مقدمة الحكواتي

كتاب البخلاء

لأبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني اللّيثي البصري المعروف بالجاحظ

المولود في البصرة عام 159 هـ والمتوفي عام 255 هـ

 

هو إمام البلاغة المشهور وصاحب الكتب الممتعة، من أشهرها "كتاب الحيوان" و"البيان والتبيين" و"كـتاب البـخـلاء" وغيرها. 

توفي وقد نيّف على التّسعين سنة. اسمه أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني اللّيثي البصري. له مقالة في أصول الدّين وإليه تُنسَب الجاحظية التّي تشكّل إحدى فرق المعتزلة التي كان لها ركنًا بارزًا من أركانها. 

كان تلميذ أبي إسحق إبراهيم بن سيار البلخي، المعروف بالنّظام المتكلّم المشهور. من مذهبه أن المعارف كلّها طباعًا وليس بشيء من ذلك من أفعال العباد، وليس للعباد سوى الإرادة. قال في أهل النار إنّهم لا يخلدون فيها عذاباً بل يصيرون إلى طبيعة النار. ومذهبه مذهب الفلاسفة المعتزلة في نفي الصّفات وفي إثبات القدر، خيره وشرّه. وقال إنّ الناس محجوبون بمعرفتهم، وهم صُنفان: عالِمٌ بالتّوحيد وجاهِلٌ به. فالجّاهل معذور والعالم محجوج ومن انتحل دين الإسلام، فإن اعتقد أن اللّه تعالى ليس بجسمٍ ولا بصورةٍ ولا يُرَى بالأبصار وهو عدل لا يجور ولا يريد المعاصي.. وبعد الإعتقاد والتّبيين أقرّ بذلك كلّه. فهو مسلم حقًا. وإن عرف ذلك كله ثم جحده وأنكره أو دان بالتشبيه والجبر فهو مشرك كافر حقًا. وإن لم ينظر في شيء من ذلك واعتقد أن اللّه تعالى ربه وأن محمدًا رسول اللّه فهو مؤمن لا لوم عليه ولا تكليف عليه غير ذلك. 

احتل الجاحظ في دنيا الأدب والعلم مكان الصدارة، فهو رائد المدرسة الأدبيّة الشعبية التي تناولت مختلف طبقات الناس، بعد أن كانت المدرسة الأدبية الأرستقراطية هي السائدة مع ابن المقفع، وتقتصر على الحديث عن الملوك والأمراء، فأصبحت مع الجاحظ تتناول العامة من الناس، لا تستثني منهم أحدًا. 

تمتاز مدرسة أبي عثمان الأدبية بأسلوبٍ عُرِف باسمه، يقوم على التّنوع اللّفظي والإستطراد من موضوعٍ إلى آخر والإسهاب والبُعد عن الصناعة اللّفظية والإرسال، لإعتقاده أنّ الألوان البديعية من سجع وطباق وجناس تقيد الفكرة وتُلهي القارئ بألاعيبها عن المعنى. لكنّه استعاض عن هذه الألوان بحسن تزاوج الألفاظ والإكثار من المترادفات، فحقّق بذلك نوعًا من التّناغم الموسيقيّ. 

وقد نظر البعض إلى الإستطراد عند الجاحظ على انّه نقطة ضعفٍ في أدبه ولكنّ أبا عثمان اعتمده حتى يزيل الملل من ذهن القارئ. فالإستطراد، وبخاصّة في المواضيع العلمية، كان أشبه بمحطّة استراحة. 

والجاحظ المعتزلي كان يؤمن بسيادة العقل ويدعو إلى العمل بأحكامه لا بأحكام الحواس التي قد تخطئ فيقول: "لا تذهب إلى ما تريك العين واذهب إلى ما يريك العقل". والرّوح الجاحظية ضَرْب مثلٍ بالظّرف والكياسة، جعلته خفيف الظّل، حاضر النّكتة. 

ومجمل القول في الجاحظ إنّه أديب العربية الكبير، جمع إلى طول باعيه في الأدب الرّفيع العالِم الذي انتقد نظريات المعلّم الأول أرسطو، ولم يقر رأيًا علميًا إلاّ بعد إخضاعه للتّجربة والمراقبة. ولو عاش اليوم في عصرنا، عصر المختبرات العلمية المختلفة، لكان من كبار العلماء إلى جانب كونه من كبار الأدباء.

قال ياقوت الحموي في "معجم الأدباء": (( أبو عثمان الجاحظ مولى أبي القلمس عمرو بن قلع الكناني ثم الفقمي أحد النسابين، قال يموت بن المزرع: الجاحظ خال أمي، وكان جد الجاحظ أسود يقال له فزارة، وكان جمالاً لعمرو بن قلع الكناني. وقال أبو القاسم البلخي: الجاحظ كناني من أهل البصرة، وكان الجاحظ من الذكاء وسرعة الخاطر والحفظ بحيث شاع ذكره، وعلا قدره، واستغنى عن الوصف.

قال المرزباني: حدث المادي قال: حدثني من رأى الجاحظ يبيع الخبز والسمك بسيحان. قال الجاحظ: أنا أسن من أبي نواس بسنة، ولدت في أول سنة خمس ومائة وولد في آخرها. مات الجاحظ سنة خمس وخمسين ومائتين في خلافة المعتز وقد جاوز التسعين، سمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن الأخفش أبي الحسن وكان صديقه، وأخذ الكلام عن النظام، وتلقف الفصاحة من العرب شفاهاً بالمربد. وحدثت أن الجاحظ قال: نسيت كنيتي ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت لهم: بم أكنى؟ فقالوا: بأبي عثمان.

