باب من القول في المعاني الظاهرة باللفظ الموجز من ملتقطات كلام الناس

قال بعض النّاس: من التوقِّي ترك الإفراط في التوقّي، وقال بعضهم: إذا لم يكن ما تريد فأرِدْ ما يكون، وقال الشاعر: مجزوء الخفيف

قدَرُ الـلَّــه واردٌ

 

حِين يُقضَى ورودُه

فأرِدْ ما يكـون إنْ

 

لم يكن ما تـريدُهُ

وقيل لأعرابيّ في شَكَاتِه: كيف تُجدُكَ؟ قال: أجِدُني أجِدُ مالا أشتهي وأشتهي ما لا أجد، وأنا في زمانٍ من جاد لم يَجِد، ومن وَجَدَ لم يَجُدْ، وقيل لابن المقفّع: ألا تقول الشعر؟ قال: الذي يجيئني لا أرضاه، والذي أرضاه لا يجيئني، وقال بعض النُّسَّاك: أنَا لما لا أرجُو أرجَى مِنِّي لما أرْجو، وقال بعضُهم: أعجبُ من العجَب، تركُ التعجُّب من العَجَب، قال عمرُ بنُ عبد العزيز لعَبد بني مَخزوم: إني أخافُ اللَّه فيما تقلَّدتُ، قال: لستُ أخاف عليك أن تخاف، وإنّما أخاف عليك ألاّ تخاف، وقال الأحنف لمعاوية: أخافك إن صدَقْتُكَ، وأخاف اللَّه إن كذَبْتُكَ، وقال رجلٌ من النُّسّاك لصاحبٍ له وهو يَكِيدُ بنفْسِه: أمّا ذنوبي فإني أرجو لها مغفرةَ اللَّه، ولكنِّي أخافُ على بناتي الضَّيعة، فقال له صاحبه: فالذي ترجوه لمغفرةِ ذنوبِك فارجُه لحفظ بناتك، وقال رجلٌ من النُّسَّاك لصاحبٍ له: ما لي أراك حزيناً؟ قال: كان عندي يَتِيمٌ أربّيه لأُوجَر فيه، فمات وانقطع عنا أجْرُه، إذْ بطَلَ قيامُنا بمؤُونته، فقال له صاحبُه: فاجتلِبْ يتيماً آخر يَقوم لك مَقام الأوّل، قال: أخاف ألاّ أصيبَ يتيماً في سوء خُلُقه قال له صاحبه: أمّا أنا فلو كنت في موضعك منه لما ذكرت سوءَ خُلُقه، وقال آخر، وسمعه أبو هريرة النحويّ وهو يقول: ما يمنعُني مِن تعلُّم القرآن إلاّ أني أخاف أَنْ أُضَيّعه، قال: أمّا أنت فقد عجّلت له التَّضييع، ولعلّك إذا تعلّمْتَه لم تضيِّعه، وقال عمر بنُ عبد العزيز لرجلٍ: مَن سيِّدُ قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تَقُلْه،

باب آخر

وقالوا في حُسن البيان، وفي التخلُّص من الخَصْم بالحقِّ والباطل، وفي تخليص الحقِّ من الباطل، وفي الإقرار بالحقِّ، وفي ترك الفخْر بالباطل، قال أعرابيٌّ وذكر حِمَاس بن ثَاملٍ :

برئتُ إلى الرحمن من كلِّ صاحبٍ

 

أصاحِبُه إلاّ حِمَاسَ بـنَ ثـامـلِ

وظنِّي به بين السِّمـاطَـين أنَّـه

 

سَيْنجُو بحقٍّ أو سينجو ببـاطـلِ

وقال العُجَير السَّلُوليّ:

وإنّ ابنَ زيدٍ لابنُ عمِّي وإنّـه

 

لبَلاَّلُ أيدِي جِلّةِ الشَّوْلِ بالـدَّمِ

طَلُوع الثَّنايا بالمـطـايا وإنّـه

 

غداةَ المُرَادِي لَلْخطيبُ المقدّمُ

يسرَّك مظلوماً ويرضيك ظالماً

 

