باب النوكى

قال: ومن النَّوْكَى: مالكُ بن زيد مناةَ بن تميم، الذي لما أُدخِل على امرأته فرأت ما رأت من الجَفَاءِ والجَهْل، وجَلَسَ في ناحية منقبضاً مشتمِلاً، قالت: ضع عُلْبَتَكَ، قال: يدي أحفَظُ لها، قالت: فاخلعْ نعليك، قال: رجلاي أحفَظُ لهما، قالت له: فَضَعْ شَمْلَتك، قال: ظهري أولى بها، فلمَّ رأت ذلك قامت فجلست إليه جنبه، فلمَّا شم رِيحَ الطِّيب وثبَ عليها، ومن المجانين والمُوسوِسين والنَّوكى: ابن قَنَانٍ، وصَبَّاح المُوسوس، ودِيسِيموس اليونانيّ، وأبو حَيَّة النُّمَيْريِِ، وأبو يس الحاسب، وجُعيفران الشاعرِ، وجَرَنْفَشٌ، ومنهم سارية الليل، ومنهم رَيْطة بنت كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّة، وهي التي نَقَضت غَزْلَها أنكاثاً، فضرب اللَّه تباركَ وتعالى بها المَثل، وهي التي قيل لها: خرقاءُ وجدت صُوفاً، ومنهم: دُغَةُِ، وجَهيزةُِ، وشَوْلةُِ، ودُرَّاعَةُ القُدَيد المَعدّيّة، ولكلّ واحدٍ من هؤلاء قصَّة سنذكرها في موضعها، إن شاء اللَّه، فأمّا ديسيموس فكان من مُوسوسي اليونانيّين، قال له قائل: ما بال ديسيموس يعلِّم الناسَ الشّعر ولا يستطيع قولَه؟ قال: مَثلُه مثَل المِسَنّ الذي يَشْحَذ ولا يقطع، ورآه رجلٌ وهو يأكل في السُّوق فقال: ما بال ديسيموس يأكل في السّوق؟ فقال: إذا جاع في السّوق أكلَ في السُّوق، وألَحّ عليه رجلٌ بالشّتيمة وهو ساكت فقيل له: أيشتُمك مثلُ هذا وأنت ساكت؟ فقال: أرأيتَ إن نَبَحَكَ كلبٌ أتنبحه، وإنْ رمَحك حمار أترمَحُه؟، وكان إذا خرج مع الفجر يريد الفرات ألقى في دُوَّارة بابه حَجراً، حتّى لا يُعانِيَ دفَع بابه إذا رجَع، وكان كلّما رجَع إلى بابه وجد الحجر مرفوعاً والبابَ منصفقاً، فعلم أنَّ أحداً يأخذ الحجر من مكانه، فكمَن لصاحبه يوماً، فلمّا رآه قد أخذ الحجر قال: ما لك تأخذُ ما ليس لك؟ قال: لم أعلم أنه لك، قال: فقد علمتَ أنّه ليس لك، وأمَّا جُعيفران الموسوِس الشاعر، فشهدتُ رجلاً أعطاه درهماً وقال له: قل شِعْراً على الجيم، فأنشأ يقول: مجزوء الخفيف

عادني الهمُّ فاعتلـجْ

 

كُلُّ هَمٍّ إلى فَـرَجْ

سَلِّ عنك الهمومَ بالكأ

 

س وبالرَّاحِ تنفرجْ

وهي أبياتِ، وكان يتشيَّعُ، فقال له قائلٌ: أتشتُم فاطمةَ وتأخذ درهماً؟ قال: لا، بل أشتم عائشة وآخذُ نِصفَ درهم، وهو الذي يقول: من المجتث

ما جعفـرٌ لأبـيهِ

 

ولا له بشـبـيهِ

أضحى لقوم كثيرٍ

 

فكلهُـم يَدَّعـيهِ

فذا يقول بُـنَـيّ

 

وذا يخاصمُ فـيهِ

والأمُّ تضحكُ منهمْ

 

لعلمهـا بـأبـيهِ

وهو الذي يقوم في قول لاطَةٍ: من المنسرح

كأنَّهمْ والأيور عـامِـدَةٌ

 

صَيَاقِلٌ في جِلايَةِ النُّصُلِ

وأما أبو يس الحاسب فإنَّ عقلَه ذهب بسبب تفكُّره في مسألة، فلما جُنَّ كان يهذي بأنَّه سيصير مَلِكاً وقد أُلْهِمَ ما يحدُث في الدُّنيا من الملاحم، وكان أبو نواس والرَّقاشيُّ يقولان على لسانه أشعاراً، على مذاهب أشعار ابن عَقْب اللّيثي، ويُرَوّيانها أبا يس، فإذا حفظها لم يَشُكّ أنَّه الذي قالها، فمن تلك الأشعار قول أبو نواس: من الرمل

