باب ما قالوا فيه من الحديث الحسن الموجز المحذوف القليل الفضول

قال الشاعر:

لها بَشرٌ مثلُ الحرير ومنـطـقٌ

 

رقيقُ الحواشي لا هُرَاءٌ ولا نَزْرُ

وقال ابن أحمر:

تَضَعُ الحديثَ على مواضعِه

 

وكلامُها مِن بعـدِهِ نَـزْرُ

وقال الآخر:

حديث كطعم الشُّهدِ حلو صدورُه

 

وأعجازُه الخُطبان دونَ المَحارمِ

وقال بشّار بن برد:

أُنُسٌ غرائرُ ماهَمْمنَ بـرِيبَةٍ

 

كظِباء مكَّةَ صيدُهنَّ حـرامُ

يُحسَبْنَ من أُنس الحديثِ زوانياً

 

ويصدُّهُنّ عن الخنا الإسـلامُ

ولبشّارٍ أيضاً:

فنعِمْنا والعينُ حَيٌّ كَمَيْتٍ

 

بحديثٍ كنشوةِ الخندريسِ

ولبشّار أيضاً:

وكأَنَّ رَفْـضَ حـديثـهـا

 

قِطَعُ الرّياض كُسِين زَهْرا

وتخالُ ما جَمَعت عـلـيه

 

ثيابَها ذهـبـاً وعِـطـرا

وكأنّ تَحْـتَ لـسـانِـهـا

 

هاروتَ ينفُِثُ فيه سِحـرا

ولبشّار العُقَيليّ: من الخفيف

وفتاةٍ صُبَّ الجمالُ عليها

 

بحديثٍ كلَذّة النَّشـوانِ

وقال الأخطل:

فأسْرَينَ خمساً ثم أصبحن غُدوةً

 

يُخبِّرْن أخباراً ألذّ من الخمـرِ

وقال بشّار:

وبِكْرٍ كنُوِّارِ الرِّياض حديثُها

 

تَرُوق بوجهٍ واضح وقَوامِ

وقال بشَّار: من الخفيف

وحديث كأنه قِـطَـعُ الـرو

 

ض وفيه الصّفراءُ والحمراءُ

وأخبرنا عامر بن صالح أنّ عبد العزيز بن عمرَ بن عبد العزيز كتب إلى امرأته، وعنده إخوان له، بهذه الأبيات: من الخفيف

إنّ عندي أبقاكِ ربك ضـيفـاً

 

واجباً حقُّهم كُهـولاً ومُـرْدَا

طرَقُوا جارَكِ الذي كان قِدْمـاً

 

لا يَرَى مِن كرامة الضَّيف بُدَّا

فلديه أضيافُـه قـد قَـرَاهُـمْ

 

وهُمُ يشتهون تَـمْـراً وزُبْـدَا

فلهذا جرى الحـديثُ ولـكـنْ

 

قد جعلنا بعضَ الفُكاهة جِـدّا

وأنشد الهُذَليّ:

كُرُّوا الأحاديث عن ليلى إذا بَعُدَت

 

إنّ الأحاديثَ عن ليلى لَتُلهِينِـي

وقال الهُذَليُّ أيضاً:

وإنّ حديثاً منكِ لو تـبـذلـينَـهُ

 

جَنَى النَّحْلِ أو ألبانُ عُوذٍ مَطَافِلِ

مطافيلَ أبْكارِ حديثٍ نتـاجُـهـا

 

تُشاب بماءٍ مثل ماء المَفَاصِـلِ

العُوذ: جمع عائذٍ، وهي الناقة إذا وضَعَتْ، فإذا مشى ولدها فهي مُرْشِحٌ فإذا تَبِعها فهي مُتْلِيَة، لأنّه يتلوها، وهي في هذا كلِّه مُطفِل، فإن كان أوّلَ ولدٍ ولدتْه فهي بكْر، ماء المفاصِلِ فيه قولان: أحدهُما أنّ المفاصل ما بين الجبلَين واحِدُها مَفْصِل، وإنَّما أراد صفاء الماء؛ لأنّه ينحدر عن الجبال، لا يمرُّ بطين ولا تُراب، ويقال إنّها مفاصِل البعير، وذكروا أنّ فيها ماءً له صفاءٌ وعُذوبة، وفي الكلام الموزون يقول عبد اللَّه بن معاوية بن عبداللَّه بن جعفر: من الخفيف

