باب من الخطب القصار من خطب السلف

ومواعظ من مواعظ النُّسَّاك، وتأديب من تأديب العلماء

قال رجلٌ لأبي هريرة النحويّ: أريد أن أتعلّم العلم وأخافُ أن أُضِيعه، فقال: كَفَى بترك العِلم إضاعةً، وسمع الأحنفُ رجلاً يقول: التعلُّم في الصِّغَر كالنَّقش في الحجر، فقال الأحنف: الكبيرُ أكبرُ عقلاً، ولكنه أَشْغَل قلباً، وقال أَبو الدَّرداء: مالي أَرى علماءَكم يذهبون وجُهَّالَكم لا يتعلَّمون، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : إنّ اللَّه لا يقبِض العلمَ انتزاعاً ينتزعُه من النّاس، ولكن يقبض العلماءَ حتَّى إذا لم يبق عالمٌ اتَّخَذَ الناسُ رُؤساءَ جُهَّالاً فسُئِلوا فأفتَوا بغيرعلمٍ، فضلُّوا وأَضَلُّوا، قالوا: ولذلك قال عبد اللَّه بن عباس رحمه اللَّه، حين دلّى زيد بن ثابتٍ في القبر، رحمه اللَّه: من سَرَّه أن يرى كيفَ ذهابُ العلم فلينظر، فهكذا ذهابه، وقال بعضُ الشُّعراء في بعض العلماء: من المنسرح

أَبعَدْتَ مِن يومك الفِرارَ فمـا

 

جاوَزْت حيثُ انتَهَى بك القَدرُ

لو كان يُنجِي من الرَّدَى حذرٌ

 

نجَّاك مِمَّا أَصابَكَ الـحَـذَرُ

يرحمك اللَّه مِن أَخـي ثـقةٍ

 

لم يكُ في صفو ودِّهِ كـدَرُ

فهكذا يَفْسُد الـزَّمـان ويَفْ

 

نَى العِلمُ منه وَيَدْرُسُ الأثرُ

قال: وقال قَتادة: لو كان أَحدٌ مكتفياً من العلم لاكتَفَى نبيُّ اللَّه موسى عليه السلام، إذْ قال للعبد الصالح: "هَلْ أَتّبِعكُ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ ممَّا عُلِّمْتَ رُشْداً" الكهف: 66، أَبو العبَّاس التميميّ قال: قال طاوس: الكلمة الصَّالحة صَدَقة، وقال ثمامة بن عبد اللَّه بن أنس، عن أبيه، عن جدِّه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَنّه قال: فضْلُ لسانِك تُعبِّر به عن أَخيك الذي لا لِسانَ له صَدَقة، وقال الخليل: تكثّرْ مِن العلم لتَعرِفَ، وتقلّلْ منه لتَحفَظ، وقال الفُضَيل: نعمت الهديَّة الكلمةُ من الحِكمة يحفظُها الرَّجُل حتى يلقيَها إلى أَخيه، وكان يقال: يكتب الرَّجلُ أحسنَ ما يسمع، ويحفظ أحسن ما يكتب، وكان يقال: اجعل ما في كتبك بيتَ مال، وما في قلبك للنَّفَقة، وقال أَعرابيّ: حَرْفٌ في قلبك خير من عشرة في طُومارك، وقال عُمر بن عبد العزيز: ما قُرِن شيء إلى شيء أَفضلُ من حِلْم إلى علم، ومن عَفْو إلى قُدرة، وكان ميمون بن سِيَاه، إذا جلس إلى قومٍ قال: إنّا قومٌ مُنْقَطَعٌ بنا، فحدثونا أحاديث نتجمّل بها، قال: وفَخر سُلَيم مولى زيادٍ، بزيادٍ عند معاروية، فقال معاوية: اسكت، فواللَّه ما أدرك صاحبُك شيئاً بسيفه إلاّ وقد أدركتُ أكثرَ منه بلساني، وضرب الحجاج أعناقَ أَسْرى، فلما قدَّموا إليه رجلاً لتُضَربَ عنُقه قال: واللَّه لئنْ كُنَّا أسأنا في الذّنب فما أحسنْتَ في العفو فقال الحجَّاج: أُفٍّ لهذه الجِيَف، أما كان فيها أحدٌ يحسن مثلَ هذا الكلام وأمسَكَ عن القتل، وقال بشير الرَّجَّال: إنِّي لأجِدُ في قلبي حَرّاً لا يُذهبه إلاّ برد العدل أو حَرُّ السِّنان، قال: وقدَّموا رجلاً من الخوارج إلى عبد الملك بن مَرْوَان لتُضرب عنقه، ودخل على عبد الملك ابنٌ له صغيرٌ قد ضربَه المعلِّم، وهو يبكي، فهمَّ عبدُ الملك بالمعلِّم، فقال له الخارجيّ: دَعُوه يبكي فإنه أفتح لجِرمه، وأصحُّ لبَصَره، وأذْهَب لصَوته، قال له عبدُ الملك: أَمَا يشغَلُك ما أنتَ فيه عن هذا؟ قال الخارجيّ: ما ينبغي لمسْلِم أن يشغَلَه عن قول الحقِّ شيء فأمر بتخلية سبيله، قال: وقال زيادٌ على المنبر: إنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة لا يُقطَع بها ذَنَبُ عَنْزٍ مَصُورٍ، لو بلَغَتْ إمامَه سفَكَ بها دمه، قال: وقال إبراهيم بن أدهَم: أعربنا كلامَنا فما نَلْحن، ولحَنّا في أعمالنا فما نُعْرِب حرفاً، وأنشد:

نرقِّع دُنيانا بتمزيق دينـنـا

 

فلا دينُنا يبقَى ولا ما نرقِّعُ

قال: وعزَلَ عمرُ زياداً عن كتابةِ أبي موسى الأشعري، في بعض قَدَماتِه، فقال له زياد: أعن عجز أم عن خيانة؟ قال: لا عن واحدةٍ منهما، ولكنِّي أكره أن أَحمِلَ على العامَّة فَضْلَ عقلِك،  قال: وبلغ الحجَّاجَ موتُ أسماءَ بنِ خارجة فقال: هل سَمِعْتُم بالذي عاشَ ما شاء ومات حين شاء قال: وكان يقال: كَدَرُ الجماعة خيرٌ من صَفْو الفُرقَة، قال أبو الحسن: مرَّ عمر بن ذرّ، بعبد اللَّه بن عَيَّاش المنتوف، وقد كان سَفِه عليه فأعرَضَ عنه، فتعلّق بثوبه ثم قال له: يا هَناهُ، إنا لم نَجدْ لك أَنْ عصَيتَ اللَّه فينا خيراً من أن نطيع اللّه فيك، وهذا كلامٌ أخذه عُمَر بن ذَرّ، عن عمر بن الخطاب رحمه اللَّه، قال عُمر: إنِّي واللَّه ما أَدَع حَقّاً للَّه لشِكايةٍ تظهر، ولا لضَبٍّ يُحتَمل، ولا لمحاباةِ بَشَرٍ، وإنّك واللَّه ما عاقبتَ مَن عصى اللَّه فيكَ بمثل أن تُطيعَ اللَّه فيه، قال: وكتب عمرُ بن الخطاب إلى سعد أبي وقّاص: يا سعدَ سعدَ بنيِ أُهيْب، إنّ اللَّه إذا أحبَّ عبداً حبّبه إلى خلقه، فاعتبِرْ منزلتَك من اللَّه بمنزلتك من الناس، واعلَمْ أنّ ما لَكَ عند اللَّه مثلُ ما للَّهِ عندك، قال: ومات ابْنٌ لعُمَر بنِ ذَرّ فقال: أيْ بُنَيَّ، شغلَني الحزنُ لك، عن الحزن عليك، وقال رجلٌ من بني مُجاشع: جاء الحسنُ في دم كان فينا، فخطب فأجابه رجلٌ فقال: قد تركتُ ذلك للَّهِ ولوجوهكم، فقال الحسن: لا تقلْ هكذا، بل قُلْ: لِلَّه ثم لوجوهكم، وآجَرَك اللَّه، وقال: ومرّ رجلٌ بأبي بكر ومعه ثوبٌ، فقال: أتبيع الثوب؟ فقال: لا عافاك اللَّه، فقال أبو بكر رضي اللّه عنه: لقد عُلِّمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا ، وعافاك اللَّه، قال: وسأل عمرُ بنُ الخطّاب رجلاً عن شيء فقال: اللَّه أعلم، فقال عمر: لقد شقينا إنْ كُنّا لا نعلم أنّ اللَّه أعلم، إذا سُئِل أحدكم عن شيء لا يعلمُه فليقلْ: لا أدري، وكان أبو الدَّرداء يقول: أبغَضُ النَّاسِ إليَّ أَنْ أظلِمَه مَنْ لا يستعين عليّ بأحد إلاّ باللَّه، وذكر ابن ذَرٍّ الدُّنيا فقال: كأنكم زادَكم في حرصكم علينا ذَمُّ اللَّه لها، ونظر أعرابيٌّ إلى مالٍ له كثيرٍ، من الماشية وغيرها، فقال: يَنْعة، ولكل يَنْعةٍ استحشاف، فباع ما هُناك مِن ماله، ثمَّ يمَّم ثغراً عن ثغور المسلمين، فلم يزلْ به حتى أتاه الموت، قال: وتمنَّى قوم عند يَزيدَ الرَّقاشي، فقال: أتمنى كما تمنَّيتم؟ قالوا: تمنَّهْ، قال: ليتَنا لم نُخْلَق، وليتنا إذْ خُلِقْنا لم نَعصِ، وليتنا إذ عَصَينا لم نمُتْ، وليتنا إذْ مُتْنَا لم نُبعَث، وليتنا إذْ بعثنا لم نُحاسب، وليتنا إذْ حُوسبنا لم نعذَّبْ، وليتنا إذْ عذِّبنا لم نُخلَّد، وقال الحجّاج: ليت اللَّه إذْ خلَقَنا للآخرة كفانا أمْرَ الدُّنيا، فرفَعَ عنّا الهمَّ بالمأكل والمشرب والملبَس والمنكَح، أوْ ليته إذْ أوْقَعَنا في هذه الدنيا كفانا أمْرَ الآخرة، فرفَع عنا الاهتمام بما ينجيّ مِن عذابه، فبلغ كلامُهما عبدَ اللَّه بن حسن بن حسن، أو عليَّ بنَ الحسين، فقال: ما عَلِما في التمنِّي شيئاً، ما اخْتَارُه اللَّه فهو خيرٌ، وقال أبو الدَّرداء: مِن هوان الدُّنيا على اللَّه أنّه لا يعُصَى إلاّ فيها، ولا يُنال ما عنده إلاّ بتركها، قال شُرَيح: الحِدَّة كنايةٌ عن الجَهْل، وقال أبو عُبيدة: العارضة كناية عن البَذَاء، قال: وإذا قالوا: فلانٌ مقتصدٌ فتلك كناية عن البخل، وإذا قالوا للعامل مستَقْصٍ فتلك كنايةٌ عن الجَوْر، وقال الشاعر، أبو تمَّام الطائي:

كذَبْتُمُ ليس يُزهَى مَن لـه حـسـبُ

 

ومَن له نسـبٌ عـمَّـن لـه أدبُ

إنِّي لَذُو عـجـبٍ مـنـكـمْ أردِّدهُ

 

فيكم، وفي عجبي مِن زَهوكم عَجَبُ

لَجَاجةٌ لِيَ فيكمْ لـيس يشـبـهُـهـا

 

