كتاب الزهد

بسم اللَّه الرحمن الرَّحيم

نبدأ على اسم اللَّه وعونِه بشيءٍ من كلام النُّسَّاك في الزهُد، وبشيءٍ من ذِكر أخلاقهم ومواعظهم، عوفٌ، عن الحسن قال: لا تزول قَدَمَا ابنِ آدمَ حتى يُسأل عن ثلاث: شَبابه فيما أبلاه، وعُمرِه فيما أفناه، ومالهِ من أين كَسَبه، وفيما أنفقه، قالوا: وقال يونس بن عبيد: سمعت ثلاث كلمات لم أسمع بأعجب منهنّ، قول حَسَّان بن أبي سِنان: ما شيءٌ أهونَ من ورَع، إذا رابك شيءٌ فدعْه، وقول ابن سِيرين: ما حسدت أحداً على شيءُ قطُّ، وقول مُوَرِّق العِجْليّ: لقد سألتُ اللَّه حاجةً منذ أربعين سنةً، ما قضاها ولا يئستُ منها، فقيل لمُوَرِّق: ما هي؟ قال: ترْكُ ما لا يَعنيني، وقال أبو حازمٍ الأعرج: إن عوفينا من شرّ ما أُعطينا لم يَضِرْنا ما زُوِيَ عنا، وقال أبو عبد الحميد: لم أسمع أعجبَ من قول عمر: لو أنّ الصبر والشكر بَعِيرانِ ما باليتُ أيُّهما أركب، وقال ابن ضُبَارة: إنا نظرْنا فوجدنا الصبر على طاعة اللَّه أهونَ من الصَّبر على عذاب اللّه، وقال زياد عبدُ عبدِ اللَّه بن عَيَّاش بن أبي ربيعة: أنا مِن أُمنَع الدُّعاء أخْوف من أن أُمنعَ الإجابة، وقال له عمر بن عبد العزيز: يا زياد، إنِّي أخاف اللَّه مما دخلتُ فيه، قال: لستُ أخاف عليك أن تخاف، إنَّما أخاف عليك ألاّ تخاف، وقال بعض النسّاك: كفى موعظةً أنك لا تموت إلاّ بحياة، ولا تحيا إلاّ بموت، وهو الذي قال: اصحبْ مَن ينسى معروفَه عندك، وهو الذي قال: لا تجعلْ بينك وبين اللَّه مُنعماً، وعُدَّ النِّعمَ منه عليك مَغْرماً، ودخل سالم بن عبد اللَّه، مع هشام بن عبد الملك البيتَ، فقال له هشام: سلني حاجتَك، فقال: أكره أن أسأل في بيتِ اللَّه غيرَ اللَّه، وقيل لرابعة القيسيّة: لو كلّمتِ رجالَ عشيرتِك فاشتَرَوْا لكِ خادماً تكفيك مهنةَ بيتِك؟ قالت: واللَّه إني لأستحي أن أسأل الدُّنيا مَن يملك الدنيا فكيف أسألها من لا يملكُها؟، وقال بعضُ النّسّاك: ديارُكم أمامكم، وحياتُكم بعد موتكم، وقال السَّموءل بن عاديا اليهوديّ:

ميْتاً خُلِقْت ولم أكن مِن قَبلِها

 