الزم الصَّمتَ إنّ في الصّمت حُكْماً

 

وإذا أنتَ قُلـتَ قـولاً فـزِنْـهُ

وقال أبو ذؤيب:

وسِربٍ يُطَلَّى بالعَبير كـأنـه

 

دماءُ ظباءٍ بالنُّـحـورِ ذَبـيحُ

بذلتُ لهنَّ القولَ إنـك واجـدٌ

 

لما شئتَ من حُلو الكلام، مليحُ

السِّرب: الجماعة من النساء والبقر والطير والظِّباء، ويقال: فلانٌ آمِن السَّرب، بفتح السين، أي آمن المسلك، ويقال: فلانٌ واسع السرب وخَلِيّ السّرب، أي المسالك والمَذاهب، وإنما هو مثلٌ مضروب للصَّدر والقلب، وعن الأصمعيّ: فلانٌ واسع السِّرب، مكسور، أي واسع الصدر، بطيء الغضب، وأنشد للحكم بن رَيحان، من بني عمرو بن كلاب:

يا أجْدَل النَّاس إن جادلتُه جَـدَلا

 

وأكثَرَ الناس إن عاتبتُه عِلَـلا

كأنّما عَسَلٌ رُجْعانُ مَنْطِقِـهـا

 

إن كان رَجْعُ كلام يشبه العَسَلا

وقال القُطَاميُّ:

وفي الخدور غماماتٌ بَرَقن لـنـا

 

حَتَّى تصيّدْنَنَا من كلِّ مُصْـطَـادِ

يقتُلْنَنا بحـديثٍ لـيس يَعـلَـمُـه

 

مَن يتّقينَ ولا مكـنـونُـهُ بـادِي

فهنَّ ينبِذْنَ من قول يُصِـبـنَ بـه

 

مَواقعَ الماء من ذي الغُلّةِ الصَّادِي

يَنبِذْن: يُلقِين، الغُلّة والغليل: العطش الشّديد، والصادي: العَطشان أيضاً؛ والاسمُ الصَّدَى، وأنشد للأخطل:

شُمُسٌ إذا خَطِلَ الحديثُ أوانِسٌ

 

يرقُبْن كلَّ مُجَذّرٍ تِـنْـبـالِ

أنُفٌ كأنّ حديثَـهـنَّ تـنـادُمٌ

 

بالكأسِ كلُّ عقيلةٍ مِكـسـالِ

الشُّمُسُ: النُوافِرُ، والتِّنبال: القصير، والأُنُفُ: جمع آنفةٍ، وهي المُنكِر للشَّيء غيرَ راضية، العقيلة: المصونة في أهلها، وعقيلة كل شيءٍ: خِيرته، والمِكسال: ذات الكسل عن الحركة، وقال أبو العَمَيثَل عبد اللَّه بن خُلَيدٍ:

لقيتُ ابنةَ السّهميِّ زينبَ عن عُـفْـرِ

 

ونحنُ حَرَامٌ مُسْيَ عاشِرَةِ العَـشْـرِ

وإنِّي وإيّاها لـحَـتْـمٌ مـبـيتُـنـا

 

جميعاً، ومَسْرانا مُغِـذٌّ وذو فَـتْـرِ

فكلَّمتُها ثِنتينِ: كالثلـج مـنـهـمـا

 

على اللَّوح والأخرى أحرُّ من الجمر

يقال: ما يَلقَانا إلا عن عُفْرٍ، أي بَعدَ مُدّة، مُسْيٌ: أي وقت المساء، يقال: أغذّ السِّيْرَ، إذا جَدّ فيه وأسرع، واللّوح بالفتح: العطش، يقال: لاحَ الرّجُل يلُوحُ لَوْحاً، والتاح يلتاح التياحاً، إذا عطش، واللّوح بالفتح أيضاً: الذي يكتب فيه، واللُّوح بالضم: الهواء، يقال: لا أفعل ذلك ولو نزَوتَ في اللُّوح، أوحَتِى تنزُوَ في اللُّوح، وأنشد:

وإنّا لنُجري بيننا حـين نـلـتـقِـي

 

حديثاً له وشْيٌ كَحِبْر المَـطَـارفِ

حديث كطعم القَطْرِ في المَحْلِ يُشْتَفَى

 

به من جوىً في داخل القلب لاطِفِ

المَحْل: الجدب، وسنةٌ مَحولٌ، وأمحل البلد فهو ماحل ومُمحِل، وزمانٌ ماحلٌ وممحِل، الجوى ها هنا: شدّة الحبّ حتى يمرَضَ صاحبُه، لاطِفٌ: لطيف، وأنشد للشماخ بن ضِرار الثّعْلبيّ:

يُقِرُّ بعيني أنْ أُنَـبَّـأَ أنّـهـا

 

وإن لم أنَلها أَيِّمٌ لـم تـزَوَّج

وكنتُ إذا لاقيتُها كان سرُّنـا

 

وما بيننا مثلَ الشِّواء المُلَهْوَجِ

يريد أنّهما كانا على عجلةٍ من خَوف الرُّقباء، والمُلَهْوَجُ: المعجلُ الذي لم يُنتَظَرْ به النُّضج، وقال جِرَان العَود:

فنِلنا سقاطاً من حـديث كـأنَـه

 

جَنَى النحل أو أبكارُ كَرْم يُقطَّفُ

حديثاً لوَ انّ البقلَ يُولَى بـمـثِـلِـه

 

زَها البقلُ واخضرّ العضاه المُصَنِّفُ

زها: بدا زهره، العِضَاهُ: جمع عِضَةٍ، وهي كل شجرةٍ، وهي كل شجرةٍ ذات شوك، إلا القتادة فإنها لا تسمى عِضَةً، وقال الكميت بن زيد: مجزوء الكامل

وحديثهنَّ إذا الـتـقـيْ

 

نَ تهانُفُ البيض الغرائرْ

وإذا ضحِكْنَ عن العِـذا

 

بِ لنا المُسَفّاتِ الثّواغِرْ

كانَ التهلُّلُ بـالـتَّـبـسُّ

 

مِ لا القَهاقِهُ بالقَـراقـرْ

التهانُف: تضاحُكٌ في هُزُؤ، الغرائر: جمع غريرة، وهي المرأة القليلة الخِبْرة، الغُمرَة، والعِذاب، يريد الثّغْر، والمُسَفّات: اللِّثات التي قد أُسِفَّت بالكُحل أو بالنَّؤور، وذلك أن تغرزَ بالإبرة ويُذَرَّ عليها الكحل فيعلوَها حُوَّةٌ، والتهلُّل، يقال: تهلّل وجهُه، إذا أشرق وأسْفَر، وقال الآخَر:

ولَمَّا تلاقيْنا جَرى مِن عُيونِـنـا

 

دُموعٌ كفَفْنا غَربَها بالأصـابـعِ

ونِلنا سِقاطاً من حـديثٍ كـأنّـه

 

جَنَى النَّحل ممزوجاً بماء الوقائعُ

سقاط الحديث:ما نُبِذَ منه ولُفِظ به، يقال: ساقطْتُ فلاناً الحديثَ سِقَاطاً، الوقائِع والوقيع: مناقع الماء في مُتون الصُّخور، الواحدة وقيعة، وقال أشعث بن سُمَيّ:

هلْ تعرِف المبدا إلى السَّنام

 

ناطَ به سواحرُ الـكـلامِ

كلامُها يشفي من السَّقامِ

 

 

المبدا وسَنامٌ: موضعان، ناط به: أي صار إليه، وقال الرّاجز ووصف عيونَ الظِّباءِ بالسِّحر وذكر قوساً فقال:

صَفْراء فَرع خَطَمُوها بَـوَتَـرْ

 

لأْمٍ مُمَرٍّ مِثْلِ حُلقوم النُّـغَـرْ

حَدَتْ ظُبَاتِ أسهُمٍ مثل الشّـرَرْ

 

فصَرَّعتْهُنَّ بأكناف الـحُـفَـر

حُورُ العيونِ بابليّاتُِ الـنَّـطَـرْ

 

