علم العرب في الطعام

قال عمرو الجاحظ: احتجنا عند التطويل، وحين صار طويلاً كبيراً، إلى أن يكون قد دخل فيه من علم العرب وطعامهم، وما يتمادحون به، وما يتهاجون به، شيء وإن قل؛ ليكون الكتاب قد انتظم جمل هذا الباب. ولولا أن يخرج من مقدار شهوة الناس، لكان الخبر عن العرب والأعراب، أكثر من جميع هذا الكتاب.


الطعام ضروب. والدعوة اسم جامع. وكذلك الزلة. ثم منه العرس والخرس والإعذار والوكيرة والنقيعة. والمأدبة اسم لكل طعام دعيت إليه الجماعات.


قال الشاعر:

 

نحن في المشتاة ندعو الجفلى

 

لا ترى الآدب فينا ينتـقـر

 

وجاء في الحديث: القرآن مأدبة الله. وقد زعم ناس أن العرس هو الوليمة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: أولم ولو بشاة. وكان ابن عوف والأصمعي من بعده يذمان عمرو بن عبيد، ويقولون: لا يجيب الولائم، يجعلان طعام الإملاك والأعراس والسبوع والختان وليمة. والعرس معروف. إلا أن المفضل الضبي زعم أن هذا الاسم مأخوذ من قولهم: لا عطر بعد عروس. وكان الأصمعي يجعل العروس رجلاً بعينه، كان بنى على أهله فلم تتعطر له. فسمى بعد ذلك كل بان على أهله بذلك الاسم. ومثل هذا لا يثبت إلا بأن يستفيض في الشعر، ويظهر في الخبر. وأما الخرس فالطعام الذي يتخذ صبيحة الولادة للرجال والنساء. وزعموا أن أصل ذلك مأخوذ من الخرسة. والخرسة طعام النفساء. قالت جارية ولدت حين لم يكن لها من يخدمها ويمارس لها ما يمارس للنفساء: تخرسي، لا مخرسة لك.


وفي الخرسة يقول مساور الوراق:

إذا أسدية ولدت غـلامـاً

 

فبشرها بلؤم في الغـلام

تخرسها نساء بنـي دبـير

 

بأخبث ما يجدن من الطعام

 

وقال ابن قميئة:

شركم حاضر وخـيركـم د

 

ر خروس من الأرانب بكر

 

فالخروس هي صاحبة الخرسة.


والأعذار طعام الختان. يقال: صبي معذور، وصبي معذر، جميعاً. وقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يريد تقاربهم في الأسنان: كنا إعذار عام واحد.


وقال النابغة:

فنكحن أبكاراً وهن بإمة

 

أعجلنهن مظنة الإعذار

 

فزعموا أنهم سموا طعام الإعذار بالإعذار، للملابسة والمجاورة.


كان الأصمعي يقول: قد كان للعرب كلام على معان. فإذا ابتدلت تلك المعاني، لم تتكلم بذلك الكلام. فمن ذلك قول الناس اليوم: ساق إليها صداقها. وإنما كان هذا يقال حين كان الصداق إبلا وغنماً. وفي قياس قول الأصمعي أن أصحاب التمر الذين كان التمر دياتهم ومهورهم، كانوا لا يقولون: ساق فلان صداقه. قال: ومن ذلك قول الناس اليوم:" قد بنى فلان البارحة على أهله". وإنما كان هذا القول لمن كان يضرب على أهله في تلك الليلة قبته وخيمته. وذلك هو بناؤه.


ولذلك قال الأول:

لو نزل الغيث أبنين امرأً

 

كانت له قبة، سحق بجاد

 

وكان الأصمعي يعد من هذا أشياء ليس لذكرها هاهنا وجه.


ومن طعامهم الوكيرة. وهو طعام البناء. كان الرجل يطعم من يبني له. وإذا فرغ من بنائه تبرك بإطعام أصحابه ودعائهم.


ولذلك قال قائلهم:

خير طعام شهد العشـيرة

 

العرس والإعذار والوكيرة

 

ويسمون ما ينحرون من الإبل والجزر من عرض المغنم النقيعة.


قال الشاعر:

إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم

 

ضرب القدار نقيعة القـدام

 

والعقيقة دعوة على لحم الكبش الذي يعق عن الصبي. والعقيقة اسم للشعر نفسه. والأشعار هي العقائق. وقولهم: عقوا عنه، أي احلقوا عقيقته. ويقولون: عق عنه، وعق عليه. فسمى الكبش - لقرب الجوار وسبب المتلبس - عقيقة. ثم سموا ذلك الطعام باسم الكبش.


وكان الأصمعي يقول: لا يقولن أحدكم: أكلت ملة، بل يقول: أكلت خبزة وإنما الملة موضع الخبزة. وكذلك يقول في الراوية والمزادة، يقول: الراوية هو الجمل. وزعموا أنهم اشتقوا الراوية للشعر من ذلك.


فأما الدعاء إلى هذه الأصناف، فمنه المذموم، ومنه الممدوح. فالمذموم النقرى، والممدوح الجفلى. وذلك أن صاحب المأدبة وولى الدعوة، إذا جاء رسوله، والقوم في أحويتهم وأنديتهم، فقالوا: أجيبوا إلى طعام فلان. فجعلهم جفلة واحدة، وهي الجفالة. فذلك هو المحمود. وإذا انتقر فقال: قم أنت يا فلان، وقم أنت يا فلان؛ فدعا بعضاً وترك بعضاً، فقد انتقر.


قال الهذلي:

وليلة يصطلى بالفرث جازرها

 

يخص بالنقرى المثرين داعيها

 

يقول: لا يدعوا فيها أصحاب الثروة وأهل المكافأة. وهذا قبيح.


وقال في ذلك بعض ظرفائنا:

آثر بالجـدي وبـالـمـائدة

 

من كان يرجو عنده الفائدة

لو كان مكوكان في كـفـه

 

من خردل ما سقطت واحدة

 

وقال طرفة بن العبد:

نحن في المشتاة ندعو الجفلى

 

لا ترى الآدب فينا ينتـقـر

 

ولما غزا بسطام بن قيس الشيباني مالك بن المنتفق الضبي، وأثبته عاصم بن خليفة الضبي، شد عليه فطعنه وهو يقول:

وهذا وفي الجفلة لا يدعوني

 

ويروى: في الحفلة لا يدعوني. كأنه حقد عليه، حين كان يدعو أهل المجلس ويدعه.


