باب ذكر أسماء الخطباء والبلغاءوالأبيناء وذكر قبائلهم وأنسابهم

كان التَّدبير في أسماء الخطباء وحالاتهم وأوصافهم أن نذكر أسماءَ أهل الجاهلية على مراتبهم، وأسماء أهل الإسلام على منازلهم ونجعَلَ لكلِّ قبيلة منهم خطباءَ، ونقسِّمَ أمورَهم باباً باباً، على حِدَته، ونقدِّم مَنْ قَدَّمه اللّه ورسوله عليه السلام في النّسب، وفضَّله في الحسب، ولكنِّي لَمَّا عجزَت عن نظمه وتنضيده، تكلَّفتُ ذِكرهم في الجملة، واللّه المستعانُ، وبه التوفيق، ولا حولَ و لا قوّة إلا به،كان الفضلُ بن عيسى الرَّقاشَيُّ من أخطب الناس، وكان متكلِّماً قاصَّاً مُجِيداً، وكان يجلس إليه عَمرو بن عُبيد، وهِشام بن حسَّان، وأبان بن أبي عَيّاش وكثيرٌ من الفقهاء، وهو رئيس الفَضْلِيَّة، وإليه يُنسبون، وخطب إليه ابنَته سوادةَ بنتَ الفَضْل، سليمانُ بنُ طَرْخانَ التيميّ، فزَوَّجه فولدت له المعتِمرَ بن سُليمان، وكان سليمانُ مبايناً للفَضْل في المقالة، فلما ماتت سَوادةُ شهِد الجنازَة المعتمر وأبوه، فقدَّما الفضل، وكانت الفضلُ لا يركب إلاّ الحمير، فقال له عيسى بنُ حاضر: إنّك لتُؤْثِر الحميرَ على جميع المركوب، فلِمَ ذلك؟ قال: لما فيها من المرافق والمنافع، قلت: مثل أي شيء؟ قال: لا تَستِبدلُ بالمكان على قدر اختلاف الزمان، ثم هي أقلُها داءً وأيسرُها دواء، وأسلَمُ صريعاً،وأكثر تصريفاً، وأسهَل مرتقًى وأخفضُ مهوًى، وأقلُّ جِماحاً، وأشهر فارهاً، وأقلُّ نظيراً، يزهى راكبُه وقد تواضَعَ بركوبه، ويكون مقتصداً وقد أسرفَ في ثمنه، قال: ونظر يوماً إلى حمارٍ فارهٍ تحت سَلْم بن قتيبة، فقال: قعِدةُ نَبّي وبِذْلة جَبَّار، وقال عيسى بن حاضر: ذهبَ إلى حمار عُزير، وإلى حمار المسيح، وإلى حمار بلعم، وكان يقول: لو أراد أبو سَيَّارة عُميلة بن أعْزَلَ، أن يدفع بالموسم على فرسٍ عربيّ، أو جَمل مٌهْرِيّ لفعل؛ ولكنّه ركِب عَيراً أربعين عاماً؛ لأنّه كان يتألّه، وقد ضرِب به المثلُ فقالوا : أصحُّ من عَيرِ أبي سيّار، والفضلُ هو الذي يقول في قصصه: سَلِ الأرض فقل: من شَقَّ أنهارَكِ، وغَرس أشجارَك، وجنَى ثمارَك؛ فإنْ لم تُجِبْك حِواراً، أجابتك اعتباراً، وكان عبدُ الصمد بنُ الفَضْل أغزَرَ من أبيه وأعجَبَ وأبيْنَ وأخطب، وقال: وحدّثني أبو جعفرٍ الصُّوفيُّ القاصُّ قال: تكلّم عبدُ الصمد في خَلْق البعوضة وفي جميع شأنها ثلاثَة مجالسَ تامّة، قال: وكان يزيدُ بن أبان، عمُّ الفضل بن عيسى بن أبان الرَّقاشي، من أصحاب أنَسٍ والحسن، وكان يتكلّم في مجلسِ الحسَن، وكان زاهداً عابداً، وعالماً فاضلاً، وكان خطيباً، وكان قاصّاً مُجيداً، قال أبو عبيدة: كان أبوهم خطيباً، وكذلك جدُّهم، وكانواخطباءَ الأكاسرة فلما سُبُوا ووُلد لهم الأولادُ في بلاد الإسلام وفي جزيرة العرب، نَزَعهم ذلك العِرْق، فقاموا في أهل هذه اللغة كمَقَامهم في أهل تلك اللُّغة، وفيهم شِعر وخُطَب، وما زالوا كذلك حَتَّى أصهرَ إليهمُ الغُرَباء ففَسد ذلكَ العِرْقُ ودخله الخَوَرُ، ومن خطباء إيادٍ قسُّ بن ساعدة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : رأيته بسوق عُكَاظ على جمل أحْمر وهو يقول: أيهُّا الناس اجتمِعُوا واسمَعو وعُوا، مَن عاش مات، ومَن ماتَ فَات، وكلُّ ما هو آتٍ آت، وهو القائل في هذه: آياتٌ محكمات، مطرٌ ونبات، وآباء وأمّهات، وذاهب وآت، ضوءٌ وظلام، وبِرٌّ وأَثَام، ولباسٌ ومَركَب، ومطعمٌ ومشرب، ونجوم تمور، وبحورٌ لا تغور، وسقفٌ مرفوع، ومِهادٌ موضوع، وليلٌ داجٍ، وسماء ذات أبراج، ما لي أرى النّاسَ يموتون ولا يرجعون، أَرَضُوا فأقاموا، أم حُبِسُوا فناموا، وهو القائل: يا معشَرَ إياد، أينَ ثمودُ وعاد، وأين الآباء والأجداد، أين المعروفُ الذي لم يُشكَر، والظُّلم الذي لم ينكر، أقسَمَ قُسٌّ قسماً باللَّه، إنَّ للَّه لَديناً هو أرضى له من دينكم هذا، وأنشدوا له: مجزوء الكامل

في الذّاهـبـين الأوَّلـي

 

نَ مِنَ القرونِ لنا بصائِرْ

لمــا رأيتُ مـــوارداً

 

للموت ليس لها مَصـادِرْ

ورأيتٌ قومي نـحـوَهـا

 

يَمضي الأصاغر والأكابرْ

لا يرجع المـاضـي ولا

 

يَبْقَى من الباقين غـابِـرْ

أيقَنتُ أنّـي لا مـحـالة

 

حيثُ صارَ القومُ صـائرْ

ومن الخطباء زيدُ بن عليِّ بن الحسين، وكان خالدُ بن عبد اللَّهِ أَقَرَّ عَلَى زيد ابن عليّ، وداودَ بن عليِّ، وأيُّوب بن سلمة المخزومي، وعَلَى محمد بن عمر بن عليِِّ، وعَلَى سعدِ بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف؛ فسأل هشامٌ زيداً عن ذلك فقال: أحلِفُ لك، قال: وإذا حلفْتَ أصدِّقُك؟ قال زيد: اتّق اللَّه، قال: أَوَمثلك يا زيد يأمُر بتقوى اللَّه؟ قال زيد: لا أحد فوق أن يُوصَى بتقوى اللَّه، ولا دونَ أن يُوصِيَ بتقوى اللَّه، قال هشام: بلَغني أنّك تُريد الخِلافة، ولا تصلُح لها؛ لأنّك ابنُ أمَة، قال زيد: فقد كان إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ابنَ أمةٍ، وإسحاقُ عليه السلام ابنَ حُرّة، فأخرَجَ اللَّه من صُلب إسماعيل خيرَ ولدِ آدم محمداً صلى الله عليه وسلم ، فعندها قال له: قم، قال: إذَنْ لا تراني إلاّ حيثُ تكره ولما خرج من الدار قال: ما أحَبّ أحدٌ الحياةَ قطٌّ إلا ذَلَّ، فقال له سالم مولى هشام: لا يسمعَنَّ هذا الكلامَ منك أحد، وقال محمد بن عُمير: إنَّ زيداً لمّا رأى الأرض قد طُبِّقتِ جَوْراً، ورأى قِلَّة الأعوان وتَخاذُل الناس، كانت الشّهادةُ أحبَّ المِيتات إليه، وكان زيدٌ كثيراً ما يُنشِد: من السريع

شَرَّده الخـوفَ وأزرَى بـه

 

كذاك مَن يَكرَه حَرَّ الجِـلادْ

مُنْخَرق الخُفَّينِ يشكو الوَجَى

 

تَنكُبُه أطرافُ مَـرْوٍ حِـدَادْ

قد كان في الموت لـه راحةٌ

 

والموتُ حَتمٌ في رقاب العبادْ

قال: وكان كثيراً ما يُنشِد شِعر العبسيّ في ذلك:

إنّ المحكَّم ما لم يرتقب حَسـبـاً

 

أو يرهب السَّيف أوحدَّ القنا جَنَفا

مَن عَاذَ بالسيف لاقى فُرصةً عَجباً

 

موتاً على عَجَلٍ أو عاش منتصفاً

ولما بعث يوسف بن عمرِ برأس زيدِ، ونصر بن خزيمةِ، مع شَبّة بن عِقَالٍ، وكلَّفَ آل أبي طالبٍ أن يبرؤُوا من زيدٍ، ويقومَ خطباؤهم بذلك، فأوَّلُ مَن قامَ عبدُ اللَّه بن الحسن، فأوجَزَ في كلامه ثم جلس، ثم قام عبد اللَّه بن معاوية بن عبد اللَّه بن جعفر، فأطنب في كلامه، وكان شاعراً بيّناً، وخطيباً لَسِناً، فانصرف الناس وهم يقولون: ابنُ الطَيّار أخطبُ الناس فقيل لعبد اللَّه بن الحسن في ذلك، فقال: لو شئتُ أن أقولَ لقلت، ولكن لم يكن مقامَ سُرور، فأعجَبَ الناسَ ذلك منه، ومن أهل الدَّهاء والنَّكْراءِ، ومن أهل اللَّسَن واللَّقَن، والجوابِ العجيب، والكلام الفصيح، والأمثال السائرة، والمخارج العجيبة: هندُ بنتُ الخُسّ، وهي الزرقاء، وجُمعَةُ بنتُ حابسِ، ويقال إن حابساً من إياد، وقال عامر بن عبد اللَّه الفزاريّ: جُمعَ بين هند وجُمعة، فقيل لجُمعة: أيُّ الرِّجال أحبُّ إليك؟ فقالت: الشّنِق الكَتَد، الظاهر الجَلَد، الشديدُ الجذْب بالمسَدِ، وقيل لهند: أيُّ الرّجال أحب إليك؟ قالت: القريب الأمَد، الواسع البلَد، الذي يُوفَد إليه ولا يَفِد، وقد سئلت هند عن حَرّ الصيف وبرد الشتاء، فقالت: من جعل بُؤساً كأذى، وقد ضُرِب بها المثل، فمن ذلك قول ليلى بنتِ النَّضْر الشاعرة:

وكنزُ بنُ جُـدْعـانٍ دَلالةُ أُمُّـه

 

وكانت كبِنْت الخُسِّ أو هي أكبر

وقال ابنُ الأعرابيّ: يقال: بنت الخُسّ، وبنت الخُصِّ، وبنت الخُسْف وهي الزَّرقاء، وقال يونس: لا يقال إلاّ بنت الأخَسّ، وقال أبو عمرو بن العلاء: داهيتا نساءِ العرب هند الزرقاءُ، وعنزٌ الزرقاء، وهي زرقاءُ اليمامة، وقال البَقْطَريّ: قيل لعبد اللَّه بن الحسن: ما تقول في المِراء؟ قال: ما عسى أن أقولَ في شيءٍ يُفسد الصداقة القديمة، ويُحل العقدةَ الوثيقة، فإنَّ أقلَّ ما فيه أن يكون دُرْبَةً للمغالبة، والمغالبة من أمتَن أسباب الفتنة، إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما أتاه السَّائب بن صيفيّ فقال: أتعرفني يا رسول اللَّه؟ قال: كيف لا أعرف شريكي الذي كان لا يُشاريني ولا يماريني، قال: فتحوَّلْتُ إلى زيد بن علي فقلت له: الصمت خيرٌ أم الكلام؟ قال: أخْزَى اللَّه المساكَتة، فما أفسدها للبيان، وأجلَبَها للحَصَر، واللَّه لَلمُماراةُ أسرَعُ في هدم العِيّ من النَّار في يَبِيس العرفج، ومنَ السَّيل في الحَدُور، وقد عَرف زيدٌ أن المماراة مذمومة، ولكنه قال: المماراةُ على ما فيها أقلُّ ضرراً من المساكَتة التي تورث البُلْدةَ، وتحلُّ العُقدة، وتُفسِد المُنّة، وتورث عللاً، وتُولِّد أدواءً أيسَرُها العِيّ، فإلى هذا المعنى ذهَب زيد، ومن الخطباء: خالد بن سلمة المخزومي من قريش، وأبو حاضر، وسالم بن أبي حاضر، وقد تكلَّم عند الخلفاء، ومن خطباء بني أسيد: الحكم بن يزيد بن عمير، وقد رأس، ومن أهل اللسن منهم والبيان: الحجَّاج بن عمر بن يزيد، ومن الخطباء: سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أميةِ، قال: وقيل لسعيد بن المسيَّب: مَن أَبلغ النَّاس؟ قال: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقيل: ليس عن هذا نسألك، قال: معاوية وابنه، وسعيدٌ وابنه، وما كان ابنُ الزبير دونهم، ولكن لم يكن لكلامه طُلاَوة، فمن العجب أنّ الزبير قد ملأ دفاتر العلماء كلاماً، وهم لا يحفظون لسعيد بن العاص وابنه من الكلام إلاّ ما لا بال له، وكان سعيدٌ جواداً، ولم ينزع قميصَه قطُّ، وكان أسودَ نحيفاً، وكان يقال له عُكّة العَسلَِ، وقال الحطيئة:

سَعيدٌ فلا يَغْرُرْكَ قِلّةُ لحِمِهِ

 

تخدَّدَ عنهُ اللحمُ فهو صليبُ

وكان أوّل مَن خَشَّ الإبلَ في نفْس عَظْم الأنف، وكان في تدبيره اضطراب، وقال قائلٌ من أهل الكوفة:

يا ويلَنا قد ذهب الـولـيد

 

وجاءنا مجوِّعاً سـعـيدُ

ينقُص مِ الصّاعِ ولا يَزيد

 

 

قال: الأمراء تتحبّب إلى الرعية بزيادة المكاييل، ولو كان المذهبُ في الزِّيادة في الأوزان كالمذهب في زيادة المكاييل ما قصَّرُوا، كما سأل الأحنف عمر بن الخطاب الزيادةَ في المكاييل، ولذلك اختلفَتْ أسماءُ المكاييل، كالزِّيادي والفالج، والخالدي، حتّى صِرنا إلى هذا المُلْجَمِ اليوم، ثمَّ من الخطباء: عمرو بن سعيد، وهو الأشدق، يقال إن ذلك إنما قيل لتشادُقه في الكلام ، وقال آخرون: بل كان أفقمَ مائل الذّقَن، ولذلك قال عبيدُ اللَّه بن زيادٍ حين أهوى إلى عبد اللَّه بن معاوية: يَدَكَ عنِّي يالطيمَ الشيطان، ويا عاصيَ الرحمن، وقال الشّاعر:

وعمروٌ لطيم الجنِّ وابنُ محمّدٍ

 

بأسوأ هذا الأمر يلتبـسـانِ

ذُكر ذلك عن عَوانة، وهذا خلاف قول الشاعر:

تشادَقَ حتى مال بالقول شِدقهُ

 

وكلُّ خطيبٍ لا أبا لَكَ أشدق

وقال: وقد كان معاوية قد دَعا بهِ في غِلَمةٍ من قريش، فلما استنطَقَه قال: إنّ أوَّلَ كلِّ مركبٍ صعب، وإنّ مع اليوم غداً، وقال له: إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إنَّ أبي أوصَى إليَّ ولم يوصِ بي، قال: وبأيِّ شيءٍ أوصاك؟ قال: بألاّ يفقدَ إخوانُه منه إلاّ شَخصَهِ، قال: فقال معاوية عند ذلك: إنَّ ابن سعيدٍ هذا لأَشدق، فهذا يدلُّ عندهم على أنَّه إنما سمّي بالأشدق لمكان التّشادُق، ثم كان بعد عمرو بن سعيد، سعيدُ بنُ عمرِو بن سعيدٍ، وكان ناسباً خطيباً، وأعظمَ الناس كِبراً، وقيل له عند الموت: إنّ المريض ليستريح إلى الأنين، وإلى أن يصفَ ما به إلى الطبيب، فقال:

أجاليدُ مِن رَيب المَنُون فلا تَرى

 

على هالكٍ عيناً لنا الدهرَ تدمعُ

ودخَلَ على عبد الملك مع خطباء قريش وأشرافهم، فتكلّموا من قيام، وتكلمَ وهو جالس، فتبسَّم عبد الملك وقال: لقد رجوتُ عثرتَه، ولقد أَحْسَنَ حتَّى خفتُ عْثرتَه، فسعيد بن عمرو بن سعيد، خطيبٌ ابنُ خطيبٍ ابنِ خطيب، ومن الخطباء: سُهيل بن عمرو الأعلمَ أحد بني حِسْل بن مَعِيصَ وكان يُكنَى أبا يزيد، وكان عظيم القَدْر، شريف النَّفس، صحيحَ الإسلام، وكان عُمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول اللَّه، انزِعْ ثنيَّتَيهِ السُّْفْلَيين حتى يدلُعَ لسانُه فلا يقوم عليك خطيباً أبداً، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : لا أمثِّل فيمثِّل اللَّه بي وإن كنتُ نبيّاً، دعْهُ يا عمر فعسى أَن يقوم مقاماً تحمدُه، فلمَّا هاج أهلُ مكَّة عند الذي بلغَهم مِن وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: أيُّها الناس، إنْ يكن محمّدٌ قد مات فاللَّه حيٌّ لم يمت، وقد علمتم أنِّي أكثرُكمْ قَتَباً في بَرٍّ، وجاريةً في بحرِ، فأقِرُّوا أَميرَكم وأَنا ضامنٌ إن لم يَتِمَّ الأمرُ أَن أَردَّها عليكم، فسكن الناس، وهو الذي قال يوم خَرَجَ آذنُ عمر، وهو بالباب وعُيَينة بن حِصن، والأقرع بن حابس، وفلانٌ وفلان، فقال الآذِن: أَين بلال، أَين صُهيب، أَين سَلْمان، أَين عَمَّار؟ فتمعَّرت وجوهُ القوم، فقال سهيل: لِمَ تتمعَّرُ وجوهُكم؟ دُعُوا ودُعينا فأسْرَعُوا وأَبطأْنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر، لَمَا أَعدَّ اللَّه لهم في الجنة أَكثر، ومن الخطباء: عبد اللَّه بن عروة بن الزَّبير: قالوا: وكان خالد بن صفوانَ يشبَّه به، وما علمتُ أنَّه كان في الخطباء أحدٌ كان أجودَ خُطَباً من خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة، للذي يحفظه الناس ويدورُ على ألسنتهم مِن كلامهما، وما أعلم أنّ أحداً ولَّد لهما حرفاً واحداً، ومن النسّابين من بني العنبر ثم من بني المنذِر: الحنتَفُ بن يزيد نن جَعْوَنَة، وهو الذي تعرَّضَ له دَغْفل بن حنظلة العلامة عند ابن عامر بالبصرة، فقال له: متَى عهدُكَ بسَجَاحِ أمِّ صادر؟ فقال: ما لي بها عهدٌ منذُ أَضَلَّت أمَّ حِلْسٍ، وهي بعض أمّهات دَغْفل، فقال له: نَشَدْتُك باللَّه، أنحن كُنّا لكم أكَثرَ غزْواً في الجاهلية أم أنتُم لنا؟ قال: بل أنتم فلم تُفلحوا ولم تُنجحوا، غزانا فارسكم وسيّدُكم وابنُ سيّدكم، فهزمْناه مَرَّةً وأسرناه مرّة، وأخذْنا في فدائه خِدرَ أمه، وغزَانا أكثرُكُمْ غزواً، وأنبهُكُم في ذلك ذكراً، فأعرَجْناه ثم أرجَلناه، فقال ابن عامر: أسألكما باللَّه لَمَّا كففتُما، وكان عبد اللَّه بن عامر، ومُصعَب بن الزُّبير، يُحِبَّان أن يَعرِفا حالات الناس، فكانا يُغْرِيان بين الوجوه وبين العلماء، فلا جرَم أنّهما كانا إذا سبَّا أوجعا، وكان أبو بكر رحمه اللَّه أنسَبَ هذه الأمَّة، ثم معمر، ثم جُبير بن مُطعِم، ثم سعيد بن المُسَيَّب، ثمَّ محمد بن سعيد بن المسيب، ومحمدٌ هذا هو الذي نفَى آل عَنْكثة المخزوميِّينِ فرُفع ذلك إلى والي المدينة فجلده الحَدَّ، وكان ينشد:

ويَرْبوع بن عَنكثَةَ ابن أَرضِ

 

