باب في الصمت

قال: وكان أعرابيٌّ يجالس الشَّعبيَّ فيطيل الصَّمت، فسئل عن طول صمته فقال: أسمع فأعلم، وأسكت فأَسلم، وقالوا: لو كان الكلام من فِضّة لكان السُّكوت مِن ذَهَب، وقالوا: مَقتل الرّجُل بين لَحْييْه وفَكَّيْه، وأخذ أبو بكر الصّدِّيق، رحمه اللَّه، بطرَف لسانِه وقال: هذا الذي أوردَني المَوَارد، وقالوا: ليس شيءٌ أحقَّ بطول سَجْنٍ من لسان، وقالوا: اللِّسان سَبع عَقُور، وقال النبيُّ عليه السلام: وهل يكُبُّ الناسَ على مناخرهم في نار جَهنَّم إلا حصائد ألسنتهم، وقال ابن الأعرابيّ، على بعض أشياخه: تكلم رجلٌ عند النبي عليه السلام فخطِلَ في كلامه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أُعْطِيَ العبدُ شرّاً من طلاقة اللسان، وقال العائشي، وخالد بن خِدَاش: حدثنا مَهديُّ بن ميمون، عن غيلان بن جرير، عن مطرِّف بن عبد اللَّه بن الشّخِّير، عن أبيه قال: قدِمنا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وفدٍ فقلنا: يا رسولَ اللَّه، أنت سيِّدنا، وأنت أطْوَلُنا علينا طَوْلاً، وأنت الجفنة الغَرَّاء، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : أيُّها النّاس، قُولُوا بقَولكم ولا يستَفِزَّنّكُم الشّيطانُ، فإنَّما أنا عبدُ اللَّه ورسولُه، قال: وقال خالد بن عبد اللَّه القَسريّ، لعمرَ بنِ عبدِ العزيز: من كانت الخلافة زانته فقد زيّنْتَها، ومن شرّفَتْه فقد شَرَّفْتَها، فأنت كما قال الشاعر: من الخفيف

وتَزِيدِينَ أَطْيَبَ الطِّيب طِيباً

 

أن تَمَسّيهِ أينَ مثلُـك أينـا

وإذا الدُّرُّ زانَ حُسْنَ وجُوهٍ

 

كان للدُّرِّ حُسْنُ وجهكِ زَيْنا

فقال عمر: إنَّ صاحبَكم أُعطي مَقُولا، ولم يُعْطَ معقولا، وقال الشاعر:

لسانُكَ معسولٌ ونَفْسُك شـحَّةٌ

 

ودُون الثُّريا مِن صديقِك مالُكا

وأخبرنا بإسنادٍ له، أنّ ناساً قالوا لابن عُمَر: ادعُ اللَّه لنا بدَعَوات، فقال: اللَّهمَّ ارْحمنا وعافنا وارزقنا، فقالوا: لو زدتنا يا أبا عبد الرحمن، قال: نعوذ باللَّه من الإسهاب، وقال أبو الأسود الدؤليّ، في ذكر الإسهاب، يقولها في الحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة بن المغيرة، والحارث هو القُبَاع، وكان خطيباً من وُجوه قريش ورجالهم، وإنَّما سمي القُباعَ لأنه أُتِيَ بمِكْتَل لأهل المدينة فقال: إن هذا المِكْتَلَ لَقُبَاعٌ فسمِّي به، والقُبَاع: الواسع الرأس القصير، وقال الفرزدق فيه لجرير:

وقَبْلَكَ ما أعيَيْتُ كاسِرَ عـيْنـهِ

 

زياداً فلم تقدِرْ عليّ حبـائلُـهْ

فأقسمتُ لا آتيهِ تسعين َ حِـجَّةً

 

ولو كُسِرَتْ عُنْقُ القُبَاعِ وكاهلُه

وقال أبو الأسود:  

أميرَ المؤمنينَ جزِيتَ خيراً

 

أرِحْنا من قُباع بني المُغيرهْ

بَلوناهُ ولُـمْـنـاهُ فـأعْـيَا

 

