ذكر ما قالوا في مديح اللسان

بالشعر الموزون واللفظ المنثور، وما جاء في الأثر وصحّ به الخبر قال الشاعر:

أرى النّاس في الأخلاق أهلَ تخلُّقٍ

 

وأخبارُهم شَتَّى فعُرْف ومُنـكَـرُ

قريباً تدانِـيهـمْ إذا مـا رأيتَـهـم

 

ومختلفاً ما بينهم حين تَـخْـبُـرُ

فلا تحمَدنَّ الدَّهرَ ظاهرَ صفـحةٍ

 

مِن المرء ما لم تَبْلُ ما ليس يَظهرُ

فما المرءُ إلا الأصغَران: لسانـه

 

ومَعْقُولُه، والجسم خَلْقٌ مُصَـوَّرُ

وما الزَّين في ثوب تراه وإنَّـمـا

 

يَزِينُ الفتى مخبُورهُ حين ىُخبَـرُ

فإنْ طُرَّةٌ راقَتْك مِنـه فـرُبّـمـا

 

أَمرَّ مَذَاقُ العُود والعودُ أَخضـرُ

وقال سُويد بنُ أبي كاهلٍ في ذلك: من الرمل

وَدَعَتْني بِـرُقـاهـا إنـهـا

 

تُنزلُ الأعصمَ من رأسِ اليَفَعْ

تُسْمعُ الحُدَّاثَ قولاً حـسـنـاً

 

لو أرادُوا مِثلَه لم يُسْتَـطَـعْ

ولساناً صَـيْرَفّـياً صـارمـاً

 

كذُباب السَّيف ما مَسّ قَطَـعْ

وقال جرير:

وليس لِسَيفي في العظام بقِـيّةٌ

 

ولَلسَّيْفُ أشْوى وقعةً من لسانيا

وقال آخر:

وجُرحُ السَّيف تَدمُلُه فَـيبْـرَا

 

ويبقى الدَّهرَ ما جَرَحَ اللِّسانُ

وقال آخر:

أبا ضُبيعةَ لا تَعْجَـل بـسـيِّئةٍ

 

إلى ابن عمك واذكُرْه بإحسانِ

إمَّا تَرَانِي وأثوابـي مُـقـاربَةٌ

 

ليست بخَزٍّ ولا من حُرِّ كَتَّـانِ

فإنّ في المجد هِمَّاتي وفي لُغَتي

 

عُلوِيَّةً ولساني غـيرُ لَـحَّـانِ

وفيما مدحوا به الأعرابيَّ إذا كان أديباً، أنشدني ابنُ أبي كريمة، أو ابنُ كَريمة، واسمه أسود:

ألا زعمَتْ عَفراءُ بالشّام أنَّنـي

 

غُلامُ جَوارٍ لا غلامُ حُـرُوب

وإنِّي لأهْذِي بالأوانِسِ كالدُّمَـى

 

وإنِّي بأطراف القَنا لَلَـعـوبُ

وإني على ما كان من عُنْجهُيَّتي

 

ولُوثة أعـرابـيَّتِـي لأديبُ

وقال ابن هَرْمة:

للَّه دَرُّكَ مِن فتىً فَجَعَت به

 

يومَ البَقـيعِ حـوادثُ الأيّامِ

هَشٌّ إذا نَزَلَ الوفودُ ببابِـه

 

سهلُ الحجاب مؤدَّبُ الخُدّامِ

فإذا رأيتَ شقيقَه وصديقَـه

 

لم تدرِ أيُّهما أخُو الارحـامِ

وقال كعبُ بن سعدٍ الغَنَويّ:

حبيبٌ إلى الزُّوَّار غِشيان بَيْتِهِ

 

جميلُ المُحَيَّا شَبَّ وهو أديبُ

إذا ما تراءاه الرِّجال تحفَّظُـوا

 

فلم تُنْطقِ العوراءُ وهو قريبُ

وقال الحارثيّ:

وتَعلَم أنِّي ماجدٌ وتَرُوعُهـا

 

بَقيةُ أعرابيّةٍ في مُهاجِرِ

وقال الآخر:

وإنّ امرأَ في النّاس يُعطَى ظُلامَةً

 

ويمنَعُ نِصْفَ الحقِّ منه لراضِعُ

أألموتَ يَخْشَى أثكَلَ الـلَّـهُ أمَّـه

 

أم العيشَ يرجو نَفْعَه وهو ضائعُ

ويَطْعَمُ ما لم يندفِعْ فـي مَـريئِهِ

 

ويمسح أعْلَى بطنِه وهو جـائعُ

وإنّ العقولَ فاعـلـمَـنَّ أسـنَّةٌ

 