شيئاً يموت فمتُّ حين حَييتُ

وقال أبو الدَّرداء: كان الناس ورَقاً لا شوك فيه، وهم اليوم شوك لا ورقَ فيه، الحسن بن دينار قال: رأى الحسنُ رَجُلاً يَكيد بنفْسه، فقال: إنّ امرأً هذا آخرُه لجدير أن يُزهَد في أوَّله، وأنّ أمرأً هذا أوّلُه لجديرٌ أن يُخاف آخرُه، قال أبو حازم: الدنيا غرَّت أقواماً فعمِلوا فيها بغير الحقّ، فلمّا جاءهم الموت خلّفوا مالهم لمن لا يحمدُهم، وصاروا إلى من لا يعذِرهم، وقد خَلَفْنا بَعدهم، فينبغي لنا أن ننظرَ إلى الذي كرِهناه منهم فنجتنبَه، وإلى الذي غَبَطناهم به فنستعمله، موسى بن داود، رفع الحديث قال: النَّظر إلى خمسةٍ عبادة: النَّظر إلى الوالدَين، والنظر إلى البَحر، والنظر إلى المصحَف، والنظر إلى الصَّخرة، والنظر إلى البيت،عبد اللَّه بن شدَّاد، قال: أربعٌ مَن كُنَّ فيه فقد برِئ من الكِبْر: مَن اعتقل البعير، وركب الحمارَ، ولبس الصوفَ، وأجاب دعوةَ الرجُل الدُّونَ، وذُكر عند أنسٍ الصومُ فقال: ثلاث من أطاقهنَّ فقد ضبط أمرَه: مَن تسحَّر، ومن قال، ومن أكلَ قبل أن يشرب، وقال أبوسعيدٍ، عبدُ الكريم العُقَابيُّ: من أخَّر السَّحور وقدَّم الفَطور، وأكل قبل أن يشرب، وشرب ثم لم يأكل، فقد ضبط أمره، وقال الجمَّاز: ليس يقوى على الصَّوم إلاّ مَن كبَّر لقمهُ، وأطاب أُدْمَهُ، مجالد بن سعيد، عن الشعبيّ، قال: حدّثني مُرَّةُ الهمداني - قال مجالد: وقد رأيته - وحدّثنا إسماعيل بن أبي خالد أنّه لم يرَ مثل مُرَّةَ قطّ: كان يصلي في اليوم والليلة خمسمائةِ ركعة،  وكان مُرّة يقول: لمّا قُتل عثمان رحمه اللَّه: حمِدتُ اللَّه ألاّ أكونَ دخلتُ في شيءٍ مِن قَتلِه، فصلَّيت مائة ركعة، فلمَّا وقع الجمل وصِفِّينَ حمدتُ اللَّه ألاّ أكون دخلتُ في شيءٍ من تلك الحروب، وزدت مائة ركعة، فلمَّا كانت وقعةُ النَّهروان حمِدتُ اللَّه إذْ لم أشهدْها، وزدت مائة ركعة، فلمَّا كانت فتنةُ ابن الزَّبير حمِدت اللَّه إذْ لم أشهدْها، وزدت مائة ركعة، وأنا أسأل اللَّه أن يغفر لمُرّة، على أنّا لا نعرف لبعضِ ما قالَ وجْهاً؛ لأنّك لا تعرِف فقيهاً من أهل الجماعة لا يستحلُّ قتال الخوارج، كما أنّا لا نعرف أحداً منهم لا يستحلُّ قتال اللُّصوص، وهذا ابن عُمَر، وهو رئيس الحِلْسيّة بزعمهم، قد لَبِس السلاح لقتال نَجدة، وقيل لشُرَيح: الحمد اللَّه الذي سلّمك من القتال في شيءٍ من هذه الفتن، قال: فكيف أصنع بقلبي وهوايَ، وقال الحسن: قَتَل النَّاقةَ رجلٌ واحد، ولكنَّ اللَّه عمّ القومَ بالعذاب، لأنّهم عَمُّوه بالرِّضا، وسئل عمرُ بن عبد العزيز عن قَتَلة عثمان وخاذِليه وناصرِيه فقال: تِلك دماءٌ كفَّ اللَّه يدي عنها، فأنا لا أحبُّ أن أغمِسَ لساني فيها، ودخل أبو الدَّرداء على رجل يعوده، فقال له: كيف تجدُك؟ فقال: أفرَقُ من الموت، قال: فممّن أصبت الخيرَ كلَّه؟ قال: من اللَّه، قال: فلِمَ تفرَقُ ممَّن لم تصب الخير كلَّه إلاّ منه؟، ولما قُذِف إبراهيم عليه السّلامُ في النّار قال له جبريل عليه السلام: ألَك حاجةٌ يا خليل اللَّه؟ قال: أمَّا إليك فلا، قال: ورأى بعضُ النُّسَّاك صديقاً له من النُّسَّاك مهموماً، فسأله عن حاله ذلك، فقال: كان عندي يتيمٌ أحتسِبُ فيه الأجر، فمات، قال: فاطلبْ يتيماً غيره فإنّ ذلك لا يُعدِمُك إنْ شاء اللَّه، قال: أخاف أن لا أصيبَ يتيماً في سوء خُلقه، فقال: أما إني لو كنت مكانك لم أذكُرْ سوءَ خلقِه، قال: ودخل بعضُ النسَّاك على صاحبٍ له وهو يَكيد بنفْسه، فقال له: طِبْ نفساً فإنَّك تلقى ربّاً رحيماً، قال: أما ذنوبي فإني أرجو أن يغفرها اللَّه لي، وليس اغتمامِي إلاّ لمن أدَع من بناتي، قال له صاحبه: الذي ترجوه لمغفرة ذنوبك فارجُه لحفظِ بناتِك، قال: وكان مالك بن دينار يقول: لو كانت الصُّحف من عندنا لأقللنا الكلام، وقال يونُس بن عُبيد: لوْ أُمِرنا بالجَزَع لصَبرنا، وكان يقول: كَسَبت في هذه السوق ستِّين ألفَ دِرهم، ما منها درهم إلاّ وأنا أخاف أن أُسأَلَ عنه، قال: وسمع عمرو بن عُبيدٍ، عبد الرحيم بن صُدَيقة يقول: قال الحُطيئة: إنّما أنا حَسَبٌ موضوع فقال عَمرو: كَذبَ تَرَّحه اللَّه، ذلك التَّقوى، وقال أبو الدَّرداء: نعم صومعةُ المؤمن منزلٌٌ يكُفُّ فيه نفسَه وبصرَه وفرجَه، وإيّاكم والجلوسَ في هذه الأسواق، فإنها تُلغِي وتُلْهِي،وقال الحسن: يا ابن آدم، بعْ دنياك بآخرتك تربَحْهما جميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسَرَهما جميعاً، يا ابن آدم، إذا رأيت النّاس في الخير فنافِسْهم فيه، وإذا رأيتم في الشّرِّ فلا تغبطهم به، الثَّواءُ ها هنا قليل، والبقاء هناك طويل، أمَّتُكُم آخر الأمَم وأنتم آخِرُ أمّتكم، وقد أُسرِع بخياركم فماذا تنتظرون؟ آلمعايَنةَ؟ فكأن قَدْ، هَيْهَات هيهات، ذهبت الدّنيا بحالَيها، وبقيت الأعمال قلائدَ في أعناق بني آدم، فيالها موعظةً لو وافقتْ من القلوب حياةً أمَا إنّه واللَّه لا أمّةَ بعد أمّتكم، ولا نبيَّ بعد نبيِّكم، ولا كتابَ بعد كتابكم، أنتم تسوقون النّاسَ والسّاعةُ تسوقكم، وإنّما يُنْتَظَر بأوّلكم أن يلحق آخَرَكم، مَنْ رأى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد رآه غادياً رائحاً، لم يضع لَبِنةً على لَبنة، ولا قَصبةً على قصبة، رُفِع له عَلَمٌ فشمَّر إليه، فالوَحاءَ الوَحاء، والنَّجاءَ النجاء، علام تعرّجون، أُتِيتم وربِّ الكعبة، قد أُسرِع بخياركم وأنتم كلَّ يوم تَرذُلون، فماذا تنتظرون، إنَّ اللَّه تعالى بعثَ محمّداً عليه السلام على علمٍ منه، اختاره لنفسه، وبعثه برسالته، وأنزل عليه كتابَه، وكان صفوتَه من خلقه، ورسولَه إلى عباده، ثمَّ وضعَه من الدُّنيا موضعاً ينظر إليه أهلُ الأرض، وآتاه منها قُوتاً وبُلْغة، ثم قال: "لَقَدْ كَانَ لكُمْ فِي رَسُول اللَّه أسوةٌ حسَنةٌ" الأحزاب:21، فرغِب أقوامٌ عن عيشه، وسخِطوا ما رضِيَ له ربُّه، فأبْعدَهَم اللَّهُ وأسحَقهم، يا ابنَ آدم، طأ الأرضَ بقدمِك فإنَّها عما قليل قبرُك، واعلم أنَّك لم تَزَلْ في هدم عُمرك مذ سقطتَ من بطن أمِّك، فرحِمَ اللَّهُ رجلاً نَظَرَ فتفكَّر، وتفكَّر فاعتبر، واعتبَرَ فأبصر، وأبصَرَ فصَبَر، فقد أبصر أقوامٌ فلم يصبروا فذهب الجزَعُ بقلوبهم ولم يدرِكوا ما طلبوا، ولم يرجِعوا إلى ما فارقوا، يا ابن آدم، اذكُرْ قوله: "وكُلَّ إنْسَانٍ ألزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِه ونُخْرِجُ له يومَ القيامة كِتاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً، اقْرَأْ كتابَكَ كَفَى بنَفْسكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً" الإسراء: 13-14، عَدَلَ واللَّهِ عليك مَن جَعَلك حسيبَ نفسك، خذُوا صفاء الدُّنيا وذروا كدَرَها؛ فليسَ الصَّفْو ما عاد كدَراً، ولا الكدرُ ما عاد صفواً، دَعوا ما يَريبكم إلى ما لا يُرِيبكم، ظهر الجفاء وقلَّت العلماء، وعَفَت السُّنّة وشاعت البدعة، لقد صحبتُ أقواماً ما كانت صحبتُهم إلاّ قُرّةَ العين، وجِلاءَ الصدر، ولقد رأيتُ أقواماً كانوا من حسناتهم أشفَقَ من أن تُرَدّ عليهم، منكم من سيئاتكم أن تُعذَّبوا عليها، وكانوا فيما أحلَّ اللَّهُ لهم من الدُّنيا أزهدَ منكم فيما حرّم عليكم منها، مالي أسمع حَسِيساً ولا أرى أنيساً، ذهب الناس وبقي النَّسْناس، لو تكاشفتم ما تدافَنْتم، تهاديتم الأطباقَ ولم تتهادَوا النَّصائح، قال ابن الخطَاب: رحم اللَّه امرأً أهدى إلينا مساوِيَنا، أعِدُّوا الجوابَ فإنّكم مسؤولون، المؤمن لم يأخذْ دِينه عن رأيهِ ولكن أخذه من قِبَل ربِّه، إنَّ هذا الحقَّ قد جَهَد أهلَه وحال بينهم وبين شهواتهم، وما يصبِر عليه إلاَّ مَن عَرف فضلَه، ورجَا عاقبتَه، فمَنْ حمِد الدُّنيا ذمَّ الآخِرة، وليس يكره لِقاءَ اللَّه إلا مقيم على سخطه، يا ابن آدم، ليس الإيمانُ بالتحَلِّي ولا بالتمنّي، ولكنه ما وَقَر في القُلوب، وصدَّقته الأعمال، وكان إذا قرئ: "ألهاكُمُ التَّكاثرُ" التكاثر:1 قال: عَمَّ ألهاكم؟ ألهاكم عن دار الخُلود، وجنَّة لا تَبيد، هذا واللَّه فَضَح القوم، وهَتك السِّتْر وأبْدَى العُِوار، تنفق مِثل دِيَتك في شهواتك سرفاً، وتمنع في حقِّ اللَّهِ درهماً، ستعلم يالُكَع، الناس ثلاثة: مؤمن، وكافر، ومنافق، فأمّا المؤمن فقد ألجمه الخوفُ، ووقَمه ذكر العَرْض، وأمّا الكافر فقد قمعه السَّيف، وشرّده الخوف، فأذعن بالجِزْية، وأسمحَ بالضَّريبة، وأمَّا المنافق ففي الحجرات والطرقات، يُسرُّون غيرَ ما يعلنون، ويُضمِرون غيرَ ما يظهرون، فاعتبِروا إنكارهم ربَّهم بأعمالهم الخبيثة، ويلك قتلت وليَّه ثم تتمنَّى عليه جنّته،وكان يقول: رحِم اللَّهُ رجلاً خلا بكتابِ اللَّه فعَرَض عليه نفسَه، فإن وافقه حمِدَ ربَّه وسألَه الزِّيادةَ من فضله، وإن خالَفه اعتتب وأناب، ورجَع من قريب، رحم اللَّه رجلاً وعظَ أخاه وأهله فقال: يا أهلي، صلاتَكم صلاتَكم، زكاتَكم زكاتَكم، جيرانَكم جيرانَكم، إخوانَكم إخوانَكم، مساكنَكم مساكنَكم، لعلَّ اللَّه يرحمُكم، فإنّ اللَّه تبارك وتعالى أثنى على عبدٍ من عباده فقال: "وكانَ يأمُرُ أهْلهُ بالصَّلاةِ والزَّكاة وكانَ عِنْدَ ربِّهِ مَرْضِيّاً" مريم:55، يا ابن آدم: كيف تكون مسلماً ولم يَسلَمْ منك جارُك، وكيف تكون مؤمناً ولم يأمَنْك الناس، وكان يقول: لا يستحقُّ أحدٌ حقيقةَ الإيمان حتّى لا يعيبَ النّاس بعيب هو فيه، ولا يأمر بإصلاحِ عيوبهم حتَّى يبدأَ بإصلاح ذلك من نفسه؛ فإنّه إذا فعل ذلك لم يُصلحْ عيباً إلاّ وجد في نفسه عيباً آخرَ ينبغي له أن يُصلِحَه، فإذا فَعَل ذلك شُغِل بخاصَّةِ نفسِه عن عيب غيره، وإنّك ناظرٌ إلى عملك يُوزَن خيرُه وشرُّه، فلا تحقِرَنَّ شيئاً من الخير وإن صَغُرَ؛ فإنّك إذا رأيتَه سرّك مكانُه، ولا تحقِرنَّ شيئاً من الشّرّ وإن صغُر؛ فإنّك إذا رأيتَه ساءك مكانُه، وكان يقول: رحم اللَّه امرأً كَسَب طيِّباً وأنفَق قَصْداً، وقدّمَ فضلاً، وجِّهوا هذه الفضولَ حيث وجَّهها اللَّه، وضَعوها حيثُ أمر اللَّه؛ فإنّ مَنْ كان قبلكم كانوا يأخذون من الدُّنيا بَلاغَهم ويُؤْثرون بالفَضْل، ألاَ إنّ هذا الموت قد أضرَّ بالدنيا فَفَضَحها، فلا واللّه ما وَجَد ذُو لبٍّ فيها فَرَحاً، فإيّاكم وهذه السُّبُلَ المتفرِّقة، التي جِماعها الضلالة وميعادُها النّار، أدركْتُ مِن صدر هذه الأمّة قوماً كانوا إذا أجَنَّهُم اللّيلُ فقيامٌ على أطرافهم، يفترشون وجُوهَهم، تجري دموعُهم على خدودهم، يناجُون مولاهم في فِكاك رقابِهم، إذا عملوا الحسنة سرَّتْهم وسألوا اللّه أن يتقبَّلها منهم، وإذا عمِلوا سيّئةً ساءتهم وسألوا اللَّه أن يغفرَها لهم، يا ابن آدم، إنْ كان لا يُغْنيك ما يكفيك فليس ها هنا شيءٌ يُغنيك، وإنْ كان يُغنيك ما يكفيك فالقليلُ من الدُّنيا يغنيك، يا ابن آدم، لا تعمَلْ شيئاً من الحقّ رياء، ولا تتركْه حياء، وكان يقول: إنّ العلماء كانوا قد استغنَوْا بعلمهم من أهل الدنيا، وكانوايقضُون بعلمهم على أهل الدُّنيا ما لا يقضِي أهلُ الدُّنيا بدنياهم فيها، وكان أهلُ الدُّنيا يبذُلون دنياهم لأهل العِلم رغبةً في علمهم، فأصبح أهلُ العلم اليوم يبذلون علمَهم لأهل الدُّنيا رغبةً في دنياهم، فرَغِب أهل الدنيا بدنياهم عنهم، وزهِدوا في علمهم لِمَا رأوْا من سُوء موضعه عندهم، وكان يقول: لا أذهب إلى من يواري عنِّي غناه ويُبدي لي فقرَه، ويُغلق دوني بابَه ويمنعُني ما عندَه، وأَدَع مَن يفتح لي بابَه ويُبدي لي غناه ويدْعُوني إلى ما عنده، وكان يقول: يا ابن آدم، لا غنى بك عن نصيبِك من الدُّنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، مؤمن مُتَّهم، وعِلجٌ أغتمُ، وأعرابيٌّ لا فِقْهَِ له، ومنافقٌ مكذِّب، ودنياويُّ مُترفٌ، نعق بهم ناعقٌ فاتَّبعوه، فرَاشُ نارٍ وذِبّان طمَعٍ، والذي نفسُ الحسن بيدِه ما أصبحَ في هذه القريةِ مؤمنٌ إلاّ وقد أصبح مهموماً حزيناً، وليس لمؤمنٍ راحةٌ دونَ لقاءِ اللّهِ، والناسُ ما داموا في عافيةٍ مستورون، فإذا نزَلَ بهم بلاءٌ صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، والمنافقُ إلى نِفاقه، أيْ قَوْمُِ، إنّ نعمةَ اللَّه عليكم أفضلُ مِن أعمالكم، فسارِعوا إلى ربِّكم، فإنّ ليس لمؤمنٍ راحةٌ دونَ الجنة، ولا يزال العبدُ بخير ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت المحاسبةُ من هَمِّه، وقال الحَسن في يوم فِطر، وقد رأى الناسَ وهيئاتِهم: إنّ اللَّه تبارك وتعالى جعل رمضانَ مِضماراً لخلْقِه يستبِقُون فيه بطاعته إلى مَرضاته، فسبَقَ أقوامٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا، فالعجَبُ من الضّاحك اللاعب في اليوم الذي يَفوزُ فيه المحسِنون، ويَخْسَرُ فيه المُبْطِلون، أمَا واللَّه أنْ لو كُشِف الغطاءُ لشُغِل مُحْسنٌ بإحسانه، ومسيءٌ بإساءته، عن ترجيلِ شَعْرَ، وتجديد ثَوب،وحَدَّث عن عمر بنِ الخطاب رحمه اللَّه أنّه قال: الناس طالِبان: فطالبٌ يطلب الدُّنيا فارفضوها في نَحْره، فإنّه ربَّما أدرك الذي طلب منها فهلَك بما أصاب منها، وربَّما فاته الذي طلب منها فهلك بما فاته منها، وطالبٌ يطلب الآخرة، فإذا رأيتم طالب الآخرة فنافِسُوه، وحَدّث عن عمرَ بنِ الخطاب رحمه اللَّه أنه قال: يا أيُّها الناس، إنّه أتى عليّ حينٌ وأنا أحسبُ أنه مَن قرأ القرآن إنه إنّما يريد به اللَّه وما عندَه، ألاَ وقد خُيِّل إليّ أن أقواماً يقرؤون القرآن يريدون به ما عندَ الناس، ألاَ فأريدُوا اللَّه بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، فإنّما كُنَّا نعرفُكم إذِ الوحيُ ينزِل، وإذِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين أظْهُرنا؛ فقد رُفِع الوحيُ وذهَبَ النبيُّ عليه السلام، فإنّما أعرفُكم بما أقول لكم، ألاَ فمن أظهر لنا خيراً ظنَنَّا به خيراً وأثبتنا عليه، ومن أظهر لنا شرّاً ظننا به شرّاً وأبغضناه عليه، اقْدَعُوا هذه النُّفوس عن شهواتها، فإنّها طُلَعَةٌ، وإنّكم إلاّ تقدَعوها تَنزِعْ بكم إلى شر غاية، إنّ هذا الحقَّ ثقيل مرئ، وإن الباطل خفيف وبئ، وتركَ الخطيئة خيرٌ من معالجة التَّوبة، ورُبَّ نظرةٍ زرعت شهوة، وشهوةِ ساعةٍ أورثَتْ حُزْناً طويلاً، وكتَبَ الحسن إلى عمرَ بنِ عبد العزيز أَمّا بعد فكأنَّكَ بالدُّنيا لم تكُنْ وكأنّك بالآخرة لم تَزَل، وقال أبو حازمٍ الأعرج: وجدت الدنيا شيئين: شيئاً هو لي لن أعجِّله دون أجلِه ولو طلبتُه بقوّة السَّموات والأرض، وشيئاً هو لغيري لم أنَلْه فيما مضى ولا أناله فيما بقي، يُمنَع الذي لي من غيري، كما مُنِعَ الذي لغيري مِنِّي، ففي أي هذين أُفِني عمري، وأُهلِكُ نفسي، ودخل على بعض الملوك من بني مروان فقال: أبا حازم، ما المخزج مما نحن فيه؟ قال: تنظر إلى ما عندك فلا تَضَعْه إلاّ في حقه، وما ليس عندك فلا تأخذْهُ إلاّ بحقِّه، قال: ومَن يطيق ذلك يا أبا حازم؟ قال: فمِنْ أجْل ذلك مُلئت جهنَّمُ من الجِنّة والناس أجمعين، قال: ما مالُكَ؟ قال: مالانِ، قال: ما هما؟ قال: الثِّقة بما عند اللَّه، واليأسُ مما في أيدي الناس، قال: ارفَعْ حوائجَك إلينا، قال: هيهاتَ هيهات، قد رفعتُها إلى من لا تُخْتَزَل الحوائجُ دُونه، فإنْ أعطاني منها شيئاً قبِلت، وإن زَوَى عنِّي منها شيئاً رضيت، وقال الفُضَيل بن عِياض: يا ابنَ آدَم، إنّما يفضِّلك الغِنَى بيومِك أمسِ قد خلا، وغَدٌ لم يأت، فإنْ صَبَرت يومَك أحمدتَ أمرَك، وقوِيتَ على غَدِك، وإنْ عَجَزْتَ يومَك أَذْممتَ أمرَك، وضعُفت عن غِدك، وإنَّ الصَّبر يورث البُرْء، وإنّ الجَزع يورِث السُّقم، وبالسُّقم يكون الموت، وبالبُرْء تكون الحياة، وقال الحسن: أيا فلانُ، أتَرضى هذه الحال التي أنت عليها للموتِ إذا نزل بك؟ قال: لا، قال: أفتحدّث نفسَك بالانتقال عنها إلى حال ترضاها للموت إذا نزلَ بك؟ قال: حديثاً بغير حقيقة، قال: أفبعدَ الموتِ دارٌ فيها مُستعتَب؟ قال: لا، قال: فهل رأيتَ عاقلاً رَضِيَ لنفسه بمثل الذي رضيتَ به لنفسك؟، قال عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم : ألاّ إنّ أولياءَ اللَّه لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، الذين نظروا إلى باطن الدُّنيا حين نظَرَ الناسُ إلى ظاهرها، وإلى آجل الدُّنيا حين نظرَ الناسُ إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خَشُوا أن يُميت قلوبَهم، وتركوا منها ما علموا أنْ سيتركهم،ورأوه يخرُج من بيتِ مومسة، فقيل له: يا رُوحَ اللَّه ما تصنع عند هذه؟ قال: إنَّما يأتي الطَّبيبُ المرْضَى، وقال حين مَرَّ ببعض الخلْق فشتموه، ثم مرَّ بآخرين فشتموه، فكلما قالوا شرّاً قال خيراً، فقال له رجلٌ من الحَوَاريِّين: كلما زادُوكَ شرّاً زدْتَهم خيراً حتى كأنّك إنّما تُغْريهم بنفسك، وتحثُّهم على شتمك قال: كلُّ إنسانٍ يعطي مِمَّا عندَه، وقال: ويلكم يا عبيدَ الدُّنيا، كيف تخالفُ فروعُكم أُصولَكم وعقولُكم أهواءَكم، قولُكم شفاءٌ يبرئ الدّاء، وعملُكم داءٌ لا يقبل الدّواء، لستُمْ كالكرْمة التي حسُنَ ورقُها؛ وطاب ثمرُها، وسهلُ مرتقاها، بل أنتم كالسَّمُرة التي قلَّ ورقُها وكثُر شوكُها، وصعُب مرتقاها، ويلكم يا عبيدَ الدنيا، جعلتم العملَ تحتَ أقدامِكم، مَن شاء أخذه، وجعلتم الدنيا فوقَ رؤوسكم لا يستطاع تناولُها، لا عبيدٌ أتقياء، ولا أحرارٌ كرام، ويلَكم أُجَراءَ السَّوْء، الأجرَ تأخذون، والعملَ تُفِسدون، سوف تَلقَون ما تحذرون، يوشِك ربُّ العمل أن ينظُرَ في عمله الذي أفسدتم، وفي أجره الذي أخذتم، ويلكم غُرماء السَّوْء تَبدؤون بالهديَّة قبل قضاء الدَّيْن، بالنَّوافل تَطَّوَعون، وما أُمرتم به لا تؤدُّون، إنّ رَبَّ الدَّيْن لا يقبل الهديَّة حتى يُقضَى دَيْنه، وكان أبو الدّرداء يقول: أقربُ ما يكون العبدُ من غضب اللَّه إذا غضب، واحذَرْ أن تظلمَ من لا ناصرَ له إلا اللّهُ، وقال وَزَرٌ العَبد:

لعمرُ أبي المملوك ما عاش إنّه

 

وإن أعجبَتْه نفسُـه لـذلـيلُ

يَرَى الناسَ أنصاراً عليه وماله

 