علينا ما يُمِرّ لنـا مَـرِيرهْ

على أنّ الفتى نِكْحٌ أَكُـولٌ

 

ومِسهابٌ مذاهبُه كـثـيرهْ

وقال الشّاعر:

إياكَ إيّاك الـمـراءَ فـإنــه

 

إلى الشر دعّاءٌ وللصَّرمِ جالبُ

وقال أبو العتاهية:

والصمت أجْمَلُ بالفتـى

 

مِن منطقٍ في غير حِينه

كلُّ امرئٍ في نـفـسِـهِ

 

أعلى وأشرفُ مِن قَرينِه

وكان سهلُ بنُ هارونَ يقول: سياسة البلاغة أشدُّ من البلاغة، كما أنّ التَّوقِّيَ على الدَّوَاء أشدُّ من الدَّواء، وكانوا يأمرون بالتبيُّن والتثبّت، وبالتحرز من زَلَل الكلام، ومن زَلَل الرّأي، ومن الرأْي الدَّبَريّ، والرأيُ الدَّبَرِيُّ هو الذي يَعرِض من الصَّواب بعد مُضيِّ الرأي الأوَّل وفَوتِ استدراكِه، وكانوا يأمرُون بالتحلُّم والتعلَّم، وبالتقدُم في ذلك أشد التقدُّم، وقال الأحنف: قال عمر بن الخطاب: تفقَّهُوا قَبل أن تسُودوا، وكان يقول رحمه اللَّه: السؤدد مع السَّواد، وأنشَدُوا لكثيِّر عزّةَ:

وفِي الحِلْمِ والإسلامِ للمرء وازعٌ

 

وفي تركِ طاعات الفُؤادِ المتيَّمِ

بصائرُ رُشْدٍ للفتى مسـتـبـينةٌ

 

وأخلاقُ صِدْقٍ عِلْمُها بالتعلُّـمِ

الوازع: الناهي؛ والوزَعة: جمع وازع، وهم الناهون والكافُّونَ، وقال الأفْوَهُ الأَوْديّ:

أضحَتْ قُرينَةُ قد تَغيَّرَ بشْرُها

 

وتجهَّمَتْ بتِحيَّةِ القومِ العِـدَا

ألوَتْ بإصبَعِها وقالت: إنَّـمـا

 

يَكفِيكَ مِمّا لا تَرَى ما قد تَرَى

وأنشد:

ابِدَأْ بنَفْسِكَ فانْههَا عن غَـيِّهـا

 

فإذا انتهتْ عنهُ فأنتَ حكـيمُ

فهناك تُعذَرُ إن وَعَظْتَ ويُقتَدَى

 

بالقول منك ويُقْبَلُ التعـلـيمُ

قالوا: وكان الأحنفُ بنُ قيسٍ أشدَّ الناس سلطاناً على نفسه، وقالوا: وكان الحسن أتْرَكَ النَّاسِ لما نُهِيَ عنه، وقال الآخر:

لا تعذراني في الإسـاءة إنّـه

 

شرَارُ الرِّجال مَن يُسيء فيُعذَرُ

وقال الكُميت بن زيدٍ الأسديّ: من المنسرح

ولم يُقَلْ بَعْـدَ زَلّةٍ لَـهُـمُ

 

عُدُّوا المعاذيرَ إنّما حَسِبوا

وأنشدني مُحمّد بن يَسيرٍ، للأحوص بن محمد:

قامت تخاصرني بقُنَّتِها

 

خوْدٌ تَأَطَّرُ غادةٌ بِكرُ

كلٌّ يَرَى أنّ الشَّبابَ له

 

في كلِّ مُبْلغِ لَذَّةٍ عُذْرُ

تخاصرني: آخذُ بيدها وتأخُذ بيدي، والقُنّةُ: الموضع الغليظ من الأرض في صلابة، والخَود: الحسنة الخَلْق، تأطَّرُ: تتثَنَّى، والغادة: الناعمة الليِّنة، وقال جريرٌ في فَوت الرَّأْي:

ولا يتّقون الشَّرَّ حتَّى يُصيبَهُمْ

 

