كلام بشر بن المعتمر

مرَّ بشر بنُ المعتمر بإبراهيم بن جبلة بن مَخْرَمة السَّكونيّ الخطيبِ، وهو يعلِّم فتيانهم الخَطابة، فوقف بِشرٌ فظنّ إبراهيمُ أنّه إنّما وقَفَ ليستفيد أو ليكونَ رجلاً من النَّظّارة، فقال بِشر: اضربُوا عمّا قالَ صَفْحاً واطوُوا عنه كَشْحاً، ثمّ دَفَع إليهم صحيفةً من تحبيره وتنميقه، وكان أوّل ذلك الكلام: خُذْ من نفسِك ساعةَ نشاطِك وفراغِ بالك وإجابتِها إياك، فإنّ قليل تلك الساعةِ أكرَمُ جوهراً، وأشرَفُ حسَباً، وأحسن في الأسماع، وأحلَى في الصدور، وأسلَمُ من فاحش الخَطَاءِ، وأجْلَبُ لكلِّ عين وغُرّةٍ، مِن لفظٍ شريف ومعنىً بديع، واعلَمْ أنّ ذلك أجدى عليك ممَّا يُعطيك يومُك الأطولُ، بالكدِّ والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلُّف والمعاودة، ومهما أخطأَك لم يُخطئْك أن يكون مقبولاً قَصْداً، وخفيفاً على اللِّسان سهلاً؛ وكما خرج من يَنبوعه ونَجَم من مَعْدِنه، وإياك والتوعُّرَ، فإنّ التوعُّر يُسلمِكُ إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلكُ معانَيكَ، ويَشين ألفاظك، ومن أَرَاغَ معنىً كريماً فليلتمِسْ له لفظاً كريماً؛ فإنّ حقّ المعنى الشريفِ اللفظُ الشّريف، ومن حقِّهما أن تصونهما عما يفسدُهما ويهجِّنُهمَا، وعمّا تعودُ من أجله أن تكونَ أسوأَ حالاً مِنك قبل أن تلتمس إظهارَهُما، وترتهِن نفسَك بملابستِهما وقضاءِ حقِّهما، فكُن في ثلاثِ منازل؛ فإن أُولَى الثلاث أن يكون لفظُك رشيقاً عذْباً، وفخْماً سهلاً، ويكونَ معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً، إمَّا عند الخاصَة إنْ كنتَ للخاصَّة قصَدت، وإمَّا عند العامَّة إنْ كنتَ للعامَّة أردت، والمعنى ليس يشرفُ بأن يكونَ من معاني الخاصَّة، وكذلك ليس يتَّضع بأن يكونَ من معاني العامَّة، وإنّما مَدارُ الشّرَف على الصواب وإحراز المنفعة، مع موافَقَة الحال، وما يجب لكلّ مَقامٍ من المقال، وكذلك اللفظ العامّيّ والخاصّيّ، فإنْ أمكنَكَ أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغةِ قلمك، ولُطف مَدَاخلك، واقتدارِك على نفسك، إلى أن تُفْهم العامَّة معانيَ الخاصَّة، وتكسُوَها الألفاظَ الواسطة التي لا تَلطُف عن الدَّهْماء، ولا تَجفُو عن الأَكْفاء، فأنت البليغ التامّ،  قال بشر: فلما قُرِئت على ابراهيمَ قال لي: أنا أحوَجُ إلى هذا من هؤلاء الفتيان، قال أبو عثمان: أما أنا فلم أرَ قطُّ أمَْثَلَ طريقةً في البلاغة من الكتّاب؛ فإنهم قد التمَسُوا من الألفاظ ما لم يكن متوعراً وحْشيّاً، ولا ساقطاً سُوقيّاً، وإذا سمعتموني أذكُر العَوامّ فإنّي لستُ أعني الفلاّحين والحُِشْوة والصُّنَّاعَ والباعة، ولستُ أعني أيضاً الأكرادَ في الجبال، وسُكّانَ الجزائر في البحار، ولست أعني من الأمم مَثلَ الببر والطّيلسان، ومثل مُوقَان وجِيلان ومثل الزِّنج وأشباه الزّنج، وإنّما الأمم المذكورون مِن جميع الناس أربع: العرب، وفارسُ، والهند، والرّوم، والباقون همجٌ وأشباه الهَمج، وأما العوامّ مِن أهل مِلّتنا ودعوتنا، ولغتنا وأدبنا وأخلاقنا، فالطّبقة التي عقولُها وأخلاقُها فوقَ تلك الأمم ولم يبلُغوا منزلَة الخاصة منا، على أنّ الخاصَة تتفاضل في طبقاتٍ أيضاً، ثم رجع بنا القولُ إلى بقيّة كلام بشرِ بن المعتمر، وإلى ما ذَكَر من الأقسام، قال بشرٌ: فإن كانت المنزلةُ الأولى لا تواتيك ولا تعتريك ولا تسمَح لك عند أوَّل نظَرك وفي أول تكلُّفك، وتجد اللّفْظة لم تقع موقعَها ولم تَصر إلى قرارها وإلى حقِّها من أماكنها المقسومة لها، والقافيةَ لم تحُلَّ في مركزها وفي نِصابها، ولم تتَّصل بشكلها، وكانت قلقةً في مكانها، نافرةً مِن موضعها، فلا تُكْرِهْها على اغتصاب الأماكن، والنزولِ في غير أوطانها؛ فإنّك إذا لم تَتَعاطَ قرضَ الشّعر الموزون، ولم تتكلَّف اختيارَ الكلام المنثور، لم يَعِبْك بترك ذلك أحد، فإنْ أنتَ تكلّفتهما ولم تكن حاذقاً مطبوعاً ولامُحكماً لشأنك، بصيراً بما عليك وما لَكَ، عابَكَ مَن أنت أقلُّ عيباً منه، ورأى مَن هو دونَك أنّه فوقَك، فإن ابتُليت بأنّ تتكلَفَ القولَ، وتتعاطى الصنعةَ، ولم تسْمَح لك الطِّباعُ في أوّل وَهلة، وتعاصَى عليك بَعْدَ إجالة الفكرة، فلا تعجَلْ ولا تضْجَر، ودَعْهُ بياضَ يومك وسوادَ ليلتِك، وعاوِدْه عند نشاطِك وفراغِ بالك؛ فإنَّك لا تَعدم الإجابَة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعةٌ، أو جرَيْتَ من الصِّناعة على عرْق، فإن تمنّعَ عليك بعدَ ذلك من غير حاد شغلٍ عِرَضَ، ومن غير طول إهمال فالمنزلةُ الثّالثةُ أن تتحوَّلَ من هذه الصناعة إلى أشْهَى الصناعاتِ إليك، وأخفّها عليك؛ فإنَّك لم تشتهه لم تنازِعْ إليه إلاّ وبينَكما نسب، والشّيءُ لا يحِنُّ إلاّ إلى ما يشاكلُه، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات؛ لأن النفوسَ لا تجود بمكنونها معَ الرّغْبة، ولا تُسْمحِ بمخزونها مع الرّهْبة، كما تجود به مع الشَّهوة والمحبّة، فهذا هذا،وقال: ينبغي للمتكلّم أن يعرِفَ أقدارَ المعاني، ويوازنَ بينها وبين أقدار المستمعينَ وبين أقدار الحالات، فيجعلَ لكلِّ طبقةٍ من ذلك كلاماً، ولكلّ حالةٍ من ذلك مَقاماً، حتَّى يقسمَ أقدارَ الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدارَ المعاني على أقدار المقامات، وأقدارَ المستمعين على أقدار تلك الحالات، فإن كان الخطيبُ متكلِّماً تجنَّبَ ألفاظ المتكلِّمين، كما أنّه إنْ عبّر عن شيء من صناعة الكلام واصفاً أو مجيباً أو سائلاً، كان أولى الألفاظ به ألفاظَ المتكلمين؛ إذْ كانوا لتلك العبارات أفهَمَ، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحنَّ وبها أشغَف؛ ولأنَّ كبارَ المتكلمين ورؤساءَ النظّارين كانوا فوقَ أكثرِ الخُطَباء، وأبلَغَ من كثير من البلغاء، وهم تَخَيَّروا تلك الألفاظَ لتلك المعاني، وهم اشتقُّوا لها مِن كلام العرب تلكَ الأسماءَ، وهم اصطلحوا على تسميةِ ما لم يكن له في لغة العرب اسمٌ، فصاروا في ذلك سلفاً لكلّ خلف، وقُدوةً لكلّ تابع، ولذلك قالوا: العَرَض والجوهر، وأيْس وليس، وفرَقوا بين البُطلان والتّلاشي، وذكروا الهذيّة والهُوِيّة وأشباهَ ذلك، وكما وضع الخليل بنُ أحمدَ لأوزان القصيد وقِصار الأرجاز ألقاباً لم تكن العربُ تتعارف تلك الأعاريضَ بتلك الألقابِ، وتلك الأوزانَ بتلك الأسماء، كما ذكرَ الطَّويلَ، والبسيطَ، والمديد، والوافر، والكامل، وأشباه ذلك، وكما ذكرَ الأوتادَ والأسباب، والخَرْم والزِّحاف، وقد ذكرت العرب في أشعارها السِّناد والإقواء والإكفاء، ولم أسمع بالإيطاء، وقالوا في القصيدة والرّجَز والسّجع والخُطَب، وذكرَوُا حروفَ الرويّ والقوافي، وقالوا: هذا بيتٌ وهذا مصراع، وقد قال جَندَلٌ الطهويُّ حين مدح شعره:

