باب ما ذكروا فيه من أن أثر السيف يمحو أثر الكلام

قال جرير:

تُكَلِّفُنِي ردَّ الفوائِت بَـعـد مـا

 

سَبَقْن كسَبق السيف ماقال عاذلُه

وقال الكُميت بن معروف:

خذُوا العقلَ إن أعطاكم القومُ عقلَكُم

 

وكونوا كمن سِيمَ الهوانَ فأربعـا

ولا تكثروا فيه الضَّجـاجَ فـإنّـه

 

محا السيفُ ما قال ابنُ دارة أجمعا

والمثل السابق: سبق السيْفُ العَذَلَ، ومن أهل الأدب: زكريّاء بن درهم، مولى بني سُلَيم بن منصور، صاحب سَعيد ابن عُمرو الحَرَشي، وزكرياء هو الذي يقول:

لا تُنْكِروا لسعيدٍ فضلَ نِعمـتـه

 

لا يشكر اللَّه من لا يشكر الناسا

ومن أهل الأدب ممن وجّهَهُ هشامٌ إلى الحرشيّ: السُّرادق بن عبد اللَّه السَّدوسيّ الفارسُ، ولما ظفر سَلْم بن قتيبة بالأزْد، كان من الجند في دُور الأزد انتهابٌ وإحراق، وآثار قبيحة، فقام شَبيب بن شيبة إلى سَلْم بن قتيبة فقال: أيها الأمير، إن هُرَيم بن عديّ بن أبي طَحْمة - وكان غير منطيق - قال ليزيدَ بن عبد الملك في شأن المهالبة: يا أمير المؤمنين، إنّا واللَّه ما رأينا أحداً ظُلِم ظُلمَك، ولا نُصِر نصرَك، ولا عفا عفوك، وإنا نقول أيضاً: أيُّها الأمير، إنّا واللَّه ما رأيْنا أحداً ظُلِم ظلمَك، ولا نُصر نصرك، فافعل الثالثة نَقُلْها، قال الهيثم بن عديّ: قام عبد اللّه بن الحجاج التَّغلبي إلى عبد الملك بن مروان، وقدكان أراد الاتصال به، وكان عبد الملك حَنِقاً عليه، فأقام ببابه حولاً لا يصل إليه، ثم ثار في وجهه في بعض رَكَباته فقال:

أدنو لترحَمَني وترتُِقَ خَلَّتي

 

وأراك تدفَعُني فأين المَدفعُ

فقال عبد الملك: إلى النار فقال:

ولقد أذقْتَ بني سعيدٍ حَـرَّهـا

 

وابنَ الزُّبير فعَرشُه متضعضعُ

فقال عبد الملك: قد كان ذلك، وأنا أستغفر اللّه، وقال أبو عبيدة: كان بين الحجاج وبين العُدَيل بن الفَرْخَ العجليّ بعضُ الأمر، فتوعّدَه الحجاجُ، فقال العُديل:

أُخَوَّفُ بالحجاج حتّى كأنـمـا

 

يحرّك عظمٌ في الفؤاد مَهيضُ

ودون يَدِ الحجاج من أن تنالني

 

بَسَاطٌ لأيدي اليَعمَلات عريضُ

مهامهُ أشباهٌ كأن سـرابَـهـا

 

مُلاءٌ بأيدي الغاسلاتِ رحيض

المهيض: الذي قد كُسر ثم جُبر ثم كسر، اليَعمَلات: العوامل، والياء زائدةٌ لأنّها من عملت، ثم ظفِر به الحجاج فقال: إيهِ يا عُدَيل، هل نجّاك بَساطُك العريض؟ فقال: أيُّها الأمير، أنا الذي أقول فيكم:

لو كنتُ بالعَنقاء أو بَـيسُـومـهـا

 

لكان لـحـجَّـاجٍ عـلـيَّ دلـيلُ

خليلُ أميرِ المؤمـنـين وسـيفُـه

 

لكلِّ إمام مصطـفـىً وخـلـيلُ

بني قُبَّةَ الإسلام حتّـى كـأنّـمـا

 

هَدى النَّاسَ من بعد الضلال رسولُ

فقال له الحجاج: اربَحْ نفسَك، واحقِن دمك، وإيّاك وأختَها؛ فقد كان الذي بيني وبينَ قتلِك أقصرَ من إبهام الحُبَارى، قال: وقام الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، خطيباً بالمدينة، وكان واليَها، ينعَى معاويةَ ويدعو إلى بيعة يزيد، فلما رأى رَوْحُ بن زِنباع إبطاءَهم قال: أيها الناس، إنّا لا ندعوكم إلى لخم وجذام وكلب، ولكنّا ندعوكم إلى قريش ومَن جعل اللَّه له هذا الأمرَ واختصَّه به، وهو يزيد بن معاوية، ونحن أبناءُ الطَّعن والطاعون، وفُضَالات الموت، وعندنا إن أجبتم وأطعْتُمْ مِن المعونة والعائدة ما شئتم، فبايع الناس، قال: وخطب إبراهيم بن إسماعيل، من ولد المغيرة المخزومي فقال: أنا ابنُ الوحيد، ومن شاء أجزَر نفسه صقراً يلوذ حَمامُهُ بالعَرفِج، ثم قال:

استوسِقي أحمرةَ الوَجينْ

 

سمعن حِسَّ أسدٍ حَرُونْ

فهنّ يَضْرِطْن وينْتَزِينْ

 

 

ثم قال: واللَّه إنّي لأُبغض القُرشيّ أن يكون فظّاً، يا عجبَاً لقومٍ يقال لهم: مَن أبوكم؟ فيقولون: أمُّنا من قريش، فتكلَّم رجلٌ من عُرض النَّاس وهو يخطب، فقال غيره: مَهٍ فإنّ الإمام يخطب، فقال: إنَّما أُمرنا بالإنصاتِ عند قراءة القرآن، لا عند ضُرَاط أحمرة الوجين،وقال آخر: سمعت عمر بن هبيرة وهو يقول على هذه الأعواد في دعائه: اللهم إنِّي أعوذُ بك من عدوٍّ يَسري، ومن جليسٍ يُغري، ومن صديق يُطري، قال أبو الحسن: كان نافع بن علقمة بن نضلة بن صفوان بن مُحَرّث، خالُ مروان، والياً على مكّة والمدينة، وكان شاهراً سيفَه لا يُغمده، وبلغه أَنّ فتىً من بني سهم يذكُره بكلِّ قبيح، فلمَّا أُتِي به وأَمر بضرب عنُقه قال الفتى: لا تَعجَل عليَّ، ودعْني أتكلَّم، قال: أَوَ بك كلام؟ قال: نعم وأزِيد، يا نافع وَلِيتَ الحَرَمَينِ تحكم في دمائنا وأموالنا، وعندك أربع عقائل من العرب، وبنيت ياقوتةً بين الصَّفا والمروة 0 يعني داره - وأنت نافعَ بنَ علقمة بن نضلة بن صفوان بن محرث، وأحسَنُ الناس وجهاً، وأكملهُم حسباً، وليس لنا من ذلك إلا التُّراب، لم نحسدك على شيء منه، ولم نَنْفَسه عليك، فنفِستَ علينا أن نتكلّم، قال: فتكَلَّمْ حتى ينفَكّ فكَّاكَ، عليّ بن مجاهد، عن الجعد بن أبي الجعد، قال: قال صَعصعة بن صُوحان: ما أعياني جوابُ أحدٍ ما أعياني جوابُ عثمان، دخلت عليه فقلت: أُخرِجْنا مِن ديارنا وأموالنا أن قلنا: ربُّنا اللَّه فقال: نحن الذين أُخرِجنا من ديارنا وأموالنا أن قلنا: ربُّنا اللَّه؛ فمنا مَن مات بأرض الحبشة، ومنا مَن مات بالمدينة، قال: وقال الحجاج على منبره: واللَّه لألحُونَّكم لَحْوَ العصا، ولأعْصِبَنَّكُم عَصْب السَّلَمَة، ولأضربَنّكم ضربَ غرائب الإبل، يا أهل العراق، ويأهل الشِّقاق والنّفاق، ومساوئ الأخلاق، إنِّي سمعت تكبيراً ليس بالتكبير الذي يُراد بِه اللَّهُ في الترغيب، ولكنَّه التكبير الذي يراد بِه الترهيب، وقد عرَفتُ أنَّها عجاجةٌ تحتها قَصفُ فتنة، أي بنِي اللِّكيعة وعبيدَ العصا، وأبناء الإماء، واللَّه لئن قرعَتْ عَصاً عَصاً لأتركنّكم كأمسِ الدابر، مالك بن دينار: قال: ربَّما سمعتُ الحجّاج يخطب، يذكُر ما صنع به أهلُ العراق وما صنَع بهم، فيقع في نفسي أنّهم يظلمونه وأنّه صادقٌ؛ لبيانه وحسن تخلُّصه بالحجج، قال: وقسَّم الحجاج مالاً، فأعطى منه مالكَ بن دينار، أراد أن يدفع منه إلى حبيبٍ أبي محمد فأبى أن يقبل منه شيئاً، ثم مر حبيبٌ بمالك، فإذا هو يقسّم ذلك المال، فقال له مالك: أبَا محمَّد، لهذا قَبلناه قال له حبيب: دعْني ممَّا هناك، أسألك باللّه آلحجّاجُ اليومَ أَحَبُّ إليك أم قبلَ اليوم؟ قال: بل اليوم، فقال حبيب: فلا خير في شيءٍ حَبَّب إليك الحجَّاج، ومرّ غَيلان بن خَرَشة الضّبي، مع عبد اللَّه بن عامر، على نهر أمِّ عبد اللَّه، الذي يشقُّ البصرة، فقال عبد اللَّه: ما أصلَحَ هذا النَّهرَ لأهل هذا المِصر فقال غيلان: أجَلْ واللَّه أيُّها الأمير، يعلِّم القوم صبيانَهم فيه السِّباحة، ويكون لسُقياهُم ومَسيلِ مياههم، وتأتيهم فيه مِيرتُهم، قال: ثم مَرَّ غيلان يساير زياداً على ذلك النّهر، وقد كان عادى ابنَ عامر، فقال زياد: ما أضرَّ هذا النهر، بأهل هذا المصر قال غيلان: أجلْ واللَّه أيُّها الأمر، تنِزُّ منه دورهُم، وتغرَق فيه صبيانُهم، ومن أجله يكثر بعوضُهم، فالذين كرهوا البيانَ إنّما كرهوا مثلَ هذا المذهب؛ فأمّا نفسُ حسنِ البيان فليس يذمُّه إلاَّ من عَجَز عنه، ومن ذمَّ البيانَ مدح العِيّ، وكفى بهذا خبالاً، ولخالد بن صفوانَ كلامٌ في الجُبْن المأكول، ذهبَ فيه شبيهاً بهذا المذهب، قال: ورجع طاوسٌ عن مجلس محمّد بن يوسف، وهو يومئذ والي اليمن، فقال: ما ظننت أنّ قَول سبحان اللَّهِ معصيةٌ للًَّه حتى كان اليومُ، سمعتُ رجلاً أبلغ ابنَ يوسفَ عن رجلٍ كلاماً فقال رجل من أهل المجلس: سبحان اللَّه كالمستعظم لذلك الكلام، فغضب ابنُ يوسف، قال أبو الحسن وغيره، قالوا: دخل يزيدُ بن أبي مسلم على سليمانَ بن عبد الملك، وكان دميماً، فلما رآه قال: على رَجلٍ أجرَّك رَسَنَك، وسلَّطك على المسلمين، لَعنةُ اللَّه قال: يا أمير المؤمنين، إنّك رأيتَني والأمرُ عنِّي مدبِر، ولو رأيتَني والأمرُ عليّ مقبلٌ لاستعظمتَ من أمري ما استصغرت قال: فقال سليمان: أفتُرَى الحجّاج بلغ قعر جهنم بَعد قال: يا أمير المؤمنين، يجيء الحجّاج يومَ القيامة بين أبيك وأخيك، قابضاً على يمين أبيك وشِمال أخيك، فضَعْه من النّار حيث شئت،وذكر يزيد بن المهلب، يزيد بن أبي مسلم، بالعفَّة عن الدينار والدِّرهم، وهَمَّ بأنْ يستكفَيه مُهِمّاً من أمره، قال: فقال عمر بن عبد العزيز: أفَلاَ أدلُّك على مَن هو أزهَدُ في الدِّرهم والدينار منه، وهو شرُّ خَلْق اللَّه؟ قال: من هو؟ قال: إبليس، قال: وقال أسيلِم بن الأحنف، للوليد بن عبد الملك قبل أن يُستخلف: أصلح اللَّه الأمير إذا ظننتَ ظنّاً فلا تحققْه، وإذا سألتَ الرِّجالَ فسلْهم عما تعلم، فإذا رأوا سرعةَ فهمك لما تعلم ظنُّوا ذلك بك فيما لا تعلم، ودُسَّ مَن يسأل لك عما لا تعلم، وكان أسيلم بن الأحنف الأسديّ، ذا بيانٍ وأدب وعقل وجاه، وهو الذي يقول فيه الشّاعر:

ألا أيُّها الركب المخبُّون هل لـكـم

 

بسيِّد أهلِ الشّام تُحبَوْا وترجـعـوا

أسَيلمُ ذاكُمْ لا خَـفـا بـمـكـانِـه

 

لعين تُرَجّـى أو لأُذنٍ تـسـمَّـعُ

من النّّفرِ البيضِ الذين إذا انتـمَـوْا

 

وهابَ الرّجال حَلْقةَ الباب قعقعـوا

جلاً الأذفَرُ الأحوَى منَ المسك فَرْقَه

 

وطيبُ الدِّهان رأسَه فهـو أنْـزَعُ

إذا النّفَر السُّودُ اليمانـون حـاوَلُـوا

 

له حَوْك بُردَيه أرقُّوا وأَوسـعُـوا

وهذا الشّعر من أشعار الحفظ والمذاكرة، الهيثم بن عديّ قال: قدِمَتْ وفودُ العراق على سليمانَ بنِ عبد الملك، بعد ما استُخْلِف، فأمرهم بشَتْم الحجاج، فقاموا يشتمونه، فقال بعضهم: إنّ عدوَّ اللَّه الحجاج، كان عبداً زَبَاباً، قِنّوْراً ابن قِنُّور، لا نسبَ له في العرب، فقال سليمان: أيُّ شتمٍ هذا؟ إنّ عدوَّ اللَّه الحجّاجَ كتب إليَّ: إنما أنتَ نقطةٌ من مداد، فإن رأيتَ فيَّ ما رأى أبوك وأخوك كنتُ لك كما كنتُ لهما، وإلاّ فأنا الحجاج وأنت النُّقطة، فإن شئت محوتُك، وإن شئت أثبتُّك، فالعَنُوه لعَنه اللَّه فأقبلَ النَّاسُ يَلعنون، فقام ابن أبي بُرْدة بن أبي موسى فقال: يا أمير المؤمنين، أخبِرُك عن عدُوّ اللَّه بعلمٍ، قال: هاتِ، قال: كان عدوُّ اللَّه يتزيَّن تزيُّنَ المومِسة، ويصعد على المنبر فيتكلّم بكلام الأخيار، وإذا نَزَل عَمِل عَمَلَ الفراعنة وأكذبُ في حديثه من الدجّال، فقال سليمان لرجاء بن حَيْوة: هذا وأبيك الشَّتمُ لا ما تأتي به هذه السِّفلة،وعن عوانة قال: قطع ناسٌ من عمرو بن تميمٍ وحنظَلة، عَلَى الحجاج بن يوسف، فكتب إليهم: مِن الحجّاج بن يوسف، أما بعد فإنّكم قد استصحبتم الفتنة - وقال بعضهم قد استنتجتم الفتنة - فلا عنْ حقّ تقاتلون، ولا عن منكَر تنهَون، وأيمُ اللَّه إني لأهُمّ أن يكون أوَّلَ ما يَرِدُ عليكم من قِبَلي خيلٌ تنسف الطارف والتالد، وتُخَلِّي النساء أيامَى، والأبناء يتامى، والدِّيار خراباً، والسَّوادَ بياضاً، فأيُّما رُفْقة مَرَّت بأهل ماءٍ فأهل ذلك الماءِ ضامنون لها حتَّى تصير إلى الماء الذي يليه، تقدمةً منّي إليكم، والسعيدُ مَن وُعِظ بغيره، والسلام، مَسلْمة بن محارب قال: كان الحجّاج يقول: أخطب الناس صاحب العمامة السّوداء بينَ أَخصاص البصرة، إذا شاء خَطب، وإذا شاء سكت، يعني الحسن، فيقول: لم ينصب نفسه للخِطاب، قال: ولمَّا اجتمعَت الخطباء عند معاوية في شأن يزيد، وفيهم الأحنف، قام رجلٌ من حِمير، فقال: إنا لا نطيق أَفواهَ الكِمال - يريد الجِمال - علىهم المقال، وعلينا الفِعال، وقول هذا الحمِيريّ: إنا لا نطيق أَفواه الكِمال، يدلُّ على تشادُق خطباء نِزار، سفيان بن عُيينة قال: قال ابن عباس: إذا تَرَك العَالِمُ قولَ لا أَدري أصيبت مَقاتِله، وقال عمر بن عبد العزيز: من قال: لا أدري فقد أَحرز نصفَ العلم، لأنَّ الذي له على نفسه هذه القوة قد دلَّنا على جودة التثبُّت، وكثرة الطَّلب، وقوة المُنَّة، قال: وقيل لعيسى بن مريم عليه السلام: من نُجالس؟ قال: مَن يزيد في علمكم منطُقه، ويُذكّركم اللَّه رؤيتُه، ويرغْبكم في الآخرة علمه، قال: ومرَّ المسيح صلى الله عليه وسلم بقومٍ يبكون، فقال: ما بال هؤلاء يبكون؟ قيل له: يخافون ذنوبَهم، قال: اتركوها يُغفرْ لكم، الوصافيّ قال: دخل الهيثم بن الأسود بن العُريان، وكان خطيباً شاعراً، على عبد الملك بن مروان فقال له: كيف تجدك؟ فقال: أجدني قد ابيضَّ مني ما كنتُ أحبّ أن يسودّ، واسودّ مني ما كنْتُ أحبّ أن يبيضّ، واشتدّ منّي ما كنت أحب أن يلين، ولانَ مني ما كنت أحب أن يشتدّ، ثم أنشد:

اسمَع أنبِّيكَ بـآيات الـكِـبَـر

 

نومُ العِشاءِ وسُعَالٌ بالسَّـحْـر

وقلَّةُ النوم إذا الليل اعـتـكَـرْ

 

وقلَّةُ الطُّعم إذا الزاد حَضْـر

وسرعة الطَّرف وتحميج النّظَرْ

 

وحـذراً أزدادُه إلـى حـذَرْ

وتركيَ الحسناءَ في قُبْل الطُّهُر

 

والنّاس يبلَوْن كما يبلى الشجرْ

وقال الآخر: مُروا الأحداث بالمِراء، والكهولَ بالفكر، فقال عبد اللَّه بن الحَسَن: المِراءُ رائِد الغضب، فأخزى اللَّه عقلاً يأتيك بالغضب، وقالوا: أربعة تشتدُّ معاشرتهم: الرجل المتواني، والرجل العالم، والفرس المرحُ، والملك الشديد المملكة، وقال غازٍ أبو مجاهد، يعارضه: أربعة تشتد مَؤونتهم: النديم المعربد، والجليس الأحمق، والمغنِّي التائه، والسَّفِلةُ إذا تقرَّأ، وكان زبو شِمْرٍ الغسَّاني يقول: أقبل عليَّ فلانٌ باللحظ واللفظ، وما الكلام إلاَّ زجرٌ أو وعيد، قال: وقال عمير بن الحُباب، وروى ذلك عنه مِسْعَرٌ: ما أغَرْتُ على حيٍّ في الجاهليّة أحزمَ امرأةً ولا أعجر رجلاً من كلبٍ، ولا أحزم رجلاً ولا أعجزَ امرأةً من تغلب، قال: وقامت امرأة من تغلبَ إلى الجَحَّاف بن حكيم حين أَوقع بالبِشر، فقَتَل الرّجال، وبقرَ بطون النِّساء، فقالت له: فضَّ اللَّهُ فاكَ، وأصمَّكَ وأَعماك، وأَطالَ سهادك، وأَقلَّ رقادك؛ فواللَّه إنْ قتلتَ إلا نساءً أسافلهنّ دُميّ، وأعاليهن ثُدِيّ، فقال الجحاف لمن حوله: لولا أن تلد مثلَها لَخَلَّيتُ سبيلَها، فبلغ ذلك الحسنَ فقال: إنّما الجحَّاف جَذْوةٌ من نار جهنم، وكان عامر بن الظّرِب العَدْواني حكيماً، وكان خطيباً رئيساً، وهو الذي قال: يا معشر عَدْوان، إنّ الخير أَلُوفٌ عَزُوفٌ، ولن يُفارقَ صاحبه حتى يفارقه، وإنّي لم أكنَ حليماً حتى اتّبعت الحكماء، ولم أكنْ سيّدَكم حتَّى تعبَّدت لكم، وقال أعشى بني شَيبان:

وما أنا في أمرِي ولا في خليقتـي

 

بمهتَضَمٍ حقِّي ولا قارعٍ سِـنّـي

ولا مُسْلمٍ مولايَ من شرِّ ما جَنَـى

 

ولا خَائفٍ مولاي من شرِّ ما أجني

وإن فؤاداً بين جـنـبـيَّ عـالـمٌ

 

بما أبصرَتْ عينِي وما سمَعتْ أُذْنِي

وفضّلني في العقل والشِّعر أنّـنـي

 

أقولُ بما أهوَى وأعرِف ما أعنـي

وقال رجل من ولد العبَّاس: ليس ينبغي للقرشيِّ أن يستغرق شيئاً من العلم إلاّ علَم الأخبار، فأما غير ذلك فالنُّتف والشَّدْو من القول، وقال آخر:

وصافيةٍ تُعْشِي العيونَ رقـيقةٍ

 

رهينةِ عامٍ في الدِّنَـان وعـامِ

أدَرْنا بها الكأسَ الروِيَّةَ بينـنـا

 

من اللّيل حتَّى انجاب كلُّ ظلامِ

فما ذَرّ قرنُ الشّمس حتى كأننا

 

من العِيّ نحكي أحمدَ بنَ هشام

ومرَّ رجل من قريش بفتى من ولد عتَّاب بن أَسِيد وهو يقرأ كتاب سيبويه، فقال: أفٍّ لكم، علم المؤدِّبين وهمّة المحتاجين وقال ابن عتَّاب: يكون الرجل نحويّاً عَروضياً، وقسّاماً فَرَضياً، وحسنَ الكتاب جيّد الحساب، حافظاً للقرآن، راوية للشعر، وهو يرضى أن يعلِّم أولادنا بستِّين درهماً، ولو أنَّ رجلاً كان حسنَ البيان حسنَ التخريج للمعاني ليس عنده غيرُ ذلك لم يَرْضَ بألف درهم؛ لأن النحويَّ الذي ليس عنده إمتاعٌ، كالنجّار الذي يُدْعَى ليغلّق باباً وهو أحذَقُ الناس، ثمّ يفرغ من تعليقه ذلك البابَ فيقال له: انصرفْ، وصاحبُ الإمتاع يُراد في الحالات كلِّها، خبّرنا عبيد اللّه بن زيد السُّفياني قال: عَوِّد نفسك الصبر على الجليس السَّوْءِ، فإنّه لا يكاد يخطئك، وقال سُهيل بن عبد العزيز: من ثَقَّل عليك بنفسه، وغمَّك في سؤاله، فأعِره أذناً صماء، وعيناً عمياء، سُهَيل بن أبي صالح عن أبيه قال: كان أبو هريرة إذا استثقل رجلاً قال: اللهم اغفر لهُ وأرْحنا منه وقال ابن أبي أمية:

شهدتُ الرَّقاشيَّ في مجلـسٍ

 

وكان إليَّ بغيضاً مَـقـيتـا

فقال: اقترِحْ يا أبا جعـفـرٍ

 

فقلتُ: اقترحت عليك السكوتا

وقال ابن عباس: العلم أكثرُ مِن أن يُحصَى، فخذوا من كلِّ شيء بأحسنه، المدائنيّ عن العبّاس بن عامر، قال: خطب محمد بن الوليد بن عتبة إلى عمر ابن عبد العزيز أختَه فقال: الحمد للّه ربّ العزّة والكبرياء، وصلّى اللّه على محمّد خاتَم الأنبياء، أما بعد فقد أحسَنَ بك ظنّاً مَن أودعَكَ حرمتَه، واختارك ولم يختَرْ عليك، وقد زوّجْناك على ما في كتاب اللّه، إمساكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان، قال: وخطب أعرابيٌّ وأعجلَه القولُ وكره أن تكون خطبته بلا تحميد ولا تمجيد، فقال: الحمد للّه، غيرَ مَلال لِذكر اللّه، ولا إيثار غيرِه عليه، ثم ابتدأ القول في حاجته، وسأل أعرابيٌّ ناساً فقال: جعل اللّه حَظَّكم في الخير، ولا جعل حظَّ السائل منكم عِذْرَةً صادقة، وكتب إبراهيم بن سَيابة إلى صديقٍ له كثير المالِ، كثير الدَّخل، كثير الناضِّ يستسلف منه نفقة، فكتب إليه: العيال كثير، والدَّخل قليل، والدَّين ثقيل، والمال مكذوب عليه، فكتب إليه إبراهيم: إن كنت كاذباً فجعلك اللّه صادقاً، وإن كنتَ مُلِيماً فجعلك اللّه معذوراً، وقال الشاعر:

لعل مُفِيدات الـزَّمـان يُفـدنِـنـي

 

بني صامتِ في غير شيءٍ يضيرها

قال: وقال أعرابيُّ: اللهمَّ لا تُنزلني بماء سَوءٍ فأكون امرأ سَوء، وقال أعرابي: اللهم قني عثراتِ الكرام، قال: وسمع مُجاشع الرَّبَعيّ رجلاً يقول: الشَّحيح أعذر من الظالم، فقال: أخزى اللّه شيئين خيرهما الشحّ، قال: وأنشدَنا أبو فروة:

إني امتدحتُك كاذباً فأَثَبْتَـنـي

 

لمّا امتدحتك، ما يثابُ الكاذبُ

وأنشدني عليُّ بن معاذ: من السريع

ثالبَني عمرٌو وثالبْـتُـه

 

فأثِمَ المثلوبُ والثّالـبُ

قلتُ له خيراً وقال الخنا

 

كلٌّ على صاحبه كاذبُ

أبو معشر، قال: لما بلغ عبدَ اللّه بن الزبير قتلُ عبد الملك بن مروان عمرَو بنَ سعيدٍ قام خطيباً فقال: إنّ أبا ذِبَّانٍ قَتَل لطيمَ الشيطان، كذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضَاً بما كانوا يَكْسِبُون، ولما جلس عثمانُ بن عفّان على المنبر قال: يا أيها النّاس، إنّ اللّه قد فتح عليكم إفريقيّة، وقد بعث إليكم ابنُ أبي سرحٍ، عبدَ اللّه الزُّبير بالفتح، قم يا ابن الزُّبير، قال: فقمت فخطبتُ، فلما نزلتُ قام فقال: يا أيُّها الناس، انكِحُوا النساء على آبائهن وإخوتهنّ؛ فإنَّي لم أر لأبي بكر الصدِّيقِ ولداً أشبه به من هذا، وقال الخُرَيمي:

وأعددتُه ذخراً لكلِّ مصيبةٍ

 

وسَهْمُ المنايا بالذّخائر مُولَع

وذكر أبو العَيزار جماعة من الخوارج بالأدب والخطب فقال:

ومسوَّم للمَوت يركب رَدْعَـه

 

بين القواضِب والقنا الخَطَّـار

يدنو وترفعه الرِّماحُ كـأنّـه

 

شِلوٌ تَنَشَّبَ في مَخَالِب ضَارِي

فَثَوَىَ صَرِيعاً والرماح تَنُوشُه

 

إنّ الشُّرَاة قصيرةُ الأعمـارِ

أدباءُ إما جئتهـم خـطـبـاءُ

 

ضُمناءُ كلِّ كـتـيبةٍ جَـرّارِ

ولما خطَبَ سفيانُ بن الأبرد الأصمّ الكلبيّ، فبلغ في الترهيب والترغيب المبالغَ، ورأى عَبِيدة بن هلال اليشكري أن ذلك قد فتَّ في أعضاد أصحابه، أنشأ يقول:

لَعمرِي لقد قام الأصمُّ بخطـبةٍ

 

لها في صُدور المسلمين غَليلُ

لعمري لئن أعطيتُ سفيانَ بَيْعتي

 

وفارقتُ ديني إنني لجـهـولُ

ولما قام أحد الخطباء الذين تكلمواعند رأس الإسكندر قال أحدهم: الإسكندر كان أمسِ أنطقَ منه اليومَ، وهو اليومَ أوعظُ منه أمس، فأخذه أبو العتاهية فقال:

بكيتك يا عليُّ بَـدَرِّ عـينـي

 

فما أغنى البكاءُ علـيك شـيَّا

طوتْك خطوبُ دهرِكَ بعد نشرٍ

 

كذاك خطوبُهُ نشـراً وطَـيّا

كفى حُزَْناً بدفْنـكَ ثـم أنـي

 

نفضْتُ ترابَ قبرك عـن يدَيّا

وكانت في حياتكَ لي عظـاتٌ

 

وأنت اليومَ أوعظُ منك حـيّا

ومن الأسجاع الحسنة قول الأعرابية حين خاصمت ابنها إلى عامل الماء فقالت: أمَا كان بطني لك وِعاءً؟ أما كان حِجري لك فِناء؟ أما كان ثديي لك سِقاء؟، فقال ابنها: لقد أصبحتِ خطيبةً، رضي اللّه عنك، لأنّها قد أتت على حاجتها بالكلام المُتَخَيَّر كما يبلغ الخطيبُ بخطبته، وقال النَّمر بن تولب:

وقالتْ: ألا فاسمع نَعِظْكَ بخطبةٍ

 

فقلتُ: سمعنا فانطقي وأصِيبي

فلن تنطِقي حقّاً ولستِ بأهـلـهِ

 

فقبِّحتِ ممَّا قـائلٍ وخـطـيبِ

قال أبو عباد كاتب ابنِ أبي خالد: ما جلس أحدٌ قط بين يديَّ إلاَّ تمثّل لي أني سأجلس بين يديه، قال اللّه عزّ وجلّ: "وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً" النساء:36، ليس يريد بلاغةَ اللسان، وإنْ كان اللسان لا يبلغُ من القلوب حيثُ يريد إلا بالبلاغة، قال: وكانت خُطبة قريش في الجاهليّة - يعني خُطبة النساء -: باسمك اللهم، ذُكِرَتْ فلانةُ وفلانٌ بها مشغوف، باسمك اللهم، لك ما سألت ولنا ما أعطيت، ولما مات عبد الملك بن مروان صعِد الوليدُ المنبرَ فحمِد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: لم أرَ مثلَها مصيبةً، ولم أر مثلَها ثواباً: موت أمير المؤمنين، والخلافة بعدَه، إنَّا للّه وإنَّا إلَيْهِ راجِعُون، والحمد للّه رب العالمين على النِّعمة، انهضوا فبايعُوا على بركة اللّه، فقام إليه عبدُ اللّه بن همَّامٍ فقال:

اللّهُ أعطاكَ التي لا فوقَها

 

وقد أراد المُلْحِدون عَوْقَها

عنك ويأبى اللّه إلاّ سَوْقَها

 

إليك حتَّى قلّدوك طَوْقَها

فبايَعَ النَّاس، وقيل لعمرو بن العاصي في مرضه الذي مات فيه: كيف تجدك؟ قال: أجدني أذوب ولا أثُوب، وأجدُ نجوي أكثر من رُزئي، فما بقاءُ الشّيخ على ذلك، وقيل لأعرابيّ كانت به أمراضٌ عدّة، كيف تجدِكُ؟ قال: أمّا الذي يَعْمِدُني فحُصْر وأُسْر،وعن مقاتل قال: سمعت يزيد بن المهلب، يخطب بواسط، فقال: يا أهل العراق، يا أهل السَّبق والسِّباق، ومكارم الأخلاق، إنّ أهل الشام في أفواههم لُقمةٌ دَسمة، زَبَّبَتْ لها الأشداق، وقاموا لها على ساق، وهم غير تاركيها لكم بالمِراء والجِدال؛ فالبَسوا لهم جُلودَ النُّمور، تم الجزء الأول من تجزئة المؤلف.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، ولا حولَ ولا قوَّة إلاّ باللّه، وصلى اللّه على محمد خاصّة، وعلى أنبيائه عامّة، أردْنا - أبقاك اللّهُ - أن نبتدئ صدرَ هذا الجزءِ من البيان والتبيُّن بالرد على الشعوبية في طعنهم على خطباء العرب وملوكهم؛ إذْ وصلوا أيمانَهم بالمخاصر، واعتمدوا على وجه الأرض بأطراف القسيّ والعصيّ، وأشاروا عند ذلك بالقُضبان والقُنِيّ، وفي كلّ ذلك قد روينا الشاهدَ الصادق، والمثلَ السَّائر، ولكنَّا أحببْنا أن نُصَيّر صدَر هذا البابِ كلاماً من كلام رسول ربِّ العالمين، والسَّلَف المتقدِّمين، والجِلّةِ من التابعين، الذين كانوا مصابيحَ الظلام، وقادة هذا الأنام، ومِلْحَ الأرض، وحُلِيَّ الدُّنيا، والنّجومَ التي لا يضلُّ معها السَّاري، والمَنارَ الذي يرجع إليه الباغي، والحِزْبَ الذي كثّر اللّه به القليل، وأعزَّ به الذليل، وزاد الكثيرَ في عدده، والعزيزَ في ارتفاع قدره، وهم الذين جَلَوْا بكلامهم الأبصارَ الكليلة، وشَحذوا بمنطقهم الأذهانَ العليلة، فنَبَّهوا القلوبَ من رَقدتها، ونقلوها عن سوء عادتها، وشفَوها من داء القسوة، وغباوة الغفلة، وداوَوْا من العيّ الفاضح، ونهَجُوا لنا الطّريق الواضح، ولولا الذي أمَّلتُ في تقديم ذلك وتعجيله، من العملِ بالصواب، وجزيلِ الثَّواب، لقد كنتُ بدأتُ بالردِّ عليهم وبكشف قِناع دعواهم، على أنَّا سنقول في ذلك بعد الفراغ ممَّا هو أولى بنا، وأوجبُ علينا، واللّه الموفق، وهو المستعان، وعلى أنّ خطباءَ السّلَفَ الطيّب، وأهلَ البيان من التابعين بإحسان، ما زالوا يسمُّون الخطبةَ التي لم تبتَدَأ بالتحميد، وتُستفتَحْ بالتمجيد: البتراء، ويسمُّون التي لم توشّح بالقرآن، وتزيَّنْ بالصَّلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : الشَّوْهاء، وقال عِمرانُ بن حِطّان: خطَبتُ عند زيادٍ خطبةَ ظننتُ أنِّي لم أقصِّرْ فيها عن غاية، ولم أدَعْ لطاعنٍ علّة، فمررتُ ببعض المجالس فسمعتُ شيخاً يقول: هذا الفتى أخطَبُ العربِ لو كان في خطبته شيء من القرآن، وخطب أعرابيٌّ فلمّا أعجله بعضُ الأمر عن التَّصدير بالتحميد، والاستفتاح بالتمجيد، قال: أما بعد، بغير ملالةٍ لذكر اللّه ولا إيثار غيره علَيه، فإنَّا نقول كذا، ونسأل كذا؛ فِراراً من أن تكون خطبتُه بتراءَ أو شوهاء، وقال شَبيب بن شيبة: الحمد للّه، وصلّى اللّه على رسول اللّه، أمَّا بعد فإنّا نسأل كذا، ونبذل كذا، وبنا - حفِظَك اللّهُ - أعظمُ الحاجة إلى أن يَسلم كتابنا هذا من النَّبَز القبيح والشَّوَه المَشِين، واللقَب السَّمج المَعيب، بل قد يَجب أن نزيدَ في بهائه ونستميل القلوبَ إلى اجتبائه، إذْ كان الأملُ فيه بعيداً، وكان معناه شريفاً ثميناً،ثم اعلم بعدَ ذلك أنّ جميع خُطَبِ العرب، من أهل المدَر والوبر، والبدْو والحضَر، على ضربين: منها الطِّوال، ومنها القصار ولكلّ ذلك مكانٌ يليق به، وموضعٌ يحسُن فيه، ومن الطِّوال ما يكون مستوياً في الجودة، ومتشاكلاً في استواء الصَّنعة، ومنها ذوات الفِقَر الحسان، والنُّتَف الجياد، وليس فيها بعدَ ذلك شيءٌ يستحق الحفظَ، وإنما حظُّه التخليد في بطون الصُّحِف، ووجَدنا عددَ القصار أكثر، ورواةَ العلم إلى حفظها أسرع، وقد أعطينا كلَّ شكل من ذلك قِسطه من الاختيار، ووفَّيناه حظَّه من التمييز، ونرجو ألاّ نكون قصَّرْنا في ذلك واللّه الموفّق، هذا سوى ما رسمنا في كتابنا هذا من مقطَّعات كلام العرب الفصحاء وجُمِل كلام الأعراب الخُلَّص، وأهل اللَّسَن من رجالات قريش والعرب، وأهل الخطابة من أهل الحجاز، ونُتفٍ من كلام النُّسَّاك ومواعظَ من كلام الزّهاد، مع قلّة كلامِهم، وشِدَّة توقّيهم، وربَّ قليل يُغني عن الكثير، كما أن رُبَّ كثيرٍ لا يتعلَّق به صاحب القليل، بل ربَّ كلمةٍ تُغْنِي عن خطبة، وتنوب عن رسالة، بل ربَّ كنايةٍ تربي على إفصاح، ولحظٍ يدلُّ على ضمير، وإن كان ذلك الضمير بعيدَ الغاية، قائماً على النِّهاية، ومتى شاكل أبقاك اللّه ذلك اللفظُ معناه؛ وأعرب عن فَحواه، وكان لتلك الحال وَفْقاً، ولذلك القدرِ لِفْقاً، وخَرَج من سماجة الاستكراه، وسلِم من فساد التكلف، كان قميناً بِحُسن الموقع، وبانتفاع المستمِع، وأجدَرَ أن يمنع جانِبَه من تناوُل الطَّاعنين، ويحميَ عِرضه من اعتراضِ العائبين، وألاَّ تزالَ القلوبُ به معمورةً، والصّدورُ مأهولة، ومتى كان اللفظ أيضاً كريماً في نفسه، متخيَّراً من جنسه، وكان سليماً من الفُضول، بريئاً من التعقيد، حُبِّب إلى النُّفوس، واتَّصل بالأذهان، والتحَمَ بالعقول، وهشَّت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب، وخفَّ على ألسُن الرُّواة، وشاع في الآفاق ذِكرُه، وعظُم في الناس خَطَره، وصار ذلك مادَّةً للعالِم الرئيس، ورياضة للمتعلّم الريِّض، فإن أراد صاحبُ الكلام صلاحَ شأن العامَّة، ومصلحةَ حال الخاصَّة، وكان ممَّن يعُمُّ ولا يخُصّ، وينصح ولا يغُشّ، وكان مشغوفاً بأهل الجماعة، شَنِفاً لأهل الاختلاف والفرقة، جُمعت له الحظوظُ من أقطارها، وسِيقت إلىه القلوبُ بأزِمّتها، وجُمعت النفوسُ المختلفة الأهواء على محبَّته، وجٍُبِلت على تصويب إرادته، ومَن أعاره اللّه من مَعُونته نصيباً، وأفْرَغ عليه من محبّته ذَنوباً، جُلِبت إليه المعاني، وسَلِسَ له النّظام، وكان قد أعْفَى المستمعَ من كدّ التكلف، وأراح قارئَ الكتاب من علاج التفهُّم، ولم أجِدْ في خطب السَّلفِ الطِّيبِ والأعراب الأقحاحِ، ألفاظاً مسخوطة، ولا معانيَ مدخولة، ولا طبعاً رديئاً، ولا قولاً مستكرهاً، وأكثرُ ما نَجد ذلك في خطب المَوَلَّدين، وفي خطب البلديِّين المتكلِّفين، ومن أهل الصنعة المتأدِّبين، وسواء كان ذلك منهم على جِهة الارتجال والاقتضاب، أوْ كان من نتاج التحبير والتفكير، ومِنْ شعراء العرب مَن كان يدع القصيدةَ تمكث عنده حولاً كَريتاً، وزَمناً طويلاً، يردِّد فيها نَظَرَه، ويُجِيل فيها عقله، ويقلِّب فيها رأيَه، اتّهاماً لعقله، وتتبُّعاً على نفسه، فيجعل عقلَه، زِماماً على رأيه، ورأيَه عِياراً على شعره؛ إشفاقاً على أدبه، وإحرازاً لما خوّله اللَّه تعالى من نِعمته، وكانوا يسمُّون تلك القصائدَ: الحوليّاتِ، والمقلَّدات، والمنقَّحات، والمُحكَمات؛ ليصير قائلها فحلاً خِنذيداً، وشاعراً مُفْلقاً، وفي بيوت الشِّعر الأمثال والأوابد، ومنها الشَّواهد، ومنها الشوارد، والشعراء عندهم أربع طبقات، فأوّلهم: الفحل الخنديذ، والخنذيذ هو التامّ، قال الأصمعي: قال رؤبة: الفُحولة هم الرواة، ودون الفحل الخِنذيذِ الشَّاعرُ المُفْلِقُ، ودونَ ذلك الشاعرُ فقط، والرَّابع الشُّعْرُور، ولذلك قال الأوّل في هجاء بعض الشعراء:

يا رابعَ الشعراءِ كيف هجوتني

 

وزعمتَ أني مُفْحَمٌ لا أنطِـقُ

فجعله سُكَّيتاً مُخلَّفاً، ومسبوقاً مؤخَّراً، وسمعتُ بعض العلماء يقول: طبقات الشّعراء ثلاث: شاعر، وشوَيْعر، وشُعْرُور، قال: والشُّويعر مثل محمد بن حُمران بن أبي حُمران، سمَّاه بذلك امرؤ القيس بن حُجْر، ومنهم من بني ضبَّة: المفَوَّف، شاعر بني حُمَيس، وهو الشُّوَيعر، ولذلك قال العبدي:

ألا تَنْهَِى سَرَاة بني حُمَيسٍ

 

شُوَيعِرَها فُوَيْليَة الأفاعي

قبيِّلةٌ تَردَّدُ حـيث شـاءت

 

كزائدةِ النَّعامَةِ في الكُراعِ

فُويليَة الأفاعي: دوْيَّبة سوداء فوق الخُنفَساء، والشويعر أيضاً: صفوان بن عبد يا لِيلَ، من بني سَعد بن ليث، ويقال إنَّ اسمَه ربيعة بن عثمان، وهو الذي يقول:

فسَائِلْ جعفراً وبني أبـيهـا

 

بني البَزَرَى بِطَِخْفة والمِلاَحِ

وأفلتَنا أبو لـيلـى طُـفـيلٌ

 

صحيحَ الجلد مِن أثَرِ السّلاحِ

وقد زعم ناسٌ أنّ الخنذيذ من الخيل هو الخَصيّ، وكيف يكون ذلك كذلك مع قول الشاعر:

يا ليلتي بالخَبْتِ لم أر مـثـلَـهـا

 

أمَرَّ قِرًى منها وأكثَـرَ بـاكـيَا

وأكثَرَ خِنـذيذاً يجـرُّ عِـنـانَـهُ

 

إلى الماء لم يترُكْ له السَّيفُ ساقيا

وقال بشر بن أبي خازم:

وخنذيذٍ تَرى الغُرمُولَ منهُ

 

كطَيّ الزِّقّ علَّقهُ التِّجارُ

وأبيَنُ من ذلك قول البُرجُميّ: من الخفيف

وخناذيذ خصيةً وفُحُولا

ويدلُّ على ما قلنا قول القيسيّ:

دعوتُ بني سعدٍ إليَّ فشمـرَّتْ

 

خناذيذُ من سعدٍ طِوالُ السَّواعدِ

وكان زُهير بن أبي سُلمى يسمِّي كبارَ قصائده: الحَوليَّات، وقد فسَّر سُويد بنُ كُراعٍ العُكليُّ ما قلنا، في قوله:

أبيتُ بأبوابِ القوافـي كـأنَّـمـا

 

أُصادِي بها سِرْباً من الوَحشِ نُزَّعَا

أكالئُها حتى أُعَـرِّسَ بـعـد مـا

 

يكون سُحيراً أو بُعيداً فأهجَـعـا

عَواصِيَ إلاّ من جعلتُ أمامَـهـا

 

عصا مِرْبَدٍ تغشى نحوراً وأذرُعا

أهَبْتُ بغُرِّ الآبدات فـراجـعـت

 

طريقاً أمَلَّتْهُ القصائدُ مَـهْـيعَـا

بعـيدةُ شـأوٍ، لا يكـاد يرُدُّهــا

 

لها طالبٌ حتى يَكِلَّ ويَظْـلَـعـا

إذا خِفْتُ أن تُروَى عَلىّ رددتُـهـا

 

وراءَ التراقِي خشيةً أن تطَلَّـعـا

وجشَّمني خوفُ ابنِ عَفّان رَدَّهـا

 

فثقّفْتُها حَولاً حَرِيداً ومَـرْبَـعـا

وقد كان في نفسي علـيهـا زيادةٌ

 

فلم أرَ إلا أنْ أطيعَ وأسْـمَـعَـا

ولا حاجةَ بنا مع هذه الفِقَرِ إلى الزيادة في الدَّليل على ما قلنا، ولذلك قال الحطيئة: خير الشِّعر الحَوليُّ المُحكَّكُ، وقال الأصمعيّ: زهير بن أبي سُلْمَى، والحطيئةُ وأشباههما، عبيدُ الشِّعر، وكذلك كلُّ من جَوَّد في جميعِ شعره، ووقف عند كلِّ بيت قاله، وأعاد فيه النَّظَر حتى يُخرِجَ أبياتَ القصيدة كلّها مستويةً في الجودة، وكان يُقال: لولا أنَّ الشّعرَ قد كان استعبَدَهم واستفرغ مجهودَهم حتّى أدخلَهم في باب التكلُّف وأصحاب الصنعة، ومَن يلتمِسُ قَهْرَ الكلام، واغتصابَ الألفاظ، لذهبوا مذهبَ المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سَهْواً ورَهواً، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالاً، وإنَّما الشّعر المحمود كشعر النابغة الجَعْدِيّ ورُؤبة، ولذلك قالوا في شعره: مُِطْرَفٌ بآلاف وخِمارٌ بِوَافٍ، وقد كان يخالف في ذلك جميع الرُّواة والشعراء، وكان أبو عبيدة يقولُ ويَحكِي ذلك عن يونس، ومَن تكسَّبَ بشعره والتمس به صِلات الأشراف والقادة، وجوائزَ الملوك والسادة، في قصائد السِّماطَين، وبالطِّوال التي تُنشَد يوم الحفْل، لم يجِدْ بُدّاً من صَنيع زُهير والحطيئة وأشباههما، فإذا قالوا في غير ذلك أخذوا عفوَ الكلام وتركوا المجهود، ولم نرهم مع ذلك يستعملونَ مثلَ تدبيرهم في طِوال القصائد في صنعة طِوَالِ الخُطَب، بل كان الكلام البائِت عندهم كالمقتضب، اقتداراً عليه، وثقةً بحسُنْ عادة اللّه عندهم فيه، وكانوا مع ذلك إذا احتاجوا إلى الرَّأي في معاظم التَّدبير ومُهِمَّات الأمور، ميّثُوه في صدورهم، وقيَّدوه على أنفسهم، فإذا قوَّمه الثِّقاف وأُدخِلَ الكِير، وقامَ على الخِلاص، أبرزوه مُحَكَّكاً منقَّحاً، ومُصَفًّى من الأدناس مُهذَّباً، قال الربيع بن أبي الحُقيق لأبي ياسرٍ النَّضِيري:

فلا تُكثِر النَّجوَى وأنت محاربٌ

 

تُؤامر فيها كل نِكسٍ مُقَصِّـرِ

وقال عبد اللّه بن وهب الراسبيّ: إيايَ والرأيَ الفَطيرَ، وكان يَستعيذ باللّه من الرأي الدَّبَريّ، الذي يكون من غير رويَّةٍ، وكذلك الجواب الدَّبَريّ، وقال سحبانُ وائلٍ: شرُّ خليطَيكَ السَّؤُوم المحزَّمُ؛ لأنّ السَّؤوم لا يصبر، وإنما التفاضل في الصبر، والمحزَّم صَعبٌ لا يُعرفُ ما يُرَاد منه، وليس الحزم إلا بالتجارب، وبأن يكون عقلُ الغريزة سُلَّماً إلى عقل التجربة، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: رأيُ الشَّيخ أحبُّ إلينَا من جَلَدِ الشابّ، ولذلك كرِهوا ركوبَ الصَّعب حتى يَذِلّ، والمُهرِ الأرِنِ إلا بعد رياضة، ولم يحوّلُوا المَعانيق هماليجَ إلا بعد طول التَّخليع، ولم يَحلُبوا الزَّبون إلا بعدَ الإبساس، وسنذكر من كلام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، مما لم يسبقه إليه عربيُّ، ولا شاركه فيه أعجميّ، ولم يُدَّعَ لأحدٍ ولا ادّعاه أحد، مما صار مستعملاً ومثلاً سائراً، فمن ذلك قوله: يا خيلَ اللّه اركبيَ، وقوله: ماتَ حتْفَ أنفه، وقوله: لا تنتطِح فيه عَنْزَان، وقوله: الآنَ حمِيَ الوَطيس، ولمَّا قال عديُّ بنُ حاتمٍ في قتل عثمانَ رحمه اللّه: لا تَحبِقُ فيه عَنَاقٌ قال له معاوية بن أبي سفيان بعد أن فُقئت عينه وقُتِل ابنه: يا أبا طريف، هل حبقَتْ في قتل عثمانَ عَنَاقٌ؟ قال: إي واللّه، والتَّيْس الأكبر فلم يَصِرْ كلامهُ مَثَلاً، وصار كلامُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مثلاً، ومن ذلك قوله لأبي سفيانُ بن حرب: كلُّ الصَّيد في جَوفْ الفَرَا، ومن ذلك قوله: هُدْنةٌ على دَخَنٍ، وجماعةٌ على أقذاءٍ، ومن ذلك قوله: لا يُلسع المؤمن من جُحْر مرَّتين، ألا ترى أن الحارث بن حُدّان، حين أُمِر بالكلام عند مقتل يزيد بن المهلب، قال: يا أيها الناس، اتَّقوا الفِتنة؛ فإنّها تُقْبِل بشُبْهةٍ، وتُدْبر ببيان، وإنّ المؤمن لا يُلسَع من جُحْرٍ مرتين، فضرب بكلام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المثلَ، ثم قال: اتقوا عُصَباً تأتيكم من الشَّام، كأنها دِلاءٌ قد انقطع وَذَمُها، وقال ابن الأشعث لأصحابه، وهو على المنبر: قد علمنا إن كُنّا نَعْلم، وفهِمنا إن كنا نفهم، أنّ المؤمنَ لا يُلسَع من جحر مرتين، وقد واللّه لُسِعت بكم من جُحرٍ ثلاثَ مَرّات، وأنا أستغفِر اللّه من كلِّ ما خالف الإيمان، وأعتصمُ به من كل ما قارَبَ الكُفر،وأنا ذاكرٌ بعد هذا فَنّاً آخرَ من كلامه صلى الله عليه وسلم ، وهو الكلام الذي قلّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجَلَّ عن الصَّنعة، ونُزِّه عن التكلف، وكان كما قال اللّه تبارك وتعالى: قل يا محمد: "وما أنا مِنَ المتَكلِّفين" ص:68، فكيف وقد عابَ التشديق، وجانب أصحاب التعقيب، واستعمل المبسوطَ في موضع البسط، والمقصورَ في موضع القصر، وهَجَر الغريبَ الوحشيَّ، ورغِبَ عن الهجين السُّوقيّ، فلم ينطِقْ إلا عن مِيراثِ حكمَةٍ، ولم يتكلَّم إلا بكلامٍ قد خُفَّ بالعصمة، وشُيِّد بالتأييد، ويُسِّرَ بالتوفيق، وهو الكلامُ الذي ألقَى اللّه عليه المحبّةَ، وغشَّاهُ بالقَبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبَيْن حُسنِ الإفهام، وقلّة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقِلّةِ حاجة السامع إلى معاوَدته، لم تسقط له كلمة، ولا زَلّت به قَدَم، ولا بارَتْ له حجَّة، ولم يَقُم له خَصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذُّ الخُطَبَ الطِّوال بالكلِم القِصار ولا يَلتمِس إسكاتَ الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتجُّ إلا بالصِّدق ولا يطلب الفَلْج إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل الموارَبة، ولا يهمِز ولا يَلْمِز، ولا يُبْطِيءُ ولا يَعْجَل، ولا يُسْهِب ولا يَحْصَر، ثم لم يَسْمع الناسُ بكلامٍ قَطّ أعمَّ نفعاً، ولا أقصَدَ لفظاً، ولا أعدلَ وزناً، ولا أجملَ مذهباً، ولا أكرَم مطلباً، ولا أحسنَ موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح معنًى، ولا أبين في فحوَى، من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيراً، قال: ولم أرَهُم يذمُّون المتكلِّف للبلاغة فقطْ، بل كذلك يَرَون المتظرِّف والمتكلِّف للغِناء، ولا يكادون يضَعون اسمَ المتكلّف إلا في المواضع التي يذمُّونها، قال قيس بن الخطيم:

فما المالُ والأخلاقُ إلا مُعـارةٌ

 

فما اسْطَعتَ من معروفِها فتزوَّدِ

وإنِّي لأَغْنَى النّاس عن متكلّـف

 

يرى الناسَ ضُلاّلاً وليس بمهتـدِ

وقال ابن قَميئة:

وحمَّال أثقالٍ إذا هي أعرضَـتْ

 

عن الأصْلِ لا يَسْطيعها المتكلِّفُ

قال محمَّد بن سلام: قال يونس بن حبيب: ما جاءنا عن أحدٍ من روائع الكلام ما جاءنا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وقد جمعتُ لك في هذا الكتاب جُملاً التقطناها من أفواه أصحاب الأخبار، ولعلّ بعضَ من يتَّسِع في العلم، ولم يعرفْ مقاديرَ الكَلِم، يظُنّ أنّا قد تكلّفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلُغه قدْرُه، كَلاَّ والذي حَرَّمَ التزيُّدَ على العلماء، وقبَّح التكلّف عند الحكماء، وبَهْرَجَ الكذَّابين عند الفقهاء، لا يظنّ هذا إلا من ضلَّ سعيُه فمن كلامه صلى الله عليه وسلم حين ذكر الأنصار فقال: أمَا واللّه ما عَلِمْتُكُمْ إلا لَتَقِلُّون عند الطمع، وتكثُرون عند الفَزَع، وقال: الناس كلُّهم سواءٌ كأسنان المُشْط والمرء كثيرٌ بأخيه، ولا خَيْرَ في صحبةِ من لا يرى لك مِثلَ ما ترَى له، وقال الشاعر:

سواءٌ كأسنانِ الحمار فلا تـرى

 

لِذِي شَيْبةٍ منهم على ناشئٍ فَضْلا

وقال آخر:

شبابهمُ وشِـيبـهـمُ سـواءٌ

 

فهمْ في اللُّوم أسنانُ الحمارِ

وإذا حصَّلت تشبيهَ الشاعر وحقيقتَه، وتشبيهَ النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقتَه، عرفت فصْلَ ما بين الكلامين، وقال صلى الله عليه وسلم : المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويَسعَى بذِمَّتهم أدناهم، ويردُّ عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم، فتفهَّمْ، رحمكَ اللّه، قلّة حروفه، وكثرةَ معانيه، وقال عليه السلام: اليدُ العليا خيرٌ من اليد السُّفلى، وابدأ بمن تعول وقال: لا تَجْنِ يمينُك على شِمالك، وذَكَر الخيل فقال: بطونُها كَنْز، وظُهورُها حِرْزٌ، وقال: خير المال سِكّة مأبورة، وفرسٌ مأمورة، وقال: خير المال عينٌ ساهرة، لعين نائمة، وقال: نعِمت العَمّةُ لكم النَّخْلة، تُغرس في أرضٍ خَوّارة، وتشرب من عين خَرّارة، وقال: المطعمات في المَحْل، الراسخات في الوَحْلِ، وقال: الحُمَّى في أصول النّخل وذكر الخيل فقال: أعرافها دِفاؤها، وأذنابها مَذَابُّها، والخيلُ معقودٌ في نواصيها الخَيرُ إلى يوم القيامة، وقال: ليس مِنا مَن حَلَق أو صَلَق أو شَقَّ، وقال: نهيتكم عن عُقوق الأمهات، ووأْد البنات، ومنعٍ وهاتِ، وقال: الناس كالإبل المائةِ لا تجد فيها راحلة، وقال: ما أمْلَق تاجرٌ صَدوق، وجاء في الحديث: ما قَلّ وَكَفَى خيرٌ ممَّا كَثُرَ وألهَى، وقال: يحمِل هذا العِلْمَ من كُلِّ خَلَفٍ عُدولُه، ينفُون عنه تحريفَ الغالينَ، وانتحالَ المُبْطِلين، وتأويلَ الجاهلين، وقال عليُّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : الخَير في السَّيف، والخيرُ مع السيف، والخير بالسيف، وقال: لا يُورِدنَّ مُجْرِبٌ على مُصِحّ، وقال: لا تزالُ أمّتي صالحاً أمْرُها ما لم تر الأمانةَ مَغنماً والصّدقةَ مَغْرَماً، وقال: رأسُ العقل بعد الإيمان باللّه مُداراةُ الناس، ولن يهلِكَ امرؤٌ بعد مَشورة، وقال: المستشار مُؤتَمن، وقال: المستشار بالخيار، إن شاء قال وإن شاء أمْسَكَ، وقال: رحم اللّه عبداً قال خيراً فَغَنِمَ أو سكت فسلِم، وقال: افصلوا بين حديثكم بالاستغفار، وقال:استعينوا على طُول المشْي بالسَّعي، وقال للخاتنة: يا أمّ عَطِيّة، أشِمِّيه ولا تَنْهَكيه؛ فإنه أسْرَى للوجه، وأحظَى عند الزَّوج، وقال: لا تَجْلِسوا على ظَهر الطَّريق، فإنْ أَبَيْتُمْ فَغُضُّوا الأبصارَ ورُدُّوا السلام، واهْدُوا الضَّالَّ، وأعينوا الضعيف، وقال: إنّ اللّه يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبْله جميعاً ولا تفرَّقُوا، وأن تُناصِحُوا من وَلاّه اللّه أمْرَكم، ويكره لكم قِيلَ وقالَ، وكثرةَ السُّؤال، وإضاعة المال، وقال: يقول ابنُ آدمَ: مالي مالي، وإنّما لك من مالك ما أكلت فأفنَيت، أو لبِست فأبليت، أو وهَبْتَ فأمضيت، وقال: لو أنّ لابن آدم واديَيْنِ مِن ذهبٍ لسألَ إليهما ثالثاً، و لا يملأ جوفَ ابنِ آدمَ إلا التُّراب، ويتوبُ اللّه على من تاب، وقال: إن الدُّنيا حُلوة خَضِرة، وإن اللّه مستعملُكم فيها، فناظرٌ كيف تعملون، وقال: إنّ أحبّكم إليّ وأقربَكم مني مجلساً يومَ القيامة، أحاسِنكُمْ أخلاقاً، الموطَّئُون أكنافاً، الذين يألفون ويُؤلَفون، وإنّ أبغضكم إليَّ وأبعدَكُمْ منِّي مجلساً يومَ القيامة، الثَّرثارون المتشدِّقون المتفَيْهِقون، وقال: إيَّايَ والتَّشادق، وقال: إيّاكم والفُرَجَ في الصَّلاة، وقال: لا يُؤمَّنَّ ذو سلطان في سلطانه ولا يُجلس على فراش تكرِمَتِه إلا بإذنه، وقال: إيّاكم والمشَارّة، فإنها تميت الغُرّة، وتحيي العُرّة، وقال: لا ينبغي لِصدِّيق أن يكون لعَّاناً، وكان يقول: أعوذُ باللّه من الأيهمَيْن، وبَوَار الأيِّم، وكان يقول: أعوذ باللّه من دعاءٍ لا يُسْمَع، ومن قلب لا يَخشع، ومِن علم لا ينفع،  وقال له رجل: يا رسولَ اللّه، أوصِنِي بشيء ينفعني اللّه به، قال: أكثِرْ ذِكْرَ المَوْت يُسْلِكَ عن الدُّنيا، وعليك بالشكر؛ فإنه يزيد في النعمة، وأكْثر الدُّعاء؛ فإنّك لا تدرِي متى يُستَجاب لك، وإيَّاك والبَغْي؛ فإن اللّه قد قَضَى أنّه مَنْ بُغيَ عليه لينصُرنَّه اللّه، وقال: "يا أيُّهَا النَّاسُ إنّما بَغْيُكم على أنْفُسِكُمّْ" يونس: 32، وإيّاك والمَكر؛ فإنّ اللّه قد قَضَى ألاَّ يَحيق المكرُ السَّيِّىءُ إلا بأهْله، وقيل: يا رسول اللّه، أيُّ الأعمالُ أفضل؟ فقال: اجتناب المحارم، وألا يَزَالَ فُوك رَطْباً مِن ذِكر اللّه، وقيل له: أيُّ الأصحاب أفضل؟ قال: الذي إذا ذُكِرْتَ أعانَك، وإذا نُسيت ذكرك، وقيل: أيُّ الناس شرٌّ؟ قال: العلماء إذا فسَدوا، وقال: دَبَّ إليكم داءُ الأمم مِن قَبْلِكم: الحسد والبَغْضاء، والبغْضَاء هي الحالقة، حالقة الدّين لا أقول حالقة الشَّعر، والذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيده لا تُؤمنون حتّى تَحَابُّوا، ألا أُنَبِّئكُمْ بأمرٍ إذا فَعَلتُمُوهُ تحابَبْتُم؟، فقالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: أفشُوا السّلام، وصِلَوا الأرحام، وقال: تَهادَوْا تَحَابُّوا، وعن الحسن قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أوصاني ربِّي بتسع: أوْصاني بالإخلاص في السِّر والعَلانية، وبالعَدْل في الرِّضا والغضَب، وبالقَصد في الغِنى والفقر، وأن أعفُوَ عمّن ظلمني، وأُعطِيَ مَن حرمني، وأصِلَ مَنْ قطَعَني، وأن يكون صَمْتي فِكْراً، ونطقي ذِكْراً، ونَظَري عِبَراً، وثلاثُ كلماتٍ رُوِيت مُرسلةَ، وقد رُوِيت لأقوام شتّى، وقد يجوز أن يكونوا حَكَوها ولم يُسْنِدُوها، منها قوله: لوْ تكاشَفْتم لمَا تدافَنْتُم، ومنها قوله: النّاس بأزمانهم، أشبَهُ منهم بآبائهم، ومنها قوله: ما هلَكَ امرؤٌ عَرَفَ قَدْره، وقد ذكر إسماعيل بن عَيّاش، عن عبد اللّه بن دينار قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّ اللّه كَرِه لكم العَبَث في الصلاَّة، والرّفَثَ في الصِّيام، والضَّحِكَ عند المقابر، وقال: إذا أذَّنْتَ فترسَّلْ، وإذا أقَمْتَ فاحْذِمْ، وحدَّثنا إسماعيل بن عَيّاش الحِمصيّ، عن الحسن بن دينار عن الخصيب بن جحدر، عن رجل، عن مُعاذ بن جَبَل قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ليس مِن أخلاق المؤمن الملَقُ إلا في طَلب العلم، ومن حديث أنس بن مالك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: قَيّدوا العلمَ بالكتاب، وقال: يقول اللّه: لولا رجالٌ خُشّع، وصبيانٌ رُضَّع، وبهائمُ رُتَّع، لصَببتُ عليكم العذابَ صَبّا، ومن حديث عبد اللّه بن المبارك يرفعه قال: إذا سادَ القَبِيلَ فاسِقُهُمْ، وكان زعيمَ القوم أرذَلُهم، وأُكْرِمَ الرّجلُ اتِّقاءَ شرِّه، فلينتظروا البلاء، ومن أحاديث ابن أبي ذئب عن المَقْبُري، عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: سَتَحرِصُون على الإمارة، فنعمتِ المرضِعُ، وبئست الفاطمة، ومن حديث عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكْرة، عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان، ومن حديث عبد اللّه بن المبارك، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ قوماً ركبوا سفينةً في البحر فاقتسموا، فصار لكلِّ رجلٍ موضعٌ، فنَقَر رجلٌ موضعَه بفأس فقالوا: ما تصنع؟ قال: هو مكاني أصنَعُ به ما شئت، فإنْ أخَذُوا على يديه نجا ونَجَوا، وإنْ تركوه هلك وهلكوا، وقال: عَلِّق سوطَك حيثُ يراه أهْلُك، ودخل السَّائب بن صَيفي، على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، أتعرفني؟ فقال: كيف لا أعرف شريكي الذي كان لا يُشارِيني ولا يُمارِيني، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يُؤْتَى بالوالي الذي يَجْلِدُ فوقَ ما أمرَهُ اللّه تعالى فيقول له الربُّ تعالى: أيْ عبدِي، لِمَ جَلدتَ فوقَ ما أمرتُكَ به؟ فيقول: ربِّ غضبتُ لغضبك، فيقول: أكان ينبغي لغضَبك أن يكون أشدَّ من غضَبي؟ ثم يؤتَى بالمقصِّر فيقول: عبدي، لم قصَّرت عمّا أمرتُك به؟ فيقول: ربِّ، رحِمْتُه، فيقول: أكان ينبغي لرحمتك أن تكون أوسَعَ من رحمتي؟ قال: فيأمر فيهما بشيء قد ذَكره لا أعرفه، إلاّ أنه قال: صيَّرهما إلى النار،  وكيع قال: حدثنا عبد العزيز بن عمر، عن قَزَعة، قال: قال لي ابنُ عمر: أودِّعك كما ودّعني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أستودِعُ اللّه دينَك وأمانتَك وخواتِمَ عملك، وقال: كلُّ أرضٍ بسَمَائهَا، وروى سعيد بن عُفَير عن ابن لَهيعَة، عن أشياخه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى وائل ابن حُجْر الحضرميّ ولقومه: من محمَّد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى الأقيال العباهلة من أهل حضرمَوت، بإقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة: على التِّيعة شاةٌ، والتِّيمةُ لصاحبها، وفي السُّيوب الخُمْس، لا خِلاط، ولا وِراط، ولا شِناق ولا شِغَار، فمَنْ أجْبَى فقد أربى، وكلُّ مُسْكرٍ حرام، ومن حديث راشد بن سعيد أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: لا تغالُوا بالنّساء فإنما هُنّ سُقْيا اللّه، وقال: خير نساءٍ ركِبْنَ الإبلَ صوالح نساء قريش، أحناهُ على ولدٍ في صغره، وأرعاه على بعلٍ في ذات يده، مُجالِد عن الشَّعبي قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : اللهمَّ أذهِبْ مُلكَ غسَّان، وضَعْ مهور كِنْدة، والذي يدلُّك على أنَّ اللّه عزَّ وجلَّ قد خصَّه بالإيجاز وقلة عدد اللفظ، مع كثرة المعاني، قولُه صلى الله عليه وسلم : نُصِرْتُ بالصَّبَا، وأُعطيتُ جوامعَ الكلم، ومما رَووا عنه صلى الله عليه وسلم من استعمالِهِ الأخلاقَ الكريمة، والأفعال الشريفة، وكثرةَ الأمرْ بها، والنَّهي عما خالف عنها، قولُه: مَن لم يقبَلْ من متنصِّل عُذراً، صادقاً كان أو كاذباً، لم يَرْد عليَّ الحوض، وقال في آخر وصِيَّته: اتقوا اللّه في الضعيفين، وكلَّمته جارية مِن السَّبْي فقال لها: مَن أنتِ؟ فقالت: أنا بنت الرجل الجواد حاتم، فقال صلى الله عليه وسلم : ارحموا عزيزاً ذلّ، ارحموا عالِماً ضاع بين جُهَّال، وقال: سرعة المشي تَذْهَب ببهاء المؤمن، وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إن الأحاديث ستكثُر عنِّي بعدي كما كثرَت عن الأنبياء مِنْ قَبْلِي، فما جاءكم عنّي فاعرِضُوه على كتاب اللّه، فما وافَقَ كِتاب اللّه، فهو عنّي، قلْتُه أو لم أقُلْه، وسُئلت عائشةُ رضي اللّه عنها عن خُلُق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فقالت: خُلُقُ القرآن، وتلَتْ قولَ اللّه تبارك وتعالى: "وإنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم" القلم: 4، وقال محمد بن علي أدَّب اللّه محمداً صلى الله عليه وسلم بأحسن الآداب، فقال: "خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بالعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ" الأعراف:991، فلما وعَى قال: "مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْ فانْتهُواْ وَاتَّقُواْ اللّه" الحشر:7، حدثنا عليُّ بن مجاهد، عَن هِشام بن عُروة، قال: سَمِعَ عمر بن الخطاب رحمه اللّه رجلاً ينشد:

متى تأتِهِ تعشُو إلى ضوءِ نارهِ

 

تجدْ خيرَ نارٍ عندها خَيرُ مُوقِدِ

فقال عمر: ذاكَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وقد كان الناس يستحسنون قولَ الأعشى:

تُشَبُّ لِمَقْرورَينِ يصطليانِـهـا

 

وباتَ على النار النّدى والمُحَلِّقُ

فلما قال الحُطيئة البيتَ الذي كتبناه قبلَ هذا سقط بيتُ الأعشى، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا يزال المسروقُ منه في تُهَْمَةِ مَن هو بريءٌ، حتى يكون أعظَمَ جُرْماً من السَّارِق، وقال أبو الحسن: أجْرى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم الخيل وسبقَ بينها، فجاء فرسٌ له أدْهَمُ سابقاً، فجثا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال: ما هو إلاّ بَحْرٌ، فقال عمر بن الخطاب: كذَب الحُطيئةُ حيث يقول:

وإنَّ جيادَ الخيل لا تسـتـفـزُّنـا

 

ولا جاعلاتُ العاج فوقَ المعاصِمِ

وقد زعم ناسٌ من العلماء أنه لم يستفزَّه سَبْق فرسِه، ولكنَّه أراد إظهار حُبِّ الخيل وتعظيم شأنها، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض، ويجلس على الأرض ويلبَس العَباء، ويُجالِس المساكين، ويمشي في الأسواق، ويتوسَّدُ يَدَه، ويُقِصُّ مِنْ نفسه، ويَلطَعُ أصابَعه، ولا يأكل متّكئاً، ولم يُرَ قَطُّ ضاحكاً مِلْءَ فيه، وكان يقول: إنّما أنا عبدٌ آكُل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد، ولو دُعيت إلى ذِراعٍ لأجبت، ولو أُهْدِيَ إليَّ كُرَاعٌ لقبلت، ولم يأكُلْ قطُّ وحدَه، ولا ضَرَب عبدَه، ولا ضرب أحداً بيده إلا في سبيل ربِّه، ولو لم يكُن مِن كرم عَفوه وثَخانة حِلْمه، إلاّ ما كان منه يومَ فتحِ مكة، لقد كان ذلك مِن أكمل الكمال، وأوضح البرهان، وذلك أنَّه حين دخل مكة عَنْوةً وقد قَتلوا أعمامَه وبني أعمامِه، وأولياءَه وأنصاره، بعد أن حَصَروه في الشِّعَاب، وعَذَّبوا أصحابه بأنواع العذاب، وجرحوه في بَدَنِه، وآذَوْه في نفْسه، وسفِهوا عليه، وأجمعوا على كيده، فلمّا دخلها بغير حمدهم، وظَهَر عليها على صُغرٍ منهم، قام خطيباً فيهم، فحمِد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أقُول كما قال أخي يوسفُ: لا تَثْرِيب عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللّه لَكُمْ وهُوَ أَرْحَم الرَّاحِمينَ، وإنما نقول في كل بابٍ بالجملة من ذلك المذهب، وإذا عرفتم أولَ كلِّ بابٍ كنتم خُلقاء أن تعرِفوا الأواخرَ بالأوائل، والمصادر بالموارد، خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في الوداع قال صلى الله عليه وسلم : الحمدُ للّه، نَحْمَده ونَستعينُه، ونستغفرُه ونَتوب إليه، ونعوذُ باللّه مِن شُرور أنفسِنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يَهِدْ اللَّه فلا مُضِلّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهَدُ أن لا إله إلاّ اللَّهُ وحْدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً عبدُه ورسولُه، أُوصِيكم عِبَادَ اللَّه بتَقوى اللَّه، وأحُثّكُمْ على طاعته، وأستفتِحُ بالذي هو خير، أمّا بعد، أيُّها الناس اسمَعُوا منِّي أبيِّنْ لكم، فإنِّي لا أدرِي، لعَلِّي لا ألقاكم بعدَ عامي هذا في موقِفي هذا، أيُّها الناس: إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرام عليكم إلى أنْ تلقَوْا ربَّكم، كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بَلَّغت؟ اللّهم اشهَدْ، فمَنْ كانت عِنده أمانة فليؤدِّها إلى الذي ائتَمنَه عليها، وإنَّ رِبا الجاهليّة موضوع، وإنّ أوّلَ رباً أَبْدأُ به ربَا عمِّي العباس بنِ عبد لمطَّلب، وإنَّ دماءَ الجاهلية موضوعة، وإنّ أوّلَ دمٍ نبدأ به دمُ عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطَّلب، وإنَّ مآثِرَ الجاهلية موضوعة، غيرَ السِّدانة والسِّقاية، والعَمْد قوَد، وشِبْه العَمد: ما قُتل بالعصا والحجَر، وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهليّة، أيِّها الناس، إنّ الشيطان قد يئَس أن يُعبَدَ في أرضكم هذه، ولكنّه قد رضيَ أن يُطاعَ فيما سوى ذلك مما تَحْقرون من أعمالكم، أيُّها الناس: إنّ النّسيء زيادةٌ في الكُفْر يَُضَلُّ به الذّينَ كَفَرُوا يُحِلّونه عاماً ويُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطُئوا عِدَّةَ مَا حَرّمَ اللّهُ فَيُحِلّوا مَا حَرّمَ اللَّهُ، إنّ الزّمانَ قد استدار كهيئته يَوْمَ خلق اللَّهُ السَّمواتِ والأرض، وإنّ عِدَّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كتِابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمواتِ وَالأَرْض، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثلاثة متواليات وواحدٌ فرد: ذو القَعدة وذو الحِجَّة والمحرم، ورَجب الذي بين جُمادى وشعبان، ألا هَلْ بلَّغْت؟ اللَّهم اشهد أيُّها النَّاس إنّ لنسائكم عليكمْ حَقّاً، ولكمْ عليهنَّ حقّ،لكم عليهنَّ ألاّ يُوطِئن فُرُشَكم غيرَكم، ولا يُدْخِلْن أحداً تكرهونه بيوتَكم إلاّ بإذنكم، ولا يأتين بفاحشةٍ مُبيِّنةٍ، فإنْ فعلْنَ فإنّ اللَّه قد أذِن لكم أن تعضُلوهنّ وتهجروهنَّ في المضاجع، وتضربُوهنّ ضرباً غير مبرِّح، فإن انتهين وأطعنَكم فعليكم رِزقُهنَّ وكُسوتُهُنَّ بالمعروف، وإنّما النساء عندكم عَوَانٍ لا يملكن لأنفسهنَّ شيئاً، أخذتُموهنَّ بأمانة اللَّه، واستحللتُم فروجَهُنَّ بكلمة اللَّه، فاتّقوا اللَّه في النِّساء واستوصوا بهنَّ خيراً، ألا هل بلَّغت؟ اللهم اشهد  أيُّها الناس، إنّما المؤمِنُونَ إخْوَةٌ، ولا يحلُّ لامرئ مُسْلِمٍ مالُ أخيه إلاّ عن طِيب نفسٍ منه، ألاَ هل بلَّغتُ؟ اللهم اشهد فلا ترجِعُنَّ بعدي كُفّاراً يضربُ بعضُكم رقابَ بعض، فإني قد تركتُ فيكم ما إنْ أخذتُم به لم تَضلُّوا بعدَه: كتابَ اللَّه، ألاَ هل بلَّغت؟ اللّهم اشهد أيُّها الناس، إنَّ ربَّكم واحد؛ وإنَّ أباكم واحد؛ كلّكم لآدم وآدمُ مِن ترابٍ، أكرمُكم عِنْدَ اللَّه أتقْاكُم، إنّ اللَّه عليم خبيرٌ، وليس لعربيّ على عجَميٍّ فضلٌ إلا بالتّقوى، ألا هل بلّغت؟ اللهمَّ اشهد قالوا: نعم، قال: فليبلِّغ الشّاهدُ الغائب، أيُّها الناس، إنّ اللَّه قَسَم لكلِّ وارث نصيبَه من الميراث، فلا تجوزُ لوارثٍ وصيَّةٌ، ولا تجوز وصيَّةٌ في أكثَرَ من الثّلُث، والوَلَدُ للفِراش، وللعاهر الحجَرُ، من ادَّعى إلى غير أبيه، أو تولَّى غير مُواليه فعليه لعنةُ اللَّه والملائكة والنّاس أجمعين، لا يُقبل مِنْه صَرفٌ ولا عَدْلٌ، والسلام علكم ورحمة اللَّه وبركاته، وعن الحسن قال: جاء قيس بن عاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: هذا سيِّد أهلِ الوبر، فقال: يا رسول اللَّه، خبّرني عن المال الذي لا تكون عليَّ فيه تَبِعة من ضيفٍ ضافني، أو عيالٍ كَثُروا عليَّ، قال: نِعم المال الأربعون، والأكثرُ الستّون، وويلٌ لأصحاب المِئين إلا مَن أعطَى في رِسْلِها ونَجْدتها، وأطرَقَ فَحْلها، وأفْقَرَ َظهرَها، ونَحَر سمينَها، وأَطعم القانع والمُعْتَرّ، قال: يا رسول اللَّه، ما أكرمَ هذه الأخلاقَ وأحسنها، وما يحُلّ بالوادي الذي أكونُ فيه أكثَرُ من إبلي، قال: فكيف تصنع بالطَّرُوقة؟ قال: تغدو الإبل ويغدو الناس، فمن شاء أخذ برأسِ بعيرٍ فذهب به، قال: فكيف تصنع في الإفقار؟ قال: إني لأُفقْرِ البَكْر الضَّرَع، والنَّابَ المسنَّة، قال: فكيف تصنعُ بالمَنيحة؟ قال: إنِّي لأمنَحُ في كلِّ سنةٍ مائة، قال: فأيُّ المالِ أحبُّ إليك، أمالَكَ أم مالُ مولاك؟ قال: بل مالي، قال: فما لَكَ من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لَبستَ فأبلَيْتَ، أو أعطَيْتَ فأمضيت، وما سِوى ذلك للوارث، وذكر أبو المقدام هشام بن زياد، عن محمّد بن كعب القُرَظيّ قال: دخلتُ على عمرَ بنِ عبد العزيز في مرضه الذي مات فيه، فجعلت أُحِدُّ النَّظرَ إليه، فقال لي: ياابنَ كعب، ما لَكَ تُحِدُّ النّظرَ إليّ؟ قلت: لمَا نَحَلَ مِن جسمك، وتغَيَّر مِن لونك، قال: فكيف لو رأيتني بعد ثالثةٍ في قبرِي، وقد سَالَتْ حدَقَتايَ على وَجنتي، وابَتَدَر فمي وأنفِي صديداً ودُوداً؛ كنتَ واللَّه أشدَّ نَكَرَةً لي، أعِدْ عَلَيَّ حديثاً كنتَ حدَّثْتَنيه عن عبد اللَّه بن عباس،  قال: سمعتُ ابنَ عبَّاسٍ يقول: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: إن لكلِّ شيء شرفاً، وإنَّ أشرفَ المجالس ما استُقْبِل به القِبلة، ومَن أحبَّ أن يكون أعزَّ الناس فليتَّق اللَّه، ومن أحبّ أن يكونَ أقوى الناس فليتوكّل على اللّه، ومن أحبَّ أن يكونَ أغنى النّاسِ فليكُنْ بما في يَدَي اللَّه أوثَقَ منه بما في يديه؛ ثم قال: ألا أُنَبِّئكم بشِرار الناس؟ قالوا: بلَى يا رسول اللَّه، قال: مَن نزل وَحْدَه، ومنع رِفدَه، وَجَلَد عبده، ثم قال: ألا أنبئكم بشّرٍ من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: مَن لا يُقِيلُ عَثْرةً، ولا يَقبل مَعذِرة، ولا يَغْفِر ذنْباً، ثم قال: ألا أنبئكم بشَرٍّ من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه قال: مَن يُبْغِضُ النّاسَ ويُبغِضونه، إنَّ عيسى بنَ مريمَ عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيلَ فقال: يا بني إسرائيل، لا تَكَلَّموا بالحكمة عند الجُهّال فتظلِموها، ولا تَمنعوها أهلَها فتظلموهم، ولا تظلموا ولا تكافئوا ظالماً فيَبطُل فضلُكم، يا بني إسرائيل، الأمور ثلاثة: أمرٌ تبَيَّن رُشْدُهُ فاتّبعوه، وأمرٌ تبيَّنَ غَيّه فاجتنِبوه، وأمرٌ اختُلِف فيه فإلى اللَّه فردُّوه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : كلُّ قومٍ على زِينةٍ من أَمرِهم، ومَفْلَحَةٍ في أنفسهم، يُزْرُونَ على مَن سواهم، ويتبيّن الحقُّ في ذلك بالمقايَسة بالعَدل عند أُولِي الألباب من النّاس، وقال صلى الله عليه وسلم : مَن رَضِيَ رقيقَه فليُمْسكه، ومن لم يرضَ فليَبعْه، فلا تعذِّبوا خَلْق اللَّه، وقال في آخِرِ ما أوصى به: اتقوا اللَّه في الضعيفين، قال ابن ثَوْبان عن أبيه، عن مكحول، عن جُبَير بن نُفَير، عن مالك بن يَخامرَ عن مُعاذ بن جَبَل، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عُمْران بيت المقدس خرابُ يثرب، وخرابُ يثربَ خروج الملحمة، وخروجُ الملحمة فتح القسطنطينية، وفتحُ القسطنطينية خروج الدَّجّال، ثم ضَرَب بيده على فخذ الذي حدَّثه أو مَنكِبه، ثم قال: إنَّ هذا لحَقٌّ كما أنَّك هاهنا، أو كما أنّك قاعد، يعني مُعَاذاً، صالح المُرّيّ عن الحسن البصري، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : حَصِّنوا أموالكم بالزّكاة وداوُوا مَرضاكم بالصَِّدقة، واستقبِلوا البلاءَ بالدُّعاء، كَثِير بن هشام، عن عيسى بن إبراهيم، عن الضحّاك، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : الجُمعةُ حجُّ المساكين، قال عوف، عن الحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتّقوا اللَّه في النِّساء فإنّهنَ عندكم عَوَانٍ، وإنَّما أخذتموهُنَّ بأمانة اللَّه، واستحللتُم فروجَهُنَّ بكلمة اللَّه، الواقِديّ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : إنّ اللَّه يحبُّ الجَوَادَ مِن خَلْقِهِ،أبو عبد الرحمن الأشجعيّ، عن يحيى بن عُبَيد اللَّه، عن أبيه عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : ما خلا يَهوديٌّ بمسلمٍ قطّ إلاّ هَمّ بقَتْله، ويقال: حدَّثَ نفْسَه بقَتله، أبو عاصم النّبيل، قال: حدثنا عُبيد اللَّه بن أبي زياد، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أسماءَ بنتٍ يزيدَ قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : مَنْ ذَبّ عن لحم أخيه بظَهرْ الغيب كان حقّاً على اللَّه أن يحرِّم لحمَه على النار، إسماعيل بن عيَّاش، عن الحسن بن دينار، عن الخصيب بن جحدر، عن رجل، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس من أخلاق المؤمِنِ المَلقُ إلاّ في طلب العلم، وعن عبدِ ربِّه أعْيَنَ، عن عبد اللَّه بن ثُمَامة بن أنَس، عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : قيّدُوا العِلْمَ بالكِتاب، وقال: فَضْلُ جاهكَ تعودُ به على أخيك الذي لا جاهَ له صدقةٌ منك عليه، وفضلُ لسانك تعَبِّر به عن أخيك الذي لا لسان له صدقةٌ منك عليه، وفضلُ عِلمك تعُود به على أخيك الذي لا علمَ عنده صدقةٌ منك عليه، وفَضل قُوتَّك تردُّه على أخيك الذي لا قوَّةَ له صدقةٌ منك عليه، وإماطتُك الأذى عن الطَّريق صدقةٌ منك على أهله، وإنّما مَدار الأمور والغاية التي يُجرَى إليها: الفهمُ ثم الإفهام، والطَّلب ثم التثبُّت، وقال عمرو بن العاص: ثلاثةٌ لا أمَلُّهم:جليسِي ما فَهِمَ عنّي، وثوبي ما سَتَرني، ودابَّتي ما حملَت رجليّ، وذكر الشَّعبيُّ ناساً فقال: ما رأيتُ مثلَهم أشد تنابُذاً في مجلس، ولا أحسَنَ تفُّهماً عن مُحدِّث، ووصف سهل بن هارون رجلاً فقال: لم أر أحسَنَ منه فهماً لجليل ولا أحسن تفهُّماً لدقيق، وقال سعيد بن سَلمٍ لأمير المؤمنين المأمون: لو لم أشكر اللَّه إلاّ على حُسن ما أبلاني في أمير المؤمنين، مِن قصدِه إليَّ بحديثه، وإشارته إليِّ بطرفه، لقد كان ذلك مِن أعظم ما تفرضُه الشريعة، وتوجِبُه الحُرّية، فقال المأمون: لأنَّ أميرَ المؤمنين يجدُ عندَك من حسن الإفهام إذا حدّثت،وحسن التفهُّم إذا حُدّثتَ، ما لم يجِدْ عند أحدٍ فيمن مضى، ولا يظنُّ أنه يجده فيمن بقي، وقال له مرة أخرى: واللَّه إنك لتستقفِي حديثي، وتقِفُ عند مقاطع كلامي، وتُخْبِر عنه بما كنت قد أغفلتُه، وقال أبو الحسن: قالت امرأةٌ لزوجها: ما لَكَ إذا خرجتَ إلى أصحابك تطلَّقْتَ وتحدَّثْت، وإذا كنتَ عندي تعقّدت وأطرقت؟ قال: لأنّني أجلّ عن دقيقكِ، وتدِقِّين عن جليلي، وقال أبو مُسهِر: ما حدَّثْتُ رجلاً قَطّ إلاّ أعجبَني حُسن إصغائه، حفِظَ عني أم ضيّع، وقال أبو عقيل بن دُرُسْتَ: نَشاط القائل على قدر فهم المستمع، وقال أبو عبّادٍ كاتب أحمد بن أبي خالد: لِلقائل على السامع ثلاث: جَمْع البال، والكتمان، وبسطُ العُذر، وقال أبو عبّاد: إذا أنكرَ القائلُ عَيْنَي المستمع فليْستفهمْه عن مُنتَهى حديثه، وعن السبب الذي أجرى ذلك القولَ له، فإنْ وجدَه قد أخلص له الاستماعَ أتَمَّ له الحديث، وإن كان لاهياً عنه حَرَمه حُسنَ الحديث ونفْعَ المؤانسة، وعرَّفه بفسولة الاستماع، والتقصير في حقِّ المحدِّث، وأبو عبَّاد هذا هو الذي قال: ما جلس بين يديَّ رجلٌ قطّ إلا تمثَّل لي أنِّي سأجلس بين يديه، وذكر رجلٌ من القرشيِّين عبدَ الملك بن مَرْوان، وعبد الملكِ يومئذ غلام فقال: إنّه لآخذٌ بأربع، وتاركٌ لأربع: آخذٌ بأحسَنِ الحديث إذا حَدَّث، وبأحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر المؤونة إذا خُولف، وبأحسن البِشْر إذا لَقِيَ، وتاركٌ لمحادثة اللئيم، ومُنازَعَة اللّجوج، ومُماراة السَّفيه، ومصاحَبة المأفون، وذمَّ بعضُ الحكماء رجُلاً فقال: يَحْزِم قبل أن يَعلم، ويغضب قبل أن يَفهم، وقال عمر بن الخطاب رحمه اللَّه في بعض رسائله إلى قُضاته: الفهْمَ الفهمَ فيما يتلجلج في صدرك، ولا يمكنُ تمامُ الفهم إلاّ مع تمام فراغ البال، وقال مجنون بني عامر:

أتاني هواها قبل أن أعرِفَ الهَوَى

 

فصادَفَ قلبي فارغاً فتمـكّـنـا

وكتب مالك بن أسماءَ بن خارجةَ إلى أخيه عيينةَ بن أسماء بن خارجة:

أَعُيَيْنَ هَلاَّ إذْ شُغِفْتَ بهـا

 

كنتَ استعنتَ بفارغ العَقْلِ

أقبَلْتَ ترجو الغَوث مِنْ قِبَلي

 

والمستغاثُ إليه في شُغْـلِ

وقال صالح المُرِّيّ: سوءُ الاستماع نفاق، وقد لا يَفهم المستمع إلا بالتفهُّم، وقد يتفهَّم أيضاً مَن لا يفهم، وقال الحارث بن حِلِّزَة:

وحَبَسْتُ فيها الركبَ أحدِس في

 

كلِّ الأمورِ وكنتُ ذا حَـدْسِ

وقال النابغة الجعدِيّ:

أبَى لِي البلاءُ وأنِّي امرؤٌ

 

إذا ما تبيَّنْتُ لم أَرْتَـبِ

وقال آخر:

تَحلّـمْ عـن الأدنَـيْنَ وُدَّهُـم

 

ولن تستطيعَ الحِلم حتى تَحلَّما

والمَثلُ السائرُ على وجه الدهر قولهم: العِلْمُ بالتعَلُّم، وإذا كانت البهيمة إذا أحسَّت شيئاً من أسباب القانص، أحَدَّتْ نظرَها، واستَفرغتْ قواها في الاسترواح، وجمعَتْ بالها للتسمُّع - كان الإنسانُ العاقلُ أوْلَى بالتثبت، وأحَقَّ بالتعرُّف، ولما اتَّهم قُتيبة بن مسلم، أبا مِجْلَزٍ لاحق بن حُميد، ببعض الأمر، قال له أبو مِجْلَز: أيُّها الأمير تثبّتْ؛ فإنَّ التثبُّتَ نِصف العفو، وقال الأحنف: تعلَّمتُ الحِلم من قيس بن عاصم، وقال فيروز حُصينٍ: كنت أختلف إلى دار الاستخراج أتعلَّم الصبر، وقال سهل بن هارون: بلاغة اللسان رِفْقٌ، والعِيُّ خُرْق، وكان كثيراً ما ينشد قول شُتَيم بن خُوَيْلد:

ولا يشعَبُون الصَّدع بعـدَ تـفـاقُـمٍ

 

وفي رِفق أيديكم لِذِي الصَّدْعِ شاعبُ

وقال إبراهيم الأنصاري، وهو إبراهيم بن محمد المفلوج، من ولد أبي زيدٍ القارئ: الخلفاء والأئمة وأمراءُ المؤمنين ملوكٌ، وليس كلُّ ملكٍ يكون خليفة وإماماً، ولذلك فَصَل بينهم أبو بكر رحمه اللَّه في خطبته، فإنه لما فرغ من الحمد والصلاة على النبي قال: ألاَ إنَّ أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك فرفع الناس رؤوسهم، فقال: ما لكم أيّها الناس، إنكم لطَعَّانون عَجِلون، إن مِن الملوك مَن إذا مَلَكَ زهَّده اللَّه فيما في يديه، ورغَّبه فيما في يدَيْ غيره، وانتقَصَه شَطْرَ أجله، وأَشرَبَ قلبَه الإشفاق، فهو يَحْسُد على القليل، ويتسخَّط الكثير، ويسأم الرَّخاء، وتنقطع عنه لذَّةُ الباءة، ولا يستعمل العِبْرة، ولا يسكن إلى الثَّقة، فهو كالدِّرهم القَسِّيِّ، والسَّراب الخادع، جَذِلُ الظاهر، حزينُ الباطن؛ فإذا وجبَتْ نفْسُه، نضَب عُمره، وضَحَا ظِلُّه، حاسَبَه اللَّه فأشَّدَّ حِسابَه، وأقلَّ عفوه، إلاّ مَنْ آمَنَ باللَّه، وحَكَمَ بكتابه وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم ، أَلا إن الفقراء هم المرحومون أَلاَ وإنكم اليومَ على خلافِة النبوَّة، ومَفْرِق المَحَجَّة، وإنكم سترَوْن بعدي مُلْكاً عضُوضاً، ومَلْكاً عَنُوداً، وأمَّةً شَعاعاً، ودماً مُفاحاً، فإن كانت للباطل نزوةٌ، ولأهل الحقِّ جَولةٌ، يعفو لها الأثر، ويموتُ لها البَشَرُ، وتحيا بها الفِتَنُ، وتَموت لها السُّنَن فالزموا المساجدَ، واستشيروا القُرآن، واعتصموا بالطاعة، ولا تفارِقوا الجماعة، وليكن الإبرام بعد المشاوَرة، والصَّفقة بعد طول التناظر، أيُّ بلادِكمْ خَرْشَنَة؟ فإنكم سيُفتح عليكم أقصاها كمافُتح عليكم أدناها،