ولا يعرِفون الأمْرَ إلاّ تدبُّرا

قال: ومدح النّابغةُ ناساً بخلاف هذه الصفة، فقال:

ولا يحسِبَوْن الخيرَ لا شَرَّ بعـده

 

ولا يحسبون الشَّرَّ ضَرْبةَ لازبِ

لازب ولازم، واحد، واللازب في مكان آخر: اليابس، قال اللَّه عزّ وجلّ: "مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ" الصافات:11، واللّزَبات: السِّنُونَ الجَدْبَةُ، وأنشد:

هفا هفوةً كانت من المر بدِعةً

 

وما مثلُه مِن مثلها بسـلـيمِ

فإنْ يكُ أخطا في أخيكمْ فرُبَّما

 

أصاب التي فيها صَلاحُ تميمِ

قال: وقال قائلٌ عند يزيدَ بنِ عُمرَ بن هُبيرة:واللَّه ما أَتَى الحارثُ ابن شُريح بيوم خيرٍ قَطَّ، قال: فقال التّرجُمان بن هُرَيم: إلاَّ يَكْنُ أتَى بيومِ خيرٍ فقد أَتَىَ بيومِ شَرٍّ، ذهب الترجمان بن هُرَيم إلى مثل معنَى قول الشاعر:

وما خُلِقَتْ بنـو زِمّـانَ إلاّ

 

أخيراً بَعْدَ خَلْقِ النّاسِ طُرَّا

وما فَعلت بنو زِمّانَ خـيرَا

 

