الأصمعي وجلساؤه

شهدت الأصمعي يوماً، وأقبل على جلسائه يسألهم عن عيشهم، وعما يأكلون ويشربون. فأقبل على الذي عن يمينه فقال: أبا فلان، ما أدمك؟ قال: اللحم. قال: أكل يوم لحم؟ قال: نعم. قال: وفيه الصفراء والبيضاء، والحمراء والكدراء، والحامضة والحلوة والمرة؟ قال: نعم. قال: بئس العيش هذا! ليس هذا عيش آل الخطاب. كان عمر بن الخطاب رحمة الله عليه ورضوانه يضرب على هذا. وكان يقول: مد من اللحم، كمد من الخمر. ثم سأل الذي يليه قال: أبا فلان، ما أدمك قال: الآدام الكثير، والألوان الطيبة. قال: أفي آدامك سمن؟ قال: نعم. قال فتجمع السمن والسمين على مائدة؟ قال: نعم. قال: ليس هذا عيش آل الخطاب. كان ابن الخطاب رحمة الله عله ورضوانه يضرب على هذا. وكان إذا وجد القدور المختلفة الطعوم كدرها في قدر واحدة، وقال: إن العرب لو أكلت هذا لقتل بعضها بعضاً.


ثم يقبل على الآخر فيقول: أبا فلان، ما أدمك؟ قال: اللحم السمين، والجداء الرضع. قال: فتأكله بالحوارى؟ قال: نعم. قال: ليس هذا عيش آل الخطاب. كان ابن الخطاب يضرب على هذا. أو ما سمعته يقول: أتروني لا أعرف الطعام الطيب؟ لباب البر بصغار المعزى. ألا تراه كيف ينتفي من أكله وينتحل معرفته؟ ثم يقبل على الذي يليه فيقول: أبا فلان، ما أدمك؟ فيقول: أكثر ما نأكل لحوم الجزور، ونتخذ منها هذه القلايا، ونجعل بعضها شواء. قال: أفتأكل من أكبادها وأسمنتها، وتتخذ لك الصباغ؟ قال: نعم. قال: ليس هذا عيش آل الخطاب. كان ابن الخطاب يضرب على هذا. أو ما سمعته يقول: أتروني لا أقدر أتخذ أكباداً وأفلاذاً وصلائق وصناباً؟ ألا تراه كيف ينكر أكله، ويستحسن معرفته؟ ثم يقول للذي يليه: أبا فلان، ما أدمك؟ فيقول: الشبارقات والأخبصة والفالوذجات. قال: طعام العجم، وعيش كسرى، ولباب البر بلعاب النحل بخالص السمن - حتى أتى على آخرهم. كل ذلك يقول: بئس العيش هذا! ليس هذا عيش آل الخطاب. كان ابن الخطاب يضرب على هذا.


فلما انقضى كلامه، أقبل عليه بعضهم فقال: يا أبا سعيد، ما أدمك؟ قال: يوماً لبن، ويوماً زيت، ويوماً سمن، ويوماً تمر، ويوماً جبن، ويوماً قفار، ويوماً لحم. عيش آل الخطاب.


ثم قال: قال أبو الأشهب: كان الحسن يشتري لأهله كل يوم بنصف درهم لحماً. فإن غلا، فبدرهم. فلما حبس عطاؤه كانت مرقته بشحم.


ونبئت عن رجل من قريش أنه كان يقول: من لم يحسن يمنع، لم يحسن يعطى؛ وأنه قال لابنه: أي بني، إنك إن أعطيت في غير موضع الإعطاء، أوشك أن تستعطي الناس فلا تعطي.


ثم أقبل علينا فقال: هل علمتم أن اليأس أقل من القناعة وأعز. إن الطمع لا يزال طمعاً، وصاحب الطمع لا ينتظر الأسباب، ولا يعرف الطمع الكاذب من الصادق. والعيال عيالان: شهوة مفسدة، وضرس طحون. وأكل الشهوة أثقل من أكل الضرس. وقد زعموا أن العيال سوس المال، وأنه لا مال لذي عيال. وأنا أقول: إن الشهوة تبلغ ما لا يبلغ السوس، وتأتي على ما يقصر دونه العيال. وقد قال الحسن: ما عال أحد قط عن قصد. وقيل ليشخ من أهل البصرة: مالك لا ينمي لك مال؟ قال: "لأني اتخذت العيال قبل المال، واتخذ الناس المال قبل العيال". وقد رأيت من تقدم عياله ماله، فجبره الإصلاح، ورفده الاقتصاد، وأعانه حسن التدبير. وقال: أر لشهواني تدبيراً، ولا لشره صبراً. وقال إياس بن معاوية: إن الرجل يكون عليه ألف فينفق ألفاً، فيصلح، فتصلح له الغلة. ويكون عليه ألفان، فينفق ألفين، فيصلح، فتصلح له الغلة. ويكون عليه ألفان، فينفق ثلاثة آلاف، فيتبع العقار في فضل النفقة.