وحدث أبو هفان قال: لم أر قط ولا سمعت من أب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائناً ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر. والفتح بن خاقان، فإنه يحضر لمجالسة المتوكل، فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتاباً من كمه أو خفه وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عوده إليه حتى في الخلاء وإسماعيل بن إسحاق القاضي فإني ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر في كتاب، أو يقلب كتباً أو ينفضها. وقال المرزباني: قال أبو بكر أحمد بن علي: كان أبو عثمان الجاحظ من أصحاب النظام، وكان واسع العلم بالكلام، كثير التبحر فيه شديد الضبط لحدوده، ومن أعلم الناس به وبغيره من علوم الدين، وله كتب كثيرة مشهورة جليلة في نصرة الدين، وفي حكاية مذهب المخالفين، وفي الآداب والأخلاق، وفي ضروب من الجد والهزل، وقد تداولها الناس وقرؤوها وعرفوا فضلها. وإذا تدبر العاقل المميز أمر كتبه علم أنه ليس في تلقيح العقول وشحذ الأذهان، ومعرفة أصول الكلام وجواهره، وإيصال خلاف الإسلام ومذاهب الاعتزال إلى القلوب - كتب تشبهها، والجاحظ عظيم القدر في المعتزلة وغير المعتزلة من العلماء الذين يعرفون الرجال ويميزون الأمور.

قال المرزباني: وكان الجاحظ ملازماً لمحمد بن عبد الملك خاصاً به، وكان منحرفاً عن أحمد بن أبي دؤاد للعداوة بين أحمد ومحمد. ولما قبض على محمد هرب الجاحظ فقيل له: لم هربت؟ فقال: خفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور، يريد ما صنع بمحمد، وإدخاله تنور حديد فيه مسامير كان هو صنعه ليعذب الناس فيه، فعذب هو فيه حتى مات - يعني محمد بن الزيات -.

وحدث علي بن محمد الوراق قال: من كتاب الجاحظ إلى ابن الزيات: لا والله، ما عالج الناس داءً قط أدوى من الغيظ، ولا رأيت شيئاً هو أنفذ من شماتة الأعداء، ولا أعلم باباً أجمع لخصال المكروه من الذل، ولكن المظلوم ما دام يجد من يرجوه، والمبتلى ما دام يجد من يرثي له، فهو على سبب درك وإن تطاولت به الأيام، فكم من كربة فادحة، وضيقة مصمتة قد فتحت أقفالها وفككت أغلالها، ومهما قصرت فيه فلم أقصر في المعرفة بفضلك، وفي حسن النية بيني وبينك، لا مشتت الهوى، ولا مقسم الأمل، على تقصير قد احتملته، وتفريط قد اغتفرته، ولعل ذلك أن يكون من ديون الإدلال وجرائم الإغفال، ومهما كان من ذلك فلن أجمع بين الإساءة والإنكار، وإن كنت كما تصف من التقصير وكما تعرف من التفريط، فإني من شاكري أهل هذا الزمان، وحسن الحال. متوسط المذهب، وأنا أحمد الله على أن كانت مرتبتك من المنعمين فوق مرتبتي في الشاكرين، وقد كانت علي بك نعمة أذاقتني طعم العز، وعودتني روح الكفاية، ولوت هذا الدهر وجهده، ولما مسخ الله الإنسان قرداً وخنزيراً ترك فيهما مشابه من الإنسان، ولما مسخ زماننا لم يترك فيه مشابه من الأزمان.

وقال أبو عثمان: ليس جهد البلاء مد الأعناق وانتظار وقع السيف، لأن الوقت قصير، والحين معمور، ولكن جهد البلاء أن تظهر الخلة وتطول المدة، وتعجز الحيلة، ثم لا تعدم صديقاً مؤنباً، وابن عم شامتاً، وجاراً حاسداً، وولياً قد تحول عدواً، وزوجة مختلعة، وجارية مسبعة، وعبداً يحقرك، وولداً ينتهرك.

قال أبو عثمان عمرو بن بَحْر رحِمه الله

اللهم إنّا نَعوذ بك من فِتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلُّف لما لا نُحِسن كما نعوذ بك من العُجْب بما نحسن، ونعوذ بك من السَّلاطة والهَذَر، كما نعوذ بك من العِيّ والحَصَر، وقديماً ما تَعَوَّذُوا بالله من شرّهما، وتضرَّعوا إلى الله في السلامة منهما، وقد قال النَّمر بن تولب:

أعِذْنِي ربِّ من حصَرٍ وعِيّ

 

ومن نَفْسٍ أعالجُهَا عِلاجَـا

وقال الهُذَليّ:

ولا حَصِرٌ بخُطَبتِـهِ

 

إذا ما عَزَّتِ الخُطَبُ

وقال مكّيُّ بنُ سَوادة:

حَصِرٌ مُسْهَبٌ جرِيء جَـبـانٌ

 

خيرُ عِيِّ الرجال عِيّ السُّكوت

وقال الآخر:

مَليٌّ بِبُهْرٍ والتفَاتٍ وسَعْـلةٍ

 

ومسحةِ عُثْنونٍ وفتل أصابِع

ومما ذمُّوا به العِيَّ قولُه:

وما بيَ مِن عِيٍّ ولا أنطقُ الخَـنَـا

 

إذا جمع الأقوامَ في الخطب مَحْفِلُ

وقال الراجز وهو يمتَحُ بدلوه:

