باب أن يقول كل إنسان على قدر خلقه وطبعه

قال قُتيبة بن مسلم، لحُضَين بن المنذر: ما السّرور؟ قال: امرأةٌ حسناء، ودارٌ قوراء وفرسٌ مرتَبَطٌ بالفِناء، وقيل لِضرار بن الحصَين: ما السرور؟ قال: لواء منشور، وجلوسٌ على السرير، والسلامُ عليك أيُّها الأمير، وقيل لعبد الملك بن صالح: ما السرور؟ قال: من مجزوء الكامل

كلّ الكرامةِ نلتُها

 

إلاّ التَّحيّةَ بالسّلامِ

وقيل لعبد اللَّه بن الأهتم: ما السرور؟ قال: رفع الأولياء، وحَطُّ الأعداء، وطولُ البقاء، مع القدرة والنماء، وقيل للفضل بن سهل: ما السرور؟ قال: توقيعٌ جائز، وأمرٌ نافذ، أبو الحسن المدائني قال: قيل لإنسان بَحْريّ: أيَّ شيء تَمَنّى؟ قال: شربةً من ماء الفِنْطاس، والنَّومَ في ظلِّ الشراع، وريحاً دُنْبدَاد، وقيل لطفيلي: كم اثنان في اثنين؟ قال: أربعة أرغفة، وقال الفلاّس القاصّ: كان أصحابُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ ثلاثمائة وستِّين درهماً، وقلت لملاَّحٍ لي، وذلك بعد العصر في رمضان: انظر كم بينَ عين الشمس وبين موضع غُروبها من الأرض؟ قال: أكثر من مُرْدِيَّيْنِ ونصف، وقال آخر: وقع علينا اللُّصوص، فأوَّلُ رجلٍ داخلٍ دخل علينا السفينةَ كان في طول هذا المُردِيِّ، وكانت فخذُه أغلظَ من هذا السُّكان، واسوَدَّ صاحب السَّفينة حتّى صار أشدّ سواداً من هذا القِير، وأردتُ الصّعودَ مرَّةً في بعض القناطر، وشيخٌ ملاَّح جالس، وكان يومَ مَطَرٍ وزَلَق، فزلِقَ حماري فكاد يُلقيني لجَنْبي، لكنّه تماسَكَ فأقعى على عَجُزه، فقال الشيخ الملاّح: لا إله إلاّ اللَّه، ما أحسَنَ ما جلس على كَوْثَلِهِ، ومررت بتَلّ طينِ أحمرَ ومعي أبو الحسَين النّخَّاس، فلما نظر إلى الطِّين قال: أيُّ أواريَّ تَجيءُ من هذا الطِّين، مررنا بالخُلد بعد خرابه، فقال: أيُّ إصطبلات تجيء مِنْ هذا الموضع، وقيل لبعضهم: ما المروءة؟ قال: طهارة البدن، والفعلُ الحسَن، وقيل لمحمد بن عمران: ما المروءة؟ قال: أن لا تعمل في السرّ شيئاً تستحِي منه في العلاَنِيَة، وقيل للأحنف: ما المروءة؟ قال: العِفة والحِرْفة، وقال طلحة بن عُبيد اللَّه: المروءة الظاهرةُ الثياب الطّاهرة، وقل لأبي هريرة: ما المروءة؟ قال: تقوى اللَّه، وإصلاح الصَّنيعة، والغَداء والعَشاء بالأفنية، ونظر بكر بن الأشعر، وكان سَجَّاناً، مرَّة إلى سُور دار بَجَالَة بن عبْدة، فقال:لا إله إلاّ اللَّه، أيُّ سجنٍ يجيء من هذا، وقال إنسانٌ صيرفيّ: باعني فلانٌ عشرين جَريباً، ودانِقينِ ونصفاً ذهباً،  قال: ونظر عثمان بن عفّان رحمه اللَّه إلى عِير مُقْبلَةٍ، فقال لأبي ذَرّ: ما كنت تحبُّ أن تَحمِل هذه؟ قال أبو ذَرّ: رجلاً مثلَ عُمَر، وقيل للزُّهريّ، ما الزُّهد في الدنيا؟ فقال: أمَا إنه ليس بشَعَثِ اللِّمّة، ولا قَشَفِ الهيئة، ولكنَّه ظَلْفُ النفّس عن الشَّهوة، وقيل له أيضاً: ما الزُّهد في الدنيا؟ قال: ألاّ يغلِبَ الحرام صَبْرَك، ولا الحلالُ شُكرَك، ونظر زاهدٌ إلى فاكهة في السُّوق، فلما لم يجدْ شيئاً يبتاعها به عزَّ نفسَه وقال: يا فاكهة، مَوعدي وإياكِ الجَنَّة، قالوا: ومَرّ المسيح عليه السلام بَحَلَق بني إسرائيل، فشتَموه، فكلَّما قالوا شرّاً قال المسيح صلى الله عليه وسلم خيراً، فقال له شَمعون الصَّفيّ: أكلَّما قالوا شَرّاً قلت لهم خيراً؟ قال المسيح: كلُّ امرءٍ يعطِي ممَّا عندَه، وقال بعضهم: قيل لامرئ القيس بن حُجْر: ما أطيبُ عيشِ الدُّنيا؟ قال: بيضاء رُعبُوبَة، بالطِّيب مشبوبة، بالشَّحم مكروبة، وسئل عن ذلك الأعشى فقال: صهباء صافية، تمزجها ساقية، من صَوب غادية، وقيل مثل ذلك لطرَفَةَ فقال: مَطعمٌ شهيّ، وملبَس دَفيّ، ومركَبٌ وطيّ، قال: وكان محمّد بن راشدٍ البجليّ، يتغدّى، وبينَ يديه شَبُّوطة، وخيّاطٌ يقطع له ثياباً، ورآه يلحَظُ الشَّبُّوطة، فقال: قد زَعمتَ أن الثوبَ يحتاج إلى خِرقة، فكم مقدارها؟ قال: ذراعٌ في عرض الشَّبُّوطة، ودخل آخَرُ على رجلٍ يأكل أُترُجَّةً بعسَل، فأراد أن يقول: السلام عليكم، فقال: عَسَلَيكُم، ودخلت جاريةٌ روميَّةٍ على راشد البَتَّيّ، لتسأل عن مولاتها، فبصُرَت بحمار قد أدلى في الدار، فقالت: قالت مولاتي: كيف أير حماركم؟ - فيما زعم أبو الحسن المدائني، وأنشد ابن الأعرابيّ: من الرمل

وإذا أظْهرتَ أمراً حسَناً

 

فليكن أحسَنَ منه ما تُسِرّ

فمُسِرُّ الخير موسومٌ بـه

 

ومُسِرُّ الشرِّ موسومُ بشَرّ

وأنشد ابن الأعرابيّ:

أرى النَّاسَ يبنُون الحصونَ وإنّما

 

غوابر آجالِ الرّجالِ حُصونُهـا

وإنَّ من الأحمال دُوناً وصالحـاً

 

