باب شعر وغير ذلك من الكلام مما يدخل في باب الخطب

قال الشاعر:

عجِبتُ لأقوام يَعِيبونَ خُطبَتي

 

وما منهمُ في موقف بخطيبِ

وقال آخر:

إنَّ الكلامَ مِنَ الفؤادِ وإنَّـمـا

 

جُعِلَ اللِّسانُ على الفؤاد دليلا

لا يُعجِبنّك من خطيب قولُـهُ

 

حتّى يكونَ مع البيان أصيلا

وأنشد آخر:

أبَرَّ فـمـا يزدادُ إلاّ حَـمـاقةً

 

ونَوُكاً وإن كانت كثيراً مخارجُه

وقد يكون رديءُ العقل جيِّدَ اللسان، وقال أبو العباس الأعمى:

إذا وصَفَ الإسلامَ أَحسَنَ وَصْفَهُ

 

بفِيه، ويأبى قَلبُـه ويهـاجـرُه

وإن قامَ قال الحقَّ ما دامَ قائمـاً

 

تقيُّ اللسان كافرٌ بَعْـدُ سـائِرُه

وقال قيس بن عاصم المِنَقَريّ يذكُر ما في بني منقِر من الخَطابة:

إنِّي امرؤٌ لا يعتري خُلُقـي

 

دَنَـسٌ يُفَـنِّـدهُ ولا أفْـنُ

من مِنْقَرٍ في بيت مَكْـرُمةٍ

 

والأصلُ ينبتُ حولَه الغُصْنُ

خطباءُ حينَ يقومُ قائلُـهـمْ

 

بيض الوُجوهِ مَصاقعٌ لُسْنُ

لا يَفْطُنون لعَيب جـارِهِـم

 

وهُمُ لحفظ جِوَارهم فُطْـنُ

ومن هذا الباب وليس منه في الجملة، قول الآخر:

أشارتْ بطَرْفِ العَينِ خيفةَ أهلها

 

إشارَةَ مَذعورٍ ولم تَـتـكـلّـمِ

فأَيْقَنتُ أنَّ الطّرفَ قد قال: مرحباً

 

وأهلاً وسهلاً بالحبيب المسـلِّـمِ

وقال نُصَيبٌ، مولى عبد العزيز بن مروان:

يقول فيُحسنُ القولَ ابنُ لَيلَى

 

ويفعل فوقَ أحْسَنِ ما يقولُ

وقال آخر:

ألا رُبَّ خصمٍ ذي فُنونٍ عَلَوْتـه

 

وإن كان ألْوَى يُشبه الحقَّ باطله

فهذا هو معنى قولِ العتَّابيّ: البلاغة إظهار ما غَمض من الحقّ، وتصوير الباطل في صورة الحقّ، وقال الشّاعر، وهو كما قال:

عجِبتُ لإدلال العيِيِّ بـنـفـسِـه

 

وصَمْتِ الذي قد كان بالقول أَعْلَما

وفي الصَّمت سَتْرٌ للعَييّ وإنـمـا

 

صحيفةُ لُبٍّ المرء أنْ يتكـلـمـا

وموضع الصحيفة من هذا البيت، موضع ذكر العنوان في شعره الذي رثى عثمانَ بن عَفّان، رحمه اللَّه، بِهِ حيث يقول:

ضَحَّوْا بأشمَطَ عُنوانُ السُّجودِ به

 

يقطِّع اللّيلَ تسبيحـاً وقُـرآنـا

وأنشد أيضاً: من الهزج

تَرَى الفتيانَ كالنَّـخْـلِ

 

وما يُدرِيكَ ما الدّخْـلُ

وكُلٌ في الهوى لَـيْثٌ

 

وفيما نـابَـهُ فَـسْـلُ

وليس الشَّأْنُ في الوصلِ

 

ولكن أن يُرَى الفَصْلُ

وقال كِسرى أنوشِروان، لبُزُرْجِمِهْر، أيُّ الأشياء خير للمرء العَيّ؟ قال: عقل يعيش به، قال: فإن لم يكن له عقلٌ؟ قال: فإخوانٌ يسترون عليه، قال: فإن لم يكن له إخوانٌ؟ قال: فمالٌ يتحبَّبُ به إلى الناس، قال: فإن لم يكن له مال؟ قال: فعِيٌّ صامتٌ، قال: فإن لم يكن له؟ قال: فموتٌ مُريح، وقال موسي بن يحيى بن خالد: قال أبو عليّ: رسائل المرءٍ في كتُبه أدَلُّ على مِقدار عقله، وأصْدَقُ شاهداً على غيبه لك، ومعناه فيك، مِن أضعاف ذلك على المشافهة والمواجهة،

وباب منه آخر

ووصفوا كلامهم في أشعارهم فجعلوها كبُرودِ العَصْب، وكالحُلَل والمعاطف، والدِّيباج والوشْي، وأشباهِ ذلك، وأنشدني أبو الجَماهِر جُندب بن مدرِك الهلاليُّ:

لا يُشتَرى الحمـد أُمْـنـيَةً

 

ولا يُشْتَرَى الحمد بالمَقْصِر

ولكنّما يُشتـرَى غـالـبـاً

 

فمن يُعْطِ قيمتَـه يَشْـتَـر

ومَن يعتِطفْه على مِئزرٍ

 

فنِعم الرِّداءُ على المِئزرِ

وأنشدني لابن ميَّادَةَ:

نَعَمْ إنَّني مُهدٍ ثَـنَـاءً ومـدحةً

 

كُبْرد اليمانِي يُرْبِحُ البيعَ تاجره

وأنشد:

فإنْ أهْلِكْ فقد أبقَيتُ بعدي

 