يَحسبُها الناظرُ من وحْش البَشَرْ

اللأم من كلِّ شيءٍ: الشديد، والمُمَرَّ: المحْكَم الفتل، وحبلٌ مَرِيرٌ مثله، النُّغَر: البلبل، والظُّباتُ: جمع ظُبَةٍ، وهي حدُّ السَّيف والسّنان وغيرهما، وقال آخر:

وحديثُها كالقَطرِ يسمعُـه

 

راعي سنِينَ تتابَعَتْ جَدْبَا

فأصاخَ يرجُو أن يكون حَياً

 

ويقول من طَمَع: هَيَا رَبَّا

باب آخر من الأسجاع في الكلام

قال عُمَر بن ذَرٍّ، رحمه اللَّه: اللَّه المستعانُ على أَلسنةٍ تَصِف، وقلوبٍ تَعرِف، وأعمالٍ تُخْلِف، ولمّا مَدحَ عتيبةُ بن مرداسٍ عبدَ اللَّه بن عبّاسٍ قال: لا أُعطي مَن يعصي الرَّحمن، ويُطيع الشيطان، ويقول البُهْتان، وفي الحديث المأثور، قال: يقول العبدُ: مالي مالي، وإنَّما لك مِن مالِك ما أكلتَ فأفنيت، وأَعطيت فأمضَيْت، أو لبِسْتَ فأبليت، وقال النَّمْرُ بن تَولب:

أعاذلَ إن يُصبِح صدايَ بقفرةٍ

 

بعيداً نآني صاحبي وقريبـي

تَرَيْ أنَّ ما أبقيتُ لم أكُ رَبَّـهُ

 

