ذكر بقية كلام النوكى والموسوسين والجفاة والأغبياء وما ضارع ذلك وشاكله

وأحببنا أن لا يكون مجموعاً في مكان واحدٍ، إبقاءً على نشاط القارئ والمستمع، مَرّ ابن أبي علقمة بمجلس بني ناجية، فكبا حمارُه لوجهه، فضحِكوا منه، فقال: ما يضحككم؟ رأى وجوهَ قريشٍ فسجد، أبو الحسن قال: أتى رجلٌ عِباديّاً صيرفيّاً، يستلف منه مائتي درهم، فقال: وما تصنع بها؟ قال: أشترِي بها حماراً فلعلِّي أربح فيه عشرين درهماً قال: إذَا أنا وهبتك العشرين فما حاجتُك إلى المائتين؟ قال: ما أريد إلاّ المائتين فقال: أنت لا تريد أن تردَّها علي، قال: وأتى قوم عِبَادِيّاً فقالوا: تحبُّ أن تُسْلِف فلاناً ألف درهم وتؤخره سنة؟ فقال: هاتان حاجتان، وسأقضي لكم إحداهما، وإذا فعلتُ ذلك فقد أنصفت، أمّا الدّراهم فلا تسهُل عليّ، ولكنِّي أؤخره سنتين، ولعب رجلٌ قدَّامَ بعض الملوك بالشِّطرنج، فلمّا رآه قد استجاد لعبَه وفاوَضَه الكلامَ قال له: لم لا تولِّيني نهرَ بوق؟ قال: أولّيك نصفَه، اكتُبوا له عهدَة على بُوق، وقال له مرّةً: ولِّني أَرمِينيَة، قال: يُبطئُ على أمير المؤمنين خبرُك وقدِم آخرُ على صاحبٍ له من فارس، فقال: قد كنتَ عند الأمير فأيَّ شيءٍ ولاّك؟ قال: ولاّني قفاه قال: ونظر أميرٌ إلى أعرابيٍّ فقال: لقد همَّ لي الأميرُ بخير؟ قال: ما فعلتُ؟ قال: فبشَرٍّ؟ قال: وما فعلتُ؟ قال: إنّ الأمير لمجنون، قال أبو الحسن: شهد مجنونٌ على امرأةٍ ورجلٍ بالزِّناءِ فقال الحاكم: تشهدُ أنّكَ رأيتَه يُدخِله ويخرجه؟ قال: واللّهْ أنْ لو كنتُ جلدةَ استِها لما شَهِدت بهذا، قال: وكان رجلٌ من أهل الرّيِّ يجالسنا، فاحتبس عنّا، فأتيتُه فجلست معه على بابه، وإذا رجلٌ يدخُل ويَخرج فقلتُ: من هذا؟ فسكت، ثمن أعدتُ فسكَت، فلما أعدت الثالثةَ قال: هو زوج أختِ خالتي وقال الشاعر:

إذا المرءُ جازَ الأربعِينَ ولم يكُنْ

 

له دُونَ ما يأْتِي حَياءٌ ولا سِتْرُ

فدَعْهُ ولا تَنْفَسْ عليه الَّذي أَتَـى

 

ولو جَرَّ أَرسانَ الحَياةِ له الدَّهْرُ

أعرابيّ خاصمته امرأته إلى السُّلطان، فقيل له: ما صنَعَت؟ قال: خيراً، كَبَّها اللَّه لوجهها، وأمَرَ بي إلى السجن قال أبو الحسن: عرض الأسدُ لأهل قافلة، فتبرَّعَ عليهم رجل، فخرج إليه فلما رآه سقط وركِبه الأسدُ، فشدُّوا عليه بأجمعهم، فتنحَّى عنه الأسدُ، فقالوا له: ما حالك؟ قال: لا بأس عليّ، ولكنّ الأسدَ خَرِيَ في سراويلي، أبو الحسن: قال أبو عَبَاية السَّليطيّ: قد فَسَدَ الناس قلت: وكيف؟ قال: ترى بساتين هَزَارَمرْد هذه ما كان يمرُّ بها غلام إلاّ بِخَفير، قلت: هذا صلاح قال: لا بل فساد، أبو الحسن قال: خطب سَعيد بن العاص، عائشة بنت عثمان على أخيه فقالت: لا أتزوّجه قال: ولم؟ قالت: هو أحمق له بِرذونان أشهبان، فيحتمل مَؤونة اثنين وهما عند الناس واحد، قال: كان المغيرة بن المهلَّب ممروراً، وكان عند الحجاج يوماً فهاجت به مِرَّتُه، فقال له الحجاج: ادخُل المتوضَّأ، وأَمرَ مَن يقيم عنده حتّى يتقيّأ ويُفيق، قال أبو الحسن: قالت خَيرَة بنت ضَمْرة القشيريَّة، امرأة المهلَّب، للمهلَّب: إذا انصرفتَ من الجمعة فأحبُّ أن تمرّ بأهلي، قال لها: إنَّ أخاك أحمق قالت: فإنّي أحبُّ أن تفعل فجاء وأخوها جالسٌ وعنده جماعةٌ فلم يوسِّع له، فجلس المهلّب ناحيةً ثم أقبل عليه فقال له: ما فعل ابنُ عمِّك فلان؟ قال: حاضر، فقال: أرسلْ إليه، ففعل، فلما نظر إليه غيرَ مرفوع المجلس قال: يا ابن اللَّخناء، المهلَّبُ جالس ناحيةً وأنت جالس في صدر المجلس؟ وواثبه، فتركه المهلَّبُ وانصرف، فقالت له خَيرة: أمررتَ بأهلي؟ قال: نعمْ، وتركتُ أخاك الأحمقَ يُضربَ، قال: وكتب الحجّاج إلى الحكَم بن أيوب: اخطُبَ على عبد الملك بن الحجّاج امرأةً جميلة من بعيد، مليحةً من قريب، شريفةً في قومها، ذليلةً في نفسها، أمَةً لبعلها، فكتب إليه: قد أصبتُها لولا عِظَم ثدييها، فكتب إليه الحجّاج: لا يَحسُن نحرُ المرأة حتَّى يَعظُم ثدياها، قال المَرّارُ بن مُنقِذٍ العَدَويِّ: من الرمل

صَلْتَةُ الخَدِّ طَوِيلٌ جِيدُهَـا

 

ضَخمَة الثَّدي ولَمَّا يَنْكَسِرْ

وقال علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه: لا، حتَّى تدفئَ الضَّجيع، وتُروِيَ الرضيع،  وقال ابن صُدَيقة لرجلٍ رأى معه خُفّاً: ما هذه القَلَنْسُوة؟ فاحتكموا إلى عِرباض، فقال عِرباض: هي قلنسوة الرِّجْلين، قال أبو إسحاق: قلت لخنجير كوز: وعدتك أن تجيئني ارتفاعَ النهار فجئتني صلاةَ العصر قال: جئتُك ارتفاعَ العشيّ، قال: قيل لأعرابيّ: ما اسمُ المرق عندكم؟ قال: السَّخين، قال: فإذا بَرَدَ؟ قال: لا ندعُه حتّى يبرُد، باع نخّاسٌ من أعرابيّ غلاماً فأراد أن يتبرّأ من عَيبه، قال: اعلم أنّه يبول في الفِراش، قال: إنْ وجد فِراشاً فليبُلْ فيه، حدّثنا صديقٌ لي قال: أتاني أعرابيٌّ بدرهم فقلت له: هذا زائف، فمن أعطاكه؟ قال: لصٌّ مثلك، وقال زيد بن كَثْوة: أتيت بني كَشٍّ هؤلاء، فإذا عُرس، وبُلقَ البابُ، فادْرَنفَقَ وادَّمَج فيه سَرَعانٌ من الناس، وأَلَصْتُ وُلوجَ الدار فدَلَظني الحدّاد دلظَةً دَهْوَرني على قِمّة رأسي، وأبصرت شيخَانَ الحيِّ هناك، ينتظرون المَزِيَّة، فعُجْت إليهم، فواللَّه إنْ زِلْنا نَظَارِ نَظارِ حتَّى عَقَلَ الظلّ فذكرت أخِلاَّئِي من بني تبر، فقصدتهم وأنا أقول:

تَركْنَ بَنِي كَشٍّ وما في دِيارِهِـمْ

 

عَوامدَ واعْصَوْصبنَ نحوَ بَنِي تبْرِ

إلى مَعشَرٍ شُمِّ الأُنوفِ، قِـرَاهُـمُ

 

إذ نزل الأضيافُ مِن قَمَع الجُزْرِ

وانصرفت وأتيتُ باب بني تبر، وإذا الرجال صَتِيتانِ، وإذا أرمِداءُ كثيرة، وطُهاةٌ لا تحصَى، ولُحمانٌ في جُثمان الإكام، صالح بن سليمان قال: مِن أحمق الشعر قول الذي يقول:

أَهِيمُ بدعدٍ ما حَييتُ فإنْ أَمُتْ

 

أُوكِّل بِدعدٍ من يَهيمُ بِها بَعدِي

ولا يشبه قول الآخر:

فلا تَنكحِي إن فَرِّقَ الدَّهرُ بينَنَا

 

