منهم: زيد بن صُوحَان، ومنهم: أبو واثلة إياس بن معاوية المُزَنّي القاضي القائف، صاحب الزَّكَن، والمعروف بجَودة الفِراسة، ولِكَثْرة كلامه قال له عبد اللّه بن شُبْرُمة: أنا وأنت لا نتّفق، أنت لا تشتهي أن تسكتَ وأنا لا أشتهي أن أسْمَع، وأتَى حَلْقةً من حَلَقِ قُريشٍ في مسجد دمشق، فاستولَى على المجلس ورأَوه أحمرَ دميماً باذَّ الهيئة، قَشِفاً، فاستهانُوا به فلما عَرَفوه اعتذروا إليه وقالوا له: الذّنْب مقسومٌ بيننا وبينك أتيتَنا في زِيِّ مسكينٍ، وتكلِّمُنا بكلام الملوك، ورأيتُ ناساً يستحسنون جوابَ إياسِ بن معاوية حين قيل له: ما فيك عيبٌ غير أنّك مُعْجَبٌ بقولك، قال: أفأعْجَبَكم قولي؟ قالوا: نعم، قال: فأنا أحقُّ بأن أُعجَبَ بما أقول، وبما يكون مِنِّي مِنكم، والناسُ، حِفظَك اللَّه، لم يضَعُوا ذِكْر العُجْب في هذا الموضع، والمعيبُ عند النّاسِ ليس هو الذي لا يعرِف ما يكون منه من الحُسْن، والمعرفةُ لا تَدْخُل في باب التَّسمية بالعُجبِ، والعُجْبُ مذموم، وقد جاء في الحديث، إنّ المؤمنَ مَن ساءته سيِّئتُه وسرَّتْه حسنته، وقيل لعمر: فلانٌ لا يَعرف الشّرَّ، قال: ذاك أجْدَرُ أن يقعَ فيه، وإنما العُجْب إسرافُ الرّجُلِ في السُّرور بما يكون منه والإفراطُ في استحسانه، حتَّى يظهر ذلك في لفظه وفي شمائله، وهو الذي وَصَف به صعصَعةُ بن صُوحان، المنذرَ بنَ الجارود، عند عليّ بن أبي طالب رحمه اللَّه، فقال: أمَا إنّه مع ذلك لَنَظّارٌ في عِطفَيه، تَفَّالٌ في شِراكيه، تُعْجِبُهُ حُمرة بُرْدَيه، قال أبو الحسن: قيل لإياسٍ: ما فيك عيبٌ إلاّ كثرةُ الكلام، قال: فتسمعون صواباً أم خطأً؟ قالوا: لا، بل صواباً، قال: فالزِّيادة من الخير خير، وليس كما قال؛ للكلام غايةٌ، ولنشاط السَّامعين نِهاية، وما فَضَل عن قدْر الاحتمال ودعا إلى الاستثقال والمَلاَل، فذلك الفاضل هو الهَذَر، وهو الخَطَل، وهو الإسهاب الذي سمِعتَ الحكماءَ يَعيبُونه، وذكر الأصمعيُّ أنّ عمر بن هُبَيْرة لما أرادَهُ على القضاء قال: إنِّي لا أصلحُ له، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنَّنِي عَيِيٌّ، ولأنّي دَميمٌ، ولأنِّي حديد، قال ابنُ هبيرة: أمَّا الحِدّة فإنّ السّوطَ يقوِّمك، وأما الدَّمامة فإنِّي لا أريد أن أُحاسِنَ بك أحداً، وأمَّا العِيّ فقد عبّرتَ عمّا تُريد، فإن كان إياسٌ عند نفسه عييّاً فذاك أجدَرُ بأن يَهجُر الإكثار، وبعدُ فما نعْلَمُ أحداً رَمى إياساً بالعِيّ، وإنّما عابُوه بالإكثار، وذكر صالح بن سليمان، عن عُتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث، قال: ما رأيتُ عقولَ النّاسِ إلاّ قريباً بعضُها من بعضٍ، إلا ما كان مِن الحجّاج بن يُوسُف، وإياسِ بن معاوية؛ فإنَّ عقولَهما كانت ترجِحُ على عقول الناس كثيراً، وقال قائلٌ لإياس: لِمَ تَعْجَلُ بالقضاء؟ فقال إياس: كم لكفِّك من إصبَع؟ قال: خمس، قال: عجِلْتَ، قال: لَمْ يَعجل مَن قال بَعد ما قَتل الشيءَ علْماً ويقيناً،قال إياس: فهذا هو جوابي لك، وكان كثيراً ما يُنشِد قولَ النابغة الجَعْدِيّ:
أَبَى لي البلاءُ وأنِّي امرُؤٌ |
|
إذا ما تَبَيَّنْتُ لم أرتُـبِ |
قال: ومدح سلمة بن عَيَّاش، سَوّارَ بن عبد اللَّه، بِمثِل ما وصف به إياسٌ نفسَه حين قال:
وأَوقَفَ عند الأمرِ ما لم يَضِحْ لـه |
|
وأمضى إذا ما شكَّ مَن كان ماضيا |
وكتب عمرُ بنُ عبد العزيز رحمه اللّه، إلى عديّ بن أرْطاةٍ: إنِّ قِبَلَك رجلين من مُزَينة، فوَلِّ أحدَهما قضاءَ البَصرة، يعني بكرَ بن عبد اللَّه المُزَني وإياس بن معاوية، فقال بَكر: واللَّه ما أُحْسِن القضاءَ، فإن كنتُ صادقاً فما يَحلّ لك أن تولِّيني، وإنْ كنت كاذباً إنّها لأحراهما، وكانوا إذا ذَكروا البصرة قالوا: شيخُها الحسَن، وفتاها بكر، وقال إياس بن معاوية: لستُ بِخَِبّ والخَِبّ لا يخدعني، وقال: الخَبُّ لا يخدعُ ابنَ سيرين، وهو يَخْدع أبي ويخدع الحَسَن، ودخل الشّامَ وهو غلامٌ، فتقدَّمَ خصماً له، وكان الخَصم شيخاً كبيراً، إلى بعضِ قُضاةِ عبد الملك بن مَرْوان، فقال له القاضي: أَتَقْدُم شيخاً كبيراً؟ قال: الحقُّ أكبر منه، قال: اسكتْ، قال: فمن ينطِقُ حُجَّتي، قال: لا أظنُّك تقولُ حقّاً حتَّى تقوم، قال: لا إله إلاّ اللَّه، أحقّاً هذا أم باطلاً، فقام القاضي فدخل على عبد الملك مِن ساعته، فخبَّرَه بالخَبر، فقال عبد الملك: اقْضِ حاجتَه السَّاعةَ وأخرِجْه من الشامِ، لا يُفْسِدْ عليَّ الناس، فإذا كان إياسٌ وهو غلامٌ يُخافُ على جماعة أهل الشّام، فما ظنُّك به وقد كَبِرَت سنُّه، وعضَّ على ناجِذه، وجملةُ القول في إياسٍ أنّه كان من مفاخر مُضر، ومن مُقَدَّمي القضاة، وكان فقيه البَدنِ، دقيقَ المسلك في الفِطَن، وكان صادقَ الحَدْسِ نِقَاباً، وكان عجيب الفِراسة مُلْهَماً، وكان عفيفَ الطِّعَمِ، كريم المَدَاخِلِ والشِّيَم،وجيهاً عند الخلفاء، مقدَّماً عند الأكْفاء، وفي مُزَينة خيرٌ كثير، ثم رجَعنا إلى القول الأوّل، ومنهم ربيعةُ الرَّأي، وكان لا يكاد يسكت، قالوا: وتكلمَ يوماً فأكثَرَ وأعجِبَ بالذي كان منه، فالتفت إلى أعرابيٍّ كان عنده فقال: يا أعرابيّ: ما تعدُّون العيَّ فيكم؟ قال: ما كنْتَ فيه منذُ اليوم، وكان يقول: السَّاكت بين النائم والأخْرس، ومنهم عُبيد اللَّه بن محمد بن حفصٍ التّيْمي، ومحمدُ بن حفصٍ هو ابن عائشة؛ ثم قيل لعبيد اللَّه ابنه: ابن عائشة، وكان كثيرَ العِلم والسَّماع، متصرِّفاً في الخبر والأثَر، وكان من أجْوَاد قريش، وكان لا يكاد يسكُت، وهو في ذلك كثيرُ الفوائد، وكان أبوه محمَّد بنُ حفصٍ عظيمَ الشأن، كثير العِلم، بعث إليه يَنْخَاب خليفته في بعضِ الأمر، فأتاه في حَلْقته في المسجِد، فقال له في بعض كلامه: أبو مَنْ أصلحَكَ اللَّه، فقال له: هَلاّ عَرفْتَ هذا قبل مجيئك وإنْ كان لا بدَّ لك منه فاعترِضْ مَن شئت فَسَلْه، فقال له: إنِّي أريد أن تخلِيَني، قال: أفي حاجةٍ لك أم في حاجة لي؟ قال: بل في حاجةٍ لي، قال: فالقَنِي في المنزل، قال: فإنّ الحاجة لك، قال: ما دونَ إخواني سِتر، ومنهمْ محمد بن مِسْعَرٍ العُقَيْليُّ، وكان كريماً كريم المجالَسة، يذهب مَذهبَ النسَّاك، وكان جواداً، مَر صديقٌ له من بني هاشم بقصرٍ له وبُستانٍ نفيس، فبلغه أنّه استحسنَه، فوَهَبه له، ومنهم أحمد بن المُعَذَّل بن غَيلانَ، كان يذهب مذهب مالك رحمه اللَّه، وكان ذا بيانٍ وتبحُّرٍ في المعاني، وتصرُّفٍ في الألفاظ، وممن كان يُكْثر الكلام جدّاً: الفضْل بن سهل، ثم الحسن بن سَهْل في أيّامه، وحدَّثني محمد بن الجهم ودُوَاد بن أبي دُوَاد قالا: جلس الحسن بن سهل في مصلّى الجماعة، لنُعَيم بن حازم، فأقبل نُعيمٌ حافياً حاسراً وهو يقول: ذَنْبي أعظم من السماء، ذنْبي أعظم من الهواء، ذنْبي أعظم من الماء قالا: فقال له الحسن بن سهل: على رِسْلِك، تقدّمَتْ منك طاعةٌ، وكان آخرُ أَمْرك إلى تَوبة، وليس للذّنب بينهما مكان، وليس ذنبُك في الذُّنوب بأعظَمَ مِن عَفو أمير المؤمنين في العفو، ومن هؤلاء عليٌّ بن هشام، وكان لا يسكت، ولا أدري كيف كان كلامه، قال: وحدَّثني مهديُّ بن ميمون، قال: حدثّنا غَيلان بن جرير، قال: كان مطرِّف ابن عبد اللَّه يقول: لا تُطعِم طعامَك مَن لا يشتهيه، يقول: لا تُقبِلْ بحديثك على مَن لا يقبلُ عليه بوجهه، وقال عبدُ اللّه بنُ مسعود: حَدِّث النّاسَ ما حَدَجُوك بأبصارهم، وأذِنُوا لك بأسماعِهم، ولحظوك بأبصارهم، وإذارأيت منهم فترةً فأمْسِكْ، قال: وجعل ابن السَّمَّاك يوماً يتكلَّم، وجاريةٌ له حيثُ تسمع كلامَه، فلما انصَرفَ إليها قال لها: كيف سمِعتِ كلامي؟ قالت: ما أحسنَه، لولا أنَّك تكْثر تَرداده، قال: أردِّده حتّى يَفْهَمَه مَن لم يَفهمْه، قالت: إلى أن يَفْهَمَه مَن لا يفْهَمُه قد مَلّه من فِهمَه، عَبّاد بن العَوَّام، عن شعبة عن قتادة قال: مكتوب في التوراة: لا يعادُ الحديث مَرَّتَين، سفيان بن عُيَيْنَة، عن الزُّهري قال: إعادةُ الحديث أشدُّ من نَقْل الصّخر، وقال بعضُ الحكماء: مَن لم يَنْشط لحديثك فارفَعْ عنه مَؤونَة الاستماع منك، وجملة القول في الترداد، أنَّه ليس فيه حدٌّ ينتَهي إليه، ولا يُؤتَى على وَصْفه، وإنّما ذلك على قدر المستمعين، ومَن يحضُره من العوامّ والخواصّ، وقد رأينا اللَّه عزّ وجلّ ردَّدَ ذِكْر قِصّة موسى وهودٍ، وهارونَ وشعيبٍ، وإبراهيمَ ولوطٍ، وعادٍ وثمودَ، وكذلك ذِكرَ الجنَّةِ والنَّارِ وأمورٍ كثيرة؛ لأنّه خاطَبَ جميعَ الأمم من العرَب وأصناف العَجَم، وأكثَرُهم غَبيٌّ غافِل، أو مُعانِدٌ مشغولُ الفِكْرِ ساهي القلب، وأمّا أحاديث القَصَص والرِّقَّة فإنِّي لم أرَ أحداً يعيب ذلك، وما سمِعْنا بأحدٍ من الخطباء كان يرى إعادةَ بعضِ الألفاظ وتَردَادَ المعاني عيّاً، إلا ما كان من النَّخّار بن أوسٍ العُذْري؛ فإنّه كان إذا تكلّم في الحمالات وفي الصَّفح والاحتمال وصَلاح ذاتِ البَين، وتخويفِِ الفريقَين من التّفانِي والبوَار - كان رُبَّما ردَّد الكلامَ على طريق التَّهويل والتَّخويف، وربَّما حَمِيَ فنَخَر، وقال ثمامة بنُ أشرس: كان جعفرُ بنُ يحيى أنطَقَ الناس، قد جَمَع الهُدوءَ والتمهُل، والجزالة والحلاوة، وإفهاماً يُغْنيه عن الإعادة، ولو كان في الأرض ناطقٌ يَستغنِي بمنطقه عن الإشارة، لاستغنى جعفرٌ عن الإشارة، كما استغنى عن الإعادة، وقال مَرَّةً: ما رأيتُ أحداً كان لا يتحبَّس ولا يتوقَّف، ولا يَتلجلج ولا يتنحنح، ولا يَرتقب لفظاً قد استدعاه من بُعْد، ولا يلتمس التخلص إلى معنىً قد تَعصَّى عليه طلبُه، أشدَّ اقتداراً، ولا أقلَّ تكلُّفاً، من جعفرِ بن يحيى، وقال ثُمامة: قلت لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ قال: أن يكون الاسمُ يحيط بمعناك، ويجلِّي عن مَغزاك، وتُخْرِجَه عن الشِّرْكة، ولا تستعين عليه بالفِكرة، والذي لا بُدّ له منه، أن يكون سليماً من التكلُّف، بعيداً من الصّنعة، بريئاً من التعقُّد، غنِيّاً عن التأويل، وهذا هو تأويلُ قولِ الأصمعيَ: البليغُ مَن طَبَّقَ المَفْصِل، وأغنَاك عن المُفسِّر، وخَبَّرني جعفرُ بن سَعيدٍ، رضيع أيوبَ بن جعفرٍ وحاجبُه، قال: ذُكِرَتْ لعَمرو ابن مَسْعَدة، توقيعاتُ جعفرِ بن يحيى، فقال: قد قرأت لأم جعفرٍ توقيعاتٍ في حواشي الكتب وأسافلها فوجدتها أجوَدَ اختصاراً، وأجمَعَ للمعاني، قال: ووصف أعرابي أعرابياً بالإيجاز والإصابة فقال: كان واللّه يَضَع الهِناءَ مواضِع النُّقب، يظنُّون أنه نَقل قولَ دريدِ بن الصَّمَّة، في الخنساء بنتِ عمرِو بن الشّريد، إلى ذلك الموضع، وكان دريدٌ قال فيها:
ما إنْ رأيت ولا سمِعتُ بـه |
|
في النّاسِ طاليَ أيْنُقٍ جُرْبِ |
متبذِّلاً تبـدو مـحـاسِـنُـه |
|
يضع الهِناءَ مَواضِعَ النُّقْبِ |
