خطبة زياد بالبصرة وهي التي تدعى البتراء

قال أبو الحسن المدائني، وغيره؛ ذكر ذلك عن مَسلمة بن محارب، وعن أبي بكر الهُذَليّ قالا: قدم زيادٌ البَصرة والياً لمعاوية بن أبي سفيان، وضمَّ إليه خراسان وسجستان، والفسقُ بالبصرة كثير فاشٍ ظاهر، قالا: فخطب خطبة بتراءَ، لم يَحمَد اللَّه فيها، ولم يصلّ على النبيّ، وقال غيره: بل قال: الحمد للَّه على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيدَ من نِعَمه وإكرامه، اللهُمّ كما زدتنا نِعَماً فألِهمْنا شُكْراً،  أما بعد فإنّ الجهالَة الجَهلاء، والضّلالة العمياء، والغَيَّ الموفى بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام ينْبُتُ فيها الصغير، ولا ينْحاشُ عنها الكبير، كأنّكم لم تقرؤوا كتابَ اللَّه، ولم تسمعوا ما أعَدّ اللَّه مِن الثَّواب الكريم لأهل طاعته، والعذابِ الأليم لأهل معصيته، في الزمن السَّرمَدِ الذي لا يزول، أتكونون كمن طرفت عينَه الدُّنيا، وسَدَّت مسامعَه الشهواتُ، واختار الفانيةَ على الباقية، ولا تذكرون أنّكم أحدثتم في الإسلام الحَدَثَ الذي لم تُسبَقوا إليه: مِن تَركِكم الضعيفَ يُقهر ويؤخذُ مالُه، وهذه المواخير المنصوبة، والضعيفةَ المسلوبةَ في النَّهار المُبْصِر، والعددُ غير قليل، ألم تكن منكُم نُهاةٌ تَمنع الغُواةَ عن دَلَج الليل وغارة النهار؟ قرّبتُم القَرابة، وباعدتم الدِّين، تعتذرون بغير العُذر، وتُغْضُون على المختلس، أليْسَ كلُّ امرئٍ منكم يذُبُّ عن سفِيهه، صُنْعَ مَن لا يخافُ عاقبةً ولا يرجو مَعاداً، ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السُّفهاء، فلم يَزَلْ بكم ما ترون مَن قيامكم دُونَهم حتّى انتهكوا حُرَم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كُنُوساً في مَكَانِس الرِّيَب، حَرامٌ عليَّ الطّعامُ والشرابُ حتى أسوّيَها بالأرض، هَدْماً وإحراقاً، إنِّي رأيتُ آخِرَ هذا الأمر لا يصلحُ إلاّ بما صَلُح به أوَّلهُ: لينٌ في غير ضَعف، وشدةٌ في غير عُنف، وإنّي أُقسم باللَّه، لآخُذَنَّ الوليَّ بالوليّ، والمقيم بالظَّاعن، والمقبلَ بالمدْبر، والمطيع بالعاصي، والصَّحيحَ منكم في نفسه بالسقيم، حتَّى يَلقَى الرَّجُل منكم أخاه فيقول: انْجُ سعدُ فقد هلك سُعَيْدٌ، أو تستقيمَ لي قناتُكم، إنَّ كِذْبَةَ المِنبر بلقاءُ مَشْهُورةٌ، فإذا تعلَّقتم عليَّ بكِذبةٍ فقد حلّت لكم معصيتي، وإذا سمعتموها مِنّي فاغتمزُوها فيَّ واعلموا أنَّ عندي أمثالَها، من نُقِبَ منكم عَلَيْه فأنا ضامنٌ لما ذهبَ منه، فإيايَ ودَلَجَ اللّيل؛ فإنِّي لا أُوتَى بمُدلج إلا سفكتُ دمَه، وقد أجَّلْتُكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبرُ الكُوفَة ويرجعُ إليكم، وإيايَ ودعْوةَ الجاهليّة؛ فإني لا آخُذ داعياً بها إلا قطعتُ لسانه، وقد أحدْثتم أحداثاً لم تكُن، وقد أحدثْنا لكلِّ ذنبٍ عقوبة: فمَنْ غرَّق قوماً غرَّقناه، ومَن أحرق قوماً أحرقناه، ومن نقبَ بيتاً نقبنا عن قلبه، ومَن نبش قبراً دفنَّاه فيه حَيّاً، فكُفُّوا عَنِّي أيديَكم وألسنَتكم، أكفُفْ عنكم يدي ولساني، ولا تَظْهَرُ على أحدٍ منكم ريبةٌ بخلاف ما عليه عامتكُم إلاّ ضربتُ عنقه، وقد كانت بيني وبين أقوامٍ إحَنٌ فجعَلتُ ذلك دبْرَ أُذْني وتحتَ قَدَمِي، فمَن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان منكم مُسيئاً فلينْزِع عن إساءته، إنِّي واللَّه لو علمتُ أنّ أحدكم قد قتله السُّلُّ مِن بٌغضي لم أكشِف له قناعاً، ولم أهْتِكْ له سِتراً، حتى يُبدِيَ له صفحتَه، فإذا فَعَلَ ذلك لم أناظِرْه، فاستأنِفُوا أموركم، وأرْعُوا على أنفسكم، فَربَّ مَسُوء بقدومنا سنسرُّه ومسرورٍ بقدومنا سنسوؤه، أيها الناس، إنّا أصبحنا لكم سادة، وعنكم ذَادةً، نَسُوسُكم بسلطان اللَّه الذي أعطانا، ونذودُ عنكم بفَيء اللَّه الذي خَوَّلَنا، فلنا عليكم السَّمعُ والطاعة فيما أحبَبْنا، ولكم علينا العدل والإنصاف فيما وُلّينا، فاستوجِبُوا عَدْلنا وفَيئَنا بمناصَحتكم لنا، واعلموا أنِّي مهما قصَّرتُ عنه فلن أقصِّر عن ثلاثٍ: لستُ محتجباً عن طالبِ حاجةٍ منكم ولو أتاني طارقاً بلَيل، ولا حابساً عطاءً ولا رزقاً عن إبّانه، ولا مجمِّراً لكم بَعثاً، فادعُوا اللَّه بالصَّلاح لأئمتكم؛ فإنهم ساستكم المؤدِّبون، وكهفُكم الذي إليه تأوُون، ومتى يصلُحوا تَصلُحوا، ولا تُشْرِبوا قلوبَكم بُغْضَهم فيشتدَّ لذلك غيظكم، ويطولَ له حُزنكم، ولا تُدْركوا بهِ حاجتكم، مع أنّه لو استُجيب لكم فيهم لكان شرّاً لكم، أسأل اللَّه أن يُعينَ كُلاًّ على كلٍّ، وإذا رأيتُموني أُنْفِذ فيكم الأمرَ فأَنْفذوه على أذلاله وأيمُ اللَّه إنَّ لي فيكم لَصَرعَى كثيرةً، فليحذر كلُّ امرئٍ منكم أن يكون من صَرْعاي،  قال: فقام إليه عبدُ اللَّه بن الأهتم فقال: أشهدُ أيّها الأمير، لقد أُوتِيتَ الحكمةَ وفَصلَ الخطاب، فقال له: كذبتَ، ذلك نبيُّ اللَّه داود صلى الله عليه وسلم ، فقام الأحنفُ بن قيس فقال: أيُّها الأمير، إنما المرءُ بجَدِّه، والجودُ بشَدّه، وقد بلَّغَك جَدُّك أيُّها الأميرُ ما تَرى، وإنما الثناءُ بعد البلاءِ، والحمد بعد العَطاء، وإنا لن نُثنِيَ حتى نَبتلي، فقال زياد: صدقت، فقال إليه أبو بلال مِرداس بن أُدَيّة، وهو يهمس ويقول: أنبأنا اللَّه بغير ما قلت، فقال: "وإبراهيمَ الذي وَفّى، ألاّ تَزرُ وازرَةٌ وزْرَ أخرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إلاّ مَا سَعَى" النجم: 37-39، وأنتَ تزعُم أنك تأخذ البريء بالسقيم، والمطيعَ بالعاصي، والمقبلَ بالمدبر، فسمعه زيادٌ فقال: إنا لا نبلغُ ما نُريدُ فيك وفي أصحابك حَتّى نخوض إليكمُ الباطلَ خَوْضاً، وقال الشعبي: ما سمعتُ متكلِّماً على منْبرٍ قطُّ تكلَّمَ فأحسَنَ إلاّ أحببتُ أن يسكتَ خوفاً أن يسيء، إلاّ زياداً؛ فإنَّه كانَ كلّما أكَثرَ كان أجودَ كلاماً، أبو الحسن المدائنيّ قال: قال الحسن: أوْعَدَ عمرُ فَعُوفيَ، وأَوْعَدَ زيادٌ فابتُليَ، قال: وقال الحسن: تشبّه زيادٌ بعُمَر فأفرط، وتشبَّهَ الحجَّاج بزيادٍ فأهلك الناس، قال أبو عثمان: قد ذكرنا من كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وخُطَبه صدراً، وذكرْنا من خُطَب السلف رَحمهم اللَّه جُمَلاً، وسنذكُر من مقطّعات الكلام، وتجاوُب البُلغاء، ومَواعظِ النُّسَّاك، ونقصِدُ من ذلك إلى القصار دون الطِّوال؛ ليكون ذلك أَخفَّ على القارئ، وأَبعَد من السآمة والمَلَل، ثم نعود بعد ذلك إلى الخطب المنسوبة إلى أَهلها إن شاء اللَّه، ولا قُوّةَ إلاّ باللَّه، قال أبو الحسن المدائنيّ: قدمِ عبد الرحمن بن سليم الكلبيّ، على المهلَّب بن أَبي صُفرة، في بعض أيَّامه مع الأزارقة، فرأى بَنيهِ قد ركبوا عَن آخرهم فقال: شَدَّ اللَّه الإسلامَ بتلاحُقِكم، فواللَّه لئن لم تكونوا أَسباطَ نُبُوّةٍ إنّكم لأسباط مَلْحَمَة، وقال أبو الحسن: دخل الهُذيل بن زُفَرَ الكلابيّ، على يزيد بن المهلب في حَمالات لزِمَتْه، ونوائبَ نابَتْه، فقال له: أصلحك اللَّه، إنّه قد عظُم شأنُك، وارتَفَع قَدرُك أن يُستعان بك، أويستعانَ عليك ولست تفعل شيئاً من المعروف إلاّ وأنتَ أكبر منه، وليس العَجب من أن تفعَل، ولكن العجبَ من أن لا تفعل، قال يزيد: حاجَتَك، فذكرها، فأمرَ له بها، وأمر له بمائة ألف، فقال: أمّا الحَمالات فقد قبلتها، وأمّا المال فليس هذا موضعَه، عيسى بن يزيد بن دأب، عَمّن حدَّثه عن رجلٍ كان يجالس ابنَ عبّاس قال: قال عثمان بن أبي العاصي الثّقفي لبنيه: يا بَنِيّ، إنِّي قد أمْجَدْتُكُم في أمّهاتكم، وأحسنت في مهنة أموالكم، وإنّي ما جلستُ في ظلّ رجلٍ من ثقيفٍ أشتم عِرضَه، والنّاكح مُغْترِسٌ، فلينظرِ امرؤٌ منكم حيثُ يضع غَرسَه، والعِرق السَّوْءُ قَلّما يُنجِب ولو بَعد حِين، قال: فقال ابنُ عباس: يا غلامُ، اكتبْ لنا هذا الحديث، قال: ولما همّت ثَقيف بالارتداد قال لهم عثمان: معاشِرَ ثقيف، لا تكونوا آخرَ العرب إسلاماً، وأوّلَهم ارتداداً، قال: وسمعتُ أعرابيّاً ذكر يوماً قريشاً، فقال: كَفَى بقريش شرَفاً أنّهم أقربُ النّاس نسباً برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأقربهم بيتاً من بيت اللَّه، الأصمعيّ قال: قيل لعَقيل بن عُلَّفة: أتهجو قومك؟ قال: الغَنم إذا لم يُصْفَر بها لم تَشْرب، قال: وقيل لعَقِيل: لم لا تُطيل الهجاء؟ قال: يكفيك من القِلادة ما أحاط بالعُنق، قال: وسأل عمرُ بن الخطاب رضي اللَّه عنه عَمرَو بن مَعد يكرب، عن سَعد قال: كيف أميركم؟ قال: خيرُ أمير، نبطيٌّ في حُبْوَتِهِ، عَرَبيٌّ في نَمِرته، أسدٌ في تامورته، يعدِل في القضيّة؛ ويَقسِم بالسّوِيَّة، ويَنْفِر في السَّريَّة، وينقُل إلينا حقَّنا كما تَنقُل الذَّرَّةُ، فقال عمر: لَشَدَّ ما تقارضتما الثّناء،  قال: ولمَّا توردَّ الحارثُ بن قيس الجَهْضَميّ بعبيد اللَّه بن زياد، منزلَ مسعود ابن عمرو العَتَكيّ، عن غير إذْن، فأراد مسعودٌ إخراجه من منزله، قال عُبيد اللَّه: قد أجارَتْني ابنةُ عمِّك عليك، وعَقدُها العَقدُ الذي يلزمُك، وهذا ثوبُها عليَّ، وطعامُها في مذاخيري، وقد التفَّ عليَّ منزِلُك، وشهد له الحارث بذلك، قال: مَرَّ الشَّعبي بناسٍ من الموالي يتذاكرون النَّحو فقال: لئن أصلحتموه إنَّكم لأوَّل مَن أفسدَه، قال: وتكلّم عبدُ الملك بن عُمير، وأعرابيٌّ حاضر، فقيل له: كيف ترى هذا الكلام؟ فقال: لو كان كلامٌ يُؤتَدَم به لكان هذا الكلام ممَّا يؤتدم به، وقال جريرٌ العِذْرة طَرَفٌ من البُخْل، وقال جريرٌ: الخَرَس خير من الخِلاَبَة، وقال أبو عُمَر الضَّرير: البَكَمُ خير من البَذَاءِ، قال: وقدِم الهيثم بن الأسود بن العُريان على عبد الملك بن مروانَ فقال: كيف تجدك؟ قال: أجِدني قد أبيضّ منِّي ما كنت أحبُّ أن يسودّ، واسودّ مني ما كنتُ أحبُّ أن يبيض، واشتدّ منِّي ما كنت أحبُّ أن يَلين، ولانَ منِّي ما كنتُ أحبُّ أن يشتدَّ، ثم أنشد:

اسمَعْ أنبِّئكَ بـآيات الـكِـبَـرْ

 

نومُ العَشاء وسُعالٌ بالسّـحَـرْ

وقلَّةُ النّوم إذا الليلُ اعـتـكَـرْ

 

وقِلّةُ الطَّعْمِ إذا الزادُ حَـضَـرْ

وسُرعة الطّرْف وتحميجُ النَّظَرْ

 

وتركيَ الحَسنْاء في قُبْل الطُّهُرْ

وحـذراً أزدادُه إلـى حــذْر

 

والناس يبلَوْنَ كما يَبْلى الشَّجَرْ

وقال أكثم بن صَيْفيّ: الكَرم حُسن الفِطنة وحُسْنُ التغافل، واللّؤم سوءُ الفطنة وسُوء التغافل، وقال أكثمُ بن صَيفيّ: تباعَدُوا في الدّيار تقارَبُوا في المَودَّة، وقال آخر لبنيه: تباذَلُوا تحابُّوا، قال: ودخل عيسى بن طلحة بن عُبيد اللَّه، على عُروة بن الزبير وقد قُطِعَت رجله،فقال له عيسى: واللّه ما كنا نُعِدُّك للصِّرَاع، ولقد أبْقَى اللَّه لنا أكثَرَك: أبقى لنا سَمعكَ وبصرَك، ولسانك وعقلك، ويدَيك وإحدى رجلَيك، فقال له عروة: واللَّه يا عيسى ماعزَّاني أحدٌ بمثل ما عزّيتني به، وكتب الحسنُ إلى عمرَ بن عبد العزيز رحمه اللَّه: أمَّا بعد فكأنَّك؛ بالدُّنيا لم تكن، وبالآخرة لم تَزَلْ، قال: وقال عمر بن الخطاب رحمه اللَّه: اقرؤوا القرآن تُعْرَفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، ولن يبلغ حق ذي حقٍّ أن يُطاعَ في معصية اللَّه، ولن يقرِّبَ مِن أجَل، ولن يُباعِدَ من رزقٍ، أن يقوم رجلٌ بحقٍّ، أو يُذكِّر بعظيم، وقال أعرابيٌّ لهشام بن عبد الملك: أتت علينا ثلاثةُ أعوامٍ، فعامٌ أكَلَ الشَّحم، وعامٌ، أكَلَ اللحم، وعامٌ انتقى العَظْم، وعندكم أموالٌ، فإنْ كانت للَّه فادفَعوها إلى عباد اللَّه، وإن كانت لعباد اللَّه فادفعوها إليهم، وإن كانت لكم فتصدّقوا، فإن اللَّه يَجزي المتصدِّقين، قال: فهل مِن حاجة غير ذلك؟ قال:ما ضَربْتُ إليك أكباد الإبل أدَّرِع الهجير، وأخوض الدُّجى لخاصٍّ دونَ عام، قال شَدَّاد الحارثيّ، ويكنى أبا عُبيد اللَّه: قلت لأَمَة سَوداءَ بالبادية: لمَنْ أنْتِ يا سوداء؟ قالت: لسَيِّد الحضَر يا أصلع، قال: قلت لها: أوَلستِ بسوداء قالت: أوَ لستَ بأصلع؟ قلتُ: ما أغضَبَكِ من الحق؟ قالت: الحقُّ أغضبكَ لا تسبُبْ حتى تُرْهَب، ولأَنْ تتركَه أمْثَل، وقال الأصمعيّ: قال عيسى بن عُمَر:قال ذو الرَّمّة: قاتل اللَّه أمَة آلِ فلانٍ ما كان أفصَحَها سألتها كيف المطر عندكم؟ فقات: غِثنا ما شئنا، وأنا رأَيتُ عبداً أَسودَ لبني أَسِيد،قدِم عليهم من شِقِّ اليمامة، فبعثوه ناطوراً، وكان وحشيّاً محرَّماً؛ لطول تعزُّبه كان في الإبل، وكان لا يَلَقى إلاّ الأكرَةَ، فكان لا يفهم عنهم، ولا يستطيع إفهامَهُم؛ فلمَّا رآني سكَنَ إليَّ، وسمعتُه يقول: لَعَنَ اللَّه بلاداً ليس فيها عَربٌ، قاتل اللَّه الشّاعر حيث يقول:

حُرُّ الثّرى مُسْتَعرِبُ التّرابِ

أبا عثمان، إنّ هذه العُرَيبَ في جميع الناس كمقدار القُرْحة في جميع جِلدِ الفرَس، فلولا أنّ اللَّه رَقَّ عليهم فجعلهم في حاشيةٍ لَطَمَست هذه العُجمانُ آثارَهم؛ أتُرَى الأعيارَ إذا رأت العِتاق لا تَرَى لها فضلاً، واللّهِ ما أمر اللَّهُ نبيّه بقتلهم إلا لضَنِّه بهم، ولا تَركَ قَبول الجِزية منهم إلاّ تنزيهاً لهم ، وقال الأحنف بن قيس: أسرعُ النّاس إلى الفتنة أقلُّهم حياء من الفِرَار، قال: ولما مات أسماء بن خارجةَ، فبلغ الحجاجَ موتُه، قال: هل سمعتم بالذي عاش ما شاءَ، ثم مات حين شاء، وقال سَلْمُ بن قُتيبة: رَبُّ المعروف أشدُّ من ابتدائه، أبو هلال، عن قَتادة قال: قال أبو الأسود: إذا أردت أن تُكْذِب صاحبَك فلقّنْه، وقال أبو الأسود: إذا أردتَ أن تُعظَّمَ فمُتْ، وإذا أردتَ أن تُفْحِمَ عالماً فأحضرْهُ جاهلاً، قال: وقيل لأعرابيّ: ما يدعُوك إلى نَوْمة الضُّحَى؟ فقال: مَبْرَدَةُ في الصيف، مَسخَنة في الشّتاء، وقال أعرابيُّ: نَومة الضحى مَجْعَرَةٌ مَجْفَرَةٌ مَبْخَرَةٌ، وجاء في الحديث: الولد مَبخَلةٌ مَجْبنةٌ، قال: ونظر أعرابيٌّ إلى قوم يلتمسون هلال رمضان، فقال: أمَا واللّه لئن أثَرْتُموه لتَمسِكُنَّ منه بذنابَى عيشٍ أغبر، وقال أسماء بن خارجة: إذا قَدُمت المصيبة تُركت التَّعزية، وقال: إذا قَدُمَ الإخاء سَمُجَ الثَّناء، وقال إسحاق بن حَسَّان: لا تُشَمِّتِ الأمراءَ ولا الأصحابَ القدماء، وسُئل أعرابيٌّ عن راعٍ له فقال: هو السَّارح الآخِر، والرائح الباكر، والحالب العاصر، والحاذف الكاسر، قال: وقال عُتبة بن أبي سفيان لعبد الصَّمد مؤدِّب ولدِه: ليكن أوَّلَ ما تبدأُ به من إصلاحك بَنِّي إصْلاحُك نَفسَك؛ فإنَّ أَعينهم معقودة بعينك، فالحسَنُ عِندهم ما استحسنت، والقبيحُ عندهم ما استقبحت، علِّمْهم كتابَ اللَّه، ولا تُكرِهْهم عليه فيَملُّوه، ولا تتركْهم منه فيهجُروه، ثم روِّهم من الشِّعر أَعَفَّه، ومن الحديث أَشْرَفه، ولا تُخْرِجْهم من عِلْمٍ إلى غيره حتّى يحْكموه، فإنَّ ازدحامَ الكلام في السَّمع مَضَلَّةٌ للفهم، وعلِّمْهم سِيَرَ الحكماء وأخلاقَ الأدباء، وجنِّبْهُم محادَثة النساء، وتهدَّدْهم بي وأدِّبْهم دُوني، وكنْ لهم كالطَّبيب الذي لا يَعجَل بالدَّواء حتى يعرف الداء، ولا تَتّكل على عُذري، فإني قد اتَّكلتُ على كفايتِك، وزد في تأديبهم أزدك في برّي إن شاء اللَّه، محمد بن حربٍ الهلاليّ قال: كتب إبراهيم بن أبي يحيى الأسلَميّ، إلى المهديِّ يعزّيه على ابنته: أما بَعْدُ فإنّ أحقَّ مَن عرَف حَقَّ اللَّه عليه فيما أخَذ منه، مَن عَظَّم حقّ اللَّه عليه فيما أبقَى له، واعلم أنَّ الماضيَ قبلك هو الباقي لك، وأنّ الباقيَ بعدك هو المأجورُ فيك، وأنَّ أجر الصابرين فيما يصابون به، أعظَمُ من النِّعمة عليهم فيما يُعافَوْن منه، قال: وقال سهل بن هارون: التهنئة على آجِلِ الثَّواب أَولى من التعزية على عاجل المصيبة، وقال صالح بن عبد القدوس: من الخفيف

إنْ يكن ما به أُصبتَ جـلـيلاً

 

فذَهاب العـزاء فـيه أجَـلُّ

كل آتٍ لا شكّ آتٍ، وذو الجَهْ

 