حِدَادُ النَّواحِي أرهفَتْها المواقِـعُ

ويقولون: كأنّ لسانه لسانُ ثور، وحدثَّنِي مَن سمِع أعرابيّاً يمدح رجلاً برِقّة اللسان فقال: كانَ واللَّه لسانُه أرقَّ من وَرَقةٍ، وأليَنَ من سَرقَة، وقال النبيِّ صلى الله عليه وسلم لحسّانَ بنِ ثابت: ما بَقِيَ من لسانك؟ فأخرجَ لسانَه حتَّى ضربَ بطرَفه أرنَبَتَه، ثمّ قال: واللّه مايَسُرُّني به مِقولٌ من مَعدٍّ، واللَّه أَن لو وضعتُه على حَجَرٍ لفلقَه، أو على شَعرٍ لَحَلَقه، قال: وسمعتُ أعرابيّاً يصف لسانَ رجلٍ، فقال: كان يَشُولُ بلسانه شَوَلانَ البَرُوق، ويتخلّل به تخلّل الحيّة، وأظنّ هذا الأعرابيَّ أبا الوجيه العُكليّ، يشول: يرفع، البروق: الناقة إذا طلبت الفَحل فإنّها حينئذ ترفع ذنبها، وإنّما سُمِّي شوّال شوّالاً لأنّ النُّوق شالت بأذنابها فيه، فإن قال قائل: قد يتفق أن يكون شوّالٌ في وقتٍ لا تشول الناقة بذَنبها فيه، فلم بقيَ هذا الاسم عليه، وقد ينتقل ما له لزم عنه؟ قيل له: إنما جعل هذا الاسم له سمة حيث اتّفق أنّ شالت النُّوق بأذنابها فيه، فبقي عليه كالسِّمة، وكذلك رمضان إنما سمِّي لرَمَض الماء فيه وهو في شدّة الحرّ، فبقي عليه في البرد، وكذلك ربيعٌ، إنّما سميّ لرعيهم الرَّبيع فيه، وإن كان قد يتّفق هذا الاسم في وقت البرد والحرّ، قال: ووصَف أعرابيٌّ رجلاً فقال: أتيناه فأخرَجَ لسانَه كأنّه مِخراقُ لاعب، قال: وقال العبّاس بن عبد المطلب للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول اللَّهِ، فيم الجمَالُ؟ قال في اللِّسان، قال: وكان مجاشع بن دارم خطيباً سَلِيطاً، وكان نهشلٌ بكيئاً مَنْزُوراً، فلمّا خرَجَا مِن عند بعض الملوك عذَله مجاشعٌ في تركِه الكلامَ، فقال له نهشل: إنِّي واللّه لا أحسِنُ تَكذابَك ولا تأثامك، تشولُ بلسانك شَوَلانَ البَرُوق، وتَخَلّلُ تخلُّلَ الباقرة، وقالوا: أعلى جميع الخَلْق مرتبةً الملائكة، ثم الإنس، ثم الجنّ، وإنما صار لهؤلاءِ المزِيّةُ على جميع الخلق بالعقل، وبالاستطاعة على التصرُّف، وبالمنطق، قال: وقال خالد بنُ صفوان: ما الإنسانُ لولا اللِّسانُ إلاّ صورةٌ ممثّلةٌ، أو بهيمةٌ مهمَلةٌ، قال: وقال رجلٌ لخالد بن صفوان: ما لي إذا رأيتُكم تتذاكرون الأخبار وتتدارسون الآثار، وتتناشدون الأشعار، وقع عليَّ النَّوم؟ قال: لأنّك حمار في مسلاخ إنسان، وقال صاحب المنطق: حدُّ الإنسانِ الحيُّ الناطق المُبِين، وقال الأعور الشَّنّيُّ:

وكائنْ تَرى مِن صامتٍ لك مُعجبٍ

 

زيادتُه أو نقصُه في التَّـكَـلُّـم

لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فـؤادُه

 

فلم يَبق إلاّ صورةُ اللّحـمِ والـدمِ

ولما دخل ضَمْرة بن ضَمْرة، على النُّعمان بن المنذر، زَرَى عليه، للذي رأى مِن دَمامته وقِصَرِه وقِلّته، فقال النُّعمان: تَسْمَعُ بالمُعَيْديِّ لا أنْ تراه، فقال: أبيتَ اللّعنَ إنّ الرّجالَ لا تُكال بالقُفْزان، ولا تُوزَن بالميزان، وليست بمُسوكٍ يُستَقَى بها، وإنَّما المرء بأصغريه: بقلبه ولسانه، إن صالَ صال بِجَنَانٍ، وإن قال قال بِبَيان، واليمانِيَة تجعل هذا للصَّقْعب النهديّ، فإن كان ذلك كذلك فقد أقرُّوا بأنّ نهداً من مَعَدٍّ، وكان يقال: عقلُ الرّجُل مدفون تحتَ لسانه،

