خطبة من خطب معاوية رحمه الله

رواها شعيب بن صفوان، وزاد فيها البقطَريّ وغيره، قالوا: لما حضَرتْ معاويةَ الوفاةُ قال مولىً له: من بالباب؟ قال: نفرٌ من قريش يتباشرون بموتك، فقال: ويْحَك، ولمَ؟ قال: لا أدري، قال: فواللَّه ما لهمْ بعدي إلاّ الذي يسوؤهم، وأذِنَ للنَّاس فدخلوا، فحمِد اللَّه وأثنى عليه وأوجَزَ ثم قال: أيّها النّاس، إنّا قد أصبحنا في دهر عَنُود، وزمن شديد، يُعَدُّ فيه المحسنُ مسيئاً، ويزداد فيه الظالم عُتُوّاً، ولا نَنتفِع بما عَلِمْناه، ولا نَسأل عَمّا جهلناه، ولا نتخوَّف قارعةً حتَّى تحلَّ بنا، فالناس على أربعة أصناف: مِنهم من لا يمنعه الفسادَ في الأرض إلاّ مهانةُ نفسه، وكَلال حَدّه، ونضيض وَفْرِه، ومنهم المُصلِت لسيفه، المُجْلِب بخيله ورَجْله، والمُعلن بسرّه؛ قد أشْرَطَ لذلك نفسَه، وأَوبَق دينه، لحُطامٍ ينتهزُه، أو مِقْنَب يقودُه، أو مِنبر يَفْرَعُه، ولَبِئْسَ المتجرُ أن تراها لنفسك ثمناً، ومِمّا لَكَ عند اللَّه عوضاً، ومنهم مَن يطلب الدنيا بعملِ الآخرة، ولا يطلب الآخرةَ بعمل الدنيا، قد طامَن من شخصه، وقارب مِن خطوه وشمّر من ثوبه، وزخرف نَفسَه للأمانة، واتَّخذ سِتر اللَّه ذريعةً إلى المعصية، ومنهم مَن أقعَدَه من طلبَ المُلْك ضُؤُولة نَفْسه، وانقطاعٌ من سببه، فقصَّرت به الحالُ عن أَمَله، فتحلى باسم القناعة، وتزيَّنَ بلِباس الزَّهادة وليس من ذلك مَرَاحٍ ولا مَغْدىً، وبقيَ رِجالٌ غَضَّ أبصارَهم ذكرُ المرجِع، وأراق دموعَهم خوفُ المحشَر، فهم بين شريد نادٍّ، وخائفٍ منقمِع، وساكت مكعوم، وداعٍ مخلص، وموجَع ثَكْلان، قد أخملتهم التّقِيّةُ، وشَملتهم الذّلّة، فهم في بحرٍ أُجَاج، أفواههم ضامزة، وقلوبهم قَرِحَة، قد وُعِظوا حتَّى ملُّوا، قُهِرُوا حتّى ذَلُّوا، وقُتلوا حتى قلُّوا، فلتكن الدنيا في عيونكم أصغرَ من حُثالة القرَظ، وقُرَاضة الجَلَمَيْن، واتّعظوا بمَن كان قبلكم، قبلَ أن يتّعظ بكم مَن يأتي بَعدكم، فارفُضوها ذَميمةً؛ فإنّها رَفضت مَن كان أشغَفَ بها منكم، وفي هذه الخطبة أبقاك اللَّه ضروبٌ من العجب: منها أنّ الكلام لا يشبه السَبَب الذي من أجله دعاهم معاوية، ومنها أنّ هذا المذهبَ في تصنيف الناس، وفي الإخبار عمّا هم عليه من القَهر والإذلال، ومن التَّقيّة والخَوف، أشبه بكلام علي رضي اللَّه عنه ومعانيه وحالِه، منه بِحال معاوية، ومنها أنّا لم نَجِدْ معاويةَ في حالٍ من الحالات يسلُك في كلامه مَسلك الزُّهّاد، ولا يذهبُ مذَاهب العُبّاد، وإنما نكتب لكم ونخبِرُ بما سَمِعناه، واللَّه أعلمُ بأصحاب الأخبار، وبكثير منهم،