والطعام المذموم عندهم ضربان: أحدهما طعام المجاوع والحطمات، والضرائك والسباريت، واللئام والجبناء، والفقراء والضعفاء. من ذلك: الفث والدعاع والهبيد والقرامة والقرة والعسوم ومنقع البرم والقصيد والقد والحيات. فأما الفظ فإنه وإن كان شراباً كريهاً، فليس يدخل في هذا الباب. وكذلك المجدوح. فأما الفظ، فإنه عصارة الفرث، إذا أصابهم العطش في المفارز. وأما المجدوح، فإنهم إذا بلغ العطش منهم المجهود، نحروا الإبل، وتلقوا ألبابها بالجفان، كي لا يضيع من دمائها شيء. فإذا برد الدم ضربوه بأيديهم، وجدحوه بالعيدان جدحاً حتى ينقطع، فينعزل ماؤه من ثقله، كما يخلص الزبد بالمخيض، والجبن بالأنفحة، فيتصافنون ذلك الماء، ويتبلغون به، حتى يخرجوا من المفازة.


وقال الشاعر:

لم تأكل الفث والدعاع ولم

 

تجن هبيداً بجنبة مهتبـد

 

وقال أمية بن أبي الصلت:

ولا يتنازعون عنان شرك

 

ولا أقوات أهلهم العسوم

ولا قرن يقزز من طعـام

 

ولا نصب ولا مولى عديم

 

وقال معاوية بن أبي ربيعة الجرمي في الفترة، وهو يعير بني أسد وناسا من هوازن، وهما ابنا القملية:

ألم تر جرمـاً أمـجـدت وأبـوكـم

 

مع الشعر في قص الملبـد شـارع

إذا قرة جاءت يقول: أصيب بـهـا

 

سوى القمل؛ إني من هوازن ضارع

 

والقرامة نحاتة القرون والأظلاف والمناسم وبرادتها. والعلهز القردان؛ ترض وتعجن بالدم. والقرة الدقيق المختلط بالشعر. كان الرجل منهم لا يحلق رأسه إلا وعلى رأسه قبضة من دقيق، للأكل. فهو معيب.


وفي أكل الحيات بقوله ابن مناذر:

فإياكم والـريف لا يقـربـنـه

 

فإن لديه الحيف والموت قاضيا

وهم طردوكم عن بلاد أبـيكـم

 

وأنتم حلول تشتوون الأفاعـيا

 

وقال القطامي في أكلهم القد:

تضيفت في طل وريح تـلـفـنـي

 

وفي طرمساء غير ذات كـواكـب

إلى حيزبون توقد النـار بـعـد مـا

 

تلفعت الظلماء مـن كـل جـانـب

فسلمت، والتسلـيم لـيس يسـرهـا

 

ولكنه حـق عـلـى كـل جـائب

فلما تنازعنا الحـديث سـألـتـهـا

 

من الحي؟ قالت: معشر من محارب

ومن المشتوين القد في كل شـتـوة

 

وإن كان ريف الناس ليس بناضـب

 

وقال الراعي:

بكى منذر من أن يضاف وطـارق

 

يشد من الجوع والإزار على الحشا

إلى ضوء نار يشتوي القد أهلـهـا

 

وقد تكرم الأضياف والقد يشتـوي

 

وقد يضيقون في شراب غير المجدوح والفظ، في المغازي والأسفار؛ فيمدحون من آثر صاحبه، ولا يذمون من أخذ حقه منه. وهو ماء المصافنة. والمصافنة مقاسمة هذا الماء بعينه. وذلك أن الماء إذا نقص عن الري، اقتسموه بالسواء. ولم يكن للرئيس ولا لصاحب المرباع والصفي وفضول المقاسم فضل على أخس القوم. وهذا خلق عام ومكرمة عامة في الرؤساء.


قال الفرزدق:

فلما تصافنا الإداواة أجهـشـت

 

إلى غضون العنبري الجراضم

على ساعة لو أن في القوم حاتماً

 

على جوده ضننت به نفس حاتم

 

وبذلك المذهب من الأثرة، مدح الشاعر كعب بن يمامة، حين آثر بنصيبه رفيقه النمري، فقال:

ما كان من سوقة أسقى على ظمإ

 

خمراً بماء إذا ناجـودهـا بـردا

من ابن مامة كعب، ثم عـي بـه

 

زو المـنـية، إلا حـرة وقـدى

أو في على الماء كعب، ثم قيل له:

 

رد كعب، إنك وراد، فمـا وردا

 

وفي المصافنة يقول الأسدي:

كأن أطيطا يا بنة الـقـوم لم ينـخ

 

قلائص يحكيها الـحني المـنــقح

ولم يسق قومـاً فـارســي علـى الـحصى

 

صبـاب الأداوي والـمطيات جـنح

 

ويزعمون أن الحصاة التي إن غمرها الماء في الإناء كانت نصيب احدهم، تسمى المقلة. وهذا الحرف سمعته من البغداديين. ولم أسمعه من أصحابنا. وقد برئت إليك منه.

 

وقال ابن جحوش في المصافنة:

ولما تعاورنـا الإداوة أجـهـشـت

 

إلى الماء نفس العنبري الجراضـم

وآثرتـه لـمـا رأيت الـذي بـه

 

على النفس، أخشى لاحقات الملاوم

فجاء بجلمـود لـه مـثـل رأسـه

 

 

 

وقد يصيب القوم في باديتهم ومواضعهم، من الجهد ما لم يسمع به في أمة من الأمم، ولا في ناحية من النواحي. وإن أحدهم ليجوع حتى يشد على بطنه الحجارة، وحتى يعتصم بشده معاقد الإزار، وينزع عمامته من رأسه، فيشد بها بطنه، وإنما عمامته تاجه.


