كتاب العصا

هذا أبقاك اللَّه الجزء الثالث، من القول في البيان والتبيين، وما شابَهَ ذلك من غُرَرِ الأحاديث، وشاكَلَه من عُيون الخُطب، ومن الفِقَرِ المستحسَنة، والنُّتَف المستخرَجة، والمُقَطَّعات المتخيَّرة، وبعضِ ما يجوز في ذلك من أشعار المذاكَرة، والجواباتِ المنتخَبة، ونبدأُ على اسم اللَّه بذكر مذهب الشعوبية ومن يتحلَّى باسم التَّسويَة وبمطاعِنهم على خطباء العرب: بأخذ المِخصَرَةِ عند مناقَلَة الكلام، ومساجَلة الخصومِ بالموزون والمُقَفَّى، والمنثور الذي لم يُقَفَّ، وبالأرجاز عند المَتْح، وعند مُجاثاة الخَصْم، وساعَة المشاوَلَة، وفي نفس المجادَلة والمحاوَرة، وكذلك الأسجاعُ عند المنافرة والمفاخرة، واستعمال المنثور في خُطَب الحَمَالَة، وفي مقامات الصُّلح وسَلِّ السخيمة، والقولُ عند المعاقَدِة والمعاهَدة، وتركُ اللّفظ يَجري على سجيَّته وعلى سلامته، حتَّى يخرجَ على غير صنعة ولا اجتلاب تأليف، ولا التماسِ قافية، ولا تكلّفٍ لوزنٍ، مع الذي عابُوا من الإشارة بالعِصيّ، والاتّكاء على أطراف القِسِيّ، وخدِّ وجه الأرض بها، واعتمادها عليها إذا اسحَنفرت في كلامها، وافتنَّتْ يومَ الحفْل في مذاهبها، ولزومِهم العمائم في أيام الجُموع، وأخْذِ المخاصر في كلِّ حال، وجلوسِها في خطب النّكاح، وقيامِها في خطب الصُّلْح وكلِّ ما دخل في باب الحَمَالة، وأكّد شأن المحالفةِ، وحقّق حُرمةَ المجاورة، وخُطَبِهم على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكِبار، والتّماسُحِ بالأكُفّ، والتّحالف على النار والتعاقُد على المِلح، وأخذ العهد الموكَّد واليمين الغَمُوسِ مثل قولهم: ما سَرَى نجمٌ وهبّت ريح، وبلّ بَحْرٌ صوفةً، وخالفت جِرّةٌ دِرَّةً، ولذلك قال الحارث بن حِلِّزة اليشكريّ: من الخفيف

واذكروا حِلفَ ذي المجاز وما قُ

 

دِّمَ فيه: العهـود والـكُـفـلاءُ

حذَر الخَوْن والتعدِّي وهـل تَـنْ

 

قُصُ ما في المَهارِق الأهـواءُ

الخَون: الخيانة، ويروى: الجور، وقال أوس بن حَجَر:

إذا استقبلته الشَّمسُ صَدَّ بوجهِهِ

 

كما صَدّ عن نار المُهوِّل حَالِفُ

وقال الكُميْت:

كَهُولَةِ ما أوقد المُحلِفُونَ

 

لدى الحالِفينَ وما هَوَّلُوا

وقال الأوَّلُ: من المنسرح

حلَفْتُ بالمِلح والرَّماد وبالن

 

نَّار وبالله نسْلِمُ الحَـلَـقَـهْ

حَتَّى يظَلَّ الجَوادُ منعفِـراً

 

ويَخْضِبَ النَّبْلُ غُرَّة الدَّرَقَهْ

وقال الأوّل:

حَلفتُ لهم بالمِلح والجَمعُ شُهَّدٌ

 

وبالنار واللاتِ التي أعظـمُ

وقال الحُطَيئة في إضجاع القِسِيّ:

أم من لخَصمٍ مُضْجعين قِسِيَّهم

 

صُعرٍ خُدُودُهُم عظامِ المفخَرِ

وقال لبيدٌ في خَدِّ وجه الأرض بالعصيّ والقسِيّ:

نَشِينُ صِحَاحَ البِيدِ كلَّ عشِـيَّةٍ

 

بعُوج السَّراء عند باب مُحجَّبِ

ومثله:

إذا اقتسم الناس فضلَ الفخـار

 

أطلنا على الأرض ميلَ العَصَا

ومثله:

حكَمَتْ لنا في الأرض يومَ مُحرِّقٍ

 

أيَّامُنا في الناس حُكماً فـيصَـلا

وقال لبيد بن ربيعة في ذكر القسيّ:

ما إنْ أهابُ إذا السُّرادِق غَمَّهُ

 

قَرعُ القِسِيّ وأُرْعِشَ الرِّعْديدُ

وقال كثَيِّر في الإسلام:

إذا فَرعوا المنابر ثم خَـطُّـوا

 

بأطراف المَخاصرِ كالغِضاب

وقال أبو عبيدة: سأل معاوية شيخاً من بقايا العرب: أي العرب رأيتَه أضخمَ شأناً؟ قال: حِصن بن حُذيفة، رأيته متوكِّئاً على قوسه يَقْسِم في الحليفين أَسدٍ وغَطَفَان، وقال لبيد بن ربيعة في الإشارة:

غُلْبٍ تَشَذَّرُ بالذُّحُولِ كأنّها

 

جِنُّ البَدِيِّ رواسياً أقدامُها

وقال مَعْنُ بن أوْسٍ المَزنيّ:

ألا مَن مُبْلغٌ عنّي رسولاً

 

عُبيدَ اللَّه إذ عَجِلَ الرِّسَالاَ

تُعاقِلُ دوننا أبناءَ ثَورٍ ونح

 

ن الأكثرون حَصىً ومَالا

إذا اجتمع القبائلُ جئتَ رِدفـاً

 

وراءَ الماسحِينَ لكَ السِّبـالا

فلا تُعطَى عَصَا الخُطباء يوماً

 

وقد تُكفَى المقادَةَ والمَقَـالاَ

فذكر عصا الخطباء كما ترى، وقال آخرُ في حمل القناة:

إلى امرئٍ لا تَخَطّاه الرِّفـاق، ولا

 

جَدْبُ الخِوانِ إذا ما استُنشِئَ المرقُ

صَلْبُ الحيازيمِ لا هَذْرُ الكـلامِ إذا

 

هَزَّ القناة ولا مُستعـجِـلٌ زَعِـقُ

وقال جرير بن الخَطَفي في حمل القناة:

مَن للقناة إذا ماعيَّ قائلُـهـا

 

أو للأعنَّة يا عمروَ بنَ عَمّارِ

قالوا: وهذا مثل قول أبي المجيب الرَّبعَي، حيث يقول: لا تزال تحفظ أخاك حتَّى يأخذَ القناة، فعند ذلك يَفضَحك أو يمدحُك، يقول: إذا قام يخطب فقد قام المَقامَ الذي لا بد من أن يخرج منه مذموماً أو محموداً، وقال عبد اللَّه بن رؤبة: سأل رجلٌ رؤبةَ عن أخطب بني تميم، فقال: خداش ابن لبيد بن بَيبة بن خالد، يعني البعيثَ الشاعر، وإنّما قيل له البَعيثُ لقوله: تبعَّثَ مني ما تبعَّثَ بعد ما أمِرّت حبالي كُلَّ مِرّتهَا شزْرَا قال أبو اليقظان: كانوا يقولون: أخطب بني تميم البَعيثُ إذا أخذ القناة فهزّها ثمَّ اعتمد بها على الأرض، ثمَّ رفَعَها، وقال يونس: لعمري لئن كان مُغلَّباً في الشعر لقد كان غُلِّب في الخُطَب، وإذا قالوا غُلِّب فهو الغالب، وإذا قالوا مغلَّبٌ فهو المغلوب، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاء إلى البَقيع، ومعه مِخْصَرَةٌ، فجلس ونكَتَ بها الأرض، ثمّ رفع رأسَه فقال: ما مِنْ نفْس منفُوسةٍ إلاّ وقد كُتِبَ مكانُها من الجَنَّةِ أو النار، وهو من حديث أبي عبد الرحمن السُّلَميّ، ومِمّا يدلُّك على استحسانهم شأنَ المِخصرة حديثُ عبد اللَّه بن أُنَيْس ذي المِخْصَرةِ، وهو صاحب ليلةِ الجُهَنيّ، وكان النبي عليه السلام أعطاه مِخصرةً وقال: تَلْقَاني بها في الجنة، وهو مهاجريّ عَقَبيٌّ أنصاريّ، وهو ذو المخصرة في الجنّة، قالت الشُّعوبيَّة ومَن يتعصَّب للعَجمية، القضيب للإيقاع، والقناة للبَقّار، والعصا للقِتال، والقوس للرَّمْي، وليس بين الكلام وبين العصا سبَب، ولا بينَه وبين القوس نَسَب، وهما إلى أن يَشغْلا العقل ويَصرِفا الخواطر، ويعترضا على الذِّهْن أشبَهُ؛ وليس في حَملِهما ما يشحذ الذِّهْن، ولا في الإشارة بهما ما يجلب اللَّفْظ، وقد زعم أصحابُ الغِناء أن المغنِّيَ إذا ضُرِب على غِنائه، قصَّرَ عن المغنّي الذي لا يُضربَ على غنائه، وحَمْلُ العصا بأخلاق الفدّادين أشبه، وهو بجَفاءِ العرب وعُنجُهيَّة أهلِ البدو، ومزاوَلَةِ إقامة الإبل على الطُّرق أشكل، وبه أشْبَه، قالوا: والخطابة شيءٌ في جميع الأمم، وبكلِّ الأجيال إليه أعظم الحاجة، حتَّى إنّ الزِّنْج مع الغَثَارة، ومع فرط الغَباوة، ومع كلال الحَدّ وغِلَظ الحسّ وفساد المزاج، لتُطيل الخُطَبَ، وتفوق في ذلك جميعَ العجم، وإن كانت معانيها أجفى وأغلظ، وألفاظُها أخْطَلَ وأجهل، وقد علمْنا أنّ أخطبَ النَّاسِ الفرس وأخطبَ الفرس أهل فارس، وأعذبَهم كلاماً وأسهلهم مخرجاً وأَحسنهم دَلاّ وأشدَّهم فيه تحكماً، أهلُ مرو، وأفصحَهم بالفارسية الدَّرِيَّةِ، وباللغة الفَهْلَويّة، أهلُ قصبة الأهواز، فأمّا نَغْمةُ الهَرابذة، ولغةُ المَوَابذة، فلصاحب تفسير الزَّمزمة، قالوا: ومَن أحبَّ أن يبلُغ في صناعة البلاغة، ويعرفَ الغريب، ويتبحَّرَ في اللغة، فليقرأ كتاب كارْوَنْد، ومَن احتاج إلى العقل والأدب، والعلم بالمراتب والعِبَر والمَثُلات، والألفاظ الكريمة، والمعاني الشريفة، فلينظُرْ في سِيَر الملوك، فهذه الفرسُ ورسائُلها وخطبها، وألفاظُها ومعانيها، وهذه يُونان ورسائلُها وخطبُها، وعِلَلُها وحِكَمُها؛ وهذه كتُبها في المنطق التي قد جعلتها الحكماءُ بها تعرف السَّقَم من الصِّحّة، والخطأَ من الصَّواب؛ وهذه كتبُ الهندِ في حِكَمها وأسرارها، وسِيَرها وعللها، فمن قرأ هذه الكتبَ، وعرفَ غورَ تلك العقول، وغرائبَ تلك الحِكَم، عرف أين البيانُ والبلاغة، وأين تكاملَتْ تلك الصِّناعة، فكيف سَقَط على جميع الأُمَم من المعروفين بتدقيق المعاني، وتخيّر الألفاظ، وتمييز الأمور، أن يشيروا بالقَنا والعِصيّ، والقُضبان والقِسيّ، كلاّ، ولكنكم كنتم رعاةً بين الإبل والغنم، فحملتم القنا في الحضَر بفضل عادتكم لحملها في السَّفَر، وحملتموها في المدر بفَضْل عادتكم لحملها في الوبَر، وحملتموها في السَِّلم بفضْل عادتكم لحملها في الحرب، ولطُول اعتيادكم لمخاطبة الإبل، جفا كلامُكم، وغلُظت مخارجُ أصواتكم، حتَّى كأنّكم إذا كلّمتم الجلساء إنّما تخاطِبون الصُّمَّان، وإنما كان جُلُّ قتالِكم بالعصيّ، ولذلك فخر الأعشى على سائر العرب فقال: مجزوء الكامل

لسنا نُقاتِل بـالـعـصِ

 

يِّ ولا نُرامِي بالحجارة

إلاّ عُـلاَلَة أو بُـــدا

 

هةَ قارحٍ نهِد الجُزاره

وقال آخر:

فإن تمنعوا منا السِّلاحَ فعندنـا

 

سلاحٌ لنا لا يُشترى بالدراهِم

جنادلُ أملاءُ الأكُفّ كأنّـهـا

 

رؤُوس رجال حُلِّقَت بالمواسِم

وقال جندل الطُّهوِيُّ:

حتى إذا دارت رحىً لا تجري

 

صاحت عصيٌّ من قناً وسِدْرِ

وقال آخر:

دعا ابنُ مطيعٍ للبِـياعِ فـجـئْتُـه

 

إلى بَيعةٍ قلبي لهـا غـيرُ آلـفِ

فناوَلَني خَشْنَاءَ لمَّا لـمـسـتـهـا

 

بكَفِّيَ ليست من أكُفِّ الـخـلائِف

من الشَّثَنَاتِ الكُزْم أنكرتُ مَسَّـهـا

 

وليست من البيض الرِّقاق اللطائفِ

معاودَةً حملُ الهَرَاوَى لقـومِـهـا

 

فَروراً إذا ما كان يومُ التّـسـايُفِ

وقال آخر:

ما لِلفرزدق من عزٍّ يلوذ بـه

 

إلاّ بني العَمّ في أيديهم الخَشَبُ

قالوا: وإنما كانت رماحكم من مُرّان، وأسنّتكم من قُرون البقر، وكنتم تركبون الخيل في الحرب أعراء، فإنْ كان الفَرَس ذا سرجٍ فسَرجه رِحالةٌ من أَدَمٍ، ولم يكن ذا ركابٍ، والرِّكاب من أجود آلات الطاعن برُمحه، والضاربِ بسيفه، وربما قام فيهما أو اعتمد عليهما، وكان فارسُهم يطْعُن بالقناة الصَّمَّاء، وقد علمنا أن الجوفاء أخفُّ مَحملاً، وأشدُّ طعنةً، ويفخرون بطُول القناة ولا يعرفون الطّعن بالمطارِد، وإنما القنا الطِّوال للرّجّالة، والقصارُ للفُرْسان، والمطارد لصَيد الوحش، ويفخَرون بطُول الرُّمح وقِصَر السَّيف، فلو كان المفتخر بقِصَر السيف الرّاجلَ دون الفارس، لكان الفارس يفخر بطول السيف، وإن كان الطول في الرُّمح إنّما صار صواباً لأنه يُنال به البعيد،و لا يفوته العدوّ، ولأن ذلك يدلُّ على شدّة أسْرِ الفارس وقوّة أيْدِهِ، فكذلك السّيف الطَّويل العريض، وكنتم تتَّخذون للقناة زُجّاً وسِناناً حين لم يقبِص الفارسُ منكم على أصل قناته، ويعتمد عند طعنته بفخذه، ويستعِنْ بحَمِيَّة فرسه، وكان أحدُكم يقبض على وسط القناة ويخلِّف منها مِثلَ ما قدّم، فإنما طعُنكم الرَّزّةُ والنَّهزةُ، والخَلْس والزَّجّ، وكنتم تتساندون في الحرب، وقد أجمعوا على أنّ الشِّرْكة رديَّةٌ في ثلاثةِ أشياء: في المُلْك، والحرْب، والزّوجة،  وكنتم لا تقاتلون باللّيل، ولا تعرفون البَيَاتَ ولا الكمين ولا الميمنة ولا الميسرة، ولا القَلب ولا الجَناح، ولا الساقَةَ ولا الطّليعة ولا النّفّاضة ولا الدّرّاجة، ولا تعرفون من آلة الحرب الرتيلة ولا العَرّادة، ولا المجانيق، ولا الدّبّابات، ولا الخنادق، ولا الحَسَك، ولا تعرفون الأقبِيَة ولا السَّراويلات، ولا تعليقَ السُّيوف، ولا الطّبولَ ولا البنود، ولا التَّجافيف، ولا الجواشن، ولا الخُوَذ، ولا السواعد ولا الأجراس، ولا الوَهَق ولا الرَّمي بالبَنْجَكان، والزَّرْق بالنِّفْطِ والنيران، وليس لكم في الحرب صاحبُ عَلَم يرجع إليه المُنْحاز، ويتذكَّره المنهزم، وقتالُكم إمَّا سَلَّةٌ وإمّا مزاحَفة، والمزاحفة على مواعد متقدِّمة، والسَّلَّةُ مُسارقةٌ وفي طريق الاستلاب والْخُلْسَة، قالوا: والدَّليل على أنّكم لم تكونوا تقاتلون قولُ العامريّ:

يا شَدَّةً ما شددنا غـيرَ كـاذبةٍ

 

على سَخينةَ لولا الليل والحَرَمُ

ويدلُّك على ذلك أيضاً قول عبد الحارث بن ضرار:

وعَمْروٌ إذْ أتانا مستمـيتـاً

 

كسونا رأسَه عَضباً صقيلا

فلولا اللّيلُ ما آبوا بشخصٍ

 

يخَبّر أهلَهم عنهم قـلـيلا

وقال أمية بن الأسكر:

ألم تَرَ أن ثعلبةَ بـن سـعـدٍ

 

غضابٌ، حَبَّذَا غَضَبُ الموالي

تركتُ مصرِّفاً لما التـقـينـا

 

صريعاً تحت أطراف العوالي

ولولا اللّيلُ لم يُفلِـتْ ضـرارٌ

 

ولا رأس الحمار أبو جُفَـالِ

قلنا: ليس فيما ذكرتم من هذه الأشعار دليلٌ على أنّ العرب لا تقاتل باللّيل، وقد يقاتل بالليل والنَّهار مَن تَحُول دون مَالِهِ المُدُنُ وهولُ اللّيل، وربَّما تحاجز الفريقان وإنّ كلَّ واحد منهم يرى البَيات، ويرى أن يقاتل إذا بَيَّتوه، وهذا كثير، والدَّليل على أنَّهم كانوا يقاتِلون باللّيل قولُ سعد بن مالك في قتل كعب بن مُزَيقيا الملك الغَسّاني:

وليلَةَ ثُبّعٍ وخَميسِ كـعـبٍ

 

أتونا، بعد ما نِمنا، دَبـيبـا

فلم نُهدَدْ لبأْسـهـمُ ولـكـنْ

 

ركبنا حَدَّ كوكبِهم رُكـوبـا

بضرب يُفلَقُ الهاماتُ منـه

 

وطعنٍ يفصل الحَلقَ الصَّليبا

وقال بشرُ بن أبي خازم:

فأمّا تميمُ تميمٌ بـن مُـرٍّ

 

فألفاهُمُ القومُ روْبًى نِيامَا

يقول: شَرِبوا الرّائب من اللبَن فسكِروا منه، وهو اللبَن الذي قد أدرك ليُمخَض، يقال منه راب يروب رَوباً رؤوباً، ورُؤْبةُ اللبن: خميرة تلقى فيه من الحامض، ورؤبة الليل: ساعةٌ منه، يقال أهرق عنّا من رؤبة الليل، وقال بعضهم: منه قول الشاعر،

فألفاهم القومُ رَوبَى نيامَا

ويقال: رَوبَى: خُثَراء الأَنْفُس مختلطون، ويقال شرِبوا من الرّائب فسكروا، وقال عياضٌ السِّيدِيُّ:

ونحن نَجلْنَا لابن ميلاءَ نحـرَهُ

 

بنَجلاءَ من بين الجوانح تشهَقُ

ويومَ بني الدَّيّانِ نالَ أخـاهـم

 

بأرماحنا بالسِّيِّ موتٌ مُحدِّقُ

ومِنَّا حُماةُ الجَيش ليلةَ أقبلـت

 

إيادٌ يزجّيها الهُمَامُ مُـحـرِّقُ

وقال آخر:

وعلى شُتَيرٍ راحَ مـنّـا رائِحٌ

 

بأبِي قَبيصة كالفَنيق المُقـرَم

يَردِي بشرحاف المَغَاورِ بعد ما

 