قوافِيَ تُعجِب المُتَمثِّيلينـا

لذيذاتِ المقاطع مُحْكَمـاتٍ

 

لوَ أنّ الشِّعرَ يُلبس لارتُدِينا

وقال أبو قُردودة، يرثي ابن عمارٍ قتيلَ النُّعمان ونديمَه، ووصف كلامه، وقد كان نهاه عن منادمته:

إنِّي نَهَيْتُ ابنَ عمّارٍ وقلتُ لـه:

 

لا تأمنَنْ أحْمَرَ العينين والشعَرَه

إنَّ الملوكَ متى تنْزِلْ بساحتِهـم

 

تَطِرْ بنارك مِن نيرانهم شَـرَرَه

يا جَفنةً كإزاء الحُوض قد هَدَمُوا

 

ومنطقاً مثلَ وَشِيِ اليَمْنة الحِبَرَة

وقال الشّاعرُ في مديح أحمدَ بنِ أبي دُؤاد: من الخفيف

وعويصِ من الأُمـور بـهـيمٍ

 

غامِضِ الشَّخص مظلِمٍ مستورِ

قد تسهَّلتَ ما تـوعَّـر مـنـهُ

 

بلسانٍ يَزينُـهُ الـتَّـحـبـيرُ

مثلُ وَشْي البرود هَلْهَلَه النَّـسْ

 

خُ وعِند الحِجـاج درٌّ نـثـيرُ

حَسَنُ الصَّمت والمَقاطع إمّـا

 

نَطق القومُ والـحـديثُ يدورُ

ثمَّ من بَعْدُ لحظةٌ تُورِث الـيُ

 

سْرَ وعِرضٌ مهذَّبٌ موفـورُ

ومما يُضَمّ إلى هذا المعنى وليس منه، قولُ جميل بن مَعْمَر:

نَمَتْ في الرَّوَابي من مَعَدٍّ وأُفْلِجَتْ

 

على الخَفِرات العُرِّي وهي وَلِيدُ

أناة على نِيرينِ أضْحَى لِدَاتُـهـا

 

بَلينَ بَلاء الـرَّيْط وهـي جـديدُ

نمت: شبَّت، الرَّوابي من مَعدٍّ: البيوت الشريفة، وأصل الرابية والرُّباوة: ما ارتفع من الأرض، أُفلجت: أُظهرت، والخَفرَات: الحييَّات، الأناة: المرأة التي فيها فُتورٌ عند القيام، وقوله على نِيرَين، وصفها بالقوة، كالثَّوبْ الذي يَنسَج على نِيرَين، وهو الثَّوب الذي له سَدَيان، كالدِّيباج وما أشبهه، أضحى لداتُها، اللِّدَة: القرينة في المولد والمنشأ، فيقول: إنَّ أقرانَها قد بَلينَ، وهي جديدٌ لحُسن غِذائها ودوام نَعْمتها، ومِن هذا الشكل وليس منه بعينه قولُ الشاعر:

على كلِّ ذي نيرين زيِد مَحالُـهُ

 

مَحالاً وفي أضلاعه زِيد أضْلُعَا

المحال: مَحال الظّهر، وهي فَقارُه، واحدُها مَحالة، وقال أبو يعقوب الخُرَيميُّ الأعور: أوّلُ شعرٍ قلتُه هذان البيتان:

بقلبي سَقَامٌ لستُ أُحْسِنُ وصفَه

 

على أنّه ما كان فهو شـديدُ

تمرُّ به الأيَّامُ تسحَبُ ذيلَـهـا

 

فتَبْلَى به الأَيّامُ وهـو جـديدُ

وقال الآخر:

أبَى القلبُ إلاّ أمَّ عمرٍو وحبَّهـا

 

عجوزاً ومَن يُحِببْ عجوزاً يُفَنِّد

كبرد اليماني قد تقادَمَ عـهـده

 

ورُقعَته ما شئْت في العَينِ واليَد

وقال ابن هَرْمة:

إنَّ الأديمَ الذي أصبحتَ تعرُكَه

 

جهلا لَذو نَغَلٍ بادٍ وذو حَلَـمِ

ولن يَئطُّ بأيدي الخَالِقـين ولا

 

أيدي الخوالق إلا جـيّدُ الأَدَمِ

وفي غير هذا الباب وهو قريب منه قول ذي الرُّمَّة:

وفي قصر حَجْرٍ من ذُؤابة عامر

 

إمامُ هدىً مستبصرُ الحكم عادِله

كأنّ على أعطافه ماءَ مُـذهَـبٍ

 

إذا سَمَلُ السِّربال طارت رَعابِلُه

الرَّعابل: القِطَع، وشواءٌ مُرعْبَلٌ: مقطّع، ورَعْبَلْتُ الشيء أي قَطَّعته، ويقال: ثوب سَمَلٌ وأسمالٌ، ويقال: سَمَل الثوب وأسمل، إذا خَلُِقَ، وهو الذي يقول:

حوراءُ في دَعَج صفراء في نَعَجٍ

 

كأنها فضة قد مَسَّـهـا ذهـبُ

الحَور: شدّة بياض العين، والدَّعجُ: شدة سواد الحدقة، والنَّعَجُ: اللِّين، قالوا: لأنَّ المرأة الرقيقةَ اللون يكون بياضُها بالغداة يضرب إلى الحمرة، وبالعشيِّ يضرب إلى الصفرة، ولذلك قال الأعشى: مجزوء الكامل

بيضاءُ ضَحْوتَها وصف

 

راء العَشيَّةِ كالعَرارَه

وقال آخر:  

قد علمتْ بيضاءُ صَفْراءُ الأُصُلْ

 

لأُغْنينَّ اليوم ما أغنـى رجُـلْ

وقال بشّار بن بُرْد: مجزوء الكامل

وخذِي مَـلابـسَ زينةٍ

 