وباب آخر في ذكر اللسان

أبو الحسن: قال: قال الحسن: لِسان العاقل مِن وراء قلبِه، فإذا أراد الكلامَ تفكَّر، فإن كان له قالَ، وإن كان عليه سكَت، وقَلْبُ الجاهل من وراء لسانِه، فإنْ همَّ بالكلام تكلَّم به له أو عليه، قال أبو عبيدة: قال أبو الوَجيه: حدثَّني الفرزدق قال: كُنَّا في ضيافة معاويةَ بن أبي سفيان، ومعنا كعب بن جُعَيْل التَّغلبيُّ، فقال له يزيد: إنّ ابن حَسّان - يريد عبد الرحمن بن حسّان - قد فَضَحَنا فاهجُ الأنصارَ، قال: أرادِّي أنت إلى الإشراك بعد الإيمان، لا أهجُوَ قوماً نَصَرُوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ولكننِّي أدلُّك على غلامٍ مِنّا نَصرانيّ كأنّ لسانَه لسانُ ثور، يعني الأخطل، وقال سَعْدُ بنُ أبي وقّاص، لعُمَر ابنِه حين نَطَقَ مع القوم فبذَّهُم، وقد كانوا كلَّموه في الرّضا عنه، قال: هذا الذي أغضَبَني عليه، أنِّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: يكون قومٌ يأكلون الدُّنيا بألسِنَتهم، كما تَلْحَس الأرضَ البقرةُ بلسانها، قال: وقال معاويةُ لعمرو بن العاصِي: يا عمر، إنّ أهل العراق قد أكرَهُوا عليّاً على أبي موسى، وأنا وأهلُ الشّام رَاضُونَ بك، وقد ضُمَّ إليكَ رجلٌ طويلُ اللِّسان، قصير الرَّأي، فأجِد الحزَّ، وطبِّق المَفْصِل، ولا تَلْقَه برأيِكَ كُلِّه، والعجَب من قول ابن الزُّبير للأعراب: سلاحُكم رَثٌّ، وحديثكم غَثُّ، وكيف يكون هذا وقد ذَكَرُوا أنّه كان مِن أحسَن النَّاس حديثاً، وأن أبا نَضرَة وعُبيد اللَّه بن أبي بَكرةَ إنّما كانا يحكيانه، فلا أدرِي إلاّ أن يكون حُسْن حديثه هو الذي ألقى الحسدَ بينه وبين كلِّ حَسَنِ الحديث، وقد ذكَرُوا أنّ خالدَ بن صفوانَ تكلَّم في بعض الأمر، فأجابه رجلٌ من أهل المدينة بكلامٍ لم يظنَّ خالدٌ أنّ ذلك الكلامَ كان عنده، فلما طال بهما المجلسُ كأنَّ خالداً عرَّض له ببعضِ الأمر، فقال المدنيّ: يا أبا صفوان، ما لي من ذنبٍ إلا اتِّفاق الصناعتين، ذكر ذلك الأصمعيّ، قال فَضّالٌ الأزرق: قال رجلٌ من بني مِنْقرٍ: تكلَّم خالد بن صفوان في صُلحِ بكلامِ لم يسمع النّاس قبلَه مِثلَه، فإذا أعرابيٌّ في بَتٍّ، ما في رجليه حذاء، فأجابه بكلامٍ ودِدتُ واللَّه أنّي كنت مُتَّ وأنَّ ذلك لم يكُنْ، فلمّا رأى خالدٌ ما نَزَلَ بي قال: يا أخا مِنقر، كيف نُجاريهِمْ وإنَّما نحكيهم، وكيف نُسابقُهم وإنما نَجرِي على ما سَبقَ إلينا من أعراقِهِم؛ فليُفْرخ روعُكَ فإنّه من مَقاعِسٍ، ومُقَاعِسٌ لك، فقلت: يا أبا صفوان، واللَّه ما ألُومُك على الأولى، ولا أدعُ حَمْدَك على الأُخْرى، قال أبو اليقظان: قال عمر بن عبدِ العزيز: ما كلّمني رجلٌ من بين أسدٍ إلا تمنَّيت أن يُمدّ له في حُجَّتِهِ حتَّى يكثُرَ كلامه فأسمعَه، وقال يونُسُ بنُ حبيبٍ: ليس في بني أسدٍ إلاّ خطيبٌ، أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس، قال: وليس في هذيلٍ إلاَّ شاعرٌ أو رامٍ، أو شديدُ العَدْو، التَّرجُمان بن هُرَيمْ بن عديّ بن أبي طَحْمَةَ قال: دُعي رَقَبة بنُ مَصْقَلة، أو كَرِب ابن رقبة إلى مجلسٍ ليتكلّم فيه، فرأى مكانَ أعرابيّ في شَمْلَةٍ، فأنكر موضعَه، فسأل الذي عن يمينه عنه فخبّره أنّه الذي أعدُّوه لجوابِه، فنهض مسرعاً لا يَلْوِي على شيءٍ؛ كراهةَ أن يُجمعَ بين الدِّيباجتين فيتَّضع عند الجميع، وقال خَلاّد بن يَزِيد: لم يكن أحدٌ بعد أبي نَضرة أحسَنَ حديثاً من سَلْم بن قُتَيبة، قال: وكان يزيد بن عمر بن هُبيرة يقول: احذِفوا الحديث كما يحذِفُه سَلْم بن قتيبة،ويزعمون أنَّهم لم يَرَوْا محدِّثاً قطُّ صاحبَ آثارٍ كان أجودَ حَذْفاً وأحسن اختصاراً للحديث من سفيانَ بن عُيينة، سألوه مَرَّةً عن قول طاوُسٍ في ذكاة الجراد، فقال: ابنُه عنه: ذكاتُه صَيْدُه،

وباب آخر

وكانوا يمدحون شِدّةَ العَارضة، وقوةَ المُنَّة، وظهورَ الحُجَّة، وثَباتَ الجَنَانِ، وكثرةَ الرِّيق، والعلُوَّ على الخَصْم؛ ويهْجُون بخلافِ ذلك، قال الشَّاعر:

طَباقاء لم يشهد خُصوماً ولم يَعِش

 

حميداً ولم يشهد حِلاَلاً ولا عِطْرَا

وقال أبو زُبَيدٍ الطائيّ: من الخفيف

وخطيب إذا تمَعَّـرَت الأو

 

جُهُ يوماً في مَأقِطٍ مَشهودٍ

طَباقاء، يقال للبعير إذا لم يُحْسِن الضِّراب: جَملٌ عَياياء، وجمل طَبَاقاء وهو هاهنا للرَّجُل الذي لا يتّجِه للحجّة، الحِلاَل: الجماعات؛ ويقال: حيٌّ حِلاَلٌ، إذا كانوا متجاوِرِين مقيمين، والعِطرُ هُنا: العُرْسُ، المأقط: الموضع الضيّق، والمأقِط: الموضع الذي يُقتَتَل فيه، وقال نافعُ بن خليفةَ الغَنَويّ:

وخَصْمٍ لَدَى بابِ الأمير كـأنـهـمْ

 

قُرُومٌ فَشَا فيها الزَّوائرُ والـهَـدْرُ

دَلَفْتُ لهم دُونَ المُنَـى بـمـلـمّةٍ

 

من الدُّر في أعقاب جَوْهَرِها شَذرُ

إذا القومُ قالوا أَدْنِ منها وجدتُـهـا

 