نشر النهار سوادَ ليل مظلـمِ

وقال عياضٌ السِّيدِيُّ:

لحِمام بِسطام بن قيسٍ بعد ما

 

جَنَحَ الظّلامُ بمثل لون العِظْلِم

وقال أوس بن حجر: من السريع

باتوا يُصيبُ القوم ضَيفَاً لهم

 

حتَّى إذا ما ليلُهم أظلـمـا

قرَوْهمُ شهَباءَ مـلـمـومةً

 

مثلَ حريق النّار أو أضْرَما

واللَّه لولا قُرزُلٌ ما نَـجـا

 

وكان مثوى خدِّك الأخْرَما

نجّاك جَيّاشٌ هـزيمٌ كـمـا

 

أحَميْتَ وسط الوبر المِيسما

وبعدُ فهل قتلَ ذُؤابٌ الأسديّ عتيبةَ بن الحارث بن شهاب إلاّ في وسط الليل الأعظم، حين تَبِعوهم فلحِقوهم، وكانوا إذا أجْمَعوا للحرب دخّنوا بالنهار، وأوقدوا بالليل، قال عمرو بن كلثوم وذكَرَ وقعةً لهم:

ونحن غداةَ أُوقِدَ في خَزَاز

 

رَفَدنَا فوقَ رَفدِ الرّافدينا

وقال خَمْخَامٌ السَّدُوسيُّ:

وإنّا بالصُّليب ببطن فَـجٍّ

 

جميعاً واضعين به لَظَانا

نُدخِّنُ بالنهار ليبصِرونـا

 

ولا نَخَفى على أحدٍ أتانا

وأمَّا قولهم: ولا يعرفون الكمين فقد قال أبو قيس بن الأسلت:

وأحرزنا المغانمَ واستَبَحنـا

 

حَمِى الأعداء واللَّهُ المعينُ

بغَير خِلاَبَةٍ وبغَيْرِ مـكـرٍ

 

مجاهرةً ولم يُخْبَأْ كمـينُ

وأما ذكرهم للرُّكُب، فقد أجمعوا على أن الرُّكُب كانت قديمة، إلاّ أنّ رُكُبَ الحديد لم تكن في العرب إلاّ في أيام الأزارقة، وكانت العرب لا تُعَوّد أنفَُسَها إذا أرادت الركوب أن تضع أرجلَها في الرُّكُب، وإنما كانت تنزو نَزْواً، وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: لا تَخورُ قوّة ما كان صاحبُها ينزو ويَنْزِع، يقول: لا تنتكث قوّتُه ما دام ينزِع في القَوس، وينزو في السَّرج من غير أن يستعين برِكاب، وقال عمر: الراحة عُقْلة، وإياكم والسِّمْنة فإنها عُقْلَة، ولهذه العلّة قُتِل خالدُ بن سعيد بن العاصي، حين غَشِيه العدوّ وأراد الرُّكوب ولم يجد من يحملُه، ولذلك قال عُمر حين رأى المهاجرين والأنصار قد أخصبوا، وهَمَّ كثيرٌ منهم بمقاربة عَيش العجم: تَمَعْدَدوا واخشَوشِنوا، واقطعوا الرُّكُب، وانزُوا على الخيل نزواً، وقال: احفَوْا وانتعلوا؛ فإنَّكم لا تَدْرون متى تكون الْجَفلة، وكانت العرب لا تدَعُ اتّخاذ الرِّكَاب للرَّحل فكيف تدَعُ الرِّكابَ للسَّرج؟ ولكنّهم كانوا وإن اتَّخذوا الرُّكُبَ فإنّهم كانوا لا يستعملونها إلاّ عندما لا بدَّ منه، كراهةَ أن يتّكلوا على بعض ما يُورثهم الاسترخاء والتفنّخ ويضاهئوا أصحاب التُّرْفَة والنَّعْمة، قال الأصمعيّ: قال العُمَريّ: كان عمر بن الخطاب يأخذ بيده اليُمنَى أذنَ فرسه اليسرى، ثم يجمع جراميزَه ويثب، فكأنما خُلِقَ على ظهر فرسه، وفعل مثلَ ذلك الوليدُ بن يزيدَ بنِ عبد الملك وهو يومئذ وليُّ عهدِ هشام، ثمّ أقبَلَ على مسلمةَ بن هشام فقال له: أبوك يُحسِن مثل هذا؟ فقال مَسلمةُ: لأبي مائةُ عبدٍ يحسنون مثل هذا، فقال الناس: لم ينصفْه في الجواب، وزعم رِجَالٌ من مشيختنا أنّه لم يقم أحدٌ من ولد العباس بالملْك إلاّ وهو جامعٌ لأسباب الفروسيّة، وأمّا ذكروا من شأن رماح العرب فليس الأمر في ذلك على ما يتوَّهمون، للرِّماح طبقات: فمنها النَّيزَك، ومنها المربوع، ومنها المخموس، ومنها التامّ، ومنها الخَطِلُ وهو الذي يضطرب في يد صاحبه لإفراط طُوله، فإذا أراد الرّجُل أن يخبِر عن شدّةِ أسْر صاحبِه ذكره، كما ذكر متمّمُ بنُ نويرةَ أخاه مالكاً، فقال: كان يخرج في الليلة الصِّنَّبر، عليه الشَملَةُ الفَلوت، بين المزادتين النَّضُوحَين، على الجمل الثَّفال، معتقلَ الرُّمح الخَطِل، قالوا له: وأبيك إنّ هذا لهو الجَلد، ولا يحمل الرُّمحَ الخَطِل منهم إلاّ الشّديدُ الأيِّدُ، والمُدِلُّ بفَضْل قوّته عليه، الذي إذا رآه الفارسُ في تلك الهيئة هابه وحاد عنه، فإنْ شدَّ عليه كان أشدَّ لاستخذائه له، والحال الأخرى أن يخرُجوا في الطَّلَب بِعَقِب الغارة، فربَّما شدَّ على الفارس المُولِّي فيفوته بأن يكون رمحُه مربوعاً أو مخموساً، وعند ذلك يستعملون النّيازك، والنَّيزَك أقصر الرِّماح، وإذا كان الفارسُ الهاربُ يفوت الفارسَ الطالبَ زَجَّه بالنَّيزِك، وربَّما هاب مخالطتَه فيستعمل الزَّجَّ دون الطَّعْن، صنيعَ ذُؤابٍ الأسديّ بعتيبة بن الحارث بن شهاب، وقال الشاعر:

وأسْـمَـرَ خـطّـيّاً كـأنّ كُـعُـوبَـه

 

نوى القَسْبِ قد أربى ذراعاً على العشْرِ

وقال آخر:

هاتيك تحملُني وأبيضَ صارماً

 

ومُحَرَّباً في مارِنٍ مخموسٍ

وقال آخر:

فولَّوا وأطرافُ الرماح عليهم

 

قوادرُ، مربوعاتُها وطِوَالُها

وهم قومٌ الغاراتُ فيهم كثيرة، وبقدرِ كثرة الغارات كثُر فيهم الطَّلَب، والفارس ربّما زاد في طولِ رمحِه ليُخْبِر عن فضل قُوّته؛ ويُخبرُ عن قصر سَيفه ليُخبرَ عن فضل نَجدته، قال كعبُ بن مالك:

نَصِلُ السُّيوفَ إذا قصُرن بخَطوِنا

 

قُدُماً ونُلْحِقُها إذا لم تَـلْـحَـقِ

وقال آخر:

إذا الكُماة تنحَّوْا أن يصيبَهمُ

 

حَدُّ الظُّبَات وصلناها بأيدينا

وقال رجلٌ من بني نمير:

وصَلْنا الرّقاقَ المرهفاتِ بخطونـا

 

على الهول حتّى أمكنتْنا المضاربُ

وقال حُميد بن ثورٍ الهلاليّ:

ووصل الخطا بالسَّيفِ والسَّيفِ بالخطا

 

إذا ظَنَّ أن السيفَ ذو السيف قاصِرُ

وقال آخر:

الطاعنون في النُّحُور والكُـلَـى

 

شَزْراً ووصَّالو السُّيوف بالْخُطَى

وأمّا ذكروا من اتخاذ الزُّجّ لسافلة الرُّمح، والسِّنان لعاليته، فقد ذكروا أنّ رجلاً قتل أخوينِ في نِقاب، أحدهما بعالية الرُّمح، والآخر بسافلته، وقدِم في ذلك راكبٌ من قِبَل بني مروان على قَتادة يستثبت الخبر من قِبَلهِ، فأثبته له، وقال الآخر:

إنّ لقيسٍ عادةً تـعـتـادُهـا

 

سَلَّ السيوفِ وخُطىً تزدادها

وقد وصفوا أيضاً السيوف بالطُّول، وقال عُمارة بن عَقيل:

بكلِّ طويل السـيف ذي خـيزُرانةٍ

 

جرِيء على الأعداء معتمد الشَّطبِ

وجملة القول أنَّا لا نعرف الخطبَ إلاّ للعرب والفُرْس، فأما الهندُ فإنما لهم معانٍ مدونة، وكتُبٌ مخلّدة، لاتضاف إلى رجلٍ معروف، ولا إلى عالم موصوف، وإنّما هي كتبٌ متوارثة، وآدابٌ على وجه الدَّهر سائرةٌ مذكورة، ولليونانيِّين فلسفةٌ وصناعةُ منطق، وكان صاحبُ المنطقِ نفسُه بكيَّ اللسان، غيرَ موصوفٍ بالبيان، مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه، وبخصائصه، وهم يزعمون أنّ جالينوس كان أنطَقَ الناس، ولم يذكروه بالخطابة، ولا بهذا الجنس من البلاغة، وفي الفُرس خُطباء، إلاّ أنّ كلَّ كلامٍ للفُرس، وكلَّ معنىً للعجم، فإنّما هو عن طُولِ فكرة وعن اجتهاد رأي، وطُول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طُول التفكُّر ودِراسة الكتُب، وحكايةِ الثاني علمَ الأول، وزيادةِ الثالث في علم الثاني، حتَّى اجتمعت ثمار تلك الفِكَر عند آخِرِهم، وكلُّ شيءٍ للعرب فإنّما هو بديهةٌ وارتجال، وكأنّه إلهام، وليست هناك معاناةٌ ولا مكابدة، ولا إجالةُ فكر ولا استعانة، وإنّما هو أن يصرفَ وهْمَه إلى الكلام، وإلى رجَزِ يومِ الخصام، أو حين يمتَح على رأس بئر، أو يحدُو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صِراع أو في حرب، فما هو إلاّ أن يصرف وهْمَه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيِّده على نفسه، ولا يَدْرُسه أحداً من ولده، وكانوا أُمِّيِّين لا يكتبون، ومطبوعِين لا يتكلَّفون، وكان الكلام الجيِّد عندهم أظهرَ وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهَر، وكل واحدٍ في نفسه أنطَق، ومكانُه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجَد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفُّظ، ويحتاجوا إلى تدارُس، وليس هم كمن حفِظ علمَ غيرِه، واحتذى على كلام مَن كان قَبله، فلم يحفظوا إلاّ ما عَلِق بقُلوبهم، والتحم بصدورهم، واتّصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفُّظ ولا طلب، وإنّ شيئاً هذا الذي في أيدينا جزءٌ منه، لَبِالمقدار الذي لا يعلمه إلاّ مَن أحاط بقَطْر السَّحابِ وعدد التُّراب، وهو اللَّه الذي يحيط بما كان، والعالِمُ بما سيكون، ونحن - أبقاك اللَّه - إذا ادّعينا للعرب أصنافَ البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعَنا العلم أن ذلك لهم شاهدٌ صادق من الدِّيباجة الكريمة، والرَّونق العجيب، والسَّبْك والنَّحت، الذي لا يستطيع أشعَرُ الناس اليومَ، ولا أرفعهُم في البيان أن يقول مثلَ ذلك إلاّ في اليسير، والنَّبْذ القليل،ونحن لا نستطيع أن نَعلم أنّ الرسائل التي بأيدي الناس للفُرس، أنها صحيحة غيرُ مصنوعة، وقديمةٌ غير مولَّدة، إذْ كان مثل ابن المقفَّع وسهل بن هارون، وأبي عُبَيد اللَّه، وعبد الحميد وغيلان، يستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السِّيَر، وأخرى: أنّك متى أخذتَ بيد الشُّعوبيّ فأدخلتَه بلادَ الأعراب الخُلَّص، ومعدِنَ الفصاحة التامّة، ووقَفْتَه على شاعرٍ مفْلِق، أو خطيب مِصْقع، علم أنَّ الذي قلتَ هو الحقُّ، وأبصَرَ الشاهد عِياناً، فهذا فرقُ ما بيننا وبينهم، فتفهّمْ عنِّي، فهَّمك اللَّه، ما أنا قائلٌ في هذا، ثم أعلم أنك لم تَرَ قوماً قطُّ أشقى من هؤلاء الشعوبية ولا أعدى على دِينه، ولا أشدَّ استهلاكاً لِعرضه، ولا أطوَلَ نصَباً، ولا أقل غُنْماً من أهل هذه النِّحلة، وقد شَفَى الصُّدورَ منهم طولُ جُثومِ الحسد على أكبادِهم، وتوقُّدُ نار الشنَآن في قلوبهم، وغليانُ تلك المراجل الفائرة، وتسعُّرِ تلك النِّيران المضطرمة، ولو عرفوا أخلاق أهلِ كلِّ ملة، وزيِّ أهل كل لغةٍ وعللَهم، على اختلاف شاراتهم وآلاتهم، وشمائلهم وهيئاتهم، وما علَّةُ كلُّ شيء من ذلك، ولِمَ اجتلبوه وَلِمَ تكلّفوه لأراحوا أنفسَهم، ولخفّت مؤونتُهم على من خالطهم، والدَّليل على أنَّ أخْذَ العصا مأخوذٌ من أصْلٍ كريم، ومعدن شريف، ومن المواضع التي لا يَعيبها إلاّ جاهل، ولا يعترضُ عليها إلاّ مُعانِد، اتِّخاذُ سليمانَ بنِ داود صلى الله عليه وسلم العصا لخطبته وموعظته، ولمقاماته، وطول صلاته، ولطول التِّلاوة والانتصاب، فجَعَلها لتلك الخصال جامعةً، قال اللَّه عزّ وجل وقولُه الحقّ: (فَلمَّا قَضَينا عليه الموتَ ما دلّهمْ على مَوتِه إلاّ دَابّة الأَرضِ تَأكُل مِنسأتَه فَلَمَّا خَرَّ تبيَّنَتِ الجِنُّ أنْ لو كانُوا يَعْلَمُون الغَيْب مَا لَبِثُوا في العَذَابِ المُهِين) سبأ:41، والمِنسأة هي العصا، قال أبو طالب حين قام يذُمّ الرجل الذي ضربَ زميلَه بالعصا فقتله حين تخاصما في حبل وتجاذبا:

أمن أجل حَبْلٍ لا أباك علوتَه

 

بمِنسأة قد جاء حبلٌ وأحبُلُ

وقال آخر:

إذا دبَبْتَ على المِنساة في كِبَرٍ

 

فقد تباعد عنك اللّهوُ والغزلُ

قال أبو عثمان: وإنما بدأنا بذكر سليمان صلى اللَّه عليه لأنّه من أبناء العجَم، والشُّعوبيةُ إليهم أمْيَل، وعلى فضائلهم أحرص، ولِما أعطاهم اللَّه أكثرُ وصفاً وذِكراً، وقد جمع اللّه لموسى بنِ عمران عليه السلام في عصاه من البرهانات العظام، والعلامات الجِِسام، ما عسى أن يفيَ ذلك بعلامات عدّةٍ من المرسَلين، وجماعة من النبيِّين، قال اللَّه تبارك وتعالى فيما يذكر من عصاه: "إنَّ هَذانِ لساحِرانِ يُريدَان أنْ يُخرِجَاكمْ مِنْ أرضِكُم بسحرهما" طه: 63، إلى قوله تعالى: "ولا يُفلِحُ السَّاحرُ حَيْثُ أَتَى" طه:69، فلذلك قال الحسنُ بن هانئ في شأن خصيبٍ وأهلِ مصر حين اضطربُوا عليه:

فإن تكُ من فرعون فيكم بَقـيَّةٌ

 

فإنّ عصا موسى بكفِّ خصيبِ

ألم تر أنَّ السَّحرة لم يتكلَّفوا تغليط الناس والتمويهَ عليهم إلاّ بالعصِيّ، ولا عارضَهم موسى إلاّ بعصاه، وقال اللَّه عزّ وجلّ: "وقَالَ مُوسى يا فرْعَوْنُ إنِّي رَسُولٌ مِنْ ربِّ العَالَمِين، حَقِيقٌ عَلَى أن لا أقُولَ على اللَّه إلاَّ الحقَّ قَدْ جِئُتكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ ربِّكُمْ فأرْسِلْ مَعِيَ بَني إسْرائِيل قال إنْ كنْتَ جِئْتَ بآيةٍ فأتِ بِهَا إنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فأَلْقَى عَصَاهُ فإذَا هِيَ ثعبانٌ مُبِين" الأعراف: 104-107، وقال اللَّه عزّ وجل: "قَالُوا يا مُوسَى إمّا أنْ تُلْقِي وإمّا أنْ نكونَ نَحْنُ المُلْقِينَ قَالَ ألْقُوا فَلَمَّا ألْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيم وأوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فإذَا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ، فَوَقَعَ الحَقُّ وبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون" الأعراف:115-117، ألا ترى أنهم لمّا سحروا أعينَ الناس واسترهبوهم بالعصيِّ والحبال، لم يجعل اللَّه للحبال من الفضيلة في إعطاء البُرهان ما جَعَل للعصا، وقدرةُ اللَّه على تصريف الحبال في الوجوه، كقدرته على تصريف العصا،وقال اللَّه تبارك وتعالى: "فَلَمَّا أتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئ الوَادِي الأيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبارَكَة مِنَ الشَّجَرَةِ أنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّه ربُّ العَالَمِين، وأنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رآهَا تَهْتَزُّ كأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبراً ولم يُعَقِّب يَا مُوسَى أقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إنَّكَ من الآمِنِين" القصص: 3-31، فبارَك كما ترى على تلك الشّجرة، وبارك في تلك العصا، وإنّما العَصَا جزءٌ من الشجرِ، وقال عزّ وجلّ: "والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا، وأخْرَجَ منها مَاءَها ومَرْعاها" النازعات: 30-31، وقالت الحكماء: إنما تُبنى المدائن على الماء والكلأ والمحتَطَب، فجمع بقوله: "أخْرَجَ منها ماءَها ومَرْعاها" النازعات: 31 النَّجمَ والشجر، والمِلْحَ واليقطين، والبقل والعُشْب، فذكر ما يقوم على ساقٍ وما يتفنّن وما يتسطَّح، وكلُّ ذلك مرعىً، ثم قال على النَّسَق: "متاعاً لَكُمْ ولأنْعَامِكُمْ" النازعات: 79، فجمع بين الشجر والماء والكلأ والماعونِ كلِّه؛ لأنّ الملح لا يكون إلاّ بالماء، ولا تكون النّار إلاَّ من الشَّجَر، وقال اللَّه تبارك وتعالى: "الذي جَعل لكُمْ من الشجر الأخْضرِ ناراً فإذا أنتُمْ منهُ تُوقِدُونَ" يس:08، وقال: "أفرأيتمُ النّارَ التي تُورُونَ أأنتُمْ أنْشَأْتمْ شَجَرَتَها أمْ نحْنُ المُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَْناها تَذْكِرَةً ومَتَاعاً لِلْمُقْويِنَ" الواقعة: 71-73، والمَرْخ والعَفَارُ، والسَّوَاسُ والعراجين، وجميعُ عيدان النارِ، وكلُّ عُودٍ يُقدح على طول الاحتكاك فهو غنيٌّ بنفسه، بالغٌ لِلمُقْوِي وغير المقْوي وحَجَر المَروْ يحتاج إلى قَرّاعة الحديد، وهما يحتاجان إلى العُطْبة، ثم إلى الحطب، والعِيدانُ هي القادحة، وهي المُوريَةُ، وهي الحطب، قال اللَّه عزّ وجلّ: "الذين هُمْ يُرَاؤُونَ ويَمْنَعوَن الماعُونَ" الماعون: 6-7، والماعون: الماء والنار والملح والكلأ، وقال الأسديّ:

وكأنّ أرحلَنا بِجَـوِّ مُـحَـصَّـبٍ

 