وأنّ الذي أمضَيتُ كان نصيبيُ

الصَّدَى هاهنا: طائرٌ يخرج من هامة الميت إذا بَلِيَ، فينعَى إليه ضَعفَ وليِّه وعَجْزه عن طلب طائلتِه، وهذا كانت تقوله الجاهلية، وهو هنا مستعار أي إنْ أصبحتُ أنا، ووصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: صغير القَدْر، قصير الشَّبْر، ضيِّق الصَّدر، لئيم النَّجْر، وعظيم الكِبر، كثير الفخر، والشَّبْر: قدر القامة، تَقول: كم شَبْر قميصك، أي كم عدد أشباره، والنَّجْر: الطباع، ووصف بعضُ الخطباء رجلاً فقال: ما رأيتُ أضرَبَ لمثلٍ، ولا أركَبَ لجمل، ولا أصعَدَ في قُللٍ منه، وسأل بعضُ الأعراب رسولاً قَدِم من أهل السِّند: كيف رأيتُم البلاد؟ قال: ماؤها وَشَلٌ، ولِصُّها بَطَلٌ، وتَمرُها دَقَلٌُ، إنْ كثُر الجند بها جاعوا، وإن قلُّوا بها ضاعُوا،وقيل لصعصعةَ بنِ معاوية: مِن أينَ أقبلت؟ قال: من الفجِّ العميق، قيل: فأين تريد؟ قال: البيتَ العتيق، قالوا: هل كان مِن مطر؟ قال: نَعم، حتّى عفَّى الأثَر، وأنْضَر الشجرَ، ودَهْدَى الحجر،واستجار عَون بن عبد اللَّه بن عُتبة بن مسعود، بمحمّد بن مروان بنصيبين، وتزوَّج بها امرأة، فقال محمدَّ: كيف ترى نصيبين؟ قال: كثيرة العقارب قليلة الأقارب، يريد بقوله قليلة كقول القائل: فلان قليل الحياء، ليس يريد أن هناك حياءً وإنْ قلّ، يضعون قليلاً في موضع ليس، وولَي العلاء الكلابي عملاً خسيساً، بعد أن كان على عمل جسيم، فقال: العُنُوقُ بعد النُّوقُ، قال: ونظر رجلٌ من العُبَّاد إلى بابِ بعض الملوك فقال:بابٌ جَديد، وموتٌ عَتيدُ ونَزْع شديد، وسفَر بعيد، وقيل لبعض العرب: أيَّ شيء تَمَنَّى، وأيُّ شيءٍ أحب إليك؟ فقال: لواءٌ منشور، والجلوسُ على السَّرير، والسَّلامُ عليك أيُّها الأمير، وقيل لآخر، وصلَّى ركعتينِ فأطالَ فيهما، وقد كان أُمر بقتله: أجزِعتَ من الموت؟ فقال: إن أجزَعْ فقد أَرَى كفناً منشوراً، وسَيفاً مشهوراً، وقبراً محفوراً، ويقال أن هذا الكلام تكلم به حُجْر بن عِديّ الكنديّ عند قتلهُ، وقال عبدُ الملك بن مروانَ لأعرابيّ: ما أطيَبُ الطعام؟ فقال: بَكرةٌ سَنِمةٌ، معتَبَطة غير ضَمِنة، في قدور رَذمةٍ، بشفار خَذِمةٍ، في غداة شَبِمةٍ، فقال عبد الملك: وأبيك لقد أطْيَبْت، معتَبَطة: منحورة من غير داءٍ؛ يقال: اعُتبِط الإبلُ والغنمُ، إذا ذبحت من غير داءٍ، ولهذا قيل للدم الخالص: عَبيط، والعَبيط: ما ذُبح من غير عِلّة، غير ضَمِنة: غير مريضة، رذمة: سائلة من امتلائها، بِشِفارٍ خذِمة: قاطعة، غداة شبمة: باردة، والشَّبَم: البرد، وقالوا: لا تغترَّ بمناصحة الأمير، إذا غشّك الوزير، وقالوا: من صادَقَ الكُتّابَ أغنَوْه، ومَن عاداهم أفقروه وقالوا:اجعلْ قولَ الكذَّابِ ريحاً، تكن مستريحاً، وقيل لعبد الصّمد بن الفضل بن عيسى الرقاشي: لِمَ تؤثرُ السَّجع على المنثور، وتلزمُ نفسَك القَوافِيَ وإقامةَ الوزن؟ قال: إنَّ كلامي لو كنتُ لا آمُلُ فيه إلاّ سماع الشاهد لقلّ خلافي عليك، ولكنَّي أريد الغائبَ والحاضر، والراهن والغابر؛ فالحفظُ إليه أسرع، والآذان لسماعه أنشَط؛ وهو أحقُّ بالتقييد وبقلّة التَّفلُّت، وما تكلَّمَتْ به العربُ مِن جيِّد المنثور، أكثرُ ممّا تكلمت به من جيِّد الموزون، فلم يُحفظْ من المنثور عُشرُه، ولا ضاع من الموزون عُشره، قالوا: فقد قيل للذي قال: يا رسول اللَّه، أرأيتَ مَن لا شرِب ولا أكل، ولا صاح واستهلّ، أليس مثلُ ذلك يُطَلّ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : أسَجْعٌ كسجع الجاهليَّة، قال عبد الصَّمد: لو أن هذا المتكلِّم لم يُرد إلاّ الإقامة لهذا الوزن، لما كان عليه بأسٌ، ولكنَّه عسى أن يكون أراد إبطالَ حقٍّ فتشادَقَ في الكلام، وقال غيرُ عبد الصمد: وجدْنا الشِّعرَ: من القصيدِ والرجز، قد سمعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فاستحسنه وأمر به شعراءه، وعامَّةُ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد قالواشعراً، قليلاً كان ذلك أم كثيراً، واستَمعوا واستنشَدوا، فالسجع والمزدوج دون القصيد والرجز، فكيف يحلُّ ما هو أكثر ويحرمُ ما هو أقلُّ، وقال غيرهما: إذا لم يطُلْ ذلك القول، ولم تكن القوافي مطلوبةً مجتلَبة أو ملتمسةً متكلَّفة، وكان ذلك كقول الأعرابيِّ لعامل الماء: حُلِّئَتْ ركابي، وخُرِّقت ثيابي، وضُربت صِحابي، - حُلِّئت ركابي، أي مُنِعَت إبلي من الماء والكلأ، والركاب: ما ركب من الإبل - قال: أَوَ سَجْعٌ أيضاً؟، قال الأعرابي: فكيف أقول؟ لأنّه لو قال: حُلِّئتْ إبلي أو جمالي أو نُوقي أو بٌعْراني أو صِرْمَتي، لكان لم يعبّر عن حَقِّ معناه، وإنّما حُلِّئت ركابهُ، فكيف يَدَعُ الرِّكاب إلى غير الركاب، وكذلك قوله: وخُرِّقت ثيابي، وضربت صِحابي، لأنّ الكلامَ إذا قلَّ وقَعَ وُقوعاً لا يجوز تغييره، وإذا طال الكلامُ وجدْتَ في القوافي ما يكون مجتَلَباً، ومطلوباً مستَكرَهاً، ويُدْخَل على مَن طعن في قوله: "تَبَّت يَدَا أبي لَهَبٍ" المسد:1 وزعم أنّه شعر؛ لأنه في تقدير مستفعلن مفاعلن، وطعن في قوله في الحديث عنه:

هل أنت إلاّ إصبعٌ دمِيتِ

 

وفي سبيل اللَّه ما لقِيتِ

فيقال له: اعلمْ أنّك لو اعترضْتَ أحاديثَ النّاس وخطبَهم ورسائلَهم، لوجَدْتَ فيها مثلَ مستفعِلين مستفعِلن كثيراً، ومستفعلُنْ مفاعِلُن، وليس أحدٌ في الأرض يجعلُ ذلك المقدارَ شعراً، ولو أَنَّ رجُلاً من الباعة صاح: مَن يشتري باذنجان؟ لقد كان تكلمَ بكلامٍ في وزن مستفعلن مفعولات، وكيف يكون هذا شعراً وصاحبه لم يقصِدْ إلى الشِّعر؟ ومثلُ هذا المقدار من الوزن قد يتهيَّأُ في جميع الكلام، وإذا جاء المقدارُ الذي يُعلم أنّه من نتاج الشِّعر والمعرفةِ بالأوزان والقصدِ إليها، كان ذلك شِعراً،وهذا قريبٌ، والجواب سهلٌ بحَمد اللَّه، وسمعتُ غلاماً لصديق لي، وكان قد سقى بطنُه، وهو يقول لغِلمان مولاه: اذهبوا بي إلى الطَّبيب وقولوا قد اكتَوَى، وهذا الكلام يخرج وزنه على خروج فاعلاتن مفاعلن، فاعلاتن مفاعلن مرَّتين، وقد علمتَ أن هذا الغلام لم يَخْطُرْ على باله قطُّ أن يقول بيتَ شعرٍ أبداً، ومثلُ هذا كثيرٌ، ولو تتبعته في كلام حاشيتك وغِلمانك لوجَدتَه، وكانَ الذي كَرّه الأسجاعَ بعينها وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أَنَّ كُهَان العرب الذين كان أكثرُ الجاهلية يتحاكمون إليهم، وكانوا يدَّعون الكِِهانةَ وأنَّ مع كلِّ واحدٍ منهم رَئِيّاً من الجن مثل حازِي جُهينة، ومثل شقّ وسَطيح، وعُزَّى سَلِمِة وأشباهمُ، كانا يتكهَّنون ويحكُمون بالأسجاع؛ كقوله: والأرض والسَّماء، والعقابِ الصَّقْعاءُ، واقعةً ببقعاءُ، لقد نَفَّر المجدُ بني العُشَراءِ، للمجْد والسَّناء، وهذا الباب كثيرٌ، ألا ترى أن ضَمْرة بن ضَمرة، وهَرِم بن قُطْبة، والأقرع بنَ حابس، ونُفيل بن عبدِ العُزَّى كانوايحكُمون وينفِّرُون بالأسجاع وكذلك ربيعة بن حُذَار، قالوا: فوقع النَّهيُ في ذلك الدهر لُقرْب عهدهم بالجاهليَّة، ولبقيتَّها فيهم وفي صدورِ كثير منهم، فلما زالت العلّة زال التحريم، وقد كانت الخطباءُ تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكونُ في تلك الخُطب أسجاعٌ كثيرة، فلا ينهَوْنَهم، وكان الفضلُ بن عيسى الرّقاشيّ سجّاعاً في قصصه، وكان عَمرو بن عُبيد، وهشام بن حسَّان، وأبان بن أبي عيّاش،، يأتون مجلسه، وقال له داود بن أبي هند: لولا أنّك تفسِّر القرآنَ برأيك لأتيناك في مجلسك، قال: فهل تراني أحرِّم حلالاً، أو أُحلُّ حراماً؟ ،وإنًّما كان يتلو الآية التي فيها ذكر الجنَّة والنار، والموت والحشر، وأشباهُ ذلك، وقد كان عبد الصَّمد بن الفضل، وأبو العباس القاسم بن يحيى، وعامَّة قُصَّاص البصرةِ، وهم أخطبُ مِن الخطباء، يجلس إليهم عامَة الفقهاء، وقد كان النَّهي ظاهراً عن مرثيَة أميَّة بن أبي الصَّلت لقتلى أهل بدرٍ، كقوله: مجزوء الكامل