علقتُ يا حارثُ عند الوِردِ

 

بجابئ لا رَفِلِ التَّـردي

ولا عَيِيّ بابْتنِاءِ المجـدِ

 

 

وهذا كقول بشّارٍ الأعْمى:

وعِيُّ الفَعَالِ كعِيّ المـقـال

 

وفي الصّمت عِيٌّ كعِيّ الكلمْ

وهذا المذهب شبيهٌ بما ذهَبَ إليه شُتَيْم بن خُويلد في قوله:

ولا يَشعبون الصَّدْع بعـد تـفـاقُـمٍ

 

وفي رِفق أيديكم لِذِي الصَّدْع شاعبُ

ومثل هذا قول زَبَّان بن سَيّار:

ولسـنـا كـأقـوامٍ أجـدُّوا رِيَاسة

 

يُرَى مالُها ولا يُحَسُّ فـعَـالُـهـا

يُرِيغون في الخِصْبِ الأمورَ ونفعهمْ

 

قليلٌ إذا الأموالُ طال هُـزالُـهـا

وقُلْنا بلا عِيّ وسْسّـنـا بـطـاقةٍ

 

إذا النارُ نارُ الحربِ طال اشتعالُها

 

لأنَّهم يجعلون العجزَ والعِيّ من الخُرْق، كانا في الجوارح أم في الألسنة، وقال ابن أحمر الباهليّ:

لو كنتُ ذا علمٍ علمتُ وكيف لي

 

بالعلم بـعـد تَـدَبُّـرِ الأمـرِ

وقالوا في الصمت كقولهم في المنطق، قال أُحَيْحَة بن الجُلاح: مجزوء الكامل

والصمت أجْمَل بالفتى

 

ما لم يكن عِيٌّ يَشينُهْ

والقول ذو خَطَـل إذا

 

مَا لم يكن لُبٌّ يُعينُـهْ

وقال مُحرِزُ بن علقمة:

لقد وارَى المقابرُ من شَرِيكٍ

 

كثِيرَ تحلُّمٍ وقـلـيلَ عـابِ

صموتاً في المجالس غير عَيٍّ

 

جديراً حين ينطق بالصّوابِ

وقال مكّيُّ بنُ سوادةَ:

تسَلَّمَ بالسُّكوت مـن الـعـيوب

 

فكان السَّكْتُ أجلَبَ للـعـيوبِ

ويرتجلُ الكـلامَ ولـيس فـيه

 

سوى الهَذَيانِ من حَشْدِ الخطيبِ

وقال آخر:

جَمَعْتَ صنوف العِيِّ من كلِّ وِجهَةٍ

 

وكنتَ جديراً بالبلاغة من كَـثَـبْ

أبوكَ مُعِمٌّ في الكـلام ومُـخْـوَِلٌ

 

وخالك وثّابُ الجراثيمِ في الخُطَبْ

وقال حُمَيدُ بن ثورٍ الهلاليّ:

أتانا ولم يعدِلْهُ سحبـانُ وائلٍ

 

بياناً وعلماً بالذي هو قـائلُ

فما زال عنه اللَّقْمُ حتَّى كأنه

 

من العِيِّ لما أنْ تكلّمَ باقلُ

سحْبانُ مثَلٌ في البيان، وباقِلٌ مثل في العِيّ، ولهما أخبارٌ، وقال الآخر:

ماذا رُزِينا منـكِ أمَّ الأسْـودِ

 

من رَحَبِ الصَّدرِ وعقلٍ مُتْلَد

وهي صنَاعٌ باللسانِ والـيدِ

 

 

وقال آخر:

لو صَخِبَتْ شَهْرينِ دأْباً تَمَـلّ

 

وجَعلَتْ تُكثر من قولٍ وَبَلْ

حبُّكَ للباطل قِدْماً قد شَغَـلْ

 

كسْبَكَ عن عِيالنا، قلتُ: أجَلْ

تضجُّراً مِنَّي وعِيّاً بالحِـيَلْ

 

 