بِلوَى عُنَيزة مِن مَقيل التُّرْمُـسِ

في حيث خالطت الخُزامَى عرفجا

 

يأتيك قابسُ أهلهـا لـم يُقْـبَـسِ

وإنّما وصف خِصْبَ الوادي ولُدونةَ عِيدانه، ورطوبةَ الورق، وهذا خلاف قول عمرو بن عَبْدِ هند:

فإنّ السِّنانَ يركب الـمـرءُ حَـدَّهُ

 

من العار أو يعدو على الأسدِ الوَرْدِ

وأنّ الذي ينهاكُمُ عـن طِـلابـهـا

 

يناغي نِساءَ الحيِّ في طُرّةِ البُـردِ

يُعَلَّلُ والأيّام تـنـقُـص عـمـره

 

كما تَنقُص النِّيرانُ من طرَف الزَّنْدِ

وذكر اللَّه عزّ وجلّ النَّخلةَ فجعلها شجرة، فقال: "أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُهَا في السَّماء" إبراهيم: 24، وذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حُرمة الحَرمَ فقال: لا يُختلى خلاَهَا، ولا يُعضَد شجرها، وقال اللَّه عزّ وجل: "وأنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطين" الصافات: 146، وتقول العرب: ليس شيءٌ أدفأَ من شجرٍ، ولا أظلَّ من شجَر، ولم يكلّم اللَّه موسَى إلاّ من شجرة، وجعل أكبرَ آياته في عصاه، وهي من الشجر، ولم يمتحن اللَّه جلّ وعزّ صبْر آدم وحوّاء، وهما أصلُ هذا الخلقِ وأوّلُه، إلاّ بشجرة، ولذلك قال: "ولا تقَربا هذِه الشَّجَرَةَ فتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ" الأعراف: 19 وجعل بيعة الرِّضوان تحت شجرة، وقال: "وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُور سَيْنَاءَ تَنْبُتَ بالدُّهْنِ وصِبْغٍ للآكِلِينَ" المؤمنون:20، وسِدرة المنتهى التي عندها جنّة المأوى شجرةٌ، وشجرةٌ سُرَّ تحتها سبعون نبيّاً لا تُعْبَل ولا تسَرف،  وحين اجتهد إبليسُ في الاحتيال لآدمَ وحوّاء صلى اللَّه عليهما، لم يصرف الحيلة إلاّ إلى الشّجرة، وقال: "هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى" طه:120، وفيما يُضرب بالأمثال من العصيّ قالوا: قال جميل بن بَصْبَهَرِي حين شكا إليه الدّهاقين شَرَّ الحجّاج، قال: أخبروني أين مولدُه؟ قالوا: الحجاز، قال: ضعيف مُعجَب، قال: فمنشؤه؟ قالوا: الشام، قال: ذلك شرٌّ، ثم قال: ما أحسن حَالَكم إن لم تُبْتَلَوا معه بكاتبٍ منكم، يعني من أهل بابل، فابتُلوا بزاذان فرُّوخ الأعور، ثم ضَرب لهم مثلاً فقال: إنّ فأساً ليس فيها عودٌ ألقيت بين الشّجر، فقال بعضُ الشّجر لبعض: ما ألقيت هذهِ ها هنا لخير، قال: فقالت شجرةٌ عاديّة: إن لم يدخل في است هذه عودٌ منكن فلا تخَفْنَها، وقال يزيد بن مفرِّغ: مجزوء الكامل

العبدُ يُقرع بالعصـا

 

والحرُّ تكفيه الملامه

وقال: أخذه من الفَلتان الفَهميّ، حيث قال: مجزوء الكامل

العبد يقرع بالعصـا

 

والحر تكفيه الإشارة

وقال مالك بن الرَّيب: مجزوء الكامل

العبدُ يُقْرعُ بالعصـا

 

والحرُّ يكفيه الوعيدُ

وقال بشّار بن بُرد:

الحُرُّ يُلحَى والعَصَا للعبدِ

 

وليس للمُلحفِ مثلُ الردِّ

وقال آخر: مجزوء الكامل

فاحتلتُ حين صَرمْتِنِـي

 

والمرء يَعجزُ لا المَحاله

والدَّهر يلعب بالفـتـى

 

والدّهر أروغ من ثُعالَه

والمرءُ يَكسِـبُ مـالَـه

 

بالشُّحِّ يورثُه الكَـلالـه

العبد يُقرع بالـعـصـا

 

والحرُّ تكفيه المقـالـه

وممّا يدخل في باب الانتفاع بالعصا أنّ عامر بن الظَّرِب العَدْوانيّ حكَمَ العرب في الجاهليّة، لما أسنّ واعتراه النِّسيان، أمر ابنتَه أن تقرَع بالعصا إذا هو فَهَّ عن الحكم، وجارَ عن القصد، وكانت من حكيمات بناتِ العرب حتى جاوزت في ذلك مقدار صُحْرٍ بنت لقمان، وهندٍ بنت الخُسّ، وجُمعة بنت حابس بن مُلَيل الإيادييَّن، وكان يقال لعامرٍ: ذو الحلم، ولذلك قال الحارث بن وعلة:

وزعَمتمُ أنْ لا حلـوم لـنـا

 

إنّ العصا قُرِعت لذي الحِلمِ

وقال المتلمِّس في ذلك:

لِذِي الحلم قبل اليوم ما تُقْرَع العصا

 

وما عُلِّم الإنسان إلاّ لـيعـلـمـا

وقال الفرزدق بن غالب:

فإن كنتُ أستأنِي حلومَ مُجَـاشـعٍ

 

فإنّ العصا كانت لذي الحلم تقرعُ

ومن ذلك حديثُ سعْد بن مالك بن ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة، واعتزامُ الملك على قتل أخيه إن هو لم يُصِب ضَميره، فقال له سعد: أبيتَ اللعن أتدعُني حتَّى أقرعَ بهذه العصا أختها؟ فقال له الملك: وما عِلْمُه بما تقول العصا؟ فقرع بها مرّةً وأشار بها مرةً، ثمّ رفعها ثم وضعها، فهِم المعنى فأخبره ونجا من القتل، وذِكْر العصا يجري عندهم في معانٍ كثيرة، تقول العرب: العصا من العُصَيَّة، والأفعى بنت حيَّة، تريد أن الأمر الكبير يحدث عن الأمر الصغير، ويقال: طارت عصا فلانٍ شِقَقاً، وقال الأسديّ:

عِصِيُّ الشَّمل من أسَـدٍ أُراهـا

 

قد انصدعت كما انصدع الزجاجُ

ويقال: فلانٌ شقَّ عصا المسلمين، ولا يقال شق ثوباً ولا غير ذلك مما يقع عليه اسم الشق، وقال العتَّابي في مديح بعض الخلفاء:

إمامٌ لـه كـفٌّ يضـم بـنـانـهـا

 

عصا الدّينِ ممنوعاً من البرْيِ عودُها

وعينٌ محيطٌ بالـبـرَّية طـرفُـهـا

 

سَوَاءٌ عليه قُرْبُـهـا وبَـعـيدُهـا

وقال مُضَرِّس الأسدي:

فألقت عصا التَّسيار عنها وخيَّمَتْ

 

بأرجاء عذب الماء بيض محافره

وقال أيضاً:

فألقت عصاها واستقرّت بها النوى

 

كما قرّ عيناً بالإياب المسـافـرُ

ويقال لبني أسد: عبيد العصا يُعنَى أنهم كانوا ينقادون لكل من حالفوا من الرؤساء، وقالَ بشر بن أبي خازم:

عَبيد العصا لـم يتَّـقـوك بـذِمّةٍ

 

سوى سَيب سُعْدَى إنّ سيبَك واسعُ

وتسمّى العربُ كلَّ صغيرِ الرّأس: رأسَ العصا، وكان عمرُ بن هُبَيرة صغير الرّأس فقال سُويد بن الحارث:

مَن مُبلغٌ رأسَ العصا أنَّ بيننـا

 

ضغائنَ لا تُنْسَى وإن قدُم الدّهرُ

وقال آخر:

فمن مبلغ رأس العصا أنّ بيننا

 

ضغائنَ لا تنسى وإن قيل سُلَّتِ

رضيتَ لقيسٍ بالقليل ولم تكـن

 

أخاً راضياً لو أنّ نعلَكَ زَلّـتِ

وكانت والبة صغير الرأس، فقال أبو العتاهية في رأس والبة ورؤوس قومه:

رؤوس عِصِي كُنَّ من عُودِ أثلةٍ

 

لها قادحٌ يَبرِي وآخر مُخْـرِبُ

والدليل على أنهم كانوا يتَّخذون المخاصرَ في مجالسهم كما يتخذون القنا والقِسيَّ في المحافل، قولُ الشاعر في بعض الخلفاء:

في كفّه خيزُرانٌ ريحهُ عـبـقٌ

 

من كَفِّ أروعَ في عرنينه شَمَمُ

يُغْضِي حياءً ويغضَى من جلالته

 

فما يُكلّمُ إلاّ حـين يَبـتَـسِـمُ

وقال الآخر:

مجالسهم خَفْضَ الحـديثِ وقـولـهـم

 

إذا ما قضَوْا في الأمر وحْيُ المخاصرِ

وقال الآخر:

يُصيبون فَصل القول في كلِّ خطبة

 

إذا وصلو ا أيمانَهم بالمخـاصـر

وحدَّثني بعضُ أصحابنا قال: كنّا منقطِعِينَ إلى رجلٍ من كبار أهل العسكر، وكان لُبْثنا يطولُ عنده فقال له بعضُنا: إن رأيتَ أن تجعلَ لنا أمارةً إذا ظهرَتْ لنا خفّفْنا عنك ولم نُتعبك بالقُعود، فقد قال أصحاب معاوية لمعاوية مثلَ الذي قُلنا لك فقال: أمارةُ ذلك أنْ أقول: إذا شئتم، وقيل ليزيدَ مثلُ ذلك فقال: إذا قلتُ على بركة اللَّه، وقيل لعبد الملك مثلُ ذلك فقال: إذا ألقيت الخيزرانة من يدي، فأيُّ شيءٍ تجعلُ لنا أصلحَكَ اللَّه؟ قال: إذا قلتُ: يا غلامُ الغَدَاء، وفي الحديث: أنْ رجلاً ألحّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم في طلب بعض المَغْنم وفي يده مخصرةٌ، فدفعه بها، فقال يا رسول اللَّه: أقِصّني، فلما كشف النبي له عن بطنه احتضنه فقبَّل بطنه، وفي تثبيت شأنِ العصا وتعظيم أمرها، والطّعنِ على مَن ذمَّ حامِلَها؛ قالوا: كانت لعبد اللَّه بن مسعود عشرُ خصال: أوّلها السِّواد، وهو سِرار النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي: إذْنُك عليّ أن يُرفع الحجاب، وتسمع سِوَادي، وكان معه مسواكُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت معه عصاه، قال: ودخل عُمَير بن سعد على عمر بن الخطاب، حينَ رجع إليه من عمل حمص، وليس معه إلاّ جرابٌ وإداوَة وقَصعةٌ وعصاً، فقال له عمر: ما الذي أرى بك، من سوء الحال أو تصنُّع؟ قال: وما الذي تَرى بي، ألستُ صحيحَ البدَن، معي الدُّنيا بحذافيرها؟ قال: وما معَك من الدنيا،، قال: معي جرابي أحمل فيه زادي، ومعي قَصعتي أغسل فيها ثوبي، ومعي إداوتي أحمل فيها مائي لشرابي، ومعي عصاي إنْ لقيتُ عدوّاً قاتلتُه، وإن لقيت حيّة قتلتُها، وما بقي من الدنيا فهو تبعٌ لما معي، وقال الهيثم بنُ عديّ، عن شرقيّ بن القُطَاميّ وسأله سائلٌ عن قول الشاعر:

لا تَعدِلنَّ أتاويِّين تضـربُـهـم

 

نكباءُ صِرٌّ بأصحاب المُحِلاّتِ

قال: والمُحِلاّت: الدلو، والمِقدحَةُ، القِربة والفأس، قال: فأين أنت عن العصا؟ والصُّفْن خير من الدَّلو وأجمعُ، وقال النَّمر بن تولب:

أفرغتُ في حَوضها صُفني لتشربَه

 

في داثرٍ خَلَق الأعضـادِ أهـدَامِ

وأما العصا فلو شئتُ أن أشغلَ مجلسي كله بخصالها لفعلت، وتقول العرب في مديح الرجل الجَلْد، الذي لا يُفتات عليه بالرأي: ذلك الفحلُ لا يُقرَع أنفه، وهذا كلام يقال للخاطب إذا كان على هذه الصِّفة، لأنّ الفحل اللئيم إذا أراد الضِّراب ضربوا أنفَه بالعصا، وقد قال أبو سُفيانَ بنُ حرب بن أميَّة، عندما بلغه من تزوُّج النبي صلى الله عليه وسلم بأمّ حَبيبة، وقيل له: مثلك تُنكَح نساؤه بغير إذنه؟ فقال: ذلك الفحلُ لا يُقرع أنفه، والحمار الفارِه يفسده السَّوط وتصلحه المِقرعة، وأنشد لسَلامة بن جندل:

إنّا إذا ما أتانا صـارخ فـزِعٌ

 

كان الصُّرَاخُ له قرعَ الظَّنَابيب

وقال الحجاج: واللّه لأعصِبَنَّكم عصْبَ السَّلَمة، ولأضربنَّكم ضرب غرائب الإبل، وذلك أن الأشجار تُعْصَبُ أغصانُها، ثم تخبط بالعصيّ لسقوط الورق وهَشِيم العِيدان، ودخل أبو مِجْلز على قتيبة بخراسان، وهو يضرب رجالاً بالعصيّ فقال: أيُّها الأمير، إنّ اللَّه قد جعل لكل شيء قدْراً، ووقّت فيه وقتاً، فالعصا للأنعام والبهائمِ العظام، والسَّوط للحدود والتعزير، والدِّرَّة للأدب، والسَّيف لقتال العدوِّ والقَوَد، ثم قال الشّرْقيّ: ولكن دعْنا من هذا؛ خرجتُ من الموصل وأنا أريد الرَّقّةَ مستخفياً، وأنا شابٌّ خفيف الحاذِ، فصحبني من أهل الجزيرة فتى ما رأيتُ بعده مثلَه، فذكر أنه تغلبي، من ولد عمرو بن كلثوم، ومعه مِزْود وركوة وعصاً، فرأيتُه لا يفارقها، وطالت ملازمتُه لها، فكدت من الغيظ أرمي بها في بعض الأودية، فكنَّا نمشي فإذا أصبنا دوابَّ ركبناها، وإن لم نُصب الدوابَّ مشَينا، فقلت له في شأن عصاه، فقال لي: إنّ موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم حين آنس من جانب الطُّور ناراً، وأراد الاقتباس لأهله منها، لم يأتِ النارَ في مقدار تلك المسافة القليلة إلاّ ومعه عصاه، فلما صار بالوادي المقدَّس من البقعة المباركة قيل له: ألق عصاك، واخلَعْ نعليك، فرمى بنعليه راغباً عنهما، حين نزّه اللَّه ذلك الموضِع عن الجِلد غير الذَّكيّ، وجعل اللَّه جِمَاعَ أمره من أعاجيبه وبرهاناته في عصاه، ثم كلمه من جوف شجرةٍ ولم يكلّمه من جوف إنسان ولا جانّ، قال الشّرْقيّ: إنه ليُكثر من ذلك وإني لأضحك متهاوناً بما يقول، فلما برزْنا على حمارَينا تخلَّف المُكَاري فكان حمارُه يمشي، فإذا تلكّأَ أكرهَه بالعصا، وكان حماري لا ينساق، وعلم أنه ليس في يدي شيءٌ يُكرهه، فسبقني الفتى إلى المنزل فاستراح وأراح، ولم أقدر على البَراح، حتَّى وافاني المُكاري، فقلت: هذه واحدة، فلمّا أردْنا الخروجَ من الغدِ لم نقدْر على شيءٍ نركبُه، فكنا نمشي، فإذا أعيا توكأ على العصا، وربما أحضَرَ ووضع طرف العصا على وجه الأرض فاعتمد عليها ومَرَّ كأنه سهم زالج، حتى انتهينا إلى المنزل وقد تفسَّخْتُ من الكلال، وإذا فيه فضل كثير، فقلت: هذه ثانية، فلمَّا كان في اليوم الثالث، ونحن نمشي في أرض ذات أخاقيقَ وصُدوع، إذْ هجمنا على حيَّةٍ منكَرة فساورتْنا، فلم تكن عندي حيلةٌ إلا خِذلانَه وإسلامَه إليها، والهربَ منها، فضربها بالعصا فثقلت، فلمَّا بَهَشَت له ورفعت صدرَها ضَربَها حتَّى وقذَها، ثمّ ضربها حتَّى قتلها، فقلت: هذه ثالثةٌ، وهي أعظمهنّ، فلمّا خرجنا في اليوم الرابع، وقد واللّه قَرِمْت إلى اللَّحم وأنا هاربٌ مُعْدِم، إذا أرنبٌ قد اعترضَتْ، فحذفها بالعصا، فما شَعرتُ إلاّ وهي معلَّقة وأدركنا ذكاتَها، فقلت: هذه رابعة، وأقبلتُ عليه فقلت: لو أنّ عندنا ناراً لما أخّرتُ أكلَها إلى المنزل، قال: فإنّ عندك ناراً فأخرج عُوَيداً من مِزْودِه، ثمّ حكّه بالعصا فأورَتْ إيراءً المَرْخُ والعَفَارُ عنده لا شيء، ثم جَمَع ما قدَر عليه من الغُثاء والحشيش فأوقد نارَه وألقى الأرنبَ في جوفها، فأخرجناها قد لزِق بها من الرَّماد والتُّراب ما بغّضَها إليّ، فعلَّقَها بيده اليُسرى ثم ضرب بالعصا على جُنوبها وأعْراضها ضرباً رقيقاً، حتَّى انتثر كلُّ شيءٍ عليها، فأكلناها وسكن القَرَم، وطابت النَّفس، فقلت: هذه خامسة، ثمّْ إنّا نزلْنا بعضَ الخانات، وإذ البيوتُ مِلاءٌ روثاً وتُراباً، ونزلنا بعَقِب جُنْدٍ وخَرابٍ متقدّم، فلم نجدْ موضعاً نَظلُّ فيه، فنظر إلى حديدةِ مِسحاةٍ مطروحةٍ في الدّار، فأخذَها فجعل العصا نِصَاباً لها، ثمّ قام فجرفَ جميعَ ذلك التُّرابِ والرَّوث، وجرَدَ الأرضَ بها جَرْداً، حتَّى ظهر بياضُها، وطابت ريحُها فقلت: هذه سادسة، وعلى أيِّ حالٍ لم تَطِبْ نفسي أن أضعَ طعامي وثيابي على الأرض، فنَزَع واللَّه العصا من حديدة المِسحاة فوتَدها في الحائط، وعلَّقَ ثيابي عليها، فقلت: هذه سابعة،  فلما صرتُ إلى مَفْرِق الطُّرق، وأردتُ مفارقته، قال لي: لو عَدَلت فبتَّ عندي كنتَ قد قضيتَ حقَّ الصُّحبة، والمنزلُ قريب، فعدلتُ معه فأدخلَني في مَنزلٍ يتَّصل ببيعة، قال: فما زال يحدِّثني ويُطْرِفني ويُلْطِفني اللّيلَ كلَّه، فلما كان السّحرُ أخذ خُشَيْبة ثم أخرجَ تلك العصا بعينها فقرعَها بها، فإذا ناقوسٌ ليس في الدنيا مثلهُ، وإذا هو أحذَقُ الناس بضرْبه، فقلت له: ويلَك، أمَا أنت مسلم، وأنت رجلٌ من العرب من ولد عَمرو بن كلثوم؟ قال: بلى، قلت: فلِمَ تضربُ بالناقوس؟ قال: جُعلتُ فِداك إنَّ أبي نصرانيّ، وهو صاحب البِيعة، وهو شيخٌ ضعيف، فإذا شَهِدتُه بَرَرته بالكفاية، فإذا هو شيطانٌ مارد، وإذا أظرفُ النّاس كلِّهم وأكثرُهم أدباً وطلباً، فخبَّرته بالذي أحصيتُ من خِصالِ العصا، بعد أن كنتُ هممتُ أن أرمَي بها، فقال: واللَّه لو حدّثتُك عن مناقب نفع العصا إلى الصبح لما استنفَدْتُها، ومن جمل القول في العصا وما يجوز فيها من المنافع والمرافق تفسير شعر غَنيّةَ الأعرابية، في شأن ابنها: وذلك أنّه كان لها ابنٌ شديد العَرامة، كثير التفلت إلى النّاس، مع ضعف أَسْرٍ ودقّة عظْم، فواثب مرّةً فتى من الأعراب، فقطع الفتى أنفَه، فأخذَتْ غنيّةُ ديةَ أنفه فحسُنت حالُها بعد فقرٍ مُدْقِع، ثمّ واثَبَ آخرَ فقطع أذنَه فأخذت الدِّية، فزادت ديةُ أذنه في المال وحُسْن الحال، ثم واثَبَ بعد ذلك آخرَ فقطع شَفَته فأخذَتْ ديةَ شفتِه، فلمَّا رأت ما قد صار عندها من الإبل والغَنَم والمتاع والكسب بجوارح ابنِها حَسُن رأيها فيه، فذكرته في أرجوزة لها تقول فيها:

أحلفُ بالمروة يوماً والصَّفا

 

أنّكَ خيرٌ من تفاريق العصا

فقيل لابن الأعرابيّ: ما تفاريق العصا؟ قال: العصا تُقطّع ساجوراً، وتقطّع عصا السّاجُور فتصير أوتاداً، ويفرَّق الوتِد فيصير كلُّ قطعةٍ شِظاظاً فإذا كان رأس الشِّظاظ كالفُلْكة صار للبُخْتيّ مِهاراً، وهو العود الذي يُدخَل في أنف البُخْتيّ، وإذا فُرِّق المِهَارُ جاءت منه تَوَادٍ، والسَّواجير تكون للكلاب والأسرى من النّاس، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : يؤتى بناس من هاهنا يقادون إلى حُظوظهم بالسَّواجير، وإذا كانت قناةً فكلُّ شِقّة منها قوسُ بندُق، فإنْ فُرِّقت الشِّقّة صارت سهاماً، فإنْ فرِّقت السّهامُ صارت حِظاءً، وهي سهامٌ صغار، قال الطرِمّاح: من السريع

أكلبٌ كحِظاء الغلامْ

والواحدة حَظْوة وسَِروة، فإن فُرِّقت الحظاء صارت مَغازل، فإنْ فرِّق المِغزل شعَبَ به الشَّعَّاب أقداحَه المصدوعة، وقِصاعهُ المشقوقة، على أنّه لا يجدُ لها أصلح منها، وقال الشّاعر:

نوافذُ أطرافِ القَنا قد شكَكْنَه

 

كشكِّكَ بالشَّعبِ الإناءَ المثلَّما

فإذا كانت العصا صحيحةً ففيها من المنافع الكِبار والمرافق الأوساط والصِّغار ما لا يُحصيه أحد، وإن فُرِّقت ففيها مثلُ الذي ذكرنا وأكثر، فأيُّ شيءٍ يبلغُ في المرفق والرّدِّ مبلغَ العصا، وفي قول موسى: (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) طه:18 دليلٌ على كثرة المرافق فيها؛ لأنه لم يقل: ولي فيها مأرُبة أخرى، والمآرب كثيرة، فالذي ذكرنا قبل هذا داخلٌ في تلك المآرب، ولا نعرف شعراً يشبه معنَى شعرِ غَنيّةَ بعينه لا يغادِر منه شيئاً، ولكنْ زعَم بَعضُ أصحابنا أنّ أعرابيَّين ظريفين من شياطينِ الأعراب حطَمَتهما السّنة، فانحدرا إلى العراق، واسم أحدهما حَيدَان، فبيناهما يتماشيان في السوُّق إذا فارسٌ قد أوطأ دابّته رِجلَ حيدَان فقطع إصبعاً من أصابعه، فتعلَّقا به حتَّى أخذا منه أرْش الإصبع، وكانا جائعين مقرورين، فحين صار المال في أيديهما قصَدا لبعض الكرابج فابتاعا من الطعام ما اشتهيا، فلمّا أكل صاحبُ حيدَان وشبع أنشأ يقول:

فلا غَرَثٌ ما كان في النًّاس كُربُجٌ

 

وما بقيت في رِجل حَيدَانَ إصبعُ

وهذا الشِّعر وشعرٌ غنيّةَ من الظَّرف الناصُع الذي سمعتَ به، وظَرف الأعراب لا يقوم له شيء،  وناس كثير لا يستعملون في قتالهم إلاّ العصيّ، منهم الزنج: قنبلة ولنجويَه والنَّمل والكلاب، وتكفو وتنبو،، على ذلك يعتمدون في حروبهم، ومنهم النَّبَط، ولهم بها ثقافةٌ وشدّة وغلبة، وأثقف ما تكون الأكراد إذا قاتلتْ بالعصي، وقتالُ المخارَجات كلُّها بالعصيّ، ولهم هناك ثقافة ومنظرٌ حسن، ولقتالهم منزلةٌ بين السَّلامة والعطَب، والناس يضربون المثل بقتال البقّار بقناته، ويقال في المثل: ما هو إلاّ أُبْنةُ عصاً، وعُقْدةُ رِشا، ويقال للراعي: إنّه لضعيف العصا إذا كان قليلَ الضَّرب بها للإبل، شديدَ الإشفاق عليها، وقال الرّاعي:

ضعيفُ العصا بادِي العروق ترى له

 

عليها إذا ما أجدب النّاس إصبـعـا

فإذا كان الراعي جَلْداً قويّاً عليها قالوا: صُلْبُ العصا، ولذلك قال الراجز:

صُلْب العصا باقٍ على أَذَاتها،

وقال الآخر في معنى الراعي:

لا تَضرِباها واشْهَرا العِصيَّا

ويقولون: قد أقبل فلان ولانت عصاه، إذا أصابه السُّوَاف فرجع وليس معه إلاّ عصاه لأنّه لا يفارقها كانت له إبلٌ أم لم تكن، ويقولون: كلَّما قُرِعت عصاً بعصا، وعصاً على عصا، وعصاً عصاً قالوا: خُذُوا فلاناً بذلك، وقال حُميد بن ثَور: ،

اليوم تُنْتَزَعُ العصا من ربِّها

 

ويَلُوك ثِنْيَ لسانِه المنطيقُ

ويكتب مع قوله:

تَغشَى العصا والزّجرَ إنْ قيل حَلِ

 

يرسلُها التَّغميضُ إن لم تُرْسَـلِ

وقال آخر:

هذا وُرُود بُـــزَّلٍ وسُـــدُسِ

 

يُغْلِي بها كلُّ مُسـيمٍ مُـرْغِـسِ

رُدَّت من الغَور وأكناف الرَّسِـي

 

من عُشُبٍ أحوى وحَمْضٍ مُورِسِ

وذائد جَلْد العـصـا دلَـهْـمَـسِ

 

إن قيل قمْ قام وإن قيل اجـلـسِ

داست سِماطَيْ عَفِرٍ مـدعَّـسٍ

 

 

ويدلّ على شدّة قتالهم بالعصا قول بَشَامة بن حَزنٍ النَّهشلي:

فِدىً لرِعاءٍ بالنَّـحِـيرة ذَبَّـبُـوا

 

بأعصيهم والماءُ بردُ المشـاربِ

تألَّى نُعيمٌ لا تجوزُ بِـحَـوضـه

 

فقلت تحلَّلْ يا نُعيمَ بـنَ قـارب

فإنَّ زياداً لـم يكـنْ لـيرُدَّهـا

 

وسَبْرةَ عن ماء النَّضيح المقارب

أغرَّكَ أن جاءت ظِماءً وباشرت

 

بأعناقها بَرد النِّصاب الصُّباصب

تناولْن ما في الحوض ثم امترينَه

 

بجَرْعٍ وأَعناقٍ طِوال الـذوائب

ويقول: فلانٌ ضعيف العصا، إذا كان لا يستعمل عصاه، ولذلك قال البَعيث:

وأنت بذاتِ السِّدر من أمِّ سـالـمٍ

 

ضعيفُ العصا مستَضعَفٌ متهضَّمُ

وقال آخر:

وما صادياتٌ حُمْنَ يومـاً ولـيلةً

 

على الماء يَغْشَين العِصيَّ حَوَانِ

لوائبُ لا يصدُرْن عنه لوِجـهةٍ

 

ولا هُنّ من برد الحياض دَوَانِ

يرين حَبَاب الماء والموتُ دونـه

 

فهنّ لأصوات السُّـقـاةِ رَوَانِ

بأوجَعَ منِّي جَهدَ شـوق وغُـلّةٍ

 

إليك ولكنَّ الـعَـدُوّ عَـدَانـي

وقال آخر:

فما وجدُ مِلواحٍ من الهِيم حُلِّئت

 

عن الماء حتّى جوفُها يتصلصل

تحوم وتَغْشاها العصيُّ وحولهـا

 

أقاطيع أنعامٍ تُعَـلُّ وتُـنـهـلُ

بأعظمَ مني غُلّةً وتـعـطُّـفـاً

 

إلى الوِرد إلاّ أنَّني أتـجـمّـلُ

ويقال: ضُرِب ضربَ غرائب الإبل وهي تُضرَبُ عند الهرَب وعند الخِلاط، وعند الحوض، أشدّ الضَّرب، وقال الحارث بن صخرٍ:

بضربٍ يُزيل الهامَ عن سَكِنـاتِـه

 

كما ذِيدَ عن ماء الحياض الغرائبُ

وقال آخر:

للهامِ ضرّابُون بالمَنـاصـلِ

 

ضرب المُذِيد غُربَ النّواهِل

وفي جواهر العصا تفاوت، ويقولون: ما هي إلاّ غصن بان، وقال ابنُ أحمر:

رُودُ الشَّباب كأنّها غُصُنٌ

 

بحرَامِ مَكّةَ ناعمٌ نَضْرُ

وقال آخر:

إمّا ترَيْني قائماً في جِـلِّ

 

جمِّ الفُتُوقِ خَلَقٍ هِـمِـلِّ

محاذِراً أُبغِض عن تحتَليِّ

 

عند اعتلال دهرك المُعتلِّ

فقد أُرَى في اليلمَقِ الرِّفَلِّ

 

أَصَوْنَ للأُنْسِ جميلَ الدَّلِّ

لَدْنا كخُوط البانَةِ المبتَلِّ

         

وتكون العصا مِحراثاً، وتكون مخصرة، وتكون المِخصرةُ قضيبَ حنَيرة وعُودَ ساجُورٍ، ثم تكون تَودِيَة، ويقال للرجل إذا كان فيه أُبنةٌ: فلان يَخْبا العصا، وقال الشاعر: مجزوء الرجز

زوجُكِ زوجٌ صالح

 

لكنَّهُ يخبَا العصـا

وفي الأمثال: فحَذفَه بالقول كما تُحذَف الأرنب بالعصا، وقال إياسُ بن قتادة العبشمي:

سأنحر أولاها وأحذِفُ بالعصا

 

على إثرها إنِّي إذا قلتُ عازمُ

وقال ابن كُناسَة: في شرط الرَّاعي على صاحب الإبل: ليس لك أن تَذكر أمِّي بخيرٍ ولا شرّ، ولك حذفَةٌ بالعصا عند غضبك أصبتَ أم أخطأتَ، ولي مقعدي من النّار، وموضع يدي من الحارّ والقارّ، وكان العُتْبيّ يحدِّث في هذين بحديثين: أحدهما قولُه عن الأعرابيّ: وكان إذا خِرَست الألسُن عن الرّأي حذف بالصَّواب كما تُحذف الأرنبُ بالعصا، وأمّا الحديث الآخر فذكر أنّ قوماً أضلوا الطريق، فاستأجروا أعرابيّاً يدلُّهم على الطريق، فقال: إنّي واللَّه لا أخرجُ معكم حتّى أشْرِطَ لكم واشترط عليكم، قالوا: فهاتِ مالك، قال: يدي مع أيديكم في الحارّ والقارّ، ولي موضعي من النّار موسَّعٌ عليّ فيها، وذكرُ والديَّ عليكم محرَّم، قالوا: فهذا لك فما لنا عليك إن أذنبتَ؟ قال: إعراضةٌ لا تؤدِّي إلى عَتْبٍ، وهِجْرةٌ لا تمنع من مجامعة السُفْرة، قالوا: فإن لم تُعتب؟ قال: فحذفَةٌ بالعصا أخطأَتْ أم أصابت، وهذان الحديثان لم أسمعْهما من عالم، وإنّما قرأتُهما في بعض الكتب من كتب المسجديِّين، ولأهل المدينة عِصيٌّ في رؤوسها عُجَرٌ لا تكاد أكفُّهم تفارقها إذا خرجوا إلى ضياعهم ومتنزَّهاتهم، ولهم فيها أحاديثُ حسنةٌ، وأخبار طيِّبة، وكان الإفشين يقول: إذا ظفرتُ بالعرب شدختُ رؤوس عظمائهم بالدَّبُّوس، والدَّبُّوس شبيه بهذه العصا التي في رأسها عُجْرة، وقال جَحْشويه: من السريع

يا رجلاً هـام بـلَـبَّـادِ

 

معتدلٍ كالغصـن مَـيّادِ

هام به غَسّانُ لـمّـا رأى

 

أيراً له مثل عصا الحادي

ولم يزل يَهوَى أبو مالـك

 

كُلَّ فتىً كالغصن مُنْـآدِ

يعجبُه كُلُّ متين الـقُـوَى

 

للطّعن في الأدبار معتادِ

وقالوا في تغميض الناقة عينها، كي تركب العصا إلى الحوض، وهو في معنى قول أبي النَّجم:

تَغشَى العصا والزَّجْرَ إن قيل حَلِ

 

يرسلُها التَّغميض إن لم تُرسَـلِ

وهذا مثل قول الهذليّ:

ولأنت أشجعُ من أسـامة إذ

 

شدُّوا المناطق تحتها الحَلَقُ

حَدُّ السُّيوفِ على عواتقهـم

 

وعلى الأكفِّ ودونها الدّرق

كغَماغم الثِّـيران بـينـهـمُ

 

شربٌ تغمَّض دونه الحَدَقُ

وقال حميدُ بن ثورٍ الهلاليّ:

اليوم تُنْتَزَع العصا من ربها

 

ويَلوكُ ثِنْيَ لسانَه المنْطيقُ

ويقال: رجلٌ كالقناة، وفرسٌ كالقناة، وقال الشّاعر:

مَتَى ما يجيءْ يوماً إلى المال وارثِي

 

يجِدْ جُمع كفٍّ غيرِ ملأى ولا صِفْرِ

يجد فرساً مثل القنـاة وصـارمـاً

 

حُساماً إذا ما هزّ لم يرضَ بالهَبْـرِ

وجاء في الحديث: أجدبت الأرض على عهد عمر رحمه اللَّه حتى ألقت الرِّعاء العصيّ، وعُطِّلت النَّعَم، وكُسر العظم، فقال كعبٌ: يا أمير المؤمنين، إنَّ بني إسرائيل كانوا إذا أصابتهم السّنةُ استسقَوْا بعُصْبة الأنبياء، فكان ذلك سببَ استسقائه بالعبّاس بن عبد المطلب، وساورَت حيّةٌ أعرابياً فضربها بعصاه وسلِم منها، فقال:

لولا الهِراوةُ والكَفَّانِ أنهلنـي

 

حوضَ المنيَّةِ قَتَّالٌ لمن عَلِقَا

أصَمُّ منهرِتُ الشدقين ملتَبـدٌ

 

لم يُغْذَ إلاّ المنايا مُذْ لَدُن خُلقَا

كأنّ عينَيه مسمارانِ من ذهبٍ

 

جَلاهُمَا مِدْوس الألان فائتلقا

وقال الحجّاج بن يوسف لأنس بن مالك: واللَّه لأقلعنَّك قلع الصَّمغة، ولأعصِبنَّك عصْب السَّلَمة، ولأضربنَّك ضرب غرائب الإبل ولأجَرِّدنَّك تجريد الضبّ،  وقال عمر بن الخطاب رحمه اللَّه لأبي مريم الحنفي: واللَّه لا أُحبُّك حتى تحبَّ الأرضُ الدّمَ المسفوح، لأن الأرضَ لا تقبل الدّم، فإذا جَفَّ الدّم تقلّع جُلَباً، ولقد أسرف المتلمّس حيث يقول:

أحارثُ إنّا لو تُسَاط دماؤُنـا

 

تزايَلْن حتى لا يمسّ دَمٌ دَمَا

وأشدُّ سَرَفاً منه قولُ أبي بكرٍ الشَّيباني، قال: كنتُ أسيراً مع بني عمٍّ لي من بني شيبان، وفينا من موالينا جماعةٌ في أيدي التّغالبة، فضربوا أعناقَ بني عمّي وأعناقَ الموالي على وَهْدةٍ من الأرض، فكنتُ والذي لا إله إلا هو، أرى دمَ العربيِّ ينماز من دم المولى، حتى أرى بياضَ الأرض بينهما، فإذا كان هجيناً قام فوقَه، ولم يعتزل عنه، وأنشد الأصمعي:

يُذَدْن وقد أُلقيتُ في قعر حُـفـرة

 

كما ذِيدَ عن حوض العِراك غرائبُه

وقال العبّاس بن مرداس:

نقاتلُ عن أحسابنا بـرمـاحـنـا

 

فنضربهم ضرب المُذِيد الخوامسا

وقال الفرزدق بن غالب:

ذكرتَ وقد كادت عصا البين تنشَظِي

 

حبالَك من سَلمى وذو اللُّب ذاكِـرُ

وقال الأسدي:

إذا المرءُ أَولاك الهـوانَ فـأَوْلِـه

 

هواناً وإن كانت قريبـاً أواصـرهُ

ولا تَظلم المولى ولا تَضَع العصـا

 

على الجهل إن طارت إليك بوادره

وقال جرير بن عطية:

ألا ربَّ مصلوب حَملتَ على العصا

 

وباب استه عن مِنْبر المُلـكِ زائل

وقالوا في مديح العصا نفسِها مع الأغصان وكرَم جوهر العِصيّ والقسيّ:

إذا قامت لسَبْحتها تثـنّـتْ

 

كأنّ عظامَها من خَيْزُرانِ

وقال المؤمَّل بن أُمَيْل:

والقوم كالعيدانِ يفضُل بعضُهم

 

بعضا كذاك يفوق عُودٌ عُودَا

لو تستطيع عن القضاء حِيادةً

 

وعن المَنيّة أن تُصيب مَحيدا

كانت تقيَّدُ حين تنزِلُ منـزلاً

 

فاليومَ صار لها الكَلاَلُ قيودا

وقال آخر:

وأسلَمَها الباكُون إلاّ حمـامةً

 

مطوّقةً بانت وبانَ قرينُهـا

تُجاوِبُها أخرى على خيزُرانةٍ

 

يكادُ يُدَنيِّها من الأرض لينُها

وقال آخر:

ألاَ أيُّها الركب المُخبّون هل لكـمْ

 

بأُختِ بني هندٍ عتَيبةَ من عَـهـدِ

أألقت عصاها واستقرَّ بها النـوى

 

بأرض بني قابوسَ أم ظَعَنت بعدِي

وقال آخر:

ألاَ هتَفتْ ورقاءُ في رونقِ الضُّحى

 

على غُصُنٍ غَضِّ النِّبات من الرَّندِ

وقال آخر في امرأةٍ رآها في شارَةٍ وبِزّة، فظنّ بها جَمالاً، فلما سَفَرت إذا هي غُولٌ:

فأظهرهـا ربِّـي بـمـنٍّ وقـدرةٍ

 

عليَّ ولولا ذاك مُتُّ من الكَـربِ

فلما بدتْ سبَّحت مِن قُبح وجهـهـا

 

وقلت لها: السَّاجور خيرٌ من الكلبِ

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : يُؤتَى بقومٍ من هاهنا يقُادون إلى حُظوظهم في السَّواجير، والسَّاجور يُسَمّى الزَّمَّارةَ، قالوا: وفي الحديث: فأُتِيَ الحجّاج بسعيد بن جُبير، وفي عنقه زَمَّارَةٌ، وقال بعض المُسَجَّنين:

ولي مُسْمِـعَـانِ وزَمّـارَةٌ

 

وظلٌّ مديدٌ وحصنٌ أمَـقّ

وكم عائدٍ لـي وكـم زائرٍ

 

لوَ ابصَرَني زائراً قد شَهَقْ

المُسْمِعَان: قيدان، وسمَّى الغُلَّ الذي في عنقه زَمَّارة، وأمّا قولُ الوليد: من الخفيف