وأعتقَهُ هُبَيرةُ بعـد حـينِِ

يعني هُبيرةَ بن أَبي وهبٍ المخزوميّ من النّسابين العلماء: عتبة بن عُمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وكان من ذوي الرَّأْي والدَّهاء، وكان ذا منزلةٍ من الحجَّاج بن يوسفَ وعمرُ بن عبد الرحمن خامسُ خمسةٍ في الشَّرف، وكان هو الساعيَ بين الأَسْدِ وتميمٍ في الصُّلح، ومن بني حُرقوص: شُعبة بن القَلْعَم، وكان ذا لسانِ وجوابٍ وعارضة، وكان وَصَّافاً فصيحاً، وبنوه عبد اللَّه، وعُمر، وخالد كلُّهم كانوا في هذه الصِّفة، غير أنّ خالداً كان قد جمع مع اللَّسن والعلم، الحلاوةَ والظَّرف، وكان الحجَّاجُ بن يوسف لا يَصبِر عنه، ومن بني أُسَيِّد بن عمرو بن تميم، أبو بكر بن الحكم، كان ناسباً راوية شاعراً، وكان أحْلَى النَّاس لساناً، وأحسنَهم منطقاً، وأكثرَهم تصرُّفاً، وهو الذي يقول له رؤبة:

لقد خشيتُ أن تكون ساحرَا

 

راوية مَرّاً ومرّاً شاعـرَا

ومنهم مُعَلَّلُ بن خالد، أحد بني أنمار بن الهُجَيم، وكان نسَّابة علاّمة، راويَةً صَدُوقاً مقلَّد، وذُكِر للمنتجِع بن نَبْهانَ فقال: كان لا يجارى ولا يمارى، ومنهم من بني العَنْبر، ثم من بني عمرو بن جُندب:أبو الخنساء عبّاد بن كُسَيب، وكان شاعراً علاّمة، وراويةً نسَّابة، وكانت له حُرْمَةٌ بأبي جعفرٍ المنصور، ومنهم: عمرو بن خَوْلة، كان ناسباً خطيباً، وراوية فصيحاً، من ولد سَعيد بن العاصي، والذي أتى سعيد بن المسيَّب ليعلِّمه النّسب هو إسحاق بن يحيى بن طلحة، وكان يحيى بن عروة بن الزبير ناسباً عالماً، ضربه إبراهيم بن هشام المخزوميُّ والي المدينة حتّى مات، لبعض القول، وكان مصعبُ بن ثابت بن عبد اللَّه ناسباً عالماً؛ ومن ولده الزُّبيري عامل الرَّشيد على المدينة واليمن، ومنهم ثم من قريش: محمد بن حفص، وهو ابن عائشة، ويكنى أبا بكر، وابنه عبيد اللَّه، كان يجري مجراه، ويكنى أبا عبد الرحمن، ومن بني خُزَاعيِّ بن مازن: أبو عمرو وأَبو سفيان؛ ابنا العلاءِ بن عمَّار بن العُريان، فأمَّا أبوعمرو فكان أَعْلَمَ الناس بأمور العرب، مع صِحَّة سماعٍ وصِدق لسان، حدَّثني الأصمعيُّ قال: جلستُ إلى أبي عمرٍو عشرَ حِجَجٍ ما سمعتُه يحتجُّ ببيتٍ إسلاميّ، قال: وقالَ مَرّة: لقد كَثر هذا المحدَث وحَسُنَ حَتَّى لقد هَمَمت أن آمر فتيانَنا بروايته، يعني شعر جرير والفرزدق وأشباههما، وحدَّثني أبو عبيدة قال: كان أبو عمرو أعْلَمَ النّاس بالغريب والعربيّة، وبالقُرآن والشِّعر، وبأيام العرب وأيّام الناس، وكانت دارُه خلفَ دار جعفر بن سليمان، قال: وكانت كُتبه التي كَتَبَ عن العرب الفصحاء، قد ملأَتْ بيتاً له إلى قريبٍ من السقف، ثم إنّه تقرّأ فأحرقها كُلَّها، فلمّا رجع بَعدُ إلى علمه الأوّل لم يكن عنده إلاّ ما حفِظه بقلبه، وكانت عامّةُ أخباره عن أعرابٍ قد أدركوا الجاهلية، وفي أبي عمرو بن العلاء يقول الفرزْدَق:

ما زلت أفتحُ أبواباً وأُغلقهـا

 

حتَّى أتيتُ أبا عمرِو بنَ عمَّارِِ

قال: فإذا كان الفرزدق وهو راويَةُ النّاس وشاعرُهم وصاحبُ أخبارهم، يقول فيه مثلَ هذا القول، فهو الذي لا يُشَكُّ في خطابته وبلاغته، وقال يونس: لولا شعر الفرزدق لذهب نِصف أخبار الناس، وقال في أبي عمرٍو مكّيُّ بن سَوادة:

الجامعُ العلمِ ننسَاه ويحفـظـه

 

والصادقُ القولِ إن أندادُه كذَبُوا

وكان أبو سفيانَ بن العلاءِ ناسباً، وكلاهما كُناهُما أسماؤهُما، وكذلك أبو عمرو بن العلاء بن لَبيد، وأبو سفيان بن العلاء بن لَبيد التغلبيّ، خليفة عيسى بن شَبيبٍ المازنيّ على شُرَط البصرة، وكان عَقيلُ بن أبي طالبٍ ناسباً عالماً بالأمّهات، بيِّن اللسان سَديدَ الجواب، لا يقوم له أحد، وكان أبو الجهم بن حُذيفة العدويّ ناسباً شديد العارضة، كثير الذِّكر للأمَّهات بالمَثالب، ومن رؤساء النّسَّابين: دَغْفَل بن حنظلة، أحد بني عمرو بن شيبان، لم يدرك الناس مثلَه لساناً وعِلماً وحِفظاً، ومن هذه الطبقة زيد بن الكَيِّس النّمَريُّ، ومن نسَّابي كلبٍ: محمّد بن السائب، وهشام بن محمد بن السائب، وشَرقيُّ ابن القُطَاميّ، وكان أعلاهم في العلم ومَن ضُرب به المثل، حمّادَ بن بشر، وقال سِمَاكٌ العِكرميّ:

فسائِلْ دَغفلاً وأخا هلال

 

وحمّاداً يُنَبُّوك اليَقـينـا

وقد ذكرنا دَغْفَلاً، وأخو هلال هو زيد بن الكيِّس، وبنو هلالٍ: حيٌّ من النَّمر ابن قاسط، وقال مِسكين بن أنَيف الدَارِميّ في ذلك:

وعند الكيّس النَّمَرِيّ علـمٌ

 

ولو أمسى بمنُخَرَق الشَّمالِِ

وقال ثابتُ قطنة:

فما العِضّانِ لو سُئِلا جمـيعـاً

 

أخو بكر وزيدُ بنـي هـلالِ

ولا الكلبيُّ حمَّادُ بـن بِـشـرٍ

 

ولا من فَاد في الزمن الخواليِ

وقال زيادٌ الأعجم:

بل لو سألتَ أخا ربيعة دَغفلاً

 

لوجدتَ في شَيبانَ نسبة دَغفلِ

إن الأَحاينَ والذين يَلُـونـهـم

 

شَرٌّ الأنام ونَسلُ عبدٍ الأَغْرَلِ

يهجو فيها بني الحَبْناء، ومنهم: أبو إياسٍ النصري،وكان أنسبَ الناس، وهوالذي قال: كانوا يقولون: أشعر العرب أبو دُوادٍ الإياديّ، وعدِيّ بن زيدٍ العِباديّ، وكان أبو نوفل بن أبي عقرب، علاّمة ناسباً خطيباً فصيحاً، وهو رجلٌ من كنانة، أحد بني عُرَيج، ومن بني كنانةَ ثم من بني لَيث، ثم من بني الشُِّدَّاخِ: يزيد بن بكر بن دأب، وكان يزيدُ عالماً ناسباً، وراويةً شاعراً، وهو القائل:

اللَّه يعلم في عليٍّ علمَـه

 

وكذاك علمُ اللَّه في عثمانِ

وولدَ يزيدُ يحيى وعيسى، فعيسى هو الذي يُعْرف في العامَّة بابن دأبٍ، وكان من أحسن الناس حديثاً وبياناً، وكان شاعراً راوية، وكان صاحبَ رسائلَ وخطبٍ، وكان يُجِيدُهما جِدّاً، ومن آل دأبٍ: حذيفة بن دأبٍ، وكان عالماً ناسباً، وفي آل دأب علمٌ بالنّسَب والخبر، وكان أبو الأسود الدؤلي، واسمه ظالم بن عمرو بن جندل بن سفيان، خطيباً عالماً، وكان قدجمع شِدَّةَ العقل وصواب الرأْي وجودةَ اللسان، وقولَ الشِّعرِ والظَّرفَ، وهو يُعَدّ في هذه الأصناف، وفي الشِّيعة، وفي العُرْجان، وفي المفاليج، وعلى كلِّ شيءٍ من هذا شاهدٌ سيقع في موضعه إن شاء اللَّه تعالَى، وقال الخُسُّ لابنته هند: أريد شراءَ فحلٍ لإبلي، قالت: إن اشتريتَه فاشتَرِه أسجَح الخدين، غائر العينين، أرقَبَ، أحزَم أعكَى، أكْوَمَ: إنْ عُصِيَ غَشَم، وإن أُطيع تَجَرْثَم، وهي التي قالت لمّا قيل لها: ما حملكِ على أنْ زنيتِ بعبدك؟ قالت: طول السِّواد، وقرب الوِساد، السِّواد: السِّرار، أسجَح: سَهْلٌ واسع، يقال: ملكتَ فأسجِحْ، أرقَب: غليظ الرَّقبة، أحْزَم: منتفخ المَحْزِم، أعكى: العُكْوة مَغرِز الوركين في المؤخّر، تصفه بشِدَّة الوركين، إن عُصَي غَشم: إنْ عصته النَّاقةُ غصبَها نفسَها، تجرثَمَ: أي بَقِي، مأخوذٌ من الجرثومة، وهي الطين والتّرابُ يُجْمَع حول النخلة، ليقوِّيَها، تصفه بالصَّبْر والقوَّة على الضِّراب، أكوَم: عظيم السنام، وقال الشاعر:

ويَفهمُ قولَ الحُكل لو أنّ ذرّةً

 

