باب في صفة الرائد للغيث، وفي نعته للأرض

قال أبو المجيب: وصف رائدٌ أرضاً جَدْبةً فقال: اغبرَّت جادَّتُها، ودُرِّعَ مَرْتعُها، وقَضِمَ شجرُها، ورقّت كَرِشُها، وخَوِرَ عظمها، والتقى سَرْحاها، وتميَّزَ أهلُها، ودخل قلوبَهم الوَهَل، وأموالهم الهزل، الجادّة والحَرجَة والمَجَبَّةُ معناه كلُّه: وسط الطريق ومُعظَمُه ومَنهجُه، والتقى سَرحاها، يقول: إذا أكل كلُّ سارحٍ ما يليه التقيا عند الماء، وإذا لم يكن للجمال مَرْعىً إلاّ الشَّجر وحده رقّت أكراشُه، وقوله: تميَّزَ أهلها: تفرَّقوا في طلب الكلأ، ومرتعُ مُدَرِّع، إذا كان بعيداً من الماء، ومرتَعٌ قاصِرٌ، إذا كان قريباً من الماء، ويقولون: ماء مُطْلِبٌ وماء مُطْنِبٌ، إذا ألجأهم إلى طلبه من بُعدِه،  ووصف أعرابيٌّ أرضاً أَحْمَدَهَا فقال: خَلَع شِيحُها، وأبقل رِمْثُها، وخَضَبَ عَرفجُها، واتسق نبتُها، واخضَرَّت قُريانها، وأخْوَصَت بُطنانها، واستَحْلَسَتْ آكامُها، واعتَمَّ نبت جراثيمها، وأجْرَتْ بَقْلَتُها وذُرَقَتُها وخبّازتها، واحورّت خواصِر إبلِها، وشَكِرت حَلوبتُها، وسَمِنَت قَتُوبتُها وعَمِدَ ثَرَاها، وعَقِدت تَنَاهِيهَا، وأماهَتْ ثِمادُها، ووثِقَ النّاس بصائرتها، قال: يقال: خَلَع الشِّيحُ، إذا أوْرَقَ، والخالع من العِضَاه: الذي لا يسقط ورقه أبداً كالسِّدر، فإنّه لا يتجرّد، وكلُّ شجرٍ له شوكٌ فهو عِضَاهٌ، والواحد عِضَةٌ، إلاّ القَتَادَ، لا يُعْبِلُ إلاّ الأرطي، وأخْوَصَتْ بُطنانها، إذا نَبَتَ فيه قُضْبانٌ دِقاقٌ، وخَضَب عَرْفَجُها، يقول: اسودّ، وأخْوصَ الشَّجر، وهو الذي لا شوك له، ومن العضاهِ قشره وقِصَدُه، فإذا يبست فهي عُود، واتّسق نَبتُها، أي تتامّ، وأجْرَت بَقْلَتُها، أي نَبَت فيها مثل الجِراءِ، والعُلَّفة: ثمرة الطَّلْح، والحُبلةُ للسَّلَم، واحوَرَّت خواصر إبلها، يقول: استرخت عن كثرة الرَّعي، وشكرَت حَلوبتها، يقول غَزُرت، قال: شَكِرَت الإبل والغنم، إذا تمّلأت من الربيع، وهي إبلٌ شَكَارَى، ويقال ضَرَّةٌ شكْرَى، إذا امتلأتْ من اللبن، والضَّرَّة: أصل الضَّرع، وقوله: عَمِد ثَرَاها، وذلك إذا قَبضتَ منه على شيء فتعقّد واجتمع من نُدُوّته، يقال عَمِدَ الثرى يَعْمَدُ عَمَداً، وهو ثَرىً عَمِدٌ، فالعَمَد: أن يجاوزَ الثّرى المنكِب، وهو أن يقيس السَّماء بالمرفق فيقول: بلغت وَضَح الكفّ، ثم الرُّسغ، ثم العَظَمة، ثم المرفق، ثم يَنْصُف العضُد، ثم يبلغ المنكب، فإذا بلغ المَنْكِبَ قيل: عَمِدَ الثَّرى، فيقال إن ذلك حَيَا سِنِين، والتَّنَاهي، واحدتها تنْهِيَةٌ، وهي مستقَرّ السَّيْلِ وحيث ينتهي الماء، وعَقَدُها: أن يَمُرّ السّيلُ مُقبلاً حتّى إذا انتهى منتهاه دار بالأباطح، حتَّى يلتقي طرفا السَّيل، والصائرة: الكلأُ والماء، قالوا: قاتل الحجّاجُ ابنَ الأشعث في المِرْبَدِ، فخطب ابنُ الأشعث فقال: أيُّها النّاس، إنّه لم يَبقَ من عُدوّكم إلاّ كما يبقى من ذنب الوزَغة، تضرب بِهِ يميناً وشِمالاً، فما تَلبَثُ أن تموت، فمرّ به رجلٌ من بني قُشَير فقال: قَبَّح اللَّه هذا ورأيَهُ، يأمر أصحابَه بقلّة الاحتراس من عدوهم، ويَعِدهم الأضاليل، ويمنِّيهم الأباطيل، وناسٌ كثيرٌ يَرون أنّ الأشعث هو المحسن دون القُشَيريّ، وقال بشار:

وحَمدٍ كعَصْبِ البُرْد حَمَّلت صاحبي

 

إلى مَلكٍ للصَّـالـحـات قَـرينِ

وقال أيضاً:

وبِكرٍ كنُوَّار الرِّياض حديثُها

 

تَرُوق بوجهٍ واضحٍ وقوَامِ

أبو الحسن قال: كان معاويةُ يأذن للأحنف أوَّلَ من يأذَن، فأذِن لهُ يَوماً، ثم أذِن لمحمِّد بن الأشعث حتَّى جلس بين معاوية والأحنف، فقال له معاوية: لقد أحسَسْتَ من نفسك ذُلاًّ، إنِّي لم آذَنْ له قبلك إلاّ ليكون إليّ في المجلس دونَك، وإنّا كما نَملك أمورَكم كذلك نملك تأديبكم، فأريدوا ما يُراد بكم؛ فإنّه أبقى لنعمتكم، وأحسنُ لأدبكم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأُصَيلٍ الخُزاعيّ: يا أُصَيل، كيف تركت مكة؟، قال: تركتُها وقد أحْجَن ثُمامُها، وأمْشَرَ سَلَمها، وأعذَقَ إذخِرُها، فقال عليه السلام: دَع القُلوب تَقَرَّ، وسأل أبو زيادٍ الكلابيُّ الصَّقيلَ العُقَيْليّ، حين قدم من البادية، عن طريقه، قال: انصرفتُ من الحجّ فأصعَدْتُ إلى الرَّبذة في مَقاطِّ الحَرّةِ، ووجدت صِلالاً من الرَّبيع، من خَضِيمةِ حَمْضٍ، وصِلِّيانٍ، وقَرْمَل، حتّى لو شئتُ لأنختُ إبلي في أذراء القَفْعاءَ، فلم أزَلْ في مَرْعًى لا أُخِسُّ منه شيئاً حتّى بلغتُ أهلي، وقال سَلاّم الكلابيّ: رأيتُ ببطن فَلْجٍ منظراً مِن الكلأ لا أنساه: وجدت الصَّفْرَاءَ والخُزامَى تضربان نحورَ الإبل، تحتهما قَفْعاء وحُرْبثٌ قد أطاعَ، وأمسَكَ بأفواه المال - أي لا تقدر أن ترفع رؤوسها - وتركت الحُوران ناقعةً في الأجارع، وذمّ أرضاً فقال: وجدنا أرضاً ماحلةً مثل جلدِ الأجرب، تصأى حَيّاتها، ولا يسكُت ذئبها، ولا يقيِّد راكبُها،  وقال النّضر: قلت لأبي الخُضَير: ما رأيتَ من الخِصب؟ قال: كنت أشرب رثيئة تجرُّها الشَّفتان جَرّاً، وقارصاً قُمارِصاً إذا تجشّأتُ جدع أنفِي، ورأيتُ الكَمْأة تدوسها الإبل بمناسمها، والوضر يشَمُّه الكلبُ فيَعْطِسُ، وقال الأصمعي: قال المنتَجع بن نبهان: قال رجل من أهل البادية: كنت أرى الكلب يمرُّ بالخَصَفة عليها الخُلاصة فيشمُّها ويمضي عنها، محمد بن كُنَاسة، قال: أخبرني بعض فُصحاء أعرابِ طيّئ قال: بعثَ قومٌ رائداً فقالوا: ما وراءك؟ قال: عُشب وتعاشيب، وكَمْأة متفرِّقة شيبٌ، تقلعُها بأخفافها النِّيب، فقالوا له: لم تصنع شيئاً، هذا كذب، فأرسلوا آخرَ فقالوا: ما وراءك؟ قال: عشب تأدٌ مأْد، مَوليُّ عَهْد، متدارك جَعد، كأفخاذ نساء بني سعد، تشبع منه الناب وهي تَعْدْ، قال: لأنّ النبْت إذا كان قليلاً وقفت عليه الإبل، وإذا كان كثيراً أمكنها الأكلُ وهي تعدُو، قال: وبعث رجلٌ أولادَه يرتادون في خِصْب، فقال أحدهم: رأيت بقلاً وماءً غَيلاً، يسيل سَيلاً، وخُوصةً تميل مَيْلاً، يحسَبُها الرّائد ليلاً، وقال الثاني: رأيت دِيمةً على ديمَةٍ، في عِهَادٍ غير قديمة، وكلأً تشبع منه النَّاب قبل الفَطيمة، وقال أبومُجيب: قيل لأوفَى بن عُبَيد: ايت واديَ كذا وكذا فارتَدْه لنا، فقال: وجدت به خُشْباً هَرْمَى، وعُشْباً شَرْماً، قال: والهَرْمَى: الذي ليس له دُخان إذا أُوقد، من يبسه وقِدمه، والشرْم: العُشب الضخم، يقال: هذا عُشْب شَرْمٌ، وقالَ هَرِم بن زيد الكلبي: إذا أحْيَا النْاسُ قيل: قد أكلأت الأرض، واحرَنْفَشت العنزُ لأختها، ولَحِسنَ الكلبُ الوَضَر، قال: واحرِنفاش العنز: أن ينتفش شعرُها، وتَنصِبَ رَوْقَيها في أحد شِقّيْها لتنطح صاحبتَها، وإنَّما ذلك من الأشَر، حين ازدُهيت وأعجبتها نفسُها، ولحِسَ الكلبُ الوضر، لِمَا يُفْضِلون منه، لأنَّهم في الجدب لا يَدَعون للكلب شيئاً يلحَسُه، وقال أبو مجيب: إذا أجدب الرَّائد، قال: وجدت أيضاً أَرْمَى، وأرضاً عَشْمَى، فأمّا العَشْمَى: فالتي يُرَى فيها الشَّجر الأعشَم،وإنَّما يَعْشَم من الهَبْوةِ، ويقال للشَّيخ: إنَّما هو عَشَمَةٌ؛ لاستشنانِ جلدِه، وجُفوف رأسه، وثُلوب جسمِه، فأما الأرْمَى فالتي قدأُرمت، فليس فيها أصلُ شجَر، قال أبو عبيدة: قال بعضُ الأعراب: تركت جُرَادَ كأنها نعامةٌ باركة، يريد التفاف نبتها، وهي من بلاد بني تميم، وقيل لأعرابيّ: ما وراءَك؟ قال: خَلّفتُ أرضاً تَظَالمُ مِعْزاها يقول: سمنت وأَشِرت فتظالمت، وتقول العرب: ليس أظلمُ من حيَّةٍ وتقول: هو أظلم من وَرَلٍ، وأظلم من ذئب، كما تقول: أغدر من ذئب، وكما يقولون: أكسب من ذِئبٍ، قال الأسديّ:

لعمرُك لو أنِّـي أخـاصـمُ حَـيَّةً

 

إلى فقعسٍ ما أنصفتنيَ فقَـعـسُ

إذا قلتُ ماتَ الدَّاءُ بيني وبينـهـم

 

أتى حاطبٌ منهم لآخر يَقـبِـسُ

فما لكمُ طُلْسـاً إلـيّ كـأنـكـمْ

 

ذئابُ الغَضَى والذِّئب باللّيل أطلسُ

وقال الفَزَاريّ:

ولو أخاصمُ أفعَى نابُهـا لـثـقٌ

 

أو الأساود من صُمّ الأهاضيبِ

أو لو أخاصمُ ذئباً في أكيلـتِـهِ

 