وذكر الحديث عن أبي لينة، قال: كنت أرى زياداً وهو أمير، يمر بنا على بغلة في عنقها حبل من ليف مدرج على عنقها.


وكان سلم بن قتيبة يركب بغلة وحده، ومعه أربعة آلاف رابطة. ورآه الفضل بن عيسى على حمار وهو أمير، فقال: بذلة نبي وقعود جبار! ولو شاء أبو سيارة أن يدفع بالعرب على جمل مهري أو فرس عتيق لفعل. ولكنه أراد هدى الصالحين.


وحمل عمر على برذون، فهملج تحته. فنزل عنه. فقال لأصحابه: جنبوني هذا الشيطان. ثم قال لأصحابه: لا تطلبوا العز بغير ما أعزكم الله به.


قد كنت أعجب من بعض السلف حيث قال: ما أعرف شيئاً مما كان الناس عليه إلا الأذان. وأنا أقول ذلك. ولم يزل الناس في هبوط ما ترفعوا بالإسراف، وما رفعوا البنيان للمطاولة. وإن من أعجب ما رأيت في هذا الزمان، أو سمعت، مفاخرة مويس بن عمران لأبي عبيد الله بن سليمان في أيهما كان أسبق إلى ركوب البراذين! وما للتاجر وللبرذون؟ وما ركوب التاجر للبراذين إلا كركوب العرب للبقر! ولو كانوا إذا جلسوا في الخيوش، واتخذوا الحمامات في الدور، وأقاموا وظائف الثلج والريحان، واتخذوا القيان والخصيان، استرد الناس ودائعهم، واسترجعت القضاة أموال الأيتام والحشرية منهم، لعادوا إلى دينهم وعيشهم واقتصادهم. وإذا رآهم أصحاب الغلات، وأهل الشرف والبيوتات، أنفوا أن يكونوا دونهم في البزة والهيئة. فهلكوا وأهلكوا.


زعم أبو يعقوب الخريمي أن جعفر بن يحيى أراد يوماً حاجة كان طريقه إليها على باب الأصمعي، وأنه دفع إلى خادم له كيساً فيه ألف دينار، وقال له: سأنزل في رجعتي إلى الأصمعي. وسيحدثني ويضحكني. فإذا رأيتني قد ضحكت فضع الكيس بين يديه.


فلما دخل فرأى حباً مقطوع الرأس، وجرة مكسورة العروة، وقصعة مشعبة، وجفنة أعشاراً، ورآه على مصلى بال، وعليه بركان أجرد - غمز غلامه بعينه ألا يضع الكيس بين يديه، ولا يدفع إليه شيئاً.


فلم يدع الأصمعي شيئاً مما يضحك الثكلان والغضبان إلا أورده عليه، فما تبسم فقال له إنسان: ما أدري من أي أمر يك أعجب؟ أمن صبرك على الضحك، وقد أورد عليك ما لا يصبر على مثله، أم من تركك إعطاءه، وقد كنت عزمت على إعطائه؟ وهذا خلاف ما أعرفك به! قال: ويلك! من استرعى الذئب فقد ظلم. ومن زرع سبخة حصد الفقر. إني والله لو علمت أنه يكتم المعروف بالفعل، لما ارتفقت بنشره له باللسان. وأين يقع مديح اللسان، من مديح آثار الغنى على الإنسان؟ فاللسان قد يكذب، والحال لا تكذب. لله در نصيب حيث يقول:

 

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهلـه

 

ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

 

أعلمت أن ناووس أبرويز أمدح له من شعر زهير لآل سنان بن أبي حارثة؟ لأن الشاعر يكذب ويصدق، وبنيان لا يكذب مرة ويصدق مرة. فلست بعائد إلى هذا بمعروف أبداً.