من الناس إلاّ ناصرون قلـيلُ

شيخٌ من أهل البادية قال: الُمعَرِّض بالناس اتَّقَى صاحبَه ولم يتَّق ربّه، وكان بكرُ بن عبد اللَّه يقول: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم، وقال: مَن كان له من نفسه واعظٌ عارضَهُ ساعةَ الغفلة، وحين الحميَّة، وقال عليٌّ للأشتر: انظُرْ في وجهي، حين جرى بينه وبين الأشعث بن قيس ما جرى، وكانت العجم تقول: إذا غضِبَ الرَّجل فليستلقِ، وإذا أعيا فليرفع رِجْلَيْهِ، وقال أبو الحسن: كان لرجُل من النّسّاك شاة، وكان مُعجباً بها، فجاء يوماً فوجدها على ثلاثِ قوائمَ فقال: مَن صنَع هذا بالشاة؟ قال غلامه: أنا، قال: ولِمَ؟ قال: أردت أن أغمَّك، قال: لا جرمَ لأَغُمَّنّ الذي أمرك بغمِّي، اذهب فأنت حُرٌّ، سعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، قال سمعت عمر بن عبد العزيز يخاطب الناس وهو يقول: ما أنعم اللَّه على عبدٍ نعمةً فانتزعها منه فعاضَهُ من ذلك الصَّبرَ إلاّ كان ما عاضه اللَّه أفضَلَ مما انتزع منه، ثم قرأ: "إنّما يُوَفَّى الصابرُونَ أجْرَهْم بغيْرِ حِساب" الزمر:01، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد عن أصحابه قالوا: حضرتْ عَمرو بنَ عُبيدٍ الوفاةُ فقال لعَديله: نزل بي الموت ولم أتأهَّبْ له، اللهمَّ إنَّك تعلمُ أنه لم يسنَحْ لي أمرانِ لك في أحدهما رضاً ولى في الآخر هَوىً إلاّ اخترت رضاك على هواي، فاغفِرْ لي، ولما خبّر أبو حازم سليمان بن عبد الملك بوعيد اللَّه للمُذْنبين، قال سليمان: فأين رحمة اللَّه؟ قال أبو حازم: قريبٌ من المحسِنِين، قال: وخرج عثمان بن عفّانَ رحمه اللَّه من داره فرأى في دِهليزه أعرابياً في بَتٍّ، أشغى، غائر العينين، مشرفَ الحاجبين، فقال يا أعرابيّ: أين ربُّك؟ قال: بالمِرْصاد، وكان الأعرابيُّ عامر بن عبد قيس، وكان ابنُ عامرِ سَيَّره إليه، قال: وغدا أعرابيٌّ من طيّئٍ مع امرأةٍ له، فاحتلبا لبناً ثم قعدا يتمجَّعان، فقالت امرأتُه: أنَحْن أنعم عيشاً أم بنو مروان؟ قال: هم أطيب طعاماً منَّا، ونحن أردأُ كُسْوةً منهم؛ وهم أنعَمُ منّا نهاراً، ونحن أظهَرُ منهم ليلاً، قال: وعَظ عُمرُ بن الخطّاب رجلاً فقال: لا يُلهِك الناسُ عن نفسك؛ فإنَّ الأمرَ يصير إليك دونهم ولا تَقطع النهارَ سادراً فإنه محفوظٌ عليك ما عملت، وإذا إسأتَ فَأَحْسِنْ؛ فإنِّي لم أر شيئاً أشدَّ طلباً ولا أسرعَ دَرَكاً من حسنةٍ حديثةٍ لذنْب قديم، قال: كان هلالُ بن مسعودٍ يقول: زاهدُكم راغب، ومجتهدُكم مقصِّر، وعالمُكم جاهل، وجاهلكم مغْتَرّ، مسلمة بن محارب قال: قال عامر بن عبد قيس: الدنيا والدةٌ للموت، ناقضة للمُبْرَم، مرتجِعة للعطيّة، وكلّّ من فيها يجري إلى ما لا يدري، وكلُّ مستقِرٍّ فيها غيرُ راضٍ بها، وذلك شهيدٌ على أنها ليست بدارِ قرار، قال الحسَن: مَن أيقَنَ بالخَلَف جادَ بالعطْية، وقال أسماء بن خارجة: إذا قَدُمت المودّةُ سَمُجَ الثَّناء، وقال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظيّ: عِظْني، قال: لا أرضَى نفسي لك، إني لأصَلِّي بين الفقير والغنيّ فأميل على الفقير وأوسِّع للغنيّ، قال: وقال الحسن: ما أطال عبدٌ الأمَلَ إلا أساءَ العمل، قال: كان أبو بكر رحمه اللَّه إذا قيل له: مات فلان، قال لا إله إلاّ اللَّه، وكان عثمان يقول: فلا إله إلاّ اللَّه، وركب سليمان بن عبد الملك يوماً في زِيّ عجيب، فنظرَت إليه جاريةٌ له فقالت: إنك لمعنيٌّ ببيتَي الشاعر، قال: وما هما؟ فأنشدتْه: من الخفيف

أنتَ نِعمَ المتاعُ لو كنت تبقَى

 

غير أن لا بقاءَ للإنـسـانِ

ليس فيما بدا لنا منكَ عـيبٌ

 

كان في الناس غير أنّك فانِ

قال: ويلكِ نعيتِ إليَّ نفسي، قال: صام رجلٌ سبعين سنة، ثم دعا إلى اللَّه بحاجة فلم يستجبْ له، فرجع لنفسه فقال: منكِ أُتِيتُ، فكان اعترافُه أفضلَ من صومه، وقال: مَن تذكّر قُدرة اللَّه لم يستعمل قدرتَه في ظلم عبادِ اللَّه، وقال الحسن: إذا سرّك أن تنظر إلى الدُّنيا بعدَك فانظر إليها بعدَ غيرِك،  وكان الحسن يقول: ليس الإيمانُ بالتحَلِّي ولا التمنِّي، ولكن ما وَقَر في القلوب، وصدّقته الأعمال، قال: مات ذرُّ بن أبي ذرٍّ الهمداني، من بني مُرهِبة، وهو ذَرّ بن عُمَر بن ذر فوقف أبوه على قبره فقال: يا ذَرّ، واللَّه ما بِنا إليك من فاقةٍ، وما بنا إلى أحد سوى اللَّه من حاجة، يا ذَرُّ، شغَلَنِي الحزنُ لك عن الحزن عليك، ثم قال: اللهمّ إنك وعدْتَني بالصبر على ذرٍّ صلواتِكَ ورحمتَكَ، اللهمّ وقد وهبتُ ما جعلتَ لي من أجرٍ على ذرٍّ لذرّ فلا تُعَرِّفْهُ قبيحاً من عمله، اللهمّ وقد وهبتُ له إساءتَه إليّ فهبْ لي إساءته إلى نفسه؛ فإنّك أجْوَد وأكرم، فلمَّا انصرف عنه التفت إلى قبره وقال: يا ذرُّ، قد انصرفْنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك؟ سُحيم بن حفصٍ قال: قال هانئ بن قَبيصة، لحُرْقةَ بنتِ النُّعمان، ورآها تبكي: مالكِ تبكين؟ قالت: رأيت لأهلكَ غَضَارة، ولم تمتلئْ دارٌ قطُّ فرحاً إلاّ امتلأَتْ حَزَناً، قال: ونظرت امرأةٌ أعرابيّة إلى امرأةٍ حولَها عشرةٌ من بنيها كأنَّهم الصُّقور، فقالت: لقد وَلَدَت أمُّكُم حُزناً طويلاً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه: أسرعكنَّ بي لَحاقاً أطولُكنَّ يداً، فكانت عائشة تقول: أنا تلك، أنا أطولُكنَّ يداً، فكانت زينبَ بنت جحشٍ، وذلك أنها كانت امرأة كثيرة الصَّدَقة، وكانت صَناعاً تصنع بيديها وتَبيعه وتتصدَّق به، قال الشّاعر:

وما إن كان أكثرَهُم سَواماً

 

ولكن كانَ أطولَهم ذراعاً

قال: كان الحسن يقول: ما أنعم اللَّه على عبدٍ نعمةً إلاّ وعليه فيها تَبِعة، إلاّ ما كان مِن نعمته على سليمان صلى الله عليه وسلم ؛ فإن اللَّه عزّ وجلّ قال عند ذكره: "هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْر حِسَاب" ص:39، قال: باع عبدُ اللَّه بن عُتبة بن مسعودٍ أرضاً بثمانين ألفاً، فقيل له: لو اتَّخذتَ لولدك من هذا المال ذُخراً، قال: إنّما أجعلُ هذا المالَ ذُخراً لي عند اللَّه، وأجعل اللَّه ذُخْراً لولدي، وقسَمَ المال، وقال رجلٌ: صحبت الرَّبيع بن خُثَيم سنتَين فما كلمني إلاّ كلمتين؛ قال لي مَرّة: أمُّك حَيَّةٌ؟ وقال لي مَرّةً أخرى: كم في بني تميم من مسجِد؟، وقال أبو فَروة: كان طارقٌ صاحبُ شُرَطِ خالد بن عبد اللَّه القَسْريّ مرّ بابن شُبرُمة، وطارقٌ في مَركِبه، فقال ابن شُبرُمة:

فإن كانت الدُّنيا تُحَبُّ فإنَّهـا

 

سَحابةُ صيفٍ عن قليل تَقَشَّعُ

اللهم لي ديني ولهم دنياهم، فاستُعمل ابنُ شبرمة بعد ذلك على القضاء فقال ابنه: أتذكرُ قولك يوم مَرّ طارقٌ في موكِبه؟ فقال: يا بني، إنّهم يجدون مثل أبيك، ولا يجدُ أبوك مثلهم، يا بُنَيّ، إنّ أباك أَكل من حَلْوائهم وحَطَّ في أهوائهم، قال الحسن: مَن خاف اللَّه أخاف اللَّه منه كلَّ شيء، ومَن خاف النّاس أخافه اللَّه من كلّ شيء، وقال الحسن: ما أُعطِيَ رجلٌ من الدُّنيا شيئاً إلاّ قيل له خُذْه ومثلَه من الحِرص، قال: مرّ مرْوانُ بن الحكم في العام الذي بُويع فيه بزُرارة بن جُزَيّ الكِلابيّ، وهم على ماءٍ لهم، فقال: كيف أنتم آل جُزَيّ؟ قالوا: بخير زَرَعَنا اللَّه فأحسَنَ زرْعَنا، وحصَدَنا فأحسَنَ حَصادَنا، وقال الحسن: يا ابن آدمَ، إنّما أنت عددٌ، فإذا مضى يومٌ فقد مضى بعضُك، وقال الحسن: يا ابنَ آدَم، إن كان يُغْنيك من الدُّنيا ما يكفيك فأدنى ما فيها يغنيك، وإن كان لا يغنيك منها ما يكفيك فليس فيها شيءٌ يُغنيك، قال: نَزل الموتُ بفتىً وكان فيه رَمَق، فرفع رأسَه فإذا أبواه يبكيان عند رأسه، فقال: ما لكما تبكيان؟ قالا: تخوُّفاً عليك من الذي كان من إسرافك على نفْسك، فقال: لا تبكيا، فواللَّه ما يسرُّني أنَّ الذي بيد اللَّه بأيديكما، أبو الحسن، عن عليّ بن عبد اللَّه القرشيّ قال: قال قَتادة: يُعطِي اللَّه العبدَ على نِيّة الآخرة ما شاء من الدُّنْيا والآخرة، ولا يُعطي على نيّة الدُّنيا إلا الدنيا،عَوَانة قال: قال الحسن: قدم علينا بِشرُ بنُ مروان أخو الخليفة وأمير المِصرَين، وأشبُّ النّاس، فأقام عندنا أربعين يوماً ثم طُعِن في قَدَميه فمات، فأخرجْناه إلى قبره، فلمّا صِرنا إلى الجَبَّان إذا نحنُ بأربعةٍ سُودانْ يحملون صاحباً لهم إلى قبره، فوضعنا السريرَ فصلَّينا عليه، ووضعوا صاحبَهم فصلَّوْا عليه، ثم حَملْنا بِشراً إلى قبره وحملوا صاحبَهم إلى قبره، ودفنَّا بشراً ودفنوا صاحبَهم، ثم انصرفوا وانصرفنا، ثم التفتُّ التفاتةً فلم أعرِفْ قبرَ بشرٍ من قبر الحبشيّ، فلم أر شيئاً قطُّ كانَ أعجبَ منه، وقال عبد اللَّه بن الزِّبَعْرَى: من الرمل

والعَطِيَّاتُ خِساسٌ بَيننا

 

وسواءٌ قبر مُثْرٍ ومُقِلّ

وتقول الحكماء: ثلاثة أشياءَ يستوي فيها الملوك والسُّوقة، والعِلْيَة والسِّفْلةُ: الموت، والطَّلْق، والنَّزْع، وقال الهيثم بن عَدِيّ، عن رجاله: بينا حُذَيفةُ بن اليمانِ وسَلْمانُ الفارسيُّ يتذاكران أعاجيبَ الزّمان، وتغيُّرَ الأيّام، وهما في عَرْصَةِ إيوان كِسرى، وكان أعرابيٌّ من غامِدٍ يرعى شوَيهاتٍ له نهاراً، فإذا كان الليل صيّرهّن إلى داخل العَرصة، وفي العرصة سريرُ رَخام كان كسرى ربَّما جلس عليه، فصعِدَت غُنَيْماتُ الغامديِّ على سرير كسرى، فقال سَلْمان: ومن أعجب ما تذاكرنا صعود غنيمات الغامديّ على سرير كسرى، قال: لما انصرف عليُّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه من صِفِّينَ مرَّ بمقابرَ فقال: السَّلام عليكم أهلَ الدِّيار المُوحِشة، والمحالِّ المُقْفِرَة، من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا سَلَفٌ فارط، ونحن لكن تَبَع، وبكم عمَّا قليل لاحقون، اللّهمّ اغفرْ لنا ولهمْ، وتجاوَزْ بعفوك عنّا وعنهم، والحمدُ للَّهِ الذي جعَلَ الأرض كِفاتاً، أحياءً وأمواتاً، والحمدُ للَّه الذي خَلَقَكم وعليها يحشُرُكم، ومنها يبعثُكم، وطوبى لمن ذكرَ المَعادَ، وأعَدَّ للحساب، وقَنِع بالكَفَاف، وقال عمر رحمه اللَّه استَغْزِرُوا الدُّموعَ بالتذكُّر، وقال الشاعر:

سَمِعْن بهَيْجَاً أو جفَتْ فذكرنَهُ

 

ولا يبعثُ الأحزانَ مثلُ التذكُّرِ

وقال أعرابيّ:

لا تُشْرِفَنَّ يَفاعاً إنّه طَرَبٌ

 

