باب أسجاع

عبد اللَّه بن المبارك، عن بعض أشياخه، عن الشَّعبي قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: البرُّ ثلاثة: المنطق، والنَّظر، والصَّمت، فمن كان منطقُه في غير ذكرٍ فقد لغا، ومَن كان نظَرهُ في غير اعتبار فقد سها، ومن كانَ صَمْتُه في غير فكرٍ فقد لَها، وقال عليُّ بن أبي طالب: أفضل العبادة الصمتُ، وانتظارُ الفرَج، وقال يزيد بن المهلَّب، وهو في الحبْس: وا لهفاه على طَلِيَّة بمائة ألف، وفَرْجٍ في جَبْهة أسدُ، وقال عمربن الخطاب رضي اللَّه عنه: استغزِوا الدُّموعَ بالتذكر، وقال الشاعر:

ولا يبعَثُ الأحزانَ مثلَ التذكّرِ

حفص بن ميمون قال: سمعت عيسى بن عمرُ يقول: سمعنا الحسن يقول: اقدَعُوا هذه النفوس فإنها طُلَعةٌ، واعصُوها؛ فإنّكم إن أطعتموها تنزعْ بكم إلى شرٍّ غاية، وحادِثُوها بالذِّكر، فإنَّها سريعة الدُّثور، اقدعوا: انهَوا، طُلَعَةٌ: أي تَطَلَّع إلى كلِّ شيء، حادثوا، أي اجلُوا واشحَذُوا، والدُّثور: الدُّروس، يقال: دَثر أثَرُ فلانٍ، إذا ذهب، كما يقال: دَرَس وعفا، قال: فحدَّثت بهذا الحديث أبا عمرو بنَ العلاء، فتعجَّب من كلامه، وقال الشاعر:

سمعنَ بِهيَجْا أوجَفَتْ فذكَرْنَـه

 

ولا يبعثُ الأحزانَ مثلُ التذّكرُِ

الوجيف: سير شديد؛ يقال: وجَف الفرسُ والبعير وأوجفته، ومثله الإيضاع، وهو الإسراع، أراد: بهيجا أقبلَتْ مسرعة، ومن الأسجاع قول أيُّوب بن القِرِّيَّة، وقد كان دُعِيَ للكلام واحتبس القولُ عليه؛ فقال: قد طال السَّهرَ، وسَقط القمر، واشتد المطر، فما يُنتَظَر، فأجابه فتىً من عبد القيس فقال: قد طال الأرَق، وسقط الشّفَق، وكثُر اللثَقُ، فلينْطِقْ من نَطَقَ، اللَّثق: النَّدَى والوحل، وقال أعرابيٌّ لرجلٍ: نحنُ واللَّه آكلُ منكم للمأدوم، وأكسب منكم للمعدوم، وأعطى منكم للمحروم، ووصف أعرابيٌّ رجلاً فقال: إنّ رِفدَك لنجيح، وإن خَيرك لسَريح، وإنّ مَنعك لمُريح، سَريحٌ: عَجِلٌ، ومريح: أي مريح من كدِّ الطلَب، وقال عبد الملك لأعرابي: ما أطيبُ الطعام؟ فقال: بَكْرَةٌ سَنِمة، في قُدور رَذِمةٍ، بشفارٍ خذِمةٍ، في غداةٍ شَبِمةٍ، فقال عبد الملك: وأبيك لقد أطْيَبت، وسئل أعرابيٌ فقيل له: ما أشدُّ البَرد؟ فقال: ريحٌ جِرْبِياء، في ظِلِّ عَمَاء، في غِبِّ سماء، ودعا أعرابيٌّ فقال: اللهم إنِّي أسألك البقاء والنَّماء، وطيبَ الإتاء، وحَطّ الأعداءِ، ورفعَ الأولياء، الإتاء: الرِّزق، قال: وقال إبراهيم النَّخَعي لمنصور بن المعتمر: سَلْ مسألةَ الحَمْقَى، واحفظ حفظَ الكَيْسَىُ، ووصفت عَمَّة حاجِزٍ اللِّصِّ حاجزاً، ففضلَّته وقالت: كان حاجزٌ لا يشبَع ليلةَ يُضَاف، ولا ينام ليلة يَخاف، ووصف بعضُهم فرساَ فقال: أقبَلَ بزُبْرة الأسد، وأدبَرَ بعجُز الذِّئب، الزُّبْرة: مَغرِر العُنق، ويقال للشَّعر الذي بين كتفيه، وصفَه بأنَّه محطوط الكَفَل، قال: ولمَّا اجتمَعَ النّاسُ، وقامت الخطباءُ لبيعة يزيدَ، وأظهر قومٌ الكراهةَ قام رجلٌ مِن عذرة يقال له يَزيد بن المقنَّع، فاخترَطَ من سيفه شِبراً ثم قال: أميرُ المؤمنين هذا - وأشار بيده إلى معاوية - فإن مات فهذا - وأشار بيده إلى يزيد - فمن أَبَى فهذا - وأشار بيده إلى سيفه، فقال له معاوية: أنت سيِّد الخطباء، قالوا: ولمّا قامت خطباءُ نزارٍ عند معاويةَ فذهبَتْ في الخُطَب كلَّ مذهب، قام صَبرَةُ بن شَيمْانَ، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّا حيٌّ فَعالٍ، ولَسنا حيَّ مقالٍ؛ ونحن نبلُغ بفَعالنا أكثَرَ من مَقَالِ غيرنا، قال: ولمَّا وفَدَ الأحنفُ في وجوه أهل البصرة إلى عبد اللَّه بن الزُّبير، تكلَّم أبو حاضر الأُسَيّديّ وكان خطيباً جميلاً، فقال له عبد اللَّه بنُ الزُّبير: اسكُتْ، فواللَّه لوَدِدتُ أنَّ لي بكلِّ عشرةٍ من أهل العراق رجلاً من أهل الشام، صَرْفَ الدِّينار بالدرهم، قال: يا أمير المؤمنين، إنّ لنا ولك مثلاً، أَفتأذَنُ في ذِكره؟ قال: نعم، قال: مثَلنا ومَثَلك ومثلُ أهلِ الشام، كقول الأعشى حيثُ يقول:

