صعِد قَطَريُّ بن الفُجاءة مِنبر الأزارقة - وهو أحد بني مازن بن عمرو بن تميم - فحمد اللَّه وأثنى عليه وصلّى على نبيه ثم قال: أمّا بعدُ فإني أُحَذِّركم الدُّنيا؛ فإنَّها حُلوةٌ خَضِرة، حُفّتْ بالشّهوات، وراقت بالقليل، وتحبّبت بالعاجلة، وحُلِّيت بالآمال، وتَزَيَّنت بالغُرور، لا تدوم حَبْرتُها ولا تُؤمَن فجْعتُها، غَرّارة ضَرّارة، خوّانةٌ غدّارة، حائلة زائلة، نافدة بائدة، أكّالة غوّالة، بدلةٌ نَقَّالة، لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنيَّةِ أهل الرّغبة فيها، والرّضا عنها، أن تكون كما قال اللَّه: "كَمَاءٍ أنْزَلْنَاه مِنَ السّماءِ فَاخْتَلَطَ به نَبَاتُ الأَرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوه الرّياحُ وَكَانَ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُقْتَدِراً" الكهف:54، مع أنّ امرأً لم يكن منها في حَبْرة إلاّ أعقبتْه بعدهَا عَبْرة، ولم يَلَقَ من سَرّائها بطناً إلاّ منحته من ضَرَّائها ظهراً، ولم تَطُلَّه غَبْيَةُ رخَاءٍ إلاّ هَطَلَتْ عليه مُزنة بَلاء، وحَرى إذا أضْحت له منتصرةً أن تُمْسِيَ له خاذلة متنكّرة، وإنْ جانبٌ منها اعذَوذَب واحلَوْلَى، أمَرَّ عليه منها جانب وأوبَى، وإن آتت امرأً من غَضَارتها ورفاهَتها نِعَماً، أرهقته من نوائبها نِقَماً، ولم يُمْس امرؤٌ منها في جَناحِ أمنٍ إلاّ أصبح منه على قوادِم خَوف، غرَّارة غَرورٌ ما فيها، فانيةٌ فانٍ مَن عليها، لا خير في شيءٍ من زادها إلاّ التّقوى، مَن أقلَّ منها استكثر مما يؤمِنُه، ومَن استكثر منها استكثر مما يُوبِقهُ ويطيل حَزَنَه، ويُبكي عينَه، كم واثقٍ بها قد فجعَتْه، وذي طُمَأنينةٍ إليها قد صرعتْه، وذي اختيالٍ فيها قد خدَعته، وكم من ذي أُبَّهةٍ فيها قد صَّرته حقيراً، وذي نخوةٍ قد ردَّتْه ذليلاً، وكم مِن ذي تاج قد كبَّته لليدين والفم،سلطانُها دُوَل، وعيشُها رَنَقٌ، وعذبُها أُجَاجٌ، وحُلوها صَبِرْ، وغذاؤها سِمام، وأسبابُها رِمام، وقِطافها سَلَعٌ، حيُّها بعَرَض موتٍ، وصحيحها بغَرَض سُقْم، ومَنِيعها بعَرَضِ اهتضام، مليكها مسلوب، وعزيزُها مغلوب، وسليمها منكوب، وجامعها محروب، مع أَنّ وراءَ ذلك سَكرات الموت، وهَولَ المُطَّلَع والوقوفَ بين يَدي الحكَمِ العَدْل؛ "ليَجْزِيَ الذين أَساؤُوا بما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الّذينَ أَحْسَنُوا بالحُسْنَى" النجم:31، أَلَستمْ في مساكِنِ مَن كان أطولَ منكم أعماراً، وأوضَح آثاراً، وأعَدّ عديداً، وأكثَفَ جنوداً، وأعند عُنُوداً: تعبَّدُوا الدُّنيا أيَّ تعبُّد، وآثروها أيَّ إيثار، وظَعَنوا عنها بالكَرْهِ والصَّغار، فهل بَلَغكم أنَّ الدنيا سمحت لهم نَفْساً بفِدْية، أو أغنَتْ عنهم فيما قد أهلكتهم بخَطْب، بل قد أرهَقَتْهم بالفَوادح، وضعضعتهم بالنّوائب، وعَقَرتهم بالمصائب، وقد رأيتم تنكُّرَها لمن دان لها وآثَرَها، وأخلد إليها، حين ظَعَنوا عنها لفراق الأبد إلى آخر المُسنَد، هل زوّدتْهم إلاّ الشقاء، وأحلّتْهم إلاّ الضّنْك، أو نوَّرَت لهم إلاّ الظُّلمة، أو أعقبتهم إلاّ الندامة، فهذه تُؤْثرون أم عليها تَحرصون، أم إليها تطمئنون، يقول اللَّه: "مَنْ كَانَ يُريدُ الحَيَاةَ الدنيا وَزينَتها نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعمالهم فِيها وهم فيها لا يُبْخَسُون، أولئِك الّذين لَيْسَ لهم في الآخِرَة إلاّ النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فيها وباطلٌ ما كانُوا يَعْلَمون" هود: 15، فبئست الدارُ لمن أقامَ فيها، فاعلمُوا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بُدَّ، فإنما هي كما وصفها اللَّه باللعب واللّهو؛ وقد قال اللَّه "أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيع آيَةً تَعْبَثُون وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِع لَعَلَّكُمْ تَخْلُدون" هود: 16 وذكر الذين قالوا مَن أشدُّ منا قوّة، ثم قال: حُمِلوا إلى قبورهم فلا يُدعَون رُكباناً، وأُنزلوا فيها فلا يُدعَون ضِيفاناً، وجُعِل لهم من الضَّريح أجنانٌ، ومن التُّراب أكفان، ومن الرُّفات جيران، فهم جيرةٌ لا يجيبون داعياً، ولا يمنعون ضَيماً، إن أخصبوا لم يَفرحوا، وإن أقحَطوا لم يَقنَطوا، جميعٌ وهم آحادَ، وجيرةٌ وهم أبعاد؛ متناؤون لا يُزارون ولا يَزُورون، حلماءُ قد ذهبت أضغانُهم، وجُهَلاء قد ماتت أحقَادهم، لا يُخشى فَجْعُهم، إلا يُرجَى دفعُهم، وكما قال جَلَّ وعَزّ: "فَتِلْكَ مَساكنُهمْ لم تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهم إلاّ قليلاً وكُنّا نحنُ الوارثين" القصص:85، استبدَلُوا بظهور الأرض بطناً، وبالسَّعةِ ضيقاً، وبالأهل غُربة، وبالنُّور ظلمة، فجاؤوها كما فارقوها: حُفاة عُراةً فُرادَى، غير أنّهم ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، وإلى خلود الأبد، يقول اللَّه: "كَمَا بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعيدُه وَعْداً عَلَيْنَا إنَّا كُنّا فاعِلِين" الأنبياء: 104، فاحذروا ما حذّركم اللَّه وانتفِعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله، عَصَمنا اللَّه وإياكم بطاعته، ورزقَنا وإياكم أداء حَقِّه،