والأعرابي يجد في رأسه من البرد إذا كان حاسراً ما لا يجده أحد، لطول ملازمته العمامة، ولكثرة طيها وتضاعف أثنائها. ولربما اعتم بعمامتين. ولربما كانت على قلنسوة حدرية.


وقال مصعب بن عمير الليثي:

سيروا فقد جن الـظـلام عـلـيكـم

 

فباست امرئ يرجو القرى عند عاصم

دفعنا إليه وهـو كـالـذيخ خـاطـيا

 

نشد على أكـبـادنـا بـالـعـمـائم

 

وقال الراعي في ذلك:

يشب لركب منهم مـن ورائهـم

 

فكلهم أمسى إلى ضوئها سـرى

إلى ضوء نار يشتوي القد أهلهـا

 

وقد تكرم الأضياف والقد يشتوى

فلما أناخوا واشتـكـينـا إلـيهـم

 

بكوا وكلا الخصمين مما به بكى

بكى منذر من أن يضاف، وطارق

 

يشد من الجوع الإزار على الحشا

 

ومما يدل على ما هم فيه من الجهد، وعلى امتداحهم بالأثرة قول الغنوي:

لقد علمت قـيس بـن عـيلان أنـنـا

 

نضار، وأنا حيث ركـب عـودهـا

إذا الماء بعد اليوم يمـذق بـعـضـه

 

ببعض، ويبلى شح نفـس وجـودهـا

وأنا مقار حين يبتـكـر الـغـضـى

 

إذا الأرض أمست وهي جدب جنودها

 

وقال في ذلك العجير السلولي:

من النهديات الماء بالماء بعد ما

 

رمى بالمقاري كل قار ومعتم

 

وقال آخر في مثل هذا:

لنا إبـل يروين يومـاً عـيالـنـا

 

ثلاث، فإن يكثرن يوماً فـأربـع

يمدهم بالماء لا مـن هـوانـهـم

 

ولكن إذا ما قـل شـيء يوسـع

على أنها يغشى أولـئك بـيتـهـا

 

على اللحم حتى يذهب الشر أجمع

 

وقال أبو سعيد الخدري: أخذت حجراً فعصبته على بطني من الجوع، وأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله. فلما سمعته وهو يخطب: من يستعف يعفه الله، ومن يستعن يعنه الله، رجعت ولم أسأله.


قال أعرابي: جعت حتى سمعت من مسامعي دوياً. فخرجت أريغ الصبد، فإذا بمغارة، وإذا هو جرو ذئب. فذبحته وأكلته، وادهنت واحتذيت.


ولما قدم المغيرة القادسية على سعد بسبعين من الظهر، وعند سعد ضيق شديد من الحال، نحروها وأكلوا لحومها، وادهنوا بشحومها، واحتذوا جلودها.


وذكر الأصمعي عن عثمان الشحام، عن أبي رجاء العطاردي، قال: لما بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ في القتل، هربنا فاشتوينا فخذ أرنب دفيناً، وألقينا عليها جمالنا. فلا أنسى تلك الأكلة! وكان الأصمعي إذا حدث بهذا الحديث قال: نعم الإدام الجوع، ونعم شعار المسلمين التخفيف.


وذكروا عن عبد الملك بن عمير، عن رجل من بني عذرة، قال: خرجت زائراً لأخوال لي بهجر. فإذا هم في برث أحمر بأقصى هجر، في طلوع القمر. فذكروا أن أتاناً تعتاد نخلة، فترفع يديها، وتعطو بفيها، وتأخذ الحلقان والمنسبتة والمنصفة والمعوة.


فتنكبت قوسي، وتقلدت جفيري. فإذا قد أقبلت. فرميتها، فخرت لفيها. فأدركت، فقورت سرتها ومعرفتها. فقدحت ناري، وجمعت حطي ثم دفنتها. ثم أدركني ما يدرك الشباب من النوم. فما استيقظت إلا بحر الشمس في ظهري. ثم كشفت عنها. فإذا لها غطيط من الودك كتداعي طيء وغطيف وغطفان. ثم قمت إلى الرطب وقد ضربه برد السحر. فجنيت المعوة والحلقان. فجعلت أضع الشحمة بين الرطبتين، والرطبة بين الشحمتين، فأظن الشحمة سمنة ثم سلاءة، وأحسبها من حلاوتها شهدة أحدرها من الطور.


وأنا أتهم هذا الحديث، لأن فيه ما لا يجوز أن يتكلم به عربي يعرف مذاهب العرب. وهو من أحاديث الهيثم.


وقال مديني لأعرابي أي شيء تدعون، وأي شيء تأكلون؟ قال: نأكل ما دب ودرج، إلا أم حبين. فقال المديني: لتهن أم حبين العافية. وقال الأصمعي: تعرق أعرابي عظماً. فلما أراد أن يلقيه - وله بنون ثلاثة - قال له أحدهم: أعطينه. قال: وما تصنع به؟ قال: أتعرقه حتى لا تجد فيه ذرة مقيلاً. قال: ما قلت شيئاً! قال الثاني: أعطينه. قال: وما تصنع به؟ قال أتعرقه حتى لا تدري ألعامه ذلك هو أم للعام الذي قبله. قال: ما قلت شيئاً! قال الثالث: أعطينه. قال: وما تصنع به؟ قال أجعله مخة إدام. قال: أنت له! وقال الآخر:

 

فإنك لم تشبه لقـيطـا وفـعـلـه

 

وإن كنت أطعمت الأرز مع التمر

 

وقال الآخر:

إذا انغاص منها بعضها لم تجد لهـا

 

دوياً لما قد كان منـهـا مـدانـيا

وإن حاولوا أن يشبعوهـا رأيتـهـا

 

على الشعب لا تزداد إلا تـداعـيا

معوذة الإرحال لم توف مـرقـبـاً

 

ولم تمتط الجون الثلاث الأثـافـيا

ولا اجترعت من نحو مـكة سـقة

 

إلينا ولا جازت بها الـعـيس واديا

ولكنها في أصلـهـا مـوصـلـية

 

مجاورة فيضاً من البحـر جـاريا

أتتنا تزيجها الـجـاذيف نـحـونـا

 