ولا فَعلَتْ بنو زِمّان شـرّا

ومن هذا الجنس من الأحاديث، وهو يدخُل في باب المُلَح، قال الأصمعي: وصَلْتُ بالعِلْم، ونِلتُ بالمُلَح، وقال رجلٌ مَرَّةً: أبي الذي قاد الجُيوشَ، وفَتَحَ الفتُوحَ، وخَرَجَ على الملوكِ، واغتصب المنابر، فقال له رجُلٌ من القَوم، لا جَرَم، لقد أُسِرَ وقُتِلَ وصُلِب قال: فقال له المفتخرُ بأبيه: دعْنِي من أسْرِ أبي وقتله وصَلْبه، أبوك أنتَ حدَّث نفسَه بشيءٍ من هذا قطّ؟، قد سمِعْنا روايةَ القومِ واحتجاجَهم، وأنا أُوصِيكَ ألاّ تدَعَ التماسَ البيان والتبيين إن ظننتَ أن لك فيهما طبيعةً، وأنّهما يناسبانك بعضَ المناسبة، ويشاكلانِك في بعض المشاكلة؛ ولا تُهمِلْ طبيعتَك فيستولِيَ الإهمالُ على قُوّة القريحة، ويستبدُّ بها سوءُ العادة، وإنْ كنتَ ذا بيانِ وأحسستَ مِن نفسك بالنُّفوذ في الخَطابة والبلاغة، وبقُوّة المُنّة يوم الحَفْل، فلا تُقصِّرْ في التماس أعلاها سُورة، وأرفِعها في البيان منزلةً، ولا يقطعَنَّك تَهيْيِبُ الجُهلاء، وتخوِيف الجُبَناء؛ ولا تصرفنَّك الرِّواياتُ المعدولةُ عن وجوهها، المتأَوَّلةُ على أقبح مخارجها، وكيف تُطِيعهم بهذه الرِّوايات المعدولة، والأخبار المدخولة، وبهذا الرأي الذي ابتدَعُوه من قِبَل أنفُسهم، وقد سمِعت اللَّه تبارك وتعالى، ذكَرَ داودَ النبيّ صلوات اللَّهِ عليه، فقال: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ) صلى الله عليه وسلم :71 إلى قوله: (وَفَصْلَ الخطَاب) صلى الله عليه وسلم :02، فجمَع له بالحكمةِ البراعةَ في العقل، والرَّجَاحةَ في الحِلم، والاتِّساعَ في العلم، والصّوابَ في الحُكْم، وجَمَع له بفصل الخطابِ تفصيلَ، وتلخيص الملتَبِس، والبَصَرَ بالحزِّ في موضع الحزّ، والحسْمَ في موضع الحَسم، وذكر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم شُعيباً النبيَّ عليه السلام، فقال: كان شعيبٌ خطيب الأنبياء، وذلك عندَ بعض ما حكاه اللَّه في كتابه، وجَلاّه لأسماع عباده، فكيف تَهَاب منزلةَ الخطباءِ وداوُد عليه السلام سَلفُك، وشعيبٌ إمامُك، مع ما تلوناه عليك في صدر هذا الكتابِ من القرآن الحكيم، والآي الكريم، وهذه خطبُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مدوّنة محفوظة، ومخَلّدة مشهورة، وهذه خطبُ أبي بكرٍ وعمر وعثمانَ وعليٍّ، رضي اللَّه عنهم، وقد كان لرسول اللَّه شعراءُ ينافحُون عنه وعن أصحابِه بأمره، وكان ثابت بن قيس بن الشَّمَّاس الأنصاريّ خطيبَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لا يدفع ذلك أحدٌ، فأمَّا ما ذكرتم من الإسهاب والتكلُّف، والخَطَل والتزيُّد، فإنما يخرجُ إلى الإسهاب المتكلِّفُ، وإلى الخطَلِ المتزيِّد، فأما أربابُ الكلامِ، ورؤساءُ أهل البيان، والمطبوعون المعاوِدون، وأصحابُ التّحصيل والمحاسَبة، والتوقِّي والشَفقة، والذين يتكلَّمون في صَلاَح ذاتِ البَين، وفي إطفاء نائرة، أو في حَمَالة، أو على مِنبر جَمَاعة، أو في عَقد إمْلاكٍ بين مسلم ومسلمة - فكيف يكون كلامُ هؤلاء يدعو إلى السَّلاطة والمِراء، وإلى الهَذَر والبَذَاء، وإلى النَّفْجِ والرِّياء، ولو كان هذا كما يقولون لكان عليٌّ بنُ أبي طالبٍ، وعبدُ اللَّه بنُ عبَّاسٍ أكثَرَ النّاس فيما ذكرتم، فلِمَ خطبَ صعصعةُ ابن صُوحان عند عليّ بن أبي طالبٍ، وقد كان ينبغي للحسنَ البَصريِّ أن يكون أحقَّ التابعين بما ذكرتم؟ قال الأصمعي: قيل لسعيد بن المسيَّب: هاهنا قومٌ نُسَّاكٌ يَعيبون إنشادَ الشعر، قال: نَسَكُوا نُسْكاً أعجميّاً، وقد زَعمتم أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: شُعبتانِ من شُعَب النِّفاق: البَذَاء والبَيان، وشُعبتان من شُعب الإيمان: الحياء، والعِيّ، ونحن نعوذُ باللَّه أن يكون القرآن يحثُّ على البيان ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُحثُّ على العِيّ، ونعوذُ باللَّه أن يجمعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بين البَذاء والبيان، إنما وقَعَ النَّهْيُ على كلِّ شيءٍ جاوَزَ المقدار، ووقع اسم العِيِّ على كلَّ شيءٍ قصَّر عن المقدار، فالعِيُّ مذمومٌ والخطَل مذموم، ودينُ اللَّه تبارك وتعالى بين المقصِّر والغالي،  وهاهنا روايات كثيرةٌ مدخولة، وأحاديث معلولة، رَوَوْا أنّ رجلاً مدحَ الحياءَ عند الأحنف، وأنّ الأحنف قال ثّمَّ: يعود ذلك ضَعْفاً، والخير لا يكون سبباً للشرّ، ولكنا نقول: إنّ الحياء اسمٌ لمقدارٍ من المقادير ما زاد على ذلك المقدار فسمِّه ما أحببت، وكذلك الجود اسم لمقدارٍ من المقادير، فالسَّرف اسم لما فَضَل عن ذلك المقدار، وللحزم مقدارٌ، فالجبْن اسمٌ لما فضَل عن ذلك المقدار، وللاقتصاد مقدار، فالبُخل اسمٌ لما خرج عن ذلك المقدار، وللشّجاعة مقدار، فالتهوُّر والخَدَب اسمٌ لما جاوزَ ذلك المِقدار، وهذه أحاديثُ ليست لعامّتها أسانيدُ متّصلة، فإن وجَدْتَها متصلةً لم تجدها محمودة، وأكثرُها جاءت مطلقةَ ليس لها حاملٌ محمودٌ ولا مذموم، فإذا كانت الكلمة حسنةً استمتعنا بها على قدر ما فيها من الحُسْن، فإن أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتُنسَب إلى هذا الأدب، فقرضتَ قصيدةً، أو حبَّرت خطبة، أو ألّفْتَ رسالة، فإيَّاك أن تدعوَك ثقتُك بنفسك، أو يدعُوَك عُجبْك بثمرة عقلك إلى أن تنتحله وتدّعِيَه؛ ولكن اعرِضْه على العلماء في عُرْض رسائلَ أو أشعارٍ أو خطب؛ فإنْ رأيتَ الأسماعَ تُصْغي له، والعيونَ تَحْدِج إليه، ورأيتَ مَن يطلبُه ويستحسنه، فانتحله، فإن كان ذلك في ابتداء أمرك، وفي أوَّل تكلُّفِك فلم تر له طالباً ولا مستحسناً، فلعلّه أن يكون ما دام أيِّضاً قضيباً، أن يحلَّ عندَهم محلَّ المتروك، فإذا عاودْتَ أمثالَ ذلك مراراً، فوجَدْتَ الأسماع عنهُ منصرفة، والقلوبَ لاهية، فخُذْ في غير هذه الصناعة، واجعَلْ رائدك الذي لا يَكْذِبُك حِرصهم عليه، أو زُهدهم فيه، وقال الشّاعر:

إنّ الحديثَ تغُرُّ القومَ خَلْوَتُه

 

حَتّى يَلِجّ بهم عِيٌّ وإكثـارُ

وفي المثل المضروب: كلُّ مُجْرٍ في الخلاءٍ مُسَرٌّ، ولم يقولوا مسرور، وكلٌّ صواب، فلا تثقْ في كلامك برأي نفسك؛ فإنِّي ربَّما رأيتُ الرَّجلَ متماسِكاً وفوقَ المتماسك، حتَّى إذا صار إلى رأيه في شعره، وفي كلامه، وفي ابنه، رأيتَه مُتَهافِتاً وفَوقَ المتهافت، وكان زهيرُ بنُ أبي سُلْمَى، وهو أحد الثَّلاثة المتقدمين، يسمّي كبارَ قصائده: الحَوليَّات، وقال نوح بن جرير: قال الحطيئة: خيرُ الشِّعر الحوليّ المنقّح، قال: وقال البعيث الشاعر، وكان أخطَبَ النّاس: إنِّي واللَّه ما أُرسل الكلامَ قضيباً خشيباً، وما أريد أنْ أخطُبَ يوم الحَفْل إلا بالبائِت المحكَّك، وكنت أظنّ أن قولَهم محكّك كلمةٌ مولَّدة، حتَّى سمعت قولَ الصَّعب بن عليٍّ الكِناني:

أبلغْ فزارةَ أنّ الذِّئبَ آكـلُـهـا

 

وجائعٌ سَغِبٌ شَرٌّ مـن الـذِّيبِ

أزلُّ أطْلَسُ ذو نَفْسٍ محـكَّـكَةٍ

 