تُساودُ أخرى لم يفته سِوادُها

يقال: في لسانه حُكلة، إذ كان شديدَ الحُبسة مع لثَغ، قالوا: وعاتب هشامُ بن عبد الملك زيدَ بن علي، فقال له: بلغني عنك شيءٌ، قال: يا أمير المؤمنين، أحلف لك؟ قال: وإذا حلفتَ لي أصدِّقك؟ قال: نَعم، إنّ اللَّه لم يرفَع أحداً فوقَ أَلاّ يَرضى به، ولم يَضع أحداً دون ألاّ يُرضى منه به، وكان زِياد بن ظَبْيان التيميّ العائشيّ خطيباً، فدخل عليه ابنه عبيد اللَّه، وهو يَكيدُ بنفْسه، فقال له ألا أُوصِي بك الأمير، قال: لا، قال: ولم؟ قال: إذا لم يكن للحيِّ إلاّ وصيّة الميِّت فالحيّ هو الميّت، وكان عُبيد اللَّه أفتكَ النّاس، وأخطبَ الناس، وهو الذي أتى باب مالك بن مِسْمَعٍ ومعه نارٌ، ليحرِّق عليه دارَه،وقد كان نابه أمرٌ فلم يرسلْ إليه قبلَ الناس؛ فأشرف عليه مالك فقال: مهلاً يا أبا مطر، فواللَّه إنْ في كنانتي سَهمٌ أنا به أوثقُ منِّي بك، قال: وإنك لتعُدُّني في كنانتك، فواللِّهِ لو قمت فيها لطُلْتها، ولوْ قعدتُ فيها لخرقتُها، قال مالك: مهلاً، أكثَرَ اللَّه في العشيرة مِثلَك قال: لقد سألْتَ اللَّه شططاً،ودخل عُبيد اللَّه على عبد الملك بن مروان، بعد أن أتاه برأسِ مصعبِ بن الزُّبير، ومعه ناسٌ مِن وجوه بكر بن وائل، فأراد أن يقعُدَ معه على سريره فقال له عبد الملك: ما بال الناس يزعُمون أنّك لا تُشبِه أباك؟ قال: واللَّه لأَنَا أشبَهُ بأبي من اللّيل بالليل، والغرابِ بالغراب، والماءِ بالماء، ولكن إنْ شئت أنبأتُك بمن لا يُشْبه أباه، قال: ومن ذاك؟ قال: مَن لم يولد لِتَمام، ولم تُنْضِجه الأرحام، ومَن لم يشْبه الأخوالَ والأعمام، قال: ومَن ذاك؟ قال: ابنُ عمِّي سُويد بن منجوف، قال عبد الملك: أَوَ كذلك أنت يا سُويد؟ قال: نعم، فلما خرجا من عنده أقبَلَ عليه سويدٌ فقال: وَرِيَت بك زنادي واللَّه ما يسرُّني أنك كنتَ نقصتَه حرفاً واحداً ممّا قلتَ له وأَنّ لي حَمْرَ النَّعمَ قال: وأنا واللَّه ما يسرُّني بحِلمك اليومَ عنِّي سُودُ النّعمَ، قال: وأتى عُبيد اللَّه، عتّابَ بنَ ورقاء، وعتّابٌ على أصبهان، فأعطاه عشرين ألفَ درهم، فقال: واللَّه ما أحسنْتَ فأحمدَك، ولا أسأتَ فأذمَّك، وإنك لأقرَبُ البعداء، وأبعد القُرَباء، قال: وقال أشيَمُ بن شَقيق بن ثور، لعُبيد اللَّه بن زياد بن ظَبْيان: ما أنت قائلٌ لربِّك وقد حملْتَ رأس مصعبِ بن الزُّبير إلى عبد الملك بن مروان؟ قال: اسكُت، فأنت يوم القيامة أخطبُ من صعصعة بن صُوحان إذا تكلّمت الخوارج، فما ظنُّكَ ببلاغةِ رجلٍ عبيدُ اللَّه بن زيادٍ يضرِب به المثل وإنما أردنا بهذا الحديث خاصّةً، الدلالةَ على تقديم صعصعة بن صُوحان في الخطب، وأدَلُّ من كلِّ دلالةٍ استنطاق عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه له، كان عُثمان بن عُروة أخطَبَ الناس، وهو الذي قال: الشكر وإنْ قلَّ، ثمنٌ لكلِّ نوالٍ وإن جَلَّ، وكان ثابتُ بن عبد اللَّه بن الزبير، مِن أَبْيَن الناس، ولم يكن خطيباً، وكان قَسامة بن زُهَير أَحد بني رِزام بن مازن، مع نُسْكه وزُهده ومنطقه، مِن أبْيَن النّاس، وكان يُعدَل بعامرِ بن عبد قيسٍ في زهده ومنطقه، وهو الذي قال: رَوِّحوا هذه القلوب تَعِ الذِّكْر، وهو الذي قال: يا معشرَ الناس، إنّ كلامَكم أَكثرُ من صمتكم، فاستعِينوا على الكلام بالصَّمت، وعلى الصواب بالفكر، وهو الذي كان رسولَ عُمرَ في البحث عن شأن المغيرة وشهادة أبي بَكْرة، وكان خالد بن يزيد بن معاوية، خطيباً شاعراً، وفصيحاً جامعاً، وجيِّدَ الرَّأَي كثيرَ الأدب، وكان أول من ترجم كتب النُّجوم والطِّبّ والكيمياء، ومن خطباء قريش: خالد بن سلمة المخزومي وهو ذو الشّفة، وقال الشاعر في ذلك:

فما كان قائلَهـم دَغْـفَـلٌ

 

ولا الحَيقَطانُ ولا ذو الشَّفَهْ

ومن خُطباء العرب: عُطارِد بن حاجب بن زُرارة، وهو كان الخطيبَ عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقال فيه الفرزدق بن غالب:

ومِنّا خطيب لا يُعابُ وحاملٌ

 

أَغرُّ إذا التفّت عليه المجامع

ومن الخطباء: عون بن عبد اللَّه بن عُتبة بن مسعود، وكان مع ذلك راوية ناسباً شاعراً، ولما رجع عن قول المُرجئة إلى قول الشيعة قال:

وأولَ ما نفارِق غيرَ شـكٍّ

 

نُفارق ما يقول المرجِئونـا

وقالوا: مؤمنٌ من أهل جَور

 

وليس المؤمنون بجائرينـا

وقالوا: مؤمن دمُه حـلالٌ

 

وقد حَرُمت دماءُ المؤمنينا

وكان حين هربَ إلى محمّد بن مروانِ في فَلِّ ابنِ الأشعَثِ ألزمه ابنَه يؤدِّبه ويقوِّمه، فقال له يوماً: كيف ترى ابنَ أخيك؟ قال: ألزمْتَني رجُلاً إن غبتُ عنه عَتَب، وإنْ أتيتُه حُجِبَ، وإن عاتبتُه غضب، ثم لزم عمرَ بنَ عبد العزيز، وكان ذا منزلةٍ منه، قالوا: وله يقول جرير:

يا أيُّها الرَّجلُ المرخي عمامـتَـه

 

هذا زمانكُ إنِّي قد مضى زمنـي

أبلغ خليفتـنـا إن كـنـتَ لاقِـيَهُ

 

أنِّي لدَى الباب كالمصفود في قَرَنِ

وقد رآك وُفُود الخافقَـين مـعـاً

 

ومُذْ وَليتَ أمورَ النّاس لم تَرَنـي

وكان الجارود بن أبي سبرة ويكنى أبا نوفل، من أبْيَن النّاس وأحسنهِم حديثاً، وكان راويةً علاّمةً، شاعراً مُفْلِقاً، وكان من رجال الشِّيعة، ولما استنطَقَه الحجَّاجُ قال: ما ظننتُ أن بالعراق مثلَ هذا، وكان يقول: ما أمكنني والٍ قطُّ من إذْنه إلاّغلبتُ عليه، ما خلا هذا اليهوديّ - يعني بلالَ بن أبي بُردةِ - وكان عليه متحامِلاً، فلما بلَغَه أنه دُهِقَ حتى دُقَّت ساقهِ، وجُعِل الوتَر في خُصيَيْه، أنشأ يقول:

لقد قَرَّ عَينِـي أنَّ سـاقَـيه دُقَّـتَـا

 

وأًَن قُوَى الأوتار في البيضة اليسرى

بَخِلْتَ وراجعتَ الخـيانةَ والـخـنـا

 

فيَسّرك اللَّه المقدَّسُ لـلـعُـسْـرَى

فما جِذْعِ سَوءٍ خرَّبَ السُّوسُ جَوفَـه

 

يُعالُجه النَّجَّار يُبرَى كمـا تُـبـرَى

وإنَّما ذكر الخُصية اليسرى لأنَّ العامَّة تقول: إن الولد منها يكون، ومن الخُطباء الذين لا يُضاهَون ولا يُجارَون: عبد اللَّه بن عبَّاس، قالوا: خطبَنا بمكة، وعثمانُ محاصَرٌ، خُطبةً لو شهدَتْها التُّركُ والدَّيلمُ لأسَلمَتا، قال: وذكره حسَّانُ بن ثابت فقال:

إذا قال لم يترك مـقـالاً لـقـائل

 

بملتقَطاتٍ لا تَرى بينها فَـضْـلا

كفَى وشفى ما في النفوس ولم يَدَعْ

 

لذي إرْبةٍ في القولِ جِدّاً ولا هزلا

سموتَ إلى العَليا بغـير مَـشـقّة

 

فنلت ذُراها لا دَنـيّاً ولا وَغْـلا

وقال الحسنُ: كان عبدُ اللَّه بنُ عبّاسٍ أوَّلَ من عَرَّف بالبصرة، صعِد المنبر فقرأ البقَرة وآل عمران، ففسَّرهما حرفاً حرفاً؛ وكان واللَّه مِثَجّاً يَسِيل غَرْباً، وكان يسمَّى البَحر وحَبر قُريش، وقال فيه النبيّ : اللهُمَّ فقِّهه في الدِّين، وعلِّمْه التأويل، وقال عمر: غُضْ غَوَّاصُ، ونظر إليه يتكلم فقال:

شِنشِنَةٌ أعرِفها من أخزمِ

الشعر لأبي أخزَمَ الطائي، وهو جَد أبي حاتم طيّئ أو جدُّ جدّه، وكان له ابنٌ يقال له أخزَم، فمات وترك بنينَ فتوثّبُوا يوماً على جدهم أبي أخزمَ فأدمَوْه، فقال:

إنّ بَنِيَّ رَمَّلوني بـالـدَّمِ

 