لجاءني جمعُهم يسعى مع الذِّيب

يقول: بلغ مِن ظُلم قومنا لنا، أنّا لو خاصمنا الذئابَ والحيَّاتِ، وبهما يضرِبون المثل في الظلم، لقَضَوا لهما علينا، وقالت العرب: إذا شبِعت الدَّقيقة، لَحِست الجليلة، هذا في قلّة العُشْب، إنّما تلحسه النّاقة لقلّته وقِصَره، وحدثنا أبو زيادٍ الكلابيّ قال: بعث قومٌ رائداً بعد سِنينَ تتابعت عليهم، فلما رجَع إليهم قالوا له: ما وراءك؟ قال: رأيت بَقلاً يَشبع منه الجملُ البَرُوك، وتَشَكَّتْ منه النِّساء، وهَمَّ الرَّجل بأخيه، أمّا قوله: الجمل البَروك فيقول: لو قام قائماً لم يتمكّن منه لِقصَرِه، وأما قوله: وتشكَّت منه النِّساء، فإنه مأخوذ من الشَّكوة، وجمع الشكوة شِكاء، والشَّكوة: مَسْك السَّخْلة ما دامت تَرْضع، والشِّكاء أصغر من الوِطَاب، يقول: لم يكثر اللبن بعدُ فيُمخَضَ في الوِطاب، وقوله: وهمَّ الرجل بأخيه، أي همَّ أن يدعوه إلى منزله كما كانوا يصنعون في أيام الخِصب،وقال غيره: الخِصب يدعو إلى طلب الطوائل، وغزْو الجيران، وإلى أن يأكل القويُّ مَن هو أضعفُ منه، وقالوا في الكلأ: كلأٌ تشبع منه الإبل مُعَقّلة، وكلأٌ حابِس فيه كمُرْسِل يقول: مِن كثرته سواء عليك أحبَستها أم أرسلتَها، ويقولون: كلأٌ تَيجَعُ منه كبدُ المُصْرِم، وأنشد الباهليّ:

ثم مُطِرْنا مطرةً رويّهْ

 

فنَبَتَ البقلُ ولا رَعِيّهْ

وأنشد الأصمعيّ:

فجُنِّبتَ الجيوشَ أبـا زُنَـيْبٍ

 