قد كان طار زماناً في اليعاسيب

وتكلّم يزيدُ بن أبانٍ الرَّقَاشي، ثم تكلم الحسَن، وأعرابيّانِ حاضران فقال أحدهُما لصاحبه: كيف رأيتَ الرَّجُلين؟ فقال: أمّا الأوّل فقاصٌّ مُجيدٌ، وأما الآخَر فعربيٌّ مُحَكّكٌ، قال: ونظر أعرابيٌّ إلى الحسن، فقال له رجل: كيف تراه؟ قال: أرى خَيشُومَ حُرٍّ، قالوا: وأرادوا عبدَ اللَّه بنَ وهبٍ الراسبيَّ على الكلام يومَ عَقدتْ له الخوارجُ الرِّياسة فقال: وما أنا والرأيَ الفطير، والكلامَ القضيب ولمّا فرَغُوا من البَيعة له قال: دعُوا الرّأي يَغِبُّ؛ فإن غُبُوبَه يكشِف لكم عن مَحْضِهِ، وقيل لابن التَّوأم الرَّقاشيّ: تكلّمْ، فقال: ما أشتهي الخُبزَ إلاّ بائِتاً، قال: وقال عُبَيد اللَّه بن سالم لرُؤبة: مُتْ يا أبا الجحاف إذا شئت، قال: وكيف ذاك؟ قال: رأيتُ اليوم عُقبةَ بن رؤبة ينشد شعراً له أعجبني، قال: فقال رؤبة: نعم إنّه ليقول ولكن ليس لشعره قِرَانٌ، وقال الشاعر:

مِهاذبةٌ مَناجِبةٌ قِرَانٌ

 