لِ مُعَنّىً، والهمُّ والحُزن فَضْلُ

وقال لقمان لابنه: يا بُنيّ إياك والكسل والضَّجَر؛ فإنك إذا كَسلتَ لم تؤدِّ حقاً، وإذا ضجِرت لم تصبر على حقٍّ، قال: وكان يقال: أربع لا ينبغي لأحدٍ أن يأنف منهنَّ وإن كان شريفاً أو أميراً: قيامهُ عن محلِّه لأبيه، وخدمتُه لضيفه، وقيامُه على فَرسه، وخدمتُه للعالم، وقال بعض الحكماء: إذا رغِبت في المكارم، فاجتنِب المَحارم، وكان يقال: لا تغترَّ بمودَّة الأمير، إذا غَشَّك الوزير، وكتب بعضهم: أما بعدُ فقد كنتَ لنا كلُّك، فاجعلْ لنا بعضَك، ولا تَرض إلا بالكلِّ مِنّا لك، ووصف بعض البلغاء اللسان فقال: اللسانُ أداةٌ يظهر بها حُسن البيان، وظاهرٌ يُخبِر عن ضميرٍ، وشاهدٌ ينبئُك عن غائب، وحاكم يُفصَل به الخطاب، وناطقٌ يُرَدُّ به الجواب، وشافعٌ تُدرَك به الحاجة، وواصفٌ تُعرف به الحقائق، ومُعَزٍّ يُنْفَى به الحزن، ومُؤنس تذهَب به الوَحْشة، وواعظٌ يَنهَى عن القبيح، ومزَيِّنٌ يدعو إلى الحَسَن، وزارعٌ يحرث المودَّة، وحاصدٌْ يستأصل الضَّغينة، ومُلْهٍ يُونِقُ الأسماع، وقال بعض الأوائل: إنّما الناسُ أحاديثُ، فإن استطعتَ أن تكون أحسنَهم حديثاً فافعَل، ولما وصل عبد العزيز بن زُرَارة إلى معاوية قال: يا أمير لمؤمنين، لم أزَل أستدلُّ بالمعروف عليك، وأمتطي النَّهارَ إليك؛ فإذا أَلْوَى بيَ الليل، فقُبِض البَصَر وعُفِّيَ الأثَر، أقام بدني وسافر أملي، والنَّفس تَلوَّمُ، والاجتهاد يَعذِر فإذْ قد بلَغْتُك فقَطْنِي، قال: قال لقمان لابنه: ثلاثة لا يُعرفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يُعرَف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشّجاع إلا في الحرب، ولا تعرِفُ أخاك إلاّ عند الحاجة إليه، وقال أبو العتاهية: مجزوء الرمل

أنتَ ما استغنيتَ عن صا

 

حبِكَ الـدَّهْـرَ أخـوه

فإذا احـتـجـت إلـيه

 

ساعة مَـجَّـك فُـوه

وقال علي بن الحسين لابنه: يابنيّ، اصبر على النائبة، ولا تتعرَّض للحقوق، ولا تُجِب أخاك إلى شيء مَضرَّته عليك أعظم من منفعته له، وقال الأحنف: مَن لم يصبر على كلمةٍ سمع كلمات، وقال: رُبَّ غيظٍ تجرَّعتُه مخافةَ ما هو أشدُّ منه، وقالوا: من كثُر كلامه كَثُر سَقَطه، ومن طال صمتُه كََثُرت سلامته، قال: وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دِينَه غَرَضاً للخصومات أكْثَرَ التنقُّل، محمد بن حرب الهلاليّ، عن أبي الوليد اللَّيثي قال: خطب صعصعةُ بن معاوية إلى عامر بن الظَّرِب العَدْواني ابنته عَمْرة، وهي أمّ عامر بن صعصعة، فقال عامرُ بن الظَّرِب: يا صعصعة، إنك قد أتيتني تشتري مني كَبِدي، وأَرْحَمَ ولدي عندي، غير أنِّي، أطْلَبْتُكَ أو رَددتك، فالحسيب كُفء الحسيب، والزَّوج الصالح أبٌ بعد أب، وقد أنكحتُك مخافَة ألاّ أجدَ مثلَك أفَرَّ من السرّ إلى العلانية، أنصحُ ابناً، وأُودِعُ ضَعيفاً قويّاً، يا معشر عَدوان: خرَجَتْ من بين أظهركم كريمتُكم من غير رَغْبة ولا رَهبة، أقْسم لولا قَسْمُ الحظوظ على قدر المجدود، لما ترك الأوّلُ للآخر شيئاً يعيش به، وقال علي بن أَبي طالب رضي اللَّه عنه: أوصيكم بأربع لو ضربتم إليها آباط الإبل لكُنَّ لها أهلاً: لا يرجونَّ أحدٌ منكم إلاّ ربَّه؛ ولا يخافَنَّ إلا ذنبَه؛ ولا يستحْي أحَدٌ إذا سُئل عمّا لا يعلم أن يقول: لا أعلم، ولا إذا لم يَعلَم الشيء أن يتعلَّمه، وإنَّ الصَّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قُطع الرأسُ ذهب الجسَد، وكذلك إذا ذهبَ الإيمان، قال: ومدح عليَّ بن أبي طالب رجلٌ فأفرط فقال عليّ - وكان يتّهمه -: أنا دُونَ ما تقول، وفوقَ ما في نفسك، وقال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: قيمة كلِّ امرئٍ ما يحسن، وقال له مالك الأشتر: كيف وجَدَ أميرُ المؤمنين أهله؟ فقال: كخير امرأة، قَبَّاء جَبَّاء قال: وهل يريد الرِّجال من النساء غير ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، حتى تُدفئَ الضَّجيعَ، وتُرويَ الرَّضُيع،  قال: ووقف رجل على عامرٍ الشعبي فلم يدَعْ قبيحاً إلاّ رماه به، فقال له عامر: إن كنتَ كاذباً فغفر اللّه لك، وإنْ كنت صادقاً فغفر اللّه لي، وقال إبراهيم النَّخعي لسُليمانَ الأعمشِ - وأراد أن يماشيَه -: إنَّ الناس إذا رأونا معاً قالوا: أعمشُ وأَعور قال: ما عليك أَن يأثموا ونُؤْجر؟ قال: وما علينا أن يسلموا ونسلم قال أبو الحسن: كان هشام بن حسَّان إذا ذكر يزيد بن المهلَّب، قال: إنْ كانت السفن لَتَجْرِي في جُوده، وقال: مكتوبٌ في الحكمة: التوفيق خير قائد، وحسن الخُلق خير قرين، والوَحْدة خير من جَليس السَّوء، وقال: وكان مالك بن دينار يقول: ما أشدَّ فِطام الكبير، وكان ينشد قولَ الشاعر:

وتَرُوض عِرسَكَ بعدما هرِمْتَ

 

ومن العناء رياضة الـهَـرِم

وقال صالحٌ المرّيّ: كنّ إلى الاستماع أسرعَ منك إلى القول، ومن خَطَاء الكلام أشدَّ حذراً من خَطاء السكوت، وقال الحسنُ بن هانئ: مجزوء الرمل

خلِّ جنـبـيك لـرامِ

 

وامضِ عنه بسـلامِ

مُتْ بداء الصمت خيرٌ

 

لَكَ من داء الكـلامِ

إنَّما السالـم مَـن ألْ

 

جَمَ فـاهُ بـلـجـامِ

ربَّما استفتحتَ بالمـزْ

 

حِ مغاليقَ الحِـمـامِ

أبو عبيدة وأبو الحسن: تكلّم جماعةٌ من الخطباء عند مَسلمة بن عبد الملك، فأسهبوا في القول، ثم اقترح المنطقَ منهم رجل من أخْريات الناس، فجعل لا يخرُج من حسنٍ إلاّ إلى أحسَنَ منه، فقال مَسلمة: ما شبَّهتُ كلامَ هذا بِعقِب كلامِ هؤلاء إلاَّ بسَحابة لَبّدت عَجاجةً، وقال أبو الحسن: علَّم أعرابيٌّ بنيه الخِراءة: قال: ابْتَغُوا الخَلا، وابْعُدُوا عن المَلاَ، واعلُوا الضَّرا، واستقبِلوا الرِّيح، وأَفجُّوا إفجاجَ النَّعامة، وامتسحوا بأشْمُلِكم، وروي عن الحسن أَنه قال: لما حضرت قيسَ بن عاصمٍ الوفاةُ دعا بَنيه فقال: يا بَنيّ احفظوا عنّي، فلا أَحَدَ أَنصحُ لكم منِّي، إذا متُّ فسَوِّدوا كبارَكم، ولا تسَوِّدوا صغارَكم فيسفّهَ الناسُ كبارَكم وتهونوا عليهم، وعليكم بإصلاح المال فإنَّه مَنبهة للكريم، ويُستغنَى به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس، فإنها شَرُّ كسب المرء، سئل دَغفلٌ النّسّابة عن بني عامر بن صعصعة، فقال: أَعناق ظِباء، وأعجاز نساء، قيل: فتميم؟ قال: حجرٌ أخشَنُ، إن دنوتَ منه آذاك، وإن تركتَه خلاّك، قيل: فاليمن؟ قال: سَيِّدٌ وأَنْوَكُ، وكانوا يقولون: لا تستشيروا معلّماً، ولا راعيَ غنمٍ، ولا كثِيرَ القُعُود مع النِّساء، عِقَال بن شَبَّة قال: كنتُ رديفاً لأبي، فلقِيَه جريرٌ على بغْل، فحيّاه أَبي وأَلطفَه، فقلت له: أَبَعْدَ ما قال؟ قال: يابُنَيّ، أَفأوسِّعُ جُرحي؟ قال: ودعا جَريرٌ رجلاً من شعراء بني كلاب إلى مهاجاته، فقال الكلابيّ: إن نسائي بإمَّتِهنَّ، ولم تََدَع الشّعراء في نسائك مترقّعاً، وقال جرير: أَنا لا أبتدِي ولكنْ أعتدي، وكان الحسنُ في جِنازة فيها نوائح ومعه رجل، فهَمَّ الرجل بالرجوع فقال الحسن: إن كنت كلما رأَيتَ قبيحاً تركت له حَسَناً، أَسْرَعَ ذلك في دينك، قال أبو عبيدة: لقي المخبَّل القُرَيعي الزِّبرقانَ بن بدر فقال: كيف كنت بعدي أبا شَذْرة؟ فقال كما يَسُرُّك مُحِيلاً مُجْرِباً، قال: وكان عبد الملك بن مروان يقول: جمع أبو زُرعة - يعني رَوح بن زنباع - طاعةَ أهل الشام، ودَهاء أهل العراق، وفِقهَ أهل الحجاز، وذُكر لعمر بن الخطاب إتلافُ شبابٍ من قريش أموالَهم فقال: حرفة أحدِهم أشدُّ عَلَيَّ من عَيْلته، وقال عمر بن الخطاب: حِرفةٌ يُعَاشُ بها خير من مَسألة الناس، وقال زياد: لو أنّ لي ألفَ ألف درهم ولي بَعيرٌ أجرب لقمتُ عليه قيام مَن لا يملك غيره، ولو أنّ عندي عشرةَ دراهمَ لا أملك غيرها ولزِمني حقٌّ لوضعتُها فيه،  وقال عمرو بن العاص: البِطنةُ تُذهِب الفطنة، وقال معاوية: ما رأيت رَجلاً يُستَهتر بالباءة إلا تبيَّنتُ ذلك في مُنّته، قال الأصمعي: وقال أبو سليمان الفقعسي لأعرابيٍّ من طَيِّئ: أبامرأتك حَملٌ؟ قال: لا وذو بيتُه في السّماء، ما أدري، واللَّه مالها ذَنَبٌ تشتال به، وما آتيها إلاّ وهي ضَبِعَةٌ، قال أبو الحسن المدائنيّ: اتخذ يزيد بن المهلب بستاناً في دارهِ بخراسان، فلما وَلِيَ قُتيبة بن مسلمٍ خراسانَ جعل ذلك لإبله؛ فقال له مَرزُبان مَروان: هذا كان بستاناً ليزيد، اتَّخَدتَه لإبلك فقال قتيبة: إنّ أبي كان أُشْتُرْبان يريد جمّالاً، وأبو يزيد كان بُستان بان، وقال الحجّاج بن يوسف لعبد الملك بن مروان: لو كان رجلٌ من ذهَب لكنتُه، قال: وكيف ذلك؟ قال: لم تلدني أمَةٌ بيني وبين آدمَ ما خلا هاجَر، قال: لولا هاجَرُ لكنتَ كلباً من الكلاب، قال: ومات ابنٌ لعبيد اللَّه بن الحسن، فعزَّاه صالحٌ المرِّيّ فقال: إن كانت مصيبَتُك في ابنك أحدثَتْ لك عظةً في نفسك فمصيبتك في نفسك أعظم من مصيبتك في مَيْتِك، قال: وعزَّى عمرُو بن عبيدٍ أخاه في ابنٍ مات له، فقال: ذهب أبوك وهو أصلُك، وذهب ابنُك وهو فرعُك، فما حال الباقي بعد ذَهاب أصله وفرعه، قال: وكان يزيد بن عمر بن هبيرة يقول: احذِفُوا الحديثَ كما يحذفه سَلْم بن قُتيبة، قال: وقال رجلٌ من بني تميم لصاحب له: اصحَبْ مَن يتناسى معروفَه عندك، ويتذكّر إحسانَك إليه، وحقوقَك عليه، وعذَلَ عاذِلٌ شُعيبَ بن زيادٍ على شُرب النبيذ، فقال: لاأتركُه حتى يكونَ شرَّ عملي، وقال المأمون: اشربْه مااستبشَعْتَه، فإذا سُهل عليك فاتركْه، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : إذا كتب أحدُكم كتاباً فليترِّبْه فإنَّ الترابَ مبارَك، وهو أنجَحُ للحاجة، ونظر صلى الله عليه وسلم إلى رجل في الشمس، فقال: تحوّلْ إلى الظلِّ فإنّه مبارك، وقال المغيرة بن شعبة: لا يزالُ النّاس بخير ما تعجَّبوا من العجَب، وكان يقال: تَركُ الضّحك من العجَب، أعجبُ من الضّحِك بغير عجب، قال: قدم سعيد بن العاصي على معاوية فقال: كيف تركت أبا عبد الملك؟ فقال: منفِّذاً لأمرك، ضابطاً لعملك، فقال له معاوية: إنَّما هو كصحاب الخُبزة كُفِيَ إنضاجَها فأكَلَها، فقال سعيد: كلاً إنّه بينَ قومٍ يتهادَون فيما بينهم كلاماً كوقع النَبْل، سهماً لك وسَهماً عليك، قال: فما باعَدَ بينه وبينك؟ فقال: خِفْتُه على شَرَفي، وخافني على مثله، قال: فأيُّ شيء كان له عندك في ذلك؟ فقال: أسوؤُه حاضراً وأسُرُّه غائباً قال: يا أبا عثمان، تركْتَنا في هذه الحروب، قال: نعم: تحملتَ الثِّقْل وكَفَيتَ الحزمَ، وكنتُ قريباً لو دُعيتُ لأجبت، ولو أُمِرْتُ لأطعت، قال معاوية: يا أهل الشام: هؤلاء قومي وهذا كلامهم، قال: وكان الحجاج يستثقل زيادَ بن عمرو العَتَكيّ، فلما أثنى الوفدُ على الحجَّاج عند عبد الملك، والحجاجُ حاضِرٌ، قال زيادٌ: يا أميرَ المؤمنين، إنّ الحجَّاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمُك الذي لا يَطيش، وخادمُك الذي لا تأخذُه فيكَ لومةُ لائم، فلم يكن بعد ذلك أحدٌ أخفَّ على قلبه منه، وقال شَبيب بن شيبة لسَلْم بن قتيبة: واللَّه ما أدري أيُّ يوميك أشرفُ: أيوم ظفرك أم يوم عفوك، قال: وقال غلامٌ لأبيه - وقد قال له: لستَ لي ابناً -: واللَّه لأنا أشبه بك منك بأبيك، ولأنت أشدُّ تحصيناً لأمِّي من أبيك لأمِّك، وكتب عبد اللَّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر ذي الجَناحين إلى رجل من إخوانه: أما بعد فقد عاقني الشّكّ في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، ابتدأتَني بلَطَف عَن غير خِبْرة، ثم أعقبتني جفاءً عن غير ذنب، فأطمَعَني أوّلُك في إخائك، وأيأسَنِي أخرُك مِن وفائك؛ فلا أنا في اليوم مُجمِعٌ لك اطّراحاً، ولا أنا في غدٍ وانتظاره منك على ثقة، فسبحان مَن لو شاء كشَف بإيضاحِ الرأي في أمرك عن عزيمةِ الشَّكِّ فيك، فأقَمْنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف والسلام،وكتب إلى أبي مسلم صاحب الدّعوة أيضاً، من الحبس: من الأسير في يديه، بلا ذنبٍ إليه، ولا خلافٍ عليه، أمّا بعد فآتاكَ اللّه حفِظَ الوصيّة، ومَنحك نصيحةَ الرعيّة، وألهمك عدلَ القضيّة، فإنك مستودَعٌ ودائعَ، ومُولىً صنائعَ، فاحفظ ودائعَك بحسن صنائعك، فالودائع عاريَّةٌ والصنائع مرعيّة، وما النّعمُ عليك وعلينا فيك بمنزورٍ نداها، ولا بمبلوغ مَداها، فنبّه للتفكُّر قلبك، واتَّق ربَّك، وأعطِ مِن نفِسك لِمَن هو تحتَك ما تحبُّ أن يعطيَك مَن هو فوقَك: من العدل والرأفة، والأمن من المخافة؛ فقد أنعم اللَّه عليك بأنْ فَوّض أمرَنا إليك، فاعرفْ لنا لِينَ شكر المودّة، واغتفارَ مسّ الشدّة، والرِّضا بما رضيت، والقناعةَ بما هوِيت، فإنّ علينا من سَهَك الحديد وثِقَله أذىً شديداً، مع معالجة الأغلال، وقلّة رحمة العُمّال، الذين تسهيلُهم الغِلظة، وتيسيرُهم الفظَاظة، وإيرادهم علينا الغموم، وتوجيههم إلينا الهموم، زيارتهم الحراسة، وبِشارتهم الإياسة، فإليكَ بعد اللَّه نرفع كُربة الشكوى، ونشكو شِدَّة البلوَى، فمتى تُمِلْ إلينا طرفاً، وتُولِنا منك عطفاً، تجدْ عندنا نُصحاً صريحاً، ووُدّاً صحيحاً، لا يُضيع مثلُك مثلَه، ولا ينفِي مثلُك أهلَه، فارْعَ حُرمةَ مَن أدركتَ بحرمته، واعرف حُجَّة من فَلَجْتَ بحجتّه؛ فإنّ الناس مِن حوضك رِواء، ونحن منه ظِماء، يمشون في الأبراد، ونحن نرسُف في الأقياد، بعد الخير والسَّعة، والخفض والدَّعَة، واللَّه المستعان، وعليه التُّكْلان، صَريخ الأخبار، ومُنْجي الأبرار، النَّاسُ من دَولتكَ في رخاء، ونحن منك في بلاء، حين أمِنَ الخائفون، ورجَع الهاربون، رزقنا اللَّه منك التحنُّن، وظاهَرَ علينا منك التمنُّن؛ فإنّك أمينٌ مسْتودَع، ورائدٌ مصطنَع، والسّلامُ ورحمة اللَّه، قال هشامُ بن الكلبيّ، قال: حدّثني خالد بن سعيد، عن أبيه قال: شَكت بنو تغلبَ السَّنَة إلى معاوية، فقال: كيف تشكون الحاجةَ مع ارتجاع البِكارة، واجتلاب المِهارة؟، ابن الكلبي قال: كتب معاوية إلى قَيس بن سعد، وهو والي مصرَ لعليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: أمّا بعدُ فإنّما أنت يهوديُّ ابنُ يهوديّ، إنْ ظفِر أحبُّ الفريقين إليك عزَلك واستبدلَ بك، وإن ظفرَ أبغضُهما إليك قَتلك ونكَّل بك، وقد كان أبوك وتَّر قوسه ورمى غيرَ غرضِهِ، فأكثَرَ الحزّ وأخطأ المَفْصِل، فخَذَلَه قومُه، وأدركه يومُه، ثم مات طريداً بحَوْران، والسلام، فكتب إليه قيس بن سعد: أما بعدُ إنَّك وَثَنٌ بن وَثَنٍ، دخلتَ في الإسلام كَرْهاً، وخرجتَ مِنه طوْعاً، لم يَقدُم إيمانُك ولم يحدُث نفاقك، وقد كان أبي رحمه اللَّه وتّر قوسه ورمى غرضَه، فشغّب عليه من لم يبَلغ كعبَه، ولم يشُقّ غبارَه، ونحن بحَمد اللَّه أنصارُ الدين الذي خرجتَ منه، وأعداء الدين الذي دخلتَ فيه، والسلام، وقال أبو عبيدة، وأبو اليقظان، وأبو الحسن: قدِم وفدُ الِعراق على معاوية، وفيهم الأحنف، فخرج الآذِن فقال: إنّ أمير المؤمنين يعزِم عليكم ألاَّ يتكلم أحدٌ إلاّ لنفسه، فلما وصلوا إليه قال الأحنف: لولا عزيمةُ أميرالمؤمنين لأخبرتُه أنّ دافّةً دفَّت، ونازلةً نزلت، ونائبة نابت، ونابتةً نبتتْ كلُّهم به حاجةٌ إلى معروف أمير المؤمنين وبِرّه، قال: حسبُك يا أبا بحر، قد كَفيت الشَّاهد والغائب، وقال غيلان بن خَرشة للأحنف: ما بقاءُ ما فيه العرب؟ قال: إذا تقلّدوا السيوف، وشدُّوا العمائم، وركِبوا الخيل، ولم تأخذهم حَمِيّة الأوغاد، قال غيلان: وما حمية الأوغاد؟ قال: أنْ يعدُّوا التَّواهُب فيما بينهم ضَيماً، وقال عمر: العمائم تيجان العرب، وقال: وقيل لأعرابيٍّ: مالَكَ لا تضعُ العمامة على رأسك؟ قال: إنّ شيئاً فيه السمعُ والبصر لحقيق بالصَّون، وقال عليٌّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: جمال الرجل في عِمّته، وجمالُ المرأة في خُفِّها، وقال الأحنف: استجيدوا النِّعال فإنّها خلاخيل الرّجال، قال: وقد جرى ذكرُ رجلٍ عند الأحنف فاغتابوه فقال: ما لكم وما له؟ يأكل رزقَه، ويكفي قِرْنَه،  وتحمل الأرض ثِقْلَه، مَسلمة بن محارب قال: قال زياد لحُرقة بنتِ النعمان: ما كانت لذة أبيكِ؟ قالت: إدمانُ الشراب، ومحادَثَة الرجال، قال: وقال سليمان بن عبد الملك: قد ركبنا الفارِه، وتبطَّنّا الحسناء، ولبسنا الليّن حتى استخشنّاه، وأكلنا الطيِّب حتى أَجَمْناه، فما أنا اليوم إلى شيء أحوجَ منِّي إلى جَليسٍ يضَعُ عنّي مَؤونة التحفُّظ، وأشاروا على عُبيد اللَّه بن زياد بالحُقْنة، فتفحَّشها، فقالوا: إنَّما يتولاّها منك الطَّبيب، فقال: أنا بالصاحب آنَس، وقال معاوية بن أبي سفيان للنّخّار بن أوس العُذريّ:ابْغِنِي محدِّثاً، فقال: أوَ معي يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم أستريح منك إليه، ومنه إليك، وقال عمرُ بن الخطاب رحمه اللَّه لأبي مريمَ الحنَفِيّ: واللَّه لا أحبُّك حتى تحب الأرضُ الدّمَ المسفوح، قال: فتمنعني لذلك حقّاً؟ قال: لا، قال: فَلا ضَيْر، إنّما يأسَف على الحبّ النِّساء، وقال عمرُ لرجلٍ هَمَّ بطلاق امرأته، فقال له: لمَ تطلِّقها؟ قال: لا أحبُّها، فقال عمر: أو كلُّ البيوت بُنِيت على الحب؟ فأين الرعاية والتذمم، قال: وأُتي عبدُ الملك بن مروان برجل فقال: زُبيريُّ عميريُّ، واللَّه لا يحبك قلبي أبداً، قال: يا أمير المؤمنين، إنما يبكي على الحبِّ المرأة، ولكن عدلٌ وإنصاف، عبد اللَّه بن المبارك، عن هشام بن عروة، قال: نازع مروان، ابنَ الزبير عند معاوية، فرأى ابن الزُّبير أنَّ ضَلْع معاوية مع مروان، فقال ابن الزبير: يا أمير المؤمنين: إن لك علينا حقّاً وطاعة، وإن لك سِطَةً وحُرْمةً فينا، فأطع اللَّه نُطعْك، فإنّه لا طاعة لك علينا إلا في حقِّ اللَّه، ولا تُطرقْ إطراق الأُفْعُوان في أُصول السَّخْبَر، أبو عبيدة، قال: قيل لشيخٍ مَرّة: ما بقيَ منك؟ قال: يسبقني مَن بين يديّ، ويَلحقني مَن خلفي، وأنْسَى الحديث، وأذكر القديم، وأنْعس في المَلاءَ وأسهر في الخلاء، وإذا قمتُ قَرُبت الأرضُ منِّي، وإذا قعدتُ تباعَدتْ عنّي، الأصمعي قال: قلت لأعرابي معه ضاجعةٌ من شاءٍ: لمن هذه؟ قال: هي لِلَّه عندي، ولما قَتل عبدُ الملك بن مروانَ مُصعَباً ودخل الكوفة، قال: للهيثم بن الأسود النّخعي: كيف رأيتَ اللَّه صَنَع؟ قال: قد صَنَع خيراً، فخفِّفِ الوطأة، وأقِلّ التّثريب، وقال ابن عباس: إذا تَرك العالم قولَ لا أدري فقد أُصِيبتْ مَقاتِلُه، قال: وكانوا يستحبُّون ألاّ يُجيبوا في كلِّ ما سُئلوا عنه، قال: وقال عمرُ بن عبد العزيز: من قال عند ما لا يدرِي: لا أدرِي، فقد أحرَزَ نصف العلم، وقال ابن عبَّاس: إنّ لكلِّ داخلٍ دَهشةً، فآنِسُوهُ بالتحيَّة، قالوا: واعتذر رجلٌ إلى سَلم بن قتيبة فقال سَلْم: لا يَدْعُونّك أمرٌ قدْ تخلّصتَ منه، إلى الدُّخول في أمرٍ لعلّك لا تخلُص منه، قال: وكان يقال: دعوا المعاذر فإن أكثرها مَفاجر، قال: وقال إبراهيم النَّخعيّ لعبد اللَّه بن عون: تجنّب الاعتذار؛ فإن الاعتذار يخالطُه الكذب، واعتذر رجلٌ إلى أحمدَ بنِ أبي خالد فقال لأبي عبَّاد: ما تقول في هذا؟ قال: يُوهَبُ له جُرمُه، ويُضرَب لعُذره أربَعمائة، وقد قال الأول: عذره أعظم من ذنبه، قال: وقيل لابن عبّاس: ولد عمر بن أبي ربيعة في الليلة التي مات فيها عمر بن الخطاب رَحمه اللَّه، فسُمِّيَ باسمه، فقال ابن عباس: أيُّ حَقٍّ رفع، وأيُّ باطل وُضِع، وقال عَبْدُ اللَّه بن جعفر لابنته: يا بنية، إيّاكِ والغَيرة فإنّها مفتاحُ الطلاق، وإيّاكِ والمعاتبة فإنّها تورث البِغْضة وعليكِ بالزّينة والطِّيب، واعلمي أنّ أزْيَنَ الزِّينة الكُحل، وأطيبَ الطِّيب الماء،  قال: ولمَّا نازع ابنُ الزبير مروانَ عند معاوية قال ابنُ الزُّبير: يا معاوية: لا تَدَعْ مروانَ يرمي جماهير قريشٍ بمَشاقِصِه، ويضربُ صَفاتَهم بمعَاولهِ، فلولا مكانُك لكان أخفَّ على رقابنا من فَراشَةٍ، وأقلَّ في أنفسنا من خَشَاشَةٍ، ولئن مُلّكَ أعِنَّة خيلٍ تنقاد له ليَركبَنَّ منك طَبَقاً تخافُه، قال معاوية: إن يَطلبْ هذا الأمرَ فقد يطمعُ فيه مَن هو دونَه، وإن يتركْه فإنّما يتركُه لمن هو فوقه، وما أُراكم بمنتهين حتّى يبعثَ اللّه إليكم مَن لا يعطِف عليكم بقرابَةٍ، ولا يذْكُركم عند مُلمَّةٍ، يَسومُكم خَسفاً، ويُوردكم تلَفاً فقال ابن الزُّبير: إذاً واللّه نُطْلِقَ عِقال الحرب بكتائبَ تمور كرِجل الجراد، حافَتُها الأسَل، لها دَوِيّ كدَوِيّ الرّيح، تتبع غِطْريفاً من قريشٍ لم تكن أمُّه براعية ثَلّةٍ، فقال معاوية: أنا ابنُ هند، إنْ أطلقتُ عِقال الحرب أكلَتْ ذِروة السَّنام، وشربَتْ عُنفُوانَ المَكْرع، وليس للآكِل إلاّ الفِلْذةُ، ولا للشَّارب إلا الرَّنْق، بكر بن الأسود قال: قال الحسن بن عليّ لحبيب بن مَسْلَمة: رُبَّ مَسِيرٍ لك في غَير طاعَةِ اللّه، فقال: أمّا مسيري إلى أبيك فلا، قال: بَلَى، ولكنّك أطعت معاويةَ على دنيا قليلة، فلعمري لئن قام بك في دنياك، لقد قَعَدَ بك في دينك، ولو أنّك إذْ فعلتَ شرًّا قلتَ خيراً، كنت كما قال اللّه تبارك وتعالى: "خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً" التوبة: 201، ولكنّك كما قال جلّ وعز: "كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكسِبُون" المطففين: 41، قال أبو الحسن: سمعتُ أعرابيٍّا في المسجد الجامع بالبصرة بعد العصر، سنة ثلاثة وخمسين ومائة، وهو يقول: أمّا بعد فإنّا أبناءُ سبيل، وأنضاءُ طريق، وفَلُّ سَنة، فتصدَّقُوا علينا؛ فإنه لا قليلَ من الأجر، ولا غِنَى عن اللّه، ولا عَملَ بعد الموت، أمَا واللّه إنّا لَنقومُ هذا المقام وفي الصّدر حَزازة، وفي القلب غُصَّةٌ، وقال الأحنف بخراسان: يا بني تميم، تحابُّوا تجتمع كلمتكُم، وتباذلوا تعتدلْ أموالكم، وابدؤوا بجهاد بُطونكم وفروجكم يصلُحْ لكم دينكم، ولا تَغُلّوا يسلمْ لكم جهادُكم، ومن كلام الأحنف السّائرِ في أيدي الناس: الزم الصّحةَ يلزمْك العمل، وسئل خالد بن صفوان عن الكوفة والبصرة فقال: نحنُ منابتُنا قصَب، وأنهارنا عَجَب، وسماؤنا رُطَب، وأرضنا ذهب، وقال الأحنف: نحن أبعَدُ منكم سَرِيّة، وأعظم منكم بَحْريّة، وأكثر منكم ذُرّيّة، وأعْذَى منكم بَرّيّةً، وقال أبو بكر الهذليّ: نحن أكثرُ منكم ساجاً وعاجاً، وديباجاً وخراجاً، ونهرا عَجّاجاً، وكتب صاحبٌ لأبي بكر الهذليّ إلى رجل يعزّيه عن أخيه: أُوصِيك بتقوى اللّه وحدَه؛ فإنّه خَلقك وحده، ويبعثُك يومَ القيامة وحدَه، والعجَبُ كيف يعزّي ميْتٌ مَيْتاً عن مَيْت، والسلام، وقال رجل لابن عَيّاشٍ رحمه اللّه: أيّما أحبُّ إليك: رجلٌ قليل الذُّنوب قليل العمل، أو رجلٌ كثير الذُّنوب كثير العمل؟ فقال: ما أعِدلُ بالسَّلامة شيئاً، وقال آخر: حماقة صاحبي أشدُّ ضرراً عليّ منها عليه، شُعبَةُ أبو بسطام قال: قال عبد الرحمن بن أبي لَيلَى: لا أُماري أخي، فإمّا أنْ أُكْذِبَه، وإمّا أن أُغضِبه، وقال: أخذ رجلٌ على ابن أبي ليلى كلمةً، فقال له ابنُ أبي ليلى: أهْدِ إلينا من هذا ما شئت، لما مات ابنُ أبي ليلى، وعمروُ بن عُبيد، رحمهما اللّه تعالى، قال أبو جعفر المنصور: ما بقي أحدٌ يُستَحَى منه، ولمّا مات عبدُ اللهّ بن عامر قال معاوية: رحم اللّه أبا عبد الرحمن، بمن نُفاخِرُ؟ مَسلمة بن محارب قال: قال زياد: ما قرأتُ كتابَ رجلٍ قطُّ إلا عرفتُ فيه عقلَه،  أبو معشر قال: لما بلغ عبدَ اللّه بن الزُّبير قتلُ عبد الملك بن مروان عمرَو بنَ سعيد الأشدق، قام خطيباً فقال: إن أبا الذِّبَّان قَتَل لطيم الشيطان، "كَذَلِك نُوَلّي بَعْضَ الظَّالِمينَ بَعْضاً بِمَا كانُوا يَكْسِبُون" الأنعام: 921، ولما جاءه قتلُ أخيه مُصْعَب، قام خطيباً بعد خُطبته الأولى فقال: إنّ مُصعباً قدّم أيرَه وأخّر خيَره، وتشَاغَلَ بنكاح فلانة وفلانة، وتَرَك حلْبة أهِل الشام حَتّى غشيَتْه في داره، ولئن هَلَكَ مصعبٌ إنّ في آل الزُّبير منه خلَفاً، قالوا: ولما قِدم ابنُ الزُّبير بفتح إفريقيَّة، أمَره عثمانُ فقام خطيباً، فلما فرغ من كلامه قال عثمان: أيُّها الناس انكِحوا النِّساءَ على آبائهنّ وإخْوتهنّ؛ فإنِّي لم أرَ في ولد أبي بكر الصديق أشبَهَ به من هذا، وسمع عمر بن الخطاب رحمه اللّه أعرابيّاً يقول: اللهمَّ اغفر لأُمّ أوْفَى، قال: ومَن أمّ أوفى؟ قال: امرأتي، وإنّها لحمقاء مِرْغامَةٌ، أكول قامَّةٌ، لا تَبقَى لها خَامَّةٌ، غير أنّها حسناء فلا تُفْرَك، وأمُّ غِلمان فلا تُترك، قالوا: ودفَعُوا إلى أعرابَّىة عِلكاً لتمضَغَه، فلم تفعلْ، فقيل لها في ذلك فقالت: ما فيه إلاَّ تعبَ الأضراس، وخَيْبة الحنجرة، وكان أبو مسلم استشارَ مالك بن الهيثم، حِينَ وردَ عليه كتابُ المنصور في القُدوم عليه، فلم يُشرْ عليه في ذلك، فلما قُتل أبو مسلم أذكَرَهُ ذلك، فقال ابنُ الهيثم: إنّ أخاك إبراهيم الإمام حدّث عن أبيه محمد بن علي أنّه قال: لا يزال الرّجل يُزَادُ في رأيه ما نصح لمن استشاره، فكنتُ له يومئذ كذلك، وأنا لك اليوم كذلك، وقال الحسن: التّقدير نصف الكسب، والتودُّد نصف العقل، وحُسن طلب الحاجة نصف العلم، قال: وقال رَجل لعمرو بن عُبيد: إنِّي لأرحمك مما يقول الناس فيك، قال: أسمِعتَني أذكر فيهم شيئاً؟ قال: لا، قال: إيّاهم فارحَمْ، ومدح نُصَيب أبو الحجناء عبدَ اللّه بنَ جعفر، فأجزَل لهُ من كلِّ صِنف، فقيل له: أتصنع هذا بمثل هذا العبد الأسود؟ قال: أمَا واللّه لئن كان جلدُه أسودَ إنّ ثناءَه لأبيض، وإن شِعرَهُ لَعربيّ، ولقد استحق بما قال أكثر مما يُروَى، وثناءً يبقى، ووقف أعرابيٌّ في بعض المواسم، فقال: اللهم إنّ لك عليّ حقوقاً فتصدّقْ بها عليّ، وللناس تَبِعاتٍ فتحمّلْها عنِّي، وقد أوجبتَ لكلِّ ضعيف قِرًى وأنا ضيفُك، فاجعل قِرَايَ في هذه اللِّيلة الجنَّة، ووقف أَعرابيٌّ يسألُ قوماً فقالوا له: عليك بالصيَّارفة، فقال: هناك واللّه قَرَارَةُ اللؤم، وقال مَسلمة: ثلاثةٌ لا أَعذِرهم: رجلٌ أَحفى شاربَه ثم أعفاه، ورجل قصّر ثيابه ثم أَطالها، ورجلٌ كان عنده سراريُّ فتزوّجَ حُرّة، أبو إسحاق قال: قال حذيفة: كُن في الفتنة كابنِ لَبُون، لا ظَهرَ فيُرْكب، ولا لبنَ فيُحلَب، وقال الشَّاعر وليس هذا الباب في الخبر الذي قبل هذا:

ألم تَرَ أنّ النّاب تُحلَـبُ عُـلـبةً

 

ويُتْرك ثِلْبٌ لا ضِرَابٌ ولا ظَهْرُ

عُتبة بن هارون قال: قلت لرؤبة: كيف خَلّفت ما وراءك؟ قال: التراب يابس، والمرعى عابس، وقال معاوية لعبد اللّه بن عباس: إنّي لأعلم أنّك واعظ نفسه، ولكنّ المصدور إذا لم ينفُثْ جَوِيَ، وقيل لعُبيد اللّه بن عبد اللّه بن عُتبة بن مسعود: أتقول الشعر مع النُّسْكِ والفضل والفقه؟ فقال: لا بد للمصدور من أَن ينفث،قال أَبو الذّيَّال شُوَيسٌ: أنا واللّه العربيُّ، لا أَرقَع الجُرُبَّان، ولا أَلبس التُّبَّان، ولا أُحسن الرَِّطَّانة، ولأنا أرْسَى من حَجرٍ، وما قَرقَمني إلاّ الكرم، أبو الحسن وغيره قال: قال عَمرو بن عتبة بن أَبي سفيان، للوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو بالبَخراءِ من أَرض حِمص: يا أَمير المؤمنين، إنّك لَتستنطقني بالأُنْسِ بك، وأَكفُّ عن ذلك بالهيبة لك، وأراك تأمَن أشياءَ أَخافُها عليك، أفأسكتُ مطيعاً، أم أَقولُ مشفقاً؟ قال: كلُّ ذلك مقبولٌ منك، ولِلّه فينا علمُ غيبٍ نحن صائرون إليه، وتَعود فتقول، قال: فقُتِلَ بعد أَيّام، وكان أيّوب السِّختيانيّ يقول: لا يَعرف الرّجلُ خطأَ معلِّمه حتّى يسمع الاختلاف، وقال بعضُهم: كنت أجالس ابنَ صُعْير في النَّسب، فجلست إليه يوماً فسألتُه عن شيءٍ من الفقه، فقال: ألك بهذا من حاجة؟ عليك بذاك - وأَشار إلى سعيد بن المسيّب - فجلست إليه لا أظُنُّ أنّ عالِماً غيرهُ، ثم تَحوّلت إلى عُروة، ففتقت به ثَبَجَ بحر، قال: وقلت لعثمان البُرّيّ: دُلّني على باب الفقه، قال: اسمع الاختلاف، وقيل لأعرابي عند مَن تحبُّ أن يكون طعامُك؟ قال: عند أمّ صبّيّ راضع، أو ابن سبيل شاسع، أو كبيرٍ جائع، أو ذي رحم قاطع، وقال بعضهم: إذا اتّسعت المقدرة نقًصت الشهوة، قال: قلت له: فمن أسوأُ النّاس حالاً؟ قال: مَن اتسعت معرفتهُ، وبعُدت همّته، وقويت شهوتُه، وضاقت مقدرتهُ، وذُكر عند عائشة رحمها اللّه الشَّرفُ فقالت: كلُّ شرفٍ دُونَه لُؤمٌ فاللُّؤمُ أولى به، وكلّ لؤم دونه شرفٌ فالشّرفُ أولى به، ودخل رجلٌ على أبي جعفر، فقال له: اتّق اللّه، فأنكر وجهَه، فقال: يا أمير المؤمنين، عليكم نزَلتْ، ولكُمْ قِيلت، وإليكم رُدَّت، وقال رجلٌ عند مَسلمة: ما استرحْنَا مِن حائك كِندةَ حتَّى جاءنا هذا المَزُونيّ فقال له مسلمة: أتقول هذا لِرجل سار إليه قَرِيعا قريش؟ يعني نفسه والعباسَ بنَ الوليد، إنّ يزيدَ بن المهلَّب حاوَل عظيماً، ومات كريماً، عبدُ اللّه به الحسَن قال: قال عليّ بن أبي طالب رحمه اللّه: خُصِصْنَا بخمسٍ: فصاحةٍ، وصباحةٍ، وسماحةٍ، ونجدةٍ، وحُظوةٍ - يعني عند النِّساء، عليّ بن مجاهِد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جُبِلت القلوبُ قلوبُ الناس على حُبِّ مَن أحسَنَ إليها، وبُغضِ من أساء إليها، وقال الأصمعيّ: كُتِب كتابُ حكمةٍ فبقيتْ منه بقيّة فقالوا: ما نكتب؟ قالوا: اكتبوا: يُسْأَل عن كلِّ صناعةٍ أهلُها، وقال شَبيب بن شيبةَ للمهديّ: إنَّ اللّه لم يرضَ أن يجعلك دونَ أحدٍ مِن خلقه، فلا ترض لنفسك أن يكون أحدٌ أَخوفَ للّه منك، وقال يحيى بن أكثم: سِياسة القضاء أشدُّ من القضاء، وقال: إنَّ من إهانة العلم أن تجارِيَ فيه كلَّ من جاراك، قال: وحمَّل رقبةُ بن مَصقَلة من خراسان رجلاً إلى أُمّهِ خمسَمائِة درهم، فأبى الرجل أن يدفعَها إليها حتّى تكون معها البيّنةُ على أنها أمُّه، فقالت لخادمٍ لها: اذهبي حتى تأتينا ببعض مَن يعرفُنا، فلما أتاها الرجل برزَت فقالت: الحمد للّه، وأَشكو إلى اللّه الذي أبرزَني وشهَّر بالفاقة أهلي، فلمَّا سمع الرجلُ كلامها قال: أشهد أنَّكِ أمُّه، فرُدِّي الخادمَ ولا حاجة بنا إلى أنْ تجيئي بالبينة، قال: وكان الحسن يقول في خُطبة النكاح، بعد حَمْدِ اللّه والثناء عليه: أمّا بعدُ فإنَّ اللّه جمع بهذا النكاح الأرحامَ المنْقطعة، والأنسابَ المتفرقة، وجعل ذلك في سنّةٍ من دينه، ومِنهاج واضحٍ من أمره، وقد خطب إليكم فلانٌ، وعليه من اللّه نِعمة، عامر بن سعد قال: سمعت الزُّبيرَ يعزّي عبدَ الرحمن على بعض نسائه، فقال وهو قائمٌ على قبرها: لا يَصْفَرْ رَبْعُكَ، ولا يوحِشْ بيتُك، ولا يضع أجرُك، رحم اللّه مُتوفّاك، وأحسَنَ الخلافَةَ عليك، وقال عمر بن الخطاب رحمه اللّه: خيرُ صناعات العرب أبياتٌ يقدِّمها الرّجلُ بين يدَيْ حاجَته، يستميل بها الكريم، ويستعطف بها اللَّئيم، وقال: ولِيمَ مُصعب بن الزُّبير على طول خطبته عشيّة عرفة فقال: أنا قائمٌ وهم جلوس، وأتكلّم وهم سكوت، ويضجرون  وقال موسى بن يحيى: كان يحيى بن خالد يقول: ثلاثة أشياءَ تدلُّ على عقول أربابها: الكتاب يدلُّ على مقدار عقل كاتِبه، والرّسولُ على مقدار عقل مُرسِله، والهديّةُ على مقدار عقل مهديها، وذكر أعرابي أميراً فقال: يقضي بالعُِشْوة، ويطيل النّشوة، ويقبل الرِّشوة، وقال يزيد بن الوليد: إنّ النَشوة تحلُّ العُقدة، وتُطلق الحُبْوة، وقال: إيّاكم والغِناءَ، فإنّه مفتاح الزِّناء، وقال عمر بن الخطاب رحمه اللّه: إذا توجّه أحدكم في وجهٍ ثلاثَ مرّات فلم يصبْ خيراً فليدَعْه، وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: لا تكونَنّ كمن يعجِز عن شكر ما أُوتي، ويبتغي الزّيادةَ فيما بقي؛ يَنهَى ولا ينتهي، ويأمر الناس بما لا يأتي؛ يحبُّ الصالحين ولا يعمل بأعمالهم، ويُبغض المُسيئين وهو منهم؛ يكره الموت لكثرة ذنوبه، ولا يَدَعُها في طول حياتِه، وقال أعرابيّ: خرجتُ حين انحدرَتْ أيدي النُّجومِ وشالت أرجلُها، فلم أزَلْ أصدع الليلَ حتى انصدعَ الفجر، قال: وسألتُ أعرابيّاً عن مسافِة ما بين بلدين فقال: عُمرُ ليلةٍ، وأديمُ يومٍ، وقال آخر: سواد ليلةٍ، وبَياض يومٍ، وقال بعض الحكماء: لا يَضِرْك حبُّ امرأةٍ لا تعرفها، وقال رجلٌ لأبي الدّرداء: فلان يُقرئك السّلام، فقال: هديّة حسنة، ومَحْمَل خفيف، وسَرَقَ مُزَبِّدٌ نافجةَ مِسك فقيل له: إنّ كلّ مَن غَلّ يأتى يوم القيامة بما غَلّ يحمله في عنقه، فقال: إذاً واللّه أحمِلَها طيِّبةَ الريح، خفيفةَ المحمَل، قيل: ومِن أبخل البُخل تَركُ رَدِّ السَّلام، قال ابن عُمر: لَعمرِي إنّي لأرى حقّ رجْعِ جواب الكتاب كردِّ السَّلام، وجاء رجلٌ إلى سَلْمان فقال: يا أبا عبد اللّه، فلان يقرئك السلام، فقال: أَما إنك لو لم تفعل لكانت أمانةً في عنقك، وقال مثنّى بن زهير لرجل: احتفظ بكتابي هذا حتى توصله إلى أهلي؛ فمن العجَب أنَّ الكتاب مُلقًّى، والسَّكرانَ مُوقًّى، وكان عبد الملك بن الحجاج يقول: لأنا لِلعاقِل المُدْبِر أرجى من الأحمق المُقْبل، وقال: إيّاك ومصاحبةَ الأحمق؛ فإنّه ربما أراد أن ينفَعك فضَرّك، وكتب الحجاج إلى عامل له بفارس: ابعث إليّ بعسلٍ من عَسَلِ خُلاَّر، من النّحل الأبكار، من الدَّسْتِفْشارَ، الذي لم تمسَّه النار، وقال الشاعر:

وما المرء إلا حيثُ يجعل نفسَـه

 

ففي صالح الأخلاق نفسَك فاجْعلِ

قال: ونظر أبو الحارث جُمَّين، إلى برذَون يُستقى عليه الماء فقال: وما المرء إلا حيث يجعل نفسه لو أن هذا البِرذون هملَجَ ما صُنِعَ به هذا، عمرو بن هُدّاب قال: قال سَلْمُ بن قتيبة: رَبُّ المعروف أشدُّ من ابتدائه، وقال محمّد بن واسع: الإبْقاء على العمل أشدُّ من العمل، وقال يحيى بن أكثم: سياسةُ القضاء أشدُّ من القضاء، وقال محمد بن محمد الحُمْراني: من التوقِّي تَركُ الإفراط في التوقِّي، وقال أبو قرّة: الجوع للحِمْية أشدُّ من العلّة، وقال الجمّاز: الحِمية إحدى العلّتين، وقال العَمّيُّ: مَن احتمى فهو على يقينٍ مِن تعجيل المكروه، وفي شكّ مما يأمُل من دوام الصحَّة، وذكر أعرابيٌّ رجلاً فقال: حُمَّى المُعافَى، حَنُوطُ المُبتَلَى، وقال عمر اعتبر عزْمَه بحِميَتِه، وحَزْمَه بمتاعِ بَيتِه، وقالوا: أمرانِ لا ينفكان من الكذب: كثرة المواعيد، وشدّة الاعتذار، وقيل لرجلٍ من الحكماء: ما جِمَاعُ البلاغة؟ قال: معرفة السّليم من المعتلّ، وفصل ما بين المُضمّن والمطْلَق، وفرقِ ما بين المشتَرَك والمفرد، وما يحتمل التأويل من المنصوص المقيّد، وقال سهل بن هارون في صدر كتابٍ له: وَجَب على كلِّ ذي مقالةٍ أنْ يبتدئَ بالحمد للّه قبل استفتاحها، كما بُدئ بالنِّعمة قبل استحقاقها، وقال أبو البلاد:

وإنّا وجَدنا النَاسَ عُودَين: طـيِّبـاً

 

وعُوداً خبيثاً لا يبِضُّ على العَصْرِ

تَزِينُ الفتى أَخلاقُـه وتَـشِـينُـه

 

وتُذكَرُ أخلاقُ الفتى وهو لا يدري

وقال آخر في هذا المعنى: من السريع

سابقْ إلى الخيرات أهلَ العلا

 

فإنّمـا الـنـاسُ أحـاديثُ

كلُّ امرئٍ في شأنـه كـادحٌ

 

فوارثٌ منهـمْ ومـوروثُ

ولما قال حَمَلُ بن بدر، لبني عبس، والأسنّةُ في ظهورهم، والبوارقُ فوق رؤوسهم: نُؤدِّي السبَق، ونَدِي الصِّبْيان وتخلّون سِربنا، وتسودون العرب، انتهره حذيفةُ فقال: إيّاك والكلامَ المأثور وقال الشاعر:

اليوم خمرٌ ويبدو في غدٍ خبرٌ

 

والدّهرُ من بين إنعامٍ وإبآسِ

قال: وقال أعرابيّ: إنّ المسافَر ومَتاعَهُ لعلَى قَلَتٍ إلاّ ما وَقَى اللّه، وقالوا: السّفَر قِطعة من العذاب، وصاحبُ السَّوء قطعةٌ من النار، قال: وجلس معاوية بالكوفة يُبايع الناس على البراءة مِن عليّ رحمه اللّه، فجاءه رجلٌ من بني تميم، فأراده على ذلك فقال: يا أمير المؤمنين: نُطيع أحياءكم ولا نبرأُ من موتاكم، فالتفت إلى المغيرة فقال: إن هذا رجلٌ، فاستوصِ به خيراً، وقال الشاعر:

قالت أُمامةُ يومَ بُـرْقَةِ واصـلٍ

 

يا ابنَ الغَدير لقد جعلتَ تَـغـيَّرُ

أصبحتَ بعد زمانك الماضي الذي

 

ذهبَتْ شبيبتهُ وغصنُك أخضـرُ

شيخاً دِعامتُك العصا ومشـيَّعـاً

 

لا تبتغي خبراً ولا تُستـخـبَـرُ

قالوا: وكان شُرَيحٌ في الفتنة يستَخبِرُ ولا يُخبِر، وكان الرّبيع بن خُثَيم لا يُخبِر ولا يَستخبِر، وكان مطَرِّف بن عبد اللّه يَستخبِر ويُخبِر، قالوا: فينبغي أن يكون أعقلَهم، قال أبو عبيدة: كان ابن سيرينَ لا يَستخْبر ولا يُخبِر، وأنا أخبر وأَستخبر، وقال أبو عمرو بن العلاء لأهل الكوفة: لكم حَذلقَةُ النّبَطِ وصَلَفُهم، ولنا دهاءُ فارسَ وأحلامُها، وأنشد للحارث بن حِلِّزة اليشكري:

لا أَعرِفنّكَ إن أرسلتُ قـافـيةً

 

تُلقِي المَعاذيرَ إن لم تنفع العِذَرُ

إنّ السّعيدَ له في غيره عـظَةٌ

 

وفي التّجارب تحكيمٌ ومُعْتَبَـرُ

ومعنى المعاذير هنا على غير معنى قول اللّه تبارك وتعالى في القرآن: "بَلِ الإنْساَنُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعاَذيِرَهُ" القيامة: 51، والمعاذير هاهنا: السُّتور، وقال أراد رجلٌ الحجّ فسلّم على شُعبة بن الحجَّاج فقال له: أَمَا إنّك إن لم تعُدّ الحِلم ذُلاًّ، ولا السَّفَهَ أنَفاً، سلِمَ لك حَجُّك، وقالوا: وكان علي رضي اللّه عنه بالكوفة قد مَنَعَ النّاسَ من القُعود على ظهر الطريق، فكلّموه في ذلك فقال: أَدعُكُم على شريطة، قالوا: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: غَضُّ الأبصار، ورَدُّ السلام، وإرشاد الضالّ، قالوا: قد قبِلنا فَتَرَكهم، وكان نوفلُ بن أبي عقرب، لا يقعد على باب داره، وكان عامراً بالمارّة فقيل له: إنّ في ذلك نَشْرَة، وصَرْفَ النفوس عن الأماني، واعتباراً لمن اعتبَر، وعظةً لمن فكّر، فقال: إنّ لذلك حقوقاً يعجِز عنها ابنُ خَيْثمة، قالوا: وما هِي؟ قال: غضّ البصر، وردُّ التحيّة، وإرشاد الضالِّ، وضَمُّ اللُّقَطَة، والتعرُّض لطُلاّب الحوائج، والنّهي عن المنكر، والشُّغْلُ بفضول النظر، الداعيةِ إلى فضول القول والعمل، عادةٌ إن قطعتَها اشتدّت وَحشتك لها، وإنْ وصلتَها قطعتْك عن أمورٍ هي أولى بك منها، وقال الفُضَيل بن عِياض، لسفيانَ الثوري: دُلّني على جليس أجلس إليه، قال: هيهاتَ، تلك ضالّةٌ لا توجَد، وقيل لبعض العلماء: أيُّ الأمور أمتع؟ فقال: مجالسةُ الحكماء ومذاكرة العلماء، وقيل لعبد الرحمن بن أبي بَكْرة: أيُّ الأمور أمتع؟ فقال: الأمانيّ، وقال رجاء بن حَيْوَة، لعبد الملك بن مروان، في أُسارى ابنِ الأشعث: إن اللّه قد أعطاك ما تحبُّ من الظَّفَر، فأعطِ اللّه ما يحبُّ من العفو، وقال هُرَيم بن عديّ بن أبي طَحْمة، ليزيد بن عبد الملك بعد ظفره بيزيدَ بن المهلَّب: ما رأينا أحداً ظُلِم ظُلمَك، ولا نُصر نصرَك، ولا عفا عفوك، وذمّ رجلٌ رجلاً فقال: سيّئ الروِيّة، قليل التَّقِيَّة، كثير السِّعاية، قليل النّكاية،  قال: وقال معاويةُ لمعاوية بن حُدَيج الكِنديّ: ما جرَّأك على قتل قريش؟ قال: ما أنصفتمونا، تقتلون حلماءَنا وتلوموننا على قتل سفهائكم، وهو الذي قال لأُمِّ الحكم بنت أبي سفيان: واللّه لقد نكَحتِ فما استَكْرمت، وولدت فما أنْجبت، أبو بكر بن مَسلمة، عن أبي إسحاق القيسيّ قال: لما قدم قتيبة بن مسلم خراسان قال: مَن كان في يديه شيء من مال عبد اللّه بن خازم فَلينبِذْه، وإن كان في فيه فليلفِظْه، وإن كان في صدره فلينفُثْه، فعجِبَ الناسُ من حسن ما قسّم وفصّل، قال: ثم غَبَر بعد ذلك عيالُ عبد اللّه بن خازم وما بخراسان أحسنُ حالاً منه، عَنْبَسة القطَّان قال: شهدت الحسنَ وقال: له رجلٌ: بلغنا أنك تقول: لو كان عليٌّ بالمدينة يأكل من حَشَفها لكان خيراً له مما صنع، فقال له الحسن يالُكَع، أمَا واللّه لقد فَقَدتموه سهماً من مَرامي اللّه غيرَ سؤوم لأمر اللّه، ولا سَرُوقةٍ لمال اللّه، أعْطَى القرآنَ عزائمه فيما عليه ولَهُ، فأحَلَّ حلالَه، وحَرَّمَ حرامَه، حتى أورده ذلك رِياضاً مونقةً، وحدائق مُغْدِقة، ذلك عليُّ بن أبي طالبٍ يالُكَع، يزيد بن عِقال: قال سمعت عبدَ الملك بن صالح يوصي ابنَه وهو أميرُ سرِيَّةٍ ونحن ببلاد الروم، فقال له: أنت تاجِرُ اللّه لعباده، فكن كالمضارب الكيِّس، الذي إن وجد ربْحاً تَجَرَ، وإلاّ احتفَظَ برأس المال، ولا تطلب الغنيمة حتى تُحرِزَ السلامة، وكن من احتيالك على عدوِّك أشدَّ خوفاً من احتيال عدوّك عليك، وقال بعض الحكماء: لا تصطنعوا إلى ثلاثة معروفاً: اللئيم فإنّه بمنزلة الأرض السّبِخة، والفاحش فإنّه يرى أنّ الذي صنعتَ إليه إنما هو لمخافة فُحشِه، والأحمق فإنّه لا يعرف قدْرَ ما أسديتَ إليه، وإذا اصطنعت إلى الكرام فازدرع المعروف واحصُِد الشُّكر، قال: وواضع المعروف في غير أهله كالمُسْرِج في الشَّمس، والزارع في السَّبَخ، ومثل البيت السائر في الناس:

ومَن يَصْنع المعروفَ في غير أهله

 

يُلاقِ الذي لاقى مُجيرُ أمِّ عـامـرِ

وقالوا: من لم يعرف سوءَ ما يُولِي لم يعرف حُسْنَ ما يولَى، وقال الإياديّ صاحب الصّرح، الذي اختذ سُلّماً لمناجاة الرّبّ، وهو الذي كان يقول: مرضعةٌ وفاطمة، القطيعة والفجيعة، وصِلَة الرّحم وحُسن الكَلِم، زعَم ربُّكم ليَجزينّ بالخير ثواباً، وبالشرّ عقاباً، وإنَّ مَن في الأرض عَبيدٌ لمن في السماء، هلكت جُرهم ورَبلت إياد، وكذلك الصَّلاحُ والفَساد، من رَشدَ فاتَّبعوه، ومن غَوَى فارفُضوه، كلُّ شاةٍ برجلها معلَّقةٌ، وإيَّاه يعني الشاعر بقوله:

ونحـنُ إيادٌ عـبـيد الإلـهِ

 

ورهطُ مُناجِيهِ في السُّلّـمِ

ونحنُ وُلاةُ حِجابِ العتـيق

 

زمانَ الرُّعافُِ على جُرهُمِ

تعزيةُ امرأة للمنصور على أبي العبّاس مَقدَمَه من مكة، قالت: أعظمَ اللّه أَجْرَك، فلا مصيبةَ أجلُّ من مصيبتك، ولا عِوَضَ أعظمُ من خِلافتك، وقال عثمان بن خُرَيم للمنصور، حين عفا عن أهل الشام في إجلابهم مع عبد اللّه بن عليّ عمِّه: يا أمير المؤمنين: لقد أُعطِيتَ فشَكرت، وابتُليتَ فَصَبْرتَ، وقَدَرت فغفرت،  وقال آخر: يا أمير المؤمنين، الانتقام عدل، والتجاوُز فَضل، والمتفضِّل قد تجاوز حدّ المنصِف، فنحن نُعيذ أمير المؤمنين باللّه بأن يَرضى لنفسه بأوكَسِ النَّصِيبَيْن، دون أن يَبلغ أرفَع الدّرجتين، وقال آخر: من انتقَمَ فقد شفى غيظَ نفسه، وأخَذَ أقصى حقِّه، وإذا انتقمت فقد انتصفت، وإذا عفوت فقد تطوّلت، ومَن أخَذَ حقّه وشفى غيظه لم يَجب شُكرُه ولم يُذكَر في العالَمين فضلُه، وكَظْم الغيظ حِلم، والحِلم صَبر، والتَّشفِّي طَرَفٌ من العجْز، ومن رَضِيَ ألاّ يكون بينَ حالِه وبين حال الظّالم إلاّ سِتْرٌ رقيق، وحجابٌ ضعيف، فلم يجزم في تفضيل الحلم، وفي الاستيثاق من ترك دواعي الظُّلم، ولم تَرَ أهلَ النُّهَى والمنسوبِين إلى الحِجَا والتُّقَى، مَدَحوا الحلماءَ بشدة العقاب؛ وقد ذكروهم بحُسن الصَّفْح، وبكثرة الاغتفار، وشدّة التغافُل، وبعد فالمُعَاقِب مستعدٌّ لعداوة أولياءِ المذنِب، والعافي مُسْتَدْعٍ لشكرهم، آمِنٌ من مكافأتهم أيّامَ قدرتهم، ولأنْ يُثنَى عليك باتِّساع الصدر خيرٌ من أن يُثْنى عليك بضِيق الصَّدر، على أنّ إقالتك عثرةَ عبادِ اللّه موجبٌ لإقالتك عَثْرَتَكَ من ربِّ عباد اللّه، وعفوُك عنه موصولٌ بعفو اللّه عنك وعقابُك لهم موصولٌ بعقاب اللّه لك، وقال: الموتُ الفادحُ، خيرٌ من اليأس الفاضح، وقال آخر: لا أقلَّ من الرجاء، فقال: آخر: بل اليأس المريح، وقال عبد اللّه بن وهبٍ الراسبي: ازدحام الجواب مَضَلَّةٌ للصَّواب، وليس الرّأيُ بالارتجال، ولا الحزمُ بالاقتضاب، فلا تدعُوَنَّك السَّلامةُ من خطاءٍ موبِقٍ، أو غنيمةٍ نلتَها من صوابٍ نادر، إلى معاودته، والتماس الأرباح مِن قِبَله، إنَّ الرأَيَ ليس بِنُهْبَى، وخَميرُ الرّأي خيرٌ من فطيره، وربَّ شيء غابُّهُ خَيْرٌ من طريِّه، وتأخيرُه خيرٌ من تقديمه، ولما قُدِم بعبد الجبّار بن عبد الرحمن، إلى المنصور، قال: يا أمير المؤمنين، قِتلةً كريمةً، قال: وراءَك تركتَها، يا ابنَ اللَّخْناء، ولما احتالَ أبو الأزهر المهلّبُ بن عُبَيْثر المَهْريّ، لعبد الحميد بن رِبْعيّ بن معدان، وأسلَمه إلى حُمَيد بن قَحْطَبة، وأسلمَه حُميد إلى المنصور، فلمَّا صار إلى المنصور قال: لا عُذْرَ فأعتذرَ وقد أحاط بي الذَّنب، وأنت أولى بما ترى، قال: لستُ أقُتلُ أحداً من آل قحطبة، بل أهَبُ مسيئهم لمحسنهم، وغادِرَهم لوفيِّهم، قال: إن لم يكن فيَّ مصطنعٌ فلا حاجةَ بي إلى الجاه، ولستُ أرضى أن أكونَ طليقَ شفيعٍ وعتيقَ ابنِ عَمٍّ، قال: اخرُج، فإنّك جاهل؛ أنت عتيقُهم ما حييت، قال زيادُ بن ظَبْيان التيميّ، لابنه عُبيد اللّه بن زيادٍ، وزياد يومئذ يَكِيدُ بنفسه وعُبيدُ اللّه غلام: ألا أوصي بك الأمير؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: إذا لم تكنْ للحيّ إلاّ وصيَّة الميت فالحيُّ هو الميّت، ودخل عَمرُو بن سعيدٍ الأشدق بعد موت أبيه على معاوية، وعَمرٌو يومئذ غلام، فقال له معاوية: إلى مَن أوصَى بك أبوك يا غلام؟ قال: إنَّ أبي أوصى إليّ ولم يوصِ بي، قال: وبأيِّ شيء أوصاك، قال: أوصاني أَلا يفقِد إخوانه منه إلاَّ وجهَه، قال معاويةُ لأصحابه: إن ابن سعيدٍ هذا لأشدَق،  ولما داهَن سفيانُ بن معاوية بن يزيد بن المهلب، في شأن إبراهيم بن عبد اللّه وصار سفيانُ إلى المنصور، أمر الرَّبيعَ فخلع سوادَه، ووقف به على رؤوس اليمانِيَة في المقصورة في يوم الجمعة، ثم قال: يقول لكم أمير المؤمنين: قد عرفتم ما كان من إحساني إليه، وحسن بلائي عنده، والذي حاول من الفتنة والغَدْر، والبغْي وشقِّ العصا، ومعاونة الأعداء، وقد رأى أمير المؤمنين أن يهَبَ مسيئكم لمحسنكم، وغادِرَكم لوفيّكم، وقال يونس بن حبيب: المفحَم يأتيه دون ما يَرضى، ويطلب فوق ما يقوَى، وذكَرَ بعضُ الحكماءِ أعاجيبَ البحر وتزيُّد البحريِّين: فقال: البحر كثير العجائب، وأهله أَصحاب زوائد، فأفسَدُوا بقليل الكذب كثير الصِّدق، وأدخَلوا ما لا يكون في باب ما قد يكاد يكون، فجعلوا تصديق الناس لهم في غرائب الأحاديث سُلّماً إلى ادّعاءِ المحال، وقال بعض العرب: حدِّث عن البحر ولا حَرَجَ، وحدِّثْ عن بني إسرائيل ولا حَرج، وحدث عن مَعْنٍ ولا حرَج، وجاء في الحديث: كفى بالمرء حِرصاً ركوبُه البحر، وكتب عَمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، يصف له البحر فقال: يا أمير المؤمنين، البحر خَلْقٌ عظيم، يركبُه خَلْقٌ صغير، دُودٌ على عود، وقال الحسن رحمه اللّه: إملاء الخير خيرٌ من الصَّمت، والصَّمتُ خير من إملاء الشرّ، وقال بعضهم: مُرُوا الأحداث بالمِراء، والكهولَ بالفِكر، والشِّيوخَ بالصَّمْت، عبد اللّه بن شداد قال: أرى داعيَ الموت لا يُقلِع، وأرى مَن مضى لا يَرجع، لا تَزهدَنَّ في معروف، فإنَّ الدّهر ذُو صروف، وكم من راغبٍ قد كان مرغوباً إليه، وطالبٍ أصبح مطلوباً إليه، والزّمانُ ذو ألوان، ومَن يصحب الزّمانَ يرى الهوان، وإن غُلِبتَ يوماً على المال فلا تُغلَبنَّ على الحيلة على حال، وكُنْ أحسَنَ ما تكون في الظّاهر حالاً، أقلَّ ما تكون في الباطن مالاً، وقيل لقيس بن عاصم: بمَ سُدتَ قومك؟ قال: ببذل النّدى، وكفِّ الأذى، ونصر المولَى، وقيل لشيخ: أين شبابك؟ قال: مَن طال أمدُه، وكثُر ولَدُه، وقَلّ عددُه، وذهب جلَده، ذهب شبابُه، وقال زياد: لا يُعِدمنَّك من الجاهل كثرةُ الالتفات، وسرعةُ الجواب، وقال عبد الرحمن بن أمِّ الحكم: لولا ثلاثٌ ما بليت متى متّ: تزاحُفُ الأحرارِ إلى طعامي، وبذلُ الأشرافِ وجوهَهُم إليَّ في أمرٍ أجد السّبيل إليه، وقولُ المنادي: الصلاةَ أيُّها الأمير، وقال ابن الأشعث: لولا أربعُ خصالٍ ما أعطيتُ بشَريًّا طاعة: لو ماتت أمّ عمران - يعني أمَّه - ولو شاب رأسي، ولو قرأتُ القرآن، ولو لم يكن رأسي صغيراً، وقال معاوية: أُعنِتُ على عليّ بثلاث خصال: كان رجلاً يظهر سرّه، وكنت كَتُوماً لسرّي، وكان في أخبث جندٍ وأشدِّه خلافاً، وكنت في أطوع جندٍ وأقلِّه خلافاً، وخلا بأصحاب الجمَل فقلت: إن ظفر بهم اعتددت بهم علىه وَهْناً في دينه، وإن ظفروا به كانوا أهوَنَ عليَّ شوكةً منه، وكنتُ أحبّ إلى قريشٍ منه، فكم شئتَ من جامعٍ إليّ ومفرِّقٍ عنه، جهْمُ بن حسَّان السّليطيّ قال: قال رجلٌ للأحنف: دُلّني على حمدٍ بلا مَرزِئةٍ، قال: الخُلقُ السّجيح، والكفُّ عن القبيح، ثمَّ اعلموا أنّ أدْوَى الدّاء اللسانُ البذيء، والخُلقُ الرّديء، وقال محمَّد بن حرب الهلاليّ: قال بعض الحكماء: لا يكوننّ منكم المحدِّثُ لا يُنصَتُ له، ولا الدّاخلُ في سرِّ اثنين لم يُدخلاه فيه، ولا الآتي الدّعوةَ لم يُدْعَ إليها، ولا الجالسُ المجلِسَ لا يستحقُّه، ولا الطّالبُ الفضلَ من أيدي اللِّئام، ولا المتعرّض للخير من عند عدوِّه، ولا المتحمِّق في الدّالّة.