وجادَ على مسارحكَ السَّحابُ

يجوز أن يكون دعا عليه، ويجوز أن يكون دعَا له، وقال الآخر: أمرعَت الأرضُ، لوَ أنّ مالاَ، لوَ أنَّ نُوقاً لك أو جِمَالا، أوثَلة من غَنمٍ إمَّا لا وقال ابنُ الأعرابيّ: سأل الحَجّاج رجُلاً قدِم من الحجاز عن المطر، فقال: تتابعت علينا الأسميةُ حتى مَنَعَت السُّفّارَ، وتَظَالمت المِعزَى، واحتُلبَت الدِّرَّةُ بالجِرَّة، لقيط، قال: دخل رجلٌ على الحجاج فسأله عن المطر، فقال: ما أصابني من مطر، ولكنِّي سمعتُ رائداً يقول: هلمّ أُظْعِنْكم إلى مَحَلّةٍ تَطفأ فيها النّيران، وتتنافس فيها المِعزَى، وتبقى بها الجرّة حتَّى تنزل الدِّرَّة، أبو زيد، قال: تخاصمت امرأتانِ إلى ابنة الخُسِّ في مَراعي أبوَيْهما، فقالت الأولى: إبلُ أبي ترعى الإسليح، فقالت ابنة الخُسِّ: رِغوةٌ وصَريح، وسَنامٌ إطريح، وقالت الأخرى: مَرعى إبل أبي الخَلّة، قالت ابنة الخسِّ: سريعة الدِّرَّة والجِرَّة، وقال الأحوص بن جعفر بعد ما كان كَبِرَ وعَمِيَ، وبنوهُ يَسُوقون به: أيّ شيءٍ ترتعي الإبل؟ قالوا: غَرفَ الثمام والضَّعَةَ، قال: سُوقوا، ثم إنَّها عادت فارتعت بمكان آخر، فقال: أيَّ شيءٍ ترتعي الإبل؟ قالوا: العِضَاهُ والقِضَةُ، قال: عُود عَوِيد، شِبَعٌ بعيد، وقال: سُوقوا، حتَّى إذا بلَغوا بلداً آخَرَ قال: أيَّ شيء ترتعي الإبل؟ قالوا:نَصيّاً وصِلِّيَاناً، قال: مَكفَتَةٌ لرُغَاها، مَطْوَلةٌ لذُراها، ارْعَوا واشبعوا، ثمّ سألهم فقال: أيَّ شيء ترتعي الإبل؟ فقالوا: الرِّمْث، قال: خُلِقَت منه وخُلق منها، قال أبو صاعد الكلابيّ: وزعم النّاس أنّ أوَّل ما خُلقت الإبل خُلقت من الرِّمث، وعلامة ذلك أنك لا ترى دابَّةً تريده إلاّ الإبل، قال: وقيل لرُؤبة: ما وراءك؟ قال: الثّرى يابس، والمرعى عابس، قال: وقالت امرأةٌ من الأعراب: أصبحنا ما ترقُد لنا فرس، ولا ينام لا حَرَسٌ، قالوا: كان أبو المجيب كثيراً ما يقول: لا أرى امرأةً تُصَبِّر عينيها، ولا شريفاً يَهنَأُ بَعيراً، ولا امرأةً تلبَس نطَاقَ يَمنْةٍ، وخَطَب بلالٌ بن أبي بُردة بالبصرة، فعَرف أنَّهم قد استحسنوا كلامه، فقال: أَيُّها الناس لا يمنعنّكم سوءُ ما تعلمون مِنَّا أن تقبلوا أحسنَ ما تسمعون منّا، وقال عمر بن عبد العزيز: ما قومٌ أشبَهَ بالسلف من الأعراب، لولا جفاءٌ فيهم، وقال غيلان أبو مروان: إذا أردتَ أن تتعلّم الدعاء، فاسمع دعاء الأعراب، وقال رجل من بني سُلَيم، وسأله الحجاج عن المطر فقال: أصابتْنا سحائبُ ثلاث: سحابةٌ بحَوْران بقَطرٍ صغار وقطر كبار، فكان الصِّغار للكبار لُحْمَةً، ثم أصابَتْنا الثانية بسُواء فلبَّدت الدِّماث ودَحَضت العَزَاز وصَدَعت الكمأةَ عن أماكنها، ثم أصابتنا الثالثة بالقَرْيتين فملأت الإخاذ، وأفعمَتْ كلَّ واد، وأقبَلْنا في ماءٍ يجرُّ الضبُعَ ويستخرجُها