باب من الشعر فيه تشبيه الشيء بالشيء

قال الشاعر:

بدا البرقُ مِن نحو الحجاز فشاقني

 

وكلُّ حِجازيّ له البـرقُ شـائِقُ

سَرى مِثلَ نبْضِ العِرْق والليل دونه

 

وأعلام أُبْلَى كلُّـهـا والأسـالـقُ

وقال آخر:

أرِقتُ لبرقٍ آخرَ الـلّـيلِ يلـمـعُ

 

سَرَى دائباً حيناً يَهُـبُّ ويهـجـعُ

سرى كاحتساءِ الطَّيرِ والليلُ ضاربٌ

 

بأرواقِه والصُّبحُ قد كاد يسـطـعُ

حدثني إبراهيم بن السّنديّ عن أبيه قال: دخل شابٌّ من بني هاشم على المنصور، فسأله عن وفاة أبيه فقال: مَرِض أبي رضي اللَّه عنه يوم كذا، ومات رضي اللَّه عنه يوم كذا، وترك رضي اللَّه عنه من المال كذا، ومن الولَد كذا، فانتهره الرَّبيعُ وقال: بين يَدَيْ أميرِ المؤمنين تُوالي بالدُّعاء لأبيك؟ فقال الشَّابُّ: لا ألومك؛ لأنك لم تعرِفْ حلاوةَ الآباء، فما علمنا أنَّ المنصور ضحك في مجلسه ضحكاً قطُّ فافترَّ عن نواجِذِه إلاّ يومئذ،وحدثني إبراهيم بن السِّنْديّ عن أبيه قال: دخل شابٌّ من بني هاشم على المنصور، فاستجلسه ذات يومٍ ودعا بغدَائه، فقال للفتى: ادْنُهْ، قال الفتى: قد تغدَّيتُ يا أمير المؤمنين، فكفَّ عنه الربيع حتى ظنَّنا أنه لم يَفْطِنْ لخطابه، فلمَّا نَهَض إلى الخروج أَمهلَه، فلمّا كان من وراءِ السِّتر دفع في قفاه، فلما رأى ذلك الحُجَّابُ منه دفعوا في قفاه حتَّى أخرجوه من الدّار، فدخل رجالٌ من عُمومة الفتى فشكَوا الرَّبيعَ إلى المنصور، فقال المنصور: إنّ الربيع لا يُقدِم على مثل هذا إلا وفي يَدَيْه حُجَّة، فإن شئتمْ أغضيتم على ما فيها، وإن شئتمْ سألتُه وأتم تسمعون، قالوا: فسَلْهُ، فدعا الرَّبيعَ وقَصُّوا قصَّتَهُ، فقال الربيع: هذا الفتى كان يسلِّم من بعيدٍ وينصرف، فاستدناه أمير المؤمنين حتى سلّم عليه من قريب ثم أمره بالجلوس، ثم تبذّل بين يديه وأكل، ثم دعاه إلى طعامه ليأكل معه من مائدته، فبلغ من جهله بفضيلة المرتبة التي صَيَّرَهُ فيها أن قال حين دعاه إلى غدَائه: قد تغدّيت فإذا ليس عندَه لمن تَغدَّى مع أمير المؤمنين إلاّ سَدُّ خَلّة الجوع، ومثل هذا لا يقوِّمُه القَولُ دون الفعل، وحدثنا إبراهيمُ بن السِّنديِّ عن أبيه قال: واللَّه إني لَواقفٌ على رأس الرَّشيد، والفَضْلُ بن الربيع واقف في الجانب الآخر والحسن اللؤلؤيُّ يحدِّثه ويسائله عن أمور، وكان آخر ما سأله عن بيع أُمّهات الأولاد، فلولا أنِّي ذكرتُ أنّ سلطان ما وراء السِّتر للحاجب، وسلطانَ الدّار لصاحب الحَرَس، وأنّ سلطاني إنما هو على من خرج من حُدود الدَّار، لقد كنت أخذتُ بضَبْعه وأقمتُه، فلمَّا صِرْنا وراءَ السّتْر قلت له والفضل يسمع: أمَا واللَّه لوكان هذا منك في مسايرةٍ أو موقفٍ لعلمتُ أن للخلافة رجالاً يصونونها عن مجلسك، وحدَّثني إبرهيم بن السندي قال: بينا الحسنُ اللؤلؤي في بعض الليالي بالرَّقَّة يحدّث المأمون والمأمون يومئذ أمير، إذْ نَعَس المأمون، فقال له اللؤلؤيّ: نمتَ أيُّها الأمير؟ ففتح المأمونُ عينيه وقال: سوقيٌّ واللَّه، خُذْ يا غلامُ بيده، قال: وكُنَّا يوماً عند زياد بن محمد بن منصور بن زياد، وقد هَيّأ لنا الفضلُ بن محمد طعاماً، ومعنا في المجلس خادم كان لأبيهم، فجاء رسول الفضل إلى زيادٍ فقال: يقول لك أخُوك: قد أدرك طعامُنا فتحوَّلوا، ومعنا في المجلس إبراهيم النّظَّام، وأحمدُ بن يوسف، وقُطرُبٌ النحوي، في رجالٍ من أُدَباء الناس وعلمائهم، فما مِنَّا أحدٌ فطِنَ لخطأ الرسول، فأقبل عليهم مبشِّرٌ الخادم، فقال: يا ابن اللَّخْناء، تقِفُ على رأس سيِّدك فتستفتح الكلام كما تستفتحه لرجلٍ من عُرْض النّاس، ألا تقول: يا سيدي، يقول لك أخوك: ترى أن تصيرَ إلينا بإخوانك فقد تهيَّأَ أمرُنا؟ وابتعت خادماً كان قد خدم أهل الثروة واليسار وأشباهَ الملوك، فمرَّ به خادم من معارفه ممن قد خدَمَ الملوك فقال له: إن الأديب وإن لم يكن ملكاً فقد يجب على الخادم أن يخدُمه خِدمةَ الملوك، فانظر أن تخدُمه خدِمَةً تامة، قلت له: وما الخدمة التّامة؟ قال: الخدمة التامة أن تقوم في دارك لبعض الأمر وبينك وبين النَّعل مَمْشَى خَمْس خُطاً فلا يدعَك أن تمشيَ إليها، ولكن يأخْذها ويُدنيها منك، ومَن كان يضع النَّعْلَ اليُسرىَ قُدَّامَ الرِّجل اليمنى فلا ينبغي لمثل هذا أن يدخلَ على دار مَلك ولا أديب، ومن الخدمة التّامّة أن يكون إذا رأى مُتَّكَأً يحتاج إلى مخَدَّةٍ ألاَّ ينتظر أمرَك، ويتعاهدَ لِيقةَ الدَّواة قبل أن تأمرَ أن يصبَّ فيه ماءَ أو سواداً، وينفُضَ عنه الغُبارَ قَبْلَ أنْ يأتيَك به، وإنْ رأى بين يديك قرطاساً على طَيِّه قطع رأسَه ووضَعَه بين يديك على كَسْرهِ، وأشباهُ ذلك، قال: ولمّا كلّم عُروة بن مسعودٍ الثَّقفي، رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، كان في ذلك ربّما مَسَّ لحيةَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له المغيرةُ بن شُعبة نحّ يدَك عن لحية رسول اللَّه عليه السلام قبل ألاّ ترجع إليك يدُك، فقال عروة: يا غُدَرُ هل غَسلتُ رأسَك من غَدْرتِك إلاّ بالأمس؟،قال: ونادى رجالٌ من وفد بني تميمٍ النبيّ صلى الله عليه وسلم باسمه من وراء الحجرات، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى في ذلك: "إنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أكثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ" الحجرات:4، وقال اللَّه جلّ ذِكْرُه: "لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكم كدُعاءِ بَعْضِكم بَعْضاً" النور: 63، وقال ابن هَرْمَةَ أو غيره:

للَّه دَرُّ سَمَيْدَعٍ فَجَعَـتْ بـه

 

يومَ البَقِـيع حـوادثُ الأيّامِ

هشٌّ إذا نزل الوفودُ ببابـه

 

سهلُ الحجابِ مؤدَّبُ الخُدّامِ

فإذا رأيت صديقَه وشقيقَـه

 

لم تدر أيُّهما أخو الأرحـامِ

قال أبو الحسن: بينا هشامٌ يسير ومعه أعرابيٌّ إذِ انتهى إلى مِيل عليه كتاب، فقال للأعرابي: انظُرْ أيُّ ميلٍ هذا فنظر ثم رجع إليه، فقال: عليه مِحْجَنٌ وحَلْقَةٌ، وثلاثة كأطباء الكَلْبة، ورأسٌ كأنه رأس قطاةٍ، فعرفه هشامٌ بصورة الهجاء ولم يعرفه الأعرابيُّ، وكان عليه خَمْسَة، نوادر الأعراب استشهدوا أعرابيّاً على رجلٍ وامرأة، فقال: رأيته قد تَقَمَّصها، يحفزُها بمؤخَّره، ويجذبها بمقدَّمه، وخفِيَ عليَّ المسلك، وقال آخر: رأيتُه قد تبطَّنَها، ورأيتُ خَلخالاً شائلاً، وسمعت نَفَساً عالياً، ولا علمِ لي بشيءٍ بَعْدُ، وقال أعرابيٌّ: رأيت هذا قد تناوَل حَجَراً فالتفَّ بهذا، وحجَزَ النّاسُ بينهما، وإذا هذا يستدمِي، وقال بعضهم: الشيب نذير الآخرة، وقال قيس بن عاصم: الشيب خِطام المنيَّة وقال آخر: الشّيب توْءَم الموت، وقال الحكيم: شيب الشَّعَر موتُ الشَّعَر، وموت الشَّعَر عِلَّة موت البَشَر، وقال المعتمِر بن سُليمان: الشّيب أوَّلُ مراحل الموت، وقال السَّهميّ: الشيب تمهيد الحِمَام، وقال العَتّابيّ: الشيب تاريخ الكِتاب، وقال النَّمريّ: الشيب عنوان الكِبَر، وقال عديُّ بن زيدٍ العِباديُّ: من الخفيف

وابيضاضُ السَّواد من نُذُرِ المْو

 

ت وهل مثلُه لـحـيٍّ نَـذيرُ

وقال الآخر: من الخفيف

أصبح الشَّيْب في المفارق شاعا

 

واكتسَى الرَّأسُ من بياضٍ قِناعا

ثمّ ولّى الشـبـاب إلاّ قـلـيلاً

 

ثم يأبى القـلـيلُ إلاّ نِـزَاعـا

قال: وقال رجلٌ لأشعبَ: ما شكرتَ معروفي عندك، قال: لأنّ معروفَك جاء من عند غير مُحْتَسِب فوقع إلَى غيرِ شاكر، وخفّفَ أشعبُ الصلاةَ مرّةً فقال له بعض أهل المسجد: خفَّفتَ صلاتَك جِدّاً، قال: لأنه لم يخالطْها رياء،