باب في ذكر المعلمين

ومن أمثال العامة: أحمَقُ من معلَّم كُتَّاب، وقد ذكرهم صِقلاَبٌ فقال:

وكيف يُرجَّى الرأْيُ والعقلُ عند مَنْ

 

يَرُوح على أنَثى ويغدو على طِفْلِ

وفي قول بعض الحكماء: لا تستشيرُوا معلّماً ولا راعيَ غَنمٍ ولا كثيرَ القُعود مع النساء، وقالوا: لا تدَعْ أمَّ صبيِّك تضربُه؛ فإنّه أعقلُ منها وإن كانت أسَنَّ منه، وقد سمعنا في المثل: أحمق من راعي ضأن ثمانين،فأما استحماق رُعاةُ الغنم في الجملة فكيف يكون ذلك صواباً وقد رعى الغنمَ عدَّةٌ من جِلّة الأنبياءً صلى اللَّه عليهم، ولعمري إنّ الفدّادين من أهل الوَبر ورُعاةِ الإبل ليتنبَّلُون على رعاة الغنم، ويقول أَحدُهم لصاحبه: إن كنت كاذباً فحلبْتَ قاعداً، وقال الآخر:

ترى حالِبَ المِعزَى إذا صَرَّ قاعدا

 

وحالبُهنَّ القائمُ الـمـتـطـاوِلُ

وقالت امرأةٌ من غامد، في هزيمة ربيعة بن مكدَّم، لجَمْع غامدٍ وحْدَه:

ألا هل أتاك على نأيِهـا

 

بما فضحتْ قومَها غامدُ

تمنيتمُ مـائتـيْ فـارسٍ

 

فرَدّكُمُ فـارس واحـدُ

فليت لنا بارتباط الخـيو

 

ل ضأناً لها حالبٌ قاعُد

وقد سمعنا قول بعضهم: الحُمق في الحاكة والمعلّمين والغَزَّالين، قال: والحاكة أقلُّ وأسقط من أن يقال لها حَمقَى، وكذلك الغزَّالون؛ لأنّ الأحمق هو الذي يتكلَّم بالصواب الجيّد ثم يجيء بخطأ فاحش، والحائك ليس عنده صوابٌ جيِّد في فَعَالٍ ولا مَقال، إلا أَنْ يُجعل جَودة الحياكة من هذا الباب،وليس هو من هذا في شيء،

وباب منه آخر

ويقال: فلان أحمقُ، فإذا قالوا: مائِق، فليس يريدون ذلك المعنى بعينه، وكذلك إذا قالوا: أنْوَكُ، وكذلك إذا قالوا: رقيع، ويقولون: فلانٌ سليم الصَّدر؛ ثم يقولون: عِييٌّ، ثم يقولون: أبله، وكذلك إذا قالوا: مَعتوهٌ ومَسْلوس وأشباهَ ذلك، قال أبو عبيدة: يقال للفارس: شجاعٌ، فإذا تقدَّم ذلك قيل: بطَل، فإذا تقدّم شيئاً قيل: بُهمْةٌ، فإذا صار إلى الغاية قيل: أَلْيَسُ، وقال العجّاج:

أَلْيَسُ عن حَوْبائِهِ سَخيُّ

وهذا المأخَذُ يَجرِي في الطَّبقات كلّها: من جود وبخل، وصلاحٍ وفساد، ونُقصان ورُجحان، وما زلتُ أسمعُ هذا القولَ في المعلِّمين، والمعلِّمون عندي على ضربين: منهم رجال ارتفعوا عن تعليم أولاد العامّة إلى تعليم أولاد الخاصّة، ومنهم رجال ارتفعوا عن تعليم أولاد الخاصّة إلى تعليم أولاد الملوك أنفسِهم المرشحين للخلافة، فكيف تستطيع أن تزعم أنّ مثلَ عليِّ بنِ حمزة الكسائِيِّ، ومحمد بن المستنير الذي يقال له: قُطْرُب، وأشباهَ هؤلاء يقال لهم: حَمْقَى، ولا يجوز هذا القولُ على هؤلاء ولا على الطّبقة التي دونهم، فإنْ ذهبوا إلى معلِّمي كتاتيب القُرى فإنّ لكلِّ قوم حاشيةً وسَفِلة، فما هم في ذلك إلاّ كغيرهم، وكيف تقول مثل ذلك في هؤلاء وفيهم الفقهاء والشُّعراء والخُطباء، مثل الكميت بن زيد، وعبد الحميد الكاتب، وقيس بن سعد، وعطاء بن أبي رَبَاح، ومثل عبد الكريم أبي أمية، وحسين المعلم، وأبي سعيدٍ المعلم، ومن المعلِّمين: الضحّاك بن مزاحم، وأمَّا معبد الجهني وعامر الشَّعبي، فكانا يعلمان أولاد عبد الملك بن مروان، وكان معبدٌ يعلم سعيداً، ومنهم أبو سعيد المؤدب، وهو غير أبي سعيد المعلم، وكان يحدِّث عن هشام بن عروة وغيرهم، ومنهم: عبد الصمد بن عبد الأعلى، وكان معلم ولد عُتبةَ بن أبي سفيان، وكان إسماعيلُ بن علي ألزم بعضَ بنيه عبدَ اللَّه بن المقفع ليعلِّمه، وكان أبو بكر عبد اللّه بن كيسان معلماً، ومنهم: محمد بن السكن، وما كان عندنا بالبصرة رجلان أروى لصنوف العلم، ولا أحسنَ بياناً، من أبي الوزير وأبي عدنان المعلِّمَين، وحالهُما من أوَّل ما أذكر من أيام الصِّبا وقد قال الناس في أبي البَيداء، وفي أبي عبد اللَّه الكاتب، وفي الحجَّاج بن يوسف وأبيه ما قالوا، وقد أنشدوا مع هذا الخبر شاهداً من الشعر على أنّ الحجّاج وأباه كانا معلمين بالطائف، ثم رجع بنا القول إلى الكلام الأول، قالوا: أحقُّ الناس بالرَّحمة عالم يجري عليه حكمُ جاهلٍ، قال: وكتب الحجَّاج إلى المهلّب يُعْجله في حرب الأزارقة ويسمّعه، فكتب إليه المهلّب: إن البلاء كلَّ البلاء أَنْ يكون الرَّأْيُ لمن يَملِكه دون من يُبْصره،