وتعقب فيما بـين ذاك الـمـراديا

فقلت: لمن هذي القدور التـي أرى

 

تهيل عليها الريح ترباً وسـافـيا؟

فقالوا: وهل يخفى على كل ناظـر

 

قدور رقـاش، إن تـأمـل رائيا؟

فقلت: متى باللحم عهد قـدوركـم؟

 

فقالوا: إذا ما لـم يكـن عـواريا

من أضحى إلى الأضحى، وإلا فإنها

 

تكون بنسج العنكبوت كـمـا هـيا

فلما استبان الجهد لي في وجوههـم

 

وشكواهم أدخلتهـم فـي عـيالـيا

فكنت إذا ما استشرفوني مـقـبـلا

 

أشاروا جميعـاً لـجة وتـداعـيا

 

ومما قالوا في صفة قدورهم وجفانهم وطعامهم مما أنا كاتبه لك. وهم وإن كانوا في بلاد جدب، فإنهم أحسن الناس حالاً في الخصب. فلا تظنن أن كل ما يصفون به قدورهم وجفانهم وثريدهم وحيسهم باطل.


وحثني الأصمعي قال: سألت المنتجع بن نبهان عن خصب البادية، فقال: ربما رأيت الكلب يتخطى الخلاصة - وهي له معرضة - شبعاً.


وقال الأفوه الأودي:

تهنا لثعلبة بن قيس جـفـنة

 

يأوي إليها في الشتاء الجوع

ومذانب لا تستعـار وخـيمة

 

سوداء عيب نسيجها لا يرقع

وكأنما فيها المذانب حـلـقة

 

ودم الدلاء على دلوج ينزع

 

وقال معن بن أوس، وهو يذكر قدر سعيد بن العاص، في بعض ما يمدحه:

أخو شـتـوات لا تـزال قـدوره

 

تحل على أرجائها ثـم تـرحـل

إذا ما امتطاها الموقدون رأيتـهـا

 

لو شك قراها وهي بالجزل تشعل

سمعت لها لغطاً إذا ما تغطمطت

 

كهدر الجمال رزما حين تجفـل

ترى البازل الكوماء فيها بأسرهـا

 

مقبضة في قعرها ما تجلـجـل

كأن الكهول الشهب في حجراتهـا

 

تغطرش في تيارها حين يحفـل

إذا التطمت أمواجها فـكـأنـهـا

 

غوائب دهم في المحـلة قـبـل

إذا احتدمت أمواجها فـكـأنـمـا

 

يزعزعها من شدة الغل أفـكـل

تظل رواسيها ركـوداً مـقـيمة

 

لمن نابه فيها معـاش ومـأكـل

 

وضاف الفرزدق أبا السحماء سحيم بن عامر أحد بني عمرو بن مرثد، فأحمده، وذكر في إحماده قدره، فقال:

سألنا عن أبي السحماء حتـى

 

أتينا خير مطروق لـسـارى

فقلنا: يا أبا السـحـمـاء إنـا

 

وجدنا الأزد أبعد مـن نـزار

فقام يجر من عـجـل إلـينـا

 

أسابي العنـاس مـع الإزار

وقام إلى سلافة مسـلـحـب

 

رثيم الأنف مربـوب بـقـار

تدور عليهم والقدر تـغـلـي

 

بأبيض من سديف الكوم وارى

كأن تطلع الترعـيب فـيهـا

 

عذارى يطلعن إلى عـذارى

 

وقال الكميت في صفة القدر:

إوز تغـمـس فـي لـجة

 

تغيب مراراً وتطفو مرارا

كأن الغطامط من غلـيهـا

 

أراجيز أسلم تهجو غفارا

وأما ما ذكروا من صفات القدور من تعير بعضهم بعضاً، فهو كما أنشدني محمد بن يسير، قال: لما قال الأول:

إن لنا قدراً ذراعان عرضها

 

وللطول منها أذرع وشبار

 

قال الآخر: وما هذه؟ أخزى اله هذه قدراً! ولكني أقول:

بوأت للورى فـوضـعـتـهـا

 

برابية من بين مـيث وأجـرع

جعلت لها هضب الرجام وطخفة

 

وغولاً أثافي دونها لم تـنـزع

بقدر كأن الليل شحنة قعـرهـا

 

ترى الفيل طافياً لـم يقـطـع

يعجل للأضياف وارى سديفهـا

 

ومن يأتها من سائر الناس يشبع

 

قال أبو عبيدة: ولما قال الفرزدق:

وقدر كحيزوم النعامة أحمشـت

 

بأجذال خشب زال عنها هشيمها

 

قال ميسرة أبو الدرداء: وما حيزوم النعامة؟ والله ما تشبع هذه الفرزدق. ولكني أقول:

وقدر كجوف الليل أحمشت غليها

 

ترى الفيل طافياً لـم يفـصـل

 

وقال عبد الله بن الزبير يمدح أسماء بن خارجة:

ألم تر أن المجد أرسل يبتغي

 

حليف صفاء قابلاً لا يزايله

تخير أسماء بن حصن فبطنت

 

بفعل العلا أيمانه وشمائلـه

 

ومما يجوز في هذا الباب، وإن لم يكن فيه صفة قدر، قول الفرزدق في العذافر ابن زيد، أحد بني تميم اللات بن ثعلبة:

لعمرك ما الأرزاق يوم اكتيالها

 

بأكثر خيراً من خوان العذافر

ولو ضافه الدجال يلتمس القرى

 

وحل على خبازه بالعسـاكـر

بعدة يأجوج ومأجوج جـوعـاً

 

لأشبعهم شهراً غداء العذافـر

 

وقال ابن عبدل في بشر بن مروان بن الحكم:

ولو شاء بشر كان من دون بابـه

 

طماطم سود أو صقالبة حمـر

ولكن بشراً أسهل الباب للـتـي

 

يكون لبشر عندها الحمد والأجر

بعيد مراد العين ما رد طـرفـه

 

حذار الغواشي باب دار ولا ستر

 

وقالوا في مناقضات أشعارهم في القدور، قال الرقاشي:

لنا من عطاء الله دهمـاء جـونة

 

تناول بعد الأقربـين الأقـاصـيا

جعلنا ألالاً والـرجـام وطـفـفة

 

لها، فاستقلت فوقـهـن أثـافـيا

مؤدية عنا حـقـوق مـحـمـد

 

إذا ما أتانا بائس الحـال طـاويا

أتى ابن يسير كي ينفس كـربـه

 

إذا لم يرح وافي مع الصبح غاديا

 

فأجابه ابن يسير فقال:

وثرماء ثلماء النواحي ولا يرى

 

بها أحد عيباً سـوى ذاك بـاديا

ينادي ببعض بعضهم عند طلعتي

 

ألا أبشروا هذا اليسيري جـائيا

 

وقال ابن يسير في ذلك:

قدر الرقاشي لم تنقر بمنـقـار

 

مثل القدور ولم تفتض من غار

لكن قدر أبي حفض إذا نسبـت

 

يوماً ربـيبة آجـام وأنـهـار

 

فاعترض بينهما أبو نواس الحسن بن هانئ الحكمي، يذكر قدر الرقاشي بالهجاء أيضاً، فقال:

ودهماء تثفيها رقاش إذا شـتـت

 

مركــبة الآذان أم عـــيال

يغص بحيزوم البعوضة صدرهـا

 

وتنزلها عفواً بـغـير جـعـال

ولو جئتها ملأى عبيطاً مـجـزلاً

 

لأخرجت ما فيها بعـود خـلال

هي القدر قدر الشيخ بكر بن وائل

 

ربيع اليتامى عام كـل هـزال

 

وقال فيها أيضاً:

رأيت قدور الناس سوداً من الصلـى

 

وقدر الرقاشيين زهراء كـالـبـدر

ولو جئتها ملأى عبيطـاً مـجـزلاً

 

لأخرجت ما فيها على طرف الظفر

يثبتها للمـعـتـفـي بـفـنـائهـم

 

ثلاث كحظ الثاء من نقط الحـبـر

تبين في مـحـراثـهـا أن عـوده

 

سليم صحيح لم يصبه أذى الجـمـر

تروح على حـي الـربـاب ودارم

 

وسعد وتعروها قراضبة الـفـزر

وللحي عمرو نفحة من سجـالـهـا

 

وتغلب والبيض اللهاميم من بـكـر

إذا ما تنادوا بالرحيل سعـى بـهـا

 

أمامهم الحولـى مـن ولـد الـذر

 

وقال بعض التميميين وهو بهجو ابن جبار:

لو أن قدراً بكت من طول ما حبست

 

على الحفوف بكت قدر ابن جبـار

ما مسها دسم مذ فض معـدنـهـا

 

ولا رأت بعد نار القين مـن نـار

 

والشعوبية والآزاد مردية، المبغضون لآل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ممن فتح الفتوح، وقتل المجوس، وجاء بالإسلام، تزيد في خشونة عيشهم، وخشونة ملبسهم، وتنقص من نعيمهم، ورفاغة عيشهم. وهم أحسن الأمم حالاً مع الغيث، وأسوئهم حالاً إذا خفت السحاب. حتى ربما طبق الغث الأرض باكلإ والماء. فعند ذلك يقول المصرم والمقتر: مرعى ولا أكولة، وعشب ولا بعير، وكلاً تيجع له كبد المصرم.


ولذلك قال شاعرهم:

فجنبك الجيوش أبـا زنـيب

 

وجاد على مسارحك السحاب

 

وإذا نظرت في أشعارهم، علمت أنهم قد أكلوا الطيب وعرفوه، لأن الناعم من الطعام لا يكون إلا عند أهل الثراء وأصحاب العيش. فقال زياد بن فياض يذكر الدرمك، وهو الحواري:

ولا قد فتى قيس بن عيلان ماجـداً

 

إذا الحرب هرتها الكماة الفوارس

فقام إلى البرك الهجان بـسـيفـه

 

وطارت حذار السيف دهم قناعس

فصادف حد السيف قباء جلـعـداً

 

فكاست، وفيها ذو غرارين نايس

فأطعمها شحماً ولحماً ودرمـكـاً

 

ولم يثننا عنه النسيم الـحـنـادس

 

وقال:

تظل في درمـك وفـاكـهة

 

وفي شواء ما شئت أو مرقه

 

وقال جرير:

تكلفنـي مـعـيشة آل زيد

 

ومن لي بالمرقق والصناب

 

وقال النمر بن تولب:

لها ما تشتهي، عسل مصفى

 

وإن شاءت فحواري بسمن

 

ومن أشرف ما عرفوه من الطعام - ولم يطعم الناس أحد منهم ذلك الطعام، إلا عبد الله بن جدعان - وهو الفالوذق. مدحه بذلك أمية بن أبي الصلت، فقال:

إلى ردح من الشيزى عليها

 

لباب البر يلبك بالشهـادة

 

ولهم الثريد. وهو في أشرافهم عام. وغلب على هاشم حين هشم الخبز لقومه. وقد مدح به في شعر مشهور، وهو قوله:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه

 

ورجال مكة مسنتون عجاف

 

ومن الطعام الممدوح الحيس. وتزعم مخزوم أن أول من حارس الحيس سويد بن هرمى.
وقال الشاعر:

وإذا تكون شديدة أدعى لـهـا

 

وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

 

والخبز عندهم ممدوح. وكان عبد الله بن حبيب العنبري أحد بني سمرة، يقال له آكل الخبز؛ لأنه كان لا يأكل التمر، ولا يرغب في اللبن. وكان سيد بني العنبر في زمانه. وهم إذا فخروا قالوا: منا آكل الخبز، ومنا مجير الطير يعني ثوب بن شحمة العنبري.


وهم يقدمون اللحم على التمر، ألا تراه يقول:

قرتني عبيد تمرها وقريتـهـا

 

سنام مصراة قليل ركوبـهـا

فهل يستوي شحم السنام إذا شتا

 

وتمر جواثي حين يلقى عسيبها

 

وليس يكون فوق عقر الإبل وإطعام السنام شيء. والعقر هو النجدة، واللبن هو الرسل.