مَنع الـنَّـومَ ادّكـارى زمـنـاً

 

ذا تـهـاويلَ وأشـياءَ نُـكُـرْ

واعتراكُ الرُّوم في مـعـمـعةٍ

 

ليس فيها لجبـانٍ مـن مَـقَـرْ

كائناتُ ليس عنـهـا مـذهـبٌ

 

خَطَّها يُوشَع في كُتْبِ الـزُّبُـرْ

وعلاماتٌ سـتـأتـي قَـبـلـه

 

جمَّةٌ أوَّلُها سَـكْـرُ الـنَّـهَـرِْ

ويليهـم رجـلٌ مـن هـاشـم

 

أقنَصُ النَّاسِ جميعاً للـحُـمُـرْ

يبتني في الصَّحن من مسجدهـم

 

للمصلِّين من الشمـس سُـتُـرْ

ورَجاءٌ يبـتـنـي مِـطْـهـرةً

 

ضخمةً في وسطها طَسْتُ صُفُرِ

فهُناكمْ حين يفـشُـو أمـركـم

 

وهُناكُمْ ينزل الأمرُ الـنُّـكُـرْ

فاتْبعوه حيثُ مـا سـارَ بـكـم

 

أيُّها الناس وإن طالَ الـسَّـفَـرْ

ودَعُوا، باللَّه، أن تَـهـزَوْا بـه

 

لَعَن الرّحمنُ مَن مِنه سَـخِـرْ

والبَصريُّون يزعمون أن أبا يس كان أحسَبَ الناس وأما أبوحيّة النُّميريّ فإنه كان أجنَّ من جُعيفران، وكان أشعَرَ الناس، وهو الذي يقول:

ألاَ حيِّ أطلالَ الرّسوم البواليا

 

لبِسن البِلَى ممّا لَبِسْنَ اللَّياليا

وفي هذه القصيدة يقول:

إذا ما تقاضَى المرءَ يومٌ وليلةٌ

 

تقاضاه شيءٌ لا يملُّ التقاضيا

وهو الذي يقول:

فأرخت قِناعاً دونَه الشَّمسُ واتّقتْ

 

بأحسنِ موصولينِ: كفٍّ ومِعصَمِِ

وحدَّثني أبو المنجوف قال: قال أبو حيّة: عَنَّ لي ظبيٌّ فرميته، فراغ عن سهمي، فعارضَه واللَّه السهمُ، ثمّ راغ فراوغَه حتّى صرعه ببعض الخَبَارات، وقال: رميتُ واللَّه ظبيةً، فلمّا نفَذ السّهم ذكرتُ بالظبية حبيبةً لي، فشددتُ وراء السّهم حتّى قبضت على قُذَذهِ، وكان يكلِّم العُمَّار، ويخبر عن مفاوضته للجنِّ، وأما جَرْنَفشٌ فإنّه لما خلع الفرزدقُ لجامَ بغلته، وأدنى رأسَها من الماء، قال له جَرَنْفَش: نحِّ بغْلتَك حلَقَ اللَّه ساقَيك قال: ولِمَ عافاك اللَّه؟ قال: لأنّك كذوب الحنجرة، زاني الكَمَرةِ، قال أبو الحسن: وبلغني أنّ الفرزدق لما أن قال له الجَرَنفشُ ما قال نادى: يا بني سَدوس، فلما اجتمعوا إليه قال: سوّدوا الجرنفشَ عليكم؛ فإنِّي لم أر فيكم أعقلَ منه، ومن مجانين الكوفة: عيناوة، وطاق البصل، حدّثني صديقٌ لي قال: قلت لعيناوة: أيُّما أجنُّ، أنت أو طاق البصل؟ قال: أنا شيء وطاق البصل شيء ومن مجانين الكوفة: بُهلول، وكان يتشيَّع، فقال له إسحاق بن الصَّبّاح: أكثر اللَّه في الشّيعة مثلك، قال: بل أكثر اللَّه في المرجئة مثلي، وأكثَرَ في الشِّيعة مثلك، وكان جيّد القفا، فربّما مرَّ به من يحبُّ العبث فيَقفِده، فَحَشا قفاه خِراء، وجلَس على قارعة الطريق فكلَّما قَفده إنسانٌ تركه حتّى يجوزَ، ثم يَصيح به: يا فتَى، شُمّ يدَك فلم يَعُدْ بعدها أحدٌ يقفده، وكان يغنِّي بقيراط ويسكت بدانَق، وكانت بالكوفة امرأةٌ رعناءُ يقال لها مُجيبة، فقفد بُهلولاً فتىً كانت مجيبةُ أرضعته، فقال له بُهلول: كيف لا تكون أرعن وقد أرضعتك مُجيبة؟ فواللَّه لقد كانت تزُقُّ لي الفَرخَ فأرى الرُّعونةَ في طيرانه،  قال: وحدّثني حُجر بن عبد الجبَّار قال: مرَّ مُوسى بن أبي الرَّوْقاء فناداه صَبَّاح الموسوس: يا ابن أبي الرَّوقاء أسمَنْتَ بِرذَونَك، وأهزلت دينَك، أمَا واللَّه إنّ أمامَك لَعقبةً لا يجاوزُها إلاّ المُخِفُّ فحبس موسى بروذنه وقال: مَن هذا؟ فقيل له: هذا صَبَّاحٌ الموسوِس، فقال: ما هو بموسوِس، هذا نذير، قال أبو الحسن: دعا بعضُ السلاطين مجنونَينِ ليحرِّكَهما فيضحكَ ممّا يجيء منهما، فلما أسمعاه وأسمعهما غضِب ودعا بالسيف، فقال أحدُهُما لصاحبه: كنَّا مجنونَين فصرنا ثلاثة، وقال عمر بن عثمان: شيَّعت عبد العزيز بن المُطّلب المخزوميّ وهو قاضي مكةَ، إلى منزله، وبباب المسجد مجنونةٌ تصفّق وتقول:

أرّق عَينيَّ ضُراطُ القاضـي

 

هذا المقيم ليس ذاك الماضي

فقال: يا أبا حفص، أتُراها تعني قاضيَ مكة؟ قال: وتَذاكرُوا اللََّثغ فقال قوم: أحْسَنُ اللَثغ ما كان على السِّين، وهو أن تصير ثاء، وقال آخرون: على الرّاء، وهو أن تصير غَيناً، فقال مجنون البكَراتِ: أنا أيضاً ألثغُ، إذا أردتُ أن أقول شَريط قلت: رَشيط، قال: وبعث عُبيد اللَّه بن مروان، عمُّ الوليد، إلى الوليد بقطيفةٍ حمراءَ، وكتب إليه: إنِّي بعثتُ إليك بقطيفةٍ حمراء حمراء، فكتب إليه الوليد: قد وصلتْ إليَّ القطيفةُ، وأنت يا عَمُّ أحمقُ أحمق، وقال محمد بن بلال لوكيله دَبَّة: اشتر لي طيباً سيرافيّاً، قال: تريده سيرافي، أو سيرافي سيرافي؟ وقال محمد بن الجهم للمكِّيِّ: إني أراك مستبصراً في اعتقاد الجزء الذي لا يتجزأ، فينبغي أن يكون عندك حَقّاً حَقّاً، قال: أمَّا أن يكون عندي حَقّاً حَقّاً فلا، ولكنه عندي حقّ، ودخل أبو طالبٍ، صاحبُ الطَّعام، على هاشميّةَ جاريةِ حَمدونةَ بنتِ الرَّشيد، على أن يشتري طعاماً من طعامها في بعض البيادر، فقال لها: إنِّي قد رأيتُ متاعَكِ، قالت هاشميّةُ: قل طعامَكِ، قال: وقد أدخلتُ يدي فيه، فإذا متاعُك قد خَمَّ وحَمِيَ وقد صار مثل الجِيفَة، قالت: يا أبا طالب، ألستَ قلَّبت الشَّعير، فأعطنا ما شئت وإن وجدته فاسداً، ودخل أَبوطالبٍ على المأمون فقال:كان أبوكَ يا أبا، خيراً لنا منك، وأنت يا أبا، ليس تعدنا ولا تبعثُ إلينا، ونحن يا أبا، تِجَارك وجِيرانُك، والمأمونُ في كلِّ ذلك يتبسَّم، وقيل للمثنّى بن يزيد بن عمر بن هبيرة، وهو على اليمامة: إنّ ها هنا مجنوناً له نوادرُ، فأتوه به فقال: ما هجاء النَّشّاش؟ فقال: الفَلَج العادِيُّ، فغضب ابنُ هبيرةَ وقال: ما جئتموني به إلاّ عمداً، ما هذا بمجنون، والنَّشّاش: يومٌ كان لقَيس على حنيفة، والفَلَج: يومٌ كان لحنيفة على قيسِ، وأنشدوا:

ترى القومَ أسواءً إذا جلسوا مـعـاً

 

وفي القوم زَيفٌ مثلُ زيف الدَّراهمِ

وقال:

فتىً زاده عزُّ المهابة ذِلَّةً

 

وكلُّ عزيزٍ عنده متواضعُ

وقال:

قد ينفع الأدبُ الأحداثَ في مَهَلٍ

 

وليس ينفع بَعدَ الكَبْـرةِ الأدبُ

إن الغُصُونَ إذا قَوّمتَها اعتدلت

 

ولن تلينَ إذا قوَّمتها الخُـشُـبِ