ويقولون في إصابة عين المعنى بالكلام الموجَز: فلان يفُلُّ المحَزَّ، ويصيب المفْصِل، وأخَذَوا ذلك من صِفَة الجزّار الحاذق، فجعلوه مثلاً للمصيب الموجِز، وأنشدني أبو قَطَن الغَنَوي، وهو الذي يقال له شهيد الكَرَم، وكان أبْيَنَ مَن رأيتُه من أهل البَدْو والحَضر:
فلو كنتُ مولى قيسِ عَيلانَ لم تَجدْ |
|
عَلَيَّ لمخلوقٍ مِن النَّاس دِرهَمـا |
ولكنَّني مولى قُضاعةَ كـلِّـهـا |
|
فلستُ أُبالي أن أدين وتغْـرَمَـا |
أولئك قومٌ بارَك الـلـه فـيهـمُ |
|
على كلِّ حالٍ ما أعفَّ وأكرمـا |
جُفاةُ المَحَزِّ لا يُصيبون مَفْصِـلاً |
|
ولا يأكلون اللّحمَ إلا تـخـذُّمـا |
يقول: هم ملوكٌ وأشباهُ الملوك، ولهم كُفَاةٌ فهمْ لا يحسِنون إصابة المفْصِل، وأنشدني أبو عبيدةَ في مثلِ ذلك:
وصُلْع الرّؤوسِ عِظَام البُطون |
|
جفاة المَحزِّ غِلاظَ القَصَـرْ |
ولذلك قال الراجز:
ليس براعِي إبل ولا غَـنَـمْ |
|
ولا بجزّارٍ على ظَهْر وَضَمْ |
وقال الآخر، وهو ابنُ الزِّبَعْرَى:
وفتيانِ صدْقٍ حسانِ الوُجـو |
|
هِ لا يجِدُون لـشـيءٍ ألَـمْ |
مِنَ آل المُغيرةِ لا يَشْهـدُو |
|
نَ عند المَجازر لَحْمَ الوضَمْ |
وقال الرَّاعِي في المعنَى الأوَّل:
فطَبَّقْنَ عُرْضَ القُفِّ ثمَّ جَزَعْنَـهُ |
|
كما طبّقَتْ في العظم مُدْيةُ جازِرِ |
وأنشد الأصمعي:
وكفّ فتىً لم يعرف السَّلخَ قَبْلَها |
|
تجُور يداه في الأديم وتجـرَحُ |
وأنشد الأصمعي:
لا يُمسِكُ العُرْف إلاّ ريث يُرسلُه |
|
لا يُلاطِم عند اللّحمِ في السُّوق |
وقد فسَّر ذلك لَبيدُ بن ربيعة، وبَيَّنه وضرب به المثل، حيث قال في الحُكْم بين عامر بن الطُّفيل، وعَلقمةَ بن عُلاثَة:
يا هَرِمَ بنَ الأكرمِينَ مَنْصِبَا |
|
إنّك قد أُوتيت حكْماً مُعْجبا |
فطَبِّق المَفْصِلَ واغنَمْ طيِّبا |
|
|
يقول: احكُمْ بين عامرِ بن الطُّفَيل وعَلقمةَ بن عُلاثة بكلمةِ فَصْل، وبأمرٍ قاطع، فتفصِلَ بها بين الحقِّ والباطل، كما يَفْصل الجزّارُ الحاذق مَفْصِل العظمَين، وقد قال الشاعر في هَرِم:
قَضَى هرِمٌ يوم المُرَيْرَة بينـهـم |
|
قضاءَ امرئ بالأوّلـيَّة عـالِـم |
قَضَى ثم وَلَّى الحكم مَن كان أهلَه |
|
وليس ذُنَابَى الرِّيش مِثلَ القـوادِم |
ويقال في الفحل إذا لم يُحْسِن الضِّراب: جمل عَيَاياء، وجمل طَبَاقاء، وقالتْ امرأةٌ في الجاهلية تشكو زَوجها زوجي عَيَاياءُ طَبَاقَاء، وكل داءٍ له داءٌ: حتَّى جعلوا ذلك مثلاً للعَيّ الفَدْم، والذي لا يتّجه للحجة، وقال الشّاعر:
طَبَاقاء لم يشهَدْ خُصوماً ولم يَقُدْ |
|
رِكاباً إلى أكوارها حين تُعْكَفُ |
وذكر زهير بن أبي سُلمى الخَطَل فعابه فقال:
وذي خَطَلٍ في القول يحسِبُ أنّه |
|
مُصيبٌ فما يلمِمْ به فهو قائلُـه |
عبأْتَ له حلماً وأكرَمْتَ غـيرَه |
|
وأعرضْتَ عنه وهو بادٍ مقاتلُه |
وقال غيره:
شُمْسٌ إذا خَطِلَ الحديثُ أوانسٌ |
|
يرقُبْنَ كلَّ مجذّرٍ تـنِـبـالِ |
الشُّمْسُ، مأخوذٌ من الخيل، وهي الخيل المرِحَة الضاربة بأذنابها من النّشاط، والمُجذَّر: القصير، والتِّنْبَال: القصير الدَّنيء، وقال أبو الأسود الدُّؤليّ، وكان من المقدَّمين في العلم، واسم أبي الأسود ظالم بن عمرو:
وشاعرِ سَوْءِ يَهضِبُ القَولَ ظالماً |
|
كم اقْتَمَّ أعشى مُظْلِمُ الليل حاطبُ |
يَهضِب: يُكثِر، والأهاضيب: المطر الكثير، اقتمّ: افتَعَل من القُمامة، وأنشد:
أعوذُ باللَّـه الأعـزِّ الأكـرم |
|
مِنْ قَوْلِيَ الشيءَ الذي لم أعلَمِ |
تخَبُّطَ الأعمَى الضَّرِير الأيهَمِ |
|
|
وقال إبراهيم بن هَرْمَة، في تطبيق المفصِل - وتُلحَق هذه المعاني بأخواتها قَبْلُ:
وعَمِيمَةٍ قد سُقْتُ فيها عائراً |
|
غُفْلاً ومنها عائرٌ مَوْسُـومُ |
طبَّقتُ مَفْصِلَها بغير حـديدةٍ |
|
فرأى العدُوُّ غَنايَ حيث أقوم |
وهذه الصِّفات التي ذكرها ثُمامة بن أشْرسَ، فوصف بها جعفرَ بن يحيى، كانَ ثمامةُ بنُ أشْرَسَ قد انتظمَها لنفسه، واستولى عليها دون جميعِ أهلِ عصره، وما علمتُ أنّه كان في زمانه قَرَويٌّ ولا بَلَديٌّ، كان بَلَغَ من حُسْن الإفهام مع قلّة عدد الحروف، ولا من سُهولةِ المَخرَج مع السلامة من التكلُّف، ما كان بلغَه، وكان لفْظُه في وزن إشارته، ومعناه في طَبَقة لفْظِه، ولم يكن لفظُه إلى سمعك بأسرَعَ مِن معناه إلى قلبك، قال بعضُ الكتّاب: معاني ثُمامةَ الظّاهرةُ في ألفاظه، الواضحةُ في مخارج كلامه، كما وصف الخُرَيميُّ شِعرَ نفسه في مديح أبي دُلَفَ، حيث يقول:
له كَلِمٌ فـيك مـعـقـولةٌ |
|
إزاءَ القُلوب كركبٍ وُقوف |
وأوّلُ هذه القصيدة قولَه:
أبا دُلَفٍ دَلَفتْ حاجتـي |
|
إليك وما خِلتُها بالدَّلوفِ |
ويظنُّون أن الخُرَيميَّ إنّما احتذى في هذا البيت على كلام أيُّوب بن القِرّيّة حين قال له بعضُ السلاطين: ما أعدَدْتَ لهذا الموقف؟ قال: ثلاثة حروفٍ كأنَّهنَّ ركْبٌ وقوف: دنيا، وآخرةٌ، ومعروف، وحدَّني صالح بن خاقان، قال: قال شَبيب بن شيبة: النَّاس موكَّلُون بتفضيل جودة الابتداء، وبمدح صاحبه، وأنا مُوَكَّل بتفضيل جودة القَطْع، وبمدح صاحِبه، وحَظُّ جودةِ القافية وإن كانت كلمةً واحدة، أرفَعُ من حظِّ سائر البيت، ثم قال شبيب: فإن ابتُلِيتَ بمقاَمٍ لا بدَّ لك فيه من الإطالة، فقدِّمْ إحكامَ البلوغ في طلب السّلامة من الخطَل، قَبل التقدَّمِ في إحكام البلوغ في شَرَف التَّجويد، وإيَّاك أن تَعْدِلَ بالسَّلامة شيئاً؛ فإنَّ قليلاً كافياً خيرٌ من كثير غيرِ شاف، ويقال إنَّهم لم يَرَوْا خطيباً قَطّ بلديّاً إلاّ وهو في أوّل تكلّفه لتلك المقامات كان مُستَثْقَلاً مستصلَفاً أيّامَ رياضته كلِّها، إلى أن يتوقَّح وتستجيبَ له المعاني، ويتمكّنَ من الألفاظ، إلاّ شبيب بن شيبة؛ فإنه كان قد ابتدأ بحلاوةٍ ورشاقة، وسهولة وعُذوبة؛ فلم يزل يزدادُ منها حتى صار في كلِّ موقفٍ يبلغُ بقليل الكلام ما لا يبلُغُه الخطباءُ المصاقع بكثيرِه، قالوا: ولمّا مات شَبيب بن شَيبة أتاهم صالح المُرّيّ، في بعض مَنْ أتاهم للتَّعزية، فقال: رحمةُ اللَّه على أديب الملوك، وجليس الفقراء، وأخي المساكين، وقال الرَّاجز:
إذا غَدَتْ سعدٌ على شَبيبِهـا |
|
على فتاها وعلى خَطيبِهـا |
من مَطْلَع الشمس إلى مَغيبِها |
|
عجِبْتَ مَن كثرتِها وطيبهـا |
حدثني صديق لي قال: قلت للعَتَّابيّ: ما البلاغة؟ قال: كلُّ مَنْ أفهمك حاجته من غير إعادةٍ ولا حُبْسَة ولا استعانةٍ فهو بليغ، فإن أردتَ اللِّسانَ الذي يرُوق الألسنة، ويفوق كلَّ خطيب، فإظهارُ ما غَمُض من الحقِّ، وتصويرُ الباطل في صورة الحقّ، قال: فقلت له: قد عرفتُ الإعادة والحُبْسَة، فما الاستعانة؟ قال: أمَا تَرَاه إذا تحدّثَ قال عِند مقاطع كلامه: يا هَنَاهُ، ويا هذا، ويا هَيه، واسمَعْ مني واستمعْ إليَّ، وافهمْ عنّي، أوَلست تفهمُ، أوَلست تعقِل، فهذا كلُّه وما أشبهه عيٌّ وفساد، قال عبد الكريم بن رَوْح الغِفَاريّ، حدثني عُمَر الشَّمَّريُّ، قال: قيل لعمرو بن عُبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بَلَغَ بك الجنّة، وعدَلَ بك عن النَّار، وما بصَّرَك مواقعَ رُشْدِك وعواقبَ غَيِّك، قال السائل: ليس هذا أريد، قال: مَن لم يُحسنْ أن يسكُتَ لم يُحسن أن يَستمِع، ومَن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول، قال: ليس هذا أريد، قال: قال النبي: إنّا مَعْشَرَ الأنبياء بِكَاءٌ أي قليلو الكلام، ومنه قيل رجل بَكئٌ، وكانوا يكرَهونَ أن يزيد منطِقُ الرجُل على عقْله، قال: قال السائل: ليس هذا أُريد، قال: كانوا يخافون مِن فِتنة القول، ومن سَقَطات الكلام، ما لايخافون من فِتنة السكوت ومن سَقَطات الصمت، قال السائل: ليس هذا أريد، قال عمرو: فكأَنَّك إنّما تريد تخيُّر اللّفظ، في حسن الإفهام، قال: نعم، قال: إنك إنْ أُوتيتَ تَقريرَ حُجّة اللَّه في عقول المكَلَّفِِين، وتخفيفَ المَؤُونة على المستمعين، وتزيينَ تلك المعاني في قلوب المريدينَ، بالألفاظِ المستحسَنة في الآذان، المقبولة عند الأذهان، رغبةً في سُرعة استجابتهم، ونَفْيِ الشّواغلِ عن قلوبهم بالموعظة الحسنة،على الكِتاب والسّنّة، كنْتَ قد أُوتِيتَ فَصلَ الخِطاب، واستوجبتَ على اللَّه جزيلَ الثّواب، قلت لعبد الكريم: مَن هذا الذي صَبَر له عَمروٌ هذا الصّبر؟ قال: قد سألت عن ذلك أبا حفص فقال: ومن كَان يجترئ عليه هذه الجُرأة إلاّ حفص بن سالم، قال عُمَر الشَّمَّرِي: كان عمرو بن عُبيدٍ لا يكاد يتكلّم، فإذا تكلّم لم يكَدْ يُطيل، وكان يقول: لا خير في المتكلِّم إذا كان كلامه لَمنْ شهِدَه دونَ نفسه، وإذا طال الكلامُ عرضَت للمتكلِّم أسبابُ التَّكلف، ولاخيرَ في شيءٍ يأتيك به التكلُّف، وقال بعضهم - وهو مِن أحسَن ما اجتبَيْناه ودَوَّنّاه - لا يكون الكلامُ يستحق اسمَ البلاغة حتَّى يسابقَ معناه لفظَه، ولفظُهُ معناه، فلا يكونَ لفظُه إلى سمعك أسبَقَ من معناه إلى قلبك، وكان مُوَسى بن عمران يقول: لم أرَ أنطَقَ من أيّوبَ بنِ جعفر، ويحيى بن خالد، وكان ثُمامة يقول: لم أر أنطَقَ من جعفرِ بنِ يحيى بن خالد، وكان سهلُ بن هارونَ يقول: لم أر أنطَقَ من المأمونِ أميرِ المؤمنين، وقال ثُمامة: سمعت جعفر بن يحيى يقول لكُتّابِه: إن استطعتم أن يكون كلامُكم كله مِثلَ التَّوقيع فافعلوا، وسمعت أبا العتاهِيَة يقول: لو شئتُ أن يكون حديثي كلُّه شعراً موزوناً لكان، وقال إسحاق بن حسان بن قُوهيّ: لم يفسِّر البلاغَة تفسيرَ ابنِ المقفَّع أحدٌ قَطُّ، سُئِل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسمٌ جامعٌ لمعانٍ تجري في وجوهٍ كثيرة، فمنها ما يكون في السُّكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جواباً، ومنها ما يكون ابتداءً، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سَجعْاً وخُطباً، ومنها ما يكون رسائل، فعامّةُ ما يكون من هذه الأبواب الوحيُ فيها، والإشارةُ إلى المعنى، والإيجازُ، هو البلاغة، فأمّا الخُطَب بين السِّماطَين، وفي إصلاح ذاتِ البَين، فالإكثارُ في غير خَطَل، والإطالةُ في غير إملال، وليكن في صدر كلامك دليلٌ على حاجتك، كما أنَّ خيرَ أبياتِ الشعر البيتُ الذي إذا سمِعْتَ صدْرَه عرَفْتَ قافيتَه كأنّه يقول: فرِّقْ بينَ صدر خطبة النكاح وبين صَدْر خُطْبة العيد، وخُطبة الصُّلْح وخُطبة التّواهُب، حتَّى يكونَ لكّ فنٍّ من ذلك صدرٌ يدلُّ على عَجُزِه؛ فإنّه لا خيرَ في كلامٍ لا يدلُّ على معناك، ولا يشير إلى مَغْزَاك، وإلى العَمود الذي إليه قصدتَ، والغرضِ الذي إليه نزَعت، قال: فقيل له: فإنْ مَلَّ السامعُ الإطالةَ التي ذكَرْتَ أنّها حقُّ ذلك الموقِف؟ قال: إذا أعطَيْتَ كلَّ مَقامٍ حَقَّه، وقمتَ بالذي يجبُ من سياسة ذلك المقام، وأرضيْتَ من يعرف حقوقَ الكلام، فلا تهتمَّ لما فاتَكَ من رضا الحاسد والعدُوّ؛ فإنّه لا يرضيهما شيءٌ، وأمّا الجاهلُ فلستَ منه وليس منك، ورِضَا جميعِ النَّاس شيءٌ لا تنالُه، وقد كان يُقال: رضا النَّاسِ شيءٌ لا يُنال، قال: والسُّنّة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطبُ ويقصِّر المُجيب، ألا تَرَى أنّ قيسَ بنَ خارجةَ بنِ سِنانٍ، لما ضرب بصفيحة سيفه مؤخِّرةَ راحلَتِي الحامِلَيْن في شأن حَمَالة داحسِ والغبْراء، وقال: مالي فيها أيُّها العَشَمتان؟ قالا له: بل ما عندك؟ قال: عندي قِرى كلِّ نازل، ورِضا كلِّ ساخط، وخطبةٌ من لدُن تطلُع الشّمس إلى أن تغرُب، آمُرُ فيها بالتّواصلُ وأنْهَى فيها عن التَّقاطُع، قالوا: فخطب يوماً إلى اللّيل فما أعادَ فيها كلمةً ولا معنىً، فقيل لأبي يعقوب: هلاَّ اكتَفَى بالأمر بالتَّواصُل عن النَّهي عن التَّقاطع؟ أوَ ليس الأمرُ بالصّلَة هو النَّهيُ عن القطيعة؟ قال: أو ما علِمْتَ أنّ الكنايةَ والتعريض لا يعملانِ في العقول عملَ الإفصاح والكَشْف، قال: وسُئِل ابنُ المقفَّع ن قول عمر رحمه اللَّه: ما يتصَعَّدُني كلامٌ كما تتصعَّدَني خطبةُ النِّكاح، قال: ما أعرفه إلا أن يكون أراد قُربَ الوجوه من الوجوه، ونَظر الحداق من قُربٍ في أجواف الحِداق، ولأنّه إذا كان جالساً معهم كانوا كأنَّهُم نُظَراءُ وأَكْفَاءٌ، فإذا عَلاَ المنبرَ صارُوا سُوقةً ورَعِيّةً، وقد ذهب ذاهبونَ إلى أنّ تأويلَ قولِ عمرَ يرجع إلى أنّ الخطيب لا يجد بُدّاً من تزكية الخاطب، فلعله كرِه أن يمدحَه بما ليس فيه، فيكونَ قد قال زُوراً وغَرَّ القومَ من صاحبِه، ولعمري إنّ هذا التأويل لَيجوز إذا كان الخطيب موقوفاً عن الخَطابة، فأمَّا عمرُ بنُ الخطّاب، رحمه اللَّه، وأشباهُه من الأئمة الراشدين، فلم يكونوا ليتكلّفوا ذلك إلا فيمن يستحقّ المدح، وروى أبو مِخْنَف، عن الحارث الأعور، قال: واللَّهِ لقد رأيتُ عليّاً وإنَّه ليخطُبُ قاعداً كقائم، ومحارِباً كمُسالم، يريد بقوله: قاعداً، خطبة النكاح،، وقال الهيثمُ بن عدِيّ: لم تكن الخطباءُ تخطب قُعوداً إلاّ في خُطْبة النكاح، وكانوا يستحسنون أن يكون في الخُطَبِ يومَ الَحَفْل، وفي الكلام يوم الجَمْع آيٌ من القرآن؛ فإن ذلك مما يورث الكلام البهاءَ والوَقار، والرّقة، وسَلَس الموقِع، قال الهيثم بن عديّ: قال عِمران بن حِطّان: إنّ أوّلَ خطبةٍ خطبتُها، عند زياد - أو عند ابن زياد - فأعجِبَ بها النّاس، وشهدها عَمّي وأبي، ثم إنِّي مررتُ ببعض المجالس، فسمعتُ رجلاً يقولُ لبعضهم: هذا الفتى أخطَبُ العربِ لو كان في خطبته شيءٌ من القرآن، وأكثرُ الخُطباء لا يتمثَّلون في خطبهم الطِّوال بشيءٍ من الشِّعر ولا يكرهونه في الرسائل، إلاّ أن تكون إلى الخلفاء، وسمعتُ مُؤمَّل بنَ خاقانَ، وذكر في خطبته تميمَ بن مُرّ، فقال: إنَّ تميماً لها الشَّرفُ العَودُ، والعزُّ الأقعَس، والعدد الهَيْضَل، وهي في الجاهليّة القُدَّامُ، والذِّروةُ والسَّنام، وقد قال الشاعر:
فقلتُ له وأنْكَرَ بعضَ شأنِي |
|
ألم تعرِفْ رقابَ بني تميم |
وكان المؤمَّل وأهلُه يخالفون جُمهور بني سعدٍ في المقالة، فلشدّة تَحَدُّبه على سَعْدٍ وشفقته عليهم، كان يناضِل عند السُّلطان كلَّ مَن سعى على أهل مقالتهم، وإن كان قولُه خلافَ قولهم؛ حدَباً عليهم، وكان صالح المُرِّيّ، القاصُّ العابد، البليغ، كثيراً ما ينشد في قَصَصه وفي مواعظه، هذا البيت:
فباتَ يُرَوِّي أُصولَ الفسـيلِ |
|
فعاشَ الفسِيلُ ومات الرّجُلْ |
وأنشد الحسنُ في مجلِسه، وفي قَصَصه وفي مواعظه: من الخفيف
ليس مَن ماتَ فاستراحَ بميْتٍ |
|
إنما الميت مـيت الأحـياء |
وأنشد عبدُ الصمد بن الفَضْل بن عيسى بن أبَانٍ الرَّقاشيّ، الخطيب القَاصُّ السَّجَّاع، إمّا في قَصَصه، وإمّا في خُطْبة من خُطَبه، رحمه اللَّه:
أرضٌ تخيَّرَها لطيب مَقِيلـهـا |
|
كعبُ بن مامةَ وابـنٌ أمِّ دُوَادِ |
جَرَتِ الرِّياحُ عَلَى مَحلِّ دِيارِهم |
|
فكأنَّهُمْ كَانُوا علـى مِـيعـادِ |
فأرَى النعيمَ وكُلَّ ما يُلهَى بـه |
|
يوماً يَصِيرُ إلى بِلىً ونَـفـادِ |
وقال أبو الحسن: خطب عبيد اللَّه بن الحسن على منبر البصرة في العيد وأنشد في خطبته:
أين الملوكُ التي عن حَظِّها غَفلَتْ |
|
حتَّى سقاها بكأسِ الموت ساقيها |
تلك المدائنُ بـالآفـاقِ خـالـيةً |
|
أمست خلاءً وذاق الموتَ بانِيها |
قال: وكان مالكُ بن دينارٍ يقولُ في قَصصه: ما أشَدَّ فِطام الكبير، وهو كما قال القائل:
وتَرُوضُ عِرسَكَ بعدما هَرِمَتْ |
|
ومن العَنَاءِ رياضة الـهَـرِمِ |
ومثله أيضاً قول صالح بن عبد القُدُّوس: من السريع
والشيخُ لا يتـرُكُ أخـلاقَـه |
|
حتَّى يُوارَى في ثَرى رَمْسِهِ |
إذا ارعَوَى عادَ إلى جَهْلـه |
|
كذي الضَّنَى عاد إلى نُكْسِه |
وقال كلثومُ بن عمرٍو العَتّابيّ:
وكنتَ امرأً لو شئْت أن تَبلُغ المدى |
|
بَلَغْتَ بأدنَى نعمةٍ تسـتـديمُـهـا |
ولكن فِطامُ النَّفسِ أثْقَلُ مَحْـمَـلاً |
|
من الصَّخرةِ الصَّمَاء حين تَرومُها |