إلاّ لجاجتُكمْ فـي أنَّـكـم عَـرَبُ

وقيل لأعرابيَّةٍ مات ابنُها: ما أحسَنَ عزاءَكِ عن ابنك؟ قالت: إنَّ مصيبته أمَّنَتْني من المصائب بعده، قال: وقال سعيد بن عثمان بن عفان رحمه اللَّه لطُوَيسٍ المُغَنِّي: أيُّنا أسَنُّ أنا أم أنت يا طاوس؟ قال: بأبي أنتَ وأمِّي؛ لقد شهدتُ زِفاف أمّك المبارَكة إلى أبيك الطيِّب، فانظر إلى حِذْقه وإلى معرفته بمخارج الكلام، كيف لم يقل: زِفاف أمِّك الطيبة إلى أبيك المبارك، وهكذا كان وجهُ الكلام فقَلَب المعنى، قال: وقال رجلٌ من أهل الشَّام: كنت في حلقة أبي مُسْهِر، في مسجد دمشق، فذكرنا الكلامَ وبَراعتَه، والصَّمتَ ونبالته، فقال: كَلاّ إن النَّجْم ليس كالقمر، إنك تصِفُ الصَّمت بالكلام، ولا تصف الكلامَ بالصَّمت، وقال الهيثم بن صالح لابنه وكان خطيباً: يا بنيّ إذا قَلَّلتَ من الكلام أكثرتَ من الصَّواب، وإذا أكثرت من الكلام أقللت من الصّواب، قال: يا أبه، فإنْ أكثرتُ وأكثرت؟ - يعني كلاماً وصواباً - قال: يا بُنيَّ، ما رأيتُ موعوظاً أحقَّ بأن يكون واعظاً منك، قال: وقال ابن عبَّاس: لولا الوَسْواسُ، ما بالَيْتُ ألاّ أكلِّم الناس، قال: وقال عمر بن الخطَّاب رحمه اللَّه: ما تستبْقوه من الدُّنيا تجدوه في الآخرة، وقال رجلٌ للحسن: إني أكره الموت، قال: ذاك أنّك أخّرت مالَكَ، ولو قدَّمته لسرَّك أن تَلْحَق به، قال: وقال عامر بن الظرِب العَدْوانيّ الرأي نائمٌ، والهوى يقظان؛ فمن هُنالك يغلبُ الهوى الرأْي، وقال: مكتوب في الحكمة: اشكُرْ لمن أنعَمَ عليك، وأَنعِمْ على من شكر لكَ، وقال بعضهم: أيُّها الناس، لا يمنعنَّكم سوءُ ما تعلمون منّا أن تقبَلوا أحُسنَ ما تسمعُون منا، وقال عبد الملك على المنبر: ألا تُنصفوننا يا معشَرَ الرعيَّة؟ تريدون مِنّا سيرةَ أبي بكر وعمر ولم تَسِيروا في أنفسكم ولا فينا بِسيرة رعيّة أبي بكر وعمر، أسأل اللَّه أنْ يعين كُلاًّ على كُلّ، وقال رجلٌ من العرب: أربعٌ لا يشَبَعْن من أربعة: أنثَى من ذكر، وعينٌ من نَظَر، وأرضٌ من مطر، وأذُن من خَبَر، قال: وقال موسى صلى الله عليه وسلم لأهله: "امْكُثوا إنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ" طه:01، فقال بعضُ المعترضين: فقد قال: "أوْ آتِيكُمْ بشِهابٍ قَبَسٍ" النمل:7، فقال أبو عقيل: لم يعرِفْ موقِع النّار من أبناء السّبيل، ومن الجائع المقرور، وقال لبيدُ بن ربيعة: من الرمل

ومـقـامٍ ضـيِّقٍ فـرّجْـتُــه

 

بِبـيان ولِـســانٍ وجَـــدَلْ

لو يقـوم الـفِـيلُ أو فَـيّالُــه

 

زَلّ عن مِثل مقامـي وزَحَـلْ

ولَدَى النعمان مِـنِّـي مـوطـنٌ

 

بَيْنَ فاثُـورِ أُفَـاقٍ فـالـدَّحَـلْ

إذ دعَتْني عامـرٌ أنـصـرُهـا

 

فالتقى الألسُنُ كالنَّـبـل الـدَّوَلْ

فرميتُ القومَ رِشْـقـاً صـائبـاً

 