لم أُقْوِ فِيهن ولم أسانِدِ

وقال ذو الرّمة:

وشعرٍ قد أَرِقْتُ له غريبٍ

 

أجنِّبه المُسانَدَ والمُحَـالا

وقال أبو حِزامٍ العُكْليّ:

بيوتاً نصبْنا لتقـويمـهـا

 

جُذولَ الرَّبِيئينَ في المَرْبَأه

بيوتاً عَلَى الهَاء لَهَا سجحةٌ

 

بغير السِّناد ولا المكْفَـأَه

وكما سمَّى النحويون، فذكروا الحالَ والظّروفَ وما أشبهَ ذلك؛ لأنَّهم لو لم يضَعُوا هذه العلاماتِ لم يستطيعوا تعريف القَرويِّين وأبناء البلَديِّين علمَ العروض والنَّحو، وكذلك أصحاب الحساب فقد اجتلبوا أسماءً جعلوها علاماتٍ للتفاهُم، قالوا: وقبيحٌ بالخطيب أن يقوم بخُطْبة العيد أو يومَ السِّماطين، أو على منبر جماعة، أو في سُدّة دار الخلافة، أو في يومِ جَمْعٍ وحفل، إمَّا في إصلاح بين العشائر، واحتمالِ دماء القبائل، واستلالِ تلك الضّغائِن والسّخائم، فيقولَ كما قال بعضُ مَن خطَب على مِنبرٍ ضخمِ الشَّأنِ، رفيع المكان: ثم إنَ اللَّه عزّ وجلّ بعد أن أنشأ الخَلق وسوّاهم ومكّن لهم، لاشَاهم فتلاشَوْا، ولولا أنَّ المتكلِّم افتقَرَ إلى أن يلفِظ بالتَّلاشي لكان ينبغي أن يُؤخَذَ فوق يده، وخطَب آخَرُ في وسط دار الخلافة، فقال في خطبته: وأخرجَهُ اللَّه من باب الليسيَّة، فأدخله في باب الأيْسيَّة، وقال مَرَّة أخرى في خُطبةٍ له: هذا فرْقُ ما بين السَّارّ والضَّارّ، والدّفّاع والنَّفّاع، وقال مَرَّة أخرى: فَدلَّ ساتره على غامره، ودلَّ غامره على منحلّه، فكاد إبراهيمُ بن السِّنديّ يطير شِقَقاً، وينْقَدُّ غَيْظاً، هذا وإبراهيمُ من المتكلِّمين، والخطيبُ لم يكن من المتكلِّمين، وإنَّما جازت هذه الألفاظُ في صناعة الكلام حين عَجَزت الأسماءُ عن اتِّساع المعاني، وقد تَحسُنُ أيضاً ألفاظُ المتكلِّمين في مثل شعرِ أبي نُواسٍ وفي كلِّ ما قالوه على وَجْه التَّظرُّف والتملح، كقول أبي نُوَاس: من المجتث

وذات خـدٍّ مُــورَّد

 

قُوهيّة المُـتَـجَـرَّدْ

تأمَّلُ العَيْنُ مـنـهـا

 

محاسناً ليس تنـفَـدْ

فبعضُها قد تَنَـاهَـى

 