مِن وِجارها، وقال رجل من بني أسد لمحمد بن مروان وسأله عن المطر فقال: ظهَرَ الإعصار، وكثُر الغُبار، وأُكِل ما أشرف من الجَنْبة وأيقنّا أنه عامُ سَنَةٍ، قال أبو الحسن عتّابٌ: عن عبد الرحمن بن يزيد بن جبار، أنّ الإسكندر كان لا يدخل مدينةً إلاّ هدمها، وقتل أهلها، حتّى مرّ بمدينةٍ كان مؤدِّبُه فيها، فخرج إليه، فألْطَفه الإسكندرُ وأعظمَه، فقال له: أيُّها الملك، إنّ أحقَّ مَن زيّن لك أمرَك وواتاك على كلِّ ما هَوِيت لأنا، وإن أهلَ هذه المدينة قد طِمعوا فيك لمكاني منك، وأحِبُّ ألاَّ تشفّعَني فيهم؛ وأنْ تخالِفَني في كلِّ ما سألتك لهم، فأعطاه الإسكندرُ من ذلك ما لا يقدر على الرُّجوع عنه، فلما توثَّق منه قال: فإنّ حاجتي أن تَدخُلها وتخرِّبَها وتقتُل أهلها، فقال الإسكندر: ليس إلى ذلك سبيلٌ، ولا بدّ من مخالفتك،  وقال عليُّ بن أبي طالبٍ رضي اللَّه عنه: أفضل العبادة الصَّمتُ، وانتظارُ الفرج، وقال يزيد بن المهلَّب، وقد طال عليه حَبْسُ الحجّاج: والهفَاه عَلَى فَرْجٍ في جَبهة أسد، وطَلِيَّة بمائة ألف، وقال الأصمعيّ: دخل دُرُسْت بن رباط الفُقَيميّ، على بلال بن أبي بُردةَ وهو في الحبس، فعلم بلالٌ أنّه شامتٌ به، فقال: ما يسرّني بنصيبي من المكروه حُمْرُ النَّعَم، فقال دُرُسْت: فقد أكثر اللَّه لك منه، قال الهيثم بن عديّ: كان سَجّان يوسفَ بن عمر يرفع إلى يوسف بن عمر أسماءَ الموتى، فقال له عبد اللَّه بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعري: اقبضْ هذه العشرة الآلاف الدّرهم، وارفَع اسمي في الموتى، قال: فرفع اسمه في الموتى فقال له يوسف بنُ عمر: ويحك، جئني به، فرجع إليه فأعلمه فقال له: ويحك، اتّق اللَّه فيّ؛ فإني أخاف القتل، قال: وأنا أيضاً أخاف ما تخاف، ثم قال: قتلك أهونُ عليَّ من قتلي، ولا بدَّ من قتلك، فوضع على وجهه مخدَّةً فذهبت نَفْسُه مع المال، وأمّا عبد اللَّه بن المقفَّع فإنّ صاحب الاستخراج لما ألحّ عليه في العذاب، قال لصاحب الاستخراج: أعندك مال وأنا أُرْبِحُك ربحاً ترضاه؟ وقد عرَفتَ وفائي وسخائي وكتماني للسّرّ، فعَيِّنِّي مقدار هذا النَّجْم، فأجابه إلى ذلك، فلما صار له مالٌ ترفَّقَ به مخافة أن يموت تحت العَذَاب فيتْوَى مالُه، وقال رجل لعَمرو الغزّال: مررت بك البارحةَ وأنت تقرأ، فقال: لو أخبرتني أيّ آية كنت فيها لأخبرتُك كم بَقِيَ من اللّيل، وسمع مُؤرِّجٌ البَصرِي رجلاً يقول: أمير المؤمنين يردُّ عَلَى المظلوم، فرجَع إلى مصحفه فردّ على براءةَ: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، وكان عبد الملك بن مروان في مرضه الذي مات فيه يعطَش، وقيل له: إن شربت الماء مُتَّ، فأقبل ذاتَ يومٍ بعض العُوَّد، فقال: كيف حالُ أمير المؤمنين؟ فقال: أنا صالحٌ والحمد للَّه، ثم أنشأ يقول:

ومستخبرٍ عنّا يريد بنا الرّدى

 

ومستخْبراتٍ والدّموع سواجمُ

ويلكم اسقوني ماءً وإن كان فيه تلَفُ نفْسي، فشرب ثم مات، وكان حبيب بن مسلمة الفِهريُّ رجلاً غَزَّاءً للترك، فخرج ذات مرّةٍ إلى بعض غَزَواته، فقالت له امرأته: أين موعدك؟ قال: سُرادقُ الطّاغية أو الجنة إن شاء اللَّه، قالت: إنِّي لأرجو أن أَسْبِقَك إلى أيِّ الموضعين كنت به، فجاء فوجدها في سُرادق الطّاغية تقاتل التُّرْك، ولمّا مدح الكميتُ بن زيدٍ الأسديُّ مَخْلَد بنَ يزيد بن المهلّب، فقال له ابنُ بيِضٍ: إنّكَ يا أبا المسْتَهِلّ لكجالبِ التّمر إلى هَجَر قال: نعم، ولكنّ تَمْرَنا أجودُ من تمركم، وكان السّيِّد الحميريُّ مُولَعاً بالشّراب، فمدح أميراً من أمراء الأهواز، ثم صار إليه بمديحهِ له، فلم يصِلْ إليه، وأغَبّ الشّرابَ، فلما كان ذاتَ يومٍ شرِب ثم وصل إليه ، فجلس من بُعدِ، فقَرّبه وشمّ منه رِيحَ الشَّراب، فقال: ما كنت أظن أبا هاشم يفعل هذا، ولكنْ يُحتَمَل لمادِح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أكَثرُ من هذا - يمازحه - ثم قال: يا جاريةُ هلُمِّي الدواة، ثم كتب إلى بعض وكلائه: ادفع إلى أبي هاشم مائتي دَورق مَيْبَخْتَجاً، فقال السيِّد: لقد كنت أظنُّ الأميرَ أبلغَ ما هو، قال: وأيَّ شيءٍ رأيتَ من العِيّ؟ قال جَمْعُكَ بين حرفين وأنت تجتَزِي بأحدهما، امْحُ هذه الخبيثة بَخْتَجاً ودع مَياً على حالها، ففعل، وحَمَل الكتاب فأخذها عبيطاً، عبد اللَّه بن فائد قال: قالت امرأة الحُضَين بن المنذر للحضَين: كيف سُدْتَ قومَك وأنت بخيل وأنت دَميم؟ قال: لأنِّي سديد الرّأْي، شديد الإقدام، قال: وقال مَسلمة بنُ عبد الملك لهشام بن عبد الملك: كيف تطمع في الخلافة وأنت بخيلٌ وأنت جَبان؟ قال: لأنِّي حليمٌ وأَنّي عفيف، وقال زبَّانُ:

إنّ بني بدرٍ يَرَاعٌ جُوفُ

 

كلُّ خطيبٍ منهم مؤُوفُ

أهوجُ لا ينفعه التثقيفُ

 

 

وقال لبيد بن ربيعة:

وأبيضَ يجتاب الخرُوقَ على الوَجَى

 

خطيباً إذا التفّ المجامعُ فاصـلاَ

وقال في تفصيل العلم والخَطابة، وفي مدح الإنصاف، وذم الشَّغَب:

ولقَد بلوتُكَ وابتليتَ خليقتي

 

ولقد كفاكَ مُعلِّمي تعليمي

وقال لبيد:  

ذهبَ الذين يُعاش في أكنافهـم

 

وبقِيتُ في خَلْف كجلد الأجربِ

يتأكَّـلـون مَـغَـالةً وخـيانة

 

ويُعابُ قائلهُم وإن لم يَشغَـبِ

وقال زيد بن جُندب:

ماكان أغنى رجلاً ضلَّ سعيُهُـم

 

عن الجدال وأغناهم عن الخُطَبِ

وقال لقَيطُ بن زرارة:

إني إذا عاقبتُ ذو عقابِ

 

وإنْ تشاغِبْني فذو شِغابِ

وقال ابنُ أحمر:

وكم حلَّهـا مـن تَـيّحـانٍ سَـمَـيْدَعٍ

 

مُصافِي الندى ساقٍ بيهماءَ مُطْـعِـمِ

طَوِي البطنِ مِتلافٍ إذا هبَّتِ الصَّبـاٍ

 

على الأمر غوّاصٍ، وفي الحيِّ شيظمِ

وقال آخر:

وأغرَّ منخرقِ القميص سميدعٍ

 

يدعو ليغزوَ ظالماً فـيُجـابُ

قد مَدّ أرسانَ الجياد من الوجَى

 

فكأنّما أرسانُـهـا أطـنـابُ

وقال آخر:

كريم يغضّ الطّرْفَ عند حَيائه

 

ويدنُو وأطرافُ الرماح دَوَان

وكالسّيف إن لايَنْتَه لانَ متنُـه

 

وحدَّاه إن خاشنتَه خَشِـنـانِ

وقال آخر:

يقطِّع طرفَه عنّـي سـويدٌ

 

ولم أذكر بـسـيّئة سُـوَيدا

توقَّ حِدادَ شوكِ الأرض تسلَمْ

 

وغيرَ الأسدِ فاتّخِذَنَّ صـيدَا

وقال آخر: من السريع

لا تَحسِبنّ الموتَ موتَ البِلى

 

فإنّما الموتُ سؤالُ الرِّجالِ

كلاهما مـوتٌ ولـكـن ذا

 

أشدُّ مِن ذاك لذلّ السـؤالِ

وللحسين بن مُطَير:

رأت رجلاً أودى بوافِرِ لـحـمـه

 

طِلابُ المعالي واكتسابُ المكارمِ

خفيفَ الحشا، ضَرْباً، كأنَّ ثـيابَـه

 

على قاطعٍ من جوهر الهِند صارمِ

فقلت لها: لا تَعْجَـبِـنَّ فـإنَّـنـي

 

أرى سِمَن الفتيان إحدى المَشاتِـم

وكان عمر بن الخطاب، رحمه اللَّه، إذا رأى عبدَ اللَّه بن عبّاسٍ يقول في الأمر يَعَرِض من جِلّة أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، يقول: غصْ غوَّاصُ، وقال ابنُ أحمر:

هل لامني قومٌ لموقـف سـائلٍ

 

أو في مخاصمة اللّجوجِ الأصيدِ

وقال لَبيدُ بن ربيعة في التطبيق على قوله:

يا هَرِمَ بنَ الأكرمِينَ مَنْصِبا

 