مُطَبِّقةً يهماءَ ليس لهـا خَـصْـرُ

القُرُوم: الجِمَالُ المصاعب، الزوائر: الذين يزئرون والهَدْرُ: صوته عند هَيْجه، ويقال له الهَدِيرُ، دلفت، أي نهضتُ نهوضاً رُوَيداً، والدَّليف: المشيُ الرُّوَيْد، قوله: أدْنِ منها، أي قلِّلْها واختصِرْها، وجدتُها مُطَبِّقة، أي قد طَبَّقَتهم بالحُجَّة، واليهماء: الأرض التي لا يُهتدَى فيها لطرِيقٍ، ويهماء هاهنا، يعني التي لا يُهتدَى إليها ويضل الخصومُ عِندَها؛ والأيهمُ من الرجال: الحائر الذي لا يهتدي لشيءٍ، وأرضٌ يهماء، إذا لم يكنْ فيها علامة، وقال الأسْلَعُ بن قصافٍ الطُّهَوِيّ:

فِداءٌ لقومي كُلُّ مـعـشَـرِ جـارِم

 

طريدٍ ومَخْذولٍ بما جَرَّ مُـسْـلَـمِ

همُ أفحَمُوا الخَصْم الذي يستقـيدُنـي

 

وهمْ فَصَموا حِجلْي وهم حقَنُوا دمي

بأيدٍ يُفَرِّجن الـمـضـيق وألْـسُـنٍ

 

سِلاطٍ وجمعٍ ذي زُهاءٍ عَـرَمْـرَمِ

إذا شِئْتَ لم تَعْدَمْ لدى الباب منـهـم

 

جميلَ المُحَيَّا واضحـاً غـيرَ تـوأم

الزُّهاء: الكثرة، هاهنا، والعرمْرَم من العَرامة، وهي الشَّراسة والشدّة، التَّوْأمان: الأخَوانِ المولودانِ في بطن، وقال التميميُّ في ذلك:

أما رأيت الألْسُنَ الـسِّـلاطَـا

 

والجاهَ والإقدامَ والنَّـشَـاطَـا

إن النَّدَى حيث ترى الضِّغاطَا

 

 

ذهب في البيت الأخير إلى قولِ الشاعر: من الخفيف

يسقط الطير حيث ينتثر الح

 

بُّ وتُغْشَى مَنازلُ الكرماءِ

وإلى قول الآخَر:

يرفَضُّ عن بيت الفقير ضُيوفُه

 

وترى الغِنَى يَهدِي لك الزُّوَّارَا

وأنشدُوا في المعنى الأول:

وخطيبِ قومٍ قَدَّمُوه أمامَهمْ

 

ثقةً به مُتَخَـمِّـطٍ تَـيّاحِ

جاوبْتُ خُطبتَه فظَلَّ كأنَّه

 

لَمَّا خَطبتُ مملحٌ بِمـلاَح

المخمِّط: المتكبِّر مع غَضَب، والتَّيّاح: المِتْيَحُ الذي يَعرِض في كلِّ شيءٍ ويدخُل فيما لا يعنيه، وقوله مملَّحٌ بِملاح، أي متقبِّض كأنه مُلِّح من الملح، وأنشد أيضاً:

أرقتُ لضَوء بَرق في نَشَاصِ

 

تلألأ في مُمَلأة غِـصـاصِ

النشاص: السّحَاب الأبيضُ المرتفع بعضه فوقَ بعض، وليس بمنبسط، تلألأ، التلألؤُ: البَرْق في سُرعةٍ، ممّلأة بالماءِ، غِصَاص: قد غُصَّت بالماء،

لواقِحَ دُلَّحٍ بـالـمـاء سُـحْـمٍ

 

تمجُّ الغَيثَ من خَلَلِ الخَصَاص

اللواقح: التي قد لقحتْ من الرِّيح، والدُّلَّح: الدانية الظاهرةُ المثقلة بالماء، سُحم: سود، والخَصاص، هاهنا: خَلَل السحاب

سَلِ الخطباءَ هل سَبَحُوا كسَبْحِي

 

بحُورَ القَولِ أو غَاصُوا مَغاصِي

لساني بالنَّثـير وبـالـقَـوافِـي

 

وبالأسجاع أمهَرُ في الغِـواصِ

النَّثير: الكلام المنثور، القوافي: خواتم أبيات الشِّعر، الأسجاع: الكلام المزدوج على غير وزن،

مِن الحُوت الذي في لُجِّ بـحـرٍ

 

مُجيدِ الغوْص في لُجَج المَغَاص

لعمرُكَ إنَّني لأٌعِفُّ نـفـسـي

 

وأستُر بالتكرُّم من خَصاصـي

وأنشد لرجلٍ من بني ناشب بن سلامة بن سعد بن مالك بن ثعلبة:

لنا قَمَرُ السَّماءِ وكلُّ نـجـمٍ

 

يُضِيءُ لنا إذا القَمرانِ غارا

ومَن يَفْخَر بغير ابنَيْ نِـزارٍ

 

فليس بأوَّل الخطباءِ جـارا

وأنشد للأقرع:

إنِّي امرؤٌ لا أُقيلُ الخصْمَ عَثْرتَـهُ

 

عندَ الأمير إذا ما خَصمُه ظلعـا

يُنِير وَجْهِي إذا جَدَّ الخِصامُ بـنـا

 

ووَجْهُ خَصمِي تراه الدّهرَ مُلْتَمَعا

وأنشد:

تراه بنصري في الحفـيظة واثـقـاً

 

وإنْ صَدَّعني العينُ منه وحاجـبُـه

وإن خَطَرتْ أيدي الكُماة وجدتَـنِـي

 

نَصُوراً إذا ما استيبَسَ الرِّيقَ عاصبُه

عاصبه: يابسه، يعتصم به حتَّى يُتمّ كلامَه، الكماةُ: جمع كميّ؛ والكميّ الرجل المتكمِّي بالسلاح، يعني المتكفِّر به المتستِّر، ويقال كَمَى الرّجلُ شهادتَه يكْمِيها، إذا كتَمَها وسترها، وقال ابنُ أحْمَرَ وذَكر الريقَ والاعتصامَ به:

هذا الثَّناءُ وأجدِرْ أن أُصاحِبه

 