وبعضُـهـا يتـولَّـدْ

والحسنُ في كلّ عضوٍ

 

منها مُـعـادٌ مُـردَّدْ

وكقوله: من المجتث

يا عاقِدَ القلبِ مِنِّـي

 

هَلاّ تذكرت حَـلاّ

تركت مِنِّي قـلـيلاً

 

من القـلـيل أَقَـلاَّ

يكـاد لا يتـجــزَّا

 

أقلَّ في اللّفظ مِن لا

وقد يتملّحُ الأعرابيُّ بأن يُدْخِل في شعره شيئاً من كلام الفارسيَّة كقول العُمّانيّ للرَّشيد، في قصيدته التي مدحَه فيها:

مَن يَلْقَهُ مِن بطلٍ مُسْرَنْدِ

 

في زَغْفَةٍ مُحْكَمةٍ بالسَّرْدِ

تجول بين رأسِه والكَرْدِ يعني العُنُق، وفيها يقول أيضاً:

لما هَوَى بينَ غِـياض الأُسْـدِ

 

وصار في كفِّ الهِزَبْر الوَرْدِ

آلى يَذُوق الدَّهرَ آبِ سَـرْدِ

 

 

وكقول الآخر: من الطول

وولّهني وقْعُ الأسِنّةِ والـقَـنـا

 

وكافر كُوباتٍ لها عُجَرٌ قُفْـدُ

بأيدي رجالٍ ما كلامي كلامُهم

 

يَسُومُونني مَرْداً وما أنا والمَرْدُ

ومثل هذا موجود في شعر أبي العُذَافِر الكنديّ وغَيرِه، ويكون أيضاً أن يكون الشعر مثل شعر بَحرٍ وشاذَ، وأسود بن أبي كريمةَ، وكما قالَ يزيد بن ربيعة بن مُفَرِّغٍ:

آبَ اسْتْ نَبـيذَ اسْـت

 

عُصَاراتِ زَبيبَ اسْتْ

سُمَيَّهْ رُوسَبِيد اسْـتْ

 

 

وقال أسود بن أبي كَرِيمةَ: من مجزوء الرمل

لَزم الغُرَّام ثـوبـي

 

بُكرةً في يَوم سبت

فتمايلْتُ عـلـيهـم

 

ميْل زَنكيّ بمَسْتِـي

قد حَسا الدَّاذيَّ صرْفاً

 

أو عُقَاراً بايخَسْـتِ

ثم كُفْـتَـم دُور بـاد

 

ويحكم آنْ خَرِ كُفْت

إنَّ جِلْدِي دبَـغَـتـه

 

أهل صَنْعاءَ بجَفْتِ

وأبو عمرة عـنـدي

 

آنْ كُوربُدْ نَمَسْـتِ

جالس أندر مكـنـاد

 

أيا عمد ببهـشـتِ

وكما لا ينبغي أن يكون اللفظُ عامّيّاً، وساقطاً سُوقيّاً، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريباً وحشيّاً؛ إلاّ أنْ يكون المتكلِّم بدويّاً أعرابيّاً؛ فإن الوحشيَّ من الكلام يفهمه الوحشيُّ من الناس، كما يفهَمُ السُّوقيّ رِطَانَة السُّوقيّ، وكلامُ النّاس في طبقاتٍ كما أنّ الناسَ أنفسَهم في طبقات، فمن الكلام الجَزلُ والسَّخيف، والمليحُ والحسن، والقبيح والسَّمجُ، والخفيفُ والثقيل وكلُّه عربيّ، وبكُلٍّ قد تكلَّموا، وبكلٍّ قد تَمَادَحوا وتعايبوا، فإنْ زعم زاعمٌ أنه لم يكن في كلامهم تفاضُل، ولا بينهم في ذلك تفاوُت، فلمَ ذكروا العِييَّ والبكئَ، والحَصِر والمُفحَمَ، والخِطِل والمُسهَبَ، والمتشدِّق، والمتفيْهق، والمِهمارَ، والثّرثار، والمكثار والهمَّار؟ ولِمَ ذكروا الهُجرْ والهَذَرَ، والهَذَيانَ، والتَّخليط، وقالوا: رَجلُ تِلقّاعَة، وفلان يتلَهْيَع في خطبته؟ وقالوا: فلانٌ يُخطِئ في جوابه، ويُحيل في كلامه، ويناقِضُ في خَبَره، ولولا أنّ هذه الأمور قد كانت تكون في بعضهم دونَ بعض لَمَا سَمَّى ذلك البعضُ البعضَ الآخَرَ بهذه الأسماء،وأنا أقول: إنّه ليس في الأرض كلامٌ هو أمتَعُ ولا آنَق، ولا ألذُّ في الأسماع، ولا أشدُّ اتصالاً بالعقول السليمة، ولا أفَتَقُ للِّسان، ولا أجودُ تقويماً للبيان، مِن طول استماعِ حديثِ الأعراب العقلاء الفصحاء، والعلماءِ البلغاء، وقد أصابَ القومُ في عَامَّة ما وَصَفوا، إلاّ أَنّي أزعمُ أنّ سخيفَ الألفاظ مشاكلٌ لسخيف المعاني، وقد يُحتاج إلى السَّخيف في بعض المواضع، ورُبّما أمتَعَ بأكثَرَ من إمتاع الجزْلِ الفخم من الألفاظ، والشريفِ الكريم من المعاني، كما أنّ النادرةَ الباردة جِدّاً قد تكون أطيَبَ من النادرة الحارَّة جدّاً، وإنما الكَرْبُ الذي يَخْتِم على القلوب، ويأخذُ بالأنفاس، النادرةُ الفاترة التي لا هي حارّةٌ ولا باردة، وكذكلك الشِّعر الوسَط، والغِناء الوسط؛ وإنّما الشّأن في الحارّ جدّاً والباردِ جدّاً، وكان محمّد بن عبّاد بن كاسب يقول: واللَّهِ لَفلانٌ أثقل من مُغنٍّ وسط، وأبغضُ من ظريفٍ وسَط، ومتى سمعتَ - حفِظك اللَّه - بنادرةٍ من كلام الأعراب، فإيّاك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارِجِ ألفاظها؛ فإنَّك إنْ غيَّرتَها بأن تلحَنَ في إعرابها وأخرجْتَها مخارجَ كلام المولّدين والبلديِّين، خرجْتَ من تلك الحكايةِ وعليك فضلٌ كبير، وكذلك إذا سمِعتَ بنادرةٍ من نوادر العوامّ، ومُلْحة من مُلَح الحُشوَة والطَّغام، فإيَّاكَ وأن تستعمِلَ فيها الإعراب، أو تتخيَّرَ لها لفظاً حسناً، أو تجعل لها مِن فيك مخرجاً سَرِيّاً؛ فإنّ ذلك يفسد الإمتاع بها، ويُخرجها من صورتها، ومِن الذي أُرِيدَت له، ويُذهب استطابَتهم إياها واستملاحَهم لها، ثمَّ اعلمْ أنّ أقبَحَ اللَّحن لحنُ أصحاب التّقعير والتقعيب، والتَّشديق والتمطيط والجَهْورةِ والتفخيم، وأقبَحُ مِن ذلك لحنُ الأعاريب النّازلين على طُرُق السَّابلة، وبقُرب مَجامع الأسواق، ولأهل المدينة ألسنٌ ذَلِقة، وألفاظٌ حسنة، وعبارةٌ جيّدة، واللَّحن في عوامِّهم فاشٍ، وعلى مَن لم يَنظُر في النَّحو منهم غالب، واللَّحن مِن الجواري الظِّراف، ومن الكواعبِ النّواهد، ومن الشَّوابِّ المِلاح، ومن ذوات الخُدورِ الغرائر، أيْسَر، وربّما استَملح الرّجل ذلك منهنّ ما لم تكن الجاريةُ صاحبةَ تكلُّف، ولكن إذا كان اللحنُ على سجيّة سُكّان البلد، وكما يستملحون اللَّثغاء إذا كانت حديثةَ السن، ومَقدودةً مجدولة، فإذا أسنَّتْ واكتهلَتْ تغيَّرَ ذلك الاستملاح، وربّما كان اسمُ الجارية غُلَيِّم أو صُبَيَّةَ أو ما أشبه ذلك، فإذا صارت كهلةً جَزْلة، وعجوزاً شَهلةً، وحَملت اللّحمَ وتراكَمَ عليها الشحم، وصار بَنُوها رجالاً وبناتُها نساء، فما أقبح حينئذ أن يقال لها:يا غُلَيِّمُ كيف أصبحتِ؟ ويا صُبَيَّة كيف أمسيتِ، ولأمرٍ ما كنَّتِ العربُ البناتِ فقالوا: فعلت أمُّ الفضل، وقالت أمُّ عمرو، وذهبت أمُّ حكيم، نعم حَتّى دعاهُم ذلك إلى التقدُّم في تلك الكنىَ، وقد فسَّرنا ذلك كلّه في كتاب الأسماء والكُنى، والألقاب والأنباز، وقد قال مالِك بن أسماءَ في استملاح اللَّحن من بعض نِسائه: من الخفيف