ولا تُغنّ إذا ما كنت مشتاقا

قال ابنُ الأعرابيّ: سمعتُ شيخاً أعرابياً يقول: إنِّي لأسَرّ بالموت، لا دَيْن ولا بنات، عليّ بن الحسن قال: قال صالحٌ المرّيّ دخلت دار المُورِيَانيّ، فاستفتحتُ ثلاثَ آياتٍ من كتاب اللَّه، استخرجُتها حين ذكرتُ الحال، فيها قولُه عزّ وجلَّ: (فتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إلاّ قلِيلاً) القصص:58؛ وقوله: (ولقَدْ ترَكْنَاهَا آيةً فهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) القمر: 15؛ وقوله: (فتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاويةً بما ظَلَمُوا) النمل: 52، قال: فخرج إليهَ أسوَدُ من ناحية الدَّار فقال: يا أبا بِشْر، هذه سَخْطة المخلوق، فكيف سخطة الخالق، قال: وأصاب ناساً مطرٌ شديد وظُلْمة وريح، ورعدٌ وبرق، فقال رجلٌ من النُّسَّاك: اللهم إنك قد أرَيْتَنَا قدرتك فأرِنَا رحمتَك، عَوانة قال: قال عبد اللَّه بن عمر: فازَ عمر بن أبي ربيعة بالدُّنيا والآخرة: غَزَا في البحر فأحرقوا سفينتَه فاحترق، قال: وطلَّق أبو الخندق امرأتَه أمَّ الخندق، فقالت: أتطلِّقني بعد طول الصُّحبة؟ فقال: ما دهاكِ عندي غيرُه، وكان أبو إسحاق يقول: ما ألأَمَها من كلمة،  قال: مرّ عمر بن الخطاب رحمه اللَّه بقوم يتمنَّونْ، فلما رأوه سكَتُوا، قال: فيم كنتم؟ قالوا: كنّا نتمنَّى، قال: فتمنَّوْا وأنا أتمنَّى معكم، قالوا: فتمنَّ، قال: أتمنَّى رجالاً ملءَ هذا البيتِ مثل أبي عبيدة بن الجرَّاح، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، إنّ سالماً كان شديد الحُبِّ للَّه، لو لم يخف اللَّه ما عصاه، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : لكل أمّةٍ أمينٌ، وأمينُ هذه الأمَّة أبو عبيدةَ بنُ الجرَّاح، شُعبة، عن عمرو بن مرَّة قال: قدِم وفدٌ من أهل اليمن على أبي بكرِ رحمه اللَّه، فقرأ عليهم القرآن فبكَوْا، فقال أبو بكر: هكذا كُنّا، حتَّى قَسَت القلوب، وقال أبو بكر: طوبى لمن مات في نأْنأة الإسلام، قال سَعد بن مالك، أو مُعاذ: ما دخلت في صلاةٍ فعَرَفْتُ مَن عن يميني ولا مَن عن شمالي، وما شيَّعت جَنازة قطُّ إلاّ حدَّثتُ نفسي بما يُقال له وما يقول، وماسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال شيئاً قطُّ إلاّ علمت أنَّه كما قال، قال أبو الدَّرداء: أضحكني ثلاثٌ وأبكاني ثلاث: أضحكني مؤمِّلُ الدُّنيا والموتُ يطلبه، وغافلٌ ولا يُغْفَل عنه، وضاحكٌ مِلءَ فيه ولا يدري أساخطٌ ربُّه أم راضٍ، وأبكاني هولُ المطَّلَع، وانقطاعُ العَمَل، وموقفي بين يدَي اللَّه لا يُدْرَى أيأمرُ بي إلى الجنَّة أم إلى النار، سُحَيم بن حفص، قال: رأى إياسُ بن قَتادة العبشميُّ شَيبةً في لحيته، فقال: أرى الموتَ يطلبُني، وأَراني لا أفوته، أعوذ بك من فُجاءات الأمور وبَغَتات الحوادث، يا بني سعد، إني قد وهبْت لكم شبابي فهبوا لي شَيبَتي، ولزِمَ بيته، فقال له أهله: تَمُوت هُزلاً قال: لأَنْ أموتَ مؤمناً مهزولاً أحَبُّ إليَّ مِن أن أموت منافقاً سميناً، وذكر قومٌ إبليس فلعنوه وتغيَّظوا عليه، فقال أبو حازم الأعرج: وما إبليس؟ لقد عُصِيَ فما ضَرّ، وأُطيعَ فما نَفَع، قال: وقال بكر بن عبد اللَّه المُزنيّ: الدنيا ما مَضَى منها فحُلْم، وما بقِيَ منها فأمانيّ، قال: ودخل أبو حازمٍ مسجدَ دِمشق، فوسْوس إليه الشيطانُ، إنّك قد أحدَثْتَ بعد وضوئك، قال: أوَ قَدْ بلَغ هذا من نصيحتك قال بعض الطِّيَاب:

عجبت من إبليس في كِبرِه

 

وخُبْثِ ما أبداه من نِيَّتـهْ

تاهَ على آدمَ في سـجـدةٍ

 

وصارَ قوَّاداً لـذُرِّيَّتِـه

قال: فأنشدتها مِسمعَ بن عاصم فقال: وأبيك لقد ذَهَب مَذْهباً، الفضل بن مُسلم قال: قال مُطرِّف بن عبد اللَّه بن الشِّخِّير: لا تنظروا إلى خَفْض عيشِهم، ولِينِ لباسِهم، ولكن انظروا إلى سرعة ظَعنهم وسُوء مُنْقَلَبِهم، قال أبو ذَرّ: لقد أصبحت وإنّ الفقر أحَبُّ إليّ من الغِنَى، والسُّقْمَ أحبُّ إلي من الصِّحَّة، والموتَ أحَبُّ إليّ من الحياة، قال دَهْثَم: لكنِّي لا أقول ذلك، قال: قال داود صلى الله عليه وسلم : اللّهمَّ لا صِحَّةً تُطغِيني، ولا مرضاً يُضْنيني، ولكن بين ذَيْنِك، قال الحسن: إنّ قوماً جعلوا تواضُعَهم في ثيابهم، وكِبْرَهم في صُدورهم، حتَّى لَصاحِبُ المِدْرعة بمِدْرعته، أشدُّ فرحاً من صاحب المُطْرَف بمطرفه، قال: وقال داودُ النبيُّ عليه السلام: إنّ للَّهِ سَطَوات ونَقَمات، فإذا رأيتُموها فداوُوا قُرُوحَكم بالدُّعاء، فإنّ اللَّه تبارك وتعالى يقول: لولا رجالٌ خُشَّعٌ، وصِبْيانٌ رُضَّعٌ، وبَهائمُ رُتَّعٌ، لصببْتُ عليكم العذاب صَبّا، قال: اشترى صَفوان بن مُحرز بدَنةً بتسعة دنانير، فقيل له: أتشتري بدنةً وليس عندك غيرُها؟ قال: سمعتُ اللَّه تبارَك وتعالى يقول: "لكُمْ فيها خَيْر" الحج:36، وقيل لمحمد بن سُوقة: تحجُّ وعليك دَين؟ قال: هو أَقْضَى للدَّين، قال: ولقي ناسكٌ ناسكاً ومعه خُفٌّ فقال: ما تصنع بهذا؟ قال: عُدَّة للشِّتاء، قال: كانوا يستحيُون مِن هذا، قال أبو ذَرّ: تَخْضَمون وتَقْضَم، والموعِدُ اللَّه، قال الزُّبَير: يكفينا من خَضْمكم القَضْم ومن نَصِّكم العَتَق، وقال أيمن بن خُرَيم:

رَجَوْا بالشِّقاق الأكلَ خضماً فقد رَضُوا

 

أخيراً مَن أكلِ الخَضْم أن يأكلوا قَضْما

وقال عمرو لمعاوية: مَن أصبَرُ الناس؟ قال: مَن كان رأيُه رادّاً لهواه، وتواصَفُوا حالَ الزَّاهد بحضرة الزُّهري، فقال الزُّهريّ: الزَّاهد من لم يغلب الحرامُ صبرَه، ولا الحلالُ شُكرَه، قال: وذُكر عندَ أعرابيّ رجلٌ بشدّة الاجتهاد، وكثرة الصَّوم، وطُولِ الصلاة، فقال: هذا رجُلُ سَوْء، أوَ ما يظنُّ هذا أنّ اللَّه يرحمُه حتَّى يعذِّبَ نفسَه هذا التعذيب، قال أبو بكر: ما ظنُّك بخالق الكرامة لمن يريد كرامته وهو عليه قادر؟ وما ظنُّك بخالق الهوان لمن يريد هوانَه وهو عليه قادر؟ وزعم أبو عَمرو الزَّعفرانيّ، قال: كان عمرو بن عُبيد عند حَفْص بن سالم، فلم يسألْهُ أحدٌ من أهله وحَشَمه حاجةً إلاَّ قال: لا، فقال عمرو: أقِلَّ من قولِ لا، فإنه ليس في الجنَّةِ لا، قال: وقال عَمْرو: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سئل ما يَجد أعطى، وإذا سئل ما لايجد قال: يصنع اللَّه، قال: وقال عمر بن الخطاب رحمه اللَّه: أكثِرُوا لهُنَّ من قول لا، فإنّ نعَمْ يُضَرِّيهنَّ عَلَى المسألة، قال: وإنما يخصُّ بذلك عُمر النِّساء، قال الحسن: أدركتُ أقواماً كانوا من حسناتهم أشفَقَ من أن تُرَدَّ عليهم، منكم من سيّئاتكم أن تعذّبوا عليها، قال أبو الدَّرداء: من يشتري منِّي عاداً وأموالَها بدرهم، ودخل عليُّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه المقابرَ فقال: أمَّا المنازل فقد سُكنَتْ، وأمَّا الأموالُ فقد قُسِمَتْ، وأمَّا الأزواج فقد نُكِحَتْ، هذا خَبَر ما عندنا فما خَبَرُ ما عندكم؟ ثم قال: والذي نفسي بيده لو أُذِن لهم في الكلام لأخبَرُوا أنّ خيرَ الزّاد التَّقوَى، قال أبو سعيدٍ الزَّاهد: عَيَّرت اليهودُ عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم الفَقْرَ فقال: مِن الغِنى أُتيتُم، وقال آخر: لو لم يُعْرَفْ من شرف الفقر إلاّ أنَّك لا ترى أحداً يعصِي اللَّه ليفتقر، وهذا الكلام بعينه مدخول، قال: سأل الحجاج أعرابياً عن أخيه محمد بن يوسف، كيف تركتَه؟ فقال: تركتُه بَضّاً عظيماً سميناً، قال: لستُ عن هذا أسألُك، قال تركتُه ظَلوماً غَشوماً، قال: أوَ ما علمت أنَّه أخي؟ قال: أتُراه بكَ أعزَّ منِّي باللَّه وقال بعضُهم: نجد في زَبُور داود: من بَلغَ السَّبعين اشتكى من غير عِلّة، جعفر بن سليمان قال: قال محمد بن حَسّان النبطيّ: لا تسأل نفسَك العامَ ما أعطتْك في العام الماضي، أبو إسحاق بن المبارك قال: قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقربُ شيءٍ؟ قال: الأجل، قيل: فما أبعَدُ شيءٍ؟ قال: الأمل، قيل: فما أوْحَشُ شيء؟ قال: الميِّت، قيل: فما آنَسُ شيءٍ؟ قال: الصَّاحبُ المواتِي، وقال آخر: نَسِيَ عامرُ بن عبد اللَّه بن الزُّبير عطاءَه في المسجد، فقيل له: قد أُخذ، فقال: سُبحانَ اللَّه، وهل يأخذ أحدٌ ما ليسَ له، جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السَّائب، عن عَبْدة الثقفي قال: لا يشهَد عليَّ اللَّيلُ بنومٍ أبداً، ولا يشهد عليَّ النَّهارُ بأكل أبداً، فبلغ ذلك عُمرَ بنَ الخطاب فعزم عليه، فكان يُفطِر في العيدين وأيام التشريق، وقال الحسَنُ بن أبي الحسن: يكون الرَّجُل عالماً ولا يكون عابداً، ويكون عابداً ولا يكون عاقلاً، وكان مسلم بن يَسارِ عالماً عابداً عاقلاً، وقال عُبادة بن الصامت: مِن الناس مَن أوتيَ عِلماً ولم يُؤْتَ حِلماً، وشَدَّاد بن أوسٍ أُوتِيَ علماً وحلماً، قال إبراهيم: كان عمرُو بن عُبيدٍ عالماً عاقلاً عابداً، وكان ذا بيان، وصاحبَ قرآن، إبراهيم بن سعد، عن أبي عبد اللَّه القَيسيّ قال: قال أبو الدَّرداء: لا يُحرِز المؤمنَ من شِرار الناس إلاّ قبرُه، وقال عيسى بن مريم صلوات اللَّه عليه: الدُّنيا لإبليس مزرعة، وأهلُها له حَرّاثُون، عبد الملك بن عمير، عن قَبيصه بن جابر قال: ما الدنيا في الآخرة إلاّ كنفجة أرنب، قال عمر رحمه اللَّه: لولا أن أَسِير في سبيل اللَّه، وأضَعَ جبهتي للَّه، وأجالِسَ أقواماً ينتقون أحسنَ الحديث كما يُنتقَى أطايبُ التَّمْر، لم أُبالِ أن أكون قد مُتُّ، قال عامرُ بنُ عبدِ قيس: ما آسَى من العراق إلاّ على ثلاث: ظمأ الهواجر، وتجاوُب المؤذِّنين، وإخوانٍ لي منهم الأسود بن كلثوم، قال مُوَرِّق العِجلي: ضاحكٌ معترفٌ بذنْبِه خيرٌ من باكٍ مُدِلٍّ على ربِّه،وقال: خيرٌ من العُجْب بالطاعة، أن لا تأتي بطاعة، قالوا: كان الربيع بن خُثَيم يقول: لا تطعِمْ إلاَّ صحيحاً، ولا تَكسُ إلاّ جديداً، ولا تُعتِقْ إلاّ سويّا، قال بعض الملوك لبعض العلماء: ذمَّ لي الدُّنيا، فقال: أيُّها الملك، الآخذةُ لما تعطي، المُورِثَةُ بعد ذلك النّدم، السّالبةُ ما تكسو، المُعْقبةُ بعد ذلك الفُضوحَ، تَسدُّ بالأرَاذِل مكانَ الأفاضل، وبالعَجَزة مكان الحَزَمة، تجد في كلٍّ من كُلٍّ خَلْفاً، وترضى من كلِّ بكلِّ بَدَلاً، تُسِكن دارَ كلِّ قَرنٍ قَرناً، وتطعم سُؤرَ كلِّ قومٍ قوماً، وكان سعيد بن أبي عَروبة يُطعم المساكينَ السُّكَّر، ويتأوَّل قوله عزَّ وجلّ: "ويُطْعِمُون الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه" الإنسان: 8، قال، وكان محمد بن عليٍّ إذا رأى مبتلىً أخفى الاستعاذة، وكان لا يُسمَع من داره: يا سائلُ بُورِكَ فيك، ولا يا سائلُ خُذْ هذا، وكان يقول: سمُّوهم بأحسنِ أسمائهم، قال: وتمنَّى قومٌ عند يزيدَ الرقاشيِّ، فقال يزيد: سأتمنَى كما تمنَّيتم، قالوا: تَمَنَّ، قال: ليتنا لم نُخْلَق، وليتنا إذْ خُلقنا لم نمت، وليتنا إذْ مُتْنَا لم نُبْعَث، وليتنا إذْ بُعثنا لم نُحاسَب، وليتَنا إذْ حُوسبْنا لم نُعَذَّبْ، وليتنا إذ عُذّبنا لم نُخَلَّدْ، قال: وقال رجُلٌ لأمِّ الدَّرداء: إني أجد في قلبي داءً لا أجد له دواءً، وأجدُ قسوةً شديدة، وأملاً بعيداً، قالت: اطَّلِع القُبورَ، واشهد الموتَى، ابن عَون قال: قلت للشّعبيّ: أين كان علقمةُ من الأسود؟ قال: كان الأسود صَوَّاماً قوّاماً، وكان علقمة مع البطيء وهو يسبق السريع، قال: وقيل لغالب بن عبد اللَّه الجَهْضَمي: إنَّا نَخافُ على عينيك العمى من طُول البكاء، قال: هو لهما شهادة، محمد بن طلحة بن مُصرِّف، عن محمد بن جُحَادة، قال: لمَّا قُتل الحسين رضي اللَّه عنه أتى قومٌ الربيع بن خُثَيم فقالوا: لنستخرجنَّ اليومَ منه كلاماً، فقالوا: قُتِلَ الحُسَين، قال: اللَّه يحكُم بينهم يومَ القيامة فيما كانوا فيه يَخْتَلِفُون، وأتَته بُنيّةٌ له فقالت: يا أبَهْ، أذهَبُ ألعب؟ قال: اذهبي فقولي خَيراً وافعلي خيراً، وقال أبو عُبيدة: استقبل عامرَ بنَ عبدِ قيسٍ رجلٌ في يوم حَلْبةٍ، فقال: مَن سبَقَ يا شيخ؟ قال: المقرَّبُون، عليٌّ بن سُلَيم، قال: قيل للربيع بن خُثَيم: لو أرَحْتَ نفسَك؟ قال: راحتَها أريد، إنّ عمرَ كان كيِّساً، وقال أبو حازم: ليتَّق اللَّه أحدُكم على دينه، كما يتَّقي على نَعله، جعفر بن سُليمان الضُّبَعيّ، قال: أتى مُطرِّف بن عبد اللَّه بن الشِّخَّير، فجلس مجلسَ مالك بن دينار وقد قام، فقال أصحابُه: لو تكلَّمتَ؟ قال: هذا ظاهرٌ حسن، فإنْ تكونُوا صالحينَ فإنّه كان للأوَّابينَ غَفُوراً، وقال رجلٌ لآخرَ وباع ضيعةً له: أمَا واللَّه لقد أخذتَها ثقيلةَ المؤونة قليلة المُعونة، فقال الآخر: وأنت واللَّه لقد أخذتَها بطيئةَ الاجتماع، سريعة التفرُّق، واشترى رجلٌ من رجلٍ دارًا فقال لصاحبه: لو صبرتَ لاشتريتُ منك الذِّراعَ بعشرة دنانير، قال: وأنت لو صبرتَ لبعتك الذِّراعَ بدرهم، ورأى ناسكٌ ناسكاً في المنام فقال له: كيف وجدتَ الأمرَ يا أخي؟، قال: وجَدْنا ما قَدَّمْنا، ورَبِحنْا ما أنفَقْنا، وخسرنا ما خَلَّفنا، وقال بكرُ بن عبد اللَّه المُزَنِّي: اجتهدوا في العَمَل، فإنْ قصَّرَ بكم ضعفٌ فكفُّوا عن المعاصي، قال: وقال أعرابيّ: إنه ليقتُل الحُبارَى جُوعاً ظُلْمُ الناسِ بعضِهم لبعض، قال: قيل لمحمَّد بن علي: مَن أشدُّ الناس زُهداً؟ قال: مَن لا يُبالي الدُّنيا في يَدِ مَن كانت، وقيل له: مَن أخسرُ الناسِ صَفْقَةً؟ قال: مَن باعَ الباقيَ بالفاني، وقيل له: مَن أعظم النّاس قدراً؟ قال: مَن لا يرى الدُّنيا لنفسه قدْراً، الأصمعيّ، عن شيخٍ من بكر بن وائل، أنّ هانئَ بنَ قَبيصة، أتى حُرقةَ بنتَ النُّعمان وهي باكية، فقال لها: لعلّ أحداً آذاك؟ قالت: لا، ولكنِّي رأيتُ غَضارةً في أهلكم، وقلَّما امتلأت دارٌ سروراً إلاّ امتلأت حزناً،وقالوا: يَهرَم ابنُ آدمَ وتشِبُّ لهُ خَصلتان: الحِرْص والأمل، الأصمعي، قال: قال محمد بن واسع: ما آسَى من الدُّنيا إلاّ على ثلاث: بُلْغَةٍ من عيش ليس لأحد فيها علَيَّ مِنّة ولا للَّه فيها عليَّ تبعة، وصلاةٍ في جمْعٍ أُكفَى سَهوهَا ويُدَّخر لي أجرُها وأخٍ في اللَّه إذا ما اعوجَجْتُ قَوَّمَني، وقال آخر: ما آسى من العراق إلاّ على ثلاث: ليل الحَزِيز، ورُطب السُّكَّر، وحديث ابن أبي بكرة، وقال آخر: إذا سمعتَ حديث أبي نَضْرَةَ، وكلامَ ابن أبي بكرة، فكأنك مع ابن لسانِ الحُمَّرَة، وقال أبو يعقوب الخريميّ الأعور: تَلقّاني مع طُلوع الشّمس سعيدُ بن وهب، فقلت: أين تريد؟ قال: أدور على المجالس فلعلّي أسمع حديثاً حسناً، ثمَّ لمْ أجاوزْ بعيداً حتّى تلقّاني أنس بن أبي شيخ، فقلت له: أين تريد؟ قال: عندي حديثٌ حَسن فأنا أَطلُب له إنساناً حسنَ الفهم، حسنَ الاستماع، قال: قلت: حدِّثني فأنا كذاك، قال: أنت حسن الفهم رديء الاستماع، وما أرى لهذا الحديث إلاّ إسماعيل ابن غزوان، هشام، قال: أخبرني رجلٌ من أهل البصرة قال: وُلد للحسن بن أبي الحسن غلامٌ، فقال له بعض جُلَسائه: بارك اللَّه لك في هِبَته، وزادك في أحسَنِ نعمته، فقال الحسن: الحمد للَّه على كلِّ حَسنة، وأسأل اللَّه الزيادةَ في كلِّ نِعمة، ولا مرحباً بمن إن كنت عائلاً أنصبَني، وإن كنت غنيّاً أذهلَني، لا أرضَى بسعيي له سَعْياً، ولا بكدِّي له في الحياة كَدّاً، حتَّى أُشفقُ عليه من الفاقة بعد وفاتي، وأنا في حالٍ لا يصل إليَّ من همِّه حَزَنٌ، ولا من فرحه سرور، قال الحسن للمغيرة بن مُخارِش التميمي: إنَّ مَن خوّفك حتَّى تلقَى الأمنَ، خيرٌ لك ممَّن أمّنك حتَّى تلقَى الخوف، وقال عَون بن عبد اللَّه بن عُتْبة بن مسعود: ما أحسَنَ الحسنةَ في إثر الحسنة، وأقبَحَ السيِّئة في إثر السيِّئة، الحسن قال: ما رأيتُ يقيناً لا شكَّ فيه أشبَهَ بشكّ لا يقينَ فيه من أمرٍ نحن فيه، قال: وكان الحسن إذا ذكر الحَجَّاج قال: يتلو كتاب اللّه على لخمٍ وجُذام، ويعِظ عِظةَ الأزارقة، ويبطِش بطشَ الجبَّارين، وكان يقول: اتّقوا اللَّه؛ فإنَّ عند اللَّه حَجَّاجينَ كثيراً، وقال سِنان بن سلمة بن قيس: اتّقوا اللَّه؛ فإن عند اللَّه أياماً مثل شَوَّال، وقال خالدُ بن صَفْوان: بتُّ ليلتي كلَّها أتمنَّى، فكبَسْتُ البحرَ الأخضرَ بالذَّهب الأحمر، فإذا الذي يكفيني من ذلك رَغِيفان، وكوزانِ، وطِمْران، وكان الحسن يقول: إنّكم لا تنالون ما تحبُّون إلاّ بتَرْك ما تشتهون، ولا تدركون ما تؤمِّلون إلاّ بالصَّبر على ما تكرهون، ودخل قومٌ على عوف بن أبي جَمِيلة في مرضه، فأقبلوا يُثنون عليه، فقال: دعُونا من الثَّناء، وأمِدّونا بالدُّعاء، وقال أبو حازم: نحن لا نريدُ أنْ نموت حتى نتوب، ونحن لا نتوب حتَّى نموت، وكان الحسن يقول: يا ابنَ آدم، نهارُك ضيفُك فأحسِنْ إليه؛ فإنَّك إن أحسنت إليه ارتَحَل بِحمدك، وإن أنت أسأتَ إليه ارتَحَل بذمِّك، وكذلك ليلُك، وقيل لبعض العلماء: مَن أسوأ النَّاسِ حالاً؟ قال: عبد اللّه بن عبد الأعلى الشَّيْبانيّ، القائلُ عند موته: دخلتُها جاهلاً، وأقمتُ فيها حائراً، وأُخرِجت مِنْها كارهاً - يعني الدنيا، وقيل لآخر: مَن أسوأُ النّاسِ حالاً؟ قال: مَنْ قويت شهوته وبعُدت همته، واتّسعت معرفتُه وضاقت مقدرته، وقيل لآخر: مَن شرُّ الناس؟ قال: مَن لا يبالي أن يراه النّاس مسيئاً، وقيل لآخر: مَن شرُّ الناس؟ قال: القاسي، فقيل: أيُّما شرٌّ، الوَقَاحُ أمِ الجاهل، أم القاسي؟ قال: القاسي، وذكَر أبو صفوانَ، عن البَطَّال أبي العلاء، من بني عمرو بن تميم قال: قيل له قبلَ موته: كيف تَجِدُك يا أبا العلاء؟ قال: أجِدُني مغفوراً لِي، قالوا: قلْ إنْ شاء اللَّه، قال: قد شاء اللَّه، ثمّ قال:

أوصيكُمُ بالجِلَّة التلادِ

 

فإنَّما حَولكمُ الأعادِي

قال ابن الأعرابيّ: كان العبّاس بن زفر لا يكلِّم أحداً حتَّى تنبسط الشمس، فإذا انفتل عَن مُصلاَّه ضَرَبَ الأعناق، وقطَّعَ الأيديَ والأرجُل، وكان جريرُ بن الخَطَفَى لا يتكلَّم حتَّى تطلُعَ الشَّمس، فإذا طلعَتْ قذَف المحصَنات، قال: ومرّت به جِنازة فبكى وقال: أحرقتْني هذه الجنائز قيل: فلم تَقذِف المحصنَات؟ قال: يبدو لي ولا أصبرِ، وكان يقول: أنا لا أبتدي ولكن أعتدِي، الحسن بن الرَّبيع الكِندي بإسنادٍ له، قال: قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم : دُلَّني على عملٍ إذا أنا عمِلتُه أحبَّني اللَّه وأحبَّني النّاس، قال: ازهَدْ في الدُّنيا يُحبَّك اللَّه، وازهَدْ فيما في أيدِي الناس يحبَّك النّاس، قال: وبلغني عن القاسم بن مُخَيمِرَةَ الهمْدَاني، أنه قال: إني لأغلق بابي فما يُجاوِزُه هَمِّي، وقال أبو الحسن: وُجد في حجرٍ مكتوبٍ: يا ابن آدم، لو أنَّك رأيتَ يسيرَ ما بقي مِن أجلَك لزهِدْتَ في طول ما ترجو من أمَلك، ولرغِبْتَ في الزِّيادة في عملك، ولَقصرْت من حرصك وحِيَلك، وإنّما يلقاك غداً ندمُك لو قد زلّتْ بك قدمك، وأسلَمكَ أهلُك وحَشَمُك، وتبرّأَ منك القريب، وانصَرَف عنك الحبيب، فلا أنتَ إلى أهلك بعائدِ، ولا في عملك بزائد، وقال عيسى بنُ مريم صلوات اللَّه عليه: تعملون للدُّنيا وأنتم تُرزقون فيها بغير العمل، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلاّ بالعمل، قال: أوحى اللَّه تبارك تعالى إلى الدُّنيا: من خَدَمني فاخدُميه، ومن خَدمك فاستخدميه، وقال: مِن هوان الدُّنيا على اللَّه أنه لا يُعصَى إلاّ فيها، ولا يُنال ما عنده إلاّ بتركها، قال: مرَّ عيسى بن مريم عليه السلام بقوم يبكون، فقال: ما بالهم يبكون؟ فقالوا: على ذنوبهم، قال: اتركوها يُغفَرْ لكم، قال: وقال زياد بن أبي زياد، مولى عبد اللَّه بن عَيّاش بن أبي ربيعة: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فلما رآني تَزَحَّل عن مجلسه وقال: إذا دخل عليك رجلٌْ لا ترى لك عليه فضلاً فلا تأخُذْ عليه شرفَ المجلس، وقال الحسن: إنّ أهل الدنيا وإنّ دقدقت بهم الهماليج، ووطئَ الناسُ أعقابَهم، فإنَّ ذُلَّ المعصية في قلوبهم، قالوا: وكان الحجّاج يقول إذا خطب: إنّا واللَّه ما خُلقنا للفَناء، وإنّما خُلقنا للبقاء، وإنّما ننقل من دارٍ إلى دار، وهذا من كلام الحسن، ولما ضَرب عبد اللَّه بن عليٍّ تلك الأعناقَ قال له قائل: هذا واللَّه جَهْدُ البَلاء؟ فقال عبدُ اللَّه: ما هذا وشَرْطَةُ الحَجَّام إلاّ سَواءٌ: وإنّما جَهدُ البلاءِ فقرٌ مُدقِع بعد غِنىً مُوسَع، وقال آخر: أشدُّ من الخوف الشيء الذي من أجله يَشتدُّ الخوف، وقال آخر: أشدُّ من الموت ما يُتمنَّى له الموت، وخيرٌ من الحياة ما إذا فقدتَه أبغضتَ له الحياة، وقال أهل النار: "يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ" الزخرف: 77، فلمّا لم يُجابُوا إلى الموت قالوا: "أفيضُوا عَلَينَا مِنَ الماءِ" الأعراف: 50، وقالوا: ليس في النار عذابٌ أشدُّ على أهله من علمهم بأنّه ليس لكربهم تَنْفِيس، ولا لِضِيقهم ترفيه، ولا لعَذابهم غاية، ولا في الجنة نعيمٌ أبلغُ من علمهم أنّ ذلك المُلْكَ لا يزُول، قالوا: قارف الزُّهريُّ ذنباً، فاستوحش من الناس وهام على وجهه، فقال له زَيد ابن عليّ: يا زُهريُّ، لَقُنُوطُكَ من رحمة اللَّه التي وسِعَتْ كلَّ شيءٍ أشدُّ عليك من ذَنْبك فقال الزهريّ: "اللهُ أعلمُ حيثُ يَجْعَل رِسالاته" الأنعام: 124 فرجع إلى ماله وأهله وأصحابه، قال ابن المبارك: أفضَلُ الزهد أخفاه، الأوزاعيّ، عن مكحول قال: إنْ كان في الجماعة الفضيلةُ فإنّ في العُزلة السَّلامةَ، إسماعيل بن عَيَّاش، عن عبد اللَّه بن دينار، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : إنه اللَّه كرِهَ لكُمُ العبث في الصلاة، والرَّفَث في الصيام والضَّحِكَ في المقابر، وقال أرْدَشِيَر خُرَّهْ: احْذَروا صولةَ الكريم إذا جاع، واللئيمِ إذا شَبِعَ، قال واصل بن عطاء: المؤمن إذا جاع صَبَر، وإذا شبع شَكَر، وقيل لعامر بن عبد قيس: ما تقول في الإنسان؟ قال: ماعسى أن أقولَ فيمن إذا جاع ضَرَع، وإذا شبِع طغى، قال: ونظر أعرابيٌّ في سَفَره إلى شيخٍ قد صحِبَه، فرآه يصلِّي فسكَنَ إليه، فلما قال: أنا صائم، ارتابَ به، وأنشأ يقول:

صلَّى فأَعجبني وصام فرَابَـنِـي

 

نحِّ القَلوصَ عن المصلِّي الصائمِ

وهو الذي يقول:

لم يخلِق اللَّه ُ مسجوناً تُسَائِلُـه

 

