خطبة عمر بن عبد العزيز رحمه الله

أبو الحسن قال: حدّثنا المغيرة بن مطرِّف، عن شعيب بن صفوان، عن أبيه قال: خطب عمر بن عبدالعزيز بخُناصرةَ خطبةً لم يخطُبْ بعدها غيرَها حتّى مات رحمه اللَّه، فحمِد اللًَّه وأثنى عليه وصلى على نبيّه ثم قال: أيُّها الناس، إنّكم لم تُخلَقوا عبثاً ولم تُتَركوا سُدًى، وإنّ لكم مَعاداً يحكم اللَّه بينكم فيه، فخابَ وخَسِرَ من خرج من رحمة اللَّه التي وسعَتْ كلَّ شيء، وحُرِم الجنَّةَ التي عَرضُها السّموات والأرض، واعلموا أنّ الأمان غداً لمن خاف اللَّه اليوم، وباع قليلاً بكثير، وفائتاً بباق، ألا تُرَون أنّكم في أسلاب الهالكين، وسيخلِّفها مِن بَعدكم الباقون كذلك، حتى تُرَدُّوا إلى خير الوارثين، ثم أنتم في كلِّ يوم تُشَيِّعونَ غادياً ورائحاً إلى اللَّه، قد قَضَى نحبَه وبلَغ أجلَه، ثم تغيِّبونه في صَدْعٍ من الأرض، ثم تَدَعونه غير مُوَسَّد ولا مُمَهَّد، قد خَلَع الأسبابَ، وفارَق الأحباب، وباشَرَ التراب، وواجَه الحِساب، غَنيّاً عما تَرك، فقيراً إلى ما قدّم، وايمُ اللَّهِ إنِّي لأقول لكم هذه المقالةَ، وما أعلَمُ عند أحدٍ منكم من الذُّنوب أكثَرَ مما عندي، فأستغفر اللّه لي ولكم، وما تبلغُنا حاجةٌ يتّسع لها ماعندنا إلاّ سدَدناها، وما أحدٌ منكم إلاّ ودِدْت أنّ يده مع يدي، ولُحْمَتي الذين يلونني، حتى يستويَ عيشُنا وعيشكم، وايمُ اللَّه إنِّي لو أردت غير هذا من عيشٍ أو غَضَارة، لكان اللسان مني ناطقاً ذَلُولاً، عالماً بأسبابه، لكنه مضى من اللّه كتاب ناطق، وسُنّة عادِلَة، دَلَّ فيهَا على طاعته، ونهى فيها عن معصيته، ثم بكى رحمه اللَّه، فتلقَّى دموعَ عينيه بطرَف ردائِه، ثم نزل، فلم يُرَ على تلك الأعواد حتّى قبضه اللَّه إلى رحمته،

وخطبة أخرى ذهب عنّي إسنادها

أما بعد: فإنّك ناشئ فتنةٍ وقائدُ ضلالةٍ، قد طال جُثومها، واشتدّت غُمومُها، وتلوَّنت مصايد عدوِّ اللَّه فيها، وقد نصَب الشَّرَك لأهل الغفْلة عما في عواقبها، فلن يَهُدَّ عمودَها، ولن ينزِعَ أوتادَها إلاّ الذي بيده مُلك الأشياء، وهو اللّه الرحمن الرحيم، ألاَ وإنّ للَّهِ بقايا من عباده لم يتحيّروا في ظُلمتها، ولم يُشايعوا أهلَها على شبهتها، مصابيح النور في أفواههم تَزْهَر، وألسنتُهم بحجج الكتاب تنطق، ركبوا نَهجَ السَّبيل، وقاموا على العَلَم الأعظم، فهم خُصَماء الشيطان الرجيم، وبهم يُصلِح اللَّهُ البلاد، ويدفع عن العباد، فطوبَى لهم وللمستصبِحِين بنُورهم، أسأل اللَّه أن يجعلنا منهم،