اسْقني يا زُبيرُ بالقَرقارهْ

 

قد ظَمِئنا وحَنَّتِ الزّمّارهْ

اسْقني اسْقني فإنَّ ذُنوبي

 

قد أحاطت فما لها كَفّارهْ

فإنّ الزَّمارة ها هنا: المزمار، وقال أيضاً صاحب الزّمّارة في صفة السِّجن:

فبتُّ بأحصَنِـهـا مـنـزلاً

 

ثقيلاً على عُنُق السـالـكِ

ولستُ بضيف ولا في كراءٍ

 

ولا مستعيرٍ ولا مـالـكِ

وليس بغَصبٍ ولا كالرُّهون

 

ولا يشبه الوَقف عن هالكِ

ولا مُسْمِعَان فأدنـاهـمـا

 

يغنِّي ويمْسِك في الحالـكِ

وأقصاهما ناظرٌ في السماءِ

 

عمداً وأوسخُ من عـاركِ

المُسمِعان ها هنا أحدهما قيدُه، والآخر صاحب الجَرَس، قال: وأخبرني الكلابيُّ قال: قاتلت بنو عمٍّ لي بعضُهم بعضاً، فجعل بعضُهم ينضمُّ إلى بعضِ لِوَاذاً منِّي، وليس لي في ذلك هِجِّيَري إلاَّ قولي:

قد جعلَت تأْوِي إلى جثمَّانِهـا

 

وكِرْسِها العاديِّ من أعطانها

فلمَّا طلبوا القِصاص، قلت: دونكم يا بني عمّي حَقَّكم، فأنا اللحم وأنتم الشَّفْرة؛ إن وهبتم شكْرتُ، وإن اعتقلتم عقَلْت، وإن اقتصصتم صَبَرْت، قال: وسألت يونس عن قوله: :"نَسْياً مَنْسِيّاً" مريم: 23، قال: تقول العرب إذا ارتحلوا عن المنزل ينزلونه: انظروا أنساءكم، وهي العصا، والقَدَح، والشِّظاظ، والحَبْل، قال: فقلت: إني ظننت هذه الأشياء لا ينساها أربابُها إلاّ لأنها أهونُ المتاع عليهم، قال: ليس ذلك كذلك، المتاع الجافي يذكِّر بنفسه، وصغار المتاع تذهبُ عنها العيون، وإنّما تذهب نفوسُ العامّة إلى حفظِ كل ثمين وإن صغُر جسمه، ولا يقفون على أقدار فَوت الماعون عند الحاجة وفقد المُحِلاَّت في الأسفار، وقال يونس: المنسيُّ: ما تقادم العهدُ به ونُسِي حيناً لهوانه، ولم تكن مريمُ لتضربَ المثلَ في هذا الموضع بالأشياء النَّفيسة التي الحاجةُ إليها أعظم من الحاجة إلى الشيء الثمين في الأسواق، وقال الأشهب بن رُمَيلة:

قال الأقاربُ لا تغررك كثرتُنا

 

وأغْنِ نفسَك عنّا أيُّها الرجلُ

عَلَّ بَنِيَّ يشُدُّ اللَّه أعظمَـهُـمْ

 

والنَّبْعُ ينبُت قضباناً فيكتهـلُ

وكان فرسُ الأخنس بن شهابِ يسمَّى العَصا، والأخنسُ فارس العصا، وكان لَجذيمةَ الأبرشِ فرسٌ يقال له العصا، ولبني جعفر بن كلاب شَحمة الغدير والعصا، فشحمة: فرس جَزْءٍ بن خالد، والعصا: فرس عوف بن الأحوص، والغدير: فرس شُريح بن الأحوص، والعصا أيضاً: فرس شبيب بن كعب الطائي، وقال بعضُهم أو بعض خُطبائهم:

وليس عصاه من عراجين نَخْـلةٍ

 

ولا ذاتَ سيرٍ من عصِيِّ المسافرِ

ولكنَّها إمَّـا سـألـتَ فـنَـبـعةٌ

 

وميراثُ شيخٍ من جياد المَخاصرِ

والرجل يتمنّى إذا لم تكن له قوةٌ وهو يَجدُ مَسَّ العجز، فيقول: لو كان في العصا سيرٌ، ولذلك قال حبيب بن أوسٍ: من مخلع البسيط

ما لك من هـمَّةٍ وعـزمٍ

 

لو أنّهُ في عصاكَ سَـيرُ

رُبِّ قليلٍ جَنَى كـثـيراً

 

كم مطرٍ بدؤه مُـطَـيرُ

صبراً على النّائبات صبراً

 

ما صَنَع اللّهُ فهو خـيرُ

وإذا لم يجعل المسافرُ في عصاه سَيراً سقطت إذا نعسَ من يده، وسئل عن قوله: "وَلِيَ فيها مَآرِبُ أُخْرَى" طه:18، قال: لستُ أحيط بجميع مآربِ موسى صلى الله عليه وسلم ، ولكني سأُنَبِّئكم جُمَلاً تدخل في باب الحاجة إلى العصا، من ذلك أنها تُحمَل للحيّة، والعقرب، وللذّئب، وللفحل الهائج، ولعَير العانَةِ في زمن هَيْج الفُحول، وكذا فحول الحُجُور في المُروج، ويتوكَّأ عليها الكبير الدالف، والسَّقيم المدنَف، والأقطعُ الرِّجلِ، والأعرج، فإنها تقوم مقامَ رِجلٍ أخرى، وقال أعرابيٌّ مقطوعُ الرِّجل:

اللّه يعلم أنِّي من رجـالِـهِـمُ

 

وَإنْ تَخَدَّدَ عن متنيَّ أطمارِي

وإنْ رُزيتُ يداً كانت تُجَمّلُنـي

 

وإنْ مشَيت على زُجّ ومسمارِ

والعَصَا تَنوب للأعمى عن قائده، وهي للقصّار والفَاشِكار والدبَّاغ، ومنها المِفأَد للمَلَّة والمحراك للتَّنُّور، قال الشاعر:

إذا كان ضرب الخبز مَسْحاً بخرقةٍ

 

وأخْمِدَ دون الطارق المـتـنـوِّرِ

كأنّهُ كرِه أن ينفُض عنها الرَّماد بعَصاً فيُستدلَّ على أنه قد أنضج خُبزتَه، يصفُه بالبخل، وهي لدق الجِصّ والجِبْسين والسّمسم، وقال الشّماخ بن ضرار:

وأشعثَ قَدْ قَدَّ السِّفارُ قميصَـهُ

 

يَجُر شِواءً بالعصا غير مُنْضَجِ

ولِخَبط الشَّجَر، وللفَيْج وللمُكارِي، فإنهما يتخذان المخاصر، فإذا طال الشّوْط وبَعُدَت الغاية استعانا في حُضْرهما وهَرْوَلِتهما في أضعاف ذلك، بالاعتماد على وجه الأرض،وهي تعدِّل من مَيل المفلوج، وتُقيم من ارتعاش المُبرسَم، ويتّخذها الرّاعي لغَنمِه، وكلُّ راكب لمركَبِه، ويُدْخل عَصاهُ في عُروة المِزْوَد، ويمسك بيده الطرفَ الآخَر، وربَّما كان أحدُ طرفيها بيد رَجُل والطّرَف الآخَر بيد صاحبه وعليها حِمْلٌ ثقيل، وتكون إنْ شئتَ وتِداً في حائط، وإن شئت ركَزْتها في الفضاء وجعلتَها قِبلةً، وإنْ شئتَ جعلتها مِظلَّة، وإنْ جعلت فيها زُجّاً كانت عَنَزة، وإن زِدتَ فيها شيئاً كانت عُكَّازاً، وإن زدت فيها شيئاً كانت مِطْرداً، وإن زدت فيها شيئاً كانت رُمْحاً، والعصا تكون سَوْطاً وسلاحاً، وكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطُب بالقضيب، وكفى بذلك دليلاً على عِظَم غَنائها، وشَرَف حالها، وعلى ذلك الخلفاءُ وكبراءُ العرب من الخُطباء، وقد كان مروانُ بن محمَّد حين أُحيط به دَفعَ البُرْدَ والقضيبَ إلى خادمٍ له، وأمَرَه أن يدفنهما في بعض تلك الرِّمال، ودفع إليه بنتاً له، وأمره أن يضرِبَ عنقَها، فلما أُخِذ الخادمُ في الأسرى قال: إنْ قتلتموني ضاع ميراثُ النبيصلى الله عليه وسلم ، فأمَّنوه على أن يُسلِّم ذلك لهم، وقال الشاعر في صفة قناة:

وأسمر عاترٍ فيه سِنَـانٌ

 

شُرَاعيٌّ كساطعَةِ الشّعَاعِ

وقال آخر: من الخفيف

هَوْنَةٌ في العِنانِ تهتزُّ فـيه

 

كاهتزاز القناةِ تحت العُقَاب

ومما يجوز في العصا قول الشاعر:

للهام ضرّابون بالمنـاصـلِ

 

ضَربَ المُذيِدَ غرَّب النَّواهِلِ

وقال عبَّاس بن مرداس:

نطاعِن عن أحسابنا برمـاحـنـا

 

ونضربهم ضرب المُذِيد الخوامسا

وقال الآخر:

دافَع عَنْها جلبي وحَشِّـي

 

فهي كَعُود النَّبْعَة الأجَشِّ

وقال نُصَيْب الأسود:

ومَن يُبق مـالاً عُـدّةً وصِـيانةً

 

فلا الدَّهر مُبقيه ولا الشُّحُّ وافِرُهْ

ومن يَك ذا عُودٍ صلـيبٍ يعـدُّه

 

ليكسر عُودَ الدّهرِ فالدَّهرُ كاسرهُ

وقال آخر:

تخيَّرتُ من نَعْمانَ عـودَ أراكةٍ

 

لهندٍ فمن هذا يبلِّـغُـه هِـنـدَا

خليليّ عُوجا بارَك اللَّه فيكـمـا

 

وإن لم تكن هندٌ لأرضكما قَصدَا

وقُولا لها ليس الضَّلاَلُ أجارَنـا

 

ولكنَّما جُرْنا لنَلقاكُـمُ عَـمْـدَا

وقال آخر:

فتلك ثيابي لم تُـدنَّـس بـغـدرَةٍ

 

ووَرْيُ زنادي في ذُرا المجد ثاقبُ

ولو صادَفَتْ عوداً سوى عُود نَبعةٍ

 

وهيهاتَ أفنَتْه الخطُوبُ النّـوائبُ

وقال آخر:

عصا شِريْانةٍ دُهنت بزُبـدٍ

 

تدُقّ عظامَه عَظماً فَعظْما

وليس هذا مثل قول لَقيط بن زُرَارة:

إذا دهَنُوا رماحَهُمُ بزُبدٍ

 

فإنّ رماحَ تيمٍ لا تَضِيرُ

وقال صالح بن عبد القُدُّوس مجزوء الكامل

لا تدخُلَنْ بنَمـيمةٍ

 

بين العصا ولِحائها

وقال شِبْل بن معبدٍ البَجَليّ:

بَرَتْني صروفُ الدَّهرِ من كلِّ جانب

 

كما يُبترَى دونَ اللِّحـاء عَـسِـيبُ

وقال أوس بن حَجَر:

لحونَهم لحوَ العصا فطردنهم

 

إلى سَنَة جُرذانُها لم تَحلَّـمِ

وقال الرّقاشيّ في صفة القناة التي تُبرَى منها القِسيّ:

من شِقَقٍ خُضـرٍ بَـرُوصِـيّاتِ

 

صُفْرِ اللِّحـاءِ وخَـلُـوقـيَّاتِ

جُدِلْن حتَّى إضْـنَ كـالـحـيَّاتِ

 

رشـائقـاً غـير مـؤبَّـنـاتِ

أنَّـفـهـن مـتـمـطِّــراتِ

 

عمرو بن عُصفورٍ على استثباتِ

وقال محمد بن يَسِير:

ومشَمِّرِينَ عن السَّواعدِ حُسِّـرٍ

 

عنها بكُلِّ رشيقة الـتـوتـير

ليس الذي تُـشـوِي يداه رمـيّةً

 

فيهم بمعـتـذِرٍ ولا مـعـذورِ

عُطُفِ السِّيَاتِ موانعٍ في عطفها

 

تُعزَى إذا نُسبتْ إلى عُصفُـورِ

ذهب إلى قوله: في كَفِّه مُعطيَةٌ مَنوعُ وهذا مثل قوله: خرقاءُ إلاّ أنّها صَنَاعِ وهذا مثل قوله: غادرَ داءً ونجا صَحيحَا ومثل قوله: حتَّى نجا من جَوفه وما نَجَا فإن طال قيامُ الخطِيب صار فيه انحناءٌ وجَنأ، وقال الأسديّ:

إنا ابنُ الخالدين إذا تلاقَى

 

من الأيّام يومٌ ذو ضَجَاج

كأنّ اللَّغْب والخُطباءَ فـيه

 

قِسيُّ مثقِّفٍ ذاتُ اعوِجَاج

وعلى هذا المعنى قال الشماخ بن ضِرار:

فأضحت تَفَالَى بالسِّتار كأنَّـهـا

 

رماحٌ نحاها وِجهةَ الرِّيح راكِزُ

وقال العُمَانيّ:

عاتٍ يرى ضَربَ الرجال مَغْنَما

 

إذا رأى مُصَدِّقاً تـجـهّـمـا

وهزّ في الكفِّ، وأبدَى المِعصما

 

هِرَاوةً نَبْـعِـيّةً أو سَـلَـمـا

تتركُ ما رام رُفَاتـا رِمـمَـا

 

 

وقال أميّة بن الأسكر:

هلاّ سألتِ بنا إن كنـتِ جـاهـلةً

 

ففي السُّؤال من الأنْباء شافـيهـا

تخبركِ عنا معدٌّ إنْ هُم صـدقـوا

 

ومِن قبائل نجـرانِ يَمـانـيهـا

وبالجياد تجرُّ الـخَـيْلَ عـابـسةً

 

كأنَّ مذْرورَ مِلحٍ في هـواديهـا

قومٌ إذا قَذَعُ الأقوال طاف بـهـم

 

ألقى العَصيَّ عِصيَّ الجهل باريها

قال، والرَّجل إذا لم يكن معه عصاً فهو باهل، وناقةٌ باهِلٌ وباهلة، إذا كانت بغير صِرار، وقال الراجز:

أبهَلَها ذائدُهـا وسَـبَـحـا

 

ودقَّت المركُوَّ حتّى ابلندحا

احتجنا إلى أن نذكرَ ارتفاقَ بعضِ الشَّعراء من العُرجان بالعصيّ، عند ذكرنا العصا وتصرُّفَها في المنافع، والذي نحنُ ذاكروه من ذلك في هذا الموضع قليل من كثيرِ ما ذكرناه في كتاب العرجان، فإذا أردتموه فهو هناك موجودٌ إن شاء اللّه، قالوا: ولما شاع هجاء الحَكم بن عبدلٍ الأسَديّ لمحمد بن حسان بن سعد وغيره من الوُلاة والوجوه، هابه أهل الكوفة، واتَّقى لسانَه الكبيرُ والصغير، وكان الحَكمُ أعرجَ لا تفارقه عصاه، فترك الوقوفَ بأبوابهم وصار يكتب على عصاه حاجتَه ويبعثُ بها مع رسوله فلا يُحبَس له رسول، ولا يؤخَّر عنه لقراءة الكتاب، ثم تأته الحاجة على أكثر مما قدّر، وأوفرَ مما أمّل، فقال يحيى بن نوفل:

عصا حَكَمٍ في الـدّار أوّلُ داخـلٍ

 

ونحن عن الأبواب نقُصَى ونُحْجبُ

وأما قول بِشر بن أبي خازم:

للَّهِ درُّ بني الحَدَّاءِ مِـن نـفـرِ

 

وكلُّ جارٍ على جيرانه كَلِـبُ

إذا غَدَوْا وعِصيُّ الطّلْح أرجلُهم

 

كما تُنصَّبُ وسطَ البِيعةِ الصُّلُبُ

وإنَّما يعني أنَّهم كانوا عُرجاناً، فأرجلُهم كعصيِّ الطَّلح، وعصيُّ الطَّلح معوجَّة، وكذَلك قال مَعْدانُ الأعمى، في قصيدته الطَّويلة التي صنّف فيها الغالية والرافِضة، والتميميّة، والزيديَّة: من الخفيف

والذي ظفَّف الجِدارَ عن الذُّعْ

 

رِ وقد بات قاسم الأنـفـالِ

فغدا خامعاً بوجـه هـشـيمٍ

 

وبساقٍ كعودِ طَـلـحٍ بـالِ

وقال بعض العُرجان ممن جعل العصا رِجْلاً:

ما للكواعب يا دهماء قد جـعـلَـتْ

 

تَزْوَرُّ عنِّي وتطوَى دوني الْحُـجَـرُ

لا أسمع الصّوتَ حتَّى أستـديرَ لـه

 

ليلاً طويلاً يناغيني لـه الـقـمـرُ

وكنتُ أمشي على رجلينِ مـعـتـدلاً

 

فصرتُ أمشي على رجلِ من الشَّجرِ

وقال رجلٌ من بني عِجل:

وشَى بِيَ واشٍ عند ليلَى سَـفـاهةً

 

فقالت له ليلى مقالةَ ذي عـقـلِ

وخبّرَها أني عَرُِجتُ فلـم تـكـنْ

 

كورهاءَ تجترّ الملامةَ للـبـعـلِ

وما بيَ من عيبِ الفتى غير أننـي

 

جعلتُ العصا رِجْلاً أُقيم بها رِجلي

وقال أبو ضبّةَ في رِجله:

وقد جعلتُ إذا ما نمتُ أوجـعـنـي

 

ظَهري وقمتُ قيامَ الشارف الظَّهِـرِ

وكنت أمشي على رجلينِ مـعـتـدلاً

 

فصرتُ أمشي على رجلٍ من الشَّجَرِ

وقال أعرابيٌّ من بني تميم:

وما بيَ من عَيب الفتى غير أنَّني

 

ألِفتُ قَناتِي حين أوجعَني ظهري

قال: ودخل الحَكم بن عبدل الأسَديّ وهو أعرج، على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب، وهو أمير الكوفة وكان أعرج، وكان صاحب شُرَطِه أعرج، فقال ابن عبدَل:

ألْقِ العصا ودع التخامع والتمسْ

 

عملاً فهذي دولةُ العُـرجـانِ

لأميرنا وأميرِ شُرطِتنا معاً

 

لكليهما يا قومَنا رِجـلانِ

فإذَا يكونُ أميرُنا ووزيرُنا

 

وأنَا فإنّ الرابعَ الشيطانُ

ومما يدلُّ على أنّ للعصا موقعاً منهم، وأنها تدور مع أكثر أمورهم قول مزرِّد ابن ضِرار:

فجاءَ على بَكـر ثَـفَـالٍ يَكُـدُّه

 

عصاهُ استُه، وَجْءَ العُجايَة بالفِهْرِ

ويقولون: اعتصى بالسَّيف، إذا جعل السيف عصاه، وإنَّما اشتقُّوا للسيف اسماً من العصا؛ لأنّ عامّة المواضع التي تصلحُ فيها السيوف تصلحُ فيها العصيّ، وليس كلُّ موضعٍ تصلُح فيه العصا يصلح فيه السَّيف، وقال الآخر:

ونحن صدَعْنا هامَة ابنِ مُحـرّقٍ

 

كذلك نَعصَى بالسيوف الصوارِم

وقال عمرو بن الإطنابة: من الخفيف

وفتىً يضربُ الكتيبة بالسَّيْ

 

فِ إذا كانت السيوفُ عصيَّا

وقال عمرو بن مُحرِز:

نزَلوا إليهم والسيوف عصيُّهم

 

وتذكّروا دِمَناً لهم وذُحُـولا

وقال الفرزدق همامُ بن غالبِ بن صعصعة:

إنّ ابنَ يوسف محمودٌ خـلائقُـه

 

سِيَّانِ معروفُه في الناس والمطَرُ

هو الشِّهاب الذي يُرمَى العدوُّ به

 

والمشرفيُّ الذي تَعصَى به مُضَرُ

يُقال عَصِيَ بالسيف واعتصى به، وقال العُريان بن الأسود، في ابنٍ له مات: من الخفيف

ولقد تَحمِل المُشاةُ كريماً

 

ليِّنَ العود ماجدَ الأعراقِ

ذاك قوْلي ولا كقول نساءٍ

 