وقد يُدَوِّم ريقَ الطّامع الأملُ

وقال الزُّبير بن العوّام، وهو يُرقِّص عروةَ ابنَه:

أبيضُ مِن آل أبي عَتِيقِ

 

مباركٌ من وَلَد الصِّدِّيق

ألَذُّه كما ألَـذُّ ريقـي

 

 

وقالت امرأة من بني أسد:

ألاَ بَكَر النَّاعِي بخَيْرِ بنـي أسَـدْ

 

بعمرو بنِ مسعودٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَد

فمن كانَ يَعْيَا بالجـوابِ فـإنّـه

 

أبو مَعقلٍ لا حَجْرَ عنه ولا صدَدْ

أثارُوا بصَحراء الثَّـويّة قَـبـرَه

 

وما كنتُ أخْشَى أن تَنَاءَى به البَلدْ

تَناءى: تبعُد، والثَّويّة: موضعٌ بناحية الكوفة، ومن قال الثُّوَيَّة فهي تصغير الثَوِيَّة، وقال أوسُ بن حَجَرٍ في فَضَالَة بن كَلَدَة:

أبا دُلَيجَة مَن يُوصَـى بـأرمَـلَةٍ

 

أم مَنْ لأشعثَ ذِي طِمرَيْن طِمْلال

أمْ مَن يكون خَطيبَ القوم إن حَفَلوا

 

لَدَى الملوك أُولي كَـيدٍ وأقـوالِ

وهدمين، وهما ثوبان خَلَقان، يقال ثوبٌ أهدامٌ، إذا كان خَلَقاً، والطِّمْلاَلُ: الفقير، وقال أيضاً فيه:

أَلَهفِي عَلَـى حُـسْـنِ آلائهِ

 

على الجابِرِ الحيَّ والحاربِ

ورِقْبَتِهِ حَتَمـاتِ الـمـلـو

 

كِ بينَ السُّرَادِقِ والحاجـبِ

ويَكفي المقالَةَ أهْلَ الـدِّحـا

 

لِ غيرَ مَعيبٍ ولا عـائب

رقبته، أي انتظاره إذنَ الملوك، وجعلَه بين السُّرَادِقِ والحاجب لِيُدلَّ على مكانته من الملوك، وأنشد أيضاً:

وخَصم غضَابٍ يُنْغِضُون رؤوسَهمْ

 

أولِي قَدَمٍ في الشَّغْبِ صُهبٍ سِبَالُها

ضَربْتُ لهم إبْطَ الشِّمال فأَصْبَحـت

 

يُردُّ غواةً آخَـرِين نَـكـالـهـا

إبْط الشمال، يعني الفؤاد؛ لأنّه لا يكون إلاّ في تلك الناحية، وقال شُتَيم بن خُويلِد:

وقلتُ لسَيِّدِنـا يا حـلـي

 

مُ إنّك لم تَأسُ أسْواً رفيقا

أعنْتَ عدِيّاً على شأْوهـا

 

تُعادِي فريقاً وتُبقي فَرَيقا

زحَرْت بها ليلةً كُلَّـهـا

 

فجِئْت بها مُؤْيِداً خَنْفَقيقا

تأسُو: تُدَاوِي، أَسْواً وأسىً، مصدران، والآسي: الطّبيب، ومُؤيِد: داهية، خَنْفَقيق: داهيةٌ أيضاً، الشَّأو: الغَلْوَةُ لركض الفَرَس، وأنشد لآدَمَ مَولَى بَلْعَنبر، يقولها لابنه:

يا بأبي أنتَ ويا فَـوقَ الـبِـئَبْ

 

يا بأَبي خُصْيُكَ من خُصْي وزُبّ

أنت الحبيب وكذا قول المحـبّ

 

جَنَّبَكَ اللَّه مَعاريضَ الوصَـبْ

حتى تُفِيدَ وتُداوِي ذَا الـجـرَبْ

 

وذا الجُنونِ من سُعالٍ وكَـلَـبْ

والحُدْبَ حتَّى يستقيم ذو الحَـدَبْ

 

وتحمِل الشّاعِرَ في اليوم العَصِبْ

عَلَى مَباهِيرَ كثيراتِ الـتّـعَـبْ

 

وإن أراد جَدِلٌ صَـعْـبٌ أرِبْ

خُصُومةً تثقب أوساطَ الـرُّكـب

 

أضْلَعْتَهُ من رَتَب إلـى رَتَـبْ

حتّى ترَى الأبصارَ أمثالَ الشُّهُبْ

 

يُرْمَى بها أَشْوسُ ملحاحٌ كَلِـبْ

مجرّبُ الشَّدَّات ميمونٌ مِـذَبّ

 

 

الوَصَبُ: المر، والعَصِب: الشّديد، يقال: يَوْمٌ عَصِبٌ وعصيبٌ وعَصَبْصَبٌ، إذا كان شديداً، مَبَاهير: مَتَاعيب قد علاهم البُهْر، أَرِبٌ، يقال: رجلٌ أريب وأرِبٌ، وله إرْبٌ، إذا كان عاقلاً أديباً حازماً، أظلعتَهُ يقال: ظلَع الرّجلُ، إذا خَمَع في مَشْيِه، الرَّتَبَة: واحدة الرَّتَب والرَّتَبات، وهي الدَّرَج، أي تُخْرجه مِن شيءٍ إلى شيء، والأشوس: الذي ينظر بمؤخِرِ عينه، مِلحاح: مُلِحٌّ، من الإلحاح على الشّيء، كَلِبٌ، أي الذي قد كَلِبَ، مِذَبٌّ: أي يذبُّ عن حريمه وعن نفسه، وقالت ابنةُ وَثيمةَ، ترثِي أباها وَثيمةَ بن عثمان:

الواهـب الـمـالَ الـتِّـلاَ

 

دَ ندىً ويكفينا العَظـيمَـهْ

ويكـون مِـدْرَهَـنــاً إذا

 