ويَكفيكَ ما حُمِّلتَه حين تَغـرَمُ

الشَّول: جمع شائلة، وهي النّاقة التي قد جفّ لبنُها، وإذا شالت بذنبها بعد اللِّقاح فهي شائلٌ، وجمعها شُوَّل، المُرادي: المُصادم والمُقارع؛ يقال: روَيْتُ الحجرَ بصخرةٍ أو بمِعْوَلٍ، إذا ضربتَه بها لتكسرَه، والمِرْداة: الصخرة التي يكسَّر بها الحجارة، وقال ابن ربْعٍ الهُذَلي:

أعَيْن ألاَ فابكي رُقَـيبة إنّـهُ

 

وَصُولٌ لأرحامٍ ومِعْطاءُ سائِلِ

فأُقسم لو أدركتُه لحـمَـيْتُـه

 

وإنْ كان لم يَترُك مقالاً لقائل

وقال بعضُ اليهود، وهو الرّبيع بن أبي الحُقَيق من بني النَّضير: من السريع

سائِلْ بنا خابرَ أكـمـائنـا

 

والعلمُ قد يُلقَى لَدَى السّائِل

إنّا إذا مالتْ دواعِي الهوَى

 

وأنْصَتَ السَّامعُ للـقـائِل

واعتَلَجَ النّاسُ بألبـابـهـم

 

نَقْضِي بحُكمٍ عادِلٍ فاصِلِ

لا نجعلُ الباطِلَ حقّـاً ولا

 

نَلُطُّ دونَ الحقّ بالباطـل

نَكرَهُ أن تَسْفَهَ أحلامُـنـا

 

فنَخمُلَ الدَّهرَ مع الخامِلِ

وقال آخر وذكر حِماساً أيضاً:

أتاني حِماسٌ بابنِ مـاهٍ يسـوقُـه

 

ليَبْغِيَه خـيراً ولـيس بـفـاعـلِ

ليُعْطيَ عبساً مالَنـا، وصـدورُنـا

 

من الغَيظ تَغِلي مثلَ غَلْيِ المرَاجِل

وقافيةٍ قِيلَتْ لكمْ لـم أَجِـدْ لـهـا

 

جواباً إذا لم تُضْرَبوا بالمَنَـاصِـل

فأنِطقَ في حقِّ بحـقٍّ ولـم يكـنْ

 

ليَرْحَضَ عنكم قالةَ الحقِّ باطِلـي

ليرحض، أي ليغسل، والراحض: الغاسل، والمرحاض: الموضع الذي يُغسَل فيه، وقال عمرُو بن مَعْد يكَرِب:

فلو أنّ قومي أنطقَتْني رماحُهُمْ

 

نَطقتُ ولكنَّ الرِّماح أجـرَّتِ

الجرار: عُودٌ يُعرَضُ في فم الفَصيل، أو يُشَقُّ به لسانُه، لئلاّ يرضع، فيقول: قومي لم يَطْعَنُوا بالرِّماح فأُثْنِيَ عليهم، ولكنّهم فَرُّوا فأَسْكَتُّ كالمُجَرّ الذي في فمه الجِرار، وقال أبو عُبيدة: صاح رُؤبةُ في بعض الحروبِ التي كانت بين تميم والأزْد: يا معشر بني تميم، أطلقوا من لساني، قال: وأبصر رجلاً منهم قد طعن فارساً طعنةً، فصاح: لا عِيّاً ولا شلَلاً، والعرب تقول: عِيٌّ أبْأسُ من شلَل، كأنّ العيّ فوقَ كلِّ زمانةٍ، وقالت الجُهَنِيَّةُ:

ألا هَلَكَ الحُلوُ الحَلالُ الحُلاحِـلُ

 

ومَن عِنده حِلمٌ وعـلـم ونـائِلُ

وذو خُطَبٍ يوماً إذا القوم أُفْحِمُوا

 

تُصيب مَرادي قولِه ما يحـاولُ

بَصيرٌ بعَوراتِ الكلام إذا التَقَـى

 

شَريجان بين القوم: حقٌّ وباطلُ

أتِيٌّ لما يأتي الكريمُ بـسـيفِـه

 

وإن أسلمَتْهُ جنده والـقـبـائلُ

وليْس بمِعطاءِ الظلامةِ عـن يدٍ

 