ما بالُ سجنِك إلاّ قال: مظلومُ

الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى بن جَعْدة، قال: كان يقال: اعمَلْ وأنت مُشفِق، ودَع العمَل وأنت تحبُّه، قال: وقيل لرابعة القيسية: هل عملتِ عملاً قطُّ تَرَيْنَ أنَّه يُقْبَلُ منك؟ قالت: إنْ كان شيءٌ فخوفي من أن يُرَدَّ عليَّ، وقال محمد بن كعبٍ القُرَظيّ، لعُمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين لا تنظرَنّ إلى سِلعةٍ قد بارت على مَن كان قَبْلك تريد أن تَجُوزَ عنك، الحسن قال: كان مَن كان قبلكم أرقَّ منكم قلوباً وأصفَقَ ثياباً، وأنتم أرقُّ منهم ثياباً وأصفقُ منهم قلوباً، عبد اللَّه بن المبارك قال: كتب عمرُ بن عبد العزيز إلى الجرَّاح بن عبد اللَّه الحَكَميّ: إن استطعتَ أن تدَعَ مما أحلَّ اللَّه لك ما يكون حاجزاً بينك وبين ما حرَّم اللَّه عليك فافعَلْ؛ فإنه مَن استوعب الحلالَ كلَّه تاقت نفسه إلى الحرام، وقال أبو بكر الصديق رحمه اللَّه لخالد بن الوليد حينَ وجَّهه: احرِصْ على الموت تُوهَب لك الحياة، وقال رجل: أنا أحبُّ الشهادة، فقال رجل من النّسّاك: أحببْها إن وقعَتْ عليك، ولا تحبَّها حُبَّ مَن يريدُ أن يقَعَ عليها، وقال رجلٌ لداوُدَ بنِ نُصيرٍ الطائيّ العابد: أوْصني، قال: اجعل الدنيا كيومٍ صُمتَه، واجعل فِطَركَ الموت، فكأنْ قَدْ، والسلام، قال: زِدْني، قال: لا يَرَك اللَّه عند ما نهاك عنه، ولا يَفْقِدْك عند ما أمرَكَ به، قال: زدْني، قال: ارضَ باليسير مع سلامة دينك، كما رضَي قومٌ بالكثير مع هلاك دينهم، قال رجل ليونُس بن عبيد: أتعلم أحداً يعمل بعمَل الحسن؟ قال: واللَّه ما أعرفُ أحداً يقول بقوله، فكيف يعمل بمثلِ عمله؟ قال: صِفْه لنا، قال: كان إذا أقبل فكأنه أقبَلَ مِن دفْن حميمِه، وكان إذا جلس فكأنه أَسِير قد أُمِر بضرب عُنقه، وكان إذا ذُكرَت النار عندَه فكأنَّها لم تُخْلق إلاّ له، وُهَيْب بن الورد قال: بينا أنا أدُور في السُّوق إذ أخَذَ آخِذٌ بقفايَ فقال لي: يا وُهَيب، اتَّق اللّه في قُدرته عليك، واستَحي اللَّه في قُربه منك، وقال عبد الواحد بن زيدٍ لأصحابه: ألا تستحيُون مِن طول مالا تستحيُون؟ الهيثم قال: كان شيخٌ من أعرابِ طيِّئٍ كثيرَ الدُّعاء بالمغفرة، فقيل له في ذلك، فقال: واللّه إنَّ دعائي بالمغفرة من قُبْح إصراري لَلُؤْم، وإنّ ترْكِي الدعاء مع قوّة طمعي لَعَجز، قال أبو بِشر صالحٌ المُرّيّ: إنْ تكن مصيبتُك في أخيك أحدثتْ لك خشيةً فنعم المصيبةُ مصيبتُك، وإن تكن مصيبتُك بأخيك أحدثَتْ لك جزَعاً فبئس المصيبةُ مصيبتُك، وقال عمرو بن عبيدٍ لرجلٍ يعزِّيه: كان أبوك أصلَك، وابنُك فرعَك، فما بقاء شيءٍ ذهب أصلُه ولم يبق فرعُهُ، وقال الحسن: إنّ امرأ ليس بينه وبين آدم إلاّ أبٌ ميّت لَمُعْرَقٌ في الموت، وقالوا: أعظمُ من الذَّنب اليَأسُ من الرَّحمة، وأشدُّ من الذنب المماطَلة بالتوبة، ابن لَهِيعة، عن سَيَّار بن عبد الرحمن، قال: قال لي بُكيرُ بن الأشَجّ: ما فعَلَ خالُكَ؟ قلت: لزِم بيتَه، فقال: أمَا لئنْ فَعل لقد لزمَ قومٌ من أهل بدرٍ بيوتَهم بعد مقتل عثمان رحمه اللَّه، فما خرجوا منها إلاّ إلى قبورهم، وقال الحسن: إنّ للَّه ترائكَ في خَلْقه، لولا ذلك لم ينتفع النبيُّون وأهلُ الانقطاع إلى اللَّه بشيءٍ من أمر الدّنيا: وهي الأمَل، والأجَل، والنِّسْيان، وقال مُطرِِّف بن عبد اللَّه لابنه: يا بنيّ لا يلهِيَنّك النَّاسُ عن نفسك؛ فإنّ الأمرَ خالصٌ إليكَ دونَهم، إنّك لم تر شيئاً هو أشدّ طلباً ولا أسرعُ دَرَكاً مِن توبةٍ حديثة لذنْب قديم، وفي الحديث أنّ أبا هريرة مرَّ بمروانَ وهو يبني دارَه، فقال: يا أبا عبد القُدُّوس، ابنِ شديداً وأمِّلْ بعيداً، وعِشْ قليلاً وكُلْ خَضْماً، والموعدُ اللَّه، قال: كان عمر بن خَوْلَة، أبو سعيدٍ بن عمرو بن سعيد بن العاص - وأمه خَوْلة من المَسامعة - وكان ناسكاً يجتمع إليه القُرّاء والعلماء يومَ الخميس، وقال الشاعر فيه:

وأصبح زَورُك زَورُ الخميس

 

إلـيك كـمَـرْعِـيَّةٍ وأرده

وقال الآخر في ابن سِيرين:

فأنت باللَّيل ذئبٌ لا حـريمَ لـه

 

وبالنَّهار على سمتِ ابن سيرِين

وقال ابنُ الأعرابيّ: قال بعضُ الحكماء: لا يغلِبَنَّ جهلُ غَيرِكَ بك عِلمَك بنَفْسك، قال: وصلَّى محمَّد بن المنكدِر، على عِمران بقرةَ، فقيل له في ذلك، فقال: إنِّي لأستحِي من اللَّه أنْ أَرَى أنّ رحمته تعجِز عن عِمران بقرة، وقال محمد بن يَسير: من السريع

كأنّه قد قيل في مجلسٍ

 

قد كنت آتِيهِ وأغْشَـاهُ

محمد صار إلى ربِّـه

 

يرحمُنا الـلَّـه وإيّاه

وقال الآخر:

لَقَلَّ عاراً إذا ضَيْفٌ تضـيَّفَـنـي

 

ما كان عندي إذا أعطيتُ مجهودي

فَضْلُ المُقِلِّ إذا أعطاه مصطبـراً

 

ومُكثِرٍ في الغنى سيّانِ في الجود

لا يَعدَم السائلون الخيرَ أفـعـلُـه

 

إما نَوَالي وإمّا حُـسـنَ مـرودِي

وكان الرَّبيع بن خُثَيم، إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا يزيد؟ قال: أصبحنا ضعفاءَ مذنبين، نأكل أرزاقَنا، وننتظر آجالَنا، وقال ابن المقفّع: الجود بالمجهود مُنتهَى الجود، قال مطرِّف بن عبد اللَّه: كان يُقال: لم يلتق مؤمنانِ إلاّ كان أفضلُهما أشدَّهما حبّاً لصاحبه، وكنتُ أرى إنِّي أشدُّ حبّاً لمذعور بن طُفَيْل منه لي، فلما سُيِّر لقيَني ليلاً فحدَّثَني فقلت: ذهب اللّيلُ قال: ساعةً، ثم قلت: ذهبَ اللّيل فقال: ساعةً، فعلمتُ أنّه أشدُّ حُبّاً لي منِّي، فلما أصبح سَيَّره ابنُ عامرٍ مع عامر، قال: وقالوا لعيسى بن مريم: من نُجَالس؟ قال: مَن يُذكّركم اللَّه رؤيتُه، ويزيد في علمكم منطقُه، ويرغِّبكم في الآخرة عمله، إسحاق بن إبراهيم قال: دخلنا على كَهْمسٍ العابد، فجاءنا بإحدى عشرة بسرةً حمراء، فقال: هذا الجُهد من أخيكم، واللَّه المستعان، الأصمعي، عن السَكَن الحَرَشيّ قال: اشتريتُ من أبي المنهال سَيّار ابن سلامة، شاة بِستِّين درهماً، فقلت: تكون عندَك حتَّى آتيَك بالثَّمَن، قال: ألستَ مُسلماً؟ قلت: بَلَى، قال: فخذْها، فأخذتُها ثم انطلَقْت بها، ثم أتيتُه بالسّتِّينَ، فأخرج منها خمسةَ دراهم وقال لي: اعلِفْها بهذه، وقال مساورٌ الورّاق لابنه:

شمِّر قميصَك واستعِدّ لـقـائلٍ

 

واحكُكْ جبينَكَ للقَضَاءِ بثُـومِ

واجعَلْ صِحابَك كلَّ حَبرٍ ناسكٍ

 

حسن التعهُّد للصَّلاة صَـؤُوم

مِن ضَرْبِ حمّادٍ هناك ومِسْعرٍ

 

وسِماكٍ العبسيّ، وابن حَكـيم

وعليك بالغَنَويّ فاجلسْ عنـده

 

حتى تصـيبَ وديعةً لـيتـيمِ

وقال: بينا سليمانُ بنُ عبدِ الملك يتوضأ، ليس عنده غيرُ خالِه والغلامُ يصبُّ عليه الماء، إذ خَرّ الغلامُ مَيّتاً، فقال سليمان:

قرِّبْ وَضُوءَكَ يا حصينُ فإنّما

 

هذِي الحياةُ تَعِـلّة ومَـتـاعُ

ونظر سليمانُ في مِرآةٍ فقال: أنا الملك الشاب فقالت جارية له: من الخفيف

أنتَ نعِم المتاعُ لو كنت تبقَى

 

غير أنْ لا بقاءَ للإنـسـانِ

قال: قيل لسعيد بن المسيَّب: إنّ محمد بن إبراهيم بن محمد بن طلحة، سقَطَ عليه حائطٌ فقتله، فقال: إنْ كان لَوَصولاً لرَحِمِه، فكيف يموتُ ميتَةَ سَوْء؟ وقال أسماءُ بن خارجة:

عَيَّرتنِي خَلَقاً أبليتُ جِـدَّتَـه

 

وهل رأيتِ جديداً لم يعُدْ خَلَقَا

قال: وتمثَّل عبدُ الملك بن مروان:

وكلُّ جديدٍ يا أُمَيمَ إلـى بَـلـىً

 

وكلُّ امرئٍ يوماً يصير إلى كانْ

وقال آخر:

فاعمَلْ على مهلٍ فإنّكَ مـيّتٌ

 

واكدَحْ لنفسك أيّها الإنـسـانْ

فكأنّ ما قد كان لم يك إذْ مضَى

 

وكأنّ ما هو كائنٌ قـد كـانْ

قال: وكان عثمانُ بنُ عفّانَ رحمه اللَّه يقول: إني لأكرهُ أن يأتي عَلَيَّ يومٌ لا أنظر فيه إلى عَهْد اللَّه، يعني المُصْحف، قال: وكان عثمانُ حافظاً، وكان حِجرُه لا يكادُ يفارِق المصحَف، فقيل له في ذلك فقال: إنّه مُبارَك جاء به مبارك، ولما مات الحجّاج خرجتْ عجوزٌ من داره وهي تقول:

اليوم يرحَمُنَا مَن كان يَغْبِطنا

 

واليومَ نَتبعُ مَن كانوا لنا تَبَعا

حدّثني بكرُ بن المعتمرِ، عن بعض أصحابه قال أبو عثمان النَّهديُّ: أتت عليّ ثلاثون ومائةُ سنة، ما منِّي شيء إلاَّ وقد أنكرتُه، إلاّ أمَلي فإنَّه يزيد، قال مِسْوَر بن مَخْرَمة لجلسائه: لقد وارت الأرضُ أقواماً لو رأَوْني معكم لاستحييت منهم، وأنشدني أعرابيّ:

ما منع الناسُ شيئاً جئتُ أطلبُـه

 

إلاّ أرى اللَّه يكفي فَقْدَ ما منَعُوا

قال: جَزِع بكرُ بن عبدِ اللَّه على امرأته، فوعَظَهُ الحسَنُ، فجعل يصِف فَضْلها، فقال الحسن: عند اللَّه خيرٌ منها، فتزوَّجْ أُختهَا فلقيَه بعد ذلك فقال: هي يا أبا سعيدٍ خيرٌ منها وأنشده:

يُؤمِّلُ أن يُعَمَّرَ عُمْر َ نُوحٍ

 

وأمرُ اللَّه يحدُثُ كلَّ ليلَهْ

عوف، عن الحسَن قال: قال صلى الله عليه وسلم : للمسلم على أخيه ستُّ خصالٍ: يسلَّمُ عليه إذا لقِيَه، وينصحُ له إذا غاب، ويعُودُه إذا مرِض، ويشيِّع جِنازته إذا مات، ويحيِّيه إذا دعاه، ويشمِّته إذا عَطَس، وقال أعرابيّ:

تُبَصّرني بالعيش عِرسي كأنما

 

تُبَصّرني الأمرَ الذي أنا جاهلُه

يعيش الفتى بالفقر يوماً وبالغِنَى

 

وكُلاًّ كأنْ لم يلقَ حين يُزَايلُـه

وأنشد أبو صالح:

ومشيِّدٍ داراً لـيسـكُـن دارَه

 

سكَنَ القبور، ودارَهُ لم يسكُنِ

وكان صالح المرّيْ أبو بشر ينشد في قَصَصه:

وباتَ يروّي أُصولَ الفَسِيلِ

 

فعاشَ الفَسيلُ وماتَ الرّجُلْ

وقال الآخر:

إذا أبقَت الدُّنيا على المرء دينَهُ

 

فما فاته منها فليس بـضـائرِ

فلن تَعدِلَ الدُّنيا جَناحَ بعـوضةٍ

 

ولا وَزْنَ زِفٍّ من جَناحٍ لطائِر

فما رضِيَ الدُّنيا ثواباً لمؤمـن

 

ولا رضِيَ الدُّنيا عقاباً لكافـرِ

وقال الآخر:

أبَعْدَ بشرٍ أسيراً فـي بـيوتِـهـمُ

 

يرجُو الخَفارةَ منِّـي آلُ ظَـلاَّمِ

فلن أُصالحَهُم ما دمتُ ذا فـرسٍ

 

واشتدَّ قبضاً على السِّيلانِ إبهامي

فإنّما النّـاس، يا لـلَّـه أمُّـهُـمُ

 

أكائل الطَّـير أو حـشـوٌ لآرام

هم يَهلِكون ويَبْقى بعدُ ما صَنعوا

 

كأنّ آثارَهم خُـطّـت بـأقـلامِ

وأنشد لمحمد بن يسير: من الخفيف

عَجَباً لي ومِن رضايَ بحـالٍ

 

أنا منها على شَفَا تـغـريرِ

عالماً لا أشكُّ أني إلـى عـدْ

 

نٍ إذا مُتُّ أو عذابِ السَّعير

كلّما مُرَّ بي على أهـل نـادٍ

 

كنتُ حيناً بهم كثيرَ المرورِ

قيل: مَن ذا على سرير المنايا

 

قيل: هذا محمَّدُ بـن يَسـيرِ

وأنشد:

لكلِّ أناس مَقْبَرٌ بفِنـائهـم

 

فهم ينقُصون والقبورُ تَزيدُ

هُمُ جيرة الأحياء أمَّا محَلُّهم

 

فدانٍ ولكنّ اللقاءَ بـعـيدُ

وقال أبو العتاهية:

سُبْحان ذي الملَـكـوتِ أيَّةُ لـيلَةٍ

 

مَخضَتْ بوَجْه صَباحِ يوْمِ المَوْقِف

لو أنَّ عيناً وهَّمتها نَـفـسُـهـا

 

ما في الفِرَاقِ مُصوَّراً لم تَطرِفِِ

وقال أبو العتَاهية أيضاً: من السريع

يا خاطبَ الدُّنيا إلى نَفسِها

 