قال: وقيل لبُزُرْجِمِهْرَ بن البختكان الفارسيّ: أيُّ شيءٍ أستَر للعَيِّ؟ قال: عقلٌ يجمِّله، قالوا: فإن لم يكن له عقلٌ، قال: فمالٌ يستره،قالوا: فإن لم يكن له مال قال: فإخوانٌ يعبِّرون عنه، قالوا: فإن لم يكن له إخوانٌ يعبرون عنه قال: فيكون عيِيّاً صامتاً، قالوا: فإن لم يكنْ ذا صَمْت، قال: فموت وحيٌّ خيرٌ له من أن يكونَ في دار الحياة، وسأل اللّه عزّ وجلّ موسى بنُ عمران، عليه السلام، حين بعثه إلى فرعونَ بإبلاغ رسالته، والإبانةِ عن حجّته، والإفصاح عن أدِلّته، فقال حين ذكر العُقْدة التي كانت في لسانه، والحُبْسةَ التي كانت في بيانه: "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي" طه: 72، وأنبأنا اللّهُ تبارك وتعالى عن تعلُّق فرعونَ بكلِّ سببٍ، واستراحته إلى كل شَغَب، ونبَّهنا بذلك على مذهبِ كلِّ جاحدٍ معاند، وكلِّ مُحْتالٍ مكايِد، حينَ خبَّرنا بقوله: "أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يكادُ يُبِينُ" الزخرف: 25، وقال موسى عليه السلام: "وَأخي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسانَاً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُني" القصص:43، وقال: "وَيَضيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنْطَلقُ لِسَانِي" الشعراء: 31، رغبةً منه في غاية الإفصاح بالحجّة، والمبالغةِِ في وضوح الدَّلالة؛ لتكون الأعناقُ إليه أَمْيَلَ، والعقولُ عنه أفهمَ، والنفوسُ إليه أسرع، وإن كان قد يأتي من وَرَاءِ الحاجة، ويَبْلغ أفهامَهم على بعض المشقّة، وللَّهِ عزّ وجلّ أن يمتحِنَ عبادَه بما شاء من التخفيف والتّثقيل، ويبلُوَ أخبارَهم كيف أحَبَّ من المحبوب والمكروه، ولكلِّ زمانٍ ضرب من المصلحة ونوعٌ من المِحْنة، وشكلٌ من العبادة، ومن الدَّليل على أنّ اللّه تعالى حَلّ تلك العقدة، وأطلق ذلك التعقيد والحُبْسة، قولُه: "رَبِّ اشْرَحْ لي صَدْرِي، وَيَسِّر لي أمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَل لي وَزِيراً منْ أهْلِي هَارُونَ أَخي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي" طه: 52-23 إلى قوله: "قَدْ أُوتِيتَ سُؤلَكَ يَا مُوسَى" طه: 63، فلم تقع الاستجابة على شيءٍ من دعائه دون شيء، لعُموم الخبر، وسنقُول في شأنِ موسى عليه السلام ومسألتِه، في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللّه، وذكر اللّهُ تبارك وتعالى جميلَ بلائه في تعليم البيان، وعظيمَ نِعمته في تقويم اللسان، فقال: "الرَّحْمنُ، عَلَّمَ القُرْآنَ، خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ" الرحمن: 1-4، وقال تعالى: "هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ" آل عمران:831، ومدح القرآنَ بالبيان والإفصاح، وبِحسن التَّفصيل والإيضاح، وبجودة الإفهام وحكمة الإبلاغ، وسماه فرقاناً كما سمّاه قرآناً، وقال: "عَرَبِيّ مُبِين" النحل:301، وقال: "وَكَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً" الرعد: 73، وقال: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تبْياناً لكُلِّ شَيْءٍ" النحل: 98 وقال: "وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً" الإسراء: 21، وذكر اللّه عزّ وجلّ لنبيّه عليه السلام حالَ قريش في بلاغةِ المنطق، ورجاحة الأحلامِ، وصحّة العقول، وذكر العربَ وما فيها من الدَّهاء والنَّكْراء والمَكْر، ومن بلاغة الألسنة، واللّدَدِ عند الخُصومة، فقال تعالى: "فَإذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ" الأحزاب:91، وقال: "وتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً" مريم: 79، وقال: "وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِِهِِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ" البقرة:402، وقال: "ءَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لكَ إلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ" الزخرف: 85، ثم ذكَر خلابةَ ألسنتهم، واستمالتَهم الأسماعَ بِحُسنِ منطقهم، فقال: "وَإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقوْلهِمْ" المنافقون: 4، ثمَّ قال: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الْحياةِ الدُّنْيَا" البقرة: 402 مع قوله: "وَإذَا تَوَلّى سَعَى في الأرْض لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ" البقرة: 502، وقال الشاعر في قوم يُحسنون في القول ويسيئون في العمل، قال أبو حفص: أنشدني الأصمعيّ للمكَعْبَر الضَّبّيّ:  

كُسالى إذا لاقيتَهم غيرَ منطقٍ

 

يُلَهَّى بِه المحروبُ وهو عناءُ

 

وقيل لزُهمان: ما تقول في خُزاعة؟ قال: جوعٌ وأحاديث وفي شبيه بهذا المعنى قال أُفنون بن صُرَيم التغلبيّ:

لو أنّني كنتُ مِـن عـادٍ ومـن إرَمٍ

 

غذِيَّ قَيل ولـقـمـانٍ وذي جَـدَنِ

لَمَا وقَوْا بـأخـيهـم مـن مـهُـوِّلَةٍ

 

أخا السَّكونِ ولا حادُوا عن السَّـنَـنِ

أنَّى جَزَوْا عامراً سُوءَى بفِعـلـهِـمُ

 

أم كيفَ يَجزُونني السُّوءَى من الحَسَن

أمْ كيفَ ينفَعُ ما تُعطِي العَلُـوقُ بـه

 

رئمَانُِ أنفٍ إذا ما ضُنَّ بـالـلَّـبـنِ

 

رئمان، أصله الرّقة والرّحمة، والرَّؤُوم أرقُّ من الرؤوف، فقال: رئمان أنف، كأنها تَبَرُّ ولدَها بأنفها وتمنعُه اللبن، ولأنّ العربَ تجعلُ الحديثَ والبَسط، والتأنيس والتلَقِّيَ بالبشر، من حقوق القِرَى ومن تمام الإكرام به، وقالوا: مِن تمام الضِّيافةِ الطَّلاقةُ عند أوّلِ وَهْلة، وإطالةُ الحديث عند المواكلة، وقال شاعرهُم - وهو حاتم الطائيّ :

سَلِي الجائعَ الغَرثَانَ يا أمّ مُنْـذِرِ

 

إذا ما أتاني بين ناري ومَجْزَِرِي

هَلَ أبسُطُ وجهي أَنّه أوّلُ القِرَى

 

وأبذلُ معروفي له دون مُنكَري

وقال الآخر:

إنّك يا ابنَ جعفرٍ خيرُ فـتَـى

 

وخيرهُمْ لطـارقٍ إذا أتـى

ورُبَّ نِضوٍ طَرَقَ الحيَّ سُرَى

 