فصالحُها يبقى ويَهلِكُ دُونُـهـا

وأنشد ابنُ الأعرابي: مجزوء الكامل

حَسْبُ الفتى من عيشه

 

زادٌ يبلغُه المَـحـلاّ

خُبـزٌ ومـاء بـارد

 

والظّلّ حين يريد ظِلا

وقال بعضُ الأعراب:

وما العيش إلاّ شَبعةٌ وتشرُّقٌ

 

وتَمرٌ كأخفاف الرِّباع وماءُ

محمّد بن حرب الهلاليّ قال: قلت لأعرابي: إنِّي لك لَوادُّ، قال: وإن لك من قلبي لَرَائداً، قال: وأتيت أعرابيّاً في أهله مُسلِّماً عليه، فلم أجدْهُ، فقالت لي امرأته: عَشَّر اللَّهُ خُطاك، أي جعلها عَشرة أمثالها، قالوا: وكان سَلْم بن قتيبة يقول: لم يضيّع امرؤٌ صوابَ القول حَتَّى يضيّع صواب العمل، أبو الحسن قال: قال الحجَّاج لمعلّم ولده: علّم وَلدِي السِّباحة قبل الكتابة، فإنّهم يصيبون مَن يكتب عنهم ولا يُصيبون من يَسْبَح عنهم، أبو عقيل بن دُرُسْت قال: رأيت أبا هاشم الصوفيَّ مقْبِلاً من جهة النهر، فقلت: في أيِّ شيء كنتَ اليوم؟ قال: في تعلُّم ما ليس يُنسَى، وليس لشيءٍ من الحيوان عنه غِنًى، قال: قلت وما ذَاكَ؟ قال: السِّباحة، حدّثنا عليُّ بن محمدٍ وغيره قال: كتب عُمر بن الخطّاب إلى ساكني الأمصار: أمَّا بعد فعلّموا أولادَكم العَوْم والفُروسةَ، وروّوهم ما سارَ من المَثَل، وحَسُن من الشِّعر، وقال ابنُ التّوْءم: علّم ابنَك الحسابَ قبلَ الكتاب؛ فإنّ الحسابَ أكسَبُ من الكِتاب، ومؤونةُ تعلّمه أيسر، ووجوهُ منافعه أكثر، وكان يقال: لا تعلّموا بناتِكم الكتابَ، ولا تروُّوهن الشعر، وعلّموهن القرآن، ومن القرآن سُورةَ النور، وقال آخر: بنو فلان يعجبهُم أن يكون في نسائهم إباضيَّات، ويُؤْخَذْنَ بحفظ سورة النُّور، وكان ابنُ التوءم يقول: من تمام ما يجب على الآباء من حفظ الأبناء، أن يعلِّمُوهم الكتاب والحساب والسِّباحة، خطب رجلٌ امرأةً أعرابيّة فقالت له: سَلْ عنّي بني فلان وبني فلان وبني فلان، فعَدَّتْ قبائلَ، فقال لها: وما عِلْمهم بك؟ قالت: في كلِّهم قد نكَحْت، قال: أُرَاكِ جَلنْفعةً قد خَزَّمَتْكِ الخزائِم، قالت: لا، ولكنّي جوالة بالرَّحْل عَنْتَرِيس،  وقال الفرزدق لامرأته النَّوَار: كيف رأيتِ جريراً؟ قالت: رأيتُكَ ظلمتَه أوَّلاً ثم شَغْرْتَ عنه بِرِجلك آخِراً، قال: أنا إنيِهْ؟ قالت: نعم، أمَا إنَّه قد غلَبك في حُلوِه، وشارَكَكَ في مُرِّه، قال: وتغدَّى صَعصعة بن صُوحانَ عند معاوية يوماً، فتناوَلَ من بين يدَيْ معاويةَ شيئاً، فقال: يا ابنَ صُوحان، لقد انتجعتَ من بعيد فقال: مَن أجدَبَ انتَجَع، وبَصُر الفرزدقُ بجريرٍ مُحْرِماً فقال: واللَّه لأُفسِدنَّ على ابن المَرَاغة حَجَّه، ثم جاءه مستقبِلاً له، فجَهَرَه بِمشقَص كان معه، ثم قال:

نّك لاقٍ بالمَشَاعر من مِـنًـى

 

فَخاراً فخبّرني بمن أنتَ فاخِرُ

فقال جرير: لبيك اللّهم لبيك: ولم يُجِبْه، قال: وأُدخِل مالكُ بن أسماءَ سجنَ الكوفة، فجلس إلى رجلٍ من بني مُرّة، فاتّكأ المُرّيّ عليه يحدّثه حتّى أكثَر وغَمَّه، ثم قال: هل تدري كم قَتلْنا منكم في الجاهلية؟ قال مالِكٌ: أمّا في الجاهليّة فلا، لكنِّي أعرف مَن قتلتُم منا في الإسلام، قال المُرّيّ: ومَن قتلنا منكم في الإسلام؟ قال: أنا، قد قتلْتَني غَمّاً قال: ودخل رجلٌ من محاربِ قيسٍ على عبد اللَّه بن يزيد الهلاليّ، وهو عاملٌ على أَرْمِينِيَة، وقد بات في موضع قريبٍ منه غدير فيه ضفادع، فقال عبد اللَّه للمحاربيّ: ما تركَتْنا أشياخُ محاربٍ نَنام في هذه الليلةِ؛ لشدَّة أصواتها، فقال المحاربيّ: أصلَحَ اللَّه الأمير، إنَّها أضَلَّت بُرقُعاً لها، فهي في بُغائه، أراد الهلاليُّ قولَ الأخطل:

تَنِقُّ بلا شيءٍ شُيوخُ مـحـاربٍ

 

وما خِلتُها كانت تَرِيش ولا تَبْرِي

ضفادعُ في ظلماءِ ليلٍ تجاوبـت

 

فدلَّ عليها صوتُها حَيّةَ البحـرِ

وأراد المحارٍ بيُّ قول الشاعر:

لكلِّ هلاليٍّ من اللُّؤم بُرقعٌ

 

ولابنِ هلالٍ بُرْقُعٌ وقميصُ

وقال العُتْبيّ:

رأيْنَ الغَوانِي الشّيبَ لاحَ بعارضِي

 

فأعرضْنَ عنِّي بالخُدود النواضِـرِ

وكُنَّ إذا أبصَرْنَني أو سمِعـنَ بـي

 

سَعيْنَ فرقّعن الكُوَى بالمحـاجـرِ

لئنْ حُجِّبت عنِّي نـواظِـرُ أعـينٍ

 

رَمَيْنَ بأَحداق المَـهـا والـجـآذرِ

فإنِّيَ من قومٍ كـرام أصـولُـهـم

 

لأقدامهم صِيغَت رؤوس المنـابِـر

خلائفُ في الإسلام، في الشِّرك قادة

 

بهم وإليهمْ فَخْرُ كـلِّ مُـفـاخـرِ

وقال لبيد:

