فصاح بغلامه: يا بن أم! بعه، وإلا فهبه، وإلا فرده، وإلا فاذبحه! أنام ولا ينام! يذهب بحر مالي! ما أراد إلا استئصالي! قال أبو الحسن المدائني: كان بالمدائن تمار، وكان بخيلاً. وكان غلامه إذا دخل الحانوت يحتال؛ فربما احتبس. فاتهمه بأكل التمر، فسأله يوماً فأنكر. فدعا بقطنة بيضاء، ثم قال: امضغها. فمضغها. فلما أخرجها وجد فيها حلاوة وصفرة، قال: هذا دأبك كل يوم وأنا لا أعلم! أخرج من داري! وكان عندنا رجل من بني أسد، إذا صعد ابن الأكار إلى نخلة له ليلقط له رطباً، ملأ فاه ماء. فسخروا به، وقالوا له: إنه يشربه، ويأكل شيئاً على النخلة. فإذا أراد أن ينزل بآل في يده، ثم أمسكه في فيه! والرطب أهون على أولاد الأكرة، وعلى أولاد غير الأكرة، من أن يحتمل فيه أحد شطر هذا المكروه ولا بعضه. قال: فكان بعدها يملأ فاه من ماء أصفر أو أحمر أو أخضر، لكي لا يقدر على مثله في رءوس النخل! وحدثني المصري، وكان جار الداردريشي، وماله لا يحصى. قال: فانتهر سائلاً ذات يوم وأنا عنده. ثم وقف عليه آخر فانتهره، إلا أن ذلك بغيظ وحنق. قال: فأقبلت عليه فقلت له: ما أبغض إليك السؤال! قال: أجل، عامة من ترى منهم أيسر مني. قال: فقلت: ما أظنك أبغضتهم لهذا. قال: كل هؤلاء لو قدروا على داري لهدموها، وعلى حياتي لنزعوها! أنا لو طاوعتهم فأعطيتهم كما سألوني كنت قد صرت مثلهم منذ زمان! فكيف تظن بغضي يكون لمن أرادني على هذا؟ وكان أخوه شريكه في كل شيء. وكان في البخل مثله. فوضع أخوه في يوم جمعة بين أيدينا، ونحن على بابه، طبق رطب يساوي بالبصرة دانقين. فينا نحن نأكل إذ جاء أخوه، فلم يسلم ولم يتكلم، حتى دخل الدار. فأنكرنا ذلك. وكان يفرط في إظهار البشر، ويجعل البشر وقاية دون ماله. وكان يعلم أنه إن جمع بين المنع والكبر قتل.
قال: ولم نعرف علته، ولم يعرفها أخوه. فلما كان الجمعة الأخرى، دعا أيضاً أخوه بطبق رطب. فبينا نحن نأكل، إذ خرج من الدار ولم يسلم ولم يقف. فأنكرنا ذلك، ولم ندر أيضاً ما قصته. فلما أن كان في الجمعة الثالثة، ورأى مثل ذلك، كتب إلى أخيه: يا أخي! كانت الشركة بيني وبينك حين لم يكثر الولد، ومع الكثرة يقع الاختلاف.
ولست آمن أن يخرج ولدي وولدك إلى مكروه. وها هنا أموال باسمي ولك شطرها، وأموال باسمك ولي شطرها، وصامت في منزلي، وصامت في منزلك، لا نعرف فضل بعض ذلك على بعض. وإن طرقنا أمر الله، ما ركدت الحرب بين هؤلاء الفتية، وطال الصخب بين هؤلاء النسوة. فالرأي أن تتقدم اليوم فيما يحسم منهم هذا السبب.
فلما قرأ أخوه كتابه تعاظمه ذلك وهاله، وقلب الرأي ظهراً لبطن، فلم يزده التقليب إلا جهلاً. فجمع ولده وغلظ عليهم، وقال: عسى أن يكون أحد منكم قد أخطأ بكلمة واحدة، أو يكون هذا البلاء من جرائر النساء.
فلما عرف براءة ساحة القوم، تمشى إليه حافياً راجلاً، فقال: ما يدعوك إلى القسمة والتمييز؟ أدع صلحاء أهل المسجد الساعة، حتى أشهدهم بأني وكيل لك في هذه الضياع، وحول كل شيء في منزلي إلى منزلك، وجرب ذلك مني الساعة. فإن وجدتني أروغ وأعتل فدونك - فحاجتي الآن أن تخبرني بذنبي. قال: مالك من ذنب، وما من القسمة من بد. فأقام عنده يناشده إلى نصف النهار. ثم أقام يومه ذلك إلى نصف الليل يناشده، ويطلب إليه.