أَغَمَّ القفا والوجهِ ليس بأَنْزَعا

قال: مات لابن مقرِّنٍ غلام، فحفر لهم أعرابيٌّ قبره بدرهمين، وذلك في بعض الطَّواعين، فلما أعطَوه الدِّرهمين قال: دعُوهما حتَّى يجتمع لي عندكم ثمنُ ثوب وأدخل أعرابيٌِ إلى المربد جَليباً له فنظر إليها بعض الغوغاء فقال: لا إله إلاّ اللَّه، ما أسمن هذه الجُزُر قال له الأعرابي: ما لها تكون جُزُراً، جَزَركَ اللَّه، قال أبو الحسن: جاء رجلٌ إلى رجلٍ من الوجوه فقال: أنا جارُك، وقد مات أخي فمُرْ لي بكفَن، قال: لا واللَّهِ ما عندي اليومَ شيء، ولكن تعهَّدْنا وتعودُ بعد أيام، فسيكون ما تحبّ قال: أصلحَكَ اللَّه، فنُملِّحه إلى أن يتيسر عندكم شيء؟ قال: كان مولى البَكَرات يدَّعي البلاغة، فكان يتصفح كلامَ الناس فيمدح الرديء ويذمّ الجيِّد، فكتب إلينا رسالة يعتذر فيها من تركه المجيء، فقال: وقطَعني عن المجيء إليكم أنه طلعَتْ في إحدى أَليتَي ابني بَثْرةٌ، فعظُمت وعظُمت حتى صارت كأنها رُمّانة صغيرة، وقال علي الأسواريّ: فلما رأيته اصفرّ وجهي حتى صار كأنه الكَشُوث، وقال له محمد بن الجهم: إلى أين بلغ الماء منك؟ قال: إلى العانة، قال شعيب ابن زرَارة: لو كان قال: إلى الشِّعرة، كان أجود وقال له محمد بن الجهم: هذا الدواء الذي جئتُ به قدرَ كَمْ آخذُ منه؟ قال: قدرَ بعرة، وقال عليّ: جاءني رجلٌ حَزَنْبَلٌ من هاهنا إلى ثَمَّة وقال قاسمٌ التَّمَّار: بينهما كان بينَ السماء إلى قريب من الأرض وقال قاسم التَّمّار: رأيت إيوانَ كسرى كأنما رُفِعت عنه الأيدي أوّلَ من أمْس وأقبل على أصحابٍ له وهم يشربون النبيذ، وذلك بعد العصر بساعة، فقال لبعضهم: قُمْ صَلّ فاتَتْكَ الصلاة ثم أمسَك عنه ساعة، ثم قال لآخر: قُمْ صَلّ ويلك فقد ذهب الوقت فلما أكثر عليهم في ذلك وهو جالسٌ لا يقوم يصلِّي قال له واحدٌ منهم: فأنت لِمَ لا تصلِّي؟ فأقبل عليه فقال: ليس واللَّه تعرَفون أَصلِي في هذا، قلت: وأيُّ شيء أصلك؟ قال: لا نصلِّي لأنّ هذه المغربَ قد جاءَت وقال قاسم: أنا أنفَسُ بنفسي على السلطان، وأتى منزلَ ابن أبي شهابٍ وقد تعشَّى القومُ وجلسوا على النبيذ، فأتوه بخُبزٍ وزيتون وكامَخ فقال: أنا لا أشرب النَّبيذَ إلاّ على زُهومة وقال: حين بِعتُ البغل بدأت بالسّرج،  وقال: ليس في الدنيا ثلاثةٌ أنكح منِّي: أنَا أُكسِلُ منذُ ثلاثِ ليالٍ في كلِّ ليلة عَشْرَ مرّات كأنّ الإكسال عنده هو الإنزال، وقال: ذهب واللَّه منِّي الأطيبَين؟ قلت: وأيُّ شيء الأطيبَين؟ قال: قوّة اليدينِ والرّجلين، وقال: فالتوَى لي عرقٌ حين قعدتُ منها مقعَد الرجلِ من الغُلام، وقال في غلامٍ له روميّ، ما وضعتُ بيني وبين الأرض أطيَبَ منه، قال: ومحمّد بن حسان لا يشكرُني، فواللَّهِ ما ناك حادِراً قطُّ إلا على يديّ، وقال أبو خشْرم: ما أعجبَ النَّيك؟ فقيل له: النيك وحده؟ قال: سمِعنا الناس يقولون: ما أعجب أسباب الرزق، وما أعجب الأسباب وكان قاسمٌ التَّمَّارُ عند ابنِ لأحمد بن عبد الصمد بن عليّ، وهناك جماعة، فأقبل وهبٌ المحتسب يعرِّض له بالغلمان، فلما طال ذلك على قاسمٍ أراد أن يقطَعه عن نَفْسه بأن يعرّفه هوَانَ ذلك القول عليه فقال: اشهدوا جميعاً أنِّي أنيك الغلمان، واشهدوا جميعاً أنيِّ أُعفِجُ الصِّبيان والتفتَ التفاتةً فرأى الأخوين الهذليّين وكانا يعاديانه بسبب الاعتزال فقال: عنيت بقولي: اشهدوا جميعاً أني لوطيّ، أي أنِّي على دين لُوط قال القوم بأجمعهم: أنت لم تقل اشهدوا أنِّي لوطيّ، وإنما قلت: اشهدوا جميعاً أني أنيك الصِّبيان قال سفيان الثوريّ: لم يكن في الأرض أحدٌ قطُّ أعلم بالنجوم ثُمَّ بالقِرانات من ما شاءَ اللَّهُ كان، يريد ما شاء اللَّه المنجِّم، وكان يقول: هو أكفر عندي من رام هُرمُز يِريد أكفر من هُرمُز، وممن وَسْوَس: غَلْفَاءُ بن الحارث، ملكُ قيسِ عيلان، وَسْوَس حين قتل إخوتُه، وكان يتغلَّفُ ويغلِّف أصحابَه بالغالية، فسمِّي غلفاءَ بذلك، وكان رجلٌ ينيك البَغلات، فجلس يوماً يُخبِّر عن رجلٍ كيف ناك بغلةً، وكيف انكسرت رجلُه، وكيف كان ينالها، قال: كان يضع تحت رجله لَبِنةً، فبينما هو يُنْحِي فيها إذا انكسرت اللَّبِنة من تحت رجله، وإذا أنا على قفاي ومن الأحاديث المولدة التي لا تكون، وهو في ذلك مليحٌ، قولهم: ناك رجلٌ كلبةً فعَقَدَتْ عليه، فلما طال عليه البلاءُ رَفع رأسَه فصادف رجلاً يطّلع عليه من سَطح، فقال له الرجل: اضربْ جنبها، فلما ضربَ جنبَها وتخلَّص قال: قاتَلَه اللَّه: أيُّ نيّاكِ كلباتٍ هو وكان عندنا بالبصرة قاصٌّ أعمى، ليس يحفظ من الدنيا إلاّ حديث جِرجِيس، فلما بكى واحدٌ من النّظّارة قال القاصّ: أنتم من أيِّ شيءٍ تبكون إنما البلاء علينا مَعاشِرَ العُلَمَاء قال: وبكَى حولَ أبي شيبانَ ولدُه وهو يريد مكة، قال: لا تبكوا يا بَنِيّ، فإني أُريدُ أنْ أُضَحِّيَ عندكم وقال أخوه: وُلِدتْ في رأس الهلال للنّصف من شهر رمضان احسُب أنت الآن هذا كيف شئت وقال: تزوّجت امرأةٌ مخزوميّة عمَّها الحجاجَ بن الزُّبير الذي هدم الكعبة وقال: ذلك لم يكن أباً، إنما كان والداً وقال أبو دينار: هو وإن كان أخاً فقد ينبغي أن يُنْصَف ومن المجانين علي بن إسحاقَ بن يحيى بن مُعاذ، وكان أوَّلُ ما عُرف من جُنونه أنه قال: أرى الخطأَ قد كثُر في الدُّنيا، والدُّنيا كلُّها في جوف الفلَك، وإنما نُؤتَى منه، وقد تخلخل وتخرّم وتزايل، فاعتراه ما يعتري الهَرْمَى، وإنما هو منجنونٌ فكم يصبِر؟ وسأحتال في الصعود إليه، فإني إن نجرَته ورَندجْتُه وسوّيته، انقلب هذا الخطاءُ كله إلى الصواب، وجلس مع بعض متعاقِلي فتيانِ العسكر، وجاءهم النّخاس بجَوارٍ فقال: ليس نحن في تقويم الأبدان، إنما نحن في تقويم الأعضاء، ثمن أنِف هذه خمسة وعشرون ديناراً، وثمن أُذنيها ثمانيةَ عشر، وثمن عينيها ستة وسبعون، وثمن رأسها بلا شيء من حواسِّها مائة دينار فقال له صاحبه المتعاقل: ها هُنا بابٌ هو أدخَلُ في الحكمة من هذا كان ينبغي لقدم هذه أن تكون لساقِ تلك، وأصابعِ تلك أن تكون لقدم هذه، وكان ينبغي لشفتَيْ تِيك أن تكون لفم تِيك، وأن تكون حاجبَا تيك لجبين هذه فسمِّيَ مقوِّم الأعضاء، ومن النوكى كلاب بن ربيعة، وهو الذي قتل الجشميَّ قاتل أبيه دون أخوته، وهو القائل:

ألم تَرَني تَأَرث بشيخِ صِدْقٍ

 

وقد أخذ الإداوةَ فاحتساهـا

ثأرتُ بشيخِهِ شيخاً كريمـاً

 

شِفاء النَّفس إن شيءٌ شَفاها

ومنهم: نَعَامةُ، وهو بَيْهَسُ، وهو الذي قال: مُكرهٌ أخاكَ لا بَطَل، وإياه يعني الشاعر:

ومِن حَذَرِ الأيامِ مـا حَـزَّ أنـفَـهُ

 

قَصِيرٌ ولاقَى الموتَ بالسيفِ بَيْهَسُ

نَعَامةُ لمّا صَرَّعَ القـومُ رَهْـطَـهُ

 

تبيَّنَ في أثوابِـهِ كـيفَ يَلـبَـسُ

وقال الحضرميّ: أمّا أنا فأشهد أنّ تميماً أكثرُ من محارب، وقال حيّان البزّاز: قَبَح اللَّه الباطل، الرُّطب بالسُّكّر واللَّه طيّب، قال أبو الحسن: سمعت أبا الصُّغدي الحارثي يقول: كان الحجّاج أحمق، بنى مدينَة واسطِ في بادية النَّبَط ثم قال لهم: لا تدخلُوها، فلمّا مات دَبُّوا إليها من قريب، مَسعدة بن المبارك قال: قلت للبَكراويّ: أبامرأتك حَمل؟ قال: شيءٌ ليس بشيء قال: لمّا بنى عُبيد اللَّه بن زيادٍ البيضاء، كتب رجلٌ على باب البيضاء: شيء، ونصف شيء، ولا شيء، الشيء: مِهران التَّرجُمان، ونصف شيءٍ: هند بنت أسماء، ولا شيء: عبيد اللَّه بن زياد، فقال عبيد اللّه: اكتبوا إلى جنبه: لولا الذي زعمتَ أنّه لا شيء لما كان ذلك الشَّيء شيئاً، ولا ذلك النِّصف نصفاً، وقال هشام بن عبد الملك يوماً في مجلسه: يُعرف حمق الرجل بخصال: بطول لحيته، وشناعة كنيته، وبشهوته، ونقش خاتمه، فأقبل رجلٌ طويل اللحية، فقال: هذه واحدة، ثم سأله عن كنيته فإذا هي شنعاء، فقال: هاتان ثنتان، ثم قال: وأيُّ شيءٍ أشهى إليك؟ قال: رُمّانة مُصاصة قال أمَصَّكَ اللَّهُ ببظرِ أمِّك وقيل لأبي القَماقم: لم لا تغزو أو تخرج إلى المَصِيصَةِ؟ قال: أمَصَّنِي اللَّه إذاً ببَظر أمي؟ وقال الشاعر:

أأنصر أهل الشام مـمـن يكـيدهـم

 

وأهلي بنجدٍ ذاك حرصٌ على النصر

وقالوا لأبي الأصبَغْ بن رِبعيّ: أمَا تسمع بالعدوِّ وما يصنعون في البحر فلم لا تخرجُ إلى قتال العدوّ؟ قال: أنا لا أعرفُهم ولا يعرفونني، فكيف صارُوا لي أعداء؟ قال: كان الوليد بن القعقاع عاملاً على بعض الشام، وكان يستسقِي في كلِّ خطبة وإن كان في أيام الشِّعرَى، فقام إليه شيخٌ من أهلِ حمص فقال: أصلح اللَّه الأمير، إذاً تفسدَ القَطَانيّ يعني الحبوب، واحدها قُطْنِيَّة، وأما نفيسٌ غلامي فإنه كان إذا صار إلى فراشه في كلِّ ليلة في سائر السنة يقول في دعائه: اللهم علينا ولا حوَالَينا قال: وكان بالرَّقّة رجلٌ يحدِّث الناس عن بني إسرائيل، وكان يكنى أبا عَقيل، فقال له الحجّاج بن حنتمة: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل؟ قال: حنتمة فقال له رجلٌ من ولد أبي موسى: في أيِّ الكتب وجدْتَ هذا؟ قال: في كتاب عمرو بن العاص ومن المجانينِ الأشراف: ابن ضَحيانَ الأزديّ، وكان يقرأ: قلْ يا أيُّها الكافرين، فقيل له في ذلك، فقال: قد عرفتُ القراءة في ذلك، ولكنِّي لا أجِلُّ أمر الكفار وقال حبيب بن أوس:

ما ولدَتْ حَوَّاءُ أحَمقَ لِـحـيةً

 

مِن سائِلٍ يرجُو الغِنَى مِن سائِل

وقال أيضاً:

أيُوسُفُ جِئتَ بِالعجَبِ العجِيبِ

 

تركتَ النًّاسَ في شكٍّ مُرِيبِ

سمِعْتُ بِكُـلِّ داهـية نـآدٍ

 

وَلَمْ أَسْمَعْ بِسَـرَّاجٍ أَدِيب

أمَا لَو أنَّ جَهْلَكَ عاد حِلـمـاً

 

إذاً لنَفَذْتَ في عِلمِ الغُـيُوب

وما لكَ بالغرِيبِ يدٌ ولـكِـنْ

 

تَعاطيك الغرِيبَ من الغريبِ

وأنشدوا :

أَرَى زمناً نَوكاهُ أَسعدُ أهـلِـهِ

 

ولكِنَّما يَشْقَى بِهِ كُـلُّ عـاقِـل

مشت فَوقهُ رِجلاهُ والرَّأْسُ تحتَهُ

 

فكبَّ الأعالِي بِارتِفاعِ الأسافِـلِ

وهذه أبياتٌ كتبناها في غير هذا المكان من هذا الكتاب، ولكن هذا المكان أولى بها، وقال الشاعر:

ولِلدَّهر أَيَّامٌ فكُنْ فـي لِـبـاسِـهَـا

 

كلبِسـتِـه يومـاً أَجَـدَّ وأخْـلـقـا

وكُنْ أكْيَسَ الكَيَسى إذا كنـتَ فـيهـمُ

 

وإنْ كنتَ في الحمقَى فكُن أنتَ أحمقا

وقال الآخر:

وأَنزلَني طُولُ النَّوى دارَ غَربةٍ

 

إذا شِئتُ لاقَيتُ الذي لا أُشاكِلُهْ

فحامَقْتُه ُ حتَّى يُقالُ سَـجِـيَّةٌ

 

ولو كان ذا عقلٍ لكُنْتُ أُعاقلُهْ

وقال أبو العتاهِيَة: من السريع

مَن سابَقَ الدّهرَ كَبا كَبـوةً

 

لم يَسْتَقِلها مِن خُطَى الدهرِ

فاخطُ مَعَ الدّهرِ إذا ما خطا

 

واجْرِ مع الدهرِ كما يَجرِي

ليس لمن ليسـت لـهُ حـيلةٌ

 

موجودَةٌ خير مِن الصَّـبْـرِ

وقال بِشرُ بنُ المعتَمِر: من السريع

حيلة ما لَيسَت لـهُ حـيلةٌ

 

حُسْنُ غَزاءِ النفسِ وَالصَّبْرُ

وقال صالحُ بنُ عبدِ القُدُّوسِ:

وإنَّ عَناءً أنْ تُفهِّمَ جـاهِـلاً

 

ويَحسَبَ جَهلاً أنه منكَ أفهمُ

متى يَبلغُ البُنْيانُ يوما ً تمامَهُ

 

إذا كنْتَ تَبنيهِ وآخَرُ يهـدِمُ

وقال بِشْرُ بن المعتمِر:

وإذَا الغَبيُّ رأيتَهُ مُسْتغنـياً

 