شِنْشِنة أعرفُها من أخْزَمِِ

أي إنّهم أشبَهوا أباهم في طبيعته وخلُقه، وأحسبه كان به عاقّاً، هكذا ذكر ابنُ الكلبيّ، والشِّنشِنة مثل الطبيعة والسجيَّة، فأراد عمرُ رحمه اللَّه إنِّي أعرف فيك مَشابِهَ من أبيك، في رأيه وعقله، ويقال: إنّه لم يكن لقرشيٍّ مثلَُ رأي العبَّاس، ومن خُطباء بني هاشم أيضاً: داود بن عليِّ، ويكنَى أبا سليمان، وكان أنطَقَ النَّاسِ وأجودَهم ارتجالاً واقتضاباً للقول، ويقال: إنّه لم يتقدَّم في تحبير خطبةٍ قطُّ، وله كلامٌ كثير معروف محفوظ، فمن ذلك خطبته على أَهل مكّة: شكراً شكراً، أَمَا واللَّه ما خرجْنا لنحتَفِر فيكم نهراً، ولا لنبنيَ فيكم قصراً، أَظَنَّ عدوُّ اللَّه أَنْ لن نَظفَر به أَنْ أُرْخِي له في زمَامِه، حتى عثَر في فضل خِطَامِه؟ فالآن عاد الأمر في نِصابه، وطَلعت الشَّمسُ من مطلعِها، والآنَ أَخَذَ القوسَ بارِيها، وعادت النَّبلُ إلى النَّزَعة، ورجع الحقُّ إلى مستقَرّه، في أهل بيت نبيِّكم: أهلِ بيت الرَّأفة والرحمة، ومن خطباء بني هاشم: عبد اللَّه بن الحسن بن الحسن، وهو القائل لابنه إبراهيم أو محمد: أي بُنَيَّ، إني مؤدٍّ إليك حقَّ اللَّه في تأديبك، فأدِّ إليَّ حقَّ اللّه في حسن الاستماع، أي بُنَيَّ، كُفَّ الأذَى، وارفُض البَذَا، واستعِنْ على الكلام بطُول الفكر في المواطن التي تدعوك نفسُك فيها إلى القول؛ فإنّ للقول ساعاتٍ يضُّر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها الصواب، واحذَرْ مَشورةَ الجاهل وإن كان ناصحاً، كما تحذر مشورةَ العاقل إذا كان غاشّاً؛ يوشك أن يورّطَاك بمشورتهما، فيسبقَ إليك مَكرُ العاقل، وغَرارة الجاهل،قال الحسن بن خليل: كان المأمون قد استثقل سهلَ بن هارون، فدخل عليه سهلٌ يوماً والنّاسُ عندَه عَلَى منازلهم، فتكلَّم المأمونُ بكلامٍ فذهَبَ فيه كلَّ مذهب، فلمَّا فرغ المأمون من كلامه أقبل سهلُ بن هاروَن عَلَى على ذلك الجمعِ فقال: ما لَكم تسمعون ولا تَعُون، وتشاهدون ولا تَفْقَهُونَ، وتنظرون ولا تُبصِرون، واللَّه إنّه ليَفعلُ ويقول في اليوم القصير مثلَ ما فعل بنو مروان وقالوا في الدَّهر الطويل، عَرَبُكم كعجمهم، وعجمكُم كعَبيدهم، ولكن كيفَ يعرف الدّواء مَن لا يشعر بالدَّاء، قال: فرجع له المأمون بعد ذلك إلى الرَّأي الأوَّل، ومن خطباء بني هاشم ثم من ولد جعفر بن سليمان: سليمان بن جعفر والي مَكّة، قال المكّيّ: سمعتُ مشايخَنا من أهل مكّة يقولون: إنّه لم يَرِدْ عليهم أميرٌ منذُ عقَلوا الكلام إلاّ وسليمانُ أبيَنُ منه قادعاً، وأخطَبُ منه قائماً، وكان داودُ بن جعفرٍ إذا خطبَ اسحنْفَرَ فلم يردَّه شيء، وكان في لسانه شبيهٌ بالرُّثّة، وكان أيّوبُ فوقَ داودَ في الكلام والبيان،ولم تكن له مقاماتُ داودَ في الخُطَب، وقال إسحاق بن عيسى لداودَ بن جعفر: بلغني أنّ معاوية قال للنخّار بن أوس: ابْغِنِي محدِّثاًِ قال: ومعي يا أمير المؤمنين تَريد محدِّثاً؟ قال: نعم، أستريح منك إليه، ومنه إليك، وأنا لا أستريح إلى غير حديثك، ولا يكون صمتُك في حالٍ من الحالات أوفَقَ لي من كلامك، وكان إسماعيل بن جعفر، من أرقِّ الناس لساناً وأحسنِهم بياناً، ومن خطباء بني هاشم: جعفر بن حسن بن الحسن بن علي، وكان أحَدَ من ينازع زيداً في الوصية، فكان النّاس يجتمعون ليسمعوا مجاوباتِهما فقط، وجماعةٌ من ولد العبّاس في عصرٍ واحد، لم يكن لهم نُظَراءُ في أصالة الرأي وفي الكمال والجلالة، وفي العلم بقريشٍ والدّولة، وبرجال الدّعوة، مع البيان العجيب، والغَور البَعيد، والنفوس الشريفة، والأقدار الرفيعة؛ وكانوا فوقَ الخطباء، وفوق أصحاب الأخبار؛ وكانوا يَجِلُّون عن هذه الأسماء إلا أن يصِفَ الواصفُ بعضَهم ببعضِ ذلك، منهم عبد الملك بن صالح، قال: وسأله الرّشيدُ وسليمانُ بن أبي جعفرٍ وعيسى بن جعفرٍ شاهدان، فقال له: كيف رأيتَ أرضَ كذا وكذا؟ قال: مَسافي رِيح، ومنابت شِيح، قال: فأرضَ كذا وكذا، قال: هضابٌ حُمْر، وبِراث عُفْر، قال: حتَّى أتى على جميع ما أراد، قال: فقال عيسى لسليمان: واللَّه ما ينبغي لنا أن نَرضى لأنفسنا بالدُّون من الكلام، الهَضْبة: الجبل يَنبسط على الأرض، وجمعها هَضْبٌ، والبِرَاثُ: الأماكن الليِّنة السهلة، واحدها بَرْثٌ، وقوله عُفرٌ، أي حمرتُها كحمرة التُّراب، والظبي الأعفر: الأحمر؛ لأنّ حمرتَه كذلك: والعَفَر والعَفْر: التُّراب؛ ومنه قيل: ضَربه حَتَّى عفّره، أي ألحقه بالتَّراب، ومن هؤلاء: عبد اللَّه بن صالح، والعباس بن محمد، وإسحاق بن عيسى، وإسحاق بن سليمان، وأيوب بن جعفر، هؤلاء كانوا أعلَمَ بقريش وبالدّولة وبرجال الدعوة، من المعروفين برواية الأخبار، وكان إبراهيم بن السِّنْدِيّ يحدّثني عن هؤلاء بشيءٍ هو خلافُ ما في كتب الهيثم بن عديِّ وابن الكلبيّ، وإذا سمعتَه علمتَ أنّه ليس من المؤلَّف المزوَّر، وكان عبد اللَّه بن عليّ، وداود بن عليّ يُعدَلان بأُمَّةٍ من الأمم، ومن مواليهم: إبراهيم ونصر ابنا السّنديِّ، فأمَّا نصرٌ فكان صاحبَ أخبارٍ وأحاديثَ، وكان لا يعدو حديثَ ابنِ الكلبيّ والهيثمِ بن عدي، وأمَّا إبراهيم فإنَّه كان رجلاً لا نظير له: كان خطيباً، وكان ناسباً، وكان فقيهاً، وكان نحويّاً عَروضيّاً، وحافظاً للحديث، روايةً للشعر شاعراً، وكان فَخمَ الألفاظ شريفَ المعاني، وكان كاتب القَلَم كاتب العمَل، وكان يتكلم بكلام رؤبة، ويعمل في الخَراج بعمل زَاذَانَ فَرُّوخَ الأعور، وكان منجِّماً طبيباً، وكان من رؤساء المتكلِّمين، وعالماً بالدولة وبرجال الدَّعوة؛ وكان أحفَظَ الناس لما سمِع، وأقلَّهم نوماً وأصبَرَهم عَلَى السَّهر، ومن خطباء تميم: جَحْدَب، وكان خطيباً راوية، وكان قضى على جريرٍ في بعض مذاهبه، فقال جرير:

قَبَح الإله ولا يقـبِّـح غـيرَه

 

بَظْراً تفلّق عن مفارق جَحدبِ

وهو الذي كان لقيه خالدُ بن سلمة المخزوميَّ الخطيب الناسب، فقال: واللَّه ما أنتَ من حنظلةَ الأكرمِين، ولا سعدٍ الأكثرين، ولا عمرٍو الأشَدّين، وما في تميمٍ خيرٌ بعد هؤلاء، فقال له جَحْدَب: واللَّه إنّك لمن قريش، وما أنت من بيتها ولا نُبُوَّتها، ولا من شُورَاها وخلافتها، ولا من أهل سِدَانَتِها وسِقايتها، وهو شبيهٌ بما قال خالدُ بن صفوان، للعبدريّ؛ فإنه قال له: هَشَمتك هاشم، وأمَّتْك أُمَيّة، وخزمتْك مخزوم، وأنت من عَبد دارها، ومنتهى عارها، تَفتح لها الأبواب إذا أقبلَتْ، وتُغلقها إذا أدبرت، ومن ولَد المنذر: عبدُ اللَّه بن شُبرُمة بن طُفيل بن هُبيرة بن المنذر، وكان فقيهاً عالماً قاضياً، كان راويةً شاعراً، وكان خطيباً ناسباً، وكان لاجتماع هذه الخصال فيه يُشبَّه بعامرٍ الشَّعبيّ، وكان يُكْنى أبا شُبرُمة، وقال يحيى بن نوفلٍ فيه:

لما سألتُ النّاسَ أين المَكرُمَهْ

 

والعِزُّ والجُرثومةُ المُقَدَّمـه

وأين فاروقُ الأمورِ المحكَمهْ

 

تَتَابَعَ النّاسُ على ابن شُبرُمَه

وابن شُبرمة الذي يقول في ابن أبي ليلى:

وكيف تُرجَّى لفَصل القضاء

 

ولم تُصِبِ الحُكم في نفسكا

وتَزعُم أنّك لابن الـجُـلاحِ

 