أَمُغَطّىً مِنّي على بصرى للْ

 

حُبِّ أم أنتِ أكمَلُ النّاسِ حُسنا

وحـديثٍ ألـذّه هـو مِـمَّـا

 

ينعَتُ الناعِتُونَ يُوزَنُ وَزْنَـا

منطقٌ صائبٌ وتلحـن أحـيا

 

ناً وأحْلَى الحديثِ ما كان لَحْنَا

وهم يمدحون الحِذقَ والرِّفق، والتخلُّصَ إلى حَبَّاتِ القلوب، وإلى إصابة عيون المعاني، ويقولون: أصاب الهَدَف، إذا أصابَ الحقَّ في الجُملة، ويقولون: قَرطَسَ فلان، وأصاب القِِرطاسَ، إذا كان أجودَ إصابةً من الأوّل، فإن قالوا: رمى فأصاب الغُرّة، وأصاب عينَ القرطاس، فهو الذي ليس فوقَه أحد، ومن ذلك قولُهم: فلان يفُلُّ الحزَّ، ويصيب المَفْصِل، ويضع الهِناء مواضع النُّقَب، وقال زُرَارةُ بن جَزءٍ، حين أَتى عُمرَ بنَ الخطاب رحمه اللَّه فتكلّم عِنده، ورَفَع حاجتَه إليه:

أتيتُ أبا حفصٍ ولا يستطـيعُـه

 

من الناس إلا كالسِّنـان طـريرُ

فوفَقَنِي الرّحمنُ لَمّـا لـقـيتُـه

 

وللبابِ مِن دُونِ الخصوم صَرير

قُرُومٌ غَيارَى عند بابٍ مُمـنّـع

 

تُنازِع مَلْكاً يهـتـدي ويَجـور

فقلت له قولاً أصاب فـؤاده

 

وبعضُ كلام النّاطقين غُرورُ

وفي شبيهٍ بذلك يقول عبدُ الرحمن بنُ حسّان حيث يقول:

رجالٌ أصحّاءُ الجلودِ من الخَنا

 

وألسنةٌ معروفة أين تذهـب

وفي إصابة فَصّ الشّيء وعينه، يقول ذو الرُّمَّة في مديح بلال بن أبي بردة الأشعريّ:

تُناخِي عند خيرِ فـتـىً يَمـانٍ

 

إذا النّكْباءُ عارضَت الشَّـمـالا

وخيرهِمُ مـآثِـرَ أهـلِ بـيتٍ

 

وأكرَمِهمْ وإن كَرُموا فَـعَـالا

وأبعدِهِمْ مسافَةَ غَـوْرِ عـقـلٍ

 

إذا ما الأمرُ في الشُّبُهات عـالا

ولُـبِّـس بـينَ أقـوامٍ فـكُـلٌّ

 

أعَدَّ له الشّغازِب والـمـحَـالا

وكلـهـمُ ألَـدُّلـه كِـظَـاظٌ

 

أعَدّ لكلِّ حـالِ الـقـوم حـالا

فَصَلْتَ بحكمةٍ فأصبْتَ منـهـا

 

فُصوصَ الحق فانفصَلَ انفصالا

وكان أبو سعيدِ الرّاْي، هو شِرشِيرٌ المدنيّ يعيب أبا حنيفة، فقال الشاعر:

عِندي مسائلُ لا شِرْشِيرُ يُحسِنُهـا

 

عندَ السُّؤالِ ولا أصحابُ شرشيرِ

ولا يُصِيب فصوصَ الحقِّ نَعلَمُه

 

إلا حَنـيفـيّةٌ كـوفـيَّةُ الـدُّورِ

ومما قالوا في الإيجاز، وبلوغِ المعاني بالألفاظ اليسيرة، قولُ ثابِت قُطْنَةَ:

مازِلتُ بَعْدَكَ في هـمٍّ يَجِـيش بـه

 

صَدري وفي نَصَبٍ قد كاد يُبْلينـي

إنّي تذكّرتُ قَتلَى لو شـهِـدْتُـهُـمُ

 

في غَمرةِ الموت لم يَصْلَوْا بها دُوني

لا أُكثِرُ القولَ فيما يَهضِـبُـون بـه

 

مِن الكلام، قليلٌ منـه يكـفِـينـي

وقال رجلٌ من طيّ ومدحَ كلامَ رجل فقال: هذا كلامٌ يُكتَفى بأُولاه، ويُشتَفَى بأُخراه، وقال أبو وَجْزَة السعديّ، من سعيدِ بن بكر، يصف كلامَ رجل:

يَكفِي قليلُ كلامِهِ وكـثـيرُه

 

ثَبْتٌ إذا طالَ النِّضَالُ مُصِيبُ

ومن كلامهم الموجَز في أشعارهم قولُ العُكْليّ، في صفة قوس:

في كَفِّهِ مُعطِيَةٌ مَنُوعُ

 

مُوثَقَةٌ صابرَةٌ جَزُوعُ

وقال الآخَر، ووصف سَهمَ رامٍ أصابَ حماراً، فقال:

حتَّى نَجَا من جَوفه وما نَجا

وقال الآخرَ وهو يصفُ ذئباً:

أطلس يخفي شخصَه غُبَارُه

 

في شِدقِه شَفرتُه ونـارُه

هو الخَبيثُ عينُـه فـرارُه

 

بَهْمُ بني مُحاربٍ مُـزْدارُهْ

ووصف الآخر ناقة فقال:

خَرقاءُ إلا أنها صَنَاعِ

يَصف سُرعةَ نقل يديها ورجلَيها، أنّها تشبه المرأةَ الخرقاء، وهي الخرقاء في أمرها الطّيَّاشَةُ، وقال الآخَر ووصف سَهماً صارِداً، فقال:

ألْقَى على مفطوحها مَفطُوحا

 

غادَرَ داءً ونَجَا صحـيحـا

المفطوح الأوّل للقوس، وهو العريض، هو هاهنا موضع مقبض القوس، والمفطوح الثاني: السهم العريض، يعني أنه ألقى على مقبض القوس سهماً عريضاً، وقال الآخر:

إنّك يا ابنَ جعفرٍ لا تُفلـحُ

 

الليلُ أخفَى والنَّهارُ أفضَحُ

وقالوا في المَثل: الليلُ أخْفى لِلوَيل، وقال رؤبة يصف حماراً:

حَشْرَجَ في الجوف سَحيلاً وَشَهقْ

 

حَتَّى يُقالُ ناهقٌ ومـا نَـهَـقْ

الحشرجة: صوت الصَّدر، والسَّحِيل: صوت الحمار إذا مدَّه، والشَّهيق: أن يقطِّع الصَّوت، وقال بعضُ ولد العبّاس بن مِرْداسِ السُّلَمي، في فرس أبي الأعور السُّلَميّ:

جاءَ كلمْعِ البَرقِ جاشَ ناظره

 

يَسبح أُولاه ويَطـفـو آخِـرُه

فما يَمَسُّ الأرضَ منه حافرُه

 

 

قوله: جاش ناظره، أي جاش بمائه، وناظر البرق: سحابُه، يسبح، يعني يمد ضَبْعَيْه، فإذا مدَّهما علا كَفَلُه، وقال الآخر:

إن سرَّكَ الأهوَنُ فابدَأْ بالأشدّ

وقال العجّاج:

يمكّنُ السَّيفَ إذا السّيفُ انأطَـرْ

 

مِن هامَة اللّيثِ إذا ما الليثُ هَرّ

كجَمَل البحر إذا خاضَ جـسـر

 

غَوارب الـيَمِّ إذا الـيمُّ هَـدَرْ

حتَّى يُقالَ حاسرٌ وما حَـسَـرْ

 

 

قالوا: جمل البحر سمكةٌ طولها ثلاثون ذراعاً، يقول: هذا الرجل يبعد كما تبعد هذه السمة بجسَارة، لا يردُّها شيء، حتَّى يقال كاشف وما انكشف البحر، يقال: البحر حاسرٌ وجازِرٌ، يقول: حتَّى يحسب النّاسُ من ضِخَم ما يبدو من هذا الجمل، أنّ الماءَ قد نضَب عنه، وأنَّ البحر حاسرٌ، وقال آخر:

يا دارُ قد غَيَّرها بـلاَهَـا

 

كأنَّما بقَلَـمٍ مَـحـاهـا

أخْرَبهَا عُمران مَن بَناهـا

 

وكَرُّ مُمساها على مَغناها

وطفِقَتْ سحابةٌ تَغشـاهـا

 

تَبكي على عِراصِها عيناها

قوله: أخْرَبها عُمران مَن بناها، يقول: عمَّرها بالخراب، وأصل العُمران مأخوذ من العَمْر، وهوالبقاء، فإذا بقي الرّجُل في داره فقد عَمَرها، فيقول: إنّ مُدّة بقائه فيها أبلَتْ منها؛ لأنّ الأيّام مؤثِّرة في الأشياء بالنّقص والبِلَى، فلما بقيَ الخرابُ فيها وقام مَقام العُمران في غيرها، سُمِّي بالعُمران، وقال الشاعر:

يا عَجَّلَ الرّحمنُ بالعذابِ

 

لعِامرات البيتِ بالخرابِ

يعني الفار، يقول: هذا عُمرانها، كما يقول الرّجل: ما نَرَى من خيرك ورِفْدكّ، إلاّ ما يبلغنا مِن حطْبِك عَلينا، وفَتِّك في أعضادنا، وقال اللَّه عزّ وجل: "هذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّين" الواقعة:65، والعذابُ لا يكون نُزُلاً، ولكنْ لمَّا قامَ العذابُ لهم في موضع النّعيم لغيرهم، سُمِّي باسمه، وقال الآخَر:

فقلتُ أطعِمْني عُمَيْرُ تَمْراً

 