والشَّاعرون النَّاطِقون أُراهـم

 

سلَكوا طريق مُرقِّشٍ ومُهلْهِلِ

وقال آخر:

أم مَن لباب إذا ما اشتدَ حاجبُـه

 

أم من لخصمٍ بعيد الغَور مغوارِ

وقال حاجب بن دينار المازنيّ

ونحن بنو الفَحْل الذي سال بـولُـه

 

بكلِّ بلادٍ لا يبـولُ بـهـا فـحـلُ

أبَى النَّاسُ والأقلام أن يَحسُبُـوهُـم

 

إذا حُصِّلَ الأجناسُ أوْ يُحسبَ الرَّملُ

فإن غَضِبوا سَدُّوا المشارِقَ، منهـمُ

 

ملوكٌ وحكامٌ كلامـهـمُ فَـصـلُ

وقال أعرابيُّ من بني حَنيفة، وهو يمزَح:

مَرّ الجرادُ على زرعي فقلت له:

 

الزَمْ طريقَك لا تُولَع بإفـسـادِ

فقال منهم خطيبٌ فوق سُنـبـلةٍ:

 

إنّا على سفـر لا بُـدَّ مـن زادِ

وقال آخر يهجو بَعضَ الخُطَباء:

يُمان ولا يَمُون وكان شيخاً

 

شديد اللُّقْمِ هِلقاماً خطيبـاً

وذهب إلى قول الأحوص:

ذهَب الذين أحبُّهم فَـرَطـاً

 

وبقيتُ كالمقْمورِ في خَلْف

من كلِّ مَطويٍّ على حَنَـقٍ

 

متضجِّع يُكفَى ولا يَكْفـي

وقال الحسن بن هانئ:

إذا نابَهَ أمرٌ فإمَّا كفيتَه

 

وإمَّا عليه بالكَفِيّ تُشِيرُ

وقال آخر:

ذَرِيني فلا أعيا بما حلّ ساحتي

 

أَسُودُ فأكفِي أو أُطيعُ المُسوَّدا

وقال بشَّار:

وفي العَبَراتِ الغُرّ صَبْرٌ على النَّدَى

 

أولئك حَيٌّ من خُـزَيمةَ أغـلـبُ

وألأم من يَمشي ضُبـيعةُ، إنّـهـم

 

زعانفُ لم يَخْطُب إليهمْ مُحـجَّـبُ

وكذلك قول أعشى بني ثعلبة:

ما ضرَّ غاني نِزارٍ أن تُفارقه

 

كلبٌ وجَرمٌ إذا أبناؤه اتفّقـوا

قالت قُضاعَةُ: إنَّا من ذَوي يَمَن

 

اللَّه يعلم، ما بَرُّوا ولا صدقوا

يزداد لَحْمُ المَنَاقِي في منازلنـا

 

طيباً إذا عَزَّ في أعدائنا المَرقُ

وما خَطبنا إلى قوم بَنـاتِـهـمُ

 

إلاّ بأرْعَن في حافاتِه الحَرَقُ

قوله خَطبْنا: من الخِطْبَة ها هنا؛ وهو في الشِّعر الأول من الخطبة أيضاً، وقال بلعاءُ بن قيس:

أبَستُ لنفسي الخَسفَ لمّا رَضُوا به

 

ووليَّتهم شَتْمي وما كنت مُفْحَمـا

وقال بلعاءُ بن قيسٍ لِسُراقَةَ بن مالك بن جُعْشُمٍ: من اوافر

ألا أبلغْ سُراقَة: يا ابن مـالٍ

 

فبئس مَقالةُ الرّجلِ الخطيبِ

أترجو أن تؤوبَ بظُعْن ليثٍ

 

فهذا حينُ تُبصِرُ من قريبِ

وقال منصورٌ الضبّيّ:

ليت الفتى عَجرداً مِنَّا مكـانَـهُـمُ

 

وليتهم من وراء الأخضر الجاري

قد قام سيِّدهُم عِمرانُ يخطُبـهـم

 

ما كان للخير عمـرانٌ بـأَمَّـارِ

قال: وتقول العرب: الخَلّةُ تَدْعُو إلى السَّلّة، وكانوا إذا أَسَروا أسيراً قال المادح: أسَرَه في مُزاحَفَة، ولم يأسِرْه في سَلّةٍ، وفي الحديث، لا إسلالَ ولا إغلال، وفي المثل: الحاجة تفتح بابَ المعرفة، ونذكر هنا أبياتَ شعر تصلح للرواية والمذاكرة قال سُويدُ المراثِدِ الحارثي أو غيره:

بني عمِّنا لا تذكُرُوا الشِّعرَ بعـدمـا

 

دفنتم بصحراء الغُمَيمِ الـقـوافـيا

فلَسْنا كمن كنتمْ تُـصـيبـون سَـلّة

 

فنقْبَلَ عَقْلاً أو نحـكِّـم قـاضـيا

ولكنَّ حُكمَ السَّيفِ فيكمْ مُـسـلَّـطٌ

 

فنرضَى إذا ما أصبَحَ السَّيفُ راضيا

وقد ساءني ما جرَّت الحربُ بينـنـا

 

بني عمّنا لو كـان أمـراً مُـدانـيا

فإن قلتُم: إنّا ظَلَـمْـنـا فـإنّـكـم

 

بدأتمْ ولكنَّا أسـأْنـا الـتّـقـاضيا

وقال ضابئ بن الحارث:

ورُبّ أمورٍ لا تضيرُك ضيرةً

 

وللقلب من مَخْشاتهنَّ وجيبُ

وقال حارثةُ بن بدر:

وقلْ للفـؤادِ إن نـزا بِـك نـزوةً

 

من الرَّوْع أفرخ أكثَرُ الرَّوْع باطِلُه

وقال لَبيد بن ربيعة: من الرمل

واكذِبِ النَّفْس إذا حدَّثْـتَـهـا

 

إنَّ صدْقَ النَّفسِ يُزْرِي بالأَمَلْ

وقال حبيب بن أوس:

وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مُخْلِقٌ

 

لدِيباجتَيْهِ فاغـتـربْ تـتـجـدَّد

فإنِّي رأيتُ الشَّمسَ زِيدتْ مَحـبَّةً

 

إلى النًّاس أنْ ليست عليهم بسَرْمَدِ

وقال غيره:

هو الشّمس إلا أنّ للشَّمس غَيبةً

 

وهذا الفتى الجَرميُّ ليس يَغِيبُ

يروح ويغدُو ما يُفَتِّـرُ سـاعةً

 

وإن قيل ناءٍ فهو منكَ قـريبُ

وقال آخر:

خلافاً لقولِـي مـن فَـيَالَةِ رأيه

 

كما قِيل قبلَ اليوم: خالفْ فتُذْكَرَا

وقال حارثةُ بن بدر:

إذا ما مُتُّ سَرَّ بني تـمـيم

 

على الحَدَثانِ لو يَلْقَون مِثلي

عدُوُّ عدُوّهِمْ أبـداً عـدُوّي

 