مُعْوِلاتٍ يبكين بالأرْواق

وكتب عمرو بن العاص إلى عُمَر بن الخطاب رحمه اللَّه: إنّ البحر خَلْقٌ عظيمٌ يركبُه خلقٌ صغيرٌ: دودٌ على عودٍ، وقال واثلة السُّدوسيُّ:

رأيتُكَ لمّا شِبْتَ أدركَـكَ الـذي

 

يُصيبُ سَراةَ الأزدِ حين تشـيبُ

سفاهةُ أحلامٍ وبُـخـلٌ بـنـائلٍ

 

وفيك لمن عابَ المَزُون عُيُوبُ

لقد صبرَتْ للذلِّ أعوادُ مِنـبـرٍ

 

تقوم عليها، في يديك قـضـيبُ

وقد أوحشتْ منكم رزَاديق فارسٍ

 

وبالمصـر دُورٌ جَـمّةٌ ودُرُوب

وأنشد الأصمعي:

أعددتُ للضِّيفان كلباً ضـارياً

 

وهِراوةً مجلوزةً مـن أرْزَنِ

ومعاذِراً كذباً ووجهاً بـاسِـراً

 

وتشكّياً عَضّ الزمان الألزَنِ

وشذاةَ مَرْهُوبِ الأذى قاذُورَةٍ

 

خَشِنٍ جوانبه دَلُوظٍ ضَـيْزَنِ

وبكفّ محبوكِ اليدين عن العُلاَ

 

والباعِ مسوَدِّ الذراع مُقَحْزَنِ

وتجنّياً لهم الذنـوبَ وأتَّـقـي

 

بغليظ جِلد الوجنتين عَشَوْزَنِ

وقال جرير:

تَصِفُ السيوفَ وغيرُكم يَعْصَى بها

 

يا ابنَ القيون وذاك فعلُ الصَّيقـلِ

وقال الراعي:

تبيت ورِجلاها إوَانانِ لاستـهـا

 

عصاها استُها حتَّى يكلَّ قَعودها

وقال أعرابيُّ للحُطيئة: ما عندكَ يا راعي الغنم؟ قال: عجراء من سَلم قال: إني ضَيفٌ قال: للضِّيفان أعددتُها، وقال الشَّمَّاخ بن ضِرار:

إلى بَقرٍ فيهنَّ للعـين مـنْـظـرٌ

 

ومَلْهىً لمن يلهو بـهـنَّ أنـيقُ

رَعَينَ النَّدى حتَّى إذا وَقَد الحصى

 

ولم يبقَ من نَوء السِّماك بُـرُوقُ

تَصدَّع شَعْبُ الحي وانشقَّت العصا

 

كذاك النَّوى بين الخليط شَقُـوقُ

وقال امرؤ القيس: من السريع

قُولا لدُودَان عبيدِ العصا

 

ما غَزّكمْ بالأسدِ الباسِل

وقال عليُّ بن الغدير:

وإذا رأيتُ المرءَ يشعَب أمـرَه

 

شَعْبَ العصا ويَلجُّ في العِصيانِ

فاعمِدْ لما تعلُو فما لَكَ بالـتـي

 

لا تستطيع مـن الأمـور يدانِ

وقال الآخر:

وهَجهاجةٍ لا يملأ الـلَّـيلُ صَـدْرَهُ

 

إذا النِّكسُ أغضى طرفَه غيرِ أروعِ

صحيح بريء العُودِ من كـل أُبْـنَةٍ

 

وجَمَّاعِ نَهْبِ الخير في كلّ مَجمَـعِ

وقال مِسكين الدارميِّ:

تَسمُو بأعناقٍ وتحبسهـا

 

عَنَّا عصيُّ الذادةِ العُجُرُ

حبابُ بن موسى، عن مُجَالدٍ، عن الشَّعبي، عن زَحْر بن قيس قال: قدمتُ المدائن بعدما ضُربَ علي بن أبي طالب رحمه اللَّه، فلقيَني ابنُ السَّوداء وهو ابن حرب، فقال لي: ما الخبر؟ قلتُ: ضُرِبَ أمير المؤمنين ضربةً يموت الرّجلُ مِن أيسرَ منها ويعيش من أشدَّ منها، قال: لو جئتمونا بدماغه في مائة صُرَّة لعلمنا أنَّه لا يَمُوت حتَّى يذودَكم بعصاه، وقال اللَّه تبارك وتعالى: "وَإذ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنا اضْرِبْ بِعَصَاك الحَجَرَ" البقرة: 60 الآية، وقال الشاعر:

رأيتُ الغانيات نَفَـرنَ مـنِّـي

 

نِفارَ الوحش من رامٍ مُفِـيقِ

رأينَ تغـيُّري وأردن لَـدْنـاً

 

كغُصْنِ البانِ ذي الفَنَن الوريقِ

وقال أبو العتاهية:

عرِيتُ من الشَّباب وكان غَضّاً

 

كما يَعرىَ من الورق القَضِيبُ

ألا ليتَ الشَّبـابَ يعـودُ يومـاً

 

فأُخبرَه بما صنع المَـشِـيبُ

وقال الآخر:

ولئن عَمِرتُ لقد عَمِرتُ كأننـي

 

غُصْنٌ تثِّنـيهِ الـرِّياح رطـيب

وكذاكَ حقّاً من يُعَـمَّـر يُبـلِـهِ

 

كرُّ الزَّمانِ عليه والتّـقـلـيبُ

حتّى يعودَ من البِلَـى وكـأنَّـهُ

 

في الكفّ أفوَقُ ناصِلٌ معصوبُ

مُرُط القِذاذِ فليس فيه مصـنـعٌ

 

لا الرِّيشُ ينفعه ولا التعـقـيبُ

وقال عروةُ بن الورد:

أليس ورائي أن أدِبَّ على العصا

 

فَيَأمَنَ أعدائي ويسأمَني أهلـي

وأنشد:

عَصُوا بسُيوفِ الهند واعتركت بهم

 

بَرَاكاءُ حرب لا يطيرُ غرابـهـا

وقال لبيد:

أليس ورائي إن تراخت مَنّـيتـي

 

لُزُومُ العصا تُحنَى عليها الأصابعُ

وقال الآخر:

نُقِيم العصا ما كان فيهـا لـدونَةٌ

 

وتأبى العصا في يُبْسِها أن تُقَوَّما

وقال الآخر:

إنّ الغصون إذا قوَّمتها اعتدلت

 

ولن تلينَ إذا قوّمتَها الخُشُـبُ

وقال جرير:

ما للفرزدق من عزٍّ يلـوذ بـه

 

إلاّ بني العَمِّ في أيديهم الخَشَبُ

سِيروا بني العمّ فالأهوازُ منزلكمْ

 

ونهرُ تِيرَى فَما تدريكم العرب

وقال جرير في هجائه بني حنيفة:

أصحابُ نخلٍ وحِيطان ومـزرعةٍ

 

سيوفُهُم خُشبٌ فيها مسـاحِـيهـا

قَطْعُ الدِّبَارِ وسقْيُ النخل عادَتُهـم

 

قِدماً وما جاوَزتْ هذا مساعيهـا

لو قيل أين هَوادي الخيل ما عَرَفوا

 

قالوا لأعجازها هذِي هـواديهـا

أو قلتَ إن حَمِامَ الموت آخِـذُكـم

 

أو تُلجموا فرساً قامت بواكـيهـا

لمّا رأت خالداً بالعِرض أهلكَهـا

 

قتلاً وأسلمها ما قال طـاغـيهـا

دأنت وأعطتْ يداً للسَِّلْـم طـائعة

 

من بعد ما كاد سيفُ اللّه يُفْنيهـا

وقال سلامة بن جندل:

كنَّا إذا ما أتانا صـارخٌ فـزِعٌ

 

كان الصُّراخُ له قَرعَ الظَّنابيب

ويقال للخاطب إذا كان مرغوباً فيه كريماً: ذاك الفحل الذي لا يقرع أنفه؛ لأن الفحل اللئيم إذا هبَّ على الناقة الكريمة ضربوا وجهَه بالعصا، وقال الآخر:

كأنّها إذْ رُفِعَتْ عصاها

 

نعامةٌ أوحَدَها رألاها

وممَّن أضافوه إلى عصاه: داود مَلْكِينَ اليشكُريّ، وكان وليَ شُرَط البصرة، وجاء في الحديث أنّ أبا بكرٍ رحمه اللَّه أفاض من جَمْع وهو يخرِش بعيره بمِحجنه، وقال الأصمعيّ: المِحْجَنُ: العصا المعوجَّة، وفي الحديث المرفوع: أنه طاف بالبيت يستلم الأركان بمحجنِه، والخَرْشُ: أن يضربه بمحجنه ثم يجذبه إليه، يريد بذلك تحريكه، وقال الراعي:

فألقى عَصَا طلحٍ ونعلاً كأنَّهـا

 

جَنَاحُ السُّمانَى رأسهُ قد تصوّعا

والعَصَا أيضاً: فرس شَبيب بن كُرَيبٍ الطائي، أبو الحسن، عن علي بن سُلَيمٍ قال: كان شبيب بن كريب الطائيّ يصيب الطريق في خلافةِ علي بن أبي طالب رحمه اللّه، فبعث إليه أحمر بنَ شُمَيط العِجليّ وأخاه في فوارس، فهرب شَبيبٌ وقال:

ولما أن رأيت ابنَيْ شُمَيطٍ

 

بسكّة طيِّئٍ والبابُ دُوني

تجلّلتُ العصا وعلمتُ أنِّـي

 

رهينُ مُخَيَّسٍ إن يثقَفونـي

ولو أنظرتُهُم شـيئاً قـلـيلاً

 

لساقوني إلى شيخٍ بَـطـينِ

شديدِ مَجَالز الكَتِفين صُلْـبٍ

 

على الحَدثَان مجتمعِ الشُّؤونِ

وقال النَّجاشيّ لأمِّ كَثِير بن الصَّلْت:

ولستُ بهنديٍّ ولـكـنّ ضَـيعةً

 

على رَجُلٍ لو تعلمـين مَـزِيرِ

وأعجبْتِني للسَّوط والنَّوط والعَصَا

 

ولم تعجبـينـي خُـلَّةً لأمـيرِ

وقال أعشى بني ربيعة:

وكان الخلائفُ بعد الرسـو

 

لِ للَّه كلُّـهـمُ خـاشـعَـا

شهيديْن من بعد صِدِّيقـهـم

 

وكان ابنُ صخر هو الرّابعا

وكان ابنُه بعده خـامـسـاً

 

مُطيعاً لمن قبله سـامـعـا

ومَروان سادِسُ مَنْ قد مضى

 

وكان ابنُه بعده سـابـعـا

وبشرٌ يُدَافعُ عبدَ الـعـزيز

 

مضى ثامناً ذا وذا تاسـعـا

وأيُّهـمُ مـا يَكُـن سـائسـاً

 

لها لم يكن أمرُها ضـائعـا

فإما تَرَيْنِي حليف العـصـا

 

فما كنت من رَثْيَةٍ خامِعـا

فساوَمني الدّهرُ حتى اشترى

 

شبابي وكنت له مـانِـعـا

وقال عوف بن الخَرِع:

ألا أبلـغـا عـنِّـي جُـريحةَ آيةً

 

فهل أنت عن ظلم العشيرة مُقْصِرُ

وإنْ ظَعَن الحيُّ الجمـيعُ لِـطـيّةٍ

 

فأمرُكَ معصيٌّ وشِربُكَ مُـغْـوِرُ

أفي صِرْمةٍ عشرينَ أو هي دونَهـا

 

قَشرتم عصاكم فانظروا كيف تُقشَرُ

زعمتم من الهُجْر المضلَّلِ أنّـكـم

 

سَتنصُرُكم عمروٌ علينا ومِـنْـقَـرُ

فيا شَجَر الوادي ألا تنصـرونـهـم

 

وقد كان بالمرُّوت رِمثٌ وسَخْبَـرُ

ألم تجعلوا تَيْماً على شعبتَيْ عَصـاً

 

فما ينطق المعروفَ إلاَّ مـعـذِّرُ

وقال رجلٌ من محارب يرثي ابنَه:

ألم يكُ رطباً يعصِر القومُ ماءه

 

وما عودُه للكاسرين بيابـسِ

وقال حاجبُ بن زُرارة: واللَّه ما القعقاع برَطب فَيُعْصَر، ولا يابس فيُكسَر، وقال حَمّادُ عَجْرَدٍ: مجزوء الكامل

وجَرَوْا على ماعُوِّدوا

 

ولكلِّ عيدانٍ عُصَارَهْ

وقال أيضاً:

فأنتَ أكرمُ مَن يمشي على قـدمٍ

 

وأنضَرُ الناس عند المَحْلِ أغصانا

لو مَجَّ عُود على قومٍ عُصَارتـه

 

لمَجَّ عودُك فينا المِسكَ والبـانـا

وقال آخر:

إنّا وجَدْنا النّاسَ عُـودَين: طـيّبـاً

 

وعوداً خبيثاً ما يَبِضُّ على العَصرِ

تَزين الفتى أخلاقُـه وتَـشـينـه

 

وتُذكر أخلاقُ الفتى حيثُ لا يدري

وقال المؤمَّل بن أُمَيل:

كانت تقيَّد حين تنزل مـنـزلاً

 

فاليوم صار لها الكلالُ قُيودا

والنَّاس كالعِيدانِ يَفضُلُ بعضهم

 

بعضاً كذاك يفوق عودٌ عودا

وقالت ليلى الأخيليَّة:

نحن الأخايل لا يزال غُلامُنـا

 

حتَّى يدبَّ على العصا مذكورا

انظر - أبقاك اللَّه - في كم فنٍّ تَصرَّف فيه ذكرُ العصا من أبواب المنافع والمرافق، وفي كل وجه صرّفته الشُّعراء وضُرِب به المثل، ونحن لو تركْنا الاحتجاج لمخاصِر البلغاء، وعِصيّ الخطباء، لم نجد بُدّاً من الاحتجاج لِجلَّة المرسَلين، وكبار النبيِّين؛ لأنّ الشُّعوبيّة قد طعنت في جملةِ هذا المذهب على قضيبِ النبي صلى الله عليه وسلم وعَنَزَته، وعلى عصاه ومِخْصَرَته، وعلى عصا موسى؛ لأنّ موسى صلى الله عليه وسلم قد كان اتَّخذها من قبل أن يَعلم ما عند اللَّه فيها، وإلامَ يكون صَيُّور أمرها، ألاَ ترى أنَّه لما قال اللَّه عزّ وجل: "وما تِلْكَ بِيَمِينكَ يَا مُوسى" طه: 17، قال: "هِيَ عَصَايَ أتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مآرِبُ أُخْرى" طه: 18، وبعد ذلك قال: "قال أَلْقِهَا يَا مُوسَى، فَأَلْقَاها فإذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسعَى" طه: 19-20، ومَن يستطيع أن يدَّعي الإحاطةَ بما فيها من مآربِ موسى إلاّْ بالتقريب وذِكرِ ما خطَر على البال؟ وقد كانت العصا لا تُفارِق يدَ سليمانَ بنِ داود عليه السلام في مَقاماته وصلواته، ولا في موته ولا في أيَّام حياته، حتَّى جعل اللَّه تسليط الأرَضَة عليها وسليمانُ ميّتٌ وهو معتمدٌ عليها، من الآياتِ عندَ مَن كان لا يعلم أنّ الجنَّ لم تكن تعلم إلاَّ ما تعلم الإنس، ولو علم القومُ أخلاقَ كلِّ ملّة، وزيَّ أهلِ كلِّ لغةٍ وعِلَلهم في ذلك، واحتجاجَهم له، لقلَّ شَغْبهم، وكفَونا مَؤُونتهم، هذه الرُّهبان تتَّخذ العِصيّ، من غير سُقم ولا نُقصانٍ في جارحة، ولا بدَّ للجاثَليق من قناعٍ ومن مظِلَّة وبَرْطُلَّة، ومن عُكّازٍ ومن عصاً، من غير أن يكون الدَّاعي إلى ذلك كِبَراً ولا عجزاً في الخِلقة، وما زال المُطِيل القيام بالموعظةِ أو القراءةِ أو التِّلاوة يتخذ العصا عند طول القيام، ويتوكّأُ عليها عند المشي، كأَنَّ ذلك زائدٌ في التكهُّل والزَّماتة، وفي نفي السُّخف والخِفّة، وبالنّاس حفظك اللَّهُ أعظم الحاجةٍ إلى أنْ يكونَ لكلِّ جنسٍ منهم سِيما، ولكلِّ صنف حليةٌ وسِمَةٌ يتعارفون بها، وقال الفرزدق بن غالب:

به نَدَب مما يقول ابنُ غـالـبٍ

 

يلوح كما لاحت وسومُ المصَدِّقِ

وقال آخر:

أنارَ حت صدَقت سِماتُه

 

وظهرت من كرَمٍ آياتُه

وأنشدني أبو عبيدة:

سقاها مِيسمٌ من آل عمرو

 

إذا ما كان صاحبُها جَحيشا

وذكر بعضُ الأعراب ضروباً من الوسم، فقال:

بهنَّ من خُطَّافنا خبْـطٌ وُسِـمْ

 

وحَلَقٌ في أسفل الذِّفرَي نُظِمْ

مَعْها نظامٌ مثل خطٍّ بالقَـلـمْ

 

وقُرْمَةٌ ولست أدري من قَرَم

عَرضٌ وخَبْطٌ للمحلِّيها المُسَمّ

 

 

وقال تبارك وتعالى: "سِيماهُمْ في وُجوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجود" الفتح: 29، وكما خالفوا بين الأسماء للتّعارُف، قال اللَّه عز وجل: "وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" الحجرات: 13، فعند العرب العِمَّةُ وأخذ المِخصرة من السِّيما،وقد لا يلبس الخطيب المِلْحفة ولا الجُبَّةَ ولا القميصَ ولا الرِّداء، والذي لا بدَّ منه العِمّةُ والمِخصرة، وربّما قام فيهم وعليه إزارهُ قد خالَفَ بين طرَفيه، وربّما قام فيهم وعليه عمامتُه، وفي يدهِ مخصرته، وربّما كانت قضيباً وربما كانت عصاً، وربّما كانت قناة، وفي القنا ما هو أغلظُ من السّاق، وفيها ما هو أدق من الخِنْصَرِ، وقد تكون مُحكَّكة الكعوب مثقَّفة من الاعوجاج، قليلة الأُبن، وربّما كان العود نَبْعاً وربّما كان من شَوْحَطٍ، وربما كان من آبَنُوس، ومن غرائب الخشَب ومن كرائم العيدان، ومن تلك المُلْس المصفَّاة، ربّما كانت لبَّ غصنٍ كريم؛ فإنَّ للعيدان جواهرَ كجواهر الرِّجال ولولا ذلك لما كانت في خزائن الخلفاء والملوك، ومنها مالا تَقْرَبه الأرَضة ولا تؤثِّر فيه القوادح، والعُكّازة إذا لم يكن في أسفلها زُجٌّ فهي عصاً؛ لأن أطول القنا أن يقال رمحٌ خَطِلٌ، ثم رمح بائِنٌ، ثمّ رمحٌ مخموس، ثم رمحٌ مربوع، ثم رمح مِطرَد، ثم عُكّازةٌ، ثم عصا، ثم من العصيِّ نُصُب المساحي والمرورِ والقُدُمِ والفؤوس والمَعاول، والمناجلِ، والطَّبَرْزِينات، ثم يكون من ذلك نُصُب السَّكاكينِ والسُّيوفِ والمَشَامِل، وكلُّ سهامٍ نبْعيةٍ، وغيرُ ذلك من العِيدان، مما امتدحها أوس بن حجرٍ أو الشمّاخ بن ضِرار، أو أحدٌ من الشعراء، فإنما هي من عَصاً، وكلُّ قوسِ بُندقٍ فإنَّما جيءَ بقناتها من بَرْوَض، ومُدِح ببَرْيها وصنعتها عصفور القوّاس، وقال الرَّقاشيّ:

أنعَتُ قوساً نعتَ ذي انتقـاءِ

 

جاء بها جالبُ بَـرْوضَـاءِ

بعد اعتيامٍ منه وانتـصَـاء

 

كافيةَ الطُّول على انتهـاءِ

مجلوزة الأكعبِ في استواءِ

 

سالمةً من أُبَن السِّـيسـاءِ

فلم تَزل مَساحِـلُ الـبَـرَّاءِ

 