ومُصَبَّغاتٍ فهْيَ أفخَـرْ

وإذا دخلتُ تقـنَّـعِـي

 

بالحمر إنَّ الحسْنَ أحمرْ

وهذان أعميانِ قد اهتدَيَا من حقائق هذا الأمر إلى ما لا يبلُغه تمييز البَصِير، ولبشّارٍ خاصَّةً في هذا الباب ما ليس لأحد، ولولا أنّه في كتاب الرّجُل والمرأة وفي باب القول في الإنسان من كتاب الحيوان، ألْيَقُ وأزكى لذكرناه في هذا الموضع، ومما ذكروا فيه الوزْنَ قوله:

زنِي القَوْمَ حتّى تعرفي عند وزنهم

 

إذا رفع المـيزانُ كـيف أمـيلُ

وقال ابن الزَّبير الأسديّ، واسمه عبدُ اللَّه:

أعاذِلَ غُضِّي بعضَ لَوْمِكِ إنَّني أرى

 

الموتَ لا يرضى بدَينٍ ولا رَهْـن

وإني أرى دهراً تَغَّـيَّر صَـرْفُـه

 

ودُنْيا أراها لا تقـومُ عـلـى وزْنِ

وباب آخر ويذكرون الكلام الموزونَ

ويمدحُون به، ويفضِّلون إصابة المقادير، ويذمُّون الخروجَ من التعديل، قال جعفر بنُ سليمان: ليس طِيبُ الطّعام بكثرة الإنفاق وجودة التَّوابل، وإنّما الشّأنُ في إصابة القَدْر، وقال طارقُ بن أُثالٍ الطائيّ:

ما إنْ يزالُ ببغدادٍ يزاحمـنـا

 

على البَراذينِ أشباهُ البـراذين

أعطاهُم اللَّهُ أموالاً ومنـزلةً

 

من الملوك بلا عقلٍ ولا دينِ

ما شئتَ مِن بغلةٍ سَفواءَ ناجية

 

ومِن أثاثٍ وقول غير موزونِ

وأنشدني بعض الشعراء:

رأتْ رجلاً أودى السِّفارُ بجسمه

 

فلم يبق إلا مَنطِق وجَنـاجِـنُ

الجناجن: عظام الصّدر،

إذا حُسِرَتْ عنهُ العمامةُ راعَها

 

جَمِيلُ الحفوفِ أغفلَتْهُ الدّواهنُ

فإن أكُ مَعرُوقَ العظامِ فإنّنـي

 

إذَا ما وَزَنْتَ القومَ بالقومِ وازِنُ

وقال مالك بن أسماءَ في بعض نسائه، وكانت تصيب الكلام كثيراً، وربما لحنَتْ: من الخفيف

أَمغَطّىً مِنِّي على بَصرِي للحُبِّ

 

أمْ أنتِ أكملُ النّاس حُـسْـنـا

وحـديثٍ ألَـذُّه هـو مـمّــا

 

ينعتُ النّاعِتـونَ يُوزَن وزْنـا

مَنطِقٌ صَائبٌ وتلـحـن أَحـيا

 

ناً وخَيْرُ الحديثِ ما كان لحنَـا

وقال طَرَفة في المقدار وإصابته:

فسقَى ديارَكَ غيرَ مُفْسِدِها

 

صَوبُ الرّبيع ودِيمةٌ تَهمِي

طلب الغيثَ على قَدْر الحاجة، لأن الفاضل ضارّ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في دعائه: اللهمَّ اسقِنا سقياً نافعاً، لأنّ المطر ربّما جاءَ في غير إبَّان الزّراعات، وربما جاء والتّمر في الجُرْنِ، والطّعام في البَيادر، وربّما كان في الكثرة مجاوزاً لمقدار الحاجة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهمّ حوالَيْنا ولا علينا، وقال بعض الشُّعراء لصاحبه: أنا أشعرُ منك، قال: ولم؟ قال: لأنِّي أقول البيتَ وأخاه، وأنت تقولُ البيتَ وابن عمِّه، وعاب رؤبةُ شعر ابنه فقال: ليس لشعره قِرَان، وجعل البيت أخا البيت إذا أشبهه وكان حقه أن يُوضَع إلى جنْبه، وعلى ذلك التأويل قال الأعشى:

أبا مِسْمَعٍ أقصرْ فإنَّ قصيدةً

 

متى تأتكم تَلحَقْ بها أخواتُها

وقال اللَّه عز وجل: "وَمَا نُريهِمْ مِنْ آيةٍ إلاّ هِيَ أكْبَرُ مِنْ أُخْتِها" الزخرف: 84 وقال عمرو بن معدي كرب:

وكل أخٍ مفارقُهُ أخـوه

 

لعَمْر أبيك إلاّ الفرقدانِ

وقالوا فيما هو أبعد مَعنىً وأقلُّ لفظاً، قال الهُذَليّ:

أعامرُ لا آلوك إلاّ مهُـنَّـداً

 

وجِلد أبي عجلٍ وثيقَ القبائِل

ويعني بأبي عجلٍ الثّور، وقالوا فيما هو أبعد من هذا، قال ابن عَسَلة الشيباني، واسمه عبدُ المسيح:

وسَمَاعِ مُدْجِنَةٍ تعلِّـلُـنـا

 

حتى نَنامَ تناوُمَ العُـجْـمِ

فصحوت والنَّمَريُّ يحسبها

 

عمَّ السِّماك وخالَة النّجـمِ

النجم واحدٌ وجمع، والنَّجم: الثريّا في كلام العرب، مدجنة، أي سحابة دائمة، وقال أبو النَّجْم فيما هو أبعد من هذا، ووصف العَيرَ والمَعْيُوراء، وهو الموضع الذي يكون فيه الأعيار:

وظَلَّ يُوفى الأَكَمَ ابنُ خَالِهَا

فهذا مما يدلُّ على توسُّعهم في الكلام، وحَمْلِ بعضه على بعض، واشتقاق بعضه من بعض وقال النبي صلى الله عليه وسلم : نِعْمَت العمّةُ لكُم النَّخْلة، حين كانَ بينها وبين الناس تشابهٌ وتشاكل ونسبٌ من وجوهٍ، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الزَّرع والنَّخْل، وفي مثل ذلك قال بعض الفصحاء:

شَهدْتُ بأن التمرَ بالزبد طَيِّبٌ

 

وأنّ الحُبارَى خالة الكَروانِ

لأنَّ الحُبارَى، وإن كانت أعظمَ بدناً من الكَرَوانِ، فإنَّ اللَّونَ وعَمُودَ الصُّورة واحد فلذلك جعلها خالتَه، ورأى أنّ ذلك قَرابةٌ تستحقّ بها هذا القول،

باب آخر من الشعر مما قالوا في الخطب واللَّسَن والامتداح به والمديح عليه

قال كعبٌ الأشقَرِيّ:

إلاّ أَكُنْ في الأرض أخطبُ قائماً

 

فإنِّي على ظَهر الكُميت خطيبُ

وقال ثابت قُطنَة:

فإلاّ أكنْ فيهم خطيباً فإنَـنـي

 

بسُمْر القنا والسَّيف جدُّ خطيبِ

وقالت ليلى الأخيليَّة:

حتّى إذا رُفِع الـلِّـواء رأيتَـه

 

تحت اللِّواء على الخميس زعيما

وقال آخر:

عجبتُ لأقوامٍ يعَيبُون خُطبتي

 

وما منهمُ في مَأقِطٍ بخطيبِ

وهؤلاء يفخرون بخُطَبِهِم التي عليها يعتمدون، بالسُّيوفِ والرِّماح، وإن كانوا خطباء، وقال دُريد بن الصِّمّة:

أبلِغْ نُعَيماً وأوفَى إن لقيتَـهُـمـا

 

إن لم يكن كان في سمعيهما صممُ

فلا يزالُ شهابٌ يُستـضـاء بـه

 

يَهدِي المَقانِبَ ما لم تَهلِك الصِّمَمُ

عارِي الأشاجع معصوبٌ بلمَّـتـه

 

أمرُ الزَّعامة في عرنينه شـمَـمُ

المقانب: جمع مقنبٍ؛ والمقنب: الجماعة من الخيل ليست بالكثيرة، والأشاجع: عروقُ ظاهر الكفّ، وهي مغرِز الأصابع، واللِّمّة: الشّعرة التي ألمَّت بالمنكب، وزَعيم القوم: رأسُهم وسيِّدهم الذي يتكلّم عنهم، والزَّعامة: مصدر الزّعيم الذي يسود قومَه، وقوله: معصوبٌ بلمّته أي يُعصَب برأسه كلُّ أمر، عِرنينه: أنفه، وقال أبو العباس الأعمى، مولى بني بكر بن عبد مناةَ في بني عبد شمس: من الخفيف

ليت شعري أفاح رائحة المس

 

ك وما إن أخال بالخَيْف إنسِي

حين غابت بنو أمَـيّةَ عـنـه

 

والبهاليلُ من بني عَبد خُرْسِ

خطباءٌ على المنابر فُـرسـا

 

نٌ عليها وقالةٌ غير خُـرْسِ

لا يُعابُون صامِتـينَ وإنْ قـا

 

لُوا أصابوا ولم يقولوا بلَبْـسِ

بحلومٍ إذا الحلوم استُخِـفْـتْ

 

ووجوهٍ مثلِ الدنانير مُـلْـسِ

وقال العجّاج:

وحاصِنٍ من حاصِناتٍ مُلْـس

 

من الأذَى ومن قِراف الوَقْسِ

المحصَنة: ذوات الزوج، والحاصن: العفيف، والوقس: العيب، وقال امرؤ القيس:

ويا رُبَّ يومٍ قد أروح مُرجَّـلاً

 

حبيباً إلى البيض الكواعب أملسا

وقال أبو العباس الأعمى:

ولم أرَ حَيَّاً مثلَ حيٍّ تحمّلـوا

 

إلى الشام مظلومِينَ منذُ بُرِيتُ

أعزَّ وأمضى حين تَشتجِرُ القنا

 

وأعلمَ بالمسكين حيث يبـيتُ

وأرفَقَ بالدُّنيا بأَولَـى سـياسةٍ

 

إذا كاد أمرُ المسلمين يفـوتُ

إذا مات منهم سيّدٌ قـام سـيّدٌ

 

بصيرٌ بعَورات الكلام زَمِيتُ

وقال آخر: من المنسرح

لا يُغْسَل العِرْضُ مِن تدنسِهِ

 

والثّوب إن مَسَّ مدنَساً غُسِلا

وزَلَّةُ الرِّجل تُستـقـالُ ولا

 

يكاد رأيٌ يُقيلـك الـزّلَـلا

وقال آخر في زّلل:

ألهفي إذْ عَصَيْتُ أبـا يزيدٍ

 

ولهفي إذْ أطعت أبا العَلاءِ

وكانت هَفوةً من غير ريح

 

وكانت زَلَّةً من غير مـاءِ

وقال آخر:

فإنّكَ لم ينذِرْك أمراً تخـافُـه

 

إذا كنت فيه جاهلاً مثلُ خابرِ

وقال ابن وابصة اسمُه سالم، في مقامٍ قامَ فيه مع ناسٍ من الخُطباء:

يا أيها المتحلِّـي غـيرَ شـيمـتِـه

 

ومَن سجيّته الإكثـارُ والـمَـلَـقُ

اعمِدْ إلى القَصْد فيما أنت راكـبُـه

 

إنّ التخلُّق يأتي دونَـه الـخُـلُـقُ

صَدّت هُنيدةُ لمـا جـئتُ زائرهـا

 

عنِّي بمطروفةٍ إنسانُـهـا غَـرِقُ

وراعَها الشّيبُ في رأسي فقلتُ لها:

 

كذاكِ يصفَرُّ بعد الخُضْرَة الـورَقُ

بلْ موقفٍ مثلِ حدِّ السيف قمتُ بـه

 

أحمِي الذِّمار وترميني به الحـدَقُ

فما زلَلْتُ ولا أُلفـيتُ ذا خَـطَـلٍ

 

إذا الرِّجال على أمثالهـا زَلِـقُـوا

قال: وأنشدني لأعرابيٍّ من باهِلَة:

سأُعْمِل نَصَّ العِيس حتى يكُفَّنـي

 

غنِى المال يوماً أو غنى الحدثَـانِ

فلَلْموتُ خيرٌ من حياةٍ يُرَى لـهـا

 

على الحُرِّ بالإقلال وَسْمُ هـوانِ

متى يتكلَّمْ يُلْغَ حـسـنُ حـديثِـهِ

 

وإن لم يَقُلْ قالـوا: عـديمُ بـيانِ

كأنَّ الغِنَى عَنْ أهله، بُورِك الغِنى،

 

بغيرِ لسانٍ نـاطـقٌ بـلـسـانِ

وفي مثلها في بعض الوجوه قال عروة بن الورد:

ذريني للغِنَى أسعَى فإنِّـي

 

رأتُ النّاس شرُّهم الفقيرُ

وأهْوَنُهم وأحقَرُهمْ لديهـمْ

 

وإن أمسى له كَرمٌ وخِيرُ

ويُقصَى في النديِّ وتزدريه

 

حليلتُه ويَنْهَرُه الصَّـغـيرُ

وتلقَى ذا الغِنى وله جلالٌ

 

يكاد فؤادُ صاحبِهِ يطـيرُ

قليلٌ ذنْبُه والـذّنـبُ جَـمٌّ

 

ولكنِّ الغِنَى ربٌّ غفـورُ

وقال ابن عبَّاس رحمه اللَّه: الهَوَى إله معبود، وتلا قولَ اللَّه عزَّ وجل: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ" الجاثية:32، وقال أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل: من الخفيف

تلك عِرسايَ تنطِقان على عَمْدٍ لِيَ

 

الـيومَ قـولَ زُور وهِـتْــرِ

سالَتَاني الطَّـلاقَ أَنْ رأتَـا مـا

 

لِي قليلاً قد جئتماني بـنُـكْـرِ

فلعلِّي أن يكثُرَ المـالُ عِـنـدي

 

ويعرَّى من المَغَارم ظـهـرى

وتُـرى أعـبـدٌ لـنــا وأواقٍ

 

ومناصيفُ من خـوادمَ عَـشْـرِ

ونجرُّ الأذيال فـي نـعـمةٍ زَوْ

 

لٍ تقولان: ضَعْ عصاك لدَهْـرِ

وَيْكَأنْ مَن يكن لـه نـشَـبٌ يُحْ

 

بَبْ ومن يفتقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ

ويُجَنَّبْ سِرّ الـنَّـجِـيّ ولـكـنَّ

 

أخا المال مُحْضَـرٌ كُـلَّ سِـرِّ

المناصيف: الخَدَم واحِدهم مَنْصَفٌ وناصِفٌ، وقد نَصَفَ القوم يَنْصِفُهُمُ نِصَافَةً، إذا خدَمَهم، نعمةٌ زولٌ: حسنة، والزَّول: الخفيف الظريف، وجمعه أَزْوال، وقال عَبيد بن الأبرص في نحو هذا وليس كمثله: من الخفيف

تلك عرِسي غضبَى تريد زيالي

 

ألـبـين تـريد أم لـــدَلالِ

إن يكن طِبُّك الفراقَ فـلا أَحْ

 

فِلُ أن تَعطِفيِ صُدورَ الجِمال

أو يكن طبُّـك الـدَّلالَ فـلـو

 

الدَّهر واللّيالي الـخـوالـي

كنتِ بيضاءَ كالـمَـهَـاةِ وإذْ آ

 

تيكِ نَشْوانَ مُـرخـياً أذْيالـي

فاتركي مَطَّ حاجِبَيكِ وعيشـي

 

مَعَنا بالرَّجـاء والـتَّـأمـالِ

زعمَتْ أنَّني كـبـرِتُ وأنِّـي

 

قلَّ مالي وضَنَّ عني المَوَالي

وصحا باطِلِي وأصبحتُ شيخاً

 

لا يُواتِي أمثالَهـا أمـثـالـي

إنْ تريْنِي تغيَّرَ الرأسُ مِـنِّـي

 

وعلا الشِّيبُ مَفْرِقي وقَذَالـي

فبِما أدخلُ الخِباء عَلَـى مَـهْ

 

ضومةِ الكشحِ طَفْلةٍ كالغَزَالِ

فتعاطيتُ جِيدَها ثـمَّ مـالـتْ

 

مَيَلان الكثيب بين الـرِّمـالِ

ثم قالت: فِدىً لنفسِك نفـسـي

 

