كانت العرب تخطب بالمخاصر، وتعتمد على الأرض بالقسِيّ، وتشير بالعِصيّ والقَنا، نَعَمْ حتَّى كانت المخاصر لا تفارق أيدِيَ الملوك في مجالسها، ولذلك قال الشاعر:
في كَفّهِ خيزُرانٌ ريحُه عبِـقٌ |
|
بكفِّ أرْوَعَ في عِرنينه شَمَـمُ |
يُغِضي حَياءً ويُغضَى مِن مَهابته |
|
فما يكلَّم إلا حـينَ يبـتـسـم |
إن قال قال بما يهوى جميعُهـم |
|
وإن تكلّم يوماً ساخَتِ الكَـلِـمُ |
يكا د يُمسكه عِرْفَانَ راحـتِـه |
|
ركنُ الحطيم إذا ما جاء يستَلِـمُ |
وقال الشاعر قولاً فسَّرَ فيه ما قلنا، قال:
مجالسُهم خَفْضُ الحـديث وقـولُـهـم |
|
إذا ما قَضَوْا في الأمر وحْيُ المَخاصرِ |
وقال الكميت بن زيد: مجزوء الكامل
ونَزُورُ مَسلَمَة المـهـذّ |
|
بَ بالمؤبَّدَةِ الـسَّـوائرْ |
بالمُذهَبات المُعـجِـبـا |
|
تِ لمُفْحَمٍ منَّا وشاعـرْ |
أهلُ التَّجاوُبِ في المحـا |
|
فِل والمَقَاوِلُ بالمَخَاصِرْ |
فهمُ كذلك في المـجـا |
|
لِسِ والمحافِل والمَشاعِرْ |
وكما قال الأنصاريُّ في المجامعِ حيث يقول:
وسارت بنا سَيّارةٌ ذاتُ سَـورةٍ |
|
بكُوم المطايا والخيولِ الجَماهِرِ |
يؤمُّون مُلْكَ الشّام حَتَّى تمكـنـوا |
|
ملوكاً بأرضِ الشّام فوقَ المنابِـرِ |
يُصيبُون فَصْلَ القولِ في كلِّ خطبةٍ |
|
إذا وَصَلوا أَيمانَهم بالمَخـاصِـر |
وفي المخاصرِ والعصيِّ وفي خَدِّ وجهِ الأرض بالعِصيّ، قال الحطيئة:
أمْ منْ لَخصمٍ مُضْجِعين قسيَّهُمْ |
|
صُعُرٍ خُدودُهُم عظامِ المَفْخَرِ |
وقال لَبيد بن ربيعة في الإشارة:
غُلْبٍ تَشَذَّرُ بالذُّحول كأنّها |
|
جنُّ البَدِيّ رواسياً أقدامُها |
وقال في خَدّ وَجه الأرض بالعصي والقسي:
نَشِينُ صحاحَ البِيد كُلَّ عشـية |
|
بعُوج السَّرَاء عند بابِ مُحَجّبِ |
عوج: جمع عوجاء، وهي هاهنا القوس، السَّراء: شجر تعمل منه القِسِيّ، وفي مثله يقول الشاعر:
إذا اقتسَم النّاسُ فَضْل الفَخـارِ |
|
أطَلْنا على الأرض مَيْلَ العصا |
وقال الآخَر:
كَتبتْ لنا في الأرض يومَ محرِّقٍ |
|
أيّامُنا في الأرض يوماً فَيْصلا |
وقال لَبيد بن ربيعة في ذكر القسي:
ما إنْ أهابُ إذا السُّرادِقُ غَمَّه |
|
قَرْعُ القِسيِّ وأُرْعِش الرِّعديدُ |
وقال مَعنُ بن أوسٍ المُزَنّي:
ألا مَن مُبلغٌْ عنِّـي رسـولاً |
|
عُبَيدَ اللَّه إذْ عَجِلَ الرِّسـالا |
تُعَاقِل دُونَنـا أبـنـاءَ ثـورٍ |
|
ونحنُ الأكثرون حصىً ومالا |
إذا اجتمع القبائل جئت رِدْفـاً |
|
وَراءَ الماسحين لك السِّبـالا |
فلا تُعْطَى عَصَا الخطباء فيهم |
|
وقد تُكفَى المَقادةَ والمَقـالا |
فإنكمُ وتركَ بـنـي أبِـيكـم |
|
وأسْرتَكُم تجرُّون الحِـبـالا |
ووُدَّكم العِدى ممَّن سِـواكُـمْ |
|
لكالحيران يتّبع الـضـلالا |
ومما قالوا في حمل القناة قوله:
إلى امرئٍ لا تَخَطّاهُ الرِّفـاقُ، ولا |
|
جَدْبِ الخِوَان إذا ما استُنْشِئَ المرقُ |
صُلبُ الحيازيم لا هَذْرُ الكـلام إذا |
|
هزَّ القناةَ ولا مُسْتَعْـجِـلٌ زَهـقُ |
وكما قال جريرُ بن الخطفي:
مَن للقَناة إذا ما عَيَّ قائلها |
|
أمْ للأعِنَّةِ يا شَبَّ بنَ عَمّارِ |
وقال: ومثل هذا قول أبي المجيب الرَّبَعيّ: ما تزال تحفَظُ أخاك حتَّى يَأخذ القناةَ، فعند ذلك يَفضَحُك أو يحمَدك، يقول: إذا قام يخطب، وفي كتاب جبل بن يزيد: احفَظْ أخاك إلاّ من نفسه، وقال عبد اللَّه بن رُؤبة: سأل رجلٌ رؤبةَ عن أخطبِ بني تميم، فقال: خِداش ابن لبيد بن بَيْبَة يعني البَعِيث، وإنّما قيل له البعيثُ لقوله:
تَبَعّثَ مني ما تَبعّثَ بعـد مـا |
|
أُمِرَّتْ حِبالى كُلَّ مِرّتها شَزْزا |
وزعم سُحَيم بن حفص أنّه كان يقال: أخطب بني تميم البَعيثُ إذ أخذ القناة، وقال يونس: لَعمرِي لئن كان مغلّباً في الشِّعر لقد كان غُلِّب في الخُطَب، ومن الشعراء من يَغِلبُ شيءٌ قاله في شعره، على اسمه وكنيته، فيسَمَّى به بَشَرٌ كثير، فمنهم البَعيث هذا، ومنهم عوف بن حِصن بن حُذيفة بن بَدْر، غلب عليه عُوَيفُ القوافي لقوله:
سأُكذِب مَن قد كان يزْعُم أنّني |
|
إذا قلتُ شعراً لا أجيدُ القوافيا |
فسمّي عُوَيفَ القوافِي لذلك، ومنهم: يَزيد بن ضِرار التغلبيّ، غلب على اسمه المزَرِّد؛ لقوله:
فقلت: تزرّدْها عُبيدُ فـإنّـنـي |
|
لدُرْدِ الموالي في السِّنينَ مُزَرِّدُ |
فسمّى المزرِّد، ومنهم: عَمرو بن سَعْدِ بن مالك، غلب عليه مُرَقِّشُ؛ وذلك لقوله:
الدّار قفرٌ والرسوم كمـا |
|
رَقّشَ في ظهر الأديمِ قَلَمْ |
فسمّي مرقِّشاً، ومنهم: شَأْس بن نَهارٍ العبديّ، غلب عليه الممزَّق لقوله:
فإن كنتُ مأكولاً فكن خيرَ آكلٍ |
|
وإلاّ فأدرِكْني ولمّـا ُأمَـزَّقِ |
فسمِّي الممزَّق، ومنهم: جرير بن عبد المسيح الضُّبَعيّ، غلبَ عليه المتلمِّس لقوله:
فهذا أوانُ العِرض حَيَّ ذبابُه |
|
زنابيرُه والأزرقُ المُتَلَمِّس |
ومنهم: عمرو بن رِياح السُّلَميّ، أبو خنساءَ ابنةِ عمرٍو، وغلَبَ الشّريد على اسمه لقوله:
تولّى إخوتي وبَقِيتُ فرداً |
|
وحيداً في ديارهمُ شريدا |
فسمِّي الشريد، وهذا كثير، قال: ودخل رجلٌ من قيسِ عَيلان على عبد الملك بن مروان، فقال زُبَيريّ عُمَيريّ واللَّه لا يحبُّك قلبي أبداً فقال: يا أمير المؤمنين، إنّما يجزع من فِقدان الحبِّ المرأة، ولكن عدلٌ وإنصافٌ، وقال عمر لأبي مريم الحنفيّ، قاتلِ زيدِ بن الخطاب: لا يحبُّك قلبي أبداً حتّى تحبَّ الأرضُ الدمَ المسفوح، وهذا مثل قول الحجّاج: واللَّه لأقلعنّك قَلع الصَّمْغَةِ، لأنّ الصمغة اليابسة إذا قُرِفَت عن الشجرة انقلعت انقلاع الجُلْبَة، والأرض لا تَنْشَفُ الدَّمَ المسفوحَ ولا تمَصُّه، فمتى جفّ الدم