أبو العلاء المعري

972-1058م
هو أحمد بن عبد اللّه بن سليمان التّنوخي، من أهل معرّة النعمان.

 

حكيم الشعراء وشاعر الحكماء. لم ينبغ في الإسلام شاعر أعلى منه همّةً ولا أكرم منه نفسًا، وأجدَر بنا أن نحشره في زُمرة الحكماء والعلماء من أن نحشره في طائفة الشّعراء، لأنه ما قال الشّعر كاسبًا، ولا مَدَح أحدًا راغبًا، وهو مع علو كعبه في الشعر، كان مُلمًّا باللّغة، مُتبحّرًا في فنونها.

 

أُصيب المعرّي بداء الجدري في سنته الثّالثة، فذهب ببصره وكان يقول "لا أعرف من الألوان إلاّ الأحمر لأني أُلبسْت في الجدري ثوبًا مصبوغًا بالعصفر، لا أعرف غيره". وكان يقول "أنا أحمد اللّه على العمى كما يحمده غيري على البصر".

 

وهو من بيت علمٍ وفضلٍ ورياسة. تولّى قوم من أقاربه القضاء وكان منهم العلماء الأعلام والشعراء المطبوعون.

 

قال الشعر وهو ابن إحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة ورحل إلى بغداد ثم رحل إلى المعرّة. أقام ببغداد سنة وسبعة أشهر. فلمّا كان بها دخل على أمير المؤمنين المُرتضى فعثر برجل، فقال: "من هذا الكلب؟" فأجابه أبو العلاء على الفور: "الكلبُ من لا يعرف للكلب سبعين إسمًا"، فأدناه المُرتضى واختبره، فوجده عالمًا مشبّعًا بالفطنة والذّكاء. فأقبل عليه وأكرمه .

 

لما رجع المعرّي إلى بلده سَمّى نفسه "رهين المحْبَسين"، يعني حبس نفسه في منزله وحبس بصره بالعمى، واستعاض عن البصر ذكاءً حاداً وبصيرةً نفّاذةً.

 

كان أبو العلاء عجيبًا في الذّكاء المفرط والحافظة. ذكر تلميذه أبو زكريا التبريزي أنه كان قاعدًا في مسجده بمعرّة النعمان بين يديّ أبي العلاء، يقرأ شيئًا من تصانيفه، قال "وكنتُ قد أقمتُ عنده سنين ولم أر أحدًا من أهل بلدي، فدخل المسجد بعض جيراننا للصّلاة فرأيته وفرحتُ، فقال لي أبو العلاء "أيّ شيء أصابك؟" فحكيت له أني رأيت جاراً لي بعد أن لم ألق أحدًا من أهل بلدي سنين. فقال لي "قم فكلّمه". فقلتُ حتى أُتمّم النّسق. فقال لي "قم وأنا أنتظرك". فقمتُ وكلّمته بلسان الأذربيجانية شيئا كثيرًا إلى أن سألتُ عن كل ما أردتُ؛ فلمّا رجعت وقعدت بين يديه قال لي "أيّ لسان هذا؟" قلت له هذا لسان أذربيجان. فقال لي "ما عرفت اللّسان ولا فهمته غير أني حفظت ما قلتُما"؛ ثم أعاد على اللّفظ بعينه من غير أن ينقص منه أو يزيد عليه، بل جميع ما قلتُ وما قال جاري، فتعجّبتُ غاية العجب من حُفظ ما لم يفهمه!"

 

كان أبو العلاء قد رحل إلى طرابلس حيث كان بها خزائن كتبٍ موقوفةٍ. فأخذ منها ما أخذ من العلم واجتاز باللاّذقية، ونزل ديراً كان به راهب له علم بأقاويل الفلاسفة، فسمع كلامه وأخذ عنه.

 

النّاس في حيرةٍ من أمر أبي العلاء من جهة اعتقاده. فقد أورد له الرّازي في الأربعين قوله: "قلتُم لنا صانع قديمٍ، قُلْنا صدقتم كذا نقول، ثم زعمتم بلا مكان ولا زمان، ألا فقولوا هذا كلام له خبئ، معناه ليست لنا عقول". ثم قال الرازي:"كان المعرّي متّهمًا في دينه، يرى رأي البراهمه ولا يرى إفساد الصورة ولا يأكل لحمًا ولا يؤمن بالرُّسل ولا البعث ولا النّشور.

 

وروى أبو زكريا الرازي، قال: "قال لي المعرّي يومًا "ما الذي تعتقد؟" فقلتُ في نفسي "سيتبيّن لي اعتقاده"، فقلت "ما أنا إلا شاك". فقال لي "هكذا شيخك".

 

وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد يقول عنه "هو في حيرة".

 

قال صلاح الدين الصّفدي -وهذا أحسن ما يقال في أمره- لأنه قال: "خُلِقَ الناس للبقاء فَضلّت أمة يحسبونها للنّفاد، إنما يُنقَلون من دار أعمال إلى دار شقوة أو رشاد".

 

قال القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني: "قال المعرّي: لم أهج أحدًا قط. قلت صدقت، إلاّ الأنبياء عليهم السّلام. فتغير لونه".

 والحقيقةُ أنّ أبا العلاء كان متشائمًا، يشكّ في الأديان؛ وهو القائل:

كلُّ يمجد دينَه يا ليت شعري ما الصّحيح؟

 

وهو يرى أن الدّين والعقل لا يلتقيان.

 

للمعري ديوان شعر "اللّزوميات"، وفي النثر "رسالة الغفران". تأثّر في شعره بالمتنبي، وكان متحمّسًا له، وقد قيل فيهما: "إذا كان المتنبّي شاعراً يتفلسفُ، فالمعرّي فيلسوف يتشاعر".

 

وورد في "وفيات الأعيان" لابن خلكان: هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن أنوربن أسحم بن أرقم بن النعمان بن عدي بن غطفان بن عمر بن بريح بن جديمة بن تيم الله ابن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قصناعة التنوخي المعري للغوي الشاعر؛ كان متضلعاً من فنون الأدب، قرأ النحو واللغة على أبيه بالمعرة، وعلى محمد بن عبد الله بن سعد النحوي بحلب، وله التصانيف الكثيرة المشهورة والرسائل المأثورة، وله من النظم لزوم ما لايلزم وهو كبير يقع في خمسة أجزاء أوما يقاربها، وله سقط الزند أيضاً، وشرحه بنفسه، وسماه ضوء السقط، وبلغني أن له كتباً سماه الأيك والغصون وهو المعروف بالهمزة والردف يقارب المائة جزء في الأدب أيضاً، وحكى لي من وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتاب الهمزة والردف وقال: لا أعلم ما كان يعوزه بعد هذا المجلد. وكان علامة عصره.

 

وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، والخطيب أبو زكريا التبريزي وغيرهما.

 

وكانت ولادته يوم الجمعة عند مغيب الشمس لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلثمائة بالمعرة، وعمي من الجدري أول صسنة سبع وستين، غشى يمنى عينيه بياض وذهبت اليسرى جملة، قال الحافظ السلفي: أخبرني أبو محمد عبد الله بن الوليد بن غريب الإيادي أنه دخل مع عمه على أبي العلاء يزوره، فرآه قاعداً على سجادة لبد وهو شيخ، قال: فدعا لي ومسح على رأسي وكنت صبيا، قال: وكأني أنظر إليه الساعة وإلى عينيه غحداهما نادرة والأخرى غائرة جدا، وهو مجدر الوجه، نحيف الجسم.

 

ولما فرغ من تصنيف كتاب اللامع العزيزي في شرح شعر المتنبي وقرىء عليه أخذ الجماعة في وصفه فقال أبو العلاء: كأنما نظر المتنبي إلي بلحظ الغيب حيث يقول:

 

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

 

وأسمعت كلماتي من به صمم

 

واختصر ديوان أبي تمام وشرحه وسماه ذكرى حبيب وديوان البحتري وسماه عبث الوليد وديوان المتنبي وسماه معجز أحمد وتكلم على غريب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غيرهم وما أخذ عليهم، وتولى الانتصار لهم والنقد في بعض المواضع عليهم، والتوجيه في أماكن لخطئهم.

 

ودخل بغداد سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، ودخلها ثانية سنة تسع وتسعين، وأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى المعرة ولزم منزله، وشرع في التصنيف وأخذ عنه الناس، وسار إليه الطلبة من الآفاق، وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار، وسمى نفسه رهين المحبسين للزومه منزله ولذهاب عينيه، ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تديناً لأنه كان يرى رأي الحكماء المتقدمين وهم لايأكلونه

كي لا يذبحوا الحيوان ففيه تعذيب له وهم لا يرون الإيلام في جميع الحيوانات.

 

وعمل الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، ومن شعره في اللزوم قوله:  

لا تطلبن بـآلةٍ لـك رتـبـهً

 

قلم البليغ بغير جد مـغـزل

سكن السماكان السماء كلاهما

 

هذا له رمح وهـذا أعـزل

وتوفي يوم الجمعة ثالث - وقيل: ثاني - شهر ربيع الأول، وقيل: ثالث عشره، سنة تسع وأربعين واربعمائة بالمعرة، وبلغني أنه اوصى أن يكتب على قبره هذا البيت:

هذا جناه أبي علـي

 

وما جنيبت على أحد

 

وهو أيضا متعلق باعتقاد الحكماء، فانهم يقولون: إيجاد الولد وإخراجه إلى هذا العالم جناية عليه، لأنه يتعرض للحوادث والآفات.

وكان مرضه ثلاثة أيام، ومات في اليوم الرابع، ولم يكن عنده غير بني عمه فقال لهم في اليوم الثالث: اكتبوا عني، فتناولوا الدوي والأقلام، فأملى عليهم غير الصواب، فقال القاضي أبو محمد عبد الله التنوخي: أحسن الله عزاءكم في الشيخ فإنه ميت؛ فمات ثاني يوم. ولماتوفي رثاه تلميذه أبو الحسن علي بن همام بقوله:

 

إن كنت لم ترق الدماء زهـادة

 

فلقد أرقت اليوم من جفني دماً

سيرت ذكرك في البلاد كأنـه

 

مسك فسامعة يضمخ أو فمـا

وأرى الحجيج إذا أرادوا لـيلة

 

ذكراك أخرج فدية من أحرما

 

وقد أشار في البيت الأول إلى ما كان يعتقده ويتدين به من عدم الذبح كما تقدم ذكره.

 

وقبره في ساحة من دوار اهله، وعلى الساحة باب صغير قديم، وهو على غاية ما يكون من الإهمال وترك القيام بمصالحه، وأهله لايحتفلون به.

 

والتنوخي - بفتح التاء المثناة من فوقها وضم النون المخففة وبعد الواو خاء معجمة - وهذه النسبة إلى تنوخ، وهواسم لعدة قبائل اجتمعوا قديماً بالبحرين، وتحالفوا على التناصر، وأقاموا هناك فسموا تنوخاً. والتنوخ: الإقامة، وهذه القبيلة إحدى القبائل الثلاث التي هي نصارى العرب، وهم: بهراء، وتنوخ، وتغلب.

 

والمعري - بفتح الخميم والعين المهملة وتشديد الراء - وهذه النسبة إلى معرة النعمان، وهي: بلدة صغيرة بالشام بالقرب من حماة وشيزر، وهي منسوبة إلى النعمان بن بشير الأنصاري، رضي الله تعالى عنه، فإنه تديرها، فنسبت إليه، وأخذها الفرنج من المسلمين في محرم سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ولم تزل بأيدي الفرنج من يومئذ إلى أن فتحها عماد الدين زنكي بن آق سنقر الآتي ذكره إن شاء الله تعالى سنة تسع وعشرين وخمسمائة، ومن على أهلها بأملاكهم.

 

ومن مؤلفاته:

الفصول والغايات

رسالة الصاهل والشاجح

رسالة الملائكة

سقط الزند

رسالة الغفران