قال الهذلي:

لو أن عندي من قريم رجلاً

 

لمنعوني نجـدة ورسـلا

 

وقال الهزلي:

ألا إن خير الناس رسلاً ونجدة

 

وقال المرار بن سعيد الفقعسي:

لهم إبل لا من ديات ولـم تـكـن

 

مهوراً ولا من مكسب غير طائل

ولكن حماها من شماطيط غـارة

 

خلال العوالي فارس غير مـائل

مخيسه في كل رسـل ونـجـدة

 

ومعروفة ألوانها في المعاقـب

 

وقد وصفوا الثريد، فقال الراعي:

فباتت تعد النجم في مستـحـيرة

 

سريع على أيدى الرجل جمودها

 

وقال آخر:

ثريد كأن السمن في حجراتـه

 

نجوم الثريا أو عيون الضياون

وقال ابن هرم:

إلى أن أتاهم بشيزية

 

تعد كواكبها الشبك

 

وقال كامل بن عكرمة:

فقرب بينهم خـبـزاً ركـودا

 

كساها الشحم ينهمر إنهمـارا

يدف بها غلامـاه جـمـيعـاً

 

تردهما إلى الأرض انهصارا

فأصبح سورهم فيها وعلمـن

 

لو أن العلم صنفهـا شـيارا

 

فهذا في صفة الثريد.


وقال بشر بن أبي خازم:

ترى ودك السديف على لحاهم

 

كلون الرار لبده الصـقـيع

وقال الآخر:

جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه

 

وطيب الدهان رأسه فهـو أنـزع

إذا النفر السود اليمانـون حـاولـوا

 

له حوك برديه أرقوا وأوسـعـوا

وقال الزبير بن عبد المطلب:  

فإنا قد خلقنا إذ خـلـقـنـا

 

لنا الحبراة والمسك الفتيت

ولولا الحمس لم يلبس رجال

 

ثياباً غرة حتـى يمـوتـوا

ثيابهم شـمـال أو عـبـاء

 

بها دنس كما دنس الحميت

 

فميز - كما ترى بين لباس الأشراف وأهل الثروة وغيرهم.


وقال الأعشى:

والمشرف العود فأكنافه

 

ما بين حمران فينصوب

خير لها إن خشيت جحرة

 

من ربها زيد بـن أيوب

متكئاً تـقـرع أبـوابـه

 

يسعى عليه العبد بالكوب

 

وقال أبو الصلت بن ربيعة:

اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفـقـاً

 

في رأس غمدان داراً منك محلالا

 

وليس هذا من باب الإفراط كقول جران العود، حين وصف نفسه وعشيقته فقال:

فأصبح في حيث التـقـينـا غـنـيمةً

 

سوار وخلخال ومـرط ومـطـرف

ومنقطعات من عقـود تـركـنـهـا

 

كجمر الغضى في بعض ما تتخطرف

 

ومن ذلك قول عدي بن زيد:

يا لبينى أوقدي الـنـار

 

إن من تهوين قد حارا

رب نار بت أرقبـهـا

 

تقضم الهندي والغاران

 

وقال الآخر:

أرى في الهوى ناراً لظبية أوقدت

 

يشب ويذكى بعد وهن وقودهـا

تشب بعيدان اليلنجوج مـوهـنـاً

 

وبالرند أحيناً، فـذاك وقـودهـا

 

قد ذكرنا الطعام الممدوح ما هو، وذكرنا أحد صنفي الطعام المذموم.


والصنف الآخر الجزيرة، التي تعاب مجاشع بن درام، وكنحو السخينة التي تعاب بها قريش.


قال خداش بن زهير:

يا شدةً ما شددنا غـير كـاذبة

 

على سخينة لولا الليل والحرم

 

وقال عبد الله بن همام:

إذاً لضربتهم حتى يعودوا

 

بمكة يلعقون بها السخينا

وقال جرير:

وضع الخزير فقيل: أين مجاشع؟

 

فشحا جحافله هجف هـبـلـع

 

والخزير لم يكن من طعامهم. وله حديث. والسخينة كانت من طعام قريش.


وتهجى الأنصار وعبد القيس وعذرة، وكل من كان يقرب النخل - بأكل التمر.


فقال الفرزدق:

لست بسعد على فيه حبرة

 

ولست بعبد حقيبته التمر

 

وتهجا أسد بأكل الكلاب، وبأكل لحوم الناس. والعرب إذا وجدت رجلاً من القبيلة قد أتى قبيحاً، ألزمت ذلك القبيلة كلها. كما تمدح القبيلة بفعل جميل، وإن لم يكن ذلك إلا بواحد منها: فتهجوا قريشاً بالسخينة، وعبد القيس بالتمر، وذلك عام في الحيين جميعاً. وهما من صالح الأغذية والأقوات. كما تهجو بأكل الكلاب والناس، وإن كان ذلك إنما كان من رجل واحد، فلعلك إذا أردت التحصيل تجده معذوراً.


قال الشاعر:

يا فقعسي لما أكلته لمـه

 

لو خافك الله عليه حرمه

فما أكلت لحمه ولا دمه

 

 

 

وقال في ذلك مساور بن هند:

إذا أسدية ولدت غـلامـاً

 

فبشرها بلؤم في الغـلام

تخرسها نساء بنـي دبـير

 

بأخبث ما يجدن من الطعام

ترى أظفار أعقد ملقـات

 

براثنها على وضم الثمـام

 

وقال:

بني أسد عن يمحل العام فقعس

 

فهذا إذاً دهر الكلاب وعامها

 

وقال الفرزدق:

إذا أسدى جاع يوماً ببلـدة

 

وكان سمينا كلبه فهو آكله

 

وتهجى أسد وهذيل والعنبر وبأهلة بأكل لحوم الناس.