كذلك شِكلهم أبداً وشِكْلـي

وهو شبيه بقول الأعشى:

عُلِّقتُها عَرَضاً وعُلِّـقَـتْ رجـلاَ

 

غيري وعُلِّقَ أخرى غيْرَها الرَّجُلُ

وقال عمرو لمعاوية: من أصبر الناس؟ قال: من كان رأيه رَادّاً لهواه، واختلفوا بحضرة الزُّهْريّ في معنى قول القائل: فلان زاهد، فقال الزُّهري: الزاهد الذي لا يغلب الحرامُ صَبْرَه، ولا الحلالُ شكْره، وقال ابن هبيرة وهو يؤدّب بعض بنيه: لا تكوننّ أوَّلَ مشيرٍ، وإيَّاك والرَّأي الفَطِير، وتجنَب ارتجالَ الكلام،ولا تُشِرْ على مستبِدٍّ ولا علي وَغْدٍ، ولا على متلوِّن ولا على لَجوج، وخَفِ اللَّه في موافقةِ هوى المستشير؛ فإنّ التماس موافقته لؤمٌ، وسوءَ الاستماع منه خِيانة، وقالوا: من كثر كلامه كثُر سَقَطُه، ومن ساء خُلُقه قلَّ صديقُه، وقال عمر للأحنف: من كثر ضحِكُه قلَّت هَيْبتُه، ومن أكثر من شيء عُرِفَ به، ومن كَثُرَ مِزَاحُه كثُر سَقَطُه، ومن كثر سَقَطُه قَلَّ ورعُه، ومن قلَّ ورعُه ذهب حياؤُه، ومن ذهب حياؤُه ماتَ قلبُه، وقال المهلَّب لبنيه: يا بَنِيَّ تباذَلُوا تَحَابُّوا؛ فإنّ بني الأمِّ يختلفون، فكيف بنو العَلاّت إنَّ البِرَّ يَنْشأ في الأجَل، ويزيد في العدد، وإن القطيعة تُورِثُ القلّة، وتُعْقِب النّار بعد الذِّلَّة، واتّقوا زَلّة اللسان؛ فإنَّ الرّجُل تزلُّ رجله فينتعش، ويزلُّ لسانه فيهلِك، وعليكم في الحرب بالمكيدة؛ فإنّها أبلغ من النَّجدة؛ فإنَّ القتالَ إذا وقَعَ وقع القضاء، فإن ظَفر فقد سَعِد، وإن ظُفِر به لم يقولوا فرّط، ولقيَ الحسينُ رضي اللَّه عنه الفرزدقَ فسأله عن النَّاس فقال: القُلوبُ معك، والسّيوفُ عليك، والنَّصر في السماء، وقال بعضهم: حُجب أعرابيٌّ عن باب السلطان فقال:

أُهِينُ لهم نفسي لأكرِمَها بهـم

 

ولا يكرِمُ النفس الذي لا يهينُها

وقال جرير:

قومٌ إذا حضر المُلُوكَ وُفودُهم

 

نُتِفت شواربهمْ على الأبوابِ

وقال آخر:

نَهيتُ جَميعَ الحَضْر عن ذكر خُطّةٍ

 

يدبّرُها فـي رأيه ابـنُ هـشـامِ

فلمّا وردتُ البابَ أيقـنْـتُ أنَّـنـا

 

على اللَّهِ والسُّلطان غـيرُ كـرامِ

وقال آخر:

وافَى الوفودُ فوافى من بني حَمَلٍ

 

بِكرُ الحَمَالةِ قانِي السِّنِّ عُرْزومُ

وقال متمِّم:

قعيدَكِ ألاّ تُسمِعيني مَـلامةً

 

ولا تَنكَئِي قَرْحَ الفؤادِ فيِيجَعا

وقال آخر:

قليلٌ التَّشكِّي للمصيبـاتِ ذاكـرٌ

 

مِن اليوم أعقابَ الأحاديثِ في غدِ

وقالوا: أشدُّ من الموت ما يُتَمنَّى له الموت، وقال الفرزدق وهو يصف طعنة:

يودّ لك الأدنَوْن لو مُتَّ قَبلَهايَرَونَ بها شرّاً عليك مِن القَتلِ وقال: وقيل للأحنف: ما بلغ من حزمك؟ قال: لا أَلِي ما كُفِيت، ولا أُضِيع ما وَليتُ، وقال آخر: لا تقيموا ببلادٍ ليس فيها نهر جارٍ، وسوقٌ قائمة، وقاضٍ عَدْلٌ، وقالوا: لا تُبنى المدن إلاّ على الماء والمرعَى والمُحتَطَب، وقال مالك بن دينار: لربما رأيتُ الحجَّاج يتكلّم على مِنبره، ويَذكُر حُسنَ صنيعِه إلى أهل العراق، وسُوءَ صَنيعهم إليه، حتّى إنَّه ليُخيَّل إلى السامع أنَّه صادقٌ مظلوم، أبو عبد اللَّه الثَّقَفيّ عن عمِّه قال: سمِعت الحسن يقول: لقد وقذَتْني كلمةٌ سمعتُها من الحَجَّاج، قلتُ: وإنَّ كلامَ الحجَّاج ليَقِذُك؟ قال: نعم، سمعتُه على هذه الأعواد يقول: إنَّ أمرأً ذهبت ساعةٌ من عمره في غير ما خُلِقَ له، لَخليقٌ أن تطول عليها حسرتُه،

 وقال بضهم: ما وجدتُ أحداً أبلَغَ في خيرٍ وشرٍّ من صاحب، عبد اللَّه بن سَلِمة، قال: دخل الزِّبرقانُ بن بدرٍ على زيادٍ وقد كُفّ بصره، فسلَّمَ تسليماً جافياً، فأدناه زيادٌ فأجلسه معه، وقال: يا أبا عَيَّاش: القومُ يضحكون من جفائك قال: وإن ضحكوا فواللَّه إن منهم رجلٌ إلاّ بِوُدِّهِ أنِّي أبوه دون أبيه لِغَيَّة أو لِرَشْدةٍ، وقال: ونظر هشامُ بن عبد الملك إلى قبر عثمان بن حيان المُرِّيّ فقال: جُثْوَةٌ من جُثَى النار، قالوا: وكان يقال: صاحب السَّوءِ قطعةٌ من النار، والسَّفر قِطْعةٌ من العذاب، وقال بعضهم: عذابان لا يَكترِثُ لهما الداخل فيهما: السَّفَر الطويل، والبِناء الكبير، وقال رجلٌ من أهل المدينة: مَن ثَقُل على صديقه خَفَّ على عدوّه، ومَن أسرَعَ إلى النّاس بما يكرهون قالوا فيه بِما لا يعلمون، وقال سهل بن هارون: ثلاثة يعودون إلى أجَنِّ المجانين، وإن كانوا أعقَلَ العقلاء: الغضبان، والغَيْران، والسَّكران، فقال له أبو عَبْدان الشاعر المخلَّع: ما تقول في المنْعِظ؟ فضحك حتَّى اسلَنْقى، ثم قال:

وما شَرُّ الثلاثةِ أمَّ عمرٍو

 

بصاحبك الذي لاتَصبَحينا

وقال أبو الدّرداء: أقربُ ما يكونُ العبدُ مِن غضب اللَّه إذا غَضِبَ، وقال: قال إياس: البُخْل قَيد، والغَضَبُ جُنون، والسُّكْر مفتاح السّرّ، وقال بعض البُخَلاء: ما نَصَب الناس لشيء نَصْبَهم لنا، هَبْهم يُلزِموننا الذّمَّ فيما بيننا وبينهم، ما لهم يُلزموننا التقصيرَ فيما بيننا وبين أنفُسنا، قال: وقال إبراهيم بن عبد اللَّه بن حسن لأبيه: ما شعر كُثَيِّرٍ عندي كما يصفُ النّاس، فقال له أبوه: إنك لم تَضَع كُثَيِّراً بهذا، إنّما تضَع بهذا نَفْسَك، قال: وأنشد رجل عمر بن الخطاب، رحمه اللَّه، قولَ طرَفة:

فلولا ثلاثٌ هُنَّ من عِيشة الفَتَى

 

وجدِّك لم أَحفِلْ متى قام عُوَّدِي

فقال عمر: لولا أن أسيرَ في سبيل اللَّه، وأضَعَ جَبهتي للَّه، وأجالِسَ أقواماً ينتقون أطايب الحديث كما ينتقون أطايب التَّمْرِ، لم أبالِ أن أكُونَ قد مُتُّ، وقال عامر بن عبد قيس، ما آسَى من العراق إلاّ على ثلاث: على ظَمَأ الهواجر، وتجاوُب المؤذّنين، وإخوانٍ لي منهم الأسود بن كُلثوم، وقال آخر: ما آسى من البَصْرة إلاّ على ثلاث: رُطَب السُّكَّر، وليل الحَزِيز، وحديث أبي بَكْرة،، وقال سَهل بن هارون:

تكنّفني همّانِ قد كَسَفـا بـالـي

 

وقد تركا قلبي مََحَلّةَ بَـلْـبـالِ

هما أذْرَيا دمعي ولم تُذر عَبرتي

 

ربيبةُ حِذرٍ ذات سمْطٍ وخلخالِ

ولكنَّني أبكِي بـعـينٍ سَـخـينةٍ

 

على جَلَل تبكي له عينُ أمثالي

فِراقُ خليلٍ، أو شَجىً يستشِفُّنِـي

 

لِخَلَّة مَرْءٍ لا يقومُ لها مـالـي

فَوَاكبدي حَتّى متَى القلبُ موجَعٌ

 

بفقدِ حبيبٍ أو تعذُّر إفْـضـال

وما العيشُ إلاّ أن تَطُول بنـائلٍ

 

وإلاّ لقاءُ الخِلِّ ذي الخُلُق العالِي

وقال آخَر:

لولا ثلاثٌ هُنَّ عَيشُ الدَّهـر

 

الماءُ والنّـومُ وأمُّ عـمـرو

لَمَا خَشِيتُ من مضيقِ القَبْرِ

 

 

قال: وقال الأحنف: أربعٌ من كُنَّ فيه كان كامِلاً، ومن تعلَّق بخَصلةٍ منهنَّ كان مِن صالحي قومه: دينٌ يُرشدُه، أو عَقلٌ يُسَدِّدُه، أو حسب يصونُه، أو حياءٌ يَقناه، وقال: المؤمن بين أربع: مؤمنٌ يحسده، ومنافق يُبغضه، وكافر يجاهده، وشيطان يَفتِنه، وأربع ليس أقلُّ منهن: اليقين، والعدل، ودرهمٌ حلال، وأخٌ في اللَّه، وقال الحسن بن عليّ: مَن أتانا لم يَعْدَم خصلةً من أربع: آية محكمةً، أو قضيَّة عادلة، أو أخا مستفاداً، أو مجالسةَ العلماء، وقالوا: مَن أُعطِيَ أربعاً لم يُمْنَعْ أربعاً: مَن أُعطِيَ الشُّكرَ لم يُمنَع المَزِيد، ومن أُعطي التَّوبةَ لم يُمنع القَبول، ومَن أُعطِيَ الاستخارة لم يُمنع الخِيَرة، ومن أُعطيَ المشورةَ لم يَعْدَم الصَّواب، وقال أبو ذَرٍّ الغِفَاري: كان الناس ورقاً لا شوكَ فيه، فصاروا شوكاً لا ورقَ فيه،  وقالوا: تعامَلَ النّاس بالدِّين حتى ذهبَ الدِّين، وبالحياءِ حتَّى ذهب الحياء، وبالمروءة حتّى ذهبت المروءة، وقد صاروا إلى الرّغبة والرهبة، وأَحْرِ بهما أن يذهبا، وقال بعضهم: دَعَا رجلٌ عليَّ بن أبي طالبٍ رضي اللَّه عنه إلى طعام، فقال: نأتيك على أن لا تتكّلفَ لنا ما ليس عندك، ولا تدّخر عَنَّا ما عِندَك، وقال الحُضَين بن المنذر:

كلُّ خفيف الشَّأن يسعى مشمِّراً

 

إذا فتح البوّاب بابك إصْبَعـا

ونحن الجُلوسُ الماكثون توقُّراً

 

حياءً إلى أن يُفتحَ البابُ أجمعا

وقال آخر:

ونَفْسَك أكرمْها فإنّك إن تَـهُـنْ

 