صادفَ زاداً وحديثاً ما اشتهى

إنّ الحديثَ جانبٌ من القِرَى

 

 

وقال الآخر:

لحافي لحافُ الضَّيفِ والبيتُ بيتُه

 

ولم يُلهِني عنه غزالٌ مقـنَّـعُ

أُحَدِّثُه إنّ الحديثَ من الـقِـرى

 

وتعلمُ نفسي أنّه سوف يهجـعُ

ولذلك قال عمرو بن الأهتم:

فقلت له: أهلاً وسهلاً ومرحباً

 

فهذا مَبيتٌ صالحٌ وصـديقُ

وقال آخر:

أُضاحِكُ ضيفي قبلَ إنـزال رَحْـلِـه

 

ويُخصب عندي والمـحـلُّ جَـديبُ

وما الخِصْب للأضياف أن يكثُر القِرَى

 

ولكنّما وجـهُ الـكـريمِ خـصـيبُ

ثم قال اللّه تبارك وتعالى في باب آخر من صفة قريش والعرب: "أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهذَا" الطور: 23 وقال: "فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ" الحشر:2 وقال: "انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ" الإسراء: 84، وقال: "وَإنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ منْهُ الجِبَالُ" إبراهيم: 64، وعلى هذا المذهب قال: "وَإنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ" القلم: 15، وقد قال الشاعر في نظر الأعداء بعضِهم إلى بعض:

يتقارضون إذا التَقَوْا في موقفٍ

 

نَظَراً يُزِيلُ مَوَاطِـئَ الأقـدامِ

وقال اللّه تبارك وتعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" إبراهيم: 4؛ لأنَّ مدار الأمر على البيان والتبيُّن، وعلى الإفهام والتَّفهُّم، وكلّما كان اللّسانُ أبْيَنَ كان أحمدَ، كما أنّه كلما كان القلبُ أشدّ استبانةً كان أحمد، والمفهمُ لك والمتفهِّم عنك شريكان في الفضل، إلاّ أنّ المفهِم أفضل من المتفهِّم وكذلك المعلِّم والمتعلِّم، هكذا ظاهرُ هذه القضية، وجمهور هذه الحكومة، إلا في الخاصّ الذي لا يُذكَر، والقليلِ الذي لا يُشهرَ، وضرب اللّه عزّ وجل مثلاً لعيِّ اللسان ورداءة البيان، حين شبّه أهلَه بالنساء والولدان: فقال تعالى: "أَوَ مَنْ يُنَشَّأُ فيِ الْحِلْيَةِ وَهُوَ في الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ" الزخرف: 81، ولذلك قال النَّمر بن تولَب:

وكلُّ خليلٍ علـيه الـرِّعـا

 

ثُ والحُبُلاتُ، ضعيفٌ مَلِقْ

الرِّعاث: القِرَطَة، والحُبُلات: كلُّ ما تزيَّنت به المرأةُ من حَسَن الحلْى، والواحدةُ حُبْلَة،  وليس، حَفِظك اللَّه، مضرَّةُ سلاطة اللسان عند المنازعة، وسَقَطات الخطل يوم إطالة الخُطبة، بأعظمَ مما يحدُث عن العيّ من اختلال الحجّة، وعن الحَصَر مِنْ فوت دَرَك الحاجة، والناس لا يعيِّرون الخُرس، ولا يلومون مَن استولى على بيانه العجز، وهم يذمون الحَصِرَ، ويؤنِّبون العييّ، فإن تكلّفا مع ذلك مقاماتِِ الخطباء، وتعاطَيَا مناظرة البلغاء، تضاعف عليهما الذمّ وترادَفَ عليهما التأنيب، ومماتنةُ العَيِّ الحصِرِ للبليغِ المِصقَع، في سبيل مماتَنَة المنقطع المفحَم للشاعر المفلق؛ وأحدُهما ألْومُ من صاحبه، والألسنةُ إليه أسرع، وليس اللَّجلاج والتّمتام، والألثغ والفأفاء، وذو الحُبسَة والحُكلة والرُّتَّةِ وذو اللَّفَفِ والعجلة، في سبيل الحَصِرِ في خطبته، والعييّ في مناضلة خصومه، كما أن سبيلَ المُفْحَم عند الشعراء، والبكئ عند الخطباء، خلافُ سبيل المسْهَب الثَّرثار، والخَطِل المِكْثار، ثم اعلم - أبقاك اللّه - أنّ صاحب التشديق والتقعير والتقعيب من الخطباء والبلغاء، مع سماحةالتكلّف، وشُنعةِ التزيُّد، أعذَرُ من عييّ يتكلف الخطابة، ومن حَصِرٍ يتعرض لأهل الاعتياد والدُّرْبَة، ومَدارُ اللائمة ومستقَرُّ المذَمّة حيث رأيتَ بلاغةً يخالطها التكلف، وبياناً يمازجه التزيّد، إلا أنّ تعاطِيَ الحَصِر المنقوصِ مَقامَ الدرِب التامّ، أقبَحُ من تعاطي البليغ الخطيب، ومن تشادُقِ الأعرابيِّ القُحّ، وانتحالُ المعروفِ ببعض الغَزارة في المعاني والألفاظ، وفي التحبير والارتجال، أنّه البحرُ الذي لا يُنزَح، والغَمْر الذي لا يُسبَر، أيسَرُ من انتحال الحَصِر المنخُوب أنّه في مِسلاخِ التام الموفّر، والجامع المحكّك، وإن كان النبي قد قال: إياي والتشادُق، وقال: أبغضكُم إليَّ الثّرثارون المتفيهقون، وقال: مَن بدا جَفا، وعاب الفَدَّادِينَ والمتزيِّدين، في جَهارة الصوت وانتحال سعة الأشداق، ورُحْبِ الغلاصم وهَدَل الشِّفاه، وأَعْلَمنَا أن ذلك في أهل الوبر أكثَر، وفي أهل المدَر أقلّ - فإذا عابَ المدريَّ بأكثَرَ مما عاب به الوبريّ، فما ظنُّك بالمُولَّد القَرَويّ والمتكلِّف البلديّ - فالحَصِرُ المتكلّف والعِييُّ المتزيّد، ألوَمُ من البليغ المتكلِّف لأكَثرَ مما عنده، وهو أعذر؛ لأنّ الشُّبهة الداخلةَ عليه أقوى، فَمنْ أسوأ حالاً - أبقاك اللّه - ممّن يكون ألْوَمَ من المتشدِّقين، ومن الثّرثارين المتفيهقين، وممن ذكره النبي نصاَّ، وجعل النَّهي عن مذهبه مفسَّراً، وذكر مقْته له وبغضَه إياه، ولمَّا علم واصلُ بنُ عطاء أنّه ألثغُ فاحش اللَّثَغ، وأنّ مَخرج ذلك منه شنيع، وأنه إذ كان داعيةَ مقالةٍ، ورئيسَ نحلة، وأنّه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، وأنّه لا بُدَّ له من مقارعَة الأبطال، ومن الخطب الطِّوال، وأنّ البيان يحتاج إلى تمييزٍ وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج وجَهارة المنطق، وتكميل الحروف وإقامة الوزن، وأنّ حاجة المنطق إلى الحلاوة، كحاجته إلى الجزالة والفخامة، وأن ذلك من أكثر ما تُستمال به القلوب وتُثْنَى به الأعناق، وتزيَّن به المعاني؛ وعلِمَ واصلٌ أنهّ ليس معه ما ينوب عن البيان التامّ، واللسان المتمكِّن والقوة المتصرِّفة، كنحو ما أعطى اللَّه تبارك وتعالى نبيَّه موسى عليه السلام من التوفيق والتَّسديد، مع لباس التَّقوى وطابَعِ النبوة، ومع المِحْنة والاتساع في المعرفة، ومع هَدْيِ النبيِّين وسَمْت المرسَلين، وما يُغَشِّيهم اللَّهُ به من القَبول والمهابة، ولذلك قال بعضُ شعراء النبي:

لو لم تكن فيه آياتٌ مُبيِّنةٌ

 

كانت بداهتُه تُنْبيك بالخبرِ

ومع ما أعطى اللّهُ تبارك وتعالى موسى، عليه السلام، من الحجَّة البالغة، ومن العلامات الظاهرة، والبرهانات الواضحة، إلى أن حلّ اللَّه تلك العقدة وأطْلَقَ تلك الحُبْسة، وأسقط تلك المحنة؛ ومن أجْل الحاجة إلى حُسن البيان، وإعطاء الحروف حقوقَها من الفصاحة رامَ أبو حذيفةَ إسقاطَ الراء من كلامه، وإخراجَها من حروفِ منطِقِه؛ فلم يزل يكابِد ذلك ويغالبُه، ويناضله ويساجله، ويتأتَّى لسَتره والراحةِ من هُجْنته، حتَّى انتظم له ما حاول، واتَّسق له ما أمَّل، ولولا استفاضةُ هذا الخبرِ وظهورُ هذه الحال حتّى صار لغرابته مثلاً، ولطَرافته مَعْلماً، لما استجزَنْا الإقرارَ به، والتأكيدَ له، ولستُ أَعْنِِي خُطَبه المحفوظة ورسائله المخلَّدة، لأنَّ ذلك يحتمل الصَّنعة، وإنما عَنيْتُ محاجَّة الخصوم ومناقلَة الأكْفاء، ومفاوضةَ الإخوان، واللُّثغة في الراء تكون بالغين والذال والياء، والغينُ أقلُّها قبحاً، وأوجَدُها في كبار الناس وبلغائهم وأشرافهم وعلمائهم، وكانت لُثْغة محمد بن شبيب المتكلم، بالغين، فإذا حمل على نفسه وقوَّم لسانه أخرج الراء، وقد ذكره في ذلك أبو الطُّرُوق الضبّيّ فقال:

عليمٌ بإبدال الحروف وقامـعٌ

 

لكلِّ خطيبٍ يغلبُ الحقَّ باطلُه

وكان واصلُ بن عطاءٍ قبيحَ اللُّثغة شنيعَها، وكان طويلَ العنق جِداً؛ ولذلك قال بَشَّارٌ الأعمى:

ما لِي أشايعُ غزَّالاً له عنـقٌ

 

كنِقْنِقِ الدَّوِّ إن ولّى وإن مََثَلا

عُنْقَ الزَّرافةِ ما بالي وبالُكُـمُ

 

أتُكْفِرون رجالاً أكفَروا رجُلا

فلما هجا واصلاً وصوَّب رأيَ إبليسَ في تقديم النَّار على الطِّين، وقال:

الأرض مظْلمةٌ والنارُ مُشرِقةٌ

 

والنار معبودةٌ مذْ كانت النارُ

وجعل واصل بنَ عطاءٍ غَزَّالاً، وزعَم أنَّ جميعَ المسلمين كفَروا بعد وفاة الرسول، فقيل له: وعليٌّ أيضاً؟ فأنشد:

وما شَرُّ الثلاثةِ أمَّ عمرٍو

 

بصاحبك الذي لا تَصْبَحينا

قال واصلُ بن عطاءٍ عند ذلك: أمَا لهذا الأعمى الملحِد المُشنَّف المكَنَّى بأبي معاذٍ مَن يقتله، أما واللَّه لولا أن الغِيلة سجِيّةٌ من سجايا الغالية، لبعثْتُ إليه من يبعَج بطنه على مضجعه، ويقتُله في جوف منزلِه وفي يوم حَفْله، ثم كان لا يتولَى ذلك منه إلا عُقَيليٌّ أو سَدُوسيّ، قال إسماعيل بن محمّدٍ الأنصاريُّ، وعبدُ الكريم بن رَوح الغِفَاريّ: قال أبو حفص عُمر بن أبي عثمان الشَّمَّرِيُّ: ألا تَريان كيف تجنب الراء في كلامه هذا وأنتما لِلَّذي تريان من سلامته وقلة ظهور التكلُّف فيه لا تظُنّان به التكلّف، مع امتناعه من حَرْفٍ كثير الدَّوران في الكلام، ألا تريانِ أنّه حين لم يستطعْ أن يقول بشَّار، وابن بُرد، والمرعَّث، جعل المشنَف بدلاً من المرعَّث، والملحِد بدلاً من الكافر؛ وقال: لولا أنّ الغِِيلة سجيَّةٌ من سجايا الغالية، ولم يذكر المنصوريّة ولا المُغِيريَّة؛ لمكان الراء؛ وقال: لبعثت من يبعج بطنه، ولم يقل: لأرسلتُ إليه؛ وقال: عَلَى مضجعه، ولم يقل: على فراشه، وكان إذا أراد أن يَذْكُر البُرّ قال: القمح أو الحنطة، والحنطةُ لغةٌ كوفيَّة والقمح لغة شاميّة، هذا وهو يعلم أنّ لغةَ من قال بُرّ، أفصحُ من لغة مَن قال قمح أو حنطة، وقال أبو ذؤيب الهذليّ:

لا دَرَّ دَرِّيَ إن أطعمتُ نازلهـم

 

قِرف الحَتِيِّ وعندي البُرّ مكنوزُ

وقال أميّة بن أبي الصلت في مديح عبد اللّه بن جُدْعان:

له داعٍ بمكة مشـمـعِـلٌّ

 

وآخرُ فوقَ دارَتِه يُنـادِي

إلى رُدُح من الشِّيزَى عليها

 

لُباب البُرّ يُلبكُ بالشِّـهـادِ

وقال بعض القرشيِّين يذكر قيسَ بن مَعْد يَكرِبَ ومَقدمَهُ مكة في كلمةٍ له:

قيسٌ أبو الأشعثِ بِطْريقُ اليمنْ

 

لا يسأل السائلُ عنه ابنُ مَـنْ

أشبَعَ آل اللَّه من بُرِّ عَـدَنْ

 

 