وفداءٌ لمال أهلـكَ مـالِـي

الكشح: الخَصْر، وقوله: مهضومة، أراد لطيفة، والطَّفلة: الرَّخصة النَّاعمة،قال: وخرج عثمانُ بن عفَان - رحمه اللّه - من داره يوماً، وقد جاء عامر ابن عبد قيس، فقعد في دهليزه، فلما خرج رأى شيخاً دميماً أشْغَى ثَطّاً، في عباءة، فأنكره وأنكر مكانَه، فقال: يا أعرابي، أين رَبُّكَ؟ فقال: بالمِرْصَاد والشَّغَى: تراكب الأسنان واختلافها، ثَطّ: صغير اللحية، ويقال إن عثمان بن عفان لم يُفْحِمْه أحدٌ قط غير عامرِ بن عبد قيس، ونظر معاويةُ إلى النَّخّار بن أوسٍ العُذْريّ، الخطيب الناسب، في عباءةٍ في ناحيةٍ من مجلسه، فأنكره وأنكر مكانَه زِرايةً منه عليه، فقال: من هذا؟ فقال النَّخّار: يا أمير المؤمنين، إنّ العباءة لا تكلِّمك، وإنما يكلِّمك مَن فيها قال: ونظر عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى هَرِم بن قُطْبة، ملتفّاً في بَتٍّ في ناحيةٍ المسجد، ورأى دمامته وقِلّته، وعَرَف تقديمَ العرب له في الحُكم والعِلم، فأحبَّ أن يكشِفَه ويَسبُر ما عنده، فقال: أرأيت لو تنافرا إليك اليومَ أيَّهما كنت تنفّر؟ يعني عَلقمة بن عُلاثَةَ، وعامرَ بن الطُّفَيل، فقال: يا أمير المؤمنين: لو قلتُ فيهما كلمةً لأعدتُها جَذَعةً، فقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: لهذا العقل تحاكمت العربُ إليك، ونظر عمر إلي الأحنف وعنده الوفْدُ والأحنف ملتفٌّ في بَتٍّ له، فترك جميع القومِ واستنطقَه، فلما تبعَّق منه ما تبعَّق، وتلكم بذلك الكلامِ البليغِ المصيب، وذهب ذلك المذهَبَ، لم يزَلْ عنده في عَلياءَ، ثم صار إلى أن عقد له الرِّياسة ثابتاً له ذلك، إلى أن فارقَ الدنيا، ونظر النُّعمانُ بن المنذر إلى ضَمْرة بن ضَمْرة، فلما رأى دمامته وقلَّته قال: تَسمعُ بالمُعَيديِّ لا أنْ تراه، هكذا تقوله العرب، فقال ضمرة: أبيتَ اللّعن، إنّ الرجال لاتُكال بالقُفْزان، ولا تُوزَن في الميزان، وإنَّما المرءُ بأصغَرَيْه: قلبِه ولسانه، وكان ضَمرةُ خطيباً، وكان فارساً شاعراً شريفاً سيِّداً، وكان الرَّمَق بن زيد مدح أباجُبَيْلةَ الغسَّاني، وكان الرَّمَق دميماً قصيراً، فلما أنشده وحاوره، قال: عسَلٌ طيِّبٌ في ظَرف سَوءٍ، قال: وكلَّم عِلباءُ بنُ الهَيثم السّدوسي عمرَ بن الخطاب، وكان عِلباءٌ أعورَ دميماً، فلمَّا رأى براعتَه وسمِع بيانَه، أقبل عمر يصعِّد فيه بصرَه ويحْدُرُه، فلما خرج قال عمر: لكلِّ أُناس في جُمَيْلِهمْ خُبْرٌ، وقال أبو عثمان: وأنشدتُ سهلَ بن هارونَ، قول سلَمة بن الخُرشُب وشعرَه الذي أرسل به إلى سُبَيع التغلبي في شأن الرُّهُن التي وضعت على يديه في قتال عَبْسٍ وذُبيان، فقال سَهل بن هارون: واللَّه لكأنّه قد سمع رسالةَ عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في سياسة القضاء وتدبير الحكم، والقصيدة قوله:

أبلغ سُبَـيعـاً وأنـت سَـيِّدُنـا

 

قِدْماً وأوفى رجالـنـا ذِمَـمـا

أنَّ بَغـيضـاً وأنَّ إخـوَتَـهـا

 

ذُبيانَ قد ضرَّمُوا الذي اضطرما

نبِّيتُ أنْ حكَّـمـوك بـينـهـمُ

 

فلا يَقُولُنَّ بئس مـا حـكـمـا

إن كنتَ ذَا خُبِرةٍ بـشـأنـهـمُ

 

تعرفُ ذا حَقِّهم ومن ظَلَـمـا

وتُنْزِل الأمرَ فـي مـنـازلِـه

 

حُكماً وعلماً وتحْضرُ الفَهَـمـا

ولا تُبالي مِن المُحِقّ ولا المُـبْ

 

طِلِ لا إلّةً ولا ذِمَـــمـــا

فاحكمْ وأنت الحكِـيمُ بـينـهـمُ

 

لن يَعْدَموا الحكمَ ثابتاً صَتـمَـا

الصَّتَمُ: الصحيح القويُّ؛ يقال: رجلٌ صَتَمٌ، إذا كان شديداً،

واصدَعْ أديمَ الـسَّـواءِ بـينـهـمُ

 

على رضا مَن رَضي ومن رَغِمَا

إنْ كان مـالاً فَـقَـضِّ عِـدَّتُـه

 

مالاً بـمـالٍ وإنْ دَمـاً فـدَمَـا

حتى تُرَى ظاهرَ الحُكومة مِـثْ

 

لَ الصُّبْح جَلّى نهارُه الظُّلَـمَـا

هذا وإنْ لم تُطِقْ حكـومـتَـهـمْ

 