أعيا الطَّبيبَ وحِيلةَ المُحْتَالِ

ومن المجنينِ: مهديّ بن الملوَّح الجعدي، وهو مجنون بني جعدة، وبنو المجنون: قبيل من قبائل بني جعدة، وهو غير هذا المجنون، وأمّا مجنون بني عامرٍ وبني عُقيل، فهو: قيس بن مُعاذ، وهو الذي يقال له: مجنونُ بني عامر، وهما شاعران، قيل ذلك لهما لتجنُّنهما بعشيقتين كانتا لهما، ولهما أشعار معروفة، وقد أدركتُ رواةَ المسجديِّين والمِربديِّين ومَن لم يروِ أشعار المجانينِ ولصوصِ الأعراب، ونسيبَ الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعارَ اليهود، والأشعارِ المنصِفة، فإنهم كانوا لا يعدّونه من الرواة، ثم استبردوا ذلك كلَّه ووقَفوا على قصار الحديث والقصائد، والفِقر والنُّتَف من كلِّ شيء، ولقد شهدتُهم وما هم على شيءٍ أحرصَ منهم على نسيبِ العباس بن الأحنف، فما هو إلاّ أن أورَدَ عليهم خلفٌ الأحمرُ نسيب الأعراب، فصار زُهدُهم في شعر العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب، ثم رأيتُهم منذ سُنيَّاتٍ، وما يَروي عندَهم نسيبَ الأعراب إلاّ حَدَثُ السنِّ قد ابتدأ في طلب الشعر، أو فِتيانيٌّ متغزّل، وقد جلست إلى أبي عبيدة، والأصمعيِّ، ويحيى بن نُجَيم، وأبي مالك عمرو ابن كِركِرَة مع مَن جالست من رواة البغداديِّين، فما رأيت أحداً منهم قصَدَ إلى شعرٍ في النَّسيب فأنشده، وكان خلفٌ يجمع ذلك كله، ولم أرَ غاية النحويِّين إلا كلَّ شعرٍ فيه إعراب، ولم أرَ غاية رواة الأشعار إلاّ كلَّ شعرٍ فيه غريبٌ أو معنىً صعبٌ يحتاج إلى الاستخراج، ولم أرَ غايةَ رواةِ الأخبار إلاّ كلَّ شعرٍ فيه الشاهد والمثل، ورأيت عامّتَهم - فقد طالت مشاهدتي لهم - لا يقفون إلاّ على الألفاظ المتخيَّرة، والمعاني المنتخَبة، وعلى الألفاظ العذْبة والمخارج السَّهلة، والدِّيباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكِّن وعلى السَّبك الجيِّد، وعلى كلِّ كلامٍ له ماءٌ ورونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عَمَرتها وأصلحتها من الفَساد القديم، وفتحت للِّسانِ بابَ البلاغة، ودلَّت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حِسان المعاني، ورأيت البصرَ بهذا الجوهرِ من الكلام في رُواة الكتّاب أعمَّ، وعلى ألسنة حُذَّاق الشُّعراء أظهر، ولقد رأيت أبا عمرو الشيْبانيّ يكتب أشعاراً من أفواه جُلَسَائه، ليُدخِلَها في باب التحفُّظ والتذاكُر، وربما خُيِّل إليهَ أن أبناءَ أولئك الشعراءِ لا يستطيعون أبداً أن يقولوا شعراً جيداً، لمكان أَعراقهم من أولئك الآباء، ولولا أن أكون عيَّاباً ثم للعلماء خاصة، لصوَّرْتُ لك في هذا الكتاب بعضَ ما سمعتُ من أبي عبيدة، ومَنْ هو أبعدُ في وهمك من أبي عبيدة قال ابن المبارَك: كان عندنا رجلٌ يكنى أبا خارجة، فقال له: لِمَ كنَّوْك أبا خارجة؟ قال: لأني وُلدت يومَ دخل سليمانُ بن عليّ البصرة،وكان عندنا شيخٌ حارسٌ من علوج الجبَل، وكان يكنى أبا خُزيمة، فقلت لأصحابنا: هل لكم في مسألة هذا الحارس عن سبب كنيته، فلعلَّ اللَّه أن يفيد من هذا الشَّيخ علماً وإن كان في ظاهر الرأي غيرَ مأمولٍ ولا مُطمِع وهذه الكنية كنية زُرارة بن عُدُس، وكنية خازم بن خُزيمة، وكنية حَمزة بن أدرَك، وكنية فلانٍ وفلان؛ وكلُّ هؤلاء إمّا قائد متبوع، وإما سيِّد مُطاع؛ فمن أين وقع هذا العِلْجُ الألكن على هذه الكنية فدعوتُه فقلت له: هذه الكنية كنَّاك بها إنسانٌ أو كنَّيت بها نفسَك؟ قال: لا، ولكنِّي كنَّيت بها نفسي قلت: فلِمَ اخترتَها على غيرها؟ قال: وما يُدْريني قلت: ألك ابن يسمَّى خُزَيمة؟ قال: لا، قلت: أفكان أبوك أو عمك أو مولىً لك يسمَّى خُزيمة؟ قال: لا، قلت: فاتركْ هذه الكنيةَ واكتنِ بأحسنَ منها وخُذْ منِّي ديناراً قال: لا واللَّه ولا بجميع الدنيا أعطى المحلولُ ابنه درهماً وقال: زِنْه، فطرح وزنَ درهمين وهو يحسبه وزن دِرهم، فلما رَفعَه وجَده زالاًّ، فألقى معه حبّتين، فقال له أبوه: كم فيه؟ قال: ليس فيه شيء، وهو ينقص حبّتين، وكان عندنا قاصٌّ يقال له أبو موسى كُوشُ، فأخذ يوماً في ذِكر قِصَر الدُّنيا وطول أيام الآخرة، وتصغير شأن الدنيا وتعظيم شأن الآخرة، فقال: هذا الذي عاش خمسين سنةً لم يعِشْ شيئاً، وعليه فَضْل سنتين قالوا: وكيف ذاك؟ قال: خمس وعشرون سنةً ليلٌ، هو فيها لا يعقِل قليلاً ولا كثيراً، وخمسُ سنين قائلةٌ، وعشرون سنةً إما أن يكون صِبيّاً، وإما أن يكون معه سُكْر الشَّبابِ فهو لا يعقل، ولا بدّ من صَبُحة بالغَداة، ونَعسةٍ بين المغرب والعِشاء، وكالغَشْي الذي يصيب الإنسانَ مراراً في دهره، وغير ذلك من الآفات، فإذا حَصَّلنا ذلك فقد صح أن لذي عاش خمسين سنة لم يَعِش شيئاً، وعليه فَضْلُ سنتين، وقال بعض الهُلاّك: دخل فلان على كسرى فقال: أصلحك اللَّه، ما تأمُر في كذا كذا؟ وقال رجلٌ من وجوه أهل البصرة: حدثتْ حادثةٌ أيام الفُرس فنادَى كسرى: الصلاة جامعة وقلت لغلامي نَفيس: بعثُتك إلى السوق في حوائجَ فاشتريتَ مالم آمُرْكَ به، وتركت كلَّ ما أمرتُك به قال: يا مولاي، أنا ناقةٌ وليس في رُكبتي دماغ وقال نفيسٌ لغلام لي: الناس ويلَكَ أنت حياء كلّهم أقلّ يريد: أنت أقلُّ الناس كلهِم حياء، وقلت لنَفيسٍ: ابنُ بُرَيهة هذا الصبيُّ، في أيِّ شيءٍ أسلموه؟ قال: في أصحاب سِند نعال، يريد أصحاب النّعال السندية، وروى الأصمعيُّ وابن الأعرابي، عن رجالهما، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: إنّا مَعْشَرَ الأنبياءِ بِكاءٌ، فقال ناس: البَكْءُ: القِلّة، وأصل ذلك من اللبن، فقد جعل صفة الأنبياء قِلَّة الكلام، ولم يجعله من إيثار الصمت ومن التحصيل وقلّة الفضول،  قلنا: ليس في ظاهر هذا الكلام دليلٌ على أنَّ القِلّة من عجزٍ في الخلقة، وقد يحتمل ظاهرُ الكلام الوجهين جميعاً، وقد يكون القليلُ من اللفظِ يأتي على الكثير من المعاني، والقِلّة تكون من وجهين: أحدهما من جهة التحصيل، والإشفاق من التكلف، وعلى تصديق قوله: "قُلْ ما أَسأَلُكُم عليهِ مِن أجْر وَمَا أَنَا مِنَ المُتكلِّفِينَ" ص: 86، وعلى البعد من الصنعة، ومن شدّة المحاسبة وحَصْرِ النَّفس، حتى يَصير بالتمرين والتوطين إلى عادةٍ تُناسب الطبيعة، وتَكونُ من جهة العجز ونُقصان الآلة، وقِلّة الخواطر، وسوءِ الاهتداء إلى جياد المعاني، والجهلِ بمحاسن الألفاظ، ألاَ ترى أنّ اللَّه قد استجاب لموسى عليه السلام حين قال: "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَاني، يَفْقَهُوا قَوْلي، وَاجْعَلْ لي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هرُونَ أَخِي، اشْدُدْ بهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً، إنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً، قَال قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى" طه: 27 - 37، فلو كانت تلك القِلّة من عجزٍ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحقَّ بمسألة إطلاق تلك العُقدة من موسى؛ لأنّ العربَ أشدُّ فخراً ببيانها، وطولِ ألسنتها، وتصريف كلامها، وشدة اقتدارها، وعلى حسب ذلك كانت زِرايتها على كلِّ مَن قَصّر عن ذلك التمام، ونَقَص من ذلك الكمال، وقد شاهدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وخُطَبه الطِّوَال في المواسم الكبار، ولم يُطِل التماساً للطُّول، ولا رغبةً في القدرة على الكثير، ولكنّ المعاني إذا كثُرت، والوجوهَ إذا افتَنَّت، كثُر عددُ اللفظ، وإنْ حُذِفت فُضُوله بغاية الحذف، ولم يكن اللّهُ ليعطيَ موسى لتمام إبلاغِه شيئاً لا يعطيه محمداً، والذين بُعِث فيهم أكثر ما يعتمدون عليه البيانُ والَّلسَن، وإنما قلنا هذا لِنَحْسِمَ جميعَ وجوه الشَّغْب، لا لأنّ أحداً من أعدَائه شاهَدَ هناك طَرَفاً من العجز ولو كان ذلك مرئيّاً ومسموعاً لاحتجُّوا به في الملا، ولتناجَوا به في الخلا، ولتكلم به خطيبُهم، ولقال فيه شاعرُهم، فقد عرف الناسُ كثرةَ خطبائهم، وتسرُّعَ شعرائهم، هذا على أنّنا لا ندري أقال ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم لم يقله؛ لأنَّ مثلَ هذه الأخبارِ يُحتاج فيها الخبر المكشوف، والحديثِ المعروف، ولكنّا بفضل الثِّقة، وظهور الحُجّة، نجيب بمثل هذا وشبِهه،، وقد علمنا أنّ مَن يَقرِض الشعر، ويتكلَّف الأسجاع، ويؤلِّف المزدَوِج ويتقدَّم في تحبير المنثور، وقد تعمَّقَ في المعَاني، وتكلّفَ إقامةَ الوزن، والذي تجود به الطبيعةُ وتعطيه النفس سَهْواً رَهواً، مع قلّة لفظه وعدد