خطبة جامع المحاربي

ومن محاربْ: جامعٌ، وكان شيخاً صالحاً، خطيباً لَسِناً، وهو الذي قال للحجاج حين بَنَى مدينةَ واسط: بنيتَها في غير بلدك، وأورثْتَها غيرَ ولدِك، وكذلك مَنْ قَطَعَه العُجْب عن الاستشارة، والاستبدادُ عن الاستخارة، وشكا الحجاجُ سُوءَ طاعةِ أهل العراق وتَنقُّمَ مذهبَهم، وتسخُّطَ طريقتَهم، فقال جامع: أمَا إنّهم لو أحبُّوك لأطاعوك، على أنّهم ماشَنِفوك لنَسبِك، ولا لبلدك، ولا لذاتِ نَفْسك، فدَعْ ما يُبْعِدهمْ منك، إلى ما يقرِّبُهم إليك، والتمس العافيةَ مِمَّن دونَك تُعْطَها ممَّن فوقك، وليكن إيقاعُك بَعْد وعيدِك، ووعيدُك بعد وعدك، فقال الحجاج: إنِّي واللَّه ما أرَى أنْ أردَّ بني اللَّكيعةِ إلى طاعتي إلاّ بالسيف، فقال: أيُّها الأمير، إنّ السَّيفَ إذا لاقَى السّيفَ ذهب الخِيارُ، فقال الحجاج: الخيار يومئذٍ للَّه، فقال: أجَلْ، ولكن لا تَدْرِي لمن يجعلُه اللَّه، فغضب الحجاج فقال: يا هَنَاه، إنّك من مُحارب، فقال جامع:

ولِلحرب سُمِّينا وكُنَّـا مُـحـاربـاً

 

إذا ما القَنَا أمسى مِنَ الطَّعن أحمرا

والبيت للخُضْري، فقال الحجَّاج: واللَّه لقد هممتُ أن أخلَعَ لسانَك فأضربَ به وجهك، قال جامع: إنْ صَدَقْناك أغضَبْناك، وإن غَشَشناكَ أغضبنا اللَّه، فغَضَبُ الأميرِ أهوَن علينا من غضب اللَّه، قال: أجَلْ، وسَكَنَ وشُغِل الحجّاج ببعض الأمر، وانسلّ جامعٌ فمرَّ بين صُفُوفِ خيل الشام، حتّى جاوزهم إلى خيل أهل العراق، وكان الحجَّاج لا يَخْلِطُهم، فأبصر كَبْكَبَةً فيها جماعةٌ كثيرة من بَكر العراق، وقيس العراق، وتميم العراق، وأَزْد العراق، فلمَّا رأَوْهُ اشرأبُّوا إليه، وبلَغَهم خروجُه فقالوا له: ما عندك؟ دافَعَ اللَّهُ لنا عن نفسك، فقال: ويحَكم غُمُّوه بالخَلْع كما يغمُّكم بالعداوة، ودعُوا التعاديَ ما عاداكم، فإذا ظَفرتم به تراجعتم وتعافَيتم، أيُّها التَّميمي، هو أعدى لك من الأزديّ، وأيُّها القيسيّ، هو أعدى لك من التَّغلبِيّ، وهل ظَفر بمن ناوأه منكم إلاّ بمن بقي معه منكم، وهرب جامعٌ من فوره ذلك إلى الشّام فاستجار بزُفرَ بن الحارث، وخطب الحجاج فقال: اللهم أرِني الهُدَى هُدىً فأتَّبِعَهُ، وأرِني الغَيَّ غَيّاً فأجتنبَه، ولا تكِلْني إلى نفسي فأضلَّ ضلالاً بعيداً، واللَّه ما أُحِبُّ أن ما مضى من الدُّنيا لي بعمامتي هذه، ولَمَا بَقِي منها أشبَهُ بما مضى من الماء بالماء، وخطبة له أيضاً الهيثم قال: أنبأني ابنُ عَيَّاش عن أبيه قال: خرج الحجّاج يوماً من القصر بالكوفة، فسمِع تكبيراً في السوق، فراعَه ذلك، فصعِد المنبر، فحمِد اللَّه وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه ثم قال: يا أهل العراق، يا أهل الشِّقاق والنِّفاق، ومساوِئ الأخلاق، وَبني اللّكيعة، وعبيدَ العصا، وأولادَ الإماء، والفَقْعِ بالقَرْقرِ، إنّي سمِعتُ تكبيراً لا يُرَاد به اللّه، وإنما يُراد به الشّيطان، وإنَّما مََثَلي ومَثلكم ما قال عَمرو بن بَرَّاقة الهَمْدَانيّ:

وكنتُ إذا قومٌ غزَوْني غزوتُهـم

 

فهل أنا في ذا يا لَهَمْدانَ ظالـمُ

مَتى تجمَع القلبَ الذكيَّ وصارماً

 

وأنْفاً حميّاً تجتنِبْك المـظـالـمُ

أمَا واللَّه لا تَقرَعُ عصاً عَصاً إلاّ جعلتُها كأمْس الدّابر،