وهيهات دعواكَ مِن أصلكا

قال: وقال رجلٌ من فقهاء المدينَة: مِن عندنا خرجَ العلم، قال: فقال ابن شبرمة: نَعم ثم لم يَرجعْ إليكم، قال: وقال عيسى بن موسى: دُلُّوني على رجلٍ أولِّيه مكانَ كذا وكذا، فقال ابن شبرمة: أصلح اللَّه الأمير، هل لك في رجلٍ إنْ دعوتموه أجابكم، وإن تركتموهُ لم يأتكم؛ ليس بالمُلحِّ طلباً، ولابالمُمْعن هرباً؟ وسُئِل عن رجلٍ، فقال: إنَّ له شَرَفاً وبيتاً وقَدَماً، فنظروا فإذا هو ساقط من السِّفلة، فقيل له في ذلك، فقال: ما كذبتُ، شرَفه أُذُناه، وقدمُه التي يمشي عليها، ولا بدَّ من أن يكون له بيتٌ يأوي إليه، قال أبو إسحاق: قد لعمري كَذَب، إنما هو كقول القائل حين سأله بعضُ من أراد تزويج حُرمته عن رجل، فقال: هو يبيع الدّوابّ، فلما نظروا في أمره وجدوه يبيع السنانير، فلما سئل عن ذلك قال: ما كذبتُ؛ لأنّ السّنَّور دابّة، قال أبو إسحاق: بل لعمري لقد كذب، هذا مثل قول القائل حين سُئل عن رجلٍ في تزويج امرأة فقال: رزين المجلس، نافذ الطّعنة، فحسِبوه سيِّداً فارساً، فنظروا فوجوده خَيّاطاً فسئل عن ذلك فقال: ما كذبت؛ إنّه لَطَويلُ الجلوس، جيَّد الطعن بالإبرة، قال أبو إسحاق: بل لعمري لقد كذب؛ لأنّه قد غرّهم منه، وكذلك لو سأله رجل عن رجل يريد أن يُسْلفه مالاً عظيماً، فقال: هو يملك مالاً ما كان يبيعه بمائة ألف ومائة ألف، فلمّا بايعه الرجل وجده مُعْدِماً ضعيف الحيلة، فلما قيل له في ذلك قال: ما كذبت؛ لأنه يملك عينيه وأذنيه وأنفه وشفتيه ويديه، حتى عدَّ جميع أعضائه وجوارحه، ومَن قال للمستشير هذا القولَ فقد غرّه، وذلك ما لا يحلَّ في دين، ولا يحسُن في الحُرِّيَة، وهذا القول معصيةٌ للَّه، والمعصيةُ لا تكون صِدقاً، وأدنَى منازلِ هذا الخبرِ أن لا يُسمَّى صدقاً، فأمَّا التسمية له بالكذب فإن فيها كلاماً يطول،  ومن الخطباء المشهورين في العوامّ، والمقدّمين في الخواص: خالد بن صفوان الأهتميّ، زعموا جميعاً أنه كان عند أبي العباس أمير المؤمنين، وكان من سمّارِه وأهل المنزلة عنده، ففخَر عليه ناسٌ من بَلْحارِث بن كعب، وأكثروا في القول، فقال أبو العباس: لِمَ لا تتكلَّم يا خالد؟ فقال: أخوال أمير المؤمنين وأهلُه، قال: فأنتم أعمام أميرالمؤمنين وعَصبَتُه فقُلْ، قال خالد: وما عَسى أن أقولَ لقومٍ كانوا بين ناسِجِ بُردٍ، ودابغ جِلدٍ، وسائِس قرد، وراكب عَرْدٍ؛ دلّ عليهم هُدهدٌ، وغرَّقتهم فأرة، ومَلَكتهم امرأَة، فلئن كان خالدٌ قد فكَّر وتدبّر هذا الكلامَ إنه للرَّاوية الحافظ، والمؤلِّف المُجيد؛ ولئن كان هذا شيئاً حَضَرَه حين حُرِّك وبُسِط فما لَهُ نظيرٌ في الدنيا، فتأمّلْ هذا الكلامَ فإنك ستجده مليحاً مقبولاً، وعظيمَ القَدْر جليلاً، ولو خَطب اليمانيُّ بلسان سحبانِ وائل حَوْلاً كَرِيتاً، ثمَّ صُكّ بهذه الفَقرة ما قامت له قائمة، وكان أذكَرَ النَّاس لأوّل كلامه، وأحفظَهم لكلِّ شيء سَلَف من منطقه، وقال مكّيّ بنُ سَوادةَ في صفته له:

عليمٌ بتنزيل الـكـلام مـلـقَّـنٌ

 

ذكـورٌ لـمـا سَـدّاه أوَّلَ أوَّلا

يبذّ قَريعَ القوم في كلِّ مَحْـفِـلٍ

 

وإن كان سحبان الخَطيبَ ودَغفلا

ترى خُطباءَ النّاس يوم ارتجالـه

 

كأنَّهم الكِـرْوانُ عـايَنَّ أجْـدَلا

الكِرْوان: جمع كَرَوان، وهو ذكر الحُبارَى، والأجدل: الصَّقْر، وكان يقارض شبيب بنَ شيبة؛ لاجتماعهما على القرابة والمجاورة والصِّناعة، فذكِر شبيبٌ مرَّةً عنده فقال: ليس له صديق في السِّرّ، ولا عدُوٌّ في العلانية، وهذا كلامٌ ليس يعرِف قدْرَه إلاّ الرّاسخون في هذه الصناعة، وكان خالدٌ جميلاً ولم يكُنْ بالطّويل، فقالت له امرأتُه: إنّك لجميلٌ يا أبا صفوان، قال: وكيف تقولين هذا وما فيَّ عمود الجمال ولا رداؤه ولا بُرنُسه، فقيل له: ما عَمود الجمال؟ فقال: الطُّول، ولستُ بطويل؛ ورداؤه البياض، ولست بأبيض؛ وبرنسه سواد الشّعر، وأنا أشمط؛ ولكن قُولي: إنَك لمليح ظريف، وخالدٌ يعد في الصُّلْعان، ولكلام خالدٍ كتابٌ يدور في أيدي الورَّاقين، وكان الأزهر بن عبد الحارث بن ضِرار بن عمرٍو الضبيّ، عالماً ناسباً، ومن خطباء بني ضَبّة: حنظلة بن ضِرار، وقد أدرك الإسلام وطال عُمره حتَّى أدرَك يومَ الجمل، وقيل له: ما بَقيَ منك؟ قال: أذكر القَديم وأنْسَى الحديث، وآرَقُ باللّيل، وأنامُ وسْطَ القوم، ومن خطباء بني ضبة وعلمائهم: مَثجُور بن غَيْلان بن خَرَشَةَ، وكان مقدَّماً في المنطق، وهو الذي كتب إلى الحجاج: إنّهم قد عَرَضوا عليّ الذَّهبَ والفِضّة، فما ترى أن آخُذَ؟ قال: أرى أن تأخذ الذّهَب، فذهب عنه هارباً ثم قتله بَعدُ، وذكره القُلاخُ بن حَزنٍ المِنْقَرِي فقال:

أمْثالُ مَثجورٍ قـلـيلٌ ومِـثـلُـه

 

فَتى الصِّدق إن صَفّقته كِل مَصْفَق

وما كنتُ أشرِيه بـدُنْـيا عـريضةٍ

 

ولا بابنِ خال بين غربٍ ومَشـرقِ

إذا قال بَذّ الـقـائلـين مـقـالُـهُ

 

ويأخُذُ من أكفائِهِ بـالـمُـخَـنَّـقِ

ومن الخطباء الخوارج، قَطَرِيُّ بنُ الفجاءةِ، وله خطبةٌ طويلة، مشهورة، وكلامٌ كثير محفوظ، وكانت له كنيتان: كنية في السَّلم، وهي أبو محمد؛ وكنية في الحرب وهي أبو نعامة، وكانت كنية عامر بن الطُّفَيل في الحرب غير كُنيته في السلم: كان يكنى في الحرب بأبي عَقيل، وفي السَّلم بأبي عليّ، وكان يزيد بنُ مَزْيدٍ يُكَنى في السَِّلم بأبي خالد، وفي الحرب بأبى الزُّبير، وقال مُسلم بن الوليد الأنصاريّ:

لولا سيوفُ أبي الزبير وخيلُه

 

نشَرَ الوليد بسيفه الضَّحّاكـا

وفيه يقول:

لولا يزيدُ وأيامٌ لـهُ سـلـفـت

 

عاشَ الوليد مع العاوين أعواماً

سَلّ الخليفةُ سيفاً من بني مَطَـرٍ

 

يَمضِي فيَخترق الأجسامَ والهاما

إذا الخِلافَةُ عُدَّتْ كنتَ أنت لهـا

 

عِزّاً وكانَ بنو العباس حُكّامـا

ألا تراه قد ذكَر قَتْلَ الوليد وقد كان خالدُ بن يزيدَ اكتَنى بها في الحرب، في بعض أيامه بمصر، وهذا البابُ مستقصىً مع غيره في أبواب الكُنَى والأسماء، وهو واردٌ عليكم إن شاء اللَّه، ومن خطباء الخوارج: ابن صُدَيقة، وهو القاسم بن عبد الرحمن بن صُدَيقة، وكان صُفْرِيّاً، وكان خطيباً ناسباً، ويَشُوب ذلك ببعض الظَّرف والهَزل، ومن علماء الخوارج: شُبَيْل بن عَزْرَة الصَبعيَّ، صاحب الغريب، وكانَ راوِيةً خطيباً، وشاعراً ناسباً، وكان سبعين سنةً رافضيّاً ثم انتقل خارِجياً صُفْرِيّاً، ومن علماء الخوارج: الضَّحاك بن قيس الشَّيباني، ويكنى أبا سَعيد، وهو الذي مَلكَ العراق، وسار في خمسين ألفاً، وبايعه عبد اللَّه بن عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن هشام، وصَلَّيا خلفه، وقال شاعرهم:

ألم تَرَ أنَّ اللَّـه أظـهـر دينـه

 