ماذا ببدرٍ بـالـعَـقَـنْ

 

قَلِ مِن مرَازِبَةٍ جَحاجِحْ

هَلاّ بكيتِ على الكـرام

 

بَني الكرامِ أولِي المَمَادحُْ

وروى ناسٌ شبيهاً بذلك في هجاء الأعشى لعلقمة بن عُلاَثَة، فلمَّا زالت العِلّة زال النَّهْي، وقال واثلةُ بنُ خليفة، في عبد الملك بن المهلَّب:

لقد صبرت للذُّلِّ أعوادُ مِنـبـرٍ

 

تقوم عليها، في يديك قضـيبُ

بكى المِنبر الغربيُّ إذْ قمتَ فوقَه

 

وكادَت مساميرُ الحديد تـذوبُ

رأيتُك لمّا شِبْتَ أدركَـكَ الـذي

 

يُصيب سَرَاة الأسْدِ حين تشـيبُ

سفاهةُ أحلامٍ وبـخـلٌ بـنـائلٍ

 

وفيك لمن عاب المُزونَ عيوبُ

قال: وخطب الوليدُ بن عبد الملك فقال: إنَّ أمير المؤمنين كان يقول: إنّ الحجَّاج جِلدَة ما بين عينَيَّ، ألاَ وإنَّه جِلدةُ وجهي كلِّه، وخطب الوليد أيضاً فذكر استعماله يزيد بن أبي مسلمٍ بَعد الحجَّاج، فقال: كنتُ كمن سقط منه درهمٌ فأصابَ ديناراً، شبيب بن شَيبة قال: حدَّثني خالدُ بن صفوانَ قال: خطبنا يزيدُ بن المهلَّب بواسط فقال: إنِّي قد أسمع قول الرَّعاع: قد جاء مَسلمة، وقد جاء العبَّاسُ، وقد جاء أهلُ الشام، وما أهلُ الشّامِ إلاّ تسعةُ أسيافٍ، سبعةٌ منها معي، واثنان منها عَلَيَّ، وأما مَسْلَمة فَجَرَادَةٌ صفراءُ، وأما العبَّاس فنسطوس بن نسْطوسُ،أتاكم في برابرة وصقالبة، وجرامقة وجَراجمة، وأقباط وأنباط، وأخلاط من النَّاس، إنما أقبل إليكم الفلاَّحون الأوباش كأشلاء اللُّجُم، واللَّه ما لَقُوا قوماً قطُّ كحدِّكم وحديدكم، وعَدِّكم وعديدكم، أعيروني سواعدَكم ساعةً من نهار تَصْفِقُون بها خراطيمَهمُ، فإنَّما هي غَدوةٌ أو رَوحةٌ حتى يحكمَ اللَّه بيننا وبين القومِ الفاسقين، ثم دعا بفرسٍ، فأُتَي بأبلق، فقال: تخليطٌ وربِّ الكعبة ثمّ ركب فقاتل فكثَرَهُ الناس فانهزم عنه أصحابه، حتَّى بقي في إخوته وأهله، فقُتِلَ وانهزم باقي أصحابه، وفي ذلك يقول الشاعر:

كل القبائل بايعوك على الـذي

 

تدعو إليه طائعـين وسـارُوا

حتى إذا حَمِيَ الوغَى وجعلتَهم

 

نَصْبَ الأسنَّة أسلمُوك وطاروا

إنْ يقتلوك فإنّ قتلك لـم يكـنْ

 