مَنادبةٌ كأنّهم الأسودُ

يريد بقوله قِرانٌ التّشابُهَ والموافقَة،وقال عُمَر بن لجأٍ لبعض الشُّعراء: أنا أشعر منك قال: وبم ذاك؟ قال: لأنِّي أقولُ البيتَ وأخاه، وأنت تقولُ البيتَ وابنَ عمِّه، قال: وذَكر بعضُهم شِعر النَّابغة الجعديّ، فقال: مُِطْرفٌ بآلاف، وخِمارٌ بواف، وكان الأصمعيُّ يفضّله من أجل ذلك، وكان يقول: الحطيئة عبدٌ لِشعرِه، عابَ شِعره حين وجدَه كلّه متخيَّراً منتخَباً مستوياً، لمكان الصَّنْعة والتكلُّف، والقيام عليه، وقال: لو أنّ شِعرَ صالح بنِ عبد القُدُّوس، وسابقٍ البربريّ كان مفرّقاً في أشعار كثيرة، لصارت تلك الأشعارُ أرفَعَ ممّا هي عليه بطبقاتٍ ولصار شعرهُما نوادِرَ سائرةً في الآفاق، ولكنَّ القصيدة إذا كانت كلُّها أمثالاً لم تَسِرْ، ولم تَجرِ مَجرى النَّوادر، ومتى لم يخرج السّامعُ من شيء إلى شيء لم يكن لذلك عنده موقع، قال: وقال بعضُ الشُّعراء لرجُلٍ: أنا أقولُ في كلِّ ساعةٍ قصيدةً، وأنت تَقرِضُها في كلِّ شهرٍ فلم ذلك؟ قال: لأنِّي لا أقبل من شيطاني مثلَ الذي تقبَلُ من شيطانِك، قال: وأنشد عُقبةُ بن رؤبة أباه رؤبة بن العجاج شعراً وقال له: كيف تراه؟ قال: يا بُنيّ إنّ أباك لَيَعرِضُ له مثلُ هذا يميناً وشِمالاً فما يلتفت إليه، وقد رووْا مثلَ ذلك في زهيرٍ وابنه كعب، قال: وقيل لعَقِيل بن عُلَّفَة: لِمَ لا تُطيل الهجاء؟ قال: يكفيك مِن القلادة ما أحاطَ بالعُنق، وقيل لأبي المهوِّش: لم لا تُطِيل الهجاء؟ قال: لم أجد المثلَ النادرَ إلاَّ بيتاً واحداً، ولم أجد الشِّعر السَّائر إلاّ بيتاً واحداً، قال: وقال مَسلمةُ بنُ عبد الملك لنُصيبٍ الشّاعر: ويْحَكَ يا أبا الحَجْناء، أما تُحْسِن الهجاء؟ قال: أمَا تراني أُحْسِنُ مكان عافاك اللَّه: لا عافاك اللَّه، ولاموا الكميتَ بن زيدٍ على الإطالة، فقال: أَنَا على القِصار أقدر، وقيل للعجَّاج: مالك لا تُحسِن الهجاء؟ قال: هل في الأرض صانعٌ إلاّ وهو على الإفساد أقدر، وقال رُؤبة: الهَدْم أسرَعُ من البِناء، وهذه الحججُ التي ذكروها عن نُصيبٍ والكميت والعجّاجِ ورُؤبة، إنّما ذكروها على وجه الاحتجاج لهم، وهذا منهم جهلٌ إن كانت هذه الأخبارُ صادقة، وقد يكونُ الرَّجُل له طبيعةٌ في الحساب وليس له طبيعة في الكلام؛ وتكون له طبيعة في التِّجارة وليست له طبيعةٌ في الفلاحة؛ وتكون له طبيعةٌ في الحُداء أو في التغْبير، أو في القراءة بالألحان، وليست له طبيعةٌ في الغناء وإن كانت هذه الأنْواعُ كلُّها ترجع إلى تأليف اللحون، وتكون له طبيعةٌ في النّاي وليس له طبيعة في السُّرْناي؛ تكون له طبيعةٌ في قصبة الرَّاعي ولا تكون له طبيعة في القصبتين المضمومتين؛ ويكون له طبع في صناعة اللحون ولا يكون له طبعٌ في غيرهما؛ ويكون له طبعٌ في تأليف الرسائل والخطب والأسجاع ولا يكون له طبع في قرض بيت شعرٍ، ومثل هذا كثيرٌ جدّا، وكان عبدُ الحميد الأكبر، وابنُ المقفَّع، مع بلاغة أقلامهما وألسنتهما، لا يستطيعان من الشِّعر إلا ما لا يُذكَر مثلُه، وقيل لابن المقفّع في ذلك، فقال: الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيئني لا أرضاه، وهذا الفرزدق وكان مستهتَراً بالنِّساء، وكان زِيرَ غَوانٍ، وهو في ذلك ليس له بيتٌ واحدٌ في النَّسيب مذكور، مَعَ حسده لجريرٍ، وجريرٌ عفيفٌ لم يَعْشَق امرأةً قطّ، وهو مع ذلك أغزَلُ النّاسِ شِعراً، وفي الشُّعراء مَن لا يستطيع مجاوزةَ القصيد إلى الرَّجز، ومنهم من لا يستطيع مجاوزةَ الرّجز إلى القصيد، ومنهم من يجمعهما كجرير وعُمَر بن لجأ، وأبي النَّجم، وحُميد الأرقط، والعُمَانيّ، وليس الفرزدق في طِوالِه بأشعَرَ منه في قصاره، وفي الشعراء مَن يخطب وفيهم من لا يستطيع الخطابة، وكذلك حال الخطباء في قريض الشعر، والشّاعرُ نفسه قد تختلف حالاتُه، وقال الفرزدق: أنا عند الناس أشعَرُ النّاس ورُبَّما مرَّتْ عَليَّ ساعةٌ ونزْعُ ضرسٍ أهوَنُ عَلَيَّ من أن أقول بيتاً واحداً، وقال العجّاج: لقد قلتُ أرجوزتي التي أوّلها:

بكيتَ والمُحتَزنُ البَكـيُّ

 

وإنّما يأتِي الصِّبَا الصَّبيُّ

أطَرَباً وأنتَ قِنَّـسْـرِيُّ

 

والدّهْرُ بالإنسان دَوْارِيُّ

وأنّا بالرَّمل، في ليلةٍ واحدة، فانثالَتْ عَلَيَّ قوافيها انثيالاً، وإني لأُريد اليومَ دونَها في الأيّامِ الكثيرة، فما أقدِر عليه، وقال لي أبو يعقوبَ الخُريَميّ: خرجتُ مِن منزلِي أريد الشَّمَّاسِيّة، فابتدأت القول في مرثيةٍ لأبي التَّخْتاخ، فرجَعت واللَّه وما أمكنني بيتٌ واحد، وقال الشاعر:

وقد يَقرض الشعرَ البكيُّ لسـانُـه

 

وتُعيي القوافي المرءَ وهو خَطيبُ