تأخذ من طوائف اللِّـحَـاءِ

حتى بدت كالحيّةِ الصَّفـراءِ

 

ترنُو إلى الطّائِر في السّماء

بمُـقـلْة سـريعةِ الإقـذاءِ

 

ليست بكحلاءَ ولا زرقـاءِ

وقال الآخر:

قد أغتدي مَلَثَ الظَّلامِ بفِـتـيةٍ

 

للرَّمْي قد حَسروُا له عن أذرعِ

متنكِّبينَ خرائِطـاً لـبـنـادقٍ

 

ما بين مضفورٍ وبينَ مرسَّـعِ

بأكفّهم قُضبان بَرْوَضَ، قد غَدَوا

 

للطَّير قبل نُهُوضها للمـرتَـعِ

تُقذِي مَنِيّاتُ الطُّيور عيونَـهـا

 

يوماً إذا رَمِدت بأيدي النُّـزّعِ

صُفْر البطونِ كأنَّ لِيطَ متونهـا

 

سَرَقُ الحرير نواضرٌ لم تَشبع

وكانت العَنَزة التي تُحمَل بين يديْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - وربَّما جعلوها قبلةً أشهَرَ وأذكَر من أن يُحتاج في تثبيتها إلى ذكر الإسناد، وكانت سِيما أهلِ الحرم إذا خرجُوا إلى الحِلّ في غير الأشهر الحُرُم، أنْ يتقلدوا القلائدَ، ويعلِّقوا عليهم العلائق وإذا أَوْذَمَ أحدُهم الحجّ تزيَّا بزيّ الحاجّ، وإذا ساقَ بَدَنة أشعَرَها، وخالَفوا بين سِمات الإبل والغنم، وأعلموا البَحِيرة بغير عَلَم السَّائبة، وأعلموا الحاميَ بغير علم سائِر الفحول، وكذلك الفَرَع والوصِيلة والرّجَبيّة والعَتيرة من الغنم، وكذلك سائرُ الأغنام السَّائمة، وإذا كانت الإبل من حِباء ملكٍ غرزُوا في أسنمتها الرِّيش والخِرق ولذلك قال الشاعر:

يهَبُ الهجان بريشها ورُِعائها

 

كاللَّيل قبلَ صباحه المتبلِّـجِ

وإذا بلغت الإبل ألفاً فقئوا عين الفحل، فإن زادت فقئوا العينَ الأخرى فذلك المفقَّأ والمعمّى، وقال شاعرهم:

فقأتُ لها عَين الفَحِيل تـعـيُّفـاً

 

وفيهن رعلاءُ المسامع والحامي

وقال آخر:

وهبتَها وأنت ذو امتنانِ

 

يُفقأ فيها أعينُ البُعرانِ

قال آخر:

فكان شكرُ القومِ عند المـنـنِ

 

كيَّ الصحيحات وفَقْءَ الأعيُنِ

وإذا كان الفحل من الإبل كريماً قالوا فَحِيل، وإذا كان الفحل من النَّخل كريماً قالوا فُحّال، قال الرّاعي:

كانت نَجائبَ منذرٍ ومحرِّق

 

أمّاتُهُنَّ وطرقُهنَّ فَحِـيلا

وكان الكاهنُ لا يلبس المصبَّغ، والعَرَّاف لا يدَعُ تذييلَ قميصه وسَحب ردائه، والحَكَمُ لا يفارق الوَبَر، وكان لحرائر النِّساء زِيٌّ، ولكلِّ مملوكٍ زِيٌّ، ولذواتِ الرَّايات زيّ، وللإماءِ زيّ، وكان الزِّبرقان يَصبغ عمامتَه بصُفْرة، وذكره الشاعر فقال:

وأشهَدَ من عَوفٍ حُلولاً كثـيرة

 

يَحُجُّون سِبَّ الزِّبرقانِ المزعفرا

وكان أبو أُحيحة سعيد بن العاص إذا اعتمّ لم يعتمّ معه أحد، هكذا في الشّعر، ولعلّ ذلك أن يكون مقصوراً في بني عبد شمس، وقال أبو قيس بن الأسلت:

وكان أبو أحيحة قد علـمـتـمْ

 

بمكةَ غيرَ مهـتـضـمٍ ذمـيمِ

إذا شَدَّ الـعـصـابةَ ذاتَ يومٍ

 

وقامَ إلى المجالس والخصـوم

فقد حَرُمت على مَن كان يمشي

 

بمكة غير مُـدَّخَـل سـقـيمِ

وكان البَخْتريُّ غـداةَ جَـمْـعٍ

 

يدافعُهم بلقمـانَ الـحـكـيم

بأزهرَ من سَراة بـنـي لُـؤَيٍّ

 

كبدر الليل راقَ على النُّجـومِ

هو البيت الذي بُنـيت عـلـيه

 

قريشُ السِّرِّ في الزمن القـديمِ

وسَطْتَ ذوائبَ الفَرعَينِ منهـم

 

فأنت لبابُ سِرِّهم الصَّـمـيمِ

وقال غَيلان بن خَرَشة للأحنف: يا أبا بحرٍ، ما بقاء ما فيه العرب؟ قال: إذا تقلّدوا السيُّوف، وشدُّوا العمائم واستجادوا النِّعال، ولم تأخذهم حَمِيّة الأوغاد، قال: وما حَمِيَّةُ الأوغاد؟ قال: أن يعدُّوا التّواهُبَ ذُلاًّ، وقال الأحنف: استجيدوا النِّعال؛ فإنَّها خلاخيل الرّجال، والعرب تسمى السُّيوف بحمائِلها أردِيَة، وقال عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قولاً أحسن من هذا، قال: تمام جمال المرأة في خُفِّها، وتمام جمال الرجل في كُمَّتِه، ومما يؤكد ذلك قول مجنونِ بني عامر:

أأعقِر من جَـرَّا كـريمةَ نـاقـتـي

 

ووصليَ مفروشٌ لوصـل مُـنـازِلِ

إذا جاء قَعقعن الحُـلـيَّ ولـم أكـنْ

 

إذا جئتُ أرجو صوتَ تلك الصَّلاصِل

ولم تُغْنِ سِيجان العِـراقَـينِ نَـقْـرةً

 

ورُقْشُ القَلَنْسِيَ بالرّجـال الأَطـاوِلِ

والعصابة والعمامة سواء، وإذا قالوا سيِّد معمَّم فإنّما يريدون أنَّ كلَّ جناية يجنيها الجاني من تلك العشيرة فهي معصوبةٌ برأسه، وقال دريدُ بن الصِّمَّة:

أبلغْ نُعَيما وعوفاً إنْ لقيتَـهـمـا

 

إن لم يكن كان في سمعيهما صممُ

فلا يزال شهابٌ يستـضـاءُ بـه

 

يَهدِي المقانب ما لم تهلك الصِّمَمُ

عارِي الأشاجع معصوبٌ بِلمـتَّـه

 

أمرُ الزَّعامة في عرنينه شَـمَـم

وقال الكِنانيّ:

تنخَّبتُها للنَّسل وهـي غـريبةٌ

 

فجاءت به كالبدر خِرْقاً معمَّما

فلو شاتَمَ الفتيانَ في الحيِّ ظالماً

 

لما وجدوا غير التكذُّب مَشتَما

ولذلك قيل لسعيد بن العاصي: ذو العصابة، وقد قال القائل:

كَعابٌ أبوها ذُو العصابة وابنُه

 

وعثمانُ ما أكفاؤها بكـثـيرِ

يقولها خالدُ بن يزيد، وقال عمر بن الخطاب رحمه اللّه: العمائم تيجان العرب، وقال: وقيل لأعرابيّ: إنك لتُكثر لُبْس العمامة؟ قال: إنّ شيئاً فيه السّمعُ والبَصر لجدير أن يُوقَى في الحرّ والقُرّ، وذكروا العمامة عند أبي الأسود الدؤليّ فقال: جُنّة في الحرب، ومَكَثَّةٌ من الحرّ، ومَدفأة من القُرّ، ووَقار في النَّدِي، وواقيةٌ من الأحداث، وزيادةٌ في القامة، وهي بعدُ عادةٌ من عادات العرب، وقال عمرو بن امرئ القيس: من المنسرح

يا مالِ والسَّيِّدُ المعمَّـم قـد

 

يُبطره بعدَ رأيهِ السَّـرفُ

نحنُ بما عندنا وأنت بما عن

 

دكَ راضٍ والرأيُ مختلف

وكان من عادة فُرسان العرب في المواسم والجموع، وفي أسواق العرب، كأيّام عكاظَ وذي المَجَاز وما أشبهَ ذلك، التقنُّعُ، إلاّ ما كان من أبي سَليط طَريف بن تميم، أحد بني عمرو بن جُنْدب؛ فإنه كان لا يتقنَّع ولا يبالي أن تُثْبت عينَه جميعُ فرسان العرب، وكانوا يكرهون أن يُعرَفوا فلا يكونَ لفُرسان عدوِّهم همٌّ غيرَهم، ولما أقبل حَمَصِيصة الشَّيبانيُّ يتأمّل طَرِيفاً قال طَريف:  

أو كلَّما وردت عكـاظَ قـبـيلةٌ

 

بعثُوا إليّ عريفَهـم يتـوسَّـمُ

فتوسَّموني إنّـنـي أنـا ذاكُـمُ

 

شاكٍ سلاحي في الحوادث مُعلَِمُ

تحتي الأغَرُّ وفوق جِلدي نثـرةٌ

 

زَغْف تردُّ السَّيفَ وهو مُثَلَّـمُ

ولكلِّ بـكـريِّ إلـيّ عـداوةٌ

 

وأبو ربيعةَ شانئ ومُـحَـلَّـمُ

فكان هذا من شأنهم، وربما مع ذلك أعْلَم نفسَه الفارسُ منهم بسِيما، كان حمزة يوم بدرٍ مُعْلماً بريشةِ نَعامةٍ حمراء، وكان الزُّبير مُعلِماً بعمامةٍ صفراء، ولذلك قال دِرهم بن زيد: من المنسرح

إنك لاق غداً غُواة بني الـمـل

 

كاءِ فانظرْ ما أنت مُزدهِـف

يمشون في البِيض والدُّروع كما

 

تمشي جِمالٌ مَصاعبٌ قُطُـف

فأبِد سِيماك يعرِفـوك كـمـا

 

يُبدون سيماهم فـتُـعـتَـرفُ

وكان المقنّع الكنديّ الشاعر، واسمه محمد بن عميرٍ، كان الدّهرَ مقنّعاً، والقِناع من سِيما الرُّؤساء، والدّليل على ذلك والشاهد الصادق، والحجة القاطعة، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان لا يكاد يُرى إلاّ مقنَّعاً، وجاء في الحديث: حتى كأنّ الموضع الذي يصيب رأسَه من ثوبه ثوبُ دَهّان، وكان المقنَّع الذي خرج بخراسان يدَّعي الرُّبوبية، لا يَدَع القِناع في حالٍ من الحالات، وجهِل بادِّعاءِ الربوبية من طريق المناسَخة، فادَّعاها من الوجه الذي لا يختلف فيه الأحمرُ والأسود، والمؤمِنُ والكافر، أنّ باطَله مكشوفٌ كالنَّهار، ولا يعرف في شيء من الملل والنِّحَل القولُ بالتناسخ إلاّ في هذه الفرقة من الغالية، وهذا المقنَّع كان قصَّاراً من أهل مرو، وكان أعورَ ألكَن، فما أدري أيُّهما أعجب، أدَعْواهُ بأنَّه ربٌّ، أو إيمان مَن آمن به وقاتل دُونَه؟ وكان اسمُه عَطاء، وقال الآخر:

إذا المرءُ أثرى ثم قال لقومِـه

 

أنا السَّيِّد المُفضَى إليه المعمَّمُ

ولم يعطهم شيئاً أبوا أن يَسودَهم

 

وهان عليهم رَُِغْمُه وهو ألْوَمُ

وقال الآخر:

إذا كشف اليومُ العَمَاسُ عن استِهِ

 

فلا يَرتْدِي مثلي ولا يَتعـمَّـمُ

قال: وكان مُصعَب بن الزُّبير يعتمّ القَفْدَاء، وهو أن يعقِد العمامة في القفا، وكان محمد بن سعدِ بن أبي وقّاص، الذي قتله الحجّاج، يعتمّ المَيْلاء، وقال الفرزدق:

ولو شهد الخيلَ ابنُ سعدٍ لقنّعوا

 

عِمامته الميلاءَ عضباً مهنَّـدا

وقال شَمْعَلة بن أخضرٍ الضبِّيّ:

جلبنا الخيلَ مِن أكنـاف فَـلْـجٍ

 

ترى فيها من الغَزو اقـورارا

بكلِّ طِمِـرّةٍ وبـكـلِّ طِـرفٍ

 

يَزين سَوَادُ مقلتـه الـعِـذَارا

حَوالَيْ عاصبٍ بالـتـاج مِـنَّـا

 

جبينَ أغَرَّ يستـلـب الـدُّوَارا

رئيسٌ مـا ينـازعــه رئيسٌ

 

سوى ضَرْبِ القِداح إذا استشارا

وأنشد:

إذا لبِسوا عمائمهم لـوَوْهـا

 

على كرَمٍ وإن سَفَرُوا أناروا

يَبيع ويَشترِي لهمُ سِـواهُـمْ

 

ولكن بالطِّعان همُ تِـجـارُ

إذا ما كنتَ جارَ بني تـمـيم

 

فأنت لأكرم الثَّقَلـينِ جـارُ

وأنشد:

وداهيةٍ جَـرَّهـا جـارمٌ

 

جعلتَ رداءَكَ فيها خِمارا

ولِذكْر العمائم مواضع، قال زَيد بن كَثْوة العنبريّ:

مَنعتُ من العُهَّار أطهارَ أمِّه

 

وبعضُ الرِّجال المدَّعَيْنَ زِناءُ

فجاءت به عَبْلَ القَوام كأنَّمـا

 

عمامتُه فَوق الرِّجال لـواءُ

لأنّ العمامةَ ربَّما جعلوها لواءً، ألاَ ترى أنّ الأحنف بن قيسٍ، يوم مسعود بن عمرو، حين عقد لعَبْس بن طَلْق اللِّواء، إنّما نزع عمامتَه من رأسه فعقدَها له، وربَّما شدُّوا بالعمائم أوساطَهم عند المَجْهَدَةِ، وإذا طالت العُقْبة، ولذلك قال شاعرهم:

فسِيروا فقد جَنَّ الظّـلامُ عـلـيكـمُ

 

فباستِ امرئٍ يرجو القِرى عند عاصمِ

دَفعنا إليه وهـو كـالـذَّيخ خـاظـياً

 

نَشُدُّ على أكـبـادنـا بـالـعـمـائم

وقال الفرزدق:

بني عاصم إن تُلجِئوها فإنّكـم

 

ملاجِئُ للسَّوءات دُسمُ العمائمِ

وقال الآخر:

خليليّ شُدَّا لي بفضل عمامتِي

 

على كبدٍ لم يبق إلا صميمُها

العرب تَلْهَجُ بذكر النِّعال، والفُرس تلهج بذكر الخِفاف،، وفي الحديث المأثور: أن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانوا ينهَوْن نساءَهم عن لُبْس الخفاف الحُمر والصّفر، ويقولون: هو من زينة نساء آل فِرعون، وأما قولُ شاعرهم:

إذا خضرّت نعالُ بني غُراب

 

بغَوا ووجدتَهم أشْرَى لئامـا

فلم يرد صفةَ النَّعل، وإنَّما أراد أنّهم إذا اخضرّت الأرضُ وأخصَبوا طغَوا وبغَوا، كما قال الآخَر:

وأطوَلُ في دار الحفاظ إقامةً

 

وأوزَن أحلاما إذا البقلُ أجْهَلا

ومثل قوله:

يا ابن هشام أهلَكَ الناسُ اللّبَنْ

 

فكلهم يسعَى بسيفٍ وقَـرَنْ

وأما قول الآخر:

وكيف أرجِّي أن أسود عشيرتي

 

وأمِّيَ من سلمى أبوها وخالُها

رأيتكم سُوداً جِعاداً، ومـالـكٌ

 

مخصَّرةٌ بيضٌ سِباطٌ نعالُهـا

فلم يذهب إلى مديح النِّعال في أنفسها، وإنما ذهب إلى سَبَاطة أرجلهم وأقدامهم، ونفْي الجعودة والقِصَر عنهم، وقال النّابغة:

رِقاقُ النعال طيِّبٌ حُجُزَاتـهـمْ

 

يُحيَّون بالرَّيحان يوم السَّباسـبِ

يصونُون أجساداً قديماً نعيمُـهـا

 

بخالصةِ الأردانِ خُضْرِ المناكِب

قال: وبنو الحارث بن سَدوس لم ترتبط حِماراً قطُّ، ولم تلبَس نعلاً قطّ إذا نَقِبت، وقد قال قائلُهم:

ونُلِقي النّعال إذا نُقِّبت

 

ولا نستعينُ بأخلاقها

ونحن الذُّؤابةُ من وائلٍ

 

إلينا تمدّ بأعناقـهـا

وهم رهط خالد بن المعمَّر، الذي يقول فيه شاعرهم:

مُعَاوِيَ أمِّرْ خالدَ بن معمَّرِ

 

فإنَّك لولا خالدٌ لم تؤمَّـرِ

وقائلُهم الذي يقول:

أغاضبةٌُ عمرو بنُ شيبانَ أن رأت

 

عديدَينِ من جُرثـومةٍ ودَخـيسِ

فلو شاء ربِّي كـان أيرُ أبـيكـم

 

طويلاً كأير الحارثِ بن سَدوس

وكان عمر جعل رياسة بكرٍ لمجزأة بن ثَور، فلما استُشهِد مجزأةُ جعلها أبو موسى لخالد بن المعمَّر، ثم ردَّها عثمانُ إلى شَقيق بنِ مجزأةَ بن ثور، فلمَّا خرج أهلُ البصرة إلى صِفِّينَ تنازع شقيقٌ وخالدٌ الرِّياسة، فصيرَّها عند ذلك عليٌّ إلى حُضَين بن المنذر، فرضيَ كلُّ واحدٍ منهما وكان يخاف أن يصيِّرها إلى خصْمه، فسكنَتْ بكرٌ وعرف النّاسُ صحّةَ تدبير عليٍّ في ذلك، وأمّا قول الآخر:

يا ليت لي نعلَين من جلد الضَّبُعْ

 

وشُرُكاً من استها لا تنقـطِـعْ

كُلَّ الحذاء يحتذِي الحافي الوَقِعْ

 

 

فهذا كلامُ محتاجٍ، والمحتاجُ يتجوَّز، وأما قول النَّجاشيِّ لهند بن عاصم:

إذا اللَّه حيّا صالحاً من عـبـاده

 

كرماً فحيّا اللَّه هندَ بنَ عاصـمِ

وكلُّ سلولـيٍّ إذا مـا لـقـيتَـه

 

سريعٌ إلى داعي النّدى والمكارِم

ولا يأكلُ الكلبُ السَّروقُ نعالَهـمْ

 

ولا تَنْتَقِي المخَّ الذي في الجماجم

وقال يونس: كانوا لا يأكلون الأدمغة، ولا ينتعلون إلاّ بالسِّبت، وقال كثيِّر:

إذا نُبذت لم تطَّبِ الكلـبَ ريحُـهـا

 

وإن وُضعت في مجلس القوم شُمَّتِ

وقال عُتَيبة بن مرداس، وهو ابن فَسوة:

إلى معشر لا يَخصِفون نعالَهُـم

 

ولا يلبسون السِّبتَ ما لم يخَصَّرِ

وإذا مدح الشاعرُ النعل بالجودة فقد بدأ بمَدح لابِسها قبل أن يمدحَها، قال اللَّه تبارك وتعالى لموسى: "اخلَعْ نعلَيْك إنَّك بالوادِ المقدَّسِ طُوىً" طه: 12، وقال بعض المفسّرين: كانت من جلد غير ذكيّ، وقال الزُّبيريّ: ليس كما قال، بل أعْلَمَه حقَّ المقام الشريف، والمدخل الكريم، ألا ترى أنّ الناس إذا دخلوا إلى الملوك ينزِعون نعالهم خارجاً،  قال: وحدثنا سلام بن مِسكين قال: ما رأيت الحسنَ إلاّ وفي رجليه النَّعل، رأيتُه على فراشه وهي في رجليه، وفي مسجده وهو يصلِّي وهي في رجليه، وكان بَكر بن عبد اللّه تكون نعلُه بين يديه فإذا نهض إلى الصَّلاة لَبِسها، ورُوي ذلك عن عَمرو بن عُبيد، وهاشم الأوقص، وحوشَب وكِلاب، وعن جماعةٍ من أصحاب الحسَن، وكان الحسن يقول: ما أعجَبََ قوماً يروُون أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى في نعليه فلمّا انفتل من الصلاة علم أنّه قد كان وطِئَ على كذا وكذا، وأشباهاً لهذا الحديث، ثم لا ترى أحداً منهم يصلي منتعلاً، وأما قوله:

وقامَ بناتي بالنِّـعـال حـواسـرا

 

وألصقنَ وقْع السِّبت تحت القلائِد

فإنَّ النساء ذواتِ المصائب إذا قمن في المناحات كنّ يضربن صدورَهن بالنِّعال، وقال محمَد بن يسير: من الخفيف

كم أرى مِن مستعجبٍ من نعالي

 

ورِضائي منها بلُبْسِ البَوالـي

كلّ جرداءَ قد تحيَّفَها الـخَـص

 

فُ بأقطارها، بسرد النِّـقـال

لا تُدانَى وليس تُشبِه في الخِـلْ

 

قِة إنْ أُبرِزَتْ نعال الموالـي

لا ولا عن تقادمِ العهد منـهـا

 

بَليتْ، لا، ولا لكرِّ الـلـيالـي

ولقد قلتُ حِـين أُوثِـر ذا الـو

 

دِّ عليها بثروتـي وبـمـالـي

من يُغالي من الرِّجال بنـعـل

 

فَسَوَائي إذاً بـهِـنّ يُغَـالِـي

أو بَغاهُنَّ للـجـمـالِ فـإنِّـي

 

في سواهنّ زينتي وجمـالـي

في إخائي وفي وفـائي ورائي

 

وعفافي ومنطقي وفـعـالـي

ما وقاني الحَفَى وبلَّغني الـحـا

 

جةَ منها، فإنَّنـي لا أبـالـي

وقال خلفٌ الأحمر:

سقى حُجَّاجَنا نَـوءُ الـثـريّا

 

على ما كان من مَطْلٍ وبُخْلِ

هُمُ جمعوا النعال فأحرَزوها

 

وسدُّوا دونَها باباً بـقِـفِـل

إذا أهديتُ فـاكـهةً وشـاةً

 

وعشرَ دجائجٍ بعثوا بِنـعـلِ

ومِسواكين طولُهـمـا ذراعٌ

 

وعشرٍ من رَديِّ المُقْل خَشْلِ

فإن أهديتُ ذاك ليحملـونـي

 

على نعلٍ فدقَّ اللَّه رِجلـي

وقال كثيّر:

كأنّ ابنَ ليلى حين يبدو فيَنْـجـلـي

 

سُجوفُ الخباء عن مَهِيب مشمَّـتِ

مقاربُ خَطـو لا يغَـيِّر نـعـلَـه

 

رهيف الشِّراك سَهْلَةُ المتَسـمَّـتِ

إذا طُرِحت لمْ تطَّبِ الكلبَ ريحُهـا

 

وإن وُضعت في مجلس القوم شُمَّتِ

وقال بشّار:

إذَا وُضعت في مجلس القوم نعلُها

 

تَضَوَّع مسكاً ما أصابت وعنبرا

ولما قال عليُّ بن أبي طالبٍ رضي اللَّه عنه لصعصعة بن صُوحان في المنذر بن الجارود ما قال، قال صعصعة لئن قلتَ ذاكَ يا أمير المؤمنين إنّه لَنَظَّارٌ في عِطْفيه، تَفَّالٌ في شِراكَيه، تُعجبه حُمرة بُرديه، وذمَّ رجلٌ ابنَ التّوءم فقال: رأيته مشحَّم النَّعل، دَرِنَ الجَورب، مُغَضَّنَ الخُفّ، دقيق الجِرُبَّان، وقال الهيثم : يمينٌ لا يحلف به الأعرابيُّ أبداً: أن يقول لا أورَدَ لك اللَّه صادراً ولا أصدر لك وارداً، ولا حَطَطتَ رَحلَك، ولا خَلعت نعلَكَ، وقال آخر:

عَلِق الفؤاد بِرَيِّقِ الجـهـلِ

 

وأبَرَّ واستعصى على الأهلِ

وصَبا وقد شابت مفـارقُـه

 

سفَهاً وكيف صبابةَ الكهـلِ

أدركت مُعْتَصَري وأدركني

 

حِلمي ويَسَّرَ قائدي نعلـي

رجع الكلام إلى القول في العصا

قال ابن عبّاس رحمه اللَّه في تعظيم شأن عصا موسى عليه السلام: الدّابَّةُ ينشقّ عنها الصَّفا، معها عصا موسى، وخاتَم سليمان، تمسَح المؤمن بالعصا وتختمِ الكافر بالخاتَم، وجعل اللَّه تبارك وتعالى أكبر آدابِ النبي عليه السلام في السِّواك، وحضَّ عليه صلى الله عليه وسلم ، والمِسواك لا يكون إلا عصاً، وقال أبو الوجيه: قُضبان المساويك البَشَام، والضّرْو، والعَتَم، والأراك، والعُرجون، والجريد، والإسحِل،وقد يلبَس النّاس الخِفاف والقَلانِسَ في الصَّيف كما يلبسونها في الشّتاء، إذا دخلوا على الخلفاء وعلى الأمراء، وعلى السّادة والعظماء؛ لأنّ ذلك أشبه بالاحتفال، وبالتعظيم والإجلال، وأبعَدُ من التبذُّل والاسترسال، وأجدَرُ أن يفصلوا بين مواضع أُنْسِهم في منازلهم ومواضع انقباضهم، وللخلفاء عِمَّةٌ، وللفقهاء عِمَّةٌ، وللبقَّالين عِمَّة، وللأعراب عِمَّةٌ، ولِلّصوص عِمَّة، وللأبناء عِمَّة، وللرُّوم والنصارى عِمَّة، ولأصحاب التَّشاجِي عِمَّة، ولكلِّ قوم زِيُّ: فللقُضاة زيّ، ولأصحاب القضاة زِيّ، وللشُّرَط زيّ، وللكتّاب زيّ، ولكُتّاب الجُنْدِ زِيّ، ومن زِيّهم أن يركبوا الحمير وإن كانت الهماليج لهم مُعْرِضة، وأصحاب السلطان ومن دخَل الدار على مراتب: فمنهم من يلبس المبطَّنة، ومنهم من يلبس الدُّرَّاعة ومنهم من يلبس القَبَاء، ومنهم من يلبس البازبكند ويعُلّق الخِنجر، ويأخذ الجُرْز، ويتَّخذ الجُمَّة، وزيُّ مجالسِ الخلفاء في الشِّتاء والصَّيف فُرُش الصُّوف، وترى أنَّ ذلك أكملُ وأجزلُ وأفخم وأنبل، ولذلك وضعت ملوكُ العجم على رؤوسها التِّيجان، وجلست على الأسِرّة، وظاهَرَت بين الفُرُش، وهل يملأُ عيونَ الأعداء ويُرعِب قلوبَ المخالفين، ويَحشُو صدورَ العوامِّ إفراطَ التعظيم إلاّ تعظيمُ شأن السُّلطان، والزِّيادة في الأقدار، وإلا الآلات، وهل دواؤُهم إلاّ في التَّهويل عليهم؟ وهل تُصلحهم إلاّ إخافتُك إيّاهم؟ وهل ينقادون لما فيه الحظُّ لهم ويُسْلِسون بالطاعةِ التي فيها إصلاحُ أمورهم إلاّ بتدبير يجمع المهابة والمحَبَّة، وكانت الشعراء تلبس الوشْيَ والمقطَّعاتِ والأرديةَ السُّودَ، وكلَّ ثوب مُشَهَّر، وقد كان عندنا منذ نحو خمسين سنة شاعرٌ يتزيّا بزيِّ الماضين، وكان له بُرْدٌ أسود يلبَسه في الصَّيف والشتاء، فهجاه بعض الطِّيَاب من الشعراء فقال في قصيدةٍ له:

بعْ بُردَك الأسْود َ قبل البَردِ

 

في قُرَّةٍ تأتيك صَمّاً صَرْدٍ

وكان لجُرُبَّان قميصِ بشّارٍ الأعمى وجُبهَته لَبِنَتَان، فكان إذا أراد نَزْع شيءٍ منها أطلق الأزرار فسقطت الثِّياب على الأرض، ولم ينزِع قميصَه من جهة رأسه قطّ، وقَدَّوَيْه العَدَويّ الشَّحَّاجيُّ، لم يلبس قَطُّ قميصاً، وهو اليومَ حيٌّ، وهو شيخُهم، وهو شيخٌ كبير، وسعيد بن العاصي الجوادُ الخطيب، لم ينزع قميصه قطّ، فقَدَّوَيْه الشّحَاجيُّ ضدُّ سعيد بن العاصي الأمويّ، وقال الحطيئة:

سَعيدٌ فلا يغرَّك قلَّةُ لحمِـه

 

تَخَدَّد عنه اللّحمُ فهو صليبُ

وكان شديدَ السَّواد نحيفاً، ومن شأن المتكلمين أن يُشيروا بأيديهم وأعناقهم وحواجبهم، فإذا أشاروا بالعصيِّ فكأنهم قد وصلوا بأيديهم أيدياً أُخَر، ويدلُّ على ذلك قولُ الأنصاريِّ حيث يقول:

وسارت لنـا سـيّارةٌ ذاتُ سُـودُدٍ

 

بِكُومِ المطايا والخُيولِ الجماهـرِ

يؤمّون مُلْكَ الشامِ حتى تمكّـنـوا

 

ملوكاً بأرض الشام فوق المنابـرِ

يُصيبُون فصلَ القولِ في كلِّ خطبة

 

إذا وصلُوا أيمانَهم بالمخـاصـرِ

وقال الكميت بن زيد:

ونَزُور مَسْلَمة الـمـه

 

ذَّبَ بالمؤبَّدَةِ السـوائرْ

بالمُذْهَبات المعْـجِـبـا

 

تِ لمُفْحَمٍ منَّا وشاعِـرْ

أهلُ التَّجاوُبِ في المحا

 

فل والمقاولُ بالمخاصرْ

وأيضاً إنّ حَمْل العصا والمخصرة دليلٌ على التأهُّب للخطبة، والتهيُّؤ للإطناب والإطالة، وذلك شيءٌ خاصٌّ في خطباء العرب، ومقصورٌ عليهم، ومنسوبٌ إليهم، حتى إنَّهم ليذهبون في حوائجهم والمخاصر بأيديهم، إلفاً لها، وتوَقُّعاً لبعض ما يوجِب حملها، والإشارةَ بها، وعلى ذلك المعنَى أشار النِّساء بالمآلِي وهُنَّ قيامٌ في المناحات، وعلى ذلك المثالِ ضَرَبْن الصُّدورَ بالنّعال،  وإنما يكون العجزُ والذّلّة في دخول الخَلَل والنقصِ على الجوارح، وأما الزِّيادة فيها فالصوابُ فيه، وهل ذلك إلاَّ كتعظيم كَور العمامة، واتّخاذ القُضاةِ القَلانسَ العِظامَ في حَمَارَّة القَيْظ، واتّخاذِ الخلفاء العمائمَ على القلانس، فإن كانت القلانسُ مكشوفةً زادوا في طولها وحِدَّة رؤوسها، حتى تكونَ فوقَ قلانس جميع الأمَّة، وكذلك القِناع، لأنه أَهْيَبُ، وعلى ذلك المعنى كان يتقنَّعُ العباس بن محمد وعبدُ الملك بن صالح، والعبّاس بن موسى وأشباههم، وسليمانُ بن أبي جعفر، وعيسى بن جعفر، وإسحاق بن عيسى، ومحمد بن سليمان، ثم الفَضْل بن الرَّبيع، والسِّندي بن شاهَك وأشباهُهما من الموالي، لأن ذلك أهيَبُ في الصدور، وأجلُّ في العيون، والمتقنِّع أروَعُ من الحاسر، لأنه إذا لم يفارِقْة الحجاب وإنْ كان ظاهراً في الطُّرق كان أشبَهَ بمباينة العوامّ وسياسة الرّعيّة، وطرح القِناع مُلابَسَة وابتذال، ومؤانسة ومقاربة، والدليل على صواب هذا العمل من بني هاشم، ومن صنائعهم ورجال دعوتهم، وأنَّهم قد علمِوا حاجة الناس إلى أن يهابوهم، وأنّ ذلك هو صَلاح شأنهم - أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان أكثرَ الناس قِنَاعاً، والدَّليلُ على أنَّ ذلك قد كان شائعاً في الأسلاف المتبوعين، أنَّا نَجِد رؤساءَ جميع أهل المِلَل، وأربابِ النّحل، على ذلك، ولذلك اتَّخذوا في الحروب الرّاياتِ والأعلام، وإنّما ذلك كلُّه خِرَق سُود وحُمر وصُفر وبِيض، وجَعلوا اللِّواءَ علامةً للعَقْد والعَلَم في الحرب مرجعاً لصاحب الجولة، وقد علموا أنَّها وإن كانت خِرقاً على عصيّ أنّ ذلك أهيَبُ في القلوب وأهوَلُ في الصُّدور، وأعظَمُ في العيون، ولذلك أجمعت الأمم رجالُها ونساؤُها على إطالة الشُّعور؛ لأنَّ ذا الجُمّة أضخمُ هامةً وأطول قامة، وأنَّ الكاسيَ أفخم من العاري، ولولا أنَّ حلْق الرّأس طاعةٌ وعبادة، وتواضعٌ وخضوع، وكذلك السّعيُ ورميُ الجمار، لَمَا فعلوا ذلك، وفي الحديث أنّه لا يفتح عَمُّوريَّة إلاّ رجالٌ ثيابُهم ثيابُ الرُّهْبان، وشُعورهم شعورُ النِّساء، وكلُّ ما زادوه في الأبدان، ووصَلوه بالجوارح، فهو زيادةٌ في تعظيم تلك الأبدان، والعصيُّ والمخاصر مع الذي عددناه، ومع ذلك الذي ذكرناه ونُريد ذكره من خصال منافعها، كلُّه باب واحد، والمُغَنِّي قد يقِّع بالقضيب على أوزان الأغاني، والمتكلِّم قد يشير برأسه ويدِه على أقسام كلامه وتقطيعه، ففرَّقوا ضروبَ الحركات على ضروبِ الألفاظ وضروبِ المعاني، ولو قُبضت يدُه ومَنعَ حركةَ رأسه، لذهب ثلثا كلامه، وقال عبد الملك بن مرْوان: لو ألقيت الخيزُرانةَ من يدي لذهب شَطر كلامي، وأراد معاويةُ سحبانَ وائلٍ على الكلام، وكان قد اقتضبه اقتضاباً فلم ينطِقْ حتّى أتوه بمخصرة، فرطَلها بيده فلم تعجبْه حتَّى أتوه بمخصرةٍ من بيته، والمثل المضروب بعصا الأعرج، يقولون: أقرب من عصا الأعرج ويضربون المثل بعصا النَّهديّ، قال علقمة بن عَبَدة في صفة فرسٍ أنثى:

سُلاّءة كعصا النّهْدِيِّ غُلَّ لها

 

منظَّمٌ من نَوى قُرّانَ معجومُ

ويضروبون المثل برُميح أبي سعد، وكان أبو سعدٍ أعرج، وفَد في وفْد عاد، قال ذو الإصبع العَدْوانيّ: من الخفيف

إن تكن شِكّتي رُمَيحَ أبي سع

 

دٍ فقد أحملُ السِّلاحَ مَـعـا

وقال عبّاس بن مِرداس:

جَزَى اللَّه خيراً خيرَنا لصديقـه

 

وزوّده زَاداً كزادِ أبـي سـعـدِ

وزوّده صِـدقـاً وبِـرّاً ونـائلاً

 

وما كان في تلك الوِفادة من حمدِ

وقال الآخر:

فآبَ بجدوَى زاملٍ وابنِ زامـلٍ

 

عدوُّك، أو جَدْوى كليبِ بن وائلِ

ويقولون: لو كان في العصا سَير، ويقولون: ما هو إلاّ أُبنْة عصاً، وعُقدة رشاء، ويقولون: أخرج عودَه كعصا البَقَّار، وأخرج أيضاً عُودَه كعصا الحادِي، وكان أبو العتاهية أهدَى إلى أمير المؤمنين المأمونِ عصا نَبْعِ، وعصا شِريان، وعصا آبنَوس، وعصاً أخرى كريمةَ العيدان، شريفةَ الأغصان، وأردية قَطَريّة، ورِكاءً يمانيّة، ونعالاً سِبْتيَّة، فقبِل من ذلك عصاً واحدة وردَّ الباقي، وبعث إليه مرّةً أخرى بنعلٍ وكتب إليه في ذلك:

نعلٌ بعثتُ بها لتلبـسَـهـا

 

تسعَى بها قدم إلى المجدِ

لو كنتُ أقدِرُ أن أشرِّكهـا

 

خدِّي جعلتُ شراكها خدِّي

فقبِلها، الكلبيُّ عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، أنّ الشجرة التي نُودِيَ منها موسى عليه السلام عَوسج، وأنَّه نُودِيَ من جوف العوسج، وأنّ عصاه كانت من آسِ الجنَّة، وأنها كانت من العُود الذي في وسط الورقة، وكان طولُها طولَ موسى عليه السلام، وقالوا: من العُلَّيق، وقال الآخر:

صفراء من نَبْعٍ كلوْن الورسِ

 

أبدؤها بالدُّهْنِ قبل نفـسـي

وأنشد الأصمعيُّ عن بعض الأعراب:

ألا قالت الخنساءُ يوم لـقـيتُـهـا:

 

كبِرتَ ولم تجزَعْ من الشَّيب مَجزَعا

رأت ذا عصاً يمشي عليهـا وشـيْبةٍ

 

تقنَّع منها رأسُـه مـا تـقـنَّـعـا

فقلت لها: لا تهزئي بي فقـلَّـمـا

 

يسُودُ الفتى حتَّى يشيب ويصلَـعـا

ولَلْقارحُ اليعـبـوبُ خـيرٌ عُـلالةً

 

من الجذَع المُجْرَى وأبعدُ مَنْـزعـا

وقال إسحاق بن سوَيد: من الخفيف

في رداء النبـيِّ أقـوى دلـيلٍ

 

ثم في القَعْب والعصا والقضيبِ

وقال أبو الشِّيص الأعمى في هارون الرّشيد: من الخفيف

يا بني هاشمٍ أفيقـوا فـإنَّ ال

 

مُلك منكمْ حيث العصا والرِّداءُ

ما لهارونَ في قريشٍ كِـفـيٌّ

 

وقريش ليست لهـم أكـفـاءُ

وقال آخر:

على خشباتِ الملك منه مـهـابة

 

وفي الحرب عبلُ الساعدين قَرُوعُ

يشقُّ الوغَى عن رأسه فَضْلُ نجدةٍ

 

وأبيضُ من ماء الـحـديدِ وقـيعُ

ومما يجوز في العصا قول أبي الشِّيص: من السريع

أنعَى فتى الجُود إلى الجُودِ

 

ما مثلُ من أنعَى بموجودِ

أنعَى فتىً مَصَّ الثَّرَى بعده

 

بقيَّةَ الماء مِـن الـعُـودِ

ومن هذا الباب قول عبد اللَّه بن جُدْعان:

فلم أرَ مثلهـم حـيَّين أبـقـى

 

على الْحَدَثان إن طرقتْ طُرُوقاَ

وأضربَ عند ضَنْكِ الأمر منهم

 

وأسلَكُهم لأحْزَنِـه طـريقـا

شريتُ صلاحَهم بتِلادِ مـالـي

 

فعاد الغصنُ مُعـتَـدِلاً وريقـا

ويقولون للرّجُل إذا أثرى وأفادَ وكثُرت نعمتُه: ضَعْ عصاك، وقد وضع عصاه، وقال أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل: من الخفيف

ونَجُرُّ الأذيالَ في نِعـمةٍ زَوْ

 

لٍ تقولان ضعْ عصاك لدَهْرِ

ويقولون للمستوطِن في البلد والمستطيب للمكان: قد ألقى عصاه، وقال زُهير بن أبي سُلْمى:

فلمَّا وردْنَ الماء َ زُرقاً جِمَامُه

 

وضَعْن عصيَّ الحاضِر المتَخيِّم

انقضى الكلام في العصا،