قال الشاعر في هذيل:

وأنتم أكلتم سحفة ابن مـخـدم

 

زماناً فما يأمنكم أحـد بـعـد

تداعوا له من بين خمس وأربع

 

وقد نصل الأظفار وانسبأ الجلد

 

وقال حسان فيهم:

إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له

 

فأت الرجيع وسل عن دار لحيان

قوم تواصوا بأكل الجار بينـهـم

 

فالشاة والكلب والإنسـان سـيان

 

وهجا شاعر بلعنبر، وهو يريد ثوب بن شحمة. وفيه حديث:

عجلتم ما صدكم علاجي

 

من العنوق ومن النعاج

حتى أكلتم طفلة كالعاج

 

 

 

ولما عير ثوب بن شحمة بأكل الفتى العنبري لحم المرأة سكت إلى أن نزل هو من الجبل فقال:

يا بنت عمى ما أدراك ما حسبي

 

إذ لا تجن خبيث الزاد أضـلاع

إني لذو مرة تخـشـى بـوادره

 

عند الصباح بنصل السيف قراع

 

فهجا ثوب بن شحمة بأكل لحوم المرأة. وكان ثوب هذا أكرم نفساً عندهم من أن يطعم طعاماً خبيثاً، ولو مات عندهم جوعاً. وله قصص. ولقد أسر حاتماً الطائي، وظل عنده زماناً.


وقال الشاعر يهجوا بأهلة بمثل ذلك:

إن عفاقا أكلته بـاهـلـه

 

تمششوا عظامه وكاهله

وأصبحت أم عفاق ثاكله

 

 

 

وهجيت بذلك أسد جميعاً، بسبب رملة بنت فائد بن حبيب بن خالد بن نضلة، حين أكلها زوجها وأخوها ابو أرب. وقد زعموا أن ذاك إنما كان منهما من طريق الغيظ والغيرة.


فقال ابن دارة ينعى ذلك عليهم:

أفي أن رويتم واحتلبتم شكـيكـم

 

فخرتم، وفيم الفقعسي من الفخر؟

ورملة كانت زوجة لفـريقـكـم

 

وأخت فريق، وهي مخزية الذكر

أبا أرب كيف القـرابة بـينـكـم

 

وإخوانكم من لحم أكفالها العجر؟

 

وقال:

عدمت نساء بعد رملة فائد بني فقعس تأتيكم بأمان

 

وباتت عروسا ثم أصبح لحمها

 

جلا في قـدور بـينـكـم وجــفـان

 

وقال البراء بن ربيعي، أخو مضرس بن ربعي يعير صلتاً - وهو أخوه - فقال:

يا صلت إن محل بيتك منـتـن

 

فارحل فإن العود غير صليب

وإذا دعاك إلى المعاقـل فـائد

 

فاذكر مكان صدارها المسلوب

والآن فادع أبا رجـال، إنـهـا

 

شنعاء لاحـقة بـأم حـبـيب

 

وأبو رجال هذا عمها.


وقال في ذلك معروف الدبيري:

إذا ما ضفت ليلا قفعـسـيا

 

فلا تطعم له أبداً طعـامـا

فإن اللحم إنسـان فـدعـه

 

وخير الزاد ما منع الحراما

 

وهذا الباب يكثر ويطول. وفيما ذكرنا دليل على ما قصدنا إليه من تصنيف الحالات. فإن أردته مجموعاً فاطلبه في كتاب الشعوبية، فإنه هناك مستقصىً.


والأعرابي إذا أراد القرى ولم ير ناراً نبح، فيجاوبه الكلب، فيتبع صوته.


ولذلك قال الشاعر:

ومسنتنبح أهل الثرا يطلب القرى

 

إلينا وممساه من الأرض نازح

 

وقال الآخر:

عوى حدس والليل مستحلس الندى

 

لمستنبح بين الرميثة والحصـر

 

ويدلك على أنه ينبح وهو على راحلته لينبحه الكلب، قول حميد الأرقط:

وعاو عوى والليل مستحلس الندى

 

وقد زحفت للغور تالية النـجـم

 

فمنهم من يبرز كلبه ليجيب، ومنهم من يمنعه ذلك. قال زياد الأعجم، وهو يهجو بني عجل:

وتكلم كلب الحي من خشية القرى

 

وقدرك كالعذراء من دونها ستر

 

وقال آخر:

نزلنا بعمار فأشلي كـلابـه

 

علينا فكدنا بين بيتيه نؤكـل

فقلت لأصحابي أسر إليهـم:

 

إذا اليوم أم يوم القيامة أطول

 

وقال آخر:

أعددت للضيفان كلبـاً ضـارياً

 

عندي وفضل هراوة من أرزن

 

وقال أعشى بن تغلب:

إذا حلت معاوية بن عمرو

 

على الأطواء خنقت الكلابا

 

وأنشدني ابن الأعرابي، وزعم أنه من قول المجنون:

ونار قد رفعت لغير خـير

 

رجاه لمن تأوبني الرعـا

تأوبني طويل الشخص منهم

 

يجر ثقاله يرجو العـشـا

فكان عشاءه عندي خـزير

 

بتمر مهينة فيه الـنـوى

 

وقال في خلاف ذلك حسان بن ثابت:

أولاد جفنة حول قبر أبـيهـم

 

قبر ابن مارية الكريم المفضل

يغشون حتى ما تهر كلابـهـم

 

لا يسألون عن السواد المقبـل

 

وقال المرار الحماني في كلبه:

ألف الناس فما ينبـحـهـم

 

من أسيف يبتغي الخير وحر

 

وقال عمران بن عصام:

لعبد العزيز على قـومـه

 

وغيرهم منن غـامـره

فبابك ألـين أبـوابـهـم

 

ودارك مأهولة عامـرة

وكلبك آنس بالمعـتـفـين

 

من الأم بابنتهـا الـزائره

وكفك حين ترى السائلـي

 

ن أندى من الليلة الماطرة

 

وفي أنس الكلاب بالناس لطول الرؤية لهم شعر كثير.


وقال الشاعر:

يا أم عمرو أنجزي المـوعـودا

 

وارعي بذاك أمانة وعـهـودا

ولقد طرقت كلاب أهلك بالضحا

 

حتى تركت عقورهن رقـودا

يضربن بالأذناب من فرج بـنـا

 

متـوسـدات أذرعـا وخـدودا

وقال ذو الرمة:

رأتني كلاب الحي حتى ألـفـنـي

 

ومدت نسوج العنكبوت على رحلي

 

وقال الآخر:

بات الحويرث والكـلاب تـشـمـه

 

وسرت بأبيض كالهلال على الطوى

 

هذا البيت يدخل في هذا الباب.