تنحّ عن خِطْبتها تَسْلَـمِ

إنّ التي تَخْطُبُ غَـرَّارةٌ

 

قريبَةُ العُرسِ من المأتَمِ

وقال الآخر: مجزوء الكامل

ناداهما بفِراقِ بينِهما الزّمان فأَسْرَعاوكذاك لم يزَل الزَّمانُ مُفرِّقاً ما جَمَّعا

وقال آخر: من السريع

يا ويحَ هذِي الأرْض ما تَصْنَعُ

 

أكُلَّ حَيٍّ فوقَهـا تَـصـرعُ

تَزْرعُهم حتَّى إذا ما استَـوَوْا

 

عادت لهمْ تحصِدُ ما تـزرعُ

وقال الآخر:

ذكرتُ أبَا أروَى فبتُّ كأنَّني

 

برَدِّ الأُمورِ الماضياتِ وكيلُ

لكلِّ اجتماعٍ من خليلين فُرقةٌ

 

وكلُّ الذي قبل الفراقِ قليلُ

وإنَّ افتقادِي واحداً بعد واحدٍ

 

دليلٌ على أنْ لا يدُوم خَليلُ

وقال محمد بن المنتشر: إذا أَيسَرَ الرَّجُل ابتُلِيَ به أربعة: مَولاهُ القديمُ يَنتَفِي منه، وامرأتُه يتسرَّى عليها، ودارُه يهدِمُها ويبتنِي غيرَها، ودابَّتُه يَستبدِلُ بها، وقال الآخر:

يجدِّدُ أحزاناً لنـا كـلُّ هـالـكٍ

 

ونُسرِعُ نِسْياناً ولَمْ يأْتِـنـا أَمْـنُ

فإنَّا، ولا كُفران لـلَّـهِ ربِّـنـا

 

لكالبُدْن ماتدْرِي متَى يومُها البُدْنُ

الأوزاعيُّ، عن مكحول قال:إن كان في الجماعة فضلٌ فإنّ في العُزلة سلامةً، أبو جَنَاب الكلبيِّ ، عن أبي المحجّل، عن ابن مسعود قال: ثلاثٌ من كنّ فيه دَخَل الجنَّةَ: مَن إذا عرَفَ حقَّ اللَّه عليه لم يؤخِّره، وكان عملُه الصّالحُ في العلانيَة على قِوامٍ من السَّريرة، وكان قد جَمع ما قد عمِلَ صلاحَ ما يؤمِّل، وقال: كفى موعظةٌ أنَّك لا تحيا إلاّ بموت، ولا تَمُوتُ إلاّ بحياةٍ، قال أبو نُوَاس:

شاع فيَّ الفناءُ سُفلاً وعُلْـوَا

 

وأُراني أموتُ عُضْواً فعُضْوا

ذهبَتْ جِدَّتي بطاعةِ نفـسِـي

 

وتذكَّرتُ طاعةَ اللَّه نِضْـوا

وقال الآخر:

وكم من أَكلةٍ منَعتْ أخاهـا

 

بلذَّةِ ساعةٍ أكـلاتِ دَهـر

وكم من طالبٍ يَسْعَى لشيءٍ

 

وفيه هلاكُه لو كان يدري

وقال الآخر:

كلُّ امرئٍ مُصبَّحٌ في أَهلِـهِ

 

والموتُ أدنَى من شِراكِ نَعْلِهِِ

وقال الآخر:

استيقِني في ظُلَم البيوتِ

 

أنَّك إن لم تقُتَلي تموتي

وقال عنترة بن شدّاد:

بَكَرت تُخَوِّفني الحتُـوفَ كـأَنَّـنـي

 

أصبحتُ عن غَرَضِ الحتُوف بمَعزِلِ

فأجَبْتُهـا إنَّ الـمـنـيَّة مَـنْـهـلٌ

 

لا بدّ أن أُسْقَى بكَأْسِ الـمَـنْـهَـلِ

فاقْنَيْ حياءَك لا أبالَـكِ واعـلَـمِـي

 

أنِّي امرؤ سأمـوتُ إن لـم أُقْـتَـلِ

إنّ المنيَّة لـو تُـصَـوَّرُ صُـوِّرَت

 

مِثْلي، إذا نزلُوا بضَنكِ الـمـنـزلِ

وقال أبو العتاهية: مجزوء الخفيف

أُذْنَ حَيٍّ تـسـمَّـعـي

 

واسمعي ثمّ عِي وَعي

عِشتُ تِسعـينَ حِـجَّةً

 

ثم وافيتُ مَضجَـعِـي

أنا رهْنٌ بمَصـرعـي

 

فاحذرِي مثلَ مصرعِي

ليس زادٌ سِوَى التُّقـى

 

فخُذِي منـه أو دَعِـي

وقال الخليل بن أحمد:

عشْ ما بدا لك قَصْرُك الموت

 

لا مَهرَبٌ منـه ولا فَـوتُ

بَيْنا غِنَى بيتٍ وبـهـجـتُـه

 

زال الغِنَى وتقوَّضَ البـيتُ

وقال أبو العتاهية: من السريع

اسمَعْ فقد أسمَعَكَ الصَّوتُ

 

إن لم تبادِرْ فهُو الـفَـوتُ

نَلْ كُلَّ ما شِيتَ وعش ناعماً

 

آخِرُ هذا كُلِّـهِ الـمـوتُ

وقال الوزيريُّ:

وأعلَمُ أنّني سأصيرُ مَـيْتـاً

 

إذا سار النَّواجعُ لا أسـيرُ

وقال السَّائلون مَن المُسَجَّى

 

فقال المُخبِرُون لهم: وزيرُ

وقال أبو العتاهية: مجزوء الكامل

الحقَُّ أوسع من مُعَـا

 

لَجة الهَوى ومَضِيقهِ

لا تعرِضنَّ لـكُـلّ أمْ

 

رٍ أنت غَيرُ مُطيقـهِ

والعيشُ يصلُح إن مَزَ

 

جْتَ غليظَه برقيقـه

لا يَخدعنّك زُخرف ال

 

دُّنيا بِحُسْنِ بـريقِـه

وإذا رأيتَ الرأي مض

 

طرِباً فخُذ بوَثـيقِـه

ولرُبّما غَصَّ البخـي

 

لُ إذا استُنيل بريقِـه

وقال أيضاً: من الخفيف

مَن أجَابَ الهَوَى إلى كلِّ ما يد

 

عُوه ممّا يَضِلُّ ضَلَّ وتاهـا

مَن رأى عِبرةً ففكَّر فـيهـا

 

آذنته بالبَـيْن حـين يراهـا

ربَّما استغلقَتْ أمور عَلى مَن

 

كان يأتي الأمورَ مِن مأتاهـا

وسيأوي إلى يدٍ كـلُّ مـا تـأْ

 

تِي وتأوي إلى يَدٍ حُسنَـاهـا

قد تكون النّجاة تكرهها النَّـفْ

 

سُ وتأتي ما كان فيه أذاهـا

وقال أيضاً: من المنسرح

لو أنَّ عـبـداً لـه خـزائنُ مـا

 

في الأرض ما عاشَ خَوفَ إملاَقِ

يا عجباً كلنا يحِيدُ عن الحَيْ

 

ن وكلٌّ لِحَـينِـهِ لاقِـي

كأنَّ حَيّاً قد قـام نـادبُـه

 

والتفَّت السَّاقُ مِنْهُ بالسّاقِ

واستلَّ منه حياتَه ملَكُ المو

 

ت خفيّاً وقيل: مَـن رَاقِ

وقال السَّموءل بن عادياءَ اليهوديّ:

تُعَيِّرُنـا أنّـا قَـلـيلٌ عَـديدُنـا

 

فقلتُ لها: إنّ الـكـرامَ قـلـيلُ

وما قلَّ مَن كانت بقاياه مثـلَـنَـا

 

شبابٌ تَسامَى للعُلَـى وكُـهـول

وما ضَرَّنا أنّا قـلـيلٌ وجـارُنَـا

 

عزيزٌ وجارُ الأكـثَـرينَ ذَلـيلُ

فنحنُ كماء المُزن ما في نِصابنـا

 

كَهَامٌ ولا فـينـا يُعَـدُّ بـخـيلُ

وأسيافُنا في كلِّ شرقٍ ومغـرِبٍ

 

بها من قِراع الدّارعِين فُـلُـولُ

معوَّدةٌ ألاّ تُـسـلَّ نـصـالُـهـا

 

فتُغمَد حتّى يسـتـبـاحَ قَـتـيلُ

سلي، إنْ جَهلتِ، النّاس عنّا وعنهمُ

 

وليسَ سواءً عالِـمٌ وجَـهُـولُ

وقال الرّبيعُ بن أبي الحُقَيق:

ومن يكُ غافلاً لم يَلقَ بُوساً

 

يُنِخْ يوماً بساحتِهِ القضـاءُ

تَعَاوَرُه بناتُ الدّهرِ حتّـى

 

تُثلِّمَه كما ثُـلِـمَ الإنـاءُ

وكُلُّ شديدةٍ نزلت بـحـيٍّ

 

سيأتي بعد شِدَّتها رَخـاءُ

وبعض خلائق الأقوام داءٌ

 

كداء الشَّيخِ ليس له شِفَاءُ

وأنشد:

قد حالَ من دونِ ليلى معشرٌ قَزَمٌ

 

وهم على ذاكَ من دوني مَوَاليها

واللَّهُ يعلمُ أنَّي إن نأَتْ حِجَـجـاً

 

أوحِيَل من دُونِها أنْ لست ناسيها

وأنشد:

وليلٍ يقولُ الناس من ظُلمَـاتِـه

 

سواءٌ بصيراتُ العُيونِ وعُورها

كأنّ لنا منه بـيوتـاً حـصـينةً

 

مُسُوحٌ أعاليها وسَاجٌ كُسورُها

وقالوا: أتى سعيدُ بنُ عبد الرحمن بن حسان، أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، وهو عامل سليمانَ بنِ عبد الملك، فسأله أن يكلّم سليمان في حاجَةٍ له فوعده أن يقضِيَها ولم يفعَلْ، وأتى عمرَ بنَ عبد العزيز فكلَّمه فقضَى حاجتَه، فقال سعيد:

ذُمِمتَ ولمْ تُحمَد وأدركتُ حاجتي

 

تولَّى سِواكُم شُكرَها واصطناعَها

أَبى لَكَ فعلَ الخير رأيٌ مُقصِّـرٌ

 

ونَفْسٌ أضاقَ اللُّهُ بالخير باعَهـا

إذا هي حَثَّتْهُ على الخـيرِ مـرَّةً

 

عَصَاها وإن هَمّت بشرٍّ أطَاعَها

ستكفيكَ ما ضَيّعْت منه، وإنّـمـا

 

يُضيعُ الأمورَ سادراً من أضاعَها

وِلايةُ مَن ولاَّك سُـوءَ بـلائِهـا

 

ووَلّى سواك أجرَها واصْطِنَاعَها

وأنشد:

إذا ما أطعتَ النفسَ مال بها الهَوَى

 

إلى كلِّ ما فيه علـيك مـقَـالُ

وأنشد: من مجزوء الكامل

حسْب الفتى من عيشه

 

زادٌ يبلّغُهُ المـحـلاّ

خُبـز ومـاءٌ بـاردٌ

 

والظلُّ حين يريد ظِلاّ

وأنشد:

وما العيش إلاّ شَبعةٌ وتشرُّقٌ

 

وتَمر كأخفاف الرِّباع وماءُ

قالوا استبطأ عبدُ الملك بن مروان، ابنَه مَسلمةَ في مسيره إلى الرُّوم، وكتب إليه:

لمَن الظعَّائنُ سَيرُهُنَّ تزحُّـفُ

 

سَيرَ السَّفين إذا تقاعسَ يُجْذَفُ

فلما قرأ الكتاب مسلمةُ كتب إليه:

ومستعجبٍ مما يَرى من أناتِنَا

 

ولو زَبنته الحَرْبُ لم يتَرمْرَمِ

ومَسْلَمةُ هو القائل عندما دُلِّيَ بعضُهم في قبره، فتمثَّل بعضُ مَن حَضَر فقال:

فما كان قيسٌ هلكُهُ هُلْكُ وَاحدٍ

 

ولكِنّهُ بنيانُ قَـومٍ تَـهـدَّمَـا

فقال مَسلمة: لقد تكلّمتَ بكلمةِ شيطانٍ، هَلاَّ قلت:

إذا مُقرَمٌ منَّا ذَرَا حَدُّ نابِـه

 

تخَمّط فينَا نابُ آخَرَ مُقْرَمِ

وكان مَسلمةُ شجاعاً خطيباً، وبارعَ اللسان جَواداً، ولم يكن في ولد عبد الملك مثلُه ومثلُ هِشامٍ بَعده وقال بعضُ الأعراب يهجو قوماً:

تَصبّر للبلاءِ الحتمِ صَبراً

 

إذا جاورْتَ حَيَّ بني أبَانِ

أقاموا الدَّيْدَبانَ علـى يَفَـاعٍ

 

وقالوا: يا احتَرِسْ، للدّيْدَبانِ

فإن أبصرْتَ شخصاً مِن بَعيدٍ

 

فصَفِّقْ بالبَنَانِ على البَنـانِ

تراهُم خشيةَ الأضيافِ خُرساً

 

يقيمون الصـلاة بـلا أذانِ

وقال بعض الأعراب يمدح قوماً:

وسَارٍ تَعنَّاهُ المَبـيتُ فـلـم يَدَع

 

له حابِسُ الظلماءِ واللّيلِ مَذْهَبـا

رأى نارَ زيدٍ من بعيدٍ فخالَـهـا

 

وقد كذَبتهُ النفسُ والظنُّ كوكبـا

رَفَعتُ لهُ بالكفِّ نَاراً تشُـبُّـهـا

 

شآمِيَةٌ نكباءُ أو عارضٌ صَـبَـا

وقلت: ارفعُوها بالصَّعيد كَفى بها

 

مُشيراً لسارِي لـيلةٍ إن تـأوّبـا

فلما أتانا والـسـمـاءُ تَـبْـلُّـهُ

 

نقولُ له: أهلاً وسهلاً ومَرْحَبـا

وقمتُ إلى البَرْكِ الهواجَدِ فاتَّقت

 

بكَوماءَ لم يترُكْ لها النَّيُّ مهربا

فرحَّبتُ أعلى الجَنبِ منها بطعنةٍ

 

دَعَت مُستَكنَّ الجوْفِ حتَّى تصبّبا

وقال الآخر:

واسْتَيقني فلم ظُلَم البُيُوتِ

 