عاراً عليك وبعضُ قتلٍ عـارُُ

ومدح الشاعر بَشّارٌ، عُمَر هَزَارِ مَرْدُ العَتَكَيّ، بالخطب وركوبِه المنابر، بل رثاه وأبَّنه فقال:

ما بال عينك دمعُها مـسـكـوبُ

 

حُرِبَت فأنت بنومها مـحـروبُ

وكذاك مَن صَحِب الحوادث لم يَزَلْ

 

تأتي علـيه سـلامةٌ ونـكُـوبُ

يا أرضُ ويحَكِ أكرمِـيهِ فـإنَّـه

 

لم يَبْقَ للعَتَكـيِّ فـيكِ ضَـريبُ

أبهى على خَشَب المنابر قـائمـاً

 

يوماً وأحزمُ إذْ تُـشَـبُّ حـروبُُ

وقال: كان سَوَّار بن عبد اللَّه، أوّل تميميِّ خطب على مِنبر البصرة، ثم خطب عُبيد اللَّه بن الحسن، ووَليَ منبر البصرة أربعة من القضاة فكانوا قضاةً أُمراءَ: بلال بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ، وسَوَّار، وعُبَيد اللَّه، وأحمد بن أبي رباح، فكان بلالٌ قاضياً ابنَ قاضٍ ابنِ قاضٍ، وقال رؤبة:

فأنت يا ابنَ القاضيينِ قاضي

 

مُعْتزِمٌ على الطَّريق ماضيُ

قال أبو الحسَن المدائني: كان عُبيد اللَّه بن الحسن حيثُ وَفَدَ على المهديّ معزِّياً ومهنّئاً، أعدّ له كلاماً، فبلغه أنّ النَّاسَ قد أعجبهم كلامُه، فقال لشبيب بن شيبة: إنِّي واللَّه ما ألتَفِت إلى هؤلاء، ولكن سل لي أبا عبيد اللَّه الكاتبَ عنه، فسأله فقال: ما أحْسَنَ ماتكلّم به عَلَى أنه أَخَذَ مواعظ الحَسَن، ورسائل غيلان، فلقَّح بينهما كلاماً، فأخبره بذلك شبيب، فقال عُبيد اللَّه: لا واللَّه إن أخطأ حرفاً واحداً، وكان محمد بن سليمان له خطبةٌ لا يغيّرها، وكان يقول: إنَّ اللَّه وملائكتُه، فكان يرفع الملائكة، فقيل له في ذلك، فقال: خَرِّجوا لها وجهاً، ولم يكن يدعُ الرفع، قال: وصلّى بنا خزيمة يوم النحر، فخطب، فلم يُسْمَع من كلامه إلاّ ذِكرُ أمير المؤمنين الرشيد، وَوَليِّ عهده محمّد، قال: وكان إسحاقُ بن شِمْرٍ يُدارُ به إذا فَرَع المنبرُ قال الشعر:

أميرَ المؤمنينَ إليك نشـكـو

 

وإن كُنَّا نقُولُ بغـير عُـذرِ

غَفرتَ ذنوبَنا وعفوْتَ عـنَّـا

 

وليست منك أن تَعفو بنُكْـرِ

فإنَّ المنبرَ البصريَّ يشـكـو

 

على العِلاّتِ إسحاقَ بنَ شِمْرِ

أضَبِّيٌّ على خشَباتِ مَـلْـكٍ

 

كمُرْكِب ثعلبٍ ظهرَ الهِزَبرِ

وقال بعضُ شعراء العسكر، يهجو رجلاً من أهل العسكر:

ما زلتَ تركبُ كل شـيءٍ قـائمٍ

 

حتى اجترأتَ على ركوب المِنبرِ

ما زالَ منبرُك الذي دنَّـسـتَـه

 

بالأمس منك كحائضٍ لم تَطهُـرِ

فَلأَنظُرَنَّ إلى المنابـر كُـلِّـهـا

 

وإلى الأسِرّة باحتقار المنـظَـرِ

وقال آخر:

فما منبرٌ دنَّسته يا ابنَ أفْكَـلٍ

 

بِزاكٍ ولو طهَّرتَه بابن طاهرِ