نَزَلَتْ مجلِّحَةٌ عَـظـيمَـهْ

واحْمَـرَّ آفـاق الـسّـمـا

 

ء ولم تقَعْ في الأرض دِيمهْ

وتَـعــذَّر الآكـــالُ ح

 

تَّى كانَ أَحْمَدَها الهَشِيمَـهْ

لا ثَـلّةٌ تــرعـــى ولا

 

إبلٌ ولا بَقَـرٌ مُـسـيمَـهْ

ألـفـيتَـه مَــأوى الأرا

 

مِل والمدَفّـعةِ الـيتـيمـهْ

والدافِعَ الـخَـصِـمَ الأَلـدَّ

 

إذا تُفُوضِحَ في الخُصُومـهْ

بلسان لُـقـمـانَ بـن عـا

 

دَ وفصل خُطْبته الحكيمـهْ

ألجمتَـهُـمْ بـعـد الـتـدا

 

فُع والتجاذُب في الحُكومَهْ

التِّلادُ: القديم من المال، والطارف: المستفاد، والمِدْرَه: لسان القوم المتكلِّم عنهم، مجلِّحةٌ، أي داهية مصمِّمة، احمرَّ آفاقُ السّماء، أي اشتدّ البرد وقَلّ المطرُ وكثر القَحْط، ودِيمةٌ: واحدةُ الدِّيَمِ، وهي الأمطار الدائمة مع سكون، تعذّر: تمنّع، الآكال: جمع أُكْل، وهو ما يؤكل، والهَشِيمَةُ: ما تَهشّم من الشّجَر، أي وقع وتكسَّر، الثلِّة: الضأن الكثيرة، ولا يقال للمِعزى ثَلّة، ولكن حَيْلةٌ، فإذا اجتمعت الضّأْن والمِعزي قيل لهما:ثَلّة، مُسِيمةٌ، أي صارت في السَّوْمِ ودخلت فيه، والسَّوْمُ: الرعي، وسامَت تسوم، أي رعت تَرْعَى، ومنه قوله اللَّه: "وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ" النحل: 01، وكانت العربُ تُعظِّم شأْنَ لُقمانَ بن عادٍ الأكبرِ والأصغرِ لُقيم بنِ لُقمان في النَّباهة والقَدْر، وفي العلم والحُكْم، وفي اللِّسان والحِلْم، وهذان غيرُ لقمانَ الحكيم المذكور في القرآن على ما يقوله المفسِّرون، ولارتفاع قدْره وعِظَم شأنِه، قال النَّمر بنُ تولَب:

لُقَيمُ بنُ لُقْمان من أُختـه

 

فكان ابنَ أختٍ له وابنَما

ليالِيَ حمِّقَ فاستَحصنَتْ

 

عليه فغُرّ بها مُظلِمـا

فَغُرَّ بها رَجُلٌ مُحْـكِـمٌ

 

فجاءت به رجُلاً مُحْكِما

وذلك أنّ أُختَ لقمان قالت لامرأةِ لقمان: إنِّي امرأةٌ مُحْمقَةٌ، ولقمانُ رجُلٌ مُحْكمٌ مُنْجِبٌ، وأنا في ليلة طُهْري، فَهَبي لي ليلتَك، ففعلَتْ فباتت في بيت امرأةِ لقمان، فوقع عليها فأحبلَها بلُقَيمٍ، فلذلك قال النّمر بن تولب ما قال، والمرأة إذا ولدت الحَمْقى فهي مُحْمِقَةٌ، ولا يعلم ذلك حتى يَرَى ولَدُ زَوجِها من غيرها أكياساً، وقالت امرأةٌ ذاتُ بنات:

وما أبالِي أنْ أكونَ مُحمِقَه

 

إذا رأيتُ خُصْيةً مُعلَّقَـه

وقال آخر:

أزْرى بسَعْيِكَ أنْ كنتَ امرأً حَمِقاً

 

من نسل ضاويَةِ الأعراق مِحماقِ

ضاوية الأعراق، أي ضعيفة الأعراق نحيفتُها، يقال: رجلٌ ضاو، وفيه ضاويّةٌ، إذا كان نحيفاً قليلَ الجسم، وجاء في الحديث: اغتربُوا لا تُضْوُوا، أي لا يتزوَّجِ الرّجل القرابَة القريبة، فيجيءَ ولدُه ضاوياً، والفعل منه ضَوِيَ يَضْوَى ضَوىً، والأعراقُ: الأصول، والمحماقُ: التي عادتها أن تلد الحمْقَى، ولبُغْضِهم البناتِ قالت إحدى القوابل:

أيا سَحابُ طَرِّقي بخـيْرِ

 

وطَرِّقِي بخُصْـيةٍ وأيْرِ

ولا تُرينَا طَرَفَ البظَيْرِ

 

 

وقال الآخر في إنجاب الأمَّهات، وهو يخاطب بني إخوته:

عفاريتاً عَلَيّ وأخْذَ مالـي

 

وعَجزاً عَن أُناسٍ آخرينا

فهلاَّ غيْرَ عَمِّكُم ظَلَمـتُـمْ

 

إذا ما كنتمُ متظلّـمِـينـا

فلو كُنْتُم لكيِّسةٍ أكـاسَـتْ

 

وكَيْس الأُمِّ أكْيَسُ للبَنِينـا

ولكن أمُّكم حَمُقَتْ فجئتـم

 

غثاثاً ما نَرَى فيكمْ سَمِينـا

وكان لنا فَزَارةُ عَمَّ سَـوءٍ

 

وكنتُ له كشَرّ بني الأَخِينا

ولبُغْضِ البناتِ هجَر أبو حمزةَ الضبيُّ خَيْمةَ امرأتِه، وكان يَقِيلُ ويَبيتُ عند جيرانٍ له، حينَ ولدت امرأتُه بنتاً، فمرّ يوماً بخبائها وإذا هي ترقّصُها وتقول:

ما لأبي حمزةَ لا يأتِـينـا

 

يظلُّ في البيت الذي يَلِينا

غَضْبانَ ألاّ نلد البَـنـينـا

 

تاللَّه ما ذلك في أيدينـا

وإنّما نأخُذُ ما أُعطِـينـا

 

ونحن كالأرض لزراعينا

نُنبتُ ما قد زرَعُوه فينا

 

 

قال: فغَدَا الشّيخُ حتّى ولَجَ البيتَ فقبَّلَ رأسَ امرأتِه وابنتها، وهذا الباب يقع في كتاب الإنسان، وفي فصْل ما بين الذَّكَر والأنثى، تامّاً، وليس هذا البابُ مما يدخل في باب البيان والتَبْيين، ولكن قد يَجرِي السَّببُ فيُجرَى معه بقَدْر ما يكونُ تنشيطاً لقارئ الكتاب، لأنّ خروجَه من الباب إذا طال لبعض العلم كان ذلك أرْوَحَ على قلبه، وأزيَدَ في نشاطِه إن شاء اللَّه، وقد قال الأول في تعظيم شأن لُقَيم بن لقمان:

قومِي اصبَحِيني فما صِيغَ الفتى حجراً

 

لكـنْ رَهـينَةَ أحـجـارٍ وأرمَـاسِ

قومي اصبَحيني فإنّ الدهرَ ذو غِـيَرٍ

 

أفنى لقيماً وأفـنَـى آل هِـرمـاسِ

اليوم خَمرٌ ويَبْدُو فـي غـدٍ خَـبـرٌ

 

والدّهرُ مـن بـين إنـعـامٍ وإبْـآسِ

فاشرَبْ على حَدَثان الدّهرِ مرتفِـعـاً

 

لا يصحَبُ الهَمُّ قَرعَ السِّنِّ بالـكـاسِ

وقال أبو الطَّمَحان القينيّ في ذكر لُقمان:

إن الزمان لا تفنى عجـائبـه

 

فيه تقطع ألـوف وأقـران

أمْسَتْ بنو القَين أفراقاً موزَّعةً

 

كأنّهمْ من بقايا حيِّ لقـمـانِ

وقد ذكرت العربُ هذه الأممَ البائدة، والقرونَ السالفة، ولبعضهم بقايا قليلةٌ، وهم أشلاءٌ في العرب متفرّقون مغمورون، مثل جُرهُم، وجاسم، ووَبار وعِملاق، وأَميم، وطَسْم وجَديس، ولُقمان والهرماس، وبني الناصور، وقيل بن عترٍ، وذي جَدَن، وقد يقال في بني الناصور: إن أصلهم من الرُّوم، فأمّا ثَمُود فقد خبَّر اللَّه عزّ وجلّ عنهم فقال: "وثَمودًا فَمَا أَبْقَى" النجم:15، وقال: "فَهَلْ تَرَى لَهُمْ من باقِيَة" الحاقة:8، فأنا أعجَب مِن مسلمٍ يصدِّق بالقرآن، يزعمُ أنّ قبائل العرب مِن بقايا ثمود، وكان أبو عبيدة يتأوَّل قولَه: "وثموداً فَمَا أبْقَى" النجم:15، أنّ ذلك إنّما وقع على الأكثر، وعلى الجمهور الأكبر، وهذا التأويل أخرجَهُ من أبي عبيدةَ سوءُ الرأْي في القوم، وليس له أن يجيء إلى خبرٍ عامٍّ مرسَلٍ غير مقيّد، وخبرٍ مطلَق غير مستثنىً منه، فيجعَلَه خاصّاً كالمستثنى منه، وأيُّ شيءٍ بقي لطاعنٍ أو متأوِّل بعد قوله: "فَهَل تَرَى لَهُمْ منْ باقِيَة" الحاقة:8، فكيف يقولُ ذلك إذا كنّا نحنُ قد نرى منهم في كل حيٍّ باقية، مَعاذ اللَّهِ من ذلك،  وروَوْا أنّ الحجّاجَ قال على المنبر يوماً: تزعُمون أنّا من بقايا ثمود، وقد قال اللَّه عزّ وجلّ: "وثَمُوداً فَمَا أبْقَى" النجم: 15، فأما الأممُ البائدة من العجم، مثل كَنعان ويُونانَ وأشباه ذلك، فكثير، ولكن العجمَ ليس لها عنايةٌ بحفظ شأن الأموات ولا الأحياء، وقال المسيَّب بن عَلَس، في ذكر لقمان:

وإليكَ أَعْمَلْتُ المطـيَّة مِـنْ

 

سَهلِ العِراق وأنتَ بالفقـر

أنت الرّئيسُ إذا همْ نـزلُـوا

 

وتواجَهُوا كالأُسْد والنُّـمْـرِ

لو كنتَ من شيءٍ سوى بَشَرٍ

 

كنتَ المنوِّر لـيلةَ الـبـدرِ

ولأنْتَ أجْوَدُ بالعطاء من ال

 

رِيَّانِ لما جادَ بالـقَـطْـرِ

ولأنت أشجَعُ من أسـامةَ إذْ

 

نَقَعَ الصُّرَاخُ ولُجَّ في الذُّعْر

ولأنت أبيَنُ حِين تنطق مـن

 

لقمان لما عُـيَّ بـالأمـرِ

وقال لبيدُ بن ربيعةَ الجعفريّ:

وأخْلفَ قُسّاً ليتَنِي ولو أنَّـنِـي

 

وأعْيَا على لُقمانَ حُكْم التدبُّـرِ

إن تسألينا كيفَ نَحْنُ فـإنَّـنـا

 

