باب اللحن

حدَّثنا عَثَّامٌ أبو علي عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمير، قال: كان أبو معمر يحدِّثنا فيلحن، يتْبع ما سَمِع، أبو الحسن قال: أوفد زيادٌ عبيدَ اللَّه بنَ زيادٍ إلى معاوية، فكتب إليه معاوية: إنَّ ابنَك كما وصفت، ولكنْ قوِّمْ من لسانه، وكانت في عُبيد اللَّه لُكنةٌ؛ لأنه كان نشأ بالأساورة مع أُمِّه مَرجانة، وكان زيادٌ قد زَوَّجَها من شِيرَويه الأُسواريّ وكان قال مَرَّة: افتحوا سيوفكم، يريد: سُلّوا سيوفكم، فقال يزيد بن مفرِّغ:

ويومَ فتحتَ سيفَك مِن بعـيدٍ

 

أضَعْتَ وكلُّ أمرِك للضَّياعِ

ولما كلَّمه سُويد بن مَنجوف في الهَثْهات بن ثَور، وقال له: يا ابن البَضْراء قال له سُويد: كذبت على نساءِ بني سَدُوس، قال: اجلس على استِ الأرض، قال سويد: ما كنت أَحسِب أنّ للأرض استاً قالوا: وقال بِشْر بن مروان، وعندُه عُمَر بن عبد العزيز، لغلامٍ له: ادْعُ لي صالحاً، فقال الغلام: يا صالحاً، فقال له بشر: ألقِ منها أَلِفْ، قال له عُمَر: وأنت فزِدْ في أَلِفِك أَلِفاً، وزعم يزيدُ مولى ابن عون، قال: كان رجلٌ بالبصرة له جاريةٌ تسمَّى ظَمياء، فكان إذا دعاها قال: يا ضَمياء، بالضاد، فقال ابنُ المقفَّع: قل: يا ظَمياء، فناداها: يا ضَمياء، فلمّا غيّر عليه ابنُ المقفَّع مرَّتين أو ثلاثاً قال له: هي جاريتي أو جاريتك؟ قال نصر بن سيار: لا تُسمِّ غلامَك إلاّ باسم يخفُّ على لسانك، وكان مُحمَّد بن الجهم ولَّى المكّيَّ صاحبَ النّظَّام، مَوضِعاً من مواضع كَسكر، وكان المكيُّ لايحسن أن يسمّيَ ذلك المكان ولا يتهجّاه، ولا يكتبه، وكان اسم ذلك الموضع شَانَمَثْنَا، وقيل لأبي حنيفة: ماتقول في رجلٍ أخذ صخرةً فضرب بها رأسَ رجلٍ فقتله، أتُقِيدُه به؟ قال: لا ولو ضَرَب رأسَه بأبا قُبيس، وقال يوسف بن خالد السّمْتيّ، لعمرو بن عُبيد: ما تقول في دَجاجة ذبحت من قفائها؟ قال له عَمرو: أحْسِنْ، قال: مِن قفاؤُها، قال: أحسِنْ، قال: من قفاءَها، قال عمر: ما عنّاك بهذا؟ قُلْ: مِن قَفاها واستَرِحْ، قال: وسمعت من يوسف بن خالد يقول: لا، حَتَّى يشِجَّهُ، بكسر الشين، يريد: حتّى يشُجّه، بضم الشين، وكان يوسف يقول:هذا أحَمرُ من هذا، يريد: هذا أشدُّ حمرة من هذا، وقال بِشْرٌ المريسيّ: قَضى اللَّه لك الحوائجَ على أحسن الوجوه وأهنَؤُها، فقال قاسمٌ التَّمَّار: هذا على قوله: من المنسرح

إنَّ سُلَيَمى واللَّهُ يكـلـؤُهـا

 

ضَنَّتْ بشَيءٍ ما كان يرزؤُها

فصار احتجاجُ قاسمٍ أطيَبَ من لحن بِشر، وقال مُسلِم بن سَلاَّم: حدَّثَني أَبان بن عثمان قال: كان زيادٌ النَّبَطيّ أخو حسَّان النبطيّ، شديدَ اللُّكْنة، وكان نحويّاً، قال: وكان بخيلاً، ودعا غلامَه ثلاثاً فلما أجابه قال: فَمِنْ لَدُنْ دأَوْتُك إلى أنْ قلت لَبَّىْ ما كنت تَصْنأ؟ يريد: مِن لدُن دعَوتُك إلى أنْ أجبتني ما كنت تصنع، قال: وكانت أمُّ نوحٍ وبلالٍ ابنَيْ جريرٍ أعجميّة، فقالا لها: لا تَكَلَّمِي إذا كان عندنا رجال، فقالت يوماً: يا نُوح، جُرْدان دخَل في عِجان أمّك؟ وكان الجرُذ أكل من عجينها، قال أبو الحسن: أُهدِيَ إلى فيلٍ مولى زياد حمارُ وحش، فقال لزياد: أهْدوا لنا هِمارَ وهْش، قال: أيَّ شيء تقول ويلك؟ قال: أهدوا إلينا أيراً - يريد عَيراً - قال زياد: الثّاني شرٌّ من الأوَّل، وقال يحيى بن نوفل:

إن يكُ زيدٌ فصيحَ اللسانِ

 

خطيباً فإنَّ استهُ تَلحـنُ

عليك بـسُـكٍّ ورُمَّـانةٍ

 

ومِلْحٍ يُدَقُّ ولا يُطحـنُ

وحِلْتيتِ كَرْمَانَ والنّانخاهِ

 

وشمع يُسخَّن في مُدْهُنِ

وهذا الشّعر في بعض معانيه يشبه قول ابن مُناذر: من الهزج

إذا أنتَ تـعـلَّـقـتَ

 

بحبلٍ من أبي الصَّلْتِ

تعلّقْـتَ بـحـبـلٍ وا

 

هِنِ القُوَّةِ مُـنْـبَـتِّ

فخُذْ من شِعر كَيسـانٍ

 

ومن أظفار سُبُّخْـتِ

ألم يبلغْـك تَـسـآلـي

 

لدى العَلاَّمة البِـرْتِ

وقال المرءُ ما سَرْجُو

 

يَه داءُ المرء من تحتِ

وقال البَرْدُخْت:

لقد كان في عينيك يا حفصُ شاغلٌ

 

وأنْفٍ كثِيل العَوْد عَمّا تَـتَـبَّـعُ

تَتَبَّعُ لحناً فـي كـلامٍ مُـرقّـش

 

وخَلْقُك مبنيٌّ على اللّحن أَجْمَـعُ

فعينُك إقواءٌ وأنـفُـك مُـكْـفَـأٌ

 

ووجهك إيطاءٌ فأنـت مُـرَقّـعُ

وقال المَيْسانيُّ في هجائه أهلَ المدينة:

ولحنُكُمُ بتـقـعـيرٍ ومَـدٍّ

 

وألأَمُ من يدِبُّ على العَفَارِ

عليّ بن معاذٍ قال: كتبتُ إلى فتىً كتاباً، فأجابني فإذا عُنوان كتابه: إلى ذاك الذي كَتَب إليّ، وقرأت على عنوان كتابٍ إلى أبي أميَّةَ الشِّمَّريّ: لأبي أميّة، لِلمَوتِ أنا قبلَه، وكتب ابن المراكبي إلى بعض ملوك بغداد: جُعِلْتُ فداكَ برحمتِه، وقال إبراهيم بن سَيَابَة: أنا لا أقول مِتُّ قبلَك، لأني إذا قلتُ متُّ قبلَك مات هو بعدي، ولكن أقول مِتّ بَدَلَك، وكتبَ عِقَالُ بن شَبَّة بن عِقَالٍ، إلى المسيّب بن زهيرِ: من الخفيف

للأمير المُسَيَّب بن زهـير

 

مِن عقَالِ بن شبّة بن عقَالِ

ولما كتب بشير بن عُبيد اللَّه على خاتَمه: من الهزج

بَشير بنُ عبـيد الـلّ

 

هِ بالرحمن لا يشرِكْ

وقرأ أبوه هذا البيتَ على خاتمه قال: هذا أقبح من الشِّرك وقال عبد الملك بن مروان: اللَّحن هُجْنَةٌ على الشَّريف، والعُجْب آفة الرّأي، وكان يقال: اللَّحن في المنطق أقبح من آثار الجُدَريّ في الوجهِ، وقال يحيى بنُ نَوفل، في خالد بن عبد اللّه القَسرِيّ:

وألحنُ الناسِ كلِّ الناس قاطـبةً

 

وكان يولعُ بالتشديق في الخطَبِِ

وزعم المدائنيّ أن خالد بن عبد اللَّه قال: إن كنتم رجبيُّون فإنا رمضانيّون، ولولا أن تلك العجائب قد صحَّت عن الوليد ما جوّزتُ هذا على خالد، قال: وكتب الحُصين بن أبي الحُرِّ إلى عُمرَ كتاباً، فلحن في حرفٍ منه، فكتب إليه عمر: أن قنِّعْ كاتبَك سَوطاً، وبلغني عن كُثيِّر بن أحمد بن زُهير بن كثير بن سيَّار أنه كان ينشد بيت أبي دُلَفَ: مجزوء والرمل

ألبِسيني الدِّرع قد طـا

 

ل عن الحَرْب جَمَامي

فسألتُه عن ذلك فحلف أنَّه إنّما قال:

ألبسيني الدِّرع قد طـا

 

ل عن الحرب جُمامي

قال اللَّه تبارك وتعالى: "وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ" محمد:30، واللحن في هذا الموضع غير اللّحن في ذلك، وكان سليمان بن عبد الملك يقول: المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارثِ يفخّم اللحن كما يفخِّم نافع بن جُبَير الإعرابِ، وقال الشاعر في نحو ذلك:

لَعمرِي لقد قَعَّبتَ حين لقيتَنا

 

وأنت بتقعيب الكلام جديرُ

وقال خلفٌ الأحمرُ:

وفَرقَعهنَّ بـتَـقْـعِـيبِـه

 

كفرقعة الرَّعدِ بين السّحابِِ

وقال الأصمعيّ: خاصمَ عيسى بن عُمر النحويّ الثقفيّ رجلاً إلى بلال بن أبي بردة، فجعل عيسى يتَتَبَّع الإعراب، وجعل الرجلُ ينظر إليه، فقال له بلال: لأن يذهب بعضُ حقِّ هذا أحبُّ إليه من تَرك الإعراب، فلا تتشاغَلْ به واقصِد لحجَّتك، وقدَّم رجلٌ من النحويّين رجلاً إلى السلطان في دَينٍ له عليه، فقال: أصلح اللَّه الأمير، لي عليه درهمانِ، فقال خصمه: لا واللّه أيُّها الأمير؛ إن هي إلاّ ثلاثة دراهم، ولكن لظهور الإعراب تركَ من حقِّه درْهماً،  قال: خاصم رجلٌ إلى الشّعبي أو إلى شُريح رجلاً فقال: إنَّ هذا باعني غلاماً فصيحاً صَبيحاً، قال: هذا محمد بن عمير بن عُطارد بن حاجب بن زُرارة، قال: مرَّ ماسَرجُويَه الطبيب، بجدّ معاذ بن سعيد بن حُميد الحميريّ، فقال: يا ما سَرجُويه، إني أجد في حلقي بَحَحاً، قال: إنه عملُ بُلْغُم، فلما جازَه قال: أنا أُحْسِنُ أن أقول بَلْغَمٌ، ولكنه كلّمني بالعربيّة فكلّمتُه بالعربيَّة، وروَى أبو الحسن أنّ الحجاج كان يقرأ: إنّا من المجرمون منتقمون، وقد زَعم رؤبةُ بن العجّاج وأبو عمرو بن العلاء، أنهما لم يريا قَرَويَّينِ أفصحَ من الحسن والحجَّاج، وغَلِط الحسن في حرفين من القرآن مثل قوله: ص والقرآنُ، والحرف الآخر: وما تنزّلَتْ به الشّياطُون، أبو الحسن قال: كان سابقٌ الأعمى يقرأ: الخالقُ البارئُ المُصَوَّرُ، فكان ابن جابان إذا لقيه قال: يا سابق، ما فعل الحرف الذي تُشرك باللَّه فيه؟ قال: وقرأ: ولا تَنْكِحُوا المشركين حتى يؤمنوا، قال ابن جابان: وإن آمنوا أيضاً لم نَنْكِحهُم، وقال مَسلمة بن عبد الملك: إني لأحبُّ أن أسأل هذا الشيخ - يعني عمرو بن مسلم - فما يمنعُني منه إلاّ لحنُه، قال: وكان أيوب السّختياني يقول: تعلّموا النّحو، فإنه جمالٌ للوضيع، وتركُه هُجنة للشَّريف، وقال عمر رضي اللَّه عنه: تعلّموا النّحو كما تَعَلَّمونَ السُّننَ والفرائض، وقال رجلٌ للحسن: يا أبي سعيد، فقال: أكَسْبُ الدّوانيقِِ شغَلك عن أن تقول يا أبا سعيد؟ قالوا: وأوّلُ لحنٍ سُمِع بالبادية: هذه عصاتي، وأوَّلُ لحنٍ سُمع بالعراق: حَيِّ عَلَى الفلاَح،