أنّك إنْ لم تُقتَلي تَمُوتي

وقال أبو سعيد الزّاهد: من عمِلَ بالعافية فيمن دُونَه رُزِقَ العافيةَ ممن فوقَه، قال: وقال عيسى بن مريم عليه السلام: في المال ثلاثُ خصال، أو بعضُها، قالوا: وما هي يا رُوح اللَّه؟ قال: يكسبُهُ من غَيْر حِلّه، قالوا: فإن كسَبه من حِلِّه؟ قال: يمنعه مِن حَقّه، قالوا: فإن وضعَهُ في حَقّه؟ قال يشْغلُه إصلاحُه عن عبادَةِ ربّه، قال: قيل لرجل مريضٍ: كيف تجدُكَ؟ قال: أجدُني لم أرضَ حياتي لموتي، سعيد بن بشير، عن أبيه، أنَّ عبد الملك قال حين ثَقُل ورأى غَسّالاً يلوي ثوباً بيده: ودِدْتُ أنْ كنتُ غسَّالاً لا أعيش إلاّ مما أكتََسِبُ يوماً بيومٍ، فذُكِرَ ذلك لأبي حازم فقال: الحمد للَّه الذي جعلَهم عند الموت يتمنَّوْن ما نحنُ فيه، ولا نتمنَّى عند الموت ما هُم فيه، الهيثم قال: أخبرني موسى بن عُبيدة الرّبَذِيّ عن عبد اللَّه بن خِدَاش الغِفارِيّ قال: قال أبو ذَرّ: فارقت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقُوتي من الجمعة إلى الجمعة مُدٌّ، ولا واللَّه لا أزداد عليه حتَّى ألقاه، قال: وكان يقول: إنّما مالُكَ لك، أو للجائحة، أو للوارث، فاغْنَ، ولا تكنْ أعجزَ الثلاثة، فُضَيْلُ بن عياضٍ، عن المُطَّرِح بن يزيد، عن عُبيد اللَّه بن زَحْرٍ، عن علي بن يزيد عن القاسم مولى يزيد بن معاوية، عن أبي أُسامة الباهلي قال: قال عمر رحمه اللَّه: أدِّبوا الخيل، وتسوَّكوا، واقعُدوا في الشمس، ولا تُجَاوِرَنَّكم الخنازير، ولا يُرفَعنَّ فيكم صَليب، ولا تأكلوا على مائدة ىُشْرَبُ عليها خمر، وإياكم وأخلاقَ العجَم، ولا يحلُّ لمؤمنٍ أن يدخُل الحمَّامَ إلاّ بمئزر، ولا لامرأةٍ إلاّ مِن سُقْمٍ؛ فإنَّ عائشة حدَّثتْني قالت: حدَّثَني خليلي عَلَى مِفْرَشي هذا: إذا وضَعَتِ المرأة خمارَها في غير بيت زوجها هَتكَت ما بينها وبين اللَّه فلم يَتناهَ دون العرْش، ومن نساك البصرة وزهادهم عامر بن عبد قيس، وبَجَالة بن عَبَدَة العنبريَّان؛ وعثمان بن الأدهم والأسود بن كلثوم، وصِلَةُ بن أشيم، ومذعور بن الطُّفيل، ومن بني مِنقَر: جعفر وحرب ابنا جِرْفاس، وكان الحسن يقول: إني لا أرى كالجعفرَيْنِ جعفراً، يعني جعفر بن جرفاسٍ، وجعفرَ بن زيدٍ العبدِي، ومن النساك، مُعاذةُ العَدويّةُ، امرأة صِلَةَ بنِ أشيم، ورابعة القيسيَّة، زهاد الكوفة عمرو بن عُتْبة، وهَمَّام بن الحارث، والرَّبيع بن خُثَيم، وأُويْس القَرَنيُّ، قال الراجز

من عاشَ دهراً فسيأتيه الأجَلْ

 

والمرءُ تَوَّاقٌ إلى ما لم يَنَلْ

الموْت يتلُوهُ ويُلْهِيه الأمَـلْ

 

 

وقال الآخر:

كلُّنا يأمُلُ مدّاً في الأَجَلْ

 

والمنايا هي آفاتُ الأَمَلْ

وقال الآخر: من الرمل

لا يغُرَّنْكَ مَسَاءٌ سـاكـنٌ

 

قد يُوَافِي بالمنيَّات السَّحَرْ

وقال الآخر:

أنت وهَبتَ الفتية السَّلاهِبْ

 

وهَجمةً يَحارُ فيها الحالِبْ

وغَنماً مثل الجرَادِ السارب

 

مَتاعَ أيّامٍ، وكُـلٌّ ذاهِـبْ

وقال المسعوديّ: مجزوء الكامل

إن الكرامَ مُـنـاهِـبُـو

 

ك المجدَ كلُّهم فناهِـبْ

أخلِفْ وأتِلف، وكل شي

 

ءٍ زعزعتهْ الرِّيح ذاهِبْ

وقال التَّيميُّ:

إذا كانت السّبعونُ سنَّك لـم يكـن

 

لدائك إلاّ أن تـمـوتَ طـبـيبُ

وإنَّ امرأً قد سار سبعـين حِـجَّةً

 

إلى منهَلٍ مـن وردِهِ لـقَـريبُ

إذا ما مَضَى القرنُ الذي كنتَ فيهم

 

وخُلِّفْتَ في قَرْنٍ فأنـتَ غَـريب

إذا ما خلوتَ الدَّهرَ يوماً فلا تقُـل

 

خلوتُ ولكن قُلْ: عَلَـيَّ رقـيبُ

وقال غَسَّانُ خالُ الغَدَّار:

ابيضّ منِّي الرأسُ بعد سَـوَادِ

 

ودعا المَشِيبُ حليلتِي لبِعـادِ

واستحصَدَ القرنُ الذي أنا منهمُ

 

وكفَى بذاكَ عَلاَمةً لحَصَادِي

قال: كان عليّ بن عيسى بن ماهان، كثيراً ما يقول: "رَبَّنَا أَفرِغ علنيا صَبْراً وتوفَّنا مُسلمين" الأعراف: 126، وكان كثيراً ما يقول: ويلٌ للظالمين من اللَّه، وقال محمد بن واسع: الإبقاء على العمل أشدُّ من العمل، وكان أبو وائلٍ النهشليّ يقول في أوّل كلامه: إنّ الدّهرَ لا يذوقُ طعمَ الفراق ولا يُذيقُهُ أهْلَه، وإنما يَغَتَمِسُون في ليلٍ، ويطفُون في نهار، فيُوشكُ شاهدُ الدنيا أن يغيب، وغائبُ الآخرة أن يَشهَد، قال: وسأل رجُل رَجُلاً، فقال المسؤول: اذهب بسلام فقال السائل: قد أنصفَنَا مَن رَدَّنا إلى اللَّه، الحِزاميُّ، عن سفيان بن حمزة عن كَثير بن الصَّلت أن حَكيم بن حزامٍ باعَ دارَه من معاوية بستِّينَ ألفَ درهم، فقيل له: غَبَنَك واللَّه معاوية فقال: واللَّه ما أخذتها في الجاهلية إلاّ بزقٍّ من خمرٍ، أُشهِدكم أنَّها في سبيل اللَّه، فانظرُوا أيُّنا المغبون؟، قال سُفيان الثَّوري: ليس مِن ضَلالةٍ إلاّ عليها زِينة، فلا تعرضنَّ دِينَك لمن يُبغّضه إليك، وقال عمر بن عبد العزيز: مَن جعل دينه غَرَضاً للخُصومات أكثر التنقُّل، وأتى مسلماً نصرانيٌّ يُعزِيه، فقال له: مِثلي لا يُعزّي مِثلَك، ولكن انظر إلى ما زَهِدَ فيه الجاهل فارغَبْ فيه، وكان الحسنُ بن زيدِ بن علي بن الحسين بن عليّ يُلَقّب ذا الدّمعة، فإذا عُوتِب في كثرة البكاء قال: وهل تركتِ النار والسَّهمانِ لي مَضْحَكاً؟ يُريد قتل زيد ابن علي، ويحيى بنِ زيد، وقيل لشيخٍ من الأعراب: قمْتَ مَقاماً خِفْنا عليك منه قال: الموتَ آخاف؟ شيخ كبيرٌ وربٌّ غفورٌ، ولا دَيْنَ ولا بنات، وقال أبو العتاهية: من الرمل

وكما تبلَى وجوهٌ في الثَّرَى

 

فكذا يَبلَى عليهنّ الحَـزَنْ

وقال بَشّار: من الخفيف

كيف يَبكي لمَحْبِس في طُلُولِ

 

من سَيُفضِي لحبس يومٍ طويلِ

إنّ في البَعْثِ والحساب لَشُغلاً

 

عن وُقوفٍ برَسم دارٍ مُحِـيلِ

وقال محمود الورّاق:

أليس عجيباً بأنّ الـفـتـى

 

يُصَاب ببعض الذي في يديهِ

فمن بين باكٍ لـه مُـوجَـعٍ

 

وبين مُعـزٍّ مُـغِـذٍّ إلـيه

ويسلبُهُ الشَيبُ شرخَ الشبابِ

 

فليس يعزِّيه خلقٌ عـلـيه

وقال أيضاً: مجزوء المتقارب

بكيتُ لقُرْبِ الأجَـلْ

 

وبُعْد فوات الأمَـلْ

ووافِدِ شـيبٍ طَـرَا

 

بَعْقب شبابٍ رَحَـلْ

شبابٌ كأنْ لم يَكُـنْ

 

وشيبٌ كأَنْ لم يََزَلْ

طَوَاك بَشيرُ البقـاءِ

 

وحَلَّ بشيرُ الأجَـلْ

طَوَى صاحبٌ صَاحباً

 

كذاك اختلافُ الدُّوَلْ

وقال:

رأيتُ صلاحَ المرء يُصْلِحُ أهْـلَـهُ

 

ويَعْديهمُ داءُ الفـسـادِ إذا فَـسَـدْ

يُعَظَّمُ في الدّنيا بفضـل صـلاحـه

 

ويُحفَظُ بعد الموت في الأهل والوَلَدْ

وقال الحسن بن هانئ: من السريع

أيَّةَ نارٍ قَـدَح الـقـادِحُ

 

وأيَّ جِدٍّ بلَغَ الـمـازِحُ

للَّه دَرُّ الشَّيبِ من واعظٍ

 

وناصحٍ لو حَظِيَ الناصِح

يأبَى الفتَى إلاّ اتّباعَ الهَـوَى

 

ومَنهجُ الحقِّ لـه واضـحُ

فَاسمُ بعينَيك إلـى نـسـوَةٍ

 

مُهُورُهُنّ العَمَلُ الصّالـحُ

لا يجتلي الحسناء من خدرِها

 

إلاّ امرؤٌ ميزانُـه راجِـحُ

من اتَّقَى اللَّه فـذاك الـذي

 

سبق إليه المَتْجَرُ الـرّابـحُ

وقال أيضاً: مجزوء الرمل

خَلِّ جـنـبـيك لـرامِ

 

وامضِ عنهُ بـسَـلامِ

مُتْ بداءِ الصَّمت خيرٌ

 

لك من داءِ الـكـلام

إنّما السّـالـم مَـن ألْ

 

جَمَ فـاهُ بـلـجَــامِ

رُبّما استفتَحتَ بالـقـو

 

ل مَغاليقَ الْـحـمـام

رُبَّ لَفظٍ سَـاقَ آجـا

 

لَ فِــئام وفِـــئامِ

فالبَس الناس على الصِّ

 

حَّةِ منهم والـسَّـقـامِ

والـمـنـايا آكـلاتٌ

 

شاربـاتٌ لـلأَنــام

شبتَ يا هذَا وما تَـتْ

 

رُكُ أخلاقَ الـغـلامِ

وقال أيضاً: مجزوء الرمل

كُنْ من اللَّه يكُنْ لك

 

واتَّقِ اللَّه لعـلَّـكْ

لا تكُنْ إلاَّ مُـعِـدّاً

 

للمنايا فكـأنَّـكْ

إنّ للموْتِ لسَهْمـاً

 

واقعاً دُونك أوْ بكْ

نحنُ نجرِي في أَفَا

 

نينِ سُكونٍ وتحرُّكْ

فعلى اللَّه تَـوَكَّـلْ

 

وبِتقواهُ تمـسَّـكْ

وله أيضاً: مجزوء الرمل

يا نُوَاسيُّ تـفـكَّـرْ

 

وتَعَزَّ وتـصـبّـرْ

ساءَكَ الدّهرُ بشـيءٍ

 

ولَمَا سَرَّك أكـثَـرْ

يا كبيرَ الذَّنب عفـوُا

 

للَّه من ذنبك أَكبَـرْ

أكبر الأشياءِ في أص

 

غَرِ عفوِ اللَّه يصغُرْ

وقال سعدُ بن ربيعةَ بن مالِك بن سعد بن زَيدِ مَناةِ بن تميم:

ألاَ إنّمَا هذا المُلالُ الـذي تَـرَى

 

وإدْبَارُ جسمي مِن رَدَى العَثَراتِ

وكَم من خليلٍ قد تجلَّدْتُ بـعـدَهُ

 

تَقطَّعُ نفسي دونَـهُ حَـسَـراتِ

وهذا من قديم الشَّعْر: وقال الطرمّاحُ بن حَكيم، في هذا المعنى:

وشَيّبَني أن لا أزالُ مُنَاهِـضـاً

 

بِغيرِ قُوىً أنْزُو بِهَـا وأبُـوعُ

وإنّ رجالَ المال أضْحَوْا ومالهُم

 

لَهم عند أبواب الملُوك شفـيعُ

أمُختَرِمِي رَيْبُ المَنونِ ولم أنل

 

من المالِ ما أعصِي به وأطيعُ

ومن قديم الشعرِ قول الحارث بن يزيد، وهو جَدُّ الأحَيمِرِ اللِّصّ السعديّ: مجزوء الكامل

لا لاَ أعُـقّ ولا أحُــو

 

بُ ولا أُغِيرُ على مُضَرْ

لَكِـنَّـمـا غَـزْوِي إذا

 

ضَجَّ المَطيُّ من الدَّبَـرْ

وقال ادمُ بن عبد العزيز بن عُمَر بن عبد العزيز:

وإن قالت رجالٌ قد تولَّى

 

زمانكُمُ وذا زَمن جَـدِيدُ

فما ذَهَبَ الزّمانُ لنا بمجدٍ

 

ولا حَسَبٍ إذا ذُكِرَ الجُدُودُ

وما كُنَّا لنخلُدَ إذْ مَلَكـنَـا

 

وأيُّ النّاس دام له الخلودُ

وقيل لأخيه بعد أن رأوه حمّالاً: لقد حطَّكَ الزّمان، وعضَّك الحَدَثان، فقال: ما فَقدْنا مِن عيشِنَا إلاّ الفُضول وقال عُرةُ بنُ أذينة الكنانيُّ:

نُرَاعُ إذا الجنائزُ قابلتنـا

 

وَيَحْزُننا بكاءُ الباكـياتِ

كرَوعَةِ ثَلّةٍ لمُغـارٍ ذِئبٍ

 

فلَمَّا غاب عادت راتعاتِ

وقالت خَنساءُ بنتُ عمرٍو:

تَرتعُ ما غفلَت حتى إذا ادّكرَت

 

فإنّما هـي إقـبـالٌ وإدبـارُ

وقال أبُو النجم:

فلو ترى التُّيوسَ مُضْجَعاتِ

 

عَرَفتَ أن لَسْنَ بسالمـاتِ

أقول إذ جئن مُـذبَّـحـاتِ

 

ألم تكن من قبلُ راتعـاتِ

ما أقربَ الموتَ من الحياة

 

 

وقال سليمان بنُ الوليد: من المديد

رُب مَغْرُوسٍ يُعاش بِـه

 

عَدِمتَهُ كفُّ مغتـرِسِـهْ

وكذاك الدَّهرُ مـأتَـمـهُ

 

أقربُ الأشياءِ من عُرُسهِ

وقال آخَر:

يا راقِدَ اللَّيلِ مَسرُوراً بِـأَوَّلِـه

 

إنَّ الحوادِثَ قد يطرُقنَ أسحَارا

وقالت امرأةٌ في بعض الملوك: من المنسرح

أبكيكَ لا للنَّـعـيم والأَنَـسِ

 

بل للمعالي والرُّمح والفَرسِ

أبكي على فارسٍ فَجِعتُ بهِ

 

أرملني قبل لَيلَةِ الـعُـرُسِ