فانبِذْ إليهمْ أمـورَهُـم سَـلَـمـا

وقال العائشيّ: كان عمر بن الخطاب - رحمه اللّه - أعلَم الناسِ بالشِّعر، ولكنه كان إذا ابُتلِيَ بالحُكْم بين النجاشيّ والعَجْلاني وبين الحطيئة والزِّبْرِقان، كره أن يتعرَّضَ للشُّعَراء، واستشهد للفريقَين رجالاً، مثل حسَّان بن ثابت وغيره، ممن تهون عليه سِبَالُهم، فإذا سمع كلامَهم حَكَم بمايعلم، وكان الذي ظَهَر من حُكْم ذلك الشاعر مُقْنِعاً للفريقين، ويكون هو قد تخلَّص بِعرضِه سليماً، فلمَّا رآه مَن لا عِلم له يسأل هذا وهذا، ظنَّ أن ذلك لجهله بما يعرف غيرُه، وقال: ولقد أنشدوه شعراً لزهير - وكان لشعره مقدِّماً - فلما انتهوا إلى قوله:

وإنّ الحقَّ مَقْطَعُه ثلاثٌ

 

يمينٌ أو نِفار أو جِلاءُ

قال عمر كالمتَعجِّب مِن علمه بالحقوق وتفصيله بينها، وإقامته أقسامَها:

وإنّ الحقَّ مقطعهُ ثلاثٌ

 

يمين أو نِفَارٌ أو جِلاءُ

يردِّدُ البيتَ من التعجُّب، وأنشدوه قصيدةَ عَبْدَةَ بنِ الطبيب الطويلةَ التي على اللاّم، فلما بلغ المنشد إلى قوله:

والمرء ساعٍ لشيء ليس يدركُه

 

والعيش شُحٌّ وإشفاقٌ وتأمـيلُ

قال عمرمتعجِّباً:

والعيش شُحٌّ وإشفاقٌ وتأميلُ

يعجِّبهم من حسن ما قسَّم وما فصَّل، وأنشدوه قصيدة أبي قيس بن الأسلت التي على العين، وهو ساكت، فلما انتهى المنشد إلى قوله: من السريع

الكَيْسُ والقُوَّةُ خيرٌ من ال

 

إشْفاقِ والفَهّةِ والهَـاعِ

أعاد عمر البيت وقال:

الكَيس والقُوَّةُ خيرٌ من ال

 

إشْفاقِ والفَهّةِ والهَـاعِ

وجَعل عمر يردِّد البيت ويتعجب منه، قال محمّد بن سلام، عن بعض أشياخه قال: كان عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه لا يكاد يعرِض له أَمرٌ إلاّ أَنشَدَ فيه بيتَ شِعر، وقال أبو عمرو بنُ العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يُقدَّم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلي الشِّعر الذي يُقيِّد عليهم مآثِرهم ويفخِّم شأنَهم، ويهوِّلُ على عدوِّهم ومَن غزاهم، ويهيّب من فُرسانهم ويخوِّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعرُ غيرهِم فيراقب شاعرَهم، فلمّا كثُر الشِّعر والشعراء، واتخذوا الشِّعر مَكْسَبةً ورحلوا إلى السُّوقة، وتسرَّعوا إلى أَعراض الناس، صار الخطيبُ عندهم فوقَ الشاعر، ولذلك قال الأوَّل:

الشِّعر أَدنى مروءة السرّيّ، وأَسْرَى مروءة الدَّنيّ

قال: ولقدوضَع قولُ الشعر من قدر النَّابغة الذبيانيّ، ولو كان في الدِّهر الأوَّل ما زادَه ذلك إلاّ رِفعة، وروى مجالد عن الشَّعبي قال: ما رأيت رَجلاً مثلي، وما أشاء أن ألقَى رجلاً أعلم مِني إلاّ لقِيتُه، وقال الحسن البَصريّ: يكون الرَّجُل عابداً ولا يكون عاقلاً، ويكون عابداً عاقلاً ولا يكون عالماً، وكان مسلم بن يَسار عاقلاً عالماً عابداً، قال: وكان يقال: فقه الحسن، وورع ابن سيرين، وعقل مُطَرّفٍ، وحُفظ قتادة، قال: وذكرت البصرة، فقيل: شيخها الحسن، وفتاها بكر بن عبد اللَّه المزنّي، قال: والذين بثّوا العلم في الدنيا أربعة: قتَادة، والزُّهري، والأعمش، والكلبيّ، وجمع سليمان بن عبد الملك بين قَتَادَة والزُّهري، فغلب قتادةُ الزهريَّ، فقيل لسليمانًَ في ذلك، فقال: إنّه فقيهٌ مليح، فقال القَحذَمِيّ: لا، ولكنه تعصَّب للقرشيَّة، ولانقطاعه كان إليهم، ولروايته فضائلَهم، وكان الأصمعي يقول: وَصَلْتُ بالعلم، ونلتُ بالمُلَحِ، وكان سهل بن هارون يقول: اللسان البليغ والشعر الجيِّد لا يكادان يجتمعان في واحِد؛ وأعسَرُ من ذلك أن تجتمع بلاغةُ الشعر، وبلاغة القلم، والمسجديُّون يقولون: من تمنّى رجلاّ حَسَنَ العقل، حسنَ البيان، حسنَ العلم، تمنّى شيئاً عسيراً،

باب

وكانوا يعيبون النُّوكَ والعِيّ والحُمقَ، وأخلاقَ النِّساء والصِّبيان، قال الشاعر:

إذا ما كنتَ متَّخِذاً خـلـيلا

 

فلا تِثقَنْ بكلِّ أخي إخـاءِ

وإن خُيِّرت بينهمُ فأَلصِـقْ

 

بأهل العقلِ منهم والحـياءِ

فإنّ العقلَ ليس لـه إذا مـا

 

تفاضلت الفضائلُ من كِفاءِ

وإنّ النُّوك للأحـسـاب داءٌ

 

وأهونُ دائِه داءُ الـعَـياء

ومن تَرَك العواقبَ مهمَلاتٍ

 

فأيسر سَعيه سعيُ العَنَـاءِ

فلا تثِقنّ بالنَّوكـى لـشـيءٍ

 

وإن كانوا بني ماءِ السمـاءِ

فليسوا قابِلِي أدبٍ فَدَعْـهُـمْ

 

وكن من ذاك منقطِعَ الرّجاءِ

وقال آخرَ في التضييع والنُّوك:

ومَن تَرَك العواقبَ مهملاتٍ

 

فأَيْسَرُ سعيهِ أبـداً تَـبَـابُ

فعِشْ في جَدِّ أنوكَ ساعدتُه

 

مقاديرٌ يخالفُها الصَّـوابُ

ذَهَاب المال في حمدٍ وأجرٍ

 

ذهابٌ لا يقال لـه ذَهـابُ

وقال آخرُ في مثل ذلك:

أرى زمناً نَوكاهُ أسعَدُ أهـلـه

 

ولكنّما يشقَى به كلُّ عـاقِـل

مشَى فوقه رجلاهُ والرَّأس تحتَه

 

فكَبَّ الأعالي بارتفاعِ الأسافِل

وقال الآخر:

فلم أر مثلَ الفقر أوضَعَ للـفـتـى

 

ولم أر مثلَ المال أرفَـعَ لـلـرَّذْل

ولم أر عِزّاً لامـرئٍ كـعـشـيرةٍ

 

ولم أر ذُلاًّ مثلَ نأيٍ عـن الأصـلِ

ولم أَر مِن عُدم أصَرَّ على امـرئٍ

 

إذا عاشَ وسط النَّاس من عدم العقلِ

وقال آخر:

تحامَقْ مع الحمقى إذا ما لقِيتَهـمْ

 

ولاقِهِمُ بالنوك فِعلَ أخي الجهـل

وخَلط إذا لاقَيت يوماً مُخَـلِّـطـاً

 

يخلِّط في قولٍ صحيحٍ وفي هَزْل

فإني رأيتُ المرءُ يشقَى بعقـلـه

 

كما كان قبلَ اليوم يَسعَدُ بالعقـلِ

وقال آخر:

وأنزَلَني طولُ النَّوى دارَ غَرْبةٍ

 

إذَا شئتُ لاقيتُ امرأً لا أشاكله

فحامقْتُه حتَّى يقـال سـجـيَّةٌ

 

ولو كان ذا عقل لكنتُ أعاقِلُه

وقال بِشر بن المعتمِر:

وإذا الغبيُّ رأيتَه مستغنـياً

 

أعيا الطَّبيبَ وحيلةَ المحتالِ

وأنشدني آخَرُ:

وللدّهر أيامٌ فـكُـن فـي لـبـاسـه

 

كلِبْسـتـه يومـاً أَحـدَّ وأخْـلَـقـا

وكنْ أكيسَ الكَيْسَى إذا ما لقـيتَـهـم

 

وإن كُنْت في الحمقَى فكن أنت أحمقا

وأنشدني آخر:

ولا تقربي يا بنتَ عـمِّـيَ بُـوهةً

 

من القوم دِفْنَاساً غبـيّاً مـفـنَّـدا

وإن كان أعطَى رأسَ ستِّين بَكْـرةً

 

وحُكْماً علَى حكْمٍ وعَبداً مُـوَلَّـدا

ألاَ فاحذَرِي لا تُورِدَنَّك ِ هَـجْـمةٌ

 

طِوالُ الذرَى جبْساً من القوم قُعْدُدا

وأنشدني آخر:

كسا اللَّه حَيَّيْ تغلبَ ابـنةِ وائلٍ

 

من اللّؤمِ أظفاراً بَطيئاً نصولها

إذا ارتحَلُوا عن دارِ ضَيمٍ تعاذَلُوا

 

عليها وردُّوا وفْدَهُمْ يستقيلُهـا

وأنشدني آخر:

وإنَّ عَناءً أن تُفهِّمَ جـاهـلاً

 

ويَحْسَب جهلاً أنَّه منك أفْهَمُ

وقال جرير:

ولا يعرفون الشَّرَّ حتى يصيبَهم

 

ولا يعرفون الأمرَ إلا تدبُّـرَا

وقال الأعرَج المعْنِيُّ الطائي:

لقد علَمَ الأقوام أن قد فـررتـم

 

ولم تبدؤوهم بالمَظـالـم أوَّلا

فكونوا كدَاعِي كَرَّةٍ بعـد فـرّة

 

ألا رُبَّ من قد فَرَّ ثُمَّتَ أقبَـلا

فإن أنتمُ لم تفعلوا فـتـبـدَّلُـوا

 

بكلِّ سِنانٍ مَعْشَرَ الغَوْثِ مِغْزَلا

وأعطُوُهُم حُكمَ الصَّبيّ بأهلـه

 

وإنِّي لأرجو أنْ يقولوا بـأنَّ لا

ويقال: أظْلَمُ من صَبِيّ وأكذَبُ من صبيّ وأخْرَق من صبيّ، وأنشد:

ولا تحكُما حُكْمَ الصبـيِّ فـإنَّـه

 

كثيرٌ على ظَهْر الطّريق مجاهلُه

قال: وسُئل دَغْفَل بن حنظلة، عن بني عامر فقال: أعناق ظِباء، وأعجاز نساء، قيل: فما تقول في أهل اليمن؟ قال: سيّدٌ وأَنْوَكُ،