وقال الآخر:

لو كنت أحمل خمراً يوم زرتكـم

 

لم ينكر الكلب أني صاحب الدار

لكن أتيت وريح المسك تفغمنـي

 

والعنبر الورد أذكيه على النـار

فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني

 

وكان يعرف ريح الزق والقـار

 

وقال هلال بن خثعم:

إني لعف عن زيارة جارتـي

 

وإني لمشنوء إلى اغتيابـهـا

إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها

 

زءوراً ولم تأنس إلى كلابها

وما أنا بالداري أحاديث بيتهـا

 

ولا عالم في أي حوك ثيابها

 

وقال ابن هرمة في فرح الكلب بالضيف لعادة النحر:

وفرحة من كلاب الحي يتبعـهـا

 

محض يزف به الراعي وترعيب

 

وقال ابن هرة:

ومستنبح نبهت كلبـي لـصـوتـه

 

فقلت له: قم بالـيفـاع فـجـاوب

فجاء خفي الشخص قد رامه الطوى

 

بضربة مسنون الغرارين قاضـب

فرحبت واستبشـرت حـين رأيتـه

 

وتلك التي ألقى بهـا كـل ثـائب

 

وفي منع الكلب من النباح يقول الراعي في الحطيئة:

إلا قبح الله الحطيئة إنـه

 

على كل ضـيف ضـافـه فهـو سالح

دفعت إليه وهو يخنق كلبهألا كل كلب لا أبا لك! نابح

 

 

بكيت على مذق خبيث قريته

 

ألا كل عبـسـي على الزاد نائح

 

وقد قالوا في صفة أبواب أهل المقدرة والثروة، إذا كانوا يقومون بحق النعمة. قال الرجز:

إن الندى حيث ترى الضغاطا

 

وقال الآخر:

يزدحم الناس علـى بـابـه

 

والشرع السهل كثير الزحام

 

وقال الآخر:

وإذا افتقرت رأيت بابك خالـياً

 

وترى الغني يهدي لك الزوارا

 

وليس هذا من الأول، إنما هذا مثل قوله:

ألم تر بيت الفقر يهجر أهله

 

وبيت الغني يهدي له ويزار

 

وهذا مثل قوله:

إذا ما قل مالك كنت فرداً

 

وأي الناس زوار المقل

 

والعرب تفضل الرجل الكسوب، والغر الطلوب؛ ويذمون المقيم الفشل، والدثر والكسلان. ولذلك قال شاعرهم وهو يمدح رجلاً:

شتى مطالبه، بعـيد هـمـه

 

جواب أودية، برود المضجع

 

ومدح آخر نفسه فقال:

فإن تأتيني في الشتاء وتلمسـا

 

مكان فراشي فهو بالليل بارد

 

وقال آخر:

إلى ملك لا ينقض النأي عزمه

 

خروج تروك للفراش الممهد

وقال الآخر:

فذاك قصير الهم يملأ عزمـه

 

من النوم إذ ملقى فراشك بارد

 

وقال الآخر:

أبيض بسام برود مضجعه

 

اللقمة الفرد مراراً تشبعه

 

وهم يمدحون أصحاب النيران، ويذمون أصحاب الإخماد.


قال الشاعر:

له نار تشب بـكـل ريع

 

إذا الظلماء جللت اليفاعا

وما إن كان أكثرهم سواماً

 

ولكن كان أرحبهم ذراعا

 

وقال مزرد بن ضرار:

فأبصر ناري وهي شقراء أوقدت

 

بعلياء نشر للعيون الـنـواظـر

 

جعلها شقراء، ليكون أضوء لها. وكذلك النار إذا كان حطبها يابساً كان أشد لحمرة ناره. وإذا كثر دخانه قل ضوءه.
وقال الآخر:

ونار كسجر العود يرفع ضوءها

 

مع الليل هبات الرياح الصوارد

 

وكلماكان موضع النار أشد ارتفاعاً، كان صاحبها أجود وأمجد، لكثرة من يراها من البعد. ألا ترى النابغة الجعدي حين يقول:

منع الغدر فلم أهمم بـه

 

وأخو الغدر إذا هم فعل

خشية الله وأني رجـل

 

إنما ذكرى كنار بقبـل

 

وقالت الخنساء السلمية:

وإن صخراً لتأتم الهداة به

 

كأنه علم في رأسه نار

 

وليس يمنعني من تفسير كل ما يمر إلا اتكالي على معرفتك. وليس هذا الكتاب نفعه إلا لمن روى الشعر والكلام، وذهب مذاهب القوم، أو يكون قد شدا منه شدواً حسناً.


ومما يدل على كرم القوم أيمانهم الكريمة، وأقسامهم الشريفة. قال معدان بن جواس الكندي:

إن كان ما بلغت عني فلامنـي

 

صديقي وحزت من يدي الأنامل

وكفنت وحدي منذراً في ردائه

 

وصادف حوطاً من أعادي قاتل

 

وقال الأشتر، مالك بن الحارث في مثل ذلك أيضاً:

بقيت وحدي وانحرفت عن العلا

 

ولقيت أضيافي بوجه عبـوس

إن لم أشن على ابن حرب غارة

 

لم تخل يوماً من نهاب نفـوس

خيلاً كأمثال السعالـي شـذبـاً

 

تغدو ببيض في الكريهة شوس

حمى الحديد عليهم فـكـانـت

 

لمعان برق أو شعاع شمـوس

 

وقال ابن سيحان:

حرام كنتي منـي بـسـوء

وأذكر صاحبي أبداً بذام

لقد أحرمت ود بني مطـيع

حرام الدهن للرجل الحرام

وحرهم الذي قـد سـتـروه

ومجلسهم بمعتلج الظلام

وإن جنف الزمان مددت حبلاً

متيناً من حبال بني هشام

وريق عودهم أبـداً رطـيب

إذا ما أغبر عيدان اللئام