وتجلّب لم تره أخذ من الأرض شيئاً، ومن الخطباء: الغَضبان بن القَبَعْثَرَى، وكان محبوساً في سجن الَحَجّاج، فدعا به يوماً، فلما رآه قال: إنك لَسَمين قال: القَيْدُو الرَّتَعة، ومَن يكن ضيفاً للأمير يَسمَن، قال يزيد بن عياض: لما نَقَِمَ النَّاس على عثمان، خرج يتوكّأ عَلَى مروان، وهو يقول: لكلِّ أمَّةٍ آفة، ولكلِّ نِعمة عاهَة، وإنّ آفةَ هذه الأمّة عَيّابون طعَّانون، يُظهرون لكم ما تحبُّون، ويُسِرّون ما تكرهون، طَغَامٌ مثلُ النَّعام، يتبَعُون أوّلَ ناعق، لقد نَقَِموا عليَّ ما نقموه علَى عُمر، ولكنْ قَمَعهم عمرُ ووَقَمَهُم، واللَّه إنّي لأَقربُ ناصراً وأعزّ نفَراً، فَضَلَ فَضْلٌ من مالي، فما ليَ لا أفعل في الفضل ما أشاء، قال: ورأيتُ النّاس يتداولون رسالة يحيى بن يعمر، على لسان يزيد بن المهلب: إنّا لقِينا العدَوّ فقتلنا طائفةً وأسَرْنَا طائفة، ولحقَتْ طائفةٌ بعَراعِر الأودية وأهضام الغِيطانُ، وبتنا بعُرعُرة الجبل، وبات العدُوُّ بحضيضه قال: فقال الحجَّاج: ما يزيد بأبي عُذْرِ هذا الكلام، فقيل له: إنّ معه يحيى بنَ يعمر فأمر بأن يحمل إليه فلما أتاه قال: أين وُلدتَ؟ قال: بالأهواز، قال: فأنَّى لك هذه الفصاحة؟ قال: أخذتُها عن أبي، عراعر الأودية: أسافلها، وعراعر الجبال: أعاليها، وأهضام الغيطانِ: مداخلها، والغيطان: جمع غائط، وهو الحائط ذو الشجر، ورأيتُهم يديرون في كتبهم أن امرأةً خاصمت زوجَها إلى يحيى بن يعمر فانتهَرها مراراً، فقال له يحيى بن يعمر: أأنْ سألتْكَ ثَمن شَكْرها وشَبْرك، أنشأتَ تطُلُّها وتَضْهَلُها، قالوا: الضّهل: التَّقليل، والشَّكْر: الفرج والشَّبْر: النِّكاح، وتطُلّها: تذهب بحقّها؛ يقال: دمٌ مطلول، ويقال: بئر ضَهول، أي قليلة الماء، قال: فإن كانوا إنَّما روَوا هذا الكلام لأنّه يدلُّ على فصاحةٍ فقد باعده اللَّه من صفة البلاغة والفصاحة، وإن كانوا إنّما دوَّنوه في الكتب، وتذاكروه في المجالس لأنّه غريب، فأبياتٌ من شعر العجَّاج وشعر الطِّرِمّاح وأشعارِ هُذيل، تأتِي لهم مع حُسن الرَّصْف على أكثر من ذلك، ولو خاطب بقوله: أأنْ سألتكَ ثمن شَكرها وشَبْرك أنشأت تطُلّها وتضهَلها الأصمعيَّ، لظننتُ أنّه سيجهل بعض ذلك،، وهذا ليس من أخلاق الكتاب ولا من آدابهم، قال أبو الحسن: كان غلامٌ يقعِّر في كلامه، فأتى أبا الأسود الدّؤلي يلتمس بعضَ ما عنده، فقال له أبو الأسود: ما فعَل أبوك؟ قال: أخذته الحُمَّى فطبخَتْه طبخاً، وفنَخته فنْخاً، وفضَخته فضخاً، فتركته فرخاً، فنختْه: أضعفته، والفنيخ: الرخو الضعيف، وفضخته: دقّته، فقال أبو الأسود: فما فعلت امرأتُه التي كانت تُهارُّه وتشارُّه، وتجارُّه وتُزارُّه؟ قال: طلَّقَها فتزوَّجت غيرَه، فرضيَتْ وحَظِيت وبظيت، قال أبو الأسود: قد عرَفنا رضيت وحظيت، فما بظيت؟ قال: حرف من الغريب لم يبلغْك، قال أبو الأسود: يا بُنيّ كلُّ كلمةٍ لا يعرفها عمُّك فاستُرْها كما تستر السّنورُ جُعْرها، تزارّه: تَعاضُّه، والزَّرُّ: العضّ، وحَظيت: من الحُظوة، وبظيَت: إتباعٌ لحظيَت، قال أبو الحسن: مَرّ أبو علقمة النحويُّ ببعض طرق البصرة، وهاجت به مِرَّةٌ، فوثب عليه قوم منهم فأقبَلوا يَعَضُّون إبهامَه ويؤذِّنون في أذنه، فأفلتَ منهم فقال: ما لكم تتكأكئون عليَّ كما تَكأكئون على ذي جِنَّة، افرنْقِعوا عنّي، قال: دعُوه فإنَّ شيطانه يتكلَّم بالهنديّة، قال: أبو الحسن: وهاجَ بأبي علقمة الدم فأتَوْه بحجّام، فقال للحجَّام: اشدُد قصب المَلازم، وأَرْهِف ظُباتِ المشارط، وأسرع الوضعَ وعجِّل النَّزع، وليكن شرطُك وخْزاً، ومصُّك نَهزاً، ولا تُكرِهنَّ أبيّاً، ولا تردَّنَّ أتِيّاً، فوضع الحجام محاجمه في جُونته ثم مضى، فحديثُ أبي علقمةَ فيه غريب، وفيه أنّه لو كان حجاماً مَرّة ما زاد على ما قال، وليس في كلام يحيى بن يعمر شيء من الدُّنيا إلا أنّه غريب، وهو أيضاً من الغريب بغيض، وذكروا عن محمد بن إسحاق قال: لما جاء ابنَ الزبير وهو بمكَّة قتُل مروانَ الضّحاك بمرج راهط، قام فينا خطيباً فقال: أن ثَعلب بن ثعلب، حَفر بالصحصحة، فأخطأت استُه الحفرة، وا لَهْفَ أمٍّ لم تلدني على رَجُلٍ من محارب كان يرعى في جبال مكّة، فيأتي بالصَّربة من اللبن فيبيعها بالقُبْضة من الدقيق، فيرى ذلك سِداداً من عيش، ثم أنشأ يطلب الخلافة ووراثة النبوَّة، وأوّلُ هذا الكلامِ مستكره، وهو موجود في كلّ كتاب، وجارٍ على لسان كلِّ صاحِب خبر، وقد سمعتُ لابن الزُّبير كلاماً كثيراً ليس هذا في سبيله، ولا يتعلَّق به، وقال أبو يعقوبَ الأعور:
وخَلْجةِ ظَنٍّ يَسبِق الطّرفَ حزمُها |
|
تُشِيف على غُنْمٍ وتُمْكن من ذَحْلِ |
صَدعتُ بها والقومُ فوضَى كأنهم |
|
بِكارةُ مِرباع تُبصبِص للفَـحـلِ |
خلجة ظنٍّ: أي جذبة ظنٍّ، كأنَّه يجذِب صوابَ الرأْي جذباً، والخَلج: الجذْب، تُشِيف: أي تُشرِف؛ يقال أَشَافَ وأشفى بمعنى واحد، أي أشرف، بِكارة مِرْباع: أي نوقٌ فتايا قد أُذِلَّت للفحل، مرباع: أي نوق رئيس، والمرباع: رُبع الغنيمة في الجاهليَّة لصاحب الجيش، وقال ابن عُنَمة:
لك المِرباع منها والصَّفـايَا |
|
وحُكمكَ والنَّشيطة والفُضولُ |
وقال رجل من بين يربوع:
إلى اللَّه أشكو ثم أشكو إلـيكـمـا |
|
وهل تنفع الشكوى إلى مَن يَزيدُها |
حزازاتِ حُبٍّ في الفؤاد وعَبْـرةً |
|
أظَلُّ بأطراف البـنـان أذودُهـا |
يَحنُّ فؤادي من مخافة بـينِـكـم |
|
حنين المُزَجَّى وِجهةً لا يريدُهـا |
وقد أحسن الآخر حيث قال:
وأكرِم نفسي عن مَناكحَ جُمَّةٍ |
|
ويقصُر مالي أن أنالَ الغواليا |
وقال الآخر: من الخفيف
وإذا العبد أغلق البابَ دوني |