وصَلّت قريشٌ خلَف بكر بن وائل

وكان ابن عطاء الليثي يسامر الرشيد، وكان صاحبَ أخبار وأسمار وعلمٍ بالأنساب، وكان أظْرَفَ الناس وأَحلاهم، وكان عبد العزيز بن عبد اللَّه بن عامر بن كُرَيْز، راويةً ناسباً، وعالماً بالعربيّة فصيحاً، وكان عبد الأعلى بن عبد اللّه بن عامر مِن أبْيَن النَّاس وأفصحِهم، وكان مَسلَمة ابن عبد الملك يقول: إنِّي لأُنَحِّي كَورَ العِمامة عن أُذُنِي لأسمعَ كلام عبِد الأعلى، وكانوا يقولون: أشبه قريش نَغْمَةً وجهارة بعمرو بن سَعيد، عبدُ الأعلى بن عبد اللّه بن عامر، قال: وقال بعضُ الأمراء - وأظنُّه بلالَ بنَ أبي بُردة -لأبي نوفلٍ الجارودِ بن أبي سَبْرة: ماذا تصنعون عند عبد الأعلى إذا كنتم عِنده؟ قال: يشاهدنا بأحسن استماع، وأطْيَب حديث، ثم يأتي الطبّاخ فيمثُل بين يدَيه فيقول: ما عندك؟ فيقول: عندي لونٌ كذا وجديٌّ كذا، ودَجاجةٌ كذا، ومن الحلواءِ كذا، قال: ولِمَ يَسألُ عن ذلك؟ قال: ليُقْصِرَ كلُّ رجلٍ عمّا لا يشتهى، حتّى يأتيَه ما يشتهي، ثمَّ يأتون بالخِوان فيتضايق ونَتّسع، ويقصِّر ونجتهد، فإذا شبعنا خَوَّى تخوية الظَّليمَِّ، ثم أقبَلَ يأكل أكلَ الجائع المقرور، قال: والجارود هو الذي قال: سوءُ الخُلق يُفسِد العمل، كما يفسد الخَلُّ العسل، وهو الذي قال: عليكم بالمِرْبَد؛ فإنه يطرد الفِكَر، ويجلو البَصَر، ويجلب الخَبَر، ويجمع بين ربيعة ومُضَر، قال: وصعِد عثمانُ المنبر فأُرتِجَ عليه، فقال: إنَ أبا بكرٍ وعُمر كانا يُعِدَّان لهذا المقام مقالاً، وأنتم إلى إمامٍ عادلٍ أحوَجُ منكم إلى إمامٍ خطيب، وستأتيكم الخُطَب على وجهها، وتعلمون إن شاء اللَّه، قال: وشخص يزيدُ عمرَ بنِ هبيرةَ إلى هشام بن عبد الملك فتكلمَ، فقال هشام: ما مات مَن خَلّف هذا، فقال الأبرش الكلبيّ: ليس هناك، أَمَا تراه يَرشَح جبينُه لِضيق صدرِه قال يزيد: ما لذلك رَشَح ولكنْ لجلوسك في هذا الموضع، وكان الأبرشُ ثَلابة نسَّابة، وكان مصاحباً لهشامِ بن عبد الملك، فلمَّا أفضت إليه الخلافةُ سجد وسجد من كان عنده من جُلسائه، والأبرش شاهدٌ لم يسجُد، فقال له: ما مَنَعكَ أن تسجُدَ يا أبرش؟ قال: ولِمَ أسجُدُ وأنت اليومَ معي ماشياً، وغداً فوقى طائراً، قال: فإن طرتُ بك معي؟ قال: أتُراك فاعلاً؟ قال: نَعَم قال: فالآنَ طاب السُّجود، قال: ودخل يزيدُ بن عمر على المنصور وهو يومئذ أميرٌ، فقال: يا أيُّها الأمير، إنّ عهدَ اللَّه لا يُنكَث، وعَقدَه لا يُحلُّ، وإنّ إمارتَكم بكرٌ فأذِيقُوا الناسَ حلاوتَها، وجنِّبوهم مرارتها، قال سهلُ بن هارون: دخل قُطربٌ النحويُّ على المخلوع فقال: يا أمير المؤمنين، كانت عِدَتُك أرفَعَ من جائزتك - وهو يتبسّم - قال سهل: فاغتاظ الفضلُ ابن الربيع، فقلت له: إن هذا من الحَصَر والضّعف، وليس هذا من الجلَد والقوة، أما تراه يَفْتِل أصابعَه، ويرشَح جبينُه، قال: وقال عبدُ الملك لخالد بن سلَمة المخزوميّ: مَن أخطَبُ الناس؟ قال: أنا، قال: ثمّ من؟ قال: سيّد جُذَام - يعني رَوْح بن زِنباع - قال: ثم من؟ قال: أُخَيفِش ثَقيف - يعني الحَجَّاج - قال: ثم من؟ قال: أمير المؤمنين، قال: ويحكَ، جعلتَني رابع أربعةٍ، قال: نَعَم، هو ما سمعت،ومن خطباء الخوارج وعُلمائهم ورؤسائهم في الفُتْيا، وشعرائهم، ورؤساء قَعَدِهم: عِمران بن حِطّان، ومن علمائهم وشعرائهم وخُطبائهم: حَبيبُ بنُ خُدْرَةَ الهلاليّ، وعداده في بني شيبان، وممن كان يرى رأي الخوارج: أبو عبيدة النحويّ مَعْمَر بن المثنَّى، مولى تيم ابن مُرَّة، ولم يكن في الأرض خارجيٌّ ولا جَماعيٌّ أعلمَ بجميع العلم منه، وممن كان يرى رأيَ الخوارج: الهيثم بن عديّ الطائيّ ثم البحتريّ، وممن كان يرى رأى الخوارج: شُعيب بن رِئاب الحنفي، أبو بكّار، صاحب أحمد بن أبي خالد، ومحمد بن حسان السَّكْسَكيّ، ومن الخوارج مِن علمائهم ورؤسائهم: مسلم بن كُورِين، وكنيته أبو عبيدة وكان إباضيّاً، ومن علماءِ الصُّفْرية، وممن كان مَقنعاً في الأخبار لأصحاب الخوارج والجماعة جميعاً: مُلَيْل، وأظنُّه من بني تغلب، ومن أهل هذه الصفَة: أصفر بن عبد الرحمن، من أخوال طَوق ابن مالك، ومن خطبائهم وفقهائهم وعلمائهم: المقَعْطَِل، قاضي عسكر الأزارقة، أيام قَطَريّ، ومن شعرائهم ورؤسائهم وخطبائهم: عَبيد بن هلال اليشكري، وكان في بني السّمِين من بني شيبان، خطباءُ العرب، وكان ذلك فيهم فاشياً؛ ولذلك قال الأخطل:

فأيْنَ السَّمينُ لا يقومُ خطيبُها

 

أين ابن ذي الجَدَّينِ لا يتكلمَُِّ

وقال سُحيم بن حفص: كان يزيد بن عبد اللَّه بن رؤيم الشيبانّي من أخطب الناس، خطب عند يزيد بن الوليد، فأمَرَ للناس بعطاءين، ومن الخطباء مَعبد بن طَوقٍ العنبريّ، دخل على بعض الأمراء فتكلَّم وهو قائمٌ فأحسن، فلمَّا جلس تتعتَع في كلامه فقال له: ما أظرفَكَ قائماً، وأمْوَقَك قاعداً قال: إني إذا قمت جَدَدت، وإذا قعدتُ هَزَلت، قال: ما أحسَنَ ما خرجتَ منها، ومن خطباء عبد القيس: مَصقلة بن رقَبة، ورقبة بن مَصقْلة، وكرب بن رقبة، والعرب تذكر مِن خطب العرب العجوز وهي خطبةٌ لآلِ رَقَبة، ومَتى تكلُّموا فلا بدَّ لهم منها أو من بعضها، والعذراء وهي خطبة قيس بن خارجة لأنّه كان أبا عُذْرها، والشَّوهاء، وهي خطبة سحبانِ وائل، وقيل لها ذلك من حسْنها، وذلك أنَّه خَطَب بها عند معاوية فلم ينشد شاعرٌ ولم يَخطُبْ خطيبٌ، وكان ابن عَمّار الطائيُّ خطيبَ مَذحجَ كلِّها، فبلغ النّعمانَ حسنُ حديثه فحمله على منادمته؛ وكان النعمان أحمر العينين، أحمر الجِلد، أحمر الشّعْر، وكان شديد العَربدة قَتَّالاً للندماء، فنهاه أبو قُرْدُودةَ الطائيُّ عن منادمته، فلما قتله رثاه فقال:

إنِّي نهيتُ ابنَ عمَّارٍ وقلتُ لـه:

 

لا تأمنَنْ أحمَرَ العينينِ والشَّعَرَه

إنّ الملوكَ مَتَى تنزِلْ بساحَتهِـمْ

 

تَطرْ بنارك مِن نيرانهم شَـرَرَه

يا جفنةً كإزاء الحَوْضِ قد هدَموا

 

ومنطِقاً مثلَ وشي اليَمْنة الحِبَره

قال الأصمعيّ: وهو كقوله:

ومنطقٍ خُرِّق بالعَوَاسـل

 

لَذٍّ كَوَشي اليَمنْة المَرَاحِلِ

قال: وسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عمَرو بن الأهتم عن الزِّبرقان بن بدر، فقال: إنّه لمانع لحَوْزته، مطاع في أدْنَيْهِ، قال الزِّبرقان: إنّه يا رسول اللَّه لَيعلمُ منِّي أكثَرَ ممّا قال، ولكنه حَسَدني شَرفِي، فقصَّرَ بي، قال عَمروٌ: هو واللّه زَمِرُ المروءة، ضيِّق العَطَن، لئيم الخال، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في عينيه، فقال: يا رسول اللّه، رضيتُ فقلتُ أحسَنَ ما علمت، وغضِبْت فقلتُ أقبَحَ ما علمت، وما كذبْتُ في الأولى ولقد صدقْتُ في الآخِرة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : إنّ من البيان لسحراً، قال: وتكلَّم رجلٌ في حاجة عند عمرَ بن عبد العزيز، وكانت حاجتُه في قضائها مشقّة، فتكلّم الرجُلُ بكلامٍ رقيق موجَز، وتَأَتَّى لها، فقال عُمر: واللّه إنّ هذا لَلسِّحرُ الحلال،ومن أصحاب الأخبار والآثار أبو بكر بنُ عبد اللَّه بن محمد بن أبي سَبْرة، وكان القاضيَ قَبْلَ أبي يوسف، ومن أصحاب الأخبار: أَبو هُنَيدة وأبو نَعَامة، والعَدَويّان، ومن الخطباء: أيُّوب بن القِرِّيَّة، وهو الذي لما دخل على الحجاج قال له: ما أعددت لهذا الموقف؟ قال: ثلاثة حروف، كأنَّهنّ ركبٌ وقوف: دُنْيا وآخرةٌ ومعروف ثم قال له في بعض القَول: أقِلْني عَثرتي، وأسِغْني ريقِي؛ فإنه لا بُدَّ للجواد من كَبوة، وللسَّيف من نَبْوة، وللحليم مِن هفوة، قال: كَلاّ واللَّه حتّى أُورِدَكَ نارَ جهنّم، ألستَ القائل برُسْتَقاباد: تغَدَّوُا الجَدْيَ قبل أن يَتعشَّاكم؟ قال: ومن خطباء غطفان في الجاهليَّة: خُويلِد بن عَمرٍو، والعُشَراء بن جابر بن عقيل بن هلال بن سُمَيّ بن مازن بن فزارة، وخويلدٌ خطيب يوم الفِجار، ومن أصحاب الأخبار والنسب والخطب وأهل البيان: الوَضّاح بن خَيْثَمَة، ومن أصحاب الأخبار والنَّسبِ والخُطب والحُكم عند أصحاب النُّفُورات بنو الكَوَّاءِ، وإيَّاهُم يعني مسكين بن أُنَيفٍ الدارميّ، حين ذكر أهلَ هذه الطبَقة فقال:

كِلانا شاعرٌ من حَيِّ صـدقٍ

 

ولكن الرَّحَى فوقَ الثِّفـال

وحَكِّمْ دَغْفَلاً وارحـلْ إلـيهِ

 

ولا تُرِحِ المطيَّ من الكَلال

تعالَ إلى بني الكَوَّاءِ يقضوا

 

بِعِلْمِهِمِ بأنسـاب الـرِّجـالِ

هَلُمَّ إلى ابن مَذُعور شِهـاب

 

يُنَبِّي بالسَّوافل والعَـوَالِـي

وعند الكَيِّسِ النمري عـلـمٌ

 

ولو أضحى بمنخرَق الشَّمالِ

ومن الخطباء القدماء: كعبُ بن لُؤيٍّ، وكان يخطب على العرب عامّة، ويحضُّ كنانةَ على البرّ، فلما مات أكبرُوا موتَه، فلم تزل كنانةُ تؤرِّخ بموت كعب بن لُؤيٍّ إلى عام الفيل، ومن الخطباء العلماء الأَبْيناء، الذين جَرَوا من الخِطابة على أعْراقٍ قديمة: شبيب بن شيبة، وهو الذي يقول في صالح بن أبي جعفر المنصور، وقد كان المنصور أقام صالحاً فتكلّم، فقال شبيب: ما رأيتُ كاليوم أبْيَنَ بياناً، ولا أجودَ لساناً، ولا أربَطَ جَناناً، ولا أبَلَّ ريقاً، ولا أحسن طريقاً، ولا أغمضَ عُروقاً من صالح، وحُقَّ لمن كان أميرُ المؤمنين أباه، والمهديُّ أخاه، أن يكون كما قال زهير:

يطلُب شَأو امرَأينِ قَدّما حَسنـاً

 

نالا المُلُوك وبَذّا هذه السُّوَقـا

هو الجوادُ فإن يلحَقْ بشأوِهِما

 

على تكاليفه فمثلُه لَـحِـقـا

أو يَسْبِقاه على ما كان من مَهَلٍ

 

فمثلُ ما قدَّما مِن صالح سَبَقا

قال: وخرج شبيبٌ من دار الخليفة يوماً فقال له قائل: كيف رأيت الناس؟ قال: رأيت الداخل راجياً والخارج راضياً، قال: وقال خالد بن صفوان: اتّقُوا مَجانِيق الضُّعفاء، يريد الدعاء، قال: وقال شبيب بن شيبة: اطلب الأدب فإنّه دليلٌ على المروءة، وزيادةٌ في العقل، وصاحبٌ في الغُربة، وصِلَة في المجلس، وقال شبيبٌ للمهدي يوماً: أراك اللَّه في بَنِيكَ ما أرى أباكَ فيك، وأرى اللَّهُ بنيكَ فيك ما أراك في أبيك، وقال أبو الحسن: قال زيد بن عليّ بن الحسين: اطلب ما يعَنِيك واترُكْ ما لا يعنيك؛ فإنَّ في ترك ما لا يعنيك دَرَكاً لما يعنيك، وإنما تَقْدم على ما قدَّمت، ولست تقَدَم على ما أخّرت، فآثِرْ ما تلقاه غداً، على ما لا تراه أبداً، أبو الحسن، عن إبراهيم بن سعد قال: قال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللِّسان إلا صورةٌ ممثّلة، أو بهيمة مهمَلة، أبو الحسن قال: كان أبو بكر خطيباً، وكان عمر خطيباً، وكان عثمانُ خطيباً وكان عليٌّ أخطبَهم، وكان من الخطباء: معاوية، ويزيد، وعبد الملك، ومعاوية بن يزيد، ومروان، وسليمان، ويزيد بن الوليد، والوليد بن عبدالملك وعمر بن عبد العزيز، ومن خطباء بني هاشم: زيد بن علي، وعبد اللَّه بن الحسن، وعبد اللَّه بن معاوية، خطباءُ لا يُجارَوْنَ، ومن خطباء النُّسَّاك والعُبّاد: الحسن بن أبي الحسن البصريّ، ومطرِّف بن عبد اللَّه الحَرَشي، ومُوَرِّق العجلي وبكر بن عبد اللّه المزنيّ، ومحمد بن واسع الأزديّ، ويزيد بن أبان الرَّقاشي ومالك بن دينار السَّاميّ،وليس الأمر كما قال؛ في هؤلاء القاصُّ المُجيدُ، والواعظ البليغ، وذو المنطق الوجيز، فأمَّا الخطب فإنَّا لا نعرف أحداً يتقدَّم الحسنَ البصريَّ فيها، وهؤلاء وإن لم يُسَمَّوْا خطباءَ فإنّ الخطيب لم يكن يشُقُّ غُبارَهم، أبو الحسن قال: حدّثني أبو سليمان الحميريّ قال: كان هشام بن عبد الملك يقول: إنِّي لأستصفِقُ العمامة الرقيقة تكون على أذُني إذا كان عندي عبد الأعلى بن عبد اللَّه؛ مخافةَ أن يسقط عنّي من حديثه شيءٌ، ومن الخطباء من بني عبد اللَّه بن غُطفان: أبو البِلاد، كان راوية ناسباً ومنهم: هاشم بن عبد الأعلى الفَزَاريّ، ومن الخطباء: حفْص بن معاوية الغلابِيُّ وكان خطيباً، وهو الذي قال حين شركَ سليمانُ بن عليّ بينه وبين مولى له على دار القَتَبِ: أشركتَ بيني وبين غير الكفيّ،، وولَّيتني غير السنيّ، ومن بني هلال بن عامر: زُرْعة بن ضَمْرة، وهو الذي قيل فيه: لولا غلوٌّ فيه ما كان كلامه إلاّ الذّهب، وقام عند معاويةَ بالشَّام خطيباً فقال معاوية: يا أهل الشام هذا خالي فائتْوني بخالٍ مثلِه، وكان ابنُه النُّعمان بن زُرعة بن ضَمرة، مِن أخطب الناس، وهو أحدُ مَن كان تخلَّصَ من الحجاج من فَلِّ ابن الأشعث بالكلام اللطيف، وقال سُحيم بن حفص: ومن الخطباءِ عاصم بن عبد اللَّه بن يزيد الهلاليّ: تكلم هو وعبد اللَّه بن الأهتم، عند عمر بن هبيرة وعبد اللَّه بن هبيرة، ففضَّل عاصماً عليه، قال سحيم: فقال قائل يومئذ: الخلُّ حامضٌ ما لم يكنْ ماء، ومن خطباء بني تميم: عمرو بن الأهتم، كان يُدْعى المُكَحَّل لجماله؛ وهو الذي قيل فيه: إنّما شعره حُلَلٌ مُنَشَّرَة بين أيدي الملوك، تأخذ منه ما شاءت، ولم يكن في بادية العرب في زمانه أخطبُ منه، ومن بني مِنقر: عبد اللَّه بن الأهتم، وكان خطيباً ذا مقاماتٍ ووِفادات، ومن الخطباء: صفوان بن عبد اللّه بن الأهتم، وكان خطيباً رئيساً، وابنه خالد بن صفوان، وقد وَفَد إلى هشام، وكان من سُمّار أبي العبّاس، ومنهم: عبد اللَّه بن عبد اللّه ابن الأهتم، وقد ولِيَ خُراسانَ ووفد على الخلفاء، وخَطب عند الملوك، ومن ولده شبيب ابن شيبة بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأهتم، وعبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأهتم، وخاقان بن الأهتم هو عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأهتم، ومن خطبائهم: محمدٌ الأحول بن خاقان، وكان خطيبَ بني تميم، وقد رأيتُه وسمعت كلامه، ومن خطبائهم: مَعْمرُ بن خاقان، وقد وَفَد، ومن خطبائهم: مؤمَّل بن خاقان، وقال أبو الزُّبير الثَّقَفي: ما رأيتُ خطيباً من خطباء الأمصار أشبَهَ بخطباء البادية، من المؤمَّل بن خاقان، ومن خطبائهم: خاقان بن المؤمَّل بن خاقان، وكان صَبَاح بن خاقانَ، ذا علمٍ وبيانٍ ومعرفة، وشدّة عارضة، وكثرة رواية، مع سخاءٍ واحتمالٍ وصبر على الحقّ، ونصرةٍ للصَّدِيق، وقيامٍ بحقّ الجار، ومن بني مِنقر: الحكَم بن النَّضر، وهو أبو العلاء المِنقريّ؛ وكان يصرِّف لسانَه حيث شاء، بجهارةٍ واقتدار، ومن خطباء بني صَرِيم بن الحارث: الخَزْرَجُ بن الصُّدَيّ، ومن خطباء بني تميم ثم من مُقاعِس: عُمارة بن أبي سليمان، ومن ولد مالك ابن سعد: عبدُ اللَّه وجبر ابنا حبيب، كانا ناسبين عالمين أديبين ديِّنين، ومن ولد مالك بن سعد: عبد اللَّه والعبّاس ابنا رُؤبة، وكان العبّاس علاَّمةً عالماً، ناسباً راوية، وكان عبدُ اللَّه أرجزَ الناس وأفصحَهم، وكان يكنى أبا الشَّعثاء، وهو العجّاج، ومن أصحاب الأخبار والنسب: أبو بكرٍ الصِّدّيق، رحْمةُ اللَّه عليه، ثم جُبير ابن مُطعِم، ثم سعيد بن المسِيَّب، ثم قَتادة، وعبيدُ اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبةَ المسعوديّ الذي قال في كلمة له في عمر بن عبد العزيز، وعبد اللَّه بن عَمرِو بن عثمان بن عفّان:

مُسَّا تُرابَ الأرضِ منه خلقتُمـا

 

وفيه المعادُ والمصيرُ إلى الحشرِ

ولا تأنفَا أن ترجِعا فتُـسـلِّـمـا

 

فما خُشِيَ الإنسانُ شرّاً من الكِبْرِ

فلو شئتُ أَدلَى فيكما غيرُ واحـدٍ

 

عَلانيةً أو قال عندي فـي سِـرِّ

فإن أنا لم آمُرْ ولم أنهَ عنكـمـا

 

ضحكتُ له حتَّى يَلِجَّ ويَستشرِي

وهو الذي قيل له: كيف تقول الشِّعر مع النُّسك والفقه؟ فقال: إنّ المصدورَ لا يملك أن ينفِثَ، وقد ذكر المصدورَ أبو زُبيدٍ الطائيّ في صفة الأسد فقال:

للصَّدر منه عويلٌ فيه حَشرجَة

 

كأنّما هو من أحشاء مصدورِ

ومن خطباء هذيل: أبو المليح الهُذَليّ أسامةُ بن عمير، ومنهم: أبو بكرالهُذَلي، كان خطيباً قاصّاً، وعالماً بيّناً، وعالماً بالأخبار والآثار، وهو الذي لما فاخر أهلَ الكوفة قال: لنا السَّاج والعاج، والدِّيباج والخَراجُ، والنهر العجَّاج،