فكان تَمري كَهرْةً وزَبْرَا

والتَّمر لا يكون كَهْرة ولا زَبْراً، ولكنّه على ذا، وقال اللَّه عزّ وجلّ: (ولَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيّاً) مريم:26، وليس في الجنَّة بُكرةٌ ولا عشيّ، ولكن على مقدار البُكَرِ والعشيَّات، وعلى هذا قول اللّه عزّ وجلّ: "وَقَالَ الَّذِين فِي النَّارِ لِخَزَنَة جَهَنَّمَ" غافر:52، والخَزَنَة: الحَفَظة، وجهنّمُ لا يضيع منها شيءٌ فيحفظ ولا يَختَار دُخولَها إنسانٌ فيُمنع منها، ولكنْ لمّا قامت الملائكةُ مَقامَ الحافظ الخازن سُمّيت به، قوله: مُمْساهَا، يعني مَساءها، ومغناها: موضعها الذي أقيم فيه، والمغَاني: المنازل التي كان بها أهلُوها، وطَفقَت، يعني ظَلَّت، تبكي على عراصها عَيناها، عيناها هاهنا للسَّحاب، وجَعل المطرَ بكاءً من السَّحاب على طريق الاستعارة، وتسميةِ الشَّيء باسم غيرِه إذا قام مَقامه، ويقال لكلّ جَوْبةٍ مُنْفَتِقةٍ ليس فيها بناءٌ: عَرْصة، وقال أبو عَمرِو بنُ العَلاء: اجتمع ثلاثة من الرُّواة فقال لهم قائل: أيُّ نِصفِ بيت شعْرٍ أحكَمُ وأوجَز؟ فقال أحدهم: قول حُميد بن ثَور الهِلاليّ:

وحَسْبُكَ داءً أن تَصحَّ وتَسْلما

ولعلّ حُميداً أن يكون أخذَه عَن النَّمر بن تولب، فإنّ النمر قال:

يُحبُّ الفتَى طُولَ السَّلامةِ والغِنى

 

فكيفَ تَرَى طُولَ السَلامةِ يَفعلُ

وقال أبو العتاهية:

أسْرَعَ في نقصِ امرئ تَمامُه

ذهب إلى كلام الأوّل: كُلُّ ما أقام شَخَص، وكلُّ ما ازداد نَقص، ولو كان النّاسُ يمُيتهم الدّاء، إذاً لأعاشَهم الدَّواء، وقال الثاني من الرُّواة الثلاثة: بل قولُ أبي خِراشٍ الهُذَليّ:

نُوكَّلُ بالأدنَى وإنْ جَلّ ما يَمِضي

وقال الثالث من الرُّواة: بل قولُ أبي ذُويبٍ الهُذَليِّ:

وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تقنَعُ

فقال قائل: هذا من مفاخر هُذيل: أن يكون ثلاثةٌ من الرُّواة لم يصيبوا في جميعِ أشعار العرب إلاّ ثلاثة أنصافٍ، اثنان منها لهذيلٍ وحدها، فقيل لهذا القائل: إنما كان الشرط أن يأتوا بثلاثةٍ أنصافٍ مستغنياتٍ بأنفسها، والنِّصف الذي لأبي ذؤيبٍ لا يَستغني بنفسه، ولا يَفْهم السامعُ معنى هذا النّصِف حتَّى يكون موصولاً بالنِّصف الأول لأنّك إذا أنشدتَ رجلاً لم يسمَع بالنِّصف الأوّل وسمِع: وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تَقْنَعُ قال: مَن هذه التي تُرَدُّ إلى قليلٍ فتقنع، وليس المُضمَّن كالمطلق وليس هذا النّصف مما رواه هذا العالم، وإنما الرِّواية قولُه:

والدَّهر ليس بمُعْتبٍ مَن يجزعُ

وممَّا مَدحوا به الإيجازَ والكلامَ الذي هو كالوحي والإشارة، قولُ أبي دؤاد بن حَريز الإيادِيّ:  

يرمُونَ بالخُطَب الطِّوالِ وتارةً

 

وَحْيَ المَلاَحظ خِيفَةَ الرُّقَباء

فمَدَح كما ترى الإطالةَ في موضعها، والحذفَ في موضعه، ومما يدل على شغَفهم وكَلَفهم، وشِدّة حبِّهم للفَهْم والإفهام، قولُ الأسديّ في صفةِ كلامِ رجلٍ نَعَت له موضعاً من تلك السباسِب التي لا أَمارة فيها، بأقلِّ اللّفْظ وأوجزه، فوَصَف إيجازَ الناعت، وسرعةَ فهمِ المنعوت له، فقال:

بضَربة نَعْتٍ لم تُعَدْ غير أنّـنـي

 

عَقُولٌ لأوصاف الرِّجال ذَكوُرَها

وهذا كقولهم لابن عبّاس: أنَّى لك هذا العلم؟ قال: قلبٌ عَقُولٌ، ولسانٌ سؤول، وقال الرّاجز:

ومَهْمَهَين قَذَفَـين مَـرْتَـيْن

 

جُبْتُهما بالنَّعْت لا بالنّعـتَـيْنْ

ظَهراهما مِثلُ ظُهور التُّرْسَيْنْ

 

قطعته بالأَمِّ لا بالسَّـمـتَـيْنْ

وقالوا في التحذير من مِيسم الشِّعر، ومن شدّة وقْع اللسان، ومن بقاء أثره على الممدوح والمهجوّ، قال امرؤ القيس بن حُجر:

ولو عن نثَا غَيرِه جاءنـي

 

وجُرْحُ اللِّسان كجرح اليدِ

وقال طَرفة بن العَبْد:

بحُسَام سَيْفكَ أو لسانِكَ والكَ

 

لِمُ الأصيل كأرغب الكَلْـمِ

قال: وأنشدني محمّد بن زياد:

لَحَوتُ شَمّاساً كما تُلحَى العِصِي

 

سَبّاً لو أنّ السبَّ يُدمِي لدَمِـي

مِن نَفَرٍ كلُّهُـمُ نـكـسٌ دَنِـي

 

مَحامِدِ الرَّذْل مشاتيم السَّـرِي

مَخَابِطِ العِكْم مَوَاديعِ المَـطِـي

 

مَتَاركِ الرَّفيق بالخَرْق النَّطِي

وأنشد محمّد بن زياد:

تمنّى أبو العَفّاق عِنديَ هَـجْـمةً

 

تُسهِّلُ مأوَى لَيلِها بالـكَـلاكِـل

ولا عَقْلَ عندي غيرُ طعن نوافِـذٍ

 