|
لم يُحرَّم عليّ متنُ الطريقِ |
وقال الخليع العُطارديُّ: كنّا بالبادية إذْ نشأ عارضٌ وما في السماء قَزَعة معلَّقة، وجاء السّيلُ فاكتسح أبياتاً من بني سعد، فقلت:
فَرِحنا بوَسميّ تـألَّـقَ وَدْقُـه |
|
عِشاءً فأبكانا صَباحاً فأَسرعا |
له ظُلّةٌ كأنَّ ريِّقَ وَبْـلـهـا |
|
عَجاجةُ صَيف أو دخانٌ تَرفَّعا |
فكان على قوم سلاماً ونعـمةً |
|
وألحق عاداً آخرين وتُبَّـعـا |
وقال أبو عطاء السِّنديُّ، لعُبيد اللَّه بن العباس الكنديّ:
قُلْ لعُبيدِ اللَّهِ لو كان جعـفـرٌ |
|
هو الحيُّ لَمْ يبرَحْ وأنتَ قتـيلُ |
إلى معشرٍ أرْدَوْا أخاك وأكفروا |
|
أباكَ فماذا بعـد ذاك تـقـول |
فقال عُبيد اللَّه: أقول: عَضَّ أبو عطاء بِبَظْر أمِّه فَغُلّب عليه، قال أبو عبيدة: قال أبو البصير، في أبي رُهْم السَّدوسيّ، وكان يلي الأعمال لأبي جعفر:
رأيت أبا رُهْمٍ يقرِّب مُنْجِـحـاً |
|
غلامَ أبي بشرٍ ويُقصِي أبا بشرِ |
فقلت ليحيى: كيف قَرَّبَ مُنْجِحاً |
|
فقال: له أيرٌ يزيد على شِبـرِ |
وقال أبو عثمان: وقد طعنت الشُّعوبية على أخذ العرب في خُطَبِها المخصرة والقناةَ والقضيبَ، والاتكاءِ والاعتماد على القَوس، والخدِّ في الأرض، والإشارة بالقضيب، بكلامٍ مستكره سنذكره في الجزء الثاني، إن شاء اللَّه، ولا بد من أن نذكر فيه بعضَ كلامِ معاوية، ويزيدَ، وعبد الملك، وابن الزبير، وسليمانَ، وعمرَ بنِ عبد العزيز، والوليدِ بن يزيدَ بنِ الوليد؛ لأنَّ الباقين من ملوكهم لم يُذكَر لهم من الكلام الذي يُلحق بالخُطب، وبصناعة المنطق، إلا اليسير، ولا بدّ من أن نذكر فيه أقسامَ تأليف جميع الكلام، وكيف خالف القرآنُ جميعَ الكلام الموزونِ والمنثور، وهو منثورٌ غير مقفّىً على مخارج الأشعار والأسجاع، وكيف صار نظمُه من أعظم البرهان، وتأليفه من أكبر الحجج، ولا بدَّ من أن نذكر فيه شأنَ إسماعيل صلى الله عليه وسلم وانقلابَ لغته بعد أربعَ عشرةَ سنة، وكيف نسِي لغتَه التي رَبِيَ فيها، وجَرى على أعراقها، وكيف لفَظَ بجميع حاجاته بالعربيّة على غير تلقين وترتيب، وحتى لم تدخله عجمة، ولا لُكْنة ولا حُبْسة، ولا تعلَّق بلسانه شيءٌ من تلك العادة، إن شاء اللَّه، ولا بد من ذكر بعض كلام المأمون ومذاهبه، وبعضِ ما يحضرني من كلام آبائه وجِلّةِ رَهطه، ولا بدَّ أيضاً من ذكر مَن صعد المنبر فَحَصِر أو خَلّط، أو قال فأحسن؛ ليكون أَتمَّ للكتاب إن شاء اللَّه، ولا بدَّ من ذكر المنابر ولِمَ اتُّخِذت، وكيف كانت الخطباء من العرب في الجاهلية وفي صدْر الإسلام، وهل كانت المنابرُ في أمَّةٍ قطُّ غير أمَّتنا، وكيف كانت الحال في ذلك، وقد ذكرنا أنَّ الأمم التي فيها الأخلاقُ والآداب والحِكَم والعلم أربع، وهي: العرب، والهند، وفارس، والروم، وقال حُكَيم بنُ عيَّاش الكلبيُّ:
ألم يكُ مُلْكُ أرضِ اللَّه طُرّاً |
|
لأربعةٍ له مـتـمـيِّزينـا |
لحميرَ والنَّجاشِي وابنِ كِسرى |
|
وقَيصَر غيرَ قولِ المُمْتَرينا |
فما أدري بأيّ سببٍ وضع الحبشةَ بهذا المكان، وأما ذكرهُ لحمير فإنْ كانَ إنّما ذهب إلى تبَّعٍ نفسِه في الملوك، فهذا له وجه، وأما النَّجاشيّ فليس هو عند الملوك في هذا المكان، ولو كان النجاشيُّ في نفسه فوق تبَّع وكِسرى وقيصر لما كان أهلُ مملكته من الحبَش في هذا الموضع، وهو لم يفضِّل النجاشيَّ لمكانِ إسلامه، يدلُّ على ذلك تفضيلُه لكسرى وقيصر، وكان وضع كلامِه على ذكر الممالك، ثم ترك الممالك وأخذ في ذكر الملوك، والدَّليل على أن العرب أنطقُ، وأن لغتَها أوسع، وأن لفظَها أدلُّ، وأن أقسام تأليف كلامها أكثر، والأمثالَ التي ضُربت فيها أجود وأسير، والدَّليل على أن البديهة مقصورٌ عليها، وأن الارتجال والاقتضاب خاصٌّ فيها، وما الفرق بين أشعارهم وبين الكلام الذي تسمِّيه الرُّوم والفرس شعراً، وكيف صار النَّسيب في أشعارهم وفي كلامهم الذي أدخلوه في غنائهم وفي ألحانهم إنما يقال على ألسنة نسائهم، وهذا لا يُصاب في العرب إلاّ القليلَ اليسير، وكيف صارت العرب تقطّع الألحانَ الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزوناً على موزون، والعجمُ تمطّط الألفاظ فتقبض وتبسُط حتّى تدخل في وزن اللحن فتضعَ موزوناً على غير موزون، وسنذكر في الجزء الثاني من أبواب العِيّ واللّحن والغلط والغَفلة؛ أبواباً طريفة، ونذكرُ فيه النّوكَى من الوُجوه ومجانين العرب، ومن ضُرب به المثل منهم، ونوادرَ من كلامهم، ومجانينَ الشعراء، ولستُ أعني مثلَ مجنون بني عامر، ومجنون بي جَعدة، وإنّما أعني مثل أبي حيَّة في أهل البادية، ومثل جُعيفِران في أهل الأمصار، ومثل أريسيموس اليونانيّ، وسنذكر أيضاً بقيةَ أسماء الخطباء والنّساك الظُّرفاء والملحاء، إن شاء اللَّه، وسنذكر من كلام الحجّاج وغيره، ما أمكنَنا في بقية هذا الجزء إن شاء اللَّه، وقال أبو الحسن المدائني: قال الحجّاج لأنس بن مالك، حين دخل عليه في شأن ابنِه عبد اللَّه، وكان خرج مع ابن الأشعث: لا مرحباً بكَ ولا أهلاً، لعنةُ اللَّه عليك من شيخٍ جَوَّال في الفتنة، مرَّةً مع أبي تراب، ومرة مع ابن الأشعث، واللَّهِ لأقلعنَّك قلع الصَّمْغة، ولأعصبنَّك عَصْب السَّلَمة، ولأجرِّدنّك تجريد الضبّ، قال أنس من يعني الأمير أعزَّه اللَّه؟ قال: إيَّاك أعْنِ، أصمَّ اللَّه صداك فكتب أنسٌ بذاك إلى عبد الملك بن مروان، فكتب عبد الملك إلى الحجَّاج: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، يا ابن المستَفْرِمة بعَجَم الزّبيب، واللَّه لقد هممتُ أنْ أركُلَك ركلةً تهوِي بها في نار جهنّم، قاتلك اللَّه، أخيفشَ العينين أصكَّ الرِّجْلين، أسودَ الجاعرتين، والسلام، وكان الحجّاج أخيفش، مُنسِلق الأجفان، ولذلك قال إمام بن أقرم النميري، وكان الحجّاج جعله على بعض شُرط أَبانِ بن مروانَ ثم حبسه، فلما خرج قال:
طَليقُ اللَّه لم يَمنُنْ عـلـيه |
|
أبو داود وابنُ أبي كـثـيرِ |
ولا الحجَّاج عينَيْ بنتِ ماءٍ |
|
تقلِّب طَرْفَها حذَرَ الصَّقورِ |
لأنَّ طير الماء لا يكون أبداً إلا مُنْسَلق الأجفان، قال: وخطب الحجاج يوماً فقال في خطبته: واللَّه ما بقي من الدُّنيا إلاّ مثلُ ما مضى، ولهو أشبَهُ به من الماء بالماء، واللَّه ما أُحبُّ أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه، المفضّل بن محمد الضّبيّ قال: كتب الحجّاج إلى قتيبة بن مسلم: أن ابعَثْ إليَّ بالآدم الجَعْد، الذي يُفهِمني ويَفهم عنِّي،فبعث إليه غَذّام بن شُتَيْر فقال الحجَّاج: للَّه درُّه ما كتبتُ إليه في أمرٍ قطُّ إلا فهم عنّي وعرف ما أريده، وقال أبو الحسن وغيره: أراد الحجاجُ الحجَّ، فخطب الناسَ فقال: أيُّها الناس، إني أريد الحجَّ، وقد استخلفت عليكم ابني محمَّداً هذا، وأوصيتُه فيكم بخلافِ ما أوصى به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الأنصار، إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أوصى أن يُقبَل من محسنهم، ويُتجاوَزَ عن مسيئهم، ألا وإنِّي قد أوصيتُه ألاّ يَقبل من مُحسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم، ألاَ وإنَّكم ستقولون بعدي مقالة ما يمنعكم من إظهارها إلاّ مخافتي، ستقولون بعدي: لا أحسَنَ اللَّه له الصَّحابة ألاَ وأنِّي مُعجِّلٌ لكم الإجابة، لا أحسنَ اللَّه عليكم الخِلافة، ثم نَزَل، وكان يقول في خطبته: أيُّها الناس، إنّ الكفّ عن محارم اللَّه أيسَرُ من الصَّبر على عذاب اللَّه، وقال عمرو بن عُبيد رحمه اللَّه: كتب عبد الملك بن مروان وصيَّةَ زيادٍ بيده وأمر النَّاسَ بحفظها وتدبُّر معانيها، وهي: إنّ اللَّه عزّ وجلّ جعَلَ لعباده عُقولاً عاقبهم بها على معصيته، وأثابهم بها على طاعته، فالناس بين محسنٍ بنعمة اللَّه عليه، ومسيءٍ بخِذلان اللَّه إيّاه، وللَّه النّعمة على المحسن، والحُجَّةُ على المسيء فما أوْلَى مَن تمَّت عليه النّعمة في نفسه، ورأى العبرة في غيره، بأن يضع الدُّنيا بحيث وضعها اللَّه فيعطيَ ما عليه منها، ولا يتكثَّرَ مما ليس له فيها؛ فإنَّ الدُّنيا دارُ فناء، ولا سبيل إلى بقائها،ولا بدَّ مِن لقاء اللَّه عزّ وجلّ، فأُحذِّرُكم اللَّه الذي حذّركم نفسَه، وأوصيكم بتعجيل ما أخّرته العجَزة، قبل أن تَصيروا إلى الدّار التي صاروا إليها، فلا تقدروا فيها على تَوبة، وليست لكم منها أَوْبة وأنا أستخلف اللَّه عليكم، وأستخلفه منكم، وقد رُويَ هذا الكلام عن الحجَّاج، وزيادٌ أحقُّ به منه،