ليس بالعُصْل ولا بالمقْـثـعِـلّ

فانتضَلنا وابنُ سَلـمَـى قـاعـدٌ

 

كعَتيقِ الطَّير يُغْـضِـي وَيُجَـلّ

وقبـيلٌ مـن لُـكـيزٍ شـاهـدٌ

 

رهطُ مرجومٍ، ورهطُ ابنِ المُعَلّ

وقال لبيد أيضاً:

وأبيضَ يجتابُ الخُرُوقَ على الوَجى

 

خطيباً إذا التَفَّ المجامع فاصـلا

يجتاب: يفتعل من الجَوِبْ، وهو أن يجوب البِلاد، أي يدخل فيها ويقطعها، والخرُوق: جمع خَرقٍ؛ والخَرق: الفَلاةُ الواسعة، والوجَى: الحَفَا، مقصور كما ترى؛ وأنه ليتوجَّى في مِشيته، وهو وَجٍ، وقال رؤبة:

به الرّذايا من وَجٍ ومُسْقَط

وقال أيضاً لبيد:

لو كان حيٌّ في الحياة مخلَّـداً

 

في الدّهر أدركَهُ أبو يَكْسُومِ

والحارثان كلاهما ومحـرِّقٌ

 

أو تُبَّعٌ أو فارس اليحـمـومِ

فدعِي الملامةَ ويْبَ غيرِكِ إنّه

 

ليس النَّوالُ بِلوْم كـلّ كـريمِ

ولقد بلوتُكِ وابتليتِ خَليقـتـي

 

ولقد كفاكِ مُعلِّمِي تعليمـي

وله أيضاً:

ذهبَ الذين يُعَاشُ في أكنافهـمْ

 

وبقِيتُ في خَلْف كجِلْد الأجربِ

يتأكَّـلُـون مَـغَـالةً وخِـيانةً

 

ويُعاب قائلُهم وإن لم يَشْغَـبِ

والخَلَفُ: البقيّة الصالحة من ولد الرجل وأهلِه، والخلْف ضد هذا،وقال زيد بن جندب، في ذكر الشَّغْب:

ما كان أغْنَى رجالاً ضَلَّ سَعْيُهمُ

 

عن الجدال وأغناهم عن الشَّغَبِ

وقال آخر في الشَّغْب:

إني إذا عاقبتُ ذو عقابِ

 

وإن تشاغِبْني فذو شِغَابِ

وقال ابن أحمر بن العَمَرّدِ:

وكم حَلَّها مِن تَيَّحـانٍ سَـمَـيدع

 

مُصَافِي النَدى سَاقٍ بيهْماءَ مُطْعِم

التَّيَّحان: الذي يعرِض في كل شيء ليُغْنيَ فيه، والسَّمَيدَع: الكريمُ، والنَّدى: السخاء، والهيماء: الأرض التي لا يُهتدَى فيها للطريق:

طَوِي البطنِ مِتْلاَفٍ إذا هبَّت الصَّبـا

 

على الأمر غوّاصٍ وفي الحي شَيظمِ

وقال:

هل لامَني قومٌ لموقِـف سـائلٍ

 

أو في مخاصمة اللَّجُوجِ الأصيَدِ

الأصيَد: السَّيِّدُ الرَّافعُ رأسَه، الشَّامخُ بأنفه، وقال في التطبيق:

فلمَّا أنْ بدا القَعقاع لجَّتْ

 

على شَرَكٍ تُنَاقِله نِقـالا

تعاوَرْنَ الحديثَ وطبّقَتْه

 

كما طَبَّقت بالنَّعل المِثالا

قال: وهذا التطبيق غير التطبيق الأوّل، وقال آخر:

لو كنتُ ذا علمٍ علمتُ وكيفَ لي

 

بالعِلْم بـعـد تَـدَبُّـر الأمـرِ

يعني إدبار الأمر، وقال المعترضُ على أصحاب الخَطابة والبلاغة: قال لقمانُ لابنه: أيْ بُنيّ، إنِّي قد ندمتُ على الكلام، ولم أنْدَم على السُّكوت، وقال الشَّاعر:

ما أن ندمتُ على سكوتِيَ مَرَّةً

 

ولقد ندمتُ على الكلام مِرارَا

وقال الآخَر:

خَلِّ جنـبَـيك لـرَامِ

 

وامضِ عنه بسـلامِ

مُتْ بداء الصمتِ خير

 

لك مِن داء الكـلام

إنَّما المُسـلِـمُ مَـنْ

 

أَلْجَمَ فاهُ بـلـجـامِ

وقال الآخر في الاحتراس والتَّحذير: من الخفيف

اخفِض الصَّوتَ إن نطقتَ بليلٍ

 

والتفِتْ بالنَّهار قبل الـكَـلامِ

وقال آخَر في مثل ذلك:

لا أسألُ النّاس عَمّا في ضمائرهـمْ

 

ما في الضَّمير لهم من ذاك يكفيني

وقال حَمزة بن بِيض: من الخفيف

لم يكن عن جِنايةٍ لحِقَتْنـي

 

لا يَساري ولا يَميني جَنَتْني

بل جناها أخٌ علـيِّ كـريمٌ

 

وعلى أهلها براقِشُ تجني

لأن هذه الكلبةَ، وهي براقش، نَبحت غُزًّى قدْ مَرُّوا من ورائهم وقد رجعوا خائبين مُخْفقين، فلما نبحَتْهم استدلُّو بنباحها على أهلها واستباحوهم، ولو سكتت كانوا قد سلموا، فضرب ابن بِيض به المثل، وقال الأخطل:

تَنِقُّ بلا شيءٍ شُيوخ مُـحـاربٍ

 

وما خِلْتُها كانت تَرِيش ولا تَبْري

ضفادع في ظَلماء ليلٍ تجاوَبَـتْ

 

فدَلّ عليها صوتُها حيَّةَ البحـرِ

النقيق: صياح الضَّفادع، وقالوا: الصمت حُكْمٌ وقليلٌ فاعلُه، وقالوا: استكثَرَ من الهَيبة صامت، وقيل لرجل من كلبٍ طويل الصمت: بحقٍّ ما سَمّتكُم العربُ خُرْسَ العرب، فقال: أسكُتُ فأسلمُ، وأسمَعُ فأعلَم، وكانوا يقولون: لاتعدِلُوا بالسلامة شيئاً، ولا تسمع الناسَ يقولون: جُلِدَ فلان حين سكت، ولا قُتِلَ فلانٌ حين صمت ونسمعُهم يقولون: جُلِد فلان حين قال كذا، وقُتل حين قال كذا وكذا، وفي الحديث المأثور: رحِمَ اللَّه مَن سكت فسلِمَ، أو قال فغنم، والسلامة فوق الغنيمة؛ لأنّ السلامة أصلٌ والغنيمةَ فرع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنّ اللَّه يبغض البليغَ الذي يتخلّل بلسانه، تخلُّلَ الباقرة بلسانها، وقيل: لو كان الكلامُ من فضَّة، لكان السُّكوت من ذهب، قال صاحب البلاغة والخطابة، وأهلُ البيانِ وحُبُّ التبيُّن: إنّما عاب النبي صلى الله عليه وسلم المتشادقين والثّرثارين والذي يتخلل بلسانه تخلُّلَ الباقرة بلسانها، والأعرابيَّ المتشادق، وهو الذي يصنَعُ بفكّيْه وبشدقيه ما لا يستجيزه أهلُ الأدب مِن خطباء أهل المَدر؛ فمن تكلف ذلك منكم فهو أعْيَبُ، والذّمُّ له ألزَم،وقد كان الرَّجلُ من العرب يقِفُ الموقفَ فيرسلُ عدَّة أَمثالٍ سائرة، ولم يكن النَّاسُ جميعاً ليتمثلوا بها إلا لما فيها من المرفق والانتفاع، ومدار العلم على الشّاهِدِ والمَثَل، وإنّما حثُّوا على الصمت لأنّ العامة إلى معرفة خطأ القول، أسرعُ منهم إلى معرفة خطأ الصّمت، ومعنى الصامت في صَمته أخفى من معنى القائل في قوله؛ وإلاّ فإنَّ السكوت عن قول الحقَّ في معنى النُّطق بالباطل، ولعمري إنَّ النّاس إلى الكلام لأسرع؛ لأنّ في أصل التركيب أنّ الحاجة إلى القول والعمل أكثرُ من الحاجة إلى ترك العمل، والسُّكوتِ عن جميع القول، وليس الصّمْتُ كله أفضلَ من الكلام كله، ولا الكلام كلُّه أفضل من السكوت كله، بل قد علمنا أنّ عامّة الكلام أفضلُ من عامّة السكوت، وقد قال اللَّه عز وجل: "سَمَّاعُون لِلْكَذِبِ أكّالُونَ للسُّحتِ" المائدة:24، فجعل سَمْعه وكَذِبه سواء، وقال الشاعر:

بني عَديٍّ ألا يا انْهَوْا سفيهَكُمُ

 

إن السَّفيه إذا لم يُنْهَ مأمورُ

وقال آخر:

فإن أنا لم آمُرْ ولم أنْهَ عنكـمـا

 

ضَحِكتُ له حتَّى يلجَّ ويستشرِي

وكيف يكون الصَّمتُ أنفَعَ ، والإيثارُ له أفْضل، ونفعُه لا يكاد يجاوز رأسَ صاحبه، ونفع الكلام يعُمّ ويَخُصّ، والرُّواة لم تُروِ سكوت الصامتين، كما روتْ كلامَ النّاطقين، وبالكلام أرسَلَ اللَّه أنبياءَه لا بالصَّمت، ومواضعُ الصَّمت المحمودة قليلة، ومواضعُ الكلام المحمودة كثيرة، وطولُ الصَّمت يُفسد اللِّسان، وقال بكر بن عبد اللَّه المزني: طول الصَّمت حُبْسة كما قال عمر بن الخطاب رحمه اللّه: ترك الحركة عُقْلَةٌ، وإذا ترك الإنسانُ القولَ ماتت خواطرُه، وتبلّدَتْ نَفْسُه، وفسَدَ حِسُّه، وكانوا يروُّون صِبيانَهم الأرجاز، ويعلّمونهم المُنَاقلات، ويأمرونهم برَفْع الصَّوت وتحقيق الإعراب؛ لأنَّ ذلك يفتق اللَّهاة، ويفتح الجِرْم، واللّسان إذا أكثرتَ تقليبه رقَّ ولانَ، وإذا أقللتَ تقليبَه وأطَلْت إسكانَه جسأ وغلظ، وقال عَبَايةُ الجُعْفي: لولا الدُّرْبة وسُوء العادة لأمرتُ فتياننا أن يماريَ بعضُهم بعضاً، وأيةُ جارحةٍ منعتَها الحركةَ، ولم تمرِّنها على الاعتمال، أصابَها من التعقُّد على حسب ذلك المنْع، ولمَ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للنّابغة الجعدي: لا يَفْضُض اللَّهُ فاك؟ ولم قال لكعب بن مالك: ما نَسِيَ اللّه لَكَ مقالك ذلك؟ ولم قال لهيذان بن شيخ: رُبَّ خطيبٍ من عَبْس؟ ولم قال لحسان: هَيِّج الغطاريف على بني عبد مناف؛ واللَّه لشِعْرُك أشدُّ عليهم من وَقْع السِّهام، في غبَش الظَّلام؟، وما نشكُّ أنَّه عليه السلام قد نَهى عن المِراءِ، وعن التزيُّد والتكلُّف، وعن كلِّ ما ضارَعَ الرِّياء والسُّمعة، والنَّفْجَ والبذَخ، وعن التَّهاتر والتّشاغُب، وعن المماتنة والمغالبة، فأمَّا نَفْسُ البيان، فكيف يَنهَى عنه، وأبيَن الكلام كلامُ اللَّه، وهوالذي مدَح التَّبيين وأهل التفصيل وفي هذا كفايةٌ إن شاء اللَّه، وقال دغفَل بن حنظلة: إنَّ للعلم أربعة: آفة، ونكداً، وإضاعة، واستجاعة، فآفته النِّسيان، ونكده الكذِب، وإضاعته وَضْعُه في غير موضعه، واستجاعته أنّك لا تشبع منه، وإنَّما عاب الاستجاعة لسوء تدبير أكثرِ العلماء، ولخُرْق سياسة أكثر الرُّواة؛ لأنّ الرُّواة إذا شَغَلوا عقولهم بالازدياد والجمع، عن تحفُّظ ما قد حصَّلوه، وتدبُّر ما قد دوَّنوه، كان ذلك الازدياد داعياً إلى النقصان، وذلك الرِّبح سبباً للخُسران، وجاء في الحديث: منهومانِ لا يشبعان: منهومٌ في العلم، ومنهومٌ في المال، وقالوا: علِّمْ عِلمَك، وتعلمْ علمَ غيرِك، فإذا أنت قد علمْتَ ما جهِلت، وحفِظت ما علِمْتَ، وقال الخليل بن أحمد: اجعَلْ تعلمك دراسةً لعلمك، واجعل مناظرةَ المتعلِّم تنبيهاً على ما ليس عندك، وقال بعضهم - وأظنُّه بكرَ بنَ عبدِ اللَّه المُزَنيّ -: لا تكُدُّوا هذه القلوبَ ولا تُهمِلوها؛ فخَيْر الفِكْر ما كان عَقِب الجَمَام، ومن أكره بصَرَهُ عَشِيَ، وعاوِدُوا الفِكرةَ عند نَبَوات القلوب، واشحَذُوها بالمذاكرة، ولا تيأسُوا من إصابة الحكمة إذا امتُحِنْتم ببعض الاستغلاق؛ فإنّ مَن أدام قرع البابِ وَلَج، وقال الشاعر:

إذا المرءُ أعيَتْه السِّيادةُ ناشئاً

 

فمطلبها كهلاً عليه شـديدُ

وقال الأحنف: السُّؤدُد مع السَّواد، وتقول الحكماء: مَن لم ينطق بالحكمة قبل الأربعين لم يبلغ فيها، وأنشد:

ودون النَّدَى في كل قلبٍ ثَـنـيَّةٌ

 

لها مَصْعدٌ حَزن ومنحدَر سهلُ

وودَّ الفَتى في كلِّ نَـيلٍ يُنـيلُـه

 

إذا ما انقضى، لو أنَّ نائلَهُ جَزْلُ

وقال الهذليُّ:

وإنّ سيادةَ الأقوامِ فـاعـلَـمْ

 

لها صَعْداءُ مطلبُها طـويلُ

أترجُو أن تسود ولا تُعَـنَّـى

 

وكيف يسود ذُو الدَّعَة البخيلُ

صالح بن سليمان، عن عتبة بن عُمَر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: ما رأيتُ عُقولَ النَّاس إلاّ وقد كادَ يتقاربُ بعضُها من بعض، إلاّ ما كان من الحجّاج وإياس بن معاوية، فإنّ عقولهما كانت تَرْجَحُ على عقول الناس، أبو الحسن قال: سمعت أبا الصُّعْدِيِّ الحارثيَّ يقول: كان الحجّاج أحمَقَ، بنى مدينة واسط في بادية النَّبط ثم حماهُمْ دخولَها، فلمّا مات دَلَفُوا إليها من قريب،وسمعتُ قَحْطَبة الخُشَنيّ يقول: كان أهلُ البصرة لا يشكّون أنّه لم يكُنْ بالبصرة رجلٌ أعقلَ من عُبَيد اللَّه بن الحسن، وعُبيد اللَّه بن سالم، وقال معاوية لعمرو بن العاصي: إنّ أهل العراق قد قَرَنُوا بك رجلاً طويلَ اللِّسان، قصيرَ الرأي، فأجِدِ الحَزّ وطَبِّق المَفصِلَ، وإيّاك أن تلقاهُ برأيك كلِّه،