وضَربٍ كأشداق الفِصَال الهَوادِل

وسبٍّ يوَدُّ المرءُ لو ماتَ قبـلَـه

 

كصَدع الصَّفا فلَّقْتَه بالمَـعَـاوِلِ

الهَجْمةُ: القِطعة من النُّوق فيها فَحْل، والكلكل: الصَّدر، والفِصال: جمع فَصيل، وهو ولد النَّاقة إذا فُصِل عَنها، والهوادل: العظام المَشافر، والعقل هاهنا الدِّيَةُ، والعاقلة: أهل القاتل الأدنَوْن والأبعدُون، والصَّفا: جمع صفَاةٍ وهي الصخرة، وقال طَرَفَة:

رأيتُ القوافِي يَتْلّجن مَوَالجـاً

 

تضايَقُ عنها أن تَوَلَّجها الإبَرْ

وقال الأخطل:

حتَّى أقَرُّوا وهم مِنِّي على مَضضٍ

 

والقولُ ينفُذ ما لا تَنْـفُـذُ الإبَـرُ

وقال العُمَانيّ:

إذْ هُنَّ في الرَّيطِ وفي المَوادعِ

 

تُرْمَى إليهنَّ كبَـذْرِ الـزارعِ

الرَّيْط: الثياب، واحدها رَيْطَة؛ والرَّيطة: كلُّ ملاءةٍ لم تكن لِفْقين، والحلّة لا تكون إلاّ ثوبين، والمَوَادع: الثِّياب التي تَصون غيرَها، واحِدها مِيدعَةٌ، وقالوا: الحرب أوَّلُها شكوَى، وأوسَطُها نَجْوَى، وآخرُها بَلوَى، وكتب نصر بن سَيَّارٍ، إلى ابن هبيرة أيّامَ تحرّكَ أمرُ السّواد بخُراسان:

أَرَى خَلَلَ الرَّمادِ وميضَ جَمْرٍ

 

فيوشكُ أن يكون له اضطرام

فإنَّ النارَ بالعُـودين تُـذْكَـى

 

وإنّ الحربَ أوّلُها الـكـلام

فقلتُ من التعجُّب: ليتَ شعرِي

 

أَأيْقـاظٌ أُمَـيَّةُ أم نـــيامُ

فإن كانُوا لِحِينِهِـمُ نـيامـاً

 

فقُلْ قوموا فقد طال المـنـام

وقال بعض المولَّدين

إذا نلتُ العطيَّةَ بَعْد مَـطـلٍ

 

فلا كانت، وإن كانت جَزيلهْ

فسَقياً للعطـيَّة ثـمّ سَـقـياً

 

إذا سَهُلت، وإن كانت قليلهْ

وللشُّعـراء ألـسـنةٌ حِـدادٌ

 

على العَوْرات مُوفيةٌ دليلهْ

ومِنْ عَقْل الكريم إذا اتّقاهُـمْ

 

ودارَاهُمْ مُداراةً جَمـيلـهْ

إذا وضَعُو ا مَكاويَهم علـيهِ،

 

وإنْ كذَبوا، فليس لهنَّ حيلهْ

وقالوا: مذاكَرة الرِّجال تلقيحٌ لألبابها، ومما قالوا في صفة اللّسان قولُ الأسديّ، أنشدنيها ابنُ الأعرابيّ:

وأصبحتُ أعددتُ لـلـنّـائبـا

 

تِ عِرضْاً بريئاً وعَضْباً صقيلا

ووقعَ لِسان كحـدِّ الـسّـنـا

 

نِ ورُمحاً طويلَ القناة عَسُولا

وقال الأعشى:

وأدْفع عن أعراضكم وأُعيركم

 

لساناً كمقراض الخَفاجيِّ مِلْحَبا

الملحَب: القاطع، الخفاجِيّ: رجُلٌ إسكاف منسوب إلى خفاجة، وقال ابنُ هَرْمَة:

قل للذي ظَلَّ ذا لونَيْنٍ يأكلـنـي

 

لقد خلوتَ بلحمٍ عادِم البَـشَـمِ

إيّاك لا أُلْزِمَنْ لَحْيَيك لُجُـمـي

 

نِكْلاً يُنَكِّل فَرّاصاً من اللُّـجُـمِ

إني امرؤٌ لا أصوغُ الحَلْي تَعْمَلُهُ

 

كَفّايَ، لكنْ لساني صائغُ الكَلِـم

وقال الآخر:

إنِي بغَيت الشِّعرَ وابتغـانـي

 

حتَّى وجدتُ الشِّعر في مكاني

في عَيْبةٍ مفتاحُها لِسَـانِـي

 

 

وأنشد:

إنِّي وإنْ كان رِدائي خَلَقـا

 

وبَرْنَكانِي سَمِلاً قد أخْلَقَـا

قد جَعل اللَّه لساني مُطْلَقا

 

 