وباب آخر

وقال بعض الرَّبانيِّين من الأدَباء، وأهلِ المعرفة من البلغاء ممَّن يكره التَّشادُق والتعمّق، ويُبغض الإغراق في القول، والتكلُّفَ والاجتلاب، ويعرف أَكثرَ أدواء الكلام ودوائه، وما يعتري المتكلِّم من الفتنة بحِسن ما يقول، وما يعرض للسامع من الافتتان بما يسمع، والذي يورث الاقتدارُ من التهكُّم والتسلُّط، والذي يمكن الحاذق والمطبوع من التمويه للمعاني، والخِلابة وحسن المنطق، فقال في بعض مواعظه: أُنذِرُكم حُسنَ الألفاظ، وحلاوةَ مخارج الكلام؛ فإنَّ المعنى إذا اكتسى لفظاً حسناً وأعاره البليغُ مَخرجاً سهلاً، ومنحه المتكلم دَلاًّ مُتَعشَّقاً، صارفي قلبك أحْلى، ولصدرك أمْلا، والمعاني إذا كُسِيت الألفاظَ الكريمة، وألبست الأوصافَ الرفيعة، وتحوَّلت في العيون عن مقادير صُوَرها، وأرْبَتُ على حقائق أقدارها، بقَدْرِ ما زُيِّنت، وحَسَبِ ما زُخرِفت، فقد صارت الألفاظ في معاني المعارض وصارت المعاني في معنى الجواري والقلب ضعيفٌ، وسلطانُ الهوى قويٌّ، ومَدخل خُدَع الشيطان خفيّ، فاذكر هذا الباب ولا تنسَه، ولا تفرِّط فيه؛ فإنّ عمر بن الخطاب رحمه اللَّه لم يَقُلْ للأحنف بن قيس - بعد أن احتسبه حَوْلاً مُجَرَّماً، ليستكثر منه، وليبالغ في تصفُّح حالِه والتنقير عن شأنه -: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد كان خوّفَنا كلَّ منافِقٍ عليم، وقد خِفْتُ أن تكون منهم إلاّ لما كان راعَه مِن حُسن منطقه، ومالَ إليه لما رأى من رِفقه وقلة تكلُّفه؛ ولذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : إنّ مِن البيان لسحراً، وقال عمر بن عبد العزيز لرجلٍ أحسَنَ في طلب حاجة وتأتّى لها بكلامٍ وجيز، ومنطق حسن: هذا واللَّه السِّحرُ الحلال، وقال رسول اللَّهصلى الله عليه وسلم : لاخِلاَبة، فالقصد في ذلك أن تجتنب السوقيَّ والوحشيّ، ولا تجعَلَ همَّك في تهذيب الألفاظ، وشغلَكَ في التخلُّص إلى غرائب المعاني، وفي الاقتصاد بلاغٌ، وفي التوسُّط مجانبةٌ للوُعورة، وخروجٌ مِن سبيلِ مَن لا يحاسب نفسَه، وقد قال الشّاعر:

عليكَ بأوساطِ الأمور فـإنّـهـا

 

نجاة ولا تركب ذَلُولاً ولا صَعْبَا

وقال الآخر:

لا تذهبَنَّ في الأمور فَرَطَـا

 

لا تسألنّ إن سألتَ شطَـطَـا

وكنْ من الناس جميعاً وَسَطا

 

 

وليكن كلامُك ما بين المُقصِّر والغالي؛ فإنك تسلم من المِحنة عند العلماء، ومن فِتْنة الشيطان، وقال أعرابيٌّ للحسن: عَلِّمْني ديناً وَسُوطاً، لا ذاهباً شَطوطاً، ولا هابطاً هَبوطاً، فقال له الحسن: لئن قلتَ ذاكَ إنّ خير الأمور أوساطُها، وجاء في الحديث: خالِطُوا النَّاسَ وزايِلوهم، وقال علي بن أبي طالب رحمه اللَّه: كن في الناس وَسَطاً وامْشِ جانبّاً، وقال عبد اللَّه بن مسعود في خطبته: وخيرُ الأُمور أوساطها، وما قلَّ وكفى خيرٌ ممّا كثر وألهى، نفسٌ تُنْجيها، خير من إمَارة لا تُحْصيها، وكانوا يقولون: اكرهِ الغلوَّ كما تكره التقصير، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: قولوا بقولكم ولا يستَحْوِذنَّ عليكم الشيطان، وكان يقول:وهل يكُبُّ الناسَ على مَناخِرهم في نار جهنَّم إلاّ حصائدُ ألسنتهم،