وكانوا يَمْدحون الجهيرَ الصّوتِ، ويذُمُّون الضّئيلَ الصّوت؛ ولذلك تشادقوا في الكلام، ومدَحُوا سَعة الفم، وذمُّوا صِغَر الفم، قال: وحدّثني محمد بن يَسيرٍ الشّاعر قال: قيل لأعرابيّ: ما الجمال؟ قال: طُولُ القامة وضِخَم الهامة، ورُحب الشِّدق، وبُعْد الصَّوت، وسأل جعفرُ بن سليمانَ أبا المِخشّ عن ابنه المِخَشّ، وكان جزِع عليه جزعاً شديداً، فقال: صفْ لي المِِخشَّ، فقال: كان أشدق خُرطُمانيّاً، سائلاً لعابُه، كأنّما ينظر من قَلْتَيْن، وكأنَّ تَرقُوَتَهُ بُوانٌ أو خالِفَةٌ، وكأن مَنْكِبَه كِرْكِرةُ جملٍ ثَفَالٍ، فقأ اللَّهُ عينيَّ إن كنتُ رأيتُ قبلَه أو بعدَه مِثَلهُ، قال: وقلتُ لأَعرابيٍّ: ما الجمال؟ قال: غُؤُور العَينَين، وإشراف الحاجبين، ورُحْب الشِّدقين، وقال دَغْفَل بن حنظلة النسّابة، والخطيب العلاّمة، حين سَألَه معاوية عن قبائل قريش، فلما انتهى إلى بني مخزوم قال: مِعْزَى مَطيرةٌ، علَتْها قُشَعْريرة، إلا بني المُغيرة، فإن فيهم تشادُقَ الكلام، مصاهرةَ الكرام، وقال الشاعر في عمرو بن سعيد الأشدق:
تشادقَ حتى مال بالقول شِدقهُ |
|
وكلُّ خطيبٍ لا أبَا لَكَ أشْدقُ |
وأنشد أبو عبيدة:
وصُلع الرُّؤوس عِظام البُطون |
|
رحاب الشِّداق غلاظ القَصَرْ |
قال: وتكلَّم يوماً عند معاويةَ الخطباءُ فأحسنوا، فقال: واللَّه لأرمينهمْ بالخطيب الأشدَق قم يا يزيدُ فتكلّمْ، وهذا القولُ وغيرُه من الأخبار والأشعار، حُجّةٌ لمن زَعم أنّ عمرو بن سعيدٍ لم يُسمَّ الأشدقَ للفَقَم ولا للفَوَه، وقال يحيى بن نوفل، في خالد بن عبد اللَّه القسريّ:
بَلّ السّروايلَ مِن خوفٍ ومن وَهَلٍ |
|
واستَطْعَمَ الماءَ لما جَدَّ في الهَرَب |
وألحَنُ النَّاسِ كلِّ النَّاسِ قـاطـبةً |
|
وكان يُولَع بالتشديق في الخُطَبِ |
ويدلُّك على تفضيلهم سَعةَ الأشداقِ، وهجائهم ضيقَ الأفواه، قول الشاعر:
لحى اللَّهُ أفْواهَ الدَّبَي مِن قَبيلَةٍ |
|
إذا ذُكرت في النّائبات أمورُها |
وقال آخر:
وأفواهُ الدبي حامَـوْا قـلـيلاً |
|
وليس أخو الحِماية كالضَّجُورِ |
وإنّما شبّهَ أفواهَهم بأفواه الدَّبَى، لصِغَر أفواههم وضِيقها، وعلى ذلك المعنى هجا عَبْدة بن الطبيب حُيَيَّ بن هَزَّالٍ وابنَيه، فقال:
تدعو بُنَيَّكَ عَـبّـاداً وجـرثـمةً |
|
يا فأرةٍ شجَّها في الجُحْرِ مِحفَارُ |
وقد كان العباس بن عبد المطلب جهيراً جهيرَ الصوت، وقد مُدح بذلك؛ وقد نفَع اللَّه المسلمينَ بجهارة صوته يوم حُنين، حين ذهَب الناس عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فنادى العباسُ: يا أصحابَ سُورةِ البقَرة، هذا رسول اللَّه، فتراجَعَ القومُ، وأنزل اللَّه عزّ وجلَّ النَّصرَ وأتى بالفتح، ابنُ الكلبيِّ عن أبيه عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان قَيْسُ بنُ مَخْرَمةَ بنِ المطَّلب بن عبد مناف، يمكُو حَولَ البيت، فيُسمَع ذلك من حِرَاء، قال اللَّه عزّ وجلّ: "وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاَّ مُكَاءً وَتَصدِيَةً" الأنفال:53، فالتصدية: التصفيق، والمُكاء: الصَّفيرُ أو شبيهٌ بالصَّفير، ولذلك قال عنترة:
وحَليلِ غانيةٍ تركت مُجـدّلاً |
|
تمكُو فريصتُه كشِدْقِ الأعْلَمِ |
وقال العُجَيرْ السَّلُوليُُّ في شِدّة الصوت:
ومِنْهنَّ قَرعِي كلَّ بابٍ كـأنّـمـا |
|
به القومُ يَرجُونَ الأَذِينَ نُـسُـورُُ |
فجئتُ وخَصْمي يَصْرِفُون نُيوبهـم |
|
كما قُصِّبَت بين الشّفَـار جَـزُورُ |
لدى كلِّ موثوق به عندَ مِثْـلـهـا |
|
له قدمٌ في النّاطـقـين خـطـيرُ |
جهيرٌ وممتدُّ العـنـان مُـنـاقـلٌ |
|
بصيرٌ بعَوْرات الكـلامِ خـبـيرُُ |
فظلَّ رِداءُ العَصْب مُلقىً كـأنّـه |
|
سَلَى فرسٍ تحتَ الرِّجال عـقـير |
لوَ أنَّ الصُّخورَ الصُّم يَسمَعن صَلْقَنا |
|
لرُحْنَ وفي أعراضهن فُـطـورُ |
الصَّلْقُ: شدة الصوت، وفُطُور: شقوق، وقال مُهلْهل:
ولولا الرِّيح أُسْمِعَ أهلُ حَجْرٍ |
|
صَليلَ البِيْض تُقرَعُ بالذكُورِ |
والصَّريف: صوت احتكاك الأنياب، والصَّليل: صوت الحديد هاهنا، وفي شِدَّة الصَّوت قال الأعشى في وصف الخطيب بذلك: من الخفيف
فيهم الخِصْبُ والسَّماحة والنج |
|
دَةُ جَمْعاً والخَاطبُ الصَّلاّقُُ |
وقال بشّار بن برد في ذلك يهجو بعضَ الخطباء:
ومِن عجَب الأيام أنْ قمتَ ناطقـاً |
|
وأنتَ ضئيلُ الصّوت منتفخ السَّحْرِ |
ووقع بين فتىً من النَّصارى وبين ابن فهْريز المِطران كلامٌ، فقال له الفتى: ما ينبغي أن يكون في الأرض رجلٌ واحدٌ أجهلَ منك وكان ابنُ فِهْريز في نفسه أكثَر النّاسِ علماً وأدباً، وكان حريصاً على الجَثْلقةِ، فقال للفتى: وكيف حلَلْتُ عندَك هذا المحلَّ؟ قال: لأنّك تَعلم أنّا لا نتَّخذ الجاثَلِيقَ إلاّ مَدِيدِ القامة، وأنت قصيرُ القامة؛ ولا نتّخذه إلاّ جهيرَ الصوتِ جيّد الحَلق، وأنت دقيق الصَّوت رديء الحلْق؛ ولا نتَّخذه إلاّ وهو وافرُ اللِّحية عظيمُها وأنت خفيفُ اللِّحية صغيرها؛ وأنت تعلم أنّا لا نختار للجَثْلَقة إلاّ رجلاً زاهداً في الرِّياسة، وأنت أشدُّ النَّاس عليها كَلَباً، وأظهرُهم لها طلباً، فكيف لا تكونُ أجهَلَ النّاسِ وخصالُك هذه كلُّها تمنع من الجثْلقة، وأنتَ قد شَغلْتَ في طلبها بالَكَ، وأسهرت فيها لَيْلَك، وقال أبو الحَجْناء في شِدَّة الصوت:
إني إذا ما زبّبَ الأشـداقُ |
|
والتجَّ حولِي النّقْع واللَّقْلاَقُ |
ثَبْتُ الجَنَانِ مِرْجَـمٌ وَدَّاقُُ |
|
|
المِرْجم: الحاذق بالمراجمة بالحجارة، والوَدَّاق: الذي يُسيل الحجارةَ كالوَدْق من المطَر، وجاء في الحديث: مَن وَقِيَ شَرّ لَقلقِه وقَبْقَبه وذَبذَبه وُقيَ الشرّ، يعني لسانَه وبطنَه وفرْجه، وقال عمر بن الخطاب في بَواكي خالدِ بن الوليد بن المغيرة: وما عليهنَّ أن يُرِقن مِن دموعهنّ على أبي سُليمان ما لم يكن نَقْع أو لَقلَقةٌ، وجاء في الأثر: ليس منا مَن حَلَق أو صَلَق، أو سَلَق، أو شَقَّ، ومما مَدَح به العُمانيُّ هارونَ الرّشيدَ، بالقصيد دون الرجز، قولُه:
جَهير العُطَاس شَديد الـنِّـياطِ |
|
جَهِير الرُّوَاء جَهيرُ النّـغَـمْ |
ويخطو على الأَيْن خَطْوَ الظّليمِ |
|
وَيعلُو الرّجالَ بجسمٍ عَـمَـمْ |
النّياط: معاليق القلب، والأَينُ: الإعياءُ، والظّليم: ذكر النعام، ويقال إنه لعَمَم الجسم، وإن جسمَه لعَمَمٌ إذا كان تامّاً، ومنه قيل: نبتٌ عمم، واعتمَّ النّبت، إذا تَمَّ، وكان الرَّشيد إذا طاف بالبيت جعَلَ لإزاره ذنبَيْنِ عن يمينٍ وشمالٍ، ثمّ طاف بأوسَعَ مِن خطو الظّليم، وأسرعَ من رَجْعِ يدِ الذّئب، وقد أخبرني إبراهيم بن السِّنديّ بمحصول ذَرْع ذلك الخَطْو، إلا أني أحسِبه فراسخ فيما رأيته يذهب إليه، وقال إبراهيم: ونظر إليه أعرابيٌّ في تلك الحال والهيئة فقال:
خَطوَ الظّليمِ ريع مُمْسىً فانشمَرْ |
ريع: فُزّع، مُمسىً: حين المَساء، انشمر:جَدّ في الهرب، وحدَّثني إبراهيم بن السِّنديّ قال: لما أَتى عبدَ الملك بن صالحٍ وفدُ الرّوم وهو في بلادهم، أقام على رأسه رجالاً في السِّماطين لهم قَصَرٌ وهامٌ، ومناكبُ وأجسام، وشواربُ وشعور، فبينا هم قيامٌ يكلِّمونه ومنهم رجلٌ وجهُه في قفا البِطْريق إذْ عَطَس عَطسةً ضئيلة، فلحظه عبدُ الملك، فلم يدر أيَّ شيء أنكَرَ منه، فلما مضى الوفدُ قال له: ويلَكَ، هَلا إذْ كنتَ ضيِّق المنخر كزَّ الخَيْشوم، أتبَعْتَها بصيحةٍ تخلع بها قلب العِلْج؟ وفي تفضيل الجَهارة في الخُطب يقول شَبَّةُ بن عِقَالٍ بعَقِبِ خطبته عند سليمانَ بنِ عليّ بن عبد اللَّه بن عباس:
ألا ليتَ أمَّ الجهم واللَّـه سـامـعٌ |
|
ترى، حيثُ كانت بالعراق، مَقامي |
عشِيّةَ بَذَّ الناسَ جهري ومَنْطِقـي |
|
وبَذَّ كلامَ النَّاطـقـين كـلامـيُ |
وقال طحلاءُ يمدح معاويةَ بالجهارة وبجودة الخطبة:
رَكُوبُ المنابر وثَّابُهـا |
|
مِعَنٌّ بخُطبَته مِجْهـرُ |
تَرِيعُ إليه هَوادي الكلامِ |
|
إذا ضَلّ خُطبتَه المِهْذَرُُ |
مِعَنٌّ: تَعِنّ له الخطبة فيخطبُها مقتضِباً لها، تَريع: ترجع إليه، هوادي الكلام: أوائله، فأراد أنَّ معاويَةَ يخطب في الوقت الذي يذهب كلامُ المِهْذَر فيه، والمِهْذَرُ: المكْثارُ، وزعموا أنّ أبا عطيّةَ عُفَيفاً النَّصريّ، في الحرب التي كانت بين ثقيفٍ وبين بني نَصر، لمّا رأى الخيل بعَقْوته يومئذ دَوَائِسَ نادى: يا صباحاه أُتِيتم يا بني نَصر، فألقت الحَبالَى أولادَها مِن شدّة صوته، قالوا: فقال ربيعةُ ابن مسعودٍ يصف تلك الحربَ وصوتَ عُفَيف:
عُقاماً ضَرُوساً بين عوفٍ ومالك |
|
شديداً لَظَاها تترك الطِّفلَ أشْيَبـا |
وكانت جُعَيلٌ يوم عَمْـرو أراكةٍ |
|
أُسودَ الغَضَى غَادَرْنَ لحماً مُترَّبا |
ويومٍ بِمَكْرُوثاءَ شَدَّتْ مُـعَـتِّـبٌ |
|
بغاراتها قد كان يوماً عَصَبْصَبَا |
فأسقَطَ أحبالَ النّساء بـصـوتـه |
|
عُفَيفٌ وقد نادى بنصرٍ فَطَرّبـا |
وكان أبو عروة، الذي يقال له أبو عُروةِ السِّباعِ، يصيح بالسَّبُع وقد احتمَل الشَّاة، فيخلّيها ويذهبُ هارباً على وجهِه، فضرب به الشّاعرُ المَثَل - وهو النابغةُ الجعديّ - فقال: من المنسرح
وأزْجُر الكاشحَ العدُوَّ إذا اغْ |
|
تابَكَ عندي زَجْراً على أضَمِ |
زجْرَ أبي عُروةَ السِّبَـاعَ إذا |
|
أشفَقَ أن يلتَبِسْنَ بالـغَـنَـمِ |
وأنشد أبو عمرٍو الشّيبانيُّ لرجلٍ من الخوارج يصف صيحة شبيبِ بن يزيد بن نُعَيم، قال أبو عبيدة وأبو الحَسَن: كان شبيبٌ يصيح في جنَبات الجيشِ إذا أتاه، فلا يَلوِي أحدٌ على أحد، وقال الشاعر فيه:
إنْ صاح يوماً حسِبتَ الصَّخرَ منحدِراً |
|
والرِّيحَ عاصفةً والموجَ يلـتـطـمُ |
قال أبو العاصي: أنشدني أبو مُحرِز خلفُ بنُ حيَّانَ، وهو خلفٌ الأحمر مولى الأشعريِّين، في عيب التشادق:
له حَنْجرٌ رَحْبٌ وقول منـقّـحٌ |
|
وفَصْلُ خطابٍ ليس فيه تشادقُ |
إذا كان صوتُ المرء خَلْفَ لَهاتهِ |
|
وأنْحَى بأشداقٍ لهنَّ شَقـاشِـقُ |
وقبقَبَ يَحكِي مُقْرَماً في هِبابِـه |
|
فليس بمسبوقٍ ولا هو سـابـقُُ |
وقال الفرزدق:
شقاشِقُ بين أشداق وهامِ |
وأنشد خلفٌ:
وما في يديه غيرُ شِـدقٍ يُمـيلـه |
|
وشِقْشِقةٍ خَرساءَ ليس لها نَعْـبُ |
متَى رامَ قولاً خالفـتـه سـجـيّةٌ |
|
وضِرس كقَعْب القَينِ ثَلّمَه الشّعْبُُ |
وأنشد أبو عمرٍو وابنُ الأعربيّ:
وجاءت قريشٌ قريشُ البطَاح |
|
هي العُصَبُ الأُوَلُ الدَّاخِلَهْ |
يقودُهُم الفِيلُ والـزَّنْـدَبـيلُ |
|
وذو الضِّرس والشَّفةِ المائلهْ |
ذو الضرس وذو الشفة، هو خالد بن سَلَمة المخزوميّ الخطيب، الفيلُ والزَّندبيل: أبان والحكم ابنا عبدِ الملك بن بشر بن مروان، يَعني دُخُولَهم على ابن هبيرة، والزَّندبيل: الأنثى من الفيَلة، فيما ذكر أبو اليقظان سُحيم بن حفص، وقال غيره: هو الذّكر، فلم يقِفُوا من ذلك على شيء، وقال الشاعر في خالد بن سَلَمة المخزوميّ:
فما كان قائلَهـم دَغْـفَـلٌ |
|
ولا الحيقُطَان ولا ذو الشَّفَهْ |
قوله دَغفل إيد دَغفل بن يزيد بن حنظلة الخطيب النَّاسب، والحَيْقُطَان: عبدٌ أسودُ، وكان خطيباً لا يُجارَى، وأنشد بعضُ أصحابنا:
وقافيةٍ لجْلـجـتُـهـا فـرددتـهـا |
|
لذي الضرس لو أرسلتُها قَطرتْ دَما |
وقال الفرزدق: أنا عند الناس أشعرُ العرب، ولرُبَّما كان نزْعُ ضِرسٍ أيسرَ عليَّ من أن أقول بيت شعر، قال: وأنشدنا منيع:
فجئتُ ووَهبٌ كالخَلاة يضمُّها |
|
إلى الشِّدق أنيابٌ لهنّ صريفُ |