كان الأصمعي يتعوذ بالله من الاستقراض والاستقراض. فأنعم الله عليه، حتى صار هو المستقرض منه، والمستفرض ما عنده. فاتفق أن أتاه في يوم واحد رجلان. وكان أحدهما يطلب الفرض، والآخر يطلب القرض. هجما عليه معاً، فأثقله ذلك وملأ صدره! ثم أقبل على صاحب السلف فقال: "تتبدل الأفعال، بتبدل الحال. ولكل زمان تدبير، ولكل شيء مقدار، والله في كل يوم في شأن. كان الفقيه يمر باللقطة، فيتجاوزها ولا يتناولها؛ كي يمتحن بحفظها سواه، إذ كان جل الناس في ذلك الدهر يريدون الأمانة، ويحوطون اللقطة. فلما تبدلوا وفسدوا، وجب على الفقيه إحرازها والحفظ لها، وأن يصبر على ما نابه من المحنة، واختبر به من الكلفة".


"وقد بلغني أن رجلاً أتي صديقاً له يستقرض منه مالاً، فتركه بالباب، ثم خرج إليه مؤتزراً. فقال له: مالك؟ قال: جئت للقتال والطام، والخصومة والصخب. قال: ولم؟ قال: لأنك في أخذ مالي بين حالين: إما أن تذهب به. وإما أن تمطلني به. فلو أخذته على طريق البر والصلة، لاعتددت عليك بحق، ولوجب عليك به شكر. وإذا أخذته من طريق السلف كانت العادة في الديون، والسيرة في الأسلاف، الرد أو التقاضي. وإذا تقاضيتك أغضبتك، وإذا أغضبتك أسمعتني ما أكره، فتجمع على المطل وسوء اللفظ، والوحشة وإفساد اليد في الأسلاف، وأنت أظلم؛ فأغضب كما غضبت. فإذا نقلتني إلى حالك فعلت فعلك، وصرت أنا وأنت كما قال العربي: أنا تئق وصاحبي مئق - فما ظنك بمئق من الغيظ، مملوء من الغضب، لاقى متأقاً من الموق، مملوءاً من الكفران؟ - ولكني أدخل إلى المنزل، فأخرج إليك مؤتزراً، فأعجل لك اليوم ما أخرته إلى غد. وقد علمت أن ضرب الموعظة، دون ضرب الحقد والسخيمة، فتربح صرف ما بين الألمين، وفضل ما بين الشتمين".


"وبعد فأنا أضن بصداقتي لك، وأشح على نصيبي منك، من أن أعرضه للفساد، وأن أعينك على القطيعة. فلا تلمني على أن كنت عندي واحداً من أهل عصرك. فإن كنت عند نفسك فوقهم، وبعيداً من مذهبهم، فلا تكلف الناس علم الغيب فتظلمهم".


ثم قال: "وما زالت العارية مؤداة، والوديعة محفوظة. فلما قالوا: أحق الخيل بالركض المعار، بعد أم كان يقال: أحق الخيل بالصون المعار؛ وبعد المؤمنين قيل لبعضهم: ارفق به، قال: إنه عارية، وقال الآخر: فاقتل! - فسدت العارية، واستد هذا الباب.


ولما قالوا:

 

شمر قميصك واستعد لـنـابـل

 

واحك جبينك للقضـاء بـثـوم

واخفض جناحك إن مشيت تخشعاً

 

حتى تـصـيب وديعة لـيتـيم"

 

"وحين أكلت الأمانات الأمناء والأوصياء، ورتع فيها المعدلون والصارفون، وجب حفظها ودفنها، وكان أكل الأرض لها خيراً من أكل الخئون الفاجر، واللئيم الغادر.


وهذا مع قول أكثم بن صيفي في ذلك الدهر: لو سئلت العارية: أين تذهبين، قالت: أكسب أهلي ذماً".


"وأنا اليوم أنهي عن العارية والوديعة، وعن القرض والفرض، وأكره أن يخالف قولي فعلي. أما القرض فما أنبأتك، وأما الفرض فليس يسعه إلا بيت المال. ولو وهبت لك درهماً واحداً، لفتحت على مالي باباً لا تسده الجبال والرمال، ولو استطعت أن أجعل دونه ردماً كردم ياجوج ومأجوج".


"إن الناس فاغرة أفواههم نحوه من عنده دراهم؛ فليس يمنعهم من النهس إلا اليأس.


وإن طعموا لم تبق راغية ولا ثاغية، ولا سبد ولا لبد، ولا صامت ولا ناطق، إلا ابتلعوه والتهموه!أتدري ما تريد بشيخك؟ إنما تريد أن تفقره. فإذا أفقرته فقد قتلته. وقد تعلم ما جاء في قتل النفس المؤمنة"! فلم أشبه قول الأصمعي لهذا الرجل، حين قال: "أنا أضن بك، وأشح على نصيبي منك من أن أعرضه للفساد"، إلا بقول ثمامة، حين قال لابن سافري: "بالنظر مني أقول لك، والشفقة مني أسبك". وذلك أنه ندم، فرأى أن هذا القول يجعل ذلك منه يداً ونعمة.


وشهدت ثمامة وقد أتاه رجل، قال: لي إليك حاجة، فقال ثمامة: ولي إليك أيضاً حاجة. قال: وما حاجتك؟ قال: لست أذكرها لك، حتى تضمن لي قضاءها. قال: نعم. قال: فحاجتي ألا تسألني هذه الحاجة. قال: إنك لا تدري ما هي؟ قال: بلى، قد دريت. قال: فما هي؟ قال: هي حاجة. وليس يكون الشيء حاجة، إلا وهي تخرج إلى شيء من الكلفة. قال: فقد رجعت عما أعطيتك. قال: لكني لا أرد ما أخذت.فأقبل عليه آخر فقال: لي حاجة إلى منصور بن النعمان. قال: قل. لي حاجة إلى ثمامة بن أشرس؛ لأني أنا الذي أقضي لك الحاجة؛ ومنصور يقضيها لي. فالحاجة أنا أقضيها لك، وغيري يقضيها لي.


ثم قال: فأنا لا أتكلم في الولايات، ولا أتكلم في الدراهم؛ لأن الدراهم من قلوب الناس، ولأن الحوائج تنقض. فمن سألته اليوم أن يعطيك، سألني غداً أن أعطي غيرك. فتعجيلي تلك العطية لك أروح لي. ليس عندي دراهم، ولو كان عندي دراهم، لكانت نوائبي القائمة الساعة تستغرقها. ولكن أؤنب لكم من شئتم. علي لكم من التأنيب كل ما تريدون! قلت له فإذا أتيت رجلاً في أمر لم تتقدم فيه بمسألة، كيف يكون جوابه لك؟ فضحك حتى استند إلى الحائط.


وجاء مرة أبو همام المسوط، يكلمه في مرمة داره التي تطوع ببنائها في رباط عبادان، فقال: ذكرتني الطعن وكنت ناسياً. قد كنت عزمت على هدمها، حين بلغني أن الجبرية قد نزلتها. قال: سبحان الله! تهدم مكرمة وداراً قد وقفتها للسبيل؟ قال: فتعجب من ذا؟ قد أردت أن أهدم المسجد الذي كنت بنيته ليزيد بن هاشم، حين ترك أن يبنيه في الشارع، وبناه في الرائغ، وحين بلغني أنه يخلط في الكلام، ويعين البشرية على المعتزلة. فلو أراده أبو همام، وجد من ثمامة مربداً جميع مساحة الأرض! وكان حين يسوي لك اللفظ، لا ينظر في صلاح المعاني من فسادها.


وتمشى رجل إلى الغاضري، قال: إن صديقك القادمي قد قطع عليه الطريق. قال: فأي شيء تريد؟ قال: أن تخلف عليه. قال: فليس عليه قطع الطريق، بل على قطع! وأتى ابن سكاب الصيرفي صديق له يستلف منه مالاً، فقال: لو شئت أن أقول لقلت، وأن أعتل اعتللت، وأن أستعير بعض كلام من يستلف منه إخوانه فعلت. وليس أرى شيئاً خيراً من التصحيح وقشر العصا، وليس أفعل. فإن التمست لي عذراً، فهو أروح لقلبك، وإن لم تفعل، فهو شر لك.


وضاق الفيض بن يزيد ضيقاً شديداً، فقال: والله ما عندنا من شيء نعول عليه، وقد بلغ السكين العظم. والبيع لا يكون إلا مع طول المدة. والرأي أن ننزل هذه النائبة بمحمد بن عباد، فإنه يعرف الحال، وصحة المعاملة، وحسن القضاء، وما لنا من السبب المنتظر فلو كتبت إليه كتاباً لسره ذلك، ولسد منا هذه الخلة القائمة الساعة.


فتناول القلم والقرطاس ليكتب إليه كتاب الواثق المدل، لا يشك أنه سيتلقى حاجته، بمثل ما كان هو المتلقي لها منه - ومضى بعض من كان في المجلس إلى محمد بن عباد، ليبشره بسرعة ورود حاجة الفيض إليه. فأتاه أمر لا يقوم به. فأمر بالكتابة إليه ليشغله بحاجته إليه، عن حاجته إليه.


فكتب إليه: مالي يضعف، والدخل قليل، والعيال كثير، والسعر غال. وأرزاقنا من الديوان قد احتبست. وقد تفتحت علينا من أبواب النوائب في هذه الأيام، ما لم يكن لنا في حساب. فإن رأيت أن تبعث إلي بما أمكنك فعجل به، فإن بنا إليه أعظم الحاجة فورد الكتاب على الفيض قبل نفوذ كتابه إليه. فلما قرأه استرجع، وكتب إليه: يا أخي، تضاعفت على المصيبة، حتى جمعت خلة عيالك إلى خلة عيالي. وقد كنت على الاحتيال لهم. وسأضطرب في وجوه الحيل غير هذا الاضطراب. وسأتحرك في بيع ما عندي، ولو ببعض الطرح. فلما رجع الكتاب على ابن عباد سكن، وألقي صاحبه في أشد الحركة، وأتعب التعب.


وكان رجل من أبناء الحربية، له سخاء وأريحية. وكان يكثر استزارة ابن عباد، ويتلف عليه من الأموال، من طريق الرغبة في الأدباء، وفي مشايخ الظرفاء. وكان يظن بكرمه أن زيارته ابن عباد في منزله زيادة في المؤانسة. وقد كان بلغه إمساكه، ولكنه لم يظن أنه لا حيلة في سببه. فأتاه يوماً متطرئاً، قال: جئتك من غير دعاء. وقد رضيت بما حضر. قال: فليس يحضر شيء. وقولك: بما حضر، لا بد من أن يقع على شيء! قال: فقطعة مالح، قال: وقطعه مالح ليس هي شيء؟ قال بلى فنحن نشرب على الريق؟ قال: لو كان عندنا نبيذ كنا في عرس. قال: فأنا أبعث إلى نبيذ. قال: فإذا صرت إلى تحويل النبيذ، فحول أيضاً ما يصلح للنبيذ! قال: ليس يمنعني من ذلك، ومن إحضار النقل والريحان، إلا أن أحتسب لك هذه الزورة بدعوة. وليس يجوز ذلك إلا بأن يكون لك فيها أثر.


فقال محمد: فقد انفتح لي باب لكم فيه صلاح، وليس على فيه فساد: في هذه النخلة زوج ورشان. ولهما فرخان مدركان. فإن نحن وجدنا إنساناً يصعدها - فإنها سحيقة منجردة - ولم يطيرا - فإنهما قد صارا ناهضين - جعلنا الواحد طباهجة والآخر جردناجاً، فإنه يوم جردناج! فطلبوا في الجيران إنساناً يصعد تلك النخلة، فلم يقدروا عليه. فدلوهم على أكار لبعض أهل الحربية. فما زال الرسول يطلبه حتى وقع عليه. فلما جاء ونظر إلى النخلة قال: هذه لا تصعد ولا يرتقي عليها إلا بالتبليا والبربند. فكيف أرومها أنا بلا سبب؟ فسألوه أن يلتمس لهم ذلك. فذهب فغبر ملياً. ثم أتاهم به. فلما صار في أعلاها، طار أحدهما، وأنزل الآخر. فكان هو الطباهج والجردناج، وهو الغداء، وهو العشاء! وكتب إبراهيم بن سيابة إلى صديق له يساويه في الأدب، ويرتفع عليه في الحال - وكان كثير المال، كثير الصامت - يستسلف منه بعض ما يرتفق به، إلى أن يأتيه بعض ما يؤمل. فكتب إليه صديقه هذا يعتذر ويقول: إن المال مكذوب له وعليه. والناس يضيفون إلى الناس في هذا الباب ما ليس عندهم. وأنا اليوم مضيق، وليست الحال كما نحب. وأحق من عذر، الصديق العاقل.


فلما ورد كتابه على ابن سبابة، كتب إليه: إن كنت كاذباً، فجعلك الله صادقاً، وإن كنت ملوماً، فجعلك الله معذوراً.