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

قال أبو عثمان: والعتَّابيّ حين زعم أنّ كلَّ مَن أفهمك حاجتَه فهو بليغٌ لم يَعْنِ أنّ كلَّ مَن أفهمَنا مِنْ معاشر المُوَلَّدين والبلديِّين قَصْدَه ومعناه، بالكلام الملحون، والمعدول عن جهته، والمصروف عن حقّه، أنّه محكوم له بالبلاغة كيف كان، بعد أن قد فهِمْنا معنى كلامِ النَّبَطيّ الذي قيل له: لمَ اشتريتَ هذه الأتان؟ قال: أركبُها وتَلَد لي، وقد علمْنا أنَّ معناه كان صحيحاً، وقد فهمنا قول الشيخ الفارسي حين قال لأهل مجلسه: ما من شرّ من دَيْن وأنه قال حين قيل له: ولم ذاك يا أبا فلان؟ قال: مِن جرَّى يتعلَّقون، وما نشكُّ أنه قد ذَهب مذهباً، وأنّه كما قال، وقد فهمنا معنى قول أبي الجَهِير الخراساني النخاس، حين قال له الحجّاج: أتبِيع الدوابّ المَعِيبَةَ من جُنْد السلطان؟ قال: شريكاننا في هوازها، وشريكاننا في مداينها، وكما تجيء نكون، قال الحجّاج: ما تقول، ويلك؟ قال بعضُ من قد كان اعتاد سماعَ الخَطَاءِ وكلام العُلوج بالعربيّةِ حتَّى صار يفهمُ مثلَ ذلك: يقول: شركاؤنا بالأهواز وبالمدائن، يبعثون إلينا بهذه الدّوابّ، فنحن نبيعُها على وُجوهها، وقلت: لخادمٍ لي: في أيِّ صناعةٍ أسلموا هذا الغلام؟ قال: في أصحابِ سِنْد نِعال يريد: في أصحاب النِّعال السِّندية، وكذلك قولُ الكاتبِ المغلاق للكاتب الذي دُونَه: اكتب لي قُل خَطَّين وريحني منه، فمن زعم أنَّ البلاغةَ أن يكون السامعُ يفهمُ معنى القائِل، جعل الفصاحةَ واللُّكنة، والخطأَ والصّوابَ، والإغلاق والإبانة، والملحونَ والمُعْرب، كله سواءً، وكلَّه بياناً، وكيف يكون ذلك كلُّه بياناً، ولولا طولُ مخالطة السامع للعجَم وسماعِهِ للفاسد من الكلام، لما عَرفَه، ونحن لم نَفهم عنه إلا للنَّقص الذي فينا، وأهلُ هذه اللُّغةِ وأربابُ هذا البيانِ لا يستدلُّون على معاني هؤلاء بكلامهم كما لا يعرفون رَطانة الرُّوميّ والصَّقلبي، وإن كان هذا الاسم إنّما يستحقُّونه بأنَّا نَفهم عنهم كثيراً من حوائجهم، فنحن قد نَفهم بحَمْحَمة الفَرَس كثيراً من حاجاته، ونفهم بضغاء السِّنَّور كثيراً من إراداته، وكذلك الكلبُ، والحمار، والصبيُّ الرّضيع، وإنّما عنى العتّابي إفهامَكَ العربَ حاجتَك على مَجاري كلام العرب الفُصَحاء، وأصحابُ هذه اللغة لا يفقهون قول القائل مِنّا: مُكرهٌ أخاكَ لا بطل، و: إذا عزَّ أخَاك فُهنْ، ومَنْ لم يفهم هذا لم يفهم قولَهم: ذهبتُ إلى أبو زيد، ورأيت أبي عمرو، ومتى وجد النحويُّون أعرابياً يفهم هذا وأشباهَه بَهْرَجُوه ولم يسمعوا منه؛ لأنّ ذلك يدلُّ على طول إقامته في الدّار التي تُفسد اللُّغة وتنقُص البيان، لأنّ تلك اللُّغة إنّما انقادت واستوت، واطّردت وتكاملت، بالخصال التي اجتمعت لها في تلك الجزيرة وفي تلك الجيرة، ولفقد الخطاءِ من جميع الأمم، ولقد كان بين زَيد بن كَثْوَة يومَ قِدم علينا البصرة، وبينَه يوم مات بَونٌ بعيد، على أنّه قد كان وضع منزلَه في آخر موضِع الفصاحة وأوّلِ موضع العُجمة، وكان لا ينفكُّ من رواةٍ ومُذَاكِرين، وزعم أصحابنا البَصريُّون عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: لم أر قَرويَّينِ أفصح من الحسن والحجّاج، وكان - زعموا - لا يبرِّئهما من اللحن،  وزعم أبو العاصي أنّه لم يَرَ قَرويّاً قط لا يلحن في حديثه، وفيما يجري بينه وبين الناس، إلاّ ما تفقّده من أبي زيد النحويّ، ومن أبي سعيد المُعلّم، وقد رَوَى أصحابُنا أنّ رجلاً من البلديِّين قال لأعرابيّ: كيف أهْلِكْ؟ قالها بكسر اللام، قال الأعرابيُّ: صَلْباً، لأّنه أجابه على فَهمه، ولم يعلم أنه أراد المسألة عن أهله وعيالِه، وسمعت ابن بَشيرٍ وقال له أبو المفضّل العنْبريّ: إني عَثَرت البارحةَ بكتابٍ، وقد التقطته، وهو عندي، وقد ذكروا أنّ فيه شعراً، فإنْ أردتَه وهبته لك،قال ابن بَشير: أريده إن كان مقيّداً، قال: واللَّه ما أدري أمقيَّدٌ هو أم مغْلول، ولو عرف التَّقييد لم يلتفت إلى روايته، وحكى الكسائِي أنّه قال لغلامٍ بالبادية: من خَلَقْك؟ وجزم القاف، فلم يدْرِ ما قال، ولم يجِبْه، فردَّ عليه السؤالَ فقال الغلام: لعلك تريد مَن خلقَك؟ وكان بعضُ الأعراب إذا سمع رجلاً يقول نعم في الجواب، قال: نَعَمٌ وشاءٌ؟؛ لأنّ لغتَه نَعِمْ، وقيل لعُمر بن لجأ: قُل إنّا من المجرمين منتقمِين، قال: "إنّا مِنَ المجرِمين منتقِمُون" السجدة:22، وأنشد الكسائي كلاماً دار بينه وبين بعض فتيان البادية فقال: من الرمل

عَجَباً مَا عَجَبٌ أعجـبـنـي

 

من غُلامٍ حَكَمِـيّ أُصُـلا

قلت هل أحسست رَكباً نَزَلُوا

 

حَضَناً ما دونَه قـال هَـلا

قلت بَيِّن ما هَلاَ هل نزلـوا

 

قال حَوباً ثم ولّى عَـجـلا

لستُ أدري عندها ما قال لي

 

أنَعم ما قال لي أم قـال لا

تلك منه لغةٌ تعـجـبـنـي

 

زادت القلب خبالا خَـبَـلا

قال أبو الحسن: قال مولى زيادٍ: أهدَوا لنا هِمارَ وَهْش، قال: أيَّ شيءٍ تقولُ ويْلَك؟ قال: أهدَوْا لنا أيراً، يريد: أهدَوْا لنا عَيراً، قال زياد: ويلَك، الأَوَّلُ خَير، وقال الشّاعر يذكر جاريةً له لَكناء:

أكثَرُ ما أسمَعُ منها بالسَّـحَـرْ

 

تذكيرُها الأُنْثى وتأنيثُ الذكـرْ

والسَّوأة السَّوآءُ في ذِكر القَمَر

 

 

فزيادٌ قد فهم عن مولاه، والشاعر قد فهم عن جاريته ولكنهما لم يفهما عنهمُا من جهة إفهامهما لهما، ولكنَّهما لمّا طال مُقامهما في الموضع الذي يكثُر فيه سماعُهما لهذا الضَّرب، صارا يفهمان هذا الضَّربَ من الكلام،