فقَعقعتُ لَحيَيْ خالدٍ واهتضمتُه |
|
بُحُجَّة خَصمٍ بالخصوم عنيفُُ |
أبو يعقوب الثَّقَفِي عن عبد الملك بن عميْر، قال: سئل الحارث بن أبي ربيعة عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللَّه عنه فقال: كم كان له ما شئتَ من ضرسٍ قاطعٍ في العلم بكتاب اللَّه، والفقهِ في السنّة، والهجرة إلى اللَّه ورسوله، والبَسطة في العَشيرة، والنَّجدة في الحرب، والبذلِ للماعون، وقال الآخر:
ولم تُلفِني فَهّاً ولم تُلْفِ حُجّتـي |
|
ملجلَجةً أبغِي لها مَن يُقيمُهـا |
ولا بتُّ أُزْجيها قَضيباً وتَلتـوي |
|
أراوِغُها طوراً وطوراً أَضِيمُها |
وأنشدني أبو الرُّدينيّ العُكْلي:
فتىً كان يعلو مَفرِقَ الحقِّ قولُه |
|
إذا الخطباءُ الصِّيد عَضَّل قيلُها |
وقال الخُريميُّ في تشادق عليّ بن الهيثم: من الخفيف
يا عليَّ بنَ هيثمٍ يا سُماقا |
|
قد ملأْتَ الدُّنْيا علينا نِفاقا |
خَلِّ لَحيَيْك يسكُنانِ ولا تـضْ |
|
رب على تغلِبٍ بلَحْييْك طاقا |
لا تَشادَقْ إذا تكلّمتَ واعلـمْ |
|
أنَّ للنّاسِ كلِّهـم أشـداقـا |
وكان عليُّ بن الهيثمِ جواداً، بليغَ اللسان والقلم، وقال لي أبو يعقوب الخُرَيميّ: ما رأيت كثلاثة رجالٍ يأكلون الناس أكلاً حتّى إذا رأوا ثلاثةَ رجالٍ ذابوا كما يذوب الملح في الماء، والرّصاص في النّار: كان هشام ابن محمدٍ علاّمةً نسّابة، وراويةً للمثالب عيّابة، فإذا رأى الهيثم بنَ عديّ ذاب كما يذوب الرَّصاص في النّار، وكان عليّ بن الهيثم مِفْقَعانِيّاً صاحب تفقيع وتقعير، ويستولي على كلام أهل المجلس، لا يحفِل بشاعرٍ ولا بخطيبٍ، فإذا رأى مُوسَى الضبّيَّ ذابَ كما يذوب الرَّصاص عند النّار، وكان عَلّويه المغنِّي واحِدَ النّاسِ في الرِّواية وفي الحكاية، وفي صنعة الغِناء وجَوْدة الضَّرب، وفي الإطراب وحسن الخَلْق، فإذا رأى مُخارقاً ذاب كما يذوب الرَّصاص عند النار، ثم رجع بنا القول إلى ذكر التشديق وبُعْد الصوت، قال أبو عبيدة: كان عُروة بن عتبة بن جعفر بن كلابِ، رَديفاً للملوك، ورحّالاً إليهم، وكان يقال له عُروةُ الرَّحّال، فكان يومَ أقبَلَ مع ابن الجوْن، يريد بني عامر، فلمَّا انتهى إلى وارداتٍ مع الصُّبح، قال له عُروة: إنّك قد عَرَفتَ طولَ صحبتي لك، ونَصيحتي إيّاك، فائْذَن لي فأهتِفَ بقومي هَتفةً، قال: نَعم، وثلاثاً، فقام فنادى: يا صَبَاحَاه ثلاثَ مرّات، قال: فسمِعْنا شيوخَنا يزعمون أنّه أسمَعَ أهل الشِّعب، فتلبَّبوا للحرب، وبَعَثُوا الرَّبَايَاُُ، ينظرون من أين يأتِي القوم، قال: وتقول الرُّوم: لولا ضَجّة أهل رُومِيَّة وأصواتُهم، لسَمِع النّاس جميعاً صوتَ وُجوب القُرْص في المغْرِب، وأعْيَبُ عندهم مِن دقّة الصوت وضِيق مخرَجِه وضعف قُوّته، أن يعترِيَ الخطيبَ البُهْرُ والارتعاش، والرِّعدة والعَرَق، قال أبو الحسن: قال سفيان بن عُيَيْنة: تكلَّم صَعصعةُ عند معاويةَ فعرِقَ، فقال معاوية: بَهَرك القول فقال صعصعة: إنّ الجياد نَضّاحةٌ بالماء، والفرس إذا كان سريعَ العرق، وكان هشّاً، كان ذلك عَيْباً، وكذلك هو في الكثرة، فإذا أبطأ ذلك وكان قليلاً قيل: قد كبا؛ وهو فرسٌ كاب، وذلك عيبٌ أيضاً، وأنشدني ابنُ الأعرابيّ، لأبي مِسمارٍ العكليّ، في شبيهٍ بذلك قولَه:
لِلَّـهِ دَرُّ عـامـرٍ إذا نَـطَــقْ |
|
في حَفْل إمْلاك وفي تلك الحِلََقْ |
ليس كقومٍ يُعْرَفون بـالـسَّـرَقْ |
|
من خُطَب النَّاس وممّا في الوَرَقْ |
يلفّقُون القولَ تلفِـيق الـخَـلَـقْ |
|
مِن كلِّ نَضّاح الذَّفَارَى بالعَـرقْ |
إذا رمَتْه الخطباءُ بـالـحَـدَقْ |
|
|
والذّفارَى هنا: يعني بدن الخطيب، والذِّفريانِ للبعير، وهما اللَّحمتان في قفاه، وإنّما ذكر خطب الإملاك لأنّهم يذكرون أنّه يَعْرِض للخطيب فيها مِن الحَصَر أكثرُ ممّا يَعرِض لصاحب المِنبر، ولذلك قال عمرُ بن الخطّاب رحمه اللّه: ما يتصَعَّدُني كلامٌ كما تتصعَّدُني خُطبة النكاح، وقال العُمَانيُّ:
لا ذِفِرٌ هَشٌّ ولا بكابِي |
|
ولا بلجلاجٍ ولا هَيَّابِ |
الهشُّ: الذي يَجُود بعرقه سريعاً؛ وذلك عَيب، والذَّفِرُ: الكثير العرق، والكابي: الذي لا يكاد يَعرق، كالزَّنْد الكابي الذي لا يكاد يُورِي، فجعل له العُماني حالاً بين حالينِ إذا خَطَب، وخَبَّر أنّه رابطُ الجأْش، معاودٌ لتلك المقامات، وقال الكميت بن زيد - وكان خطيباً - : إنّ للخطبة صَعْداءَ، وهي على ذي اللُّب أرْمَى، وقولهم: أرمَى وأرْبَى سواءٌ، يقال: فلان قد أرمَى على المائة وأربَى، ولم أر الكميتَ أفصَحَ عن هذا المعنى ولا تَخَلّص إلى خاصَّته، وإنَّما يجترئ على الخَطَبَةِ الغِرّ الجاهل الماضي، الذي لا يَثنيه شيءٌ، أو المطبوع الحاذق، والواثقُ بغَزَارته واقتداره، فالثِّقة تنفِي عن قلبه كلَّ خاطرٍ يُورِث اللَّجلجة والنحنحة، والانقطاعَ والبُهْر والعَرَق، وقال عُبيد اللَّه بنُ زياد، وكان خطيباً، على لُكْنة كانت فيه: نِعم الشيء الإمارَةُ، لولا قَعقعة البُرُد، والتشرُّن للخُطَبُُ، وقيل لعبد الملك بن مَرْوَان: عَجِلَ عليك الشيبُ يا أمير المؤمنين قال: وكيف لا يَعجَل عليَّ وأنا أَعرِضُ عَقْلِي على النَّاس في كلِّ جُمُعةٍ مَرَّةً أو مرتين، يعني خطبةَ الجمعة وبعض ما يعرِض من الأمور، وقال بعض الكلبيين:
فإذَا خطَبتَ على الرِّجال فلا تكن |
|
خَطِلَ الكلام تقوله مُـخـتـالا |
واعلَمْ بأنّ من السُّكـوت إبـانةً |
|
ومن التكلُّم ما يكـون خَـبَـالا |