وقال عمر بن الخطاب رحمه اللَّه: أتَرُوْنَ إنّي لا أعرف رقيق العيش؟ لُبابُ البُرّ بصغار المِعْزَى، وسمع الحسنُ رجلاً يعيب الفالوذَق، فقال: لُبابُ البُرّ، بُلعاب النَّحل، بخالص السَّمن، ما عاب هذا مسلمٌ،  وقالت عائشة: ما شَبع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم من هذه البُرّة السّمراء حتّى فارقَ الدُّنيا، وأهلُ الأمصار إنّما يتكلمون على لُغة النازلة فيهم من العرب، ولذلك تَجد الاختلافَ في ألفاظٍ من ألفاظِ أهل الكوفة والبَصرة والشام ومصر، حدّثني أبو سعيدٍ عبدُ الكريم بن رَوح قال: قال أهل مكّةَ لمحمد بن المُناذِر الشاعر: ليست لكم معاشرَ أهل البصرة لغةٌ فصيحة، إنّما الفصاحة لنا أهلَ مكّة، فقال ابن المُناذر: أمّا ألفاظُنا فأحْكَى الألفاظِ للقرآن، وأكثرُها له موافقةً، فضَعُوا القرآنَ بعد هذا حيثُ شِئتم، أنتم تُسمُون القِدر بُرْمَة وتجمعون البُرمة على بِرَامٍ، ونحن نقول قِدر ونجمعها على قُدور، وقال اللَّه عز وجل: "وجِفَان كالجَوَابِي وقُدورٍ رَاسِياتٍ" سبأ:31، وأنتم تسمُّون البيت إذا كان فوق البيت عُلِّيَّةً، وتجمعون هذا الاسم على عَلالِيّ، ونحن نسمِّيه غرفة ونجمعها على غُرفاتٍ وغرفٍ، وقال اللّه تبارك وتعالى: "غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيّةٌ" الزمر:02 وقال: "وَهُمْ في الغُرُفَاتِ آمِنُونَ" سبأ:73، وأنتم تسمُّون الطَّلعَ الكافورَ والإغْريضَ، ونحن نُسمّيه: الطَّلْع، وقال اللَّه تبارك وتعالى: "وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ" الشعراء: 841، فعَدّ عشر كلماتٍ لم أحفظ أنّا منها إلا هذا، ألا ترى أنّ أهلَ المدينة لما نزل فيهم ناسٌ من الفُرْس في قديم الدّهر عَلِقُوا بألفاظ من ألفاظهم، ولذلك يسمُّون البِطِّيخ: الخِرْبِز، ويسمُّون السميط: الرَّزْدَق، ويسمُّون المَصُوص: المَزُور، ويسمون الشِّطرنج: الأشْترَنْج، في غير ذلك من الأسماء، وكذلك أهلُ الكوفة؛ فإنّهم يسمُّون المِسحاة: بال، وبَالْ بالفارسيّة، ولو عَلِق ذلك لغةَ أهل البصرة إذْ نزلوا بأدنى بلاد فارس وأقصى بلاد العرب كان ذلك أشبَهَ، إذ كان أهلُ الكوفة قد نزلُوا بأدنى بلاد النَّبَط وأقصى بلاد العرب، ويسمي أهلُ الكوفة الحَوْك: الباذَرُوج، والباذروج بالفارسية، والحَوْك كلمة عربيّة، وأهلُ البصرة إذ التقت أربعُ طرق يسمُّونَها: مُربَّعة، ويُسمّيها أهلُ الكوفة: الجهار سوك، والجهار سُوك بالفارسيّة، ويسمّون السُّوق والسُّوَيقة: وازار، والوازار بالفارسيّة، ويسمُّون القِثَّاء: خِيَاراً، والخيار بالفارسيّة، ويسمُّون المجدوم: وَيذِي، بالفارسية، وقد يستخفُّ النَّاسُ ألفاظاً ويستعملونها وغيرُها أحقُّ بذلك منها، ألا ترى أن اللَّه تبارك وتعالى لم يذكُر في القرآن الجوعَ إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدْقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السَّغَب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة، وكذلك ذِكر المطر؛ لأنّك لا تجد القرآنَ يلفظِ به إلاّ في موضع الانتقام، والعامّة وأكثرُ الخاصّة لا يَفصِلون بين ذِكر المطر وبين ذكر الغَيث، ولفظُ القرآن الذي عليه نَزَلَ أنّه إذا ذكر الأبصار لم يقُل الأسماع، وإذا ذكر سبع سموات لم يقل الأرَضين، ألا تراه لا يجمع الأرض أَرَضين، ولا السمعَ أسماعا، والجاري على أفواه العامةِ غيرُ ذلك، لا يتفقّدون من الألفاظ ما هو أحقُّ بالذكر وأولى بالاستعمال، وقد زعم بعضُ القرّاء أنّه لم يجد ذكر لفظ النكاح في القرآن إلاّ في موضع التزويج، والعامّة ربّما استخفت أقلَّ اللغتين وأضعفَهما، وتستعمل ما هو أقلُّه في أصل اللغة استعمالاً وتدَعُ ما هو أظهر وأكثر، ولذلك صِرنا نجد البيت من الشعر قد سار ولم يسر ما هو أجودُ منه، وكذلك المَثل السّائر، وقد يبلغ الفارسُ والجوادُ الغايةَ في الشهرة ولا يُرزَق ذلك الذكرَ والتنويه بعضُ من هو أولى بذلك منه، ألا ترى أنّ العامّةَ ابنُ القِرِّيّة عندها أشهر في الخطابة مِن سحبان وائل، وعُبَيدُ اللَّه بن الحُرّ أذكَرُ عندهم في الفروسيّة من زُهير بن ذؤيب، وكذلك مذهبُهم في عنترةَ بن شدَّاد، وعُتَيبة بنِ الحارث بن شهاب، وهم يضربون المثل بعمرو بن مَعْد يِكَرِب، ولا يعرفون بِسطام بنَ قيس، وفي القرآن معان لا تكاد تفترق، مثل الصلاةِ والزكاة، والجوعِ والخوف، والجنة والنار، والرَّغبة والرهبة،والمهاجرين والأنصار، والجنّ والإنس، قال قطرب: أنشدني ضِرار بن عمرو قولَ الشاعر في واصل بن عطاء:

ويجعل البُرَّ قمحاً في تصرُّفـه

 

وجانَبَ الراءَ حتّى احتال للشّعَرِ

ولم يُطِقْ مطَراً والقول يُعجِلُه

 

فعاذَ بالغيث إشفاقاً من المَطرِ

قال وسألت عُثمانَ البُرّي: كيف كان واصلٌ يصنع في العدد؛ وكيف كان يصنع بعشرةٍ وعشرين وأربعين؛ وكيف كان يصنع بالقَمر والبدر ويوم الأربعاء وشهر رمضان، وكيف كان يصنع بالمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخِر وجمادى الآخِرة ورجب؟ فقال: ما لي فيه قولٌ إلا ما قال صفوان:

ملقَّن ملهَمٌ فيما يحاولـه

 

جَمٌّ خواطرُه جوّابُ آفاقِ

وأنشدني دَيْسمٌ قال: أنشدني أبو محمد اليزيديّ:

وخَلَّةُ اللفظ في الـياءات إن ذكِـرَت

 

كخَلَّةِ اللفظ في اللامـاتِ والألِـف

وخَصْلَة الرَّاء فيهـا غـيرُ خـافـيةٍ

 

فاعرِفْ مواقعَها في القَول والصّحُف

يزعم أنّ هذه الحروفَ أكثر تَرداداً من غيرها، والحاجة إليها أشدّ، واعتبِرْ ذلك بأن تأخذ عِدّةَ رسائلَ وعدة خطبٍ، من جملةِ خطب الناس ورسائلهم؛ فإنَّك متى حَصَّلتَ جميع حروفها، وعددْت كلَّ شكل على حِدَة، علمت أنّ هذه الحروفَ الحاجةُ إليها أشدّ،