إنّك قد أُوتيتَ حُكْماً مُعجِبا

فطَّبقِ المَفْصِل واغنَمْ طيِّبا

 

 

وقال آخر:

فلما أنْ بَدَا القعقاع لجَّت

 

على شَرَكٍ تُناقِلُه نِقـالا

تعاوَرَنْ الحديثَ وطبّقتْه

 

كما طبّقتَ بالنّعل المِثالا

وقال ابن أحمر:

لو كنتُ ذا علم علمتُ وكيف لي

 

بالعلم بـعـد تـدبُّـر الأمـرِ

وقال: من السريع

ليْستْ بشوشاةِ الحديث ولا

 

فُتُقٍ مغالِبَةٍ على الأمـرِ

وقال:

تضعُ الحديثَ على مواضعه

 

وكلامُها من بَعـدِه نَـزْرُ

وقال:

وخَصم مُضِلّ في الضِّجاج تركتُه

 

وقد كان ذا شَغْب فَولّى مُواتِـيا

وذكر عليُّ بن أبي طالبٍ، رحمه اللَّه، أَكتَلَ بن شَمَّاخٍ العُكْليَّ، فقال:الصَّبيح الفصيح،وهو أوَّل مَن اتّخذ بيت مالٍ لنفسه في داره، عبد اللَّه بن المبارَك، عن مَعْمَر عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيكون بعدي أمراءُ يُعطَوْن الحكمةَ على منابرهم وقلوبُهم أنتنُ من الجِيَف، جعفر بن سليمان الضُّبَعيّ، عن مالك بن دينار، قال: غدوت إلى الجمعة، فجلست قريباً من المِنبر، فصعِد الحجّاج المنبر، ثم قال: امرأً زوّر عملَه، امرأً حاسبَ نفسه، امرأً فكّر فيما يقرؤه في صحيفته ويراه في ميزانه، امرأً كان عند قلبه زاجراً، وعند همّه ذاكراً، امرأً أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرّجُل بخطام جَمَله، فإنْ قادَه إلى طاعة اللَّه تَبِعه وإن قادهُ إلى معصية اللَّه كَفّه، وبعث عديُّ بن أرطاة إلى المهالبةِ أبا المليحِ الهُذليّ، وعبد اللَّه بنَ عبد اللَّه ابن الأهتم، والحسنَ البَصريّ، فتكلم الحسنُ فقال عبد اللَّه: واللَّه ما تمنّيتُ كلاماً قطُّ أحفظُه إلاّ كلامَ الحسن يومئذ،قال: وتنقّصَ ابنٌ لعبد اللَّه بن عروة بن الزبير عَليّاً رحمه اللَّه، فقال له أبوه: واللَّه ما بنَى الناسُ شيئاً قطُّ إلاّ هَدَمَه الدِّين، ولا بَنَى الدِّين شيئاً فاستطاعت الدُّنيا هدمَه، ألم تر إلى عليٍّ كيف يُظهِرُ بَنُو مروان من عيبه وذمّه؟ واللَّه لكأنَّما يأخذونَ بناصيته رفعاً إلى السماء، وما تَرَى ما يندُبون به موتاهم من التأبين والمديح؟ واللَّه لكأنَّما يكشفون عن الجِيَف، أبو الحسن قال: قال عبد اللَّه بن الحسن، لابنه محمد، حين أراد الاستخفاء: أي بُنَيَّ، إني مؤدٍّ حقَّ اللَّه في حُسن تأديبك، فأدِّ إليَّ حق اللَّه في حسن الاستماع، أيْ بُنَيّ، كُفّ الأذى، وارفض البَذَا، واستَعِنْ على الكلام بطُول الفكر في المواطن التي تدعوك فيها نفسك إلى القول؛ فإن للقول ساعاتٍ يضرُّ فيها خطاؤه، ولا ينفع صوابُه، احذَرْ مشورةَ الجاهل وإن كان ناصحاً، كما تحذر مشورةَ العاقل إذا كان غاشّاً، فإنَّه يوشك أن يورّطاك بمشورتهما، فيسبقَ إليك مكرُ العاقل وتوريط الجاهل، وكان يقال: من لانت كلمتُه وجبت محبته، ومن طال صمتُه اجتلب من الهيبة ما ينفعُه، ومن الوحشة ما لا يضرُّه،