عليك فلن تلقى لها الدَّهرَ مُكرِما

اعتذر ابنُ عونٍ إلى إبراهيمَ النَّخَعي فقال له: اسكت معذوراً؛ إن الاعتذارَ يخالطه الكذب، أبو عمرو الزَّعفراني قال: كان عَمرو بن عُبيد عند حفص بن سالم فلم يسأله أحدٌ من حَشَمه في ذلك اليوم شيئاً إلاَّ قالَ: لا، فقال له عمرو: أقِلَّ من قولِ لا؛ فإنّه ليس في الجنة، وإنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا سُئِل ما يَجِدُ أعطى، وإذا سئل ما لايَجد قال: يَصْنَعُ اللَّه، وقال عمر بن الخطاب رحمه اللَّه: أكثروا لهُنَّ من قول لا؛ فإن قول نعم يضرِّيهنَّ على المسألة، وإنَّما خصَّ عُمَر بذلك النِّساء، وقال بعضهم: ذمَّ رجلٌ الدّنيا عند علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه فقال عليٌّ: الدُّنيا دَارُ صدقٍ لمن صَدَقها، ودارُ نجاةٍ لمن فَهِمَ عنها، ودار غِنىً لمن تزوّد منها، ومَهِبطُ وَحْي اللَّه، ومُصلَّى ملائكته، ومَسجِد أنبيائه، ومَتجرُ أوليائه، رَبِحُوا فيها الرّحمة، واكتسبوا فيها الجنّة، فمن ذا الذي يذمُّها وقد آذنت بِبَيْنها ونادت بِفراقها، وشَبَّهتْ بسُرورها السرورَ، وببلائها البلاء، ترغيباً وترهيباً، فيا أيُّها الذامُّ للدُّنيا، المعلِّلُ نفسَه، متى خَدَعتك الدنيا أم متى استذَمَّت إليك؟ أبمصارع آبائك في البِلَى، أم بمَضاجِع أمَّهاتك في الثرى؟ كم مَرَّضَتْ بيديك، وكم علّلْتَ بكفَّيك، تطلُب له الشّفاء، وتَستَوصِف له الأطبّاء، غداةَ لا يُغْني عنه دواؤك، ولا ينفعه بكاؤك، ولا تُنْجِيهِ شفقتُك، ولا تشفع فيه طَلِبَتُك، وقال عُمَر، رحمه اللَّه: مابال أحدكم ثانيَ وِسَادِه عند امرأةٍ مُغْزِيَةٍ مُغِيبة؟ إن المرأةَ لحمٌ على وَضَمٍ إلاّ ما ذُبّ عنه، وقال بعضهم: مات ابن لبعض العظماء فعزّاه بعضهم فقال: عِش أيها الملك العظيمُ سعيداً، ولا أراك اللَّه بَعدَ مصيبتك ما ينسيكَها، وقال: لمَّا توفّي معاويةُ وجلس ابنُه يزيد، دخل عليه عَطاءُ بن أبي صيفِيّ الثّقَفيُّ، فقال: يا أمير المؤمنين، أصبحتَ قد رُزِيت خليفةَ اللّه، وأُعطِيتَ خلافةَ اللَّه، وقد قَضَى معاويةُ نَحْبَه، فغفر اللَّه ذنبه، وقد أُعطيتَ بعده الرِّياسة ووَلِيتَ السّياسة، فاحتَسِب عند اللَّه أعظمَ الرَّزِيَّة، واشكُرْه على أفضل العطيّة،  ولما تُوفِّي عبدُ الملك وجلس ابنُه الوليد، دخَلَ عليه النّاس وهم لا يَدرون: أيهنِّئونه أم يعزّونه؟ فأقبل غَيلانُ بن سَلَمة الثَّقَفيُّ فسلّمَ عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أصبحتَ قد رزِيتَ خير الآباء، وسُمِّيتَ بخير الأسماء، وأٌعطيت أفضلَ الأشياء، فعظّمَ اللَّه لكَ على الرزيّة الصَّبْر، وأعطاك في ذلك نوافلَ الأجر، وأعانَك على حُسن الوِلاية والشكر، ثم قَضَى لعبد الملك بخير القضيّة، وأنزله بأفضل المنازل المرضِيَّة، وأعانَك مِن بعده على الرعيَّة، فقال له الوليد: من أنت؟ فانْتَسَبَ له، قال: في كم أنت؟ قال: في مائة دينار، فألَحَقه بأهل الشَّرف، ولما تُوفِّي المنصور دخل ابنُ عُتْبَة مع الخطباء على المهديّ فسلّم ثم قال: آجَرَ اللَّهُ أميرَ المؤمنين على أمير المؤمنين قبلَه، وبارك لأمير المؤمنين فيما خلّفه له أميرُ المؤمنين بعدَه؛ فلا مصيبةَ أعظَمُ مِن فَقْد أميرِ المؤمنين، ولا عُقْبَى أفضلُ من وِراثة مَقامِ أمير المؤمنين، فاقبَلْ يا أمير المؤمنين من اللَّه أفضَل العطيّة، واحتسبْ عنده أعظَمَ الزريّة، وكتب مَيمون بن مهْران إلى عمرَ بن عبد العزيز، يعزِّيه عن ابنهِ عبد الملك، فكتب إليه عمر: كتبتَ إليَّ تُعزِّيني عن ابنِي عبدِ الملك، وهو أمرٌ لم أزَلْ أنتظرُه، فلمَّا وقَعَ لم أنكرْه، وقال الشاعر:

تعزَّيْتُ عن أَوفَى بغَيلانَ بعـدَه

 

عزاءً، وجَفْنُ العين بالماء مُترَعُ

ولم تُنسِنِي أوفَى المصيباتُ بعدَه

 

ولكنَّ نَكْءَ القَرح بالقَرح أوجَعُ

وقال آخر: كان شيخ يأتي ابنَ المقفّع، فألحّ عليه يسأله الغَدَاء عنده وفي ذلك يقول: إنَّك تظنُّ أنِّي أتكلّف لك شيئاً؟ لا واللَّه لا أُقدِّم إليك إلاّ ما عندي، فلما أتاه إذَا ليس عنده إلاّ كِسرةٌ يابسة ومِلحٌ جَرِيش، ووقف سائلٌ بالباب فقال له: بُورِك فيك فلمّا لم يذهب قال: واللّه لئن خرَجْتُ إليك لأدُقّنَّ ساقيك فقال ابن المقفّع للسَّائل: إنّك لو تعرِفُ مِن صدق وعيده مثلَ الذي أعرِفُ مِن وَعْده لم تُرَادَّه كلمةً، ولم تَقِفْ طَرفَةً، قال: وكان يقال: أوَّل العلم: الصَّمت، والثاني: الاستماع، والثالث: الحفْظ، والرابع: العمل به، والخامس: نَشْره، وقال آخر: كان يقال: لا وَحْشة أوحَشُ من عُجبٍ، ولا ظَهيرَ أعون من مشورة، ولا فقْرَ أشدُّ من عدم العقل، وقال مُوَرِّقٌ العِجْلي: ضاحكٌ معترِفٌ بذنبه، خيرٌ من باكٍ مُدِلٍّ على ربّه، وقال: خير من العُجْب بالطاعة، ألاّ تأتيَ بالطاعة، وقال شَبيبٌ لأبي جعفر: إنّ اللّه لم يجعل فوقَكَ أحداً، فلا تجعلنَّ فوق شُكرك شكراً، وقال آخَر لأبي جعفرٍ في أوّلِ رَكْبةٍ ركبها: إن اللَّه قَدْ رأى ألاَ يجعل أحداً فوقك، فَرَ نفْسَك أهلاً ألا يكونَ أحدٌ أطوَعَ للَّه منك، وسِفهَ رجلٌ على ابنٍ له فقال له ابنُه: واللَّه لأَنا أشْبَه بك منك بأبيك، ولأنت أشدُّ تحصيناً لأمي من أبيك لأمِّك، وقال عمرو بن عُبيد لأبي جعفر: إنّ اللَّه وَهَب لك الدُّنيا بأسْرِها، فاشتَرِ نفْسك منه ببعضها، وقال الأحنف: ثلاثة لا أناةَ فيهنَّ عندي، قيل: وما هُنَّ يا أبا بحر؟ قال: المبادرة بالعمل الصالح، وإخراجُ ميِّتك، وأن تنكح الكفءَ أيِّمَك، وكان يقول: لأَفعَى تَحَكَّكُ في ناحيةِ بيتي أحبُّ إليّ من أيِّم رددتُ عنها كُفْئاً، وكان يقال: ما بَعد الصَّواب إلاّ الخطأ، وما بعد منْعهنَّ من الأكفاء إلاّ بذلُهنّ للسِّفلة والغَوغاء، وكان يقال: لا تطلُبوا الحاجة إلى ثلاثة: إلى كذوب؛ فإنّه يُقَرِّبُها وإن كانت بعيدة، ويباعدها وإن كانت قريبة، ولا إلى أحمَق؛ فإنّه يريد أن ينفعك فيضرُّك، ولا إلى رجلٍ له إلى صاحب الحاجة حاجة؛ فإنَه يجعل حاجتَك وِقايةً لحاجته، وكان الأحنف بن قيس يقول: لا مُروءة لكَذُوب، ولا سُؤدد لبخيل، ولا وَرَعَ لِسيِّئِ الخلق، وقال الشَّعبي: عليك بالصِّدق حيثُ تُرى أنّه يضرُّك؛ فإنّه ينفعك، واجتنب الكذب في موضعٍ ترى أنّه ينفعُك؛ فإنّه يضرّك، وقالوا: لا تصرِفْ حاجتك إلى مَن معيشته من رؤوس المكاييل، وألسنة الموازين، وقالوا: تفرَّدَ اللَّه عَزَّ وجل بالكمال، ولم يبرِّئ أحداً من النُّقصان،  قالوا: وقال عامر بن الظَّرِب العَدْوانيّ: يا مَعْشَر عَدْوان، إن الخيرَ ألوفٌ عَزوف، ولن يُفارق صاحبَه حتّى يفارقَه، وإنِّي لم أكنْ حليماً حتّى اتّبعت الحلماء، ولم أكن سيّدَكم حتّى تعبَّدْت لكم، وقال الأحنف: لأَنْ أُدْعَى مِن بعيد، أحبُّ إليّ من أن أُقْصَى من قريب، وكان يقال: إيّاك وصدرَ المجلس وإنْ صَدَّرَك صاحبُه؛ فإنّه مجلسُ قُلْعةٍ، قال: وقال زيادُ: ما أَتَيْت مجلساً قطُّ إلاّ تركتُ منه ما لو أخذتُه كان لي، وتركُ مالي، أحبُّ إليَّ مِن أخْذ ما ليس لي، وقال الأحنف: ما كشَّفتُ أحداً عن حالي عنده إلاّ وجدتُها دونَ ما كنتُ أظنُّ، قال: وأثْنَى رجلٌ على عليّ بن أبي طالب فأفرط، وكان عليٌّ له متَّهِماً، فقال: أنا دون ما تقول، وفوقَ ما في نفسِك، قال: وكان يقال: خمس خصال تكونُ في الجاهل: الغضَب في غير غضب، والكلام في غير نَفْع، والعطيَّة في غير موضع، والثقةُ بكلّ أحد، وألاّ يعرفَ صديقَه من عدوّه، وأثنَى أعرابيٌّ على رجل فقال: إنْ خَيرك لسريح، وإن مَنْعَك لمُرِيح، وإنّ رُفدك لربيح، وقال سَعيد بن سَلْم كنت والياً بأَرمِينيَة، فغَبَر أبو دُهْمان الغلاَّبي عَلَى بابِي أيّاماً، فلما وصل إليّ مََثَلَ بين يديَّ قائِماً بين السِّماطَين وقال: واللَّه إني لأَعرفُ أقواماً لو علموا أنّ سَفّ التُرابِ يقيم من أَوَد أصلابهم لجعلوه مُسْكةً لأرْماقِهِم؛ إيثاراً للتنزُّه عَن عيش رقيق الحواشي، أمَا واللَّه إنِّي لَبعيدُ الوَثْبة، بطيءُ العَطفة، وإنَّه واللَّه ما يَثْنيني عليك إلاّ مِثلُ ما يصرِفُني عنك، ولأَنْ أكون مُقِلاًّ مقرَّباً أحبُّ إليَّ مِن أن أكون مُكْثِراً مُبعَداً، واللَّهِ مانسأل عملاً لا نَضْبِطه، ولامالاً إلاّ ونحن أكثَرُ منه، وهذا الأمرُ الذي صار إليك وفي يديك، قد كان في يَدَيْ غيرِك، فأمْسَوا واللَّه حديثاً، إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرّاً فشرّ، فتحبَّبْ إلى عباد اللَّه بحُسْن البِشْر، ولِين الجانب؛ فإنّ حبَّ عبادِ اللَّه موصولٌ بحبِّ اللَّه، وبُغضَهم موصولٌ ببُغض اللَّه؛ لأنَّهم شهداءُ اللَّه على خَلْقه، ورُقَباؤه على من عاج عن سبيله، ودخل عُتْبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عَلَى خالد بن عبد اللَّه القَسريّ بعد حجابٍ شديد، وكان عُتبةُ سخيّاً، فقال خالدٌ يعرِّض به: إنَّ هاهنا رجالاً يَدَّانُون في أموالهم، فإذا فَنيِت ادّانوا في أعراضهم، فعلم القُرَشيُّ أنّه يعرِّض به، فقال القرشي: أصْلَحَ اللَّهُ الأمير، إن رجالاً من الرِّجال تكون أموالُهم أكثَرَ من مُروءاتهم، فأولئك تَبقى لهم أموالُهم، ورجالاً تكون مروءاتُهم أكثَرَ من أموالهم، فإذا نَفِدَت ادَّانُوا عَلَى سَعِة ما عندَ اللَّه فخجل خالدٌ وقال: إنّك لمِنهم ما علمت، قال: وقيل لعبد اللَّه بن يزيد بن أسد بن كُرْز: هلاّ أجبتَ أمير المؤمنين إذْ سألك عن مالك؟ فقال: إنّه كان لا يعدو إحدى حالتين: إن استكثَرَه حسَدني، وإن استقلّه حَقَرني، أبو الحسن قال: وعَظَ عُروةُ بَنيه فقال: تعلمُوا العلم فإنّكم إن تكونوا صغارَ قومٍ فعسى أن تكونوا كبارَ قومٍ آخرين، ثم قال: النّاس بأزمانهم أشبَهُ منهم بآبائهم، وإذا رأيتم من رَجُل خَلّة فاحْذروه، واعلموا أنّ عنده لها أَخَوات، قال: وقال رجلٌ لرجل: هَبْ لي دُرِيهماً، قال: أتصغِّره، لقد صغَّرت عظيماً الدّرهم عُشر العَشرَة، والعَشَرة عُشْر المائة، والمائة عُشر الألْف، والألْف عُشر الدِّيَة، قال الأصمعيّ: خرجَتْ بالدارميّ قَرحةٌ في جوفه، فبَزَقَ بَزقةً خضراء، فقيل له: قد بَرَأَتْ، إذْ قد بَزَقْتَها خضْراء، قال: واللَّه لو لم تَبْقَ في الدُّنيا زمرُّدةٌ خضراء إلاّ بزقتُها لمَا نجوتُ، مرّ الوليد بنُ عبدِ الملك بمعلِّم صِبيان فرأى جاريةً فقال: ويلكَ ما لهذه الجارية؟ فقال: أعلِّمُها القرآن، قال: فليكن الذي يعلِّمُها أصغَرَ منها. إسحاق بن أيُّوب قال: هرب الوليدُ بن عبد الملك من الطّاعون، فقال له رجلٌ: يا أمير المؤمنين، إنّ اللَّه يقول: "قلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَوِ القَتْل وَإذاً لا تُمَتَّعُونَ إلاّ قَلِيلاً" الأحزاب:16، قال: ذلك القليلَ نُريده، وهرب رجلٌ من الطّاعون إلى النَّجَف، أيَّامَ شُرَيح، فكتب إليه شُريح: أمَّا بعد فإنَّ الفِرار لن يُبعدَ أجَلاً، ولن يكثِّر رِزقاً، وإن المُقامَ لن يقرِّب أجلاً، ولن يقلِّل رزقاً، وإنَّ مَنْ بالنَّجَف مِنَ ذي قُدرةٍ لقريب.


قالوا: ودخل على الوليد فتىً من بني مخزوم، فقال له: زوّجْني ابنتَك، فقال له: هل قرأْت القرآن؟ قال: لا، قال: أَدْنُوه منِّي، فأدنَوه فضَرَب عمامتَه بقضِيبٍ كان في يده، وقَرَعَ رأسَه به قَرَعات، ثمَّ قال لرجل: ضُمَّه إليك فإذا قرأَ القرآنَ زوَّجنْاه، ولما استَعمل يزيدَ بن أبي مسلمٍ بعد الحجَّاج قال: أنا كمن سَقَط منه درهمٌ فأصابَ ديناراً، وقال ليزيدَ بن أبي مُسْلم: قال أبِي للحجَّاج: إنَّما أنت جلدةُ ما بين عينَيّ قال الوليد: يا يزيد، وأنا أقول: أنت جلدةُ وجهي كلِّه، ومع هذا إنّه صعِد المنبر فقال: عليُّ بن أبي طالبٍ لُصٌّ ابنُ لُصّ، صُبَّ عليه شُؤبوبُ عذاب، فقال أعرابيٌّ كان تحتَ المنبر: ما يقول أميركم هذا؟ وفي قوله لُصٌّ ابنُ لُصٍّ أعجوبتان: إحداهما رَمْيُه عليَّ بن أبي طالب أنَّه لِصّ، والأخرى أنَّه بلغ مِن جَهله ما لم يَجهلْه أحد، أنَّه ضم اللام من لِصّ.


بكر بن عبد العزيز الدِّمشقيّ، قال: سمعت الوليدَ بن عبد الملك على المِنبر، حين ولِيَ الخِلاَفة، وهو يقول: إذا حَدَّثْتُكم فكذَبْتكم فلا طاعَةَ لي عليكم، وإذا وعدتكم فأخلفتكم فلا طاعةَ لي عليكم، وإذا أغزيتْكم فجمَّرتكم فلا طاعة لي عليكم، فيقول مثلَ هذا الكلام ثمّ يقول لأبيه: يا أمير المؤمنين، اقتلْ أبي فُدَيك، وقال مرَّة أخرى: يا غلامُ رُدَّ الفَرَسانِ الصَّادَّان عن المَيدان، قال: وقال عبد الملك: أضَرَّ بالوليد حبُّنا له،فلم نوجِّهْه إلى البادية، قال: ولَحَن الوليدُ على المنبر فقال الكَرَوَّس: لا واللَّه إن رأيتُه على هذه الأعواد قطُّ فأمكنني أن أملأَ عيني منه، مِن كثرته في عيني، وجَلالته في نفسي، فإذا لَحَن هذا اللّحنَ الفاحشَ صار عندي كبعض أعوانه، وصلّى يوماً الغداةَ فقرأ السُّورة التي تُذكَر فيها الحاقّة فقال: يا ليتُها كانت القاضِيَة، فبلغَتْ عمرَ بنَ عبدِ العزيز فقال: أمَا إنَّه إنْ كان قالها إنّه لأحَدُ الأَحَدِين، قالوا: وكان الوليد ومحمد، ابنا عبد الملك، لحّانَين، ولم يكن في ولده أفصحُ من هشام ومَسْلَمة، قال: وقال صاحب الحديث الأوّل: أخبرني أبي، عن إسحاق بن قَبِيصة قال: كانت كتبُ الوليد تأتينا ملحونة، وكذلك كُتبُ محمَّد، فقلت لمولَى محمّد: ما بالُ كُتبِكم تأتينا ملحونة وأنتم أهلُ الخِلافة؟ فأخبره المولَى بقولي، فإذا كتابٌ قد وَرَد عليَّ: أمَّا بعدُ فقد أخبرني فلانٌ بما قلتَ، وما أحسبك تشكُّ أنّ قريشاً أفصح من الأشْعرِين، والسّلام، ومن بني صَرِيم: الصُّدَيُّ بن الخَلَق، وفَدَ به الحجّاج على الوليد بن عبد الملك، فقال له: ممّن أنت؟ قال: من بني صَريم، قال له: ما اسمُك؟ قال: الصُّدَيُّ ابن الخَلَق، قال: دُعَّا في عنقه خارجيٌّ خبيث، هذا يدلُّ على أنَّ عامّةَ بني صَرِيم كانوا خوارج، وكان منهم البُرَك الصّرِيميّ، واسمه الحجّاج، وهو الذي ضَرَب معاويةَ بالسيف، وله حديث، والخَزْرج بن الصُّدَيّ ابن الخَلَق، كان خطيباً، وقال الشّاعر في بني صَرِيم:

أصَلِّي حيثُ تدرِكُني صلاتي

 

وبئس الدِّينُ دين بني صَرِيم

قياماً يطعُنون على مَـعَـدٍّ

 

وكُّلهمُ على دين الخَـطِـيم

والخَطيم باهليٌّ، قال الأصمعيُّ وأبو الحسن: دخل على الوليد بن عبد الملك شيخانِ، فقال أحدهُما: نَجِدُك تملك عشرين سنة، وقال الآخر: كذبتَ بل نجده يملك ستِّين سنة، قال: فقال الوليد: ما الذي قال هذا لائطٌ بصَفَرِي، ولا ما قال هذا يغُرُّ مثلي، واللَّهِ لأجمعنَّ المالَ جمعَ من يعيش أبداً، ولأفَرِّقنَّه تفريقَ مَن يموت غداً، وخطب الوليد فقال: إنَّ أمير المؤمنين عبدَ الملك كان يقول: إنّ الحجَّاج جلدةُ ما بين عينَيَّ، ألاَ وإنّه جلدة وجهي كُلِّه.

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه، وسلام على عباده الذين اصطفى