ولا دونَ أعلى سَوْرة المجد قابلُ

الحُلاحِلُ: السيِّد، شريجان: جنسان مختلفان من كلِّ شيء، وأنشد أبو عبيدةَ في الخطيب يَطُولُ كلامه، ويكونُ ذَكُوراً لأوّلِ خُطبته وللذي بَنَى عليه أمرَه، وإنْ شَغَبَ شاغبٌ فقطع عليه كلامَه، أو حَدثَ عند ذلك حدَثٌ يحتاج فيه إلى تدبيرٍ آخر، وصَلَ الثّانيَ من كلامه بالأوّل، حتّى لا يكون أحدُكلامَيهِ أجْوَدَ من الآخَر، فأنشد:

وإنْ أحدَثوا شَغْباً يُقَطِّعُ نظمَـهـا

 

فإنَّك وَصَّالٌ لما قَطَع الشَّغْـبُ

ولو كُنتَ نَسَّاجاً سَددْت خَصَاصَها

 

بقولٍ كطعم الشُّهد مازجَه العذبُ

وقال نُصَيْبٌ:

وما ابتذَلْتُ ابتذال الثّوب وَدَّكُـمُ

 

وعائِدٌ خَلَقاً ما كـان يُبـتَـذلُ

وعِلمُكَ الشّيء تهوى أن تَبَيَّنَـهُ

 

أشْفَى لقلبك مِن أخبار من تَسَلُ

وقال آخَر:

لعمْرُك ما وُدُّ اللِّسـان بـنـافـعٍ

 

إذا لم يَكن أصلُ المودَّة في الصَّدرِ

وقال آخَر:

تعلّمْ فليس المرءُ يُولد عالـمـاً

 

وليس أخو عِلمٍ كمَنْ هو جاهلُ

وأن كبيرَ القوم لا عِلَم عـنـده

 

صغيرٌ إذا التفَّتْ عليه المحافلُ

وقال آخر:

فتىً مثلُ صَفْو المـاء لـيس بـبـاخـلٍ

 

عليك ولا مُـهْـدٍ مَـلامـاً لَـبَـاخِـل

ولا قـائلٍ عَـوْراءَ تـؤذِي جـلـيسَـه

 

ولا رافـع رأسـاً بـعـوراء قــائِل

ولا مُسْـلِـمٍ مـولـىً لأمـرٍ يُصـيبُـه

 

ولا خالطٍ حقّاً مـصـيبـاً بـبـاطـل

ولا رافعٍ أحدوثَة السَّـوءِ مُـعْـجـبـاً

 

بها بين أيدِي المجلسِ الـمـتـقـابِـل

يُرَى أهلُه في نَعْـمةٍ وهـو شـاحـبٌ

 

طَوِى البَطْنِ مِخماصُ الضُّحى والأصائِل

وقالت أخت يزيد بن الطَّثْريَّة:

أرَى الأثْلَ مِن بطنِ العَقيقِ مُجاوِرِي

 

قريباً وقد غالـت يَزِيدَ غـوائلُـه

فَتَى قُدَّ قَدَّ السَّـيفِ لا مـتـضـائِلٌ

 

ولا رَهِـلٌ لَـبَّـاتُـه وبـآدِلُــه

فتىً لا يُرَى خَرْقُ القميص بخَصْره

 

ولكنَّما تُوهِي القميصَ كواهـلُـه

إذا نَزَلَ الأضيافُ كان عـذَوّراً

 

على الحيِّ حتَّى تُسْتَقَلَّ مَرَاجلُه

مَضَى وورِثْناه دَرِيسَ مُفـاضَةٍ

 

وأبيضَ هنديّاً طويلاً حمـائلُـه

يَسُرُّكَ مظلوماً ويُرضيك ظالمـاً

 

وكلُّ الذي حمّلْتَهُ فهو حامـلَـه

أخو الجِدِّ إن جدَّ الرِّجال وشَمّروا

 

وذو باطلٍ إن شئت ألهاك باطُله

يصير هذا الشِّعر وما أشبههَ ممَّا وقع في هذا الباب، إلى الشِّعر الذي في أول الفَصْل،