خطبة الحجاج بعد دير الجماجم

خطب أهل العراق بعد دَيْر الجماجم فقال: يا أهل العراق، إنّ الشيطان قد استبطنكم فخالَطَ اللّحمَ والدّم، والعصَب والمسامِعَ، والأطراف والأعضاء، والشَّغاف، ثم أفضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعَشّش، ثم باض وفرّخ، فَحَشاكم نِفاقاً وشقاقاً، وأشعرَكُم خِلافاً، واتّخذتموه دليلاً تتّبعونه، وقائداً تُطيعونه، ومُؤامَراً تستشيرونه، فكيف تنفعكمْ تجربةٌ، أوْ تعِظُكم وقَعة، أو يحجِزُكم إسلام، أو ينفعُكم بيان، ألستم أصحابي بالأهواز، حيثُ رُمْتُم المَكْر، وسعيتم بالغَدْر، واستجمعتم للكفر، وظننتم أَنّ اللَّه يخذُل دينَه وخِلافتَه، وأنا أرميكم بطَرْفي: وأنتم تَسَلّلون لِواذاً، وتنهزمون سراعاً، ثمّ يومُ الزّاوية وما يوم الزَّاوية، به كان فشلُكم وتنازُعكم وتخاذُلُكم، وبراءة اللَّه منكم، ونكوصُ وليِّكم عنكم، إذ وليّتُم كالإبل الشَّواردِ إلى أوطانها، النَّوازعِ إلى أعطانها لا يَسأل المرء عن أخيه ولا يَلْوي الشَّيخُ على بَنِيه، حن عَضَّكم السِّلاح، ووَقَصَتْكم الرِّماح، يومُ دَير الجماجم، وما يومُ دير الجماجم؟ به كانت المعاركُ والمَلاحم، بضَرْبٍ يُزيل الهامَ عن مَقِيله، ويُذْهِلُ الخليلَ عن خليله، يا أهلَ العراقِ، الكَفَراتِ بعد الفَجَرات، والغَدَرَاتِ بعد الخَترات، والنَّزوةَ بعد النَّزوات إنْ بعثُتكم إلى ثُغوركم غَلَلْتُم وخُنْتم، وإن أمِنتم أَرْجَفْتم، وإن خِفتم نافقتم، لا تَذكُرون حسنةً، ولا تشكرون نعمة، هل استخفَّكم ناكثٌ، أَو استغواكم غاوٍ، أو استفزَّكم عاص، أو استنصَرَكم ظالم، أو استعضدكم خالعٌ إلاّ تبِعتموه وآوَيْتُموه، ونصرتُموه ورجّبْتموه، يا أهلَ العراق، هل شَغَبَ شَاغِبٌ، أو نَعَب ناعب، أَو زَفر زافرٌ إلاّ كنتم أتباعَه وأنصارَه، يا أهل العراق، ألم تنهكم المواعظُ؟ ألم تَزجرْكم الوقائع؟ ثم التفَتَ إلى أهل الشام فقال: يا أهل الشام، إنَّما أنا لكم كالظَّليم الرامح عن فراخه، ينفي عنها المدَر، ويُباعِد عنها الحجَر، ويُكنُّها من المطر، ويحميها من الضِّباب، ويحرُسها من الذِّئاب، يا أهلَ الشام، أَنتم الجُنَّة والرِّداءُ، وأنتم العُدّة والحذاء، وقال رجلٌ لحذيفة: أخشى أن أكون منافقاً، فقال: لوكنتَ منافقاً لم تخْشَ ذلك، وقال آخر: اعلم أنّ المصيبة واحدةٌ إن صبرتَ، وإن لم تصبر فهما مصيبتان، ومُصِيبتُك بأجرك، أعظمُ من مصيبتك بميْتك، وقال صالح بن عبد القُدّوس:

إن يكن ما به أُصِبْتُ جليلاً

 

فَذَهابُ العزاءِ فيه أجـلُّ

وقال آخر: تعزَّ عن الشيء إذا مُنعتَه، لقلّة ما يصحبُك إذا أٌعطِيتَه؛ وما خَفّف الحسابَ وقلّله، خيرٌ مما كثّره وثقّله، قال: وحدثنا أبو بكر الهُذلي - واسمه سُلْمِيُّ - قال: إذا جَمَع الطَّعامُ أربعاً فقد كمل وطاب: إذا كان حلالاً، وكثُرت الأيدي عليه، وسُمِّي اللَّه تعالى في أوَّله، وحُمِد في آخره،