فلما طال عليه الأمر، وبلغ منه الجهد، قال له: حدثني عن وضعك أطباق الرطب، وبسطك الحصر في السكك، وإحضارك الماء البارد، وجمعك الناس على بابي في كل جمعة! كأنك ظننت أنا كنا عن هذه المكرمة عمياً! إنك إذا أطعمتهم اليم البرني، أطعمتهم غداً السكر، وبعد غد الهلبات. ثم يصير ذلك أيام الجمع، في سائر أيام الأسبوع. ثم يتحول الرطب إلى الغداء، ثم يؤدي الغداء إلى العشاء. ثم تصير إلى الكساء، ثم الأجداء، ثم الحملان، ثم اصطناع الصنائع! والله إني لأرثي لبيوت الأموال لخراج المملكة من هذا، فكيف بمال تاجر جمعه من الحبات والقراريط والدوانيق، والأرباع والأنصاف؟ قال: جعلت فداك! تريد ألا آكل رطبة أبداً، فضلاً على غير ذلك؟ فلا والله لا كلمتهم أبداً! قال: إياك أن تخطئ مرتين: مرة في إطماعهم فيك، ومرة في اكتساب عداوتهم. أخرج من هذا الأمر على حساب ما دخلت فيه، وتسلم تسلم.
كان أبو الهذيل أهدى إلى مويس دجاجة. وكانت دجاجته التي أهداها دون ما كان يتخذ لمويس. ولكنه بكرمه وبحسن خلقه أظهر التعجب من سمنها وطيب لحمها. وكان يعرف بالإمساك الشديد. فقال: وكيف رأيت يا أبا عمران تلك الدجاجة؟ قال: كانت عجباً من العجب! فيقول: وتدري ما جنسها؟ وتدري ما سنها؟ فإن الدجاجة إنما تطيب بالجنس والسن. وتدري بأي شيء كنا نسمنها. - فلا يزال في هذا، والآخر يضحك ضحكاً نعرفه نحن، ولا يعرفه أبو الهذيل. وكان أبو الهذيل أسلم الناس صدراً، وأوسعهم خلقاً، وأسهلهمسهولة. فإن ذكروا دجاجة، قال: أين كانت يا أبا عمران من تلك الدجاجة؟ فإن ذكروا بطة أو عناقاً أو جزوراً أو بقرة، قال: فأين كانت هذه الجزور في الجزر، من تلك الدجاجة في الدجاج؟ وإن استسمن أبو الهذيل شيئاً من الطير والبهائم، قال: لا والله، ولا تلك الدجاجة! وإن ذكروا عذوبة الشحم، قال: عذوبة الشحم في البقر والبط وبطون السمك والدجاج، ولا سيما ذلك الجنس من الدجاج. وإن ذكروا ميلاد شيء أو قدوم إنسان، قال: كان ذلك بعد أن أهديتها لك بسنة؛ وما كان بين قدوم فلان وبين البعثة بتلك الدجاجة إلا يوم.
وكانت مثلاً في كل شيء، وتاريخاً في كل شيء! وأقبل مرة على محمد بن الجهم، وأنا وأصحابنا عنده، فقال: إني رجل منخرق الكفين، لا أليق شيئاً. ويدي هذه صناع في الكسب، ولكنها في الإنفاق خرقاء! كم تظن من مائة ألف درهم قسمتها على الإخوان في مجلس؟ أبو عثمان يعلم ذلك! أسألك بالله يا أبا عثمان هل تعلم ذلك؟ فقلت: يا أبا الهذيل، ما نشك فيما تقول - فلم يرض باحتضاري هذا الكلام حتى استشهدني، ولم يرض باستشهادي حتى استحلفني.
وكان أبو سعيد المدائني إماماً في البخل عندنا بالبصرة. وكان من كبار المغتنين ومياسيرهم.
وكان شديد العقل، شديد العارضة، حاضر الحجة، بعيد الروية.
وكنت أتعجب من تفسير أصحابنا لقول العرب في لؤم اللئيم الراضع: قال أصحابنا: كل لئيم بخيل، وليس كل بخيل لئيماً، لأن اسم اللئيم يقع على البخل، وعلى قلة الشكر، وعلى مهانة النفس، وعلى أن له في ذلك عرفاً متقدماً.
قال أبو زيد: هو لئيم وملائم. فاللئيم ما فسرت، والملام الذي يقوم بعذر اللئيم. فأما اللئيم الراضع، فالذي لا يحلب في الإناء، ويرضع الخلف، مخافة أن يضيع من اللبن شيء.
قال ثوب بن شحمة العنبري في امرأته الهمدانية:
وحديث لا مجة التي حدثتني |
|
تدع الإناء تشرباً للـقـادم |
القادمان: الخلفان المقدمان.
فلما بلغه ذلك عنها طلقها. فلما طلقها قيل له: إن البخل إنما يعيب الرجال، ومتى سمعت بامرأة هجيت في البخل؟ قال: ليس ذلك بي. أخاف أن تلد لي مثلها.
قال رافع بن هريم:
... ... ... تحلب قـاعـداً |
|
وتلمج أحياناً وقبعك حاضر |