عَصافِيرُ من هذا الأنام المسحَّر

السَحْر: الرِّئة، والمسحَّرُ: المعلّل بالطعام والشّراب، والمسحَّر: المخدوع، كما قال امرؤ القيس:

أرانا مُوضِعين َ لأمْرِ غَيبٍ

 

ونُسحَرُ بالطّعامِ وبالشَّراب

أي نُعلَّلُ، فكأنّا نخدع ونسحر بالطعام والشّراب، وقال الفرزدق:

لئنْ حَوْمَتِي هابتْ معدٌّ حيِاضها

 

لقد كان لقمان بنُ عادٍ يهابُهـا

وقال الآخَر:

إذا ما مات مَيتٌ من تـمـيمٍ

 

فسرَّك أن يَعيش فجِئ بزادِ

بخبز أو بلحمٍ أو بـتـمـرٍ

 

أو الشَّيء الملفَّف في البِجادِ

تراه يطوّف الآفاقَ حرصـاً

 

ليأكل رأس لقمانَ بنِ عـادِ

وقال أُفنون التَّغلبي:

لو أنني كنتُ من عادٍ ومن إرَمٍ

 

ربيَتُ فيهِمْ ولُقْمانٍ وذِي جدَنِ

وقال الآخر: مخلع البسيط

ما لذّة العيش والفَتَى لل

 

دَّهرِ والدهرُ ذو فنونِ

أهلَكَ طسْماً وقَبل طسمٍ

 

أهلك عاداً وذا جُدُونِ

وأهل جاسٍ ومـأربٍ

 

بنواحي لُقْمانَ والتُّقُون

واليُسر للعُسرِ، والتغَنِّي

 

للفَقْر، والحيُّ للمنونِ

قال: وهم وإن كانوا يحبُّون، البيان والطَّلاقة، والتَّحبير والبلاغة، والتخلُّص والرَّشاقة، فإنّهم كانوا يكرهون السَّلاطة والهذَر، والتكلُّف، والإسهاب والإكثار؛ لما في ذلك من التزيُّد والمباهاة، واتباع الهوى، والمنافسة في الغلوّ، وكانوا يكرهون الفُضولَ في البلاغة، لأنّ ذلك يدعُو إلى السَّلاطة، والسَّلاطة تدعو إلى البَذاء، وكلُّ مرَاءٍ في الأرض فإنَّما هو من نِتاج الفُضول، ومَن حَصَّل كلامه وميَّزَه، وحاسب نفسَه، وخاف الإثم والذمّ، أشفق من الضراوة وسوء العادة، وخاف ثمرةَ العُجْبِ وهُجْنة النفج، وما في حبِّ السُّمعة من الفِتنة، وما في الرّياء من مجانبة الإخلاص، ولقد دعا عُبادةُ بنُ الصَّامتِ بالطعام، بكلامٍ ترَك فيه المحاسنة، فقال شدَّاد ابن أوس: إنّه قد ترك فيه المحاسنة، فاسترجعَ ثم قال: ما تكلَّمتُ بكلمةٍ منذُ بايعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا مزمومةً مَخْطوطةً، قال: ورَوى حمادُ بن سَلَمة، عن أبي حمزة، عن إبراهيم قال: إنما يَهْلِك النّاسُ في فُضول الكلام، وفضول المال، وقال: دع المعاذِر، فإن أكثرها مَفاجر، وإنما صارت المعاذر كذلك لأنَّها داعيةٌ إلى التخلُّص بكلِّ شيء، وقال سلاّم بن أبي مطيع: قال لي أيّوب: إيّاك وحِفظَ الحديث، خوفاً عليه من العُجْب،  وقال إبراهيم النّخعَي: دع الاعتذار؛ فإنه يخالط الكذِب، قالوا: ونظر شابٌّ وهو في دارِ ابن سيرينَ إلى فَرْشٍ في داره، فقال: ما بالُ تلك الآجُرّةِ أرفَع من الآجُرّة الأخرى؟ فقال ابن سيرين: يا ابن أخي إنّ فُضُولَ النَّظرِ تَدْعُو إلى فضول القول، وزعم إبراهيمُ بن السّنديّ قال: أخبَرَني مَن سمِعَ عيسى بن عليّ يقول: فُضولُ النَّظر من فضول الخواطر، وفضول النّظر تدعو إلى فُضول القول، وفضول القول تدعو إلى فضول العمَل؛ ومَن تعوَّدَ فضولَ الكلام تمّ تدارك استصلاح لسانه، خرَجَ إلى استكراه القول، وإنْ أبطأ أخرجَهُ إبطاؤُه إلى أقبَحَ من الفضول، قال أبوعمرو بنُ العلاءِ: أنكَحَ ضِرارُ بن عمرٍو الضبّيّ ابنتَه معبدَ بن زُرارة، فلمَّا أخرجها إليه قال لها: يا بُنَيّة أمسِكي عليك الفَضْلَين، قالت: وما الفَضلانِ؟ قال: فَضْل الغُلمة، وفَضل الكلام، وضرارُ بن عَمروٍ، هو الذي قال: مَنْ سَرّه بنوه ساءته نَفْسه، وهو الذي لما قال له المنذر: كيف تخلَّصت يومَ كذا وكذا، وما الذي نجَّاك؟ قال: تأخيرُ الأجل، وإكراهي نَفْسي على المُقِّ الطوال، المقَّاء: المرأة الطويلة، والمقُّ: جماعة النساء الطوال، والمُقّ أيضاً: الخيل الطِّوال، وكان إخوته قد استشَالُوه حتّى ركِب فرسَه ورفع عِقيرتَه بعُكاظ، فقال: أَلاَ إنّ خيرَ حائلٍ أُمٌّ فزوِّجوا الأمَّهات، وذلك أنه صُرِع بين القَنَا، فَأَشْبَلَ عليه إخوتُه لأمِّه حتّى أنقذوه،