عُلِّقْتُها عرضاً وعُلِّـقَـتْ رَجُـلاً

 

غيري وعُلِّق أخرى غَيْرَها الرَّجُل

أَحَبّكَ أهلُ العراق، وأحببتَ أهل الشام، وأحبَّ أهلُ الشام عبدَ الملك بنَ مروان، عليّ بن مجاهد، عن حُميد بن أبي البَخْتريّ قال: ذَكَر معاويةُ لابن الزُّبير بيعةَ يزيد، فقال ابنُ الزبير: إنِّي أُناديك ولا أُناجيك، إنّ أخاكَ مَن صدَقك، فانظُرْ قبل أن تَقَدَّم، وتفكَّرْ قبل أن تندَّم؛ فإنَّ النَّظر قبل التقدُّم، والتفكرَ قبلَ التندم، فضحك معاويةُ ثم قال: تعلّمتَ أبا بكرٍ السِّجاعة عند الكِبَر، إنَّ في دونِ ما سجَعت به على أخيك ما يَكفيك، ثمَّ أخَذَ بيده فأجلسَهُ معه على السَّرير، أخبرنا ثُمامة بن أشرس، قال: لمَّا صَرفت اليَمانِية من أهل مِزَّة، الماءَعن أهل دِمَشق، ووجَّهوه إلى الصحارى، كتب إليهم أبو الهَيذام: إلى بني اسْتِها أهل مِزَّة، ليُمَسِّينّني الماء أو لتُصبّحنّكم الخيل، قال: فوافاهم الماءُ قبل أن يُعْتِمُوا، فقال أبو الهَيذام: الصِّدق يُنْبِي عنك لا الوعيد، وحدَّثني ثُمامة عن من قَدِم عليه من أهل دمشق قال: لما بايع الناسُ يزيدَ بنَ الوليد، وأتاه الخبرُ عن مروانَ بن محمد ببعض التلكُّؤ والتحبّس، كتب إليه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، مِن عبد اللَّه أميرِ المؤمنين يزيدَ بنِ الوليد، إلى مروانَ بن محمَّد، أمَّا بعد فإني أَراك تقدّم رجْلاً وتؤخِّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمِدْ على أَيِّهِما شئت، والسلام، وهاهنا مذاهبُ تدلُّ على أصالة الرّأي، ومذاهبُ تدلُّ عل تمام النَّفْس، وعلى الصَّلاح والكمال، لا أَرى كثيراً من النّاسِ يقفُون عليها، واستعمل عبدُ الملك بن مرْوان نافعَ بنَ علقمة بن نضلة بن صفوان بن مُحرِّث خالَ مروان، على مكّة، فخَطَب ذاتَ يومٍ وأبانُ بنِ عثمانَ بحذاء المِنبر، فشتم طلحةَ والزُّبَير، فلمّا نَزَل قال لأبان: أَرْضَيْتُك من المُدْهِنَينِ في أمير امؤمنين؟ قال: لا واللَّه ولكنْ سُؤتَني، حَسْبي أن يكونَا شَرِكَا في أمره، فما أدري أيُّهما أَحسنُ كلاماً: أَبان بن عثمانَ هذا، أَمْ إسحاق بن عيسى، فإنّه قال: أعِيذ عليّاً أَن يكون قَتل عثمان، وأعيذُ عثمان باللَّه أن يقتلَه عليٌّ، فمدح عليّاً بكلام سديدٍ غير نافر، ومقبولٍ غير وحشيّ، وذهب إلى معنى الحديث في قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : أَشدُّ أَهلِ النّار عذاباً مَن قتَلَ نبيّاً أو قتلَه نبيّ، يقول: لا يتَّفق أن قتلَه نبيٌّ بنفسه إلاّ وهو أشد خلق اللَّه معاندة وأجرؤُهم على معصية، وقال هذا: لا يجوز أَن يقتله عليٌّ إلاّ وهو مستحقٌّ للقتل،