هجائه - أحمدُ أمراً، وأحسن موقعاً من القلوب، وأنفعُ للمستمعين، من كثيرٍ خرج بالكَدِّ والعلاج، ولأنّ التقدُّم فيه، وجمعَ النفس له، وحَصْرَ الفكر عليه، لا يكونُ إلاّ ممن يحبُّ السُّمعة ويهوَى النَّفْج والاستطالة، وليس بين حال المتنافِسَين، وبين حال المتحاسِدَين إلاّ حجاب رقيق، وحِجازٌ ضعيف، والأنبياءُ بمندوحةٍ من هذه الصفة، وفي ضدِّ هذه الشِّيمة، وقال عامر بن عبد قيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقَعَت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان، وتكلَّم رجلٌ عند الحسن بمواعِظَ جَمَّةٍ ومعانْ تدعو إلى الرّقّة، فلم يُرَ الحسَنُ رقّ، فقال الحسن: إما أن يكون بنا شرٌّ أو يكونَ بك يذهب إلى أنّ المستمع يرِقّ على قدر رِقّة القائل،  والدليلُ الواضح، والشاهد القاطع، قولُ النبي صلى الله عليه وسلم : نُصرْتُ بِالصِّبَا، وَأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وهو القليل الجامع للكثير، وقال اللّه تعالى وقوله الحقُّ: "وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ" يس: 69 ثم قال: "وَمَا يَنْبَغِي لَهُ" يس: 69 ثم قال: "ألَمْ تَرَ أنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ" الشعراء: 224 - 225، فعَمّ ولم يخصَّ، وأطلقَ ولم يقيِّد، فمن الخصال التي ذَمَّهم بها تكلفُ الصَّنْعة، والخروجُ إلى المباهاة، والتّشاغلُ عن كثيرٍ من الطاعة، ومناسبةُ أصحاب التشديق، ومَن كان كذلِك كان أشد افتقاراً إلى السامع من السامع إليه، لشغَفه أن يُذكَرَ في البلغاء، وصَبابته باللَّحاق بالشُّعراء، ومن كان كذلك غلبت عليه المنافسةُ والمغالبة، وولَّد ذلك في قلبه شِدّةَ الحميّة، وحبّ المجاذبة، ومن سَخُف هذا السُّخفَ، وغَلَبَ الشّيطانُ عليه هذه الغلبةَ، كانت حالهُ داعيةً إل قول الزُّور، والفخرِ بالكذب، وصرفِ الرغبة إلى النّاس، والإفراط في مديح من أعطاه، وذمِّ من مَنَعه، فنزّه اللَّه رسولَه، ولم يعلِّمه الكتابَ والحِساب، ولم يرغِّبه في صنعة الكلام، والتعَبُّدِ لطلب الألفاظ، والتكلُّف لاستخراج المعاني، فجَمع له بالَه كلَّه في الدعاءِ إلى اللَّه، والصّبر عليه، والمجاهدة فيه، والانبتات إليه والميل إلى كل ما قرَّب منه، فأعطاه الإخلاص الذي لا يشُوبه رياء، واليقينَ الذي لا يَطُورهُ شكّ، والعزمَ المتمكّن والقوّة الفاضلة، فإذا رأت مكانَهُ الشّعراءُ، وفهمته الخطباء، ومَن قد تعبّدَ للمعاني، وتعوَّدَ نظمها وتنضيدَها، وتأليفها وتنسيقَها، واستخراجَها من مدافنها، وإثارتها من مكامِنها، علموا أنَّهم لا يبلغون بجميع ما مَعهم ممَّا قد استفرغهم واستغرَقَ مجهودَهم، وبكثيرِ ما قد خُوِّلوه، قليلاً مما يكون معه على البداهة والفُجاءة، من غير تقدُّمٍ في طلبه، واختلافٍ إلى أهله، وكانوا مع تلك المقامات والسياسات، ومع تلك الكُلف والرِّياضات، لا ينفكُّون في بعض تلك المقامات مِن بَعض الاستكراه والزَّلل، ومن بعض التعقيد والخَطَل، ومن التفنُّن والانتشار، ومن التشديد والإكثار، ورأوه مع ذلك يقول: إيّايَ والتّشادُق، و: أبغضكم إليَّ الثَّرثارون المتفيهِقُون، ثمّ رأوه في جميع دَهره في غاية التَّسديد والصَّوابِ التامّ، والعصمة الفاضلة، والتأييد الكريم، علموا أنّ ذلك مِن ثمرة الحِكمة ونِتاج التوفيق، وأنّ تلك الحكمةَ من ثمرة التقوى، ونتاج الإخلاص، وللسَّلف الطَّيب حكَم وخطبٌ كثيرة، صحيحةٌ ومدخولة، لا يخفى شأنها على نُقّاد الألفاظ وجهابذةِ المعاني، متميِّزةٌ عند الرواة الخُلَّص، وما بَلَغَنا عن أحدٍ من جميع الناس أنّ أحداً ولَّد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خُطبةً واحدة، فهذا وما قبلَه حُجّةٌ في تأويل ذلك إن كان حقّاً، وفي كتاب اللّه المنزّل، أنّ اللَّه تبارك وتعالى جعل مَنيحَةَ داودَ الحكمةَ وفصلَ الخطاب، كما أعطاه إلانَةَ الحديد، وفي الحديث المأثور، والخبر المشهور، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: شُعيبٌ خطيبُ الأنبياء، وعلَّم اللَّه سُليمانَ مَنِطقَ الطير، وكلامَ النمل، ولغاتِ الجنّ، فلم يكن عزّ وجلّ ليعطيَه ذلك ثم يبتليَه في نفسه وبيانِه عن جميع شأنه، بالقلة والمَعْجَزَةِ، ثم لا تكون تلك القلّة إلاّ على الإيثار منه للقلَّة في موْضعها، وعلى البعد من استعمال التكلف، ومناسبة أهل الصّنعة، والمشغوفين بالسُّمعة، وهذا لا يجوز على اللَّه عزّ وجلّ، فإن كان الذي رويتم من قوله: إنّا مَعْشَرَ الأنبياءِ بِكاءٌ على ما تأوّلتم، وذلك أنّ لفظَ الحديث عامٌّ في جميع الأنبياء، فالذي ذكرنا من حال داود وسليمان عليهما السلام، وحالِ شُعيبٍ والنبي صلى الله عليه وسلم ، دليلٌ على بطلان تأويلكم، وردّ عموم لفظ الحديث، وهذه جملةٌ كافية لمن كان يريد الإنصاف، وكان شيخٌ من البَصريِّين يقول: إنَّ اللَّه إنما جعل نبيَّه أُمِّيّاً لا يكتُب ولا يحسُب ولا ينسِب، ولا يَقرِض الشِّعر، ولا يتكلَّف الخَطابة، ولا يتعمَّد البلاغة، لينفرد اللَّه بتعليمه الفقهَ وأحكامَ الشريعة، ويَقصُره على معرفة مصالح الدِّين دونَ ما تتباهى به العرب: من قِيافة الأثر والبشر، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنساب وبالأخبار، وتكلُّف قولِ الأشعار، ليكون إذا جاء بالقرآن الحكيم، وتَكلَّم بالكلام العجيب، كان ذلك أدلَّ على أنه منَ اللَّه، وزعم أنّ اللَّه تعالى لم يمنعه معرفةَ آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقَصَ حظّاً من الحاسب الكاتب، ومن الخطيب النَّاسب؛ ولكن ليجعله نبيّاً، وليتولَّى من تعليمه ما هو أزكى وأنمى، فإنما نَقَصَه ليزيدَه، ومنعَه ليعطيَه، وحَجبه عن القليل ليجلِّيَ له الكثير، وقد أخطأ هذا الشيخُ ولم يُرِدْ إلا الخير، وقال بمبلغ علمِه ومنتهى رأيه، ولو زعم أنّ أداة الحسابِ والكتابة، وأداةَ قرضِ الشّعر ورواية جميع النَّسَب، قد كانت فيه تامّة وافرة، ومجتمعة كاملة، ولكنه صلى الله عليه وسلم صرَف تلك القُوَى وتلك الاستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوّة، وأشبَه بمرتبة الرسالة، وكان إذا احتاجَ إلى البلاغة كان أبلغَ البلغاء، وإذا احتاجَ إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسبَ من كلِّ ناسب وأقوَف من كل قائف، ولو كان في ظاهره، والمعروف من شأنه أنه كاتب حاسب، وشاعر ناسب، ومتفرِّس قائف، ثم أعطاه اللَّه برهاناتِ الرسالة، وعلاماتِ النبوّة - ما كان ذلك بمانع من وجوب تصديقه، ولُزوم طاعته، والانقياد لأمره على سخطهم ورضاهم، ومكروههم ومحبوبهم، ولكنه أراد ألاّ يكون للشاغب متعلق عما دعا إليه حتى لا يكون دونَ المعرفة بحقه حجابٌ وإن رقّ، وليكون ذلك أخفَّ في المؤونة، وأسهل في المِحْنة، فلذلك صرَفَ نفسَه عن الأمور التي كانوا يتكلفونها ويتنافسون فيها، فلما طال هِجْرانُه لقرض الشعر وروايته، صار لسانُه لا ينطلِق به، والعادة توأم الطبيعة، فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطَقَ من كل مِنطيق، وأنسبَ من كل ناسب، وأقوَف من كل قائف، وكانت آلته أوفَرَ وأداته أكمل، إلاّ أنها كانت مصروفة إلى ما هو أردُّ، وبين أن نضيف إليه العجز، وبين أن نضيف إليه العادة الحسنة وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له، فرقٌ، ومن العَجَب أنّ صاحب هذه المقالة لم يرَه عليه السلام في حال مَعجزةٍ قط، بل لم يره إلاّ وهو إنْ أطاَلَ الكلامَ قصَّر عنه كل مُطيل، وإن قصّر القولَ أتى على غاية كل خطيب، وما عَدِم منه إلاّ الخطَّ وإقامةَ الشّعر، فكيف ذهب ذلك المذهبَ والظاهرُ من أمره عليه السلام خلاف ما توهّم؟ وسنذكر بعضَ ما جاء في فضل الشعر والخوف منه، ومن اللسان البليغ والمداراة له، وما أشبه ذلك، قال أبو عبيدة: اجتمع ثلاثةٌ من بني سعد يراجزون بني جَعْدة، فقيل لشيخٍ من بني سعد: ما عندك؟ قال: أرجُز بهم يوماً إلى الليل لا أفثَج، وقيل لآخر: ما عندك؟ قال: أرجُز بهم يوماً إلى اللَّيل لا أَنكَف، فقيل للآخر الثالث: ما عندك؟ قال: أرجُز بهم يوماً إلى الليل لا أُنْكَش، فلما سمعت بنو جَعدة كلامَهم انصرفوا وخلَّوهم، قال: وبنو ضرار، أحدُ بني ثعلبة بن سعد، لما مات أبوهم وترك الثلاثة الشعراءَ صِبياناً، وهم: شَمَّاخٌ، ومُزَرِّدٌ، وجَزْءٌ، أرادت أمُّهم - وهي أمّ أوس - أن تَزَوَّج رجلاً يسمَّى أوساً، وكان أوسٌ هذا شاعراً، فلما رآهُ بنو ضرار بفناء أمِّهم للخِطبة، تناوَلَ شمَّاخٌ حَبلَ الدّلو ثم متَح، وهو يقول:

أُمُّ أُوَيْس نَـكـحـتْ أَوَيســا

 

وجاء مزرِّدٌ فتناولَ الحبل فقال:

أعْجَـبَـهـا حَـدَارَةً وكَـيْسَـا

 

وجاء جزءٌ فتناوَل الحبلَ فقال:

أصْدَقَ مِنها لَـجْـبةً وتـيسـاً

 

فلما سمع أوسٌ رجَزَ الصِّبيان

بها هرب وتركها، قال أبو عبيدة: كان الرجلُ من بني نُمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: نُميريّ كما ترى فما هو إلاّ أن قال جَرِيرٌ:

فغُضَّ الطرف إنَّكَ مِن نُمَيرٍ

 

فلا كَعباً بلغْتَ ولا كِلابـا

حتّى صار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني عامر قال: فعند ذلك قال الشاعر يهجو قوماً آخرين:  

وسوف يزِيدُكُمْ ضَعَةً هِجائِي

 

كما وَضع الهِجاءُ بَنِي نُميرِ

فلما هجاهم أبو الرُّدَينيّ العكليّ فتوعَّدوه بالقتل قال أبو الرُّديني:

تَوَعَّدُنِي لتِقَتُلَنـي نُـمـيرٌ

 

متى قَتلت نُميرٌ من هَجاها

فشدَّ عليه رجل منهم فقتله، وما علمت في العرب قبيلة لقيت من جميع ما هُجِيت به ما لقيت نميرٌ من بيت جرير، ويزعمون أنّ امرأةً مرّت بمجلسٍ من مجالس بني نُمير، فتأمَّلها ناسٌ منهم فقالت: يا بني نمير، لا قولَ اللَّه سمعتم، ولا قولَ الشاعر أطعتم قال اللَّه تعالى: "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِم" النور: 30، وقال الشاعر:

فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِن نُميرٍ

 

فلا كَعْباً بَلغتَ ولا كِلابـا

وأخلِقْ بهذا الحديث أن يكون مولَّداً، ولقد أحسن من وَلَّده، وفي نُميرٍ شرف كثير، وهل أهلك عَنَزَة، وجَرْماً، وعُكْلاً، وسَلولَ، وباهلة، وغَنِيّاً، إلاّ الهجاء؟، وهذه قبائلُ فيها فضلٌ كثيرٌ وبعضُ النقص، فمحَقَ ذلك الفضلَ كلَّه هجاءُ الشعراء، وهل فَضَح الحَبَطاتِ، مع شرف حَسَكة بن عَتَّاب، وعبَّادِ بن الحصين وولدِه، إلاّ قولُ الشّاعر:

رأيتُ الحُمْرَ مِن شَرِّ المطايا

 

كما الحَبَطاتُ شَرُّ بني تَميم

وهل أهلك ظُلَيمَ البَراجِمِ إلاّ قولُ الشاعر:

إنَّ أباناً فَقْـحة لِـدارِمِ

 

كما الظُّلَيمُ فَقحَةُ البراجم

وهل أهلك بني العَجْلان إلاّ قولُ الشاعر:

إذا اللَّـهُ عـادَى أهـلَ لُـؤمٍ ودِقّةٍ

 

فعادَى بني العجلانِ رَهطَ ابنِ مُقبلِ

قُبَـيِّلَةٌ لا يَغــدِرون بِـــذِمَّةٍ

 

ولا يظلِمُون النَّاسَ حَـبَّةَ خَـردل

ولا يَرِدُونَ الـمـاءَ إلاَّ عَـشِـيَّةً

 

إذَا صدر الوُرَّادُ عَن كلِّ مَنـهـلِ

وأمَّا قول الأخطلِ:

وَقد سَرَّني مِن قيسِ عَيلانَ أنَّنِـي

 

رأيتُ بني العَجلانِ سادُوا بني بَدرِ

فإنّ هذا البيتَ لم ينفع بني العجلان، ولم يضرَّ بني بدر، قال أبو عبيدة: كان الرجل من بني أنف النَّاقة إذا قيل له: ممن الرجل قال: من بني قُرَيعٍ، فما هو إلاّ أن قال الحُطَيئة:

قومٌ هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرُهُم

 

ومَن يُساوِي بأَنفِ النَّاقةِ الذَّنبا

وصار الرّجل منهم إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من بني أنْف الناقة، وناسٌ سلموا من الهجاء بالخمول والقلّة، كما سلمت غسَّانُ وغَيلانُ مِن قبائل عمرو بن تميم، وابتليت الحَبَطاتُ لأنّها أنْبَه منها شيئاً، والنباهة التي لا يضرُّ معها الهجاء مثل نباهة بني بدر وبني فزارة، ومثل نباهة بني عُدُس بن زيد وبني عبد اللَّه بن دارم، ومثل نباهة الدّيّان بن عبد المدان وبني الحارث بن كعب، فليس يسلم من مضرّة الهجاء إلاّ خاملٌ جدّاً أو نبيه جدّاً، وقد هُجيتْ فزارة بأكل أير الحِمار، وبكثرة شَعر القفا؛ لقول الحارث بن ظالم:

فما قوْمِي بثَعْلبة بنِ سَعدٍ

 

ولا بفَزازةَ الشُّعرِ الرِّقابا

ثم افتخر مفتخرهُم بذلك ومدحهم به الشاعر، فقال مُزَرِّدُ بنُ ضِرار

مَنيعٌ بين ثَعلـبةَ بـن سـعـدٍ

 

وبين فَزَارةَ الشُّعرِ الرِّقـابِ

فما مَنْ كانَ بينهما بِـنِـكْـسٍ

 

لَعَمْرُكَ في الخطوبِ ولا بِكابِ

وأمّا قصّة أير الحمار فإنما اللوم على المُطْعِمِ لرفيقه مالا يعرفُه، فهل كان على حَذَفٍ الفزاريِّ في حقِّ الأنفة أكثرُ مِن قتلِ مَن أطعَمَه الجُوفان من حيثُ لا يدري؟ فقد هُجوا بذلك وشرفُهم وافر، وقد هُجيت الحارثُ بن كعب، وكتبَ الهيثمُ بن عديّ فيهم كتاباً فما ضعضع ذلك منهم، حتى كأنْ قد كتبه لهم، ولولا الرَّبيع بن خُثَيْم، وسفيانُ الثَّوريّ ما عَلِمَ الناسُ أنَّ في الرِّباب حيّاً يقال لهم بنو ثَور، وفي عُكلٍ شعرٌ وفصاحة، وخيلٌ معروفةُ الأنساب، وفُرسانٌ في الجاهلية والإسلام، وزعم يونسُ أنّ عكلاً أحسنُ العرب وجوهاً في غِبِّ حرب، وقال بعضُ فتّاك بني تميم:

خَليلِي الفَتى العُكليُّ لم أرَ مِثلَه

 

تَحَلَّبُ كفّاهُ نَدىً شائع القِـدْرِ

كأنّ سُهيلاً، حين أَوْقَـدَ نـارَهُ

 

بعَليَاءَ، لا يَخفَى على أحدٍ يَسْرى

ولم أكتب هذا الشعرَ ليكون شاهداً على مقدار حظِّهم في الشرف، ولكن لنضمَّه إلى قول جِرانِ العَود:

أَراقِبُ لَمْحاً من سَهَيْلٍ كـأنّـه

 

إذا ما بدا من آخِر الليل يَطرفُ

وربما أُتيت القبيلة إذا برَّزَتْ عليها إخْوتُها،كنحو فقَيْم بن جَرير بن دارِم، وزيد ابن عبد اللَّه بن دارم، وكنحو الحرماز ومازِن، ولذلك يقال: إنّ أصلحَ الأمور لمن تكلّفَ علم الطبّ ألاّ يحسن منه شيئاً، أو يكونَ من حُذّاق المتطبِّبين؛ فإنه إن أحسنَ منه شيئاً ولم يبلغ فيه المبالغَ هلكَ وأهلَكَ أهله، وكذلك العِلمُ بصناعة الكلام، وليس كذلك سائرُ الصناعات؛ فليس يضرّ مَن أحسَنَ بابَ الفاعل والمفعول به، وبابَ الإضافة،، وبابَ المعرفة والنكرة، أن يكونَ جاهلاً بسائر أبواب النَّحو، وكذلك مَن نظر في عِلم الفرائض، فليس يضرُّ مَن أحكم باب الصُّلب أن يجهل باب الجَدّ، وكذلك الحِساب، وهذا كثير، وذكروا أن حَزن بن الحارث، أحد بني العنبر ولد مِحْجناً، فولد مِحجنٌ شعيثَ بن سهم، فأُغير على إبله، فأتى أوسَ بن حجرٍ يستنجده، فقال له أوس: أوَ خيرٌ من ذلك، أحضِّض لك قيس بن عاصم وكان يقال إن حزن ابن الحارث هو حزن بن منقر، فقال أوس:

سائل بها مولاك قيسَ بنَ عاصـمٍ

 

فمولاكَ مَوْلَى السَّوءِ إنْ لم يُغيِّرِ

لعمرُكَ ما أدرِي أمِنْ حَزْنِ مِحجَنٍ

 

شُعَيثُ بن سهم أم لِحَزنِ بن مِنقرِ

فما أنتَ بالمولى المضيَّعِ حـقُّـه

 

وما أنتَ بالجارِ الضعيفِ المُسَتَّرِ

فسعى قيسٌ في إبله حتى ردَّها على آخرها، وقال الآخر:

ألْهَى بَني تغلبٍ عن كلِّ مَكرُمةٍ

 

قصيدةٌ قالها عمرُو بنُ كُلثـومِ

ومما يدلُّ على قدر الشعر عندهم بُكاء سيِّد بني مازنٍ، مخارق بن شهابٍ حين أتاه محرز بن المُكَعبَرِ العنبريُّ الشاعر فقال: إنّ بني يربوع قد أغاروا على إبلي فاسعَ لي فيها؟ فقال: وكيف وأنت جار وَرْدانَ بنِ مَخْرَمة؟ فلما ولَّى عنه محرزٌ محزوناً بكى مخارقٌ حتى بلَّ لحيته، فقالت له ابنتُه: ما يبكيك؟ قال: كيف لا أبكي وقد استغاثني شاعرٌ من شعراء العرب فلم أُغِثْه؟ واللَّه لئن هجاني ليَفضَحَنّي قولُه، ولئن كفّ عني ليَقتلنِّي شكرهُ ثم نهض فصاح في بني مازِنٍ، فرُدت عليه إبله، وذكر وَرْدانَ الذي كان أخفره فقال:

أقولُ وقد بُزّتْ بتِـعْـشـارَ بَـزّةً

 

لوَرْدانَ جِدَّ الآنَ فهيا أو الـعَـبِ

فعَضَّ الذي أبقَى المَواسِي مِن أمِّهِ

 

خفيرٌ رآها لم يُشمِّرْ ويَغـضَـبِ

إذا نزَلَتْ وَسْطَ الرِّبابِ وحولَـهـا

 

إذا حُصِّنَتْ ألْفَا سِنانٍ مُـحَـرَّبِ

حَمْيتَ خُزاعيّاً وأفـنـاءَ مـازِنٍ

 

ووَرْدانُ يَحمِي عن عَدِيِّ بنِ جُندَبِ

ستَعرِفُها وِلدانُ ضَـبَّةَ كـلِّـهـا

 

بأعيانِها مـردودةً لـم تُـغَـيَّبِ

قال: وفد رجلٌ من بني مازن على النعمان بن المنذر، فقال له النُّعمان: كيف مخارقُ بنُ شِهابٍ فيكم؟ قال: سيِّد كريم، وحسبك من رجل يمدحُ تَيْسَه ويهجو ابنَ عمِّه ذهب إلى قوله:

تَرَى ضَيْفَها فيها يَبيتُ بِغِبطةٍ

 

وجارُ ابنِ قَيسٍ جائعٌ يتحوَّبُ

وقال: ومن قدر الشِّعر وموقعِه في النّفع والضَّرِّ، أنّ ليلَى بنتَ النضْرِ بن الحارث ابنِ كلَدَة لمّا عَرَضت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يطوفُ بالبيت واستوقفتْه وجذبَت رِداءَه حتى انكشف مَنْكِبه، وأنشدَتْه شِعرَها بعد مقتل أبيها، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : لو كنتُ سمعتُ شعرها هذا ما قتلته، والشعر:

يا راكباً إنّ الأُثَـيلَ مَـظِـنَّةٌ

 

من صُبْحِ خامسةٍ وأنتَ موفَّقُ

أبلِغْ بها مَيْتاً بـأن قـصـيدةً

 

ما إنّْ تَزالُ بها الركائبُ تَخْفِقُ

فليسمعَنَّ النَّضْـرُ إنْ نـاديتُـهُ

 

إن كان يَسمعُ ميِّتٌ لا يَنطِـقُ

ظلَّت سيوفُ بني أبيهِ تُنوشُـه

 

للَّهِ أرحام هُناكَ تَـشـقَّـقُ

قَسْراً يُقادُ إلى المنيّةِ مُتعَـبـاً

 

رَسْفَ المقيَّدِ وهْو عانٍ مُوثَق

أمُحَمَّدٌ ها أنتَ ضَنْءُ نَـجِـيبَةٍ

 

في قوْمِها والفحلُ فحلٌ مُعرِقُ

ما كانَ ضرّكَ لوْ منَنْتَ ورُبَّما

 

مَنَّ الفتَى وهْوَ المَغيظُ المُحْنَقُ

فالنَّضر أقربُ مَن تركتَ قرابةً

 

وأحقُّهم إن كان عتقٌ يعـتـقُ

قال: ويبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السبّ عليهم، وتخوّفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب، ويسبَّ به الأحياءُ والأموات، أنهم إذا أسَرُوا الشاعر أخذوا عليه المواثيقَ، وربما شدُّوا لسانَه بنِسْعَةٍ، كما صنعوا بعبدِ يغوثَ بن وقّاصِ الحارثيّ حين أسرته بنو تيم يوم الكُلاب، وهو الذي يقول:

أقُولُ وقد شَدُّوا لساني بنِـسْـعَةٍ

 

أمَعشَر تَيمٍ أطلِقوا من لسانِـيا

وتَضْحَكُ مِنِّي شَيخةٌ عَبشَـمِـيّة

 

كأنْ لم تَرَى قبلي أسيراً يَمَانِـيا

كأنِّيَ لم أركب جَواداً ولم أقُـلْ

 

لخيلي كُرِّي كرَّةً عن رِجالِـيا

فيا راكباً إمّا عَرَضْتَ فبلِّـغَـنْ

 

نَدَامايَ منْ نَجْرانَ أنْ لا تلاقِيا

أبا كَرِبٍ والأيهمين كِلَـيهِـمـا

 

وقيساً بأعْلَى حَضْرَمَوْتَ اليَمانِيا

وكان سألهم أن يُطلِقوا لسانَه لينوحَ على نفسه، ففعلوا، فكان ينوح بهذه الأبيات، فلما أنشد قومَه هذا الشِّعر قال قَيس: لبّيك وإن كنت أخَّرتَني، وقيل لِعُبَيْدِ اللَّه بنِ عبدِ اللَّه بنِ عتبة بن مَسعودٍ: كيف تقول الشعر مع الفقه والنسك؟ فقال: لا بد للمصدور من أن ينفُث، وقال مُعاويةُ لِصُحَارٍ العبديّ: ما هذا الكلامُ الذي يظهر منكم؟ قال: شيء تجيش به صدورُنا فتقذفُه على ألسنتنا، وقال ابنُ حرْب: من أحسَنَ شيئاً أظهره، وفي المثل: من أحَبّ شيئاً أكثر من ذِكره، وقال: خاصم أبو الحُوَيرِثِ السُّحَيْمِيُّ حمزةَ بنَ بِيض إلى المُهاجرِ بن عبدِ اللَّه في طَويٍّ له فقال أبو الحويرث:

غَمّضْتُ في حاجةٍ كانَت تُؤَرِّقُني

 

لولا الّذِي قُلتَ فِيها قَلَّ تغمِيضِي

قال: وما قلتُ لك فيها؟ قال:

حَلفتَ باللَّه لي أنْ سوف تُنصِفُنـي

 

فساغَ في الحلقِ ريقٌ بَعد تجريض

قال: وأنا أحلفُ باللَّه لأُنصفنَّك، قال:

فاسأَلْ أُلَى عن أُلَى أنْ ما خُصومتُهم

 

أم كيف أنتَ وأصحابُ المَعاريضِ

قال: أُوجِعُهم ضرباً، قال:

فاسأَلْ لُجَيْماً إذا وافاكَ جمـعُـهـمُ

 

هل كان بالبئرِ حوضٌ قبلَ تحويض

قال: فتقدم الشهود فشهدت لأبي الحُويرث، قال: فالتفت إلى ابن بِيضٍ فقال:

أنت ابنُ بِيض لعَمري لستُ أُنكـرُه

 

حقاً يقيناً ولكـن مَـن أبـو بِـيضِ

إن كنتَ أنَبضْتَ لي قوساً لِترمِيَنِـي

 

فقد رميتُكَ رمياً غيرَ تَنـبـيضِ

أو كنتَ خَضخَضتَ لي وَطْباً لتسقِيَني

 

فقد سقيتُكَ وَطباً غير ممـخُـوضِ

إنَّ المُهاجِرَ عَدْلٌ في حكُـومَـتِـهِ

 

والعدلُ يَعدِلُ عندي كـلَّ عِـرِّيضِ

قال وتزوّجَ شيخ من الأعراب جارية من رهطه، وطَمِعَ أن تلِدَ له غُلاماً فولدتْ له جاريةً، فهجَرَها وهجر منزلها، وصار يأوِي إلى غير بيتِها، فمرَّ بخبائها بعد حولٍ وإذا هي ترقّص بُنَيَّتَها منه وهي تقول:

ما لأبِي حَمزَةَ لا يَأْتينـا

 

يَظلُّ في البيتِ الذي يَلِينا

غَضْبانَ أن لا نلِدَ البَنِينـا

 

تَاللَّهِ ما ذلكَ في أيْدِينـا

وإنَّما نأْخُذُ ما أُعْطِينـا

 

 

فلما سمع الأبيات مرَّ الشيخُ نحوهما حُضْراً حتى ولَج عليهِما الخباء وقبّل بنيَّتَها وقال: ظلمُتكما وربِّ الكعبة وقال مُسلم بن الوليد:

فإنّي وإسماعيلَ عند فِـراقِـنـا

 

لكالجفنِ يومَ الرَّوع ِ فارَقَه النَّصْلُ

أمُنتجِعاً مَرْواً بأثـقـالِ هَـمِّـهِ

 

دعِ الثِّقْلَ واحمِلْ حاجةٍ مالها ثِقْلُ

ثَنَاءً كعَرْفِ الطِّيبِ يُهْدَى لأهلِـهِ

 

وليسَ لهُ إلاّ بَني خالـدٍ أهـلُ

فإن أغشَ قوماً بعدهم أو أزُرْهُـمُ

 

فكالوَحْشِ يُدْنيها من الأنَسِ المَحْلُ

وقال ابن أبي عُيَينةَ: من مخلع البسيط

هلْ كنتَ إلاّ كلحْمِ مَيْتٍ

 

دعا إلى أَكلِهِ اضْطِرارُ

وقال الآخر:

لئن حَبَس العَباسُ عنَّا رَغيفَهُ

 

لَمَا فاتنا من نعمةِ اللَّهِ أكثرُ

وقال أبو كعب: كان رجل يُجري على رجلٍ رغيفاً في كلِّ يوم، فكان يقول إذا أتاه الرّغيف: لعنَك اللَّه ولَعَنَ مَنْ بَعَثَك، ولعنَني إن تركتُك حَتَّى أُصِيبَ خيراً منك، وقال بشار:

إذَا بَلغَ الرَّأيُ النَّصِيحةَ فاستَـعِـنْ

 

بِرأْيِ نَصِيحٍ أو نَصـاحِة حـازِمِ

ولا تحسَبِ الشُّورَى عليكَ غضاضةً

 

مكانُ الخوَافي نافـعٌ لـلـقَـوادِمِ

وخلِّ الهُوْيْنَى للضَّعِيفِ ولا تـكـنْ

 

نَؤُوماً فإنَّ الحزمَ لـيس بـنـائمِ

وأَدْنِ على القُربَى المُقَرِّب نَفْسَـهُ

 

ولا تُشْهِدِ الشُّورَى امرَأً غيرَ كاتِمِ

وما خَيرُ كف أمسَكَ الغُلُّ أُختَـهـا

 

وما خَيرُ سيفٍ لـم يُؤَيَّدْ بِـقـائِم

فإنَّكَ لا تستَطرِد ُ الهمَّ بِالـمُـنَـى

 

ولا تَبْلَغُ العُلْيا بِغيرِ الـمَـكـارِمِ

وقال آخر:

تُعرِّفُني هُنَيدةُ مَن بَـنُـوهَـا

 

وأعْرِفُها إذا اشْتَدَّ الْغُـبَـارُ

متى ما تَلْقَ مِـنَّـا ذا ثـنـاءٍ

 

يَؤُزُّ كأَنَّ رِجلـيهِ شِـجـارُ

فلا تَعجَلْ علـيهِ فـإنَّ فِـيهِ

 

منافِعَ حِينَ يَبتـلُّ الـعِـذَارُ

أنَا ابْنُ المَضْرَحِيِّ أبي شُلَـيل

 

وهل يَخْفَى على النَّاسِ النَّهارُ

ورِثْنا صُنْعَهُ ولِكُـلِّ فَـحـلٍ

 

على أولادِهِ مِـنـه نُـجـارُ

وقال أعشَى هَمْدَانَ في خالدِ بن عتَّابِ بن وَرقاء:

تُمنِّينِي إمارَتَـهـا تَـمـيمٌ

 

وما أمرِي وأمرُ بَني تمـيم

وكان أبُو سُليمانٍ خَـلِـيلـي

 

ولكنَّ الشِّـراكَ مِـنَ الأدِيمِ

أتيْنا أصبَهانَ فَهـزَّلَـتْـنـا

 

وكُنَّا قبلَ ذلكَ فـي نـعِـيم

أتَذْكُرُنا ومَرَّةَ إذْ غَـزونـا

 

وأنتَ على بُغيلِكَ ذِي الوسوم

ويركَبُ رأسَهُ في كُلِّ وحـلٍ

 

ويعثُرُ في الطَّريق المستقيمِ

وليسَ عليكَ إلاَّ طَـيلَـسـانٌ

 

نُصيبيٌّ وإلاَّ سَـحْـقُ نِـيمِ

وقال آخر:

فلَستُ مُسَلِّماً مَا دُمـتُ حـيّاً

 

على زيدٍ بتسـلِـيم ِ الأمـيرِ

أَمِيرٌ يأْكُل الفـالُـوذَ سِـرّاً

 

ويُطعِمُ ضَيفهُ خبز الشَّعـيرِ

أتَذْكُرُ إذْ قَباؤُكَ جِـلـدُ شـاةٍ

 

وإذْ نعلاكَ مِن جلدِ البـعـيرِ

فسُبحَانَ الَّذِي أعطاكَ مُلـكـاً

 

وعلَّمَكَ الجُلوسَ على السَّريرِ

وقال آخر:

دَع عنكَ مَرْوانَ لا تطُلبْ إمارتَه

 

ففِيكَ راعٍ لها ما عِشت سُرسُورُ

ما بالُ بُردِكَ لم يَمْسَسْ حَواشـيَهُ

 

من ثَرْمِداءَ ولا صَنْعاءَ تحبِـيرُ

وقال ابن قَنَان المحارِبيّ:

أقُولُ لمَّا جئتُ مجلِسَهُـم

 

قبَحَ الإلهُ عمائمَ الـخَـزِّ

لولا قُتَيبَةُ ما اعتجَرتَ بِها

 

أبداً ولا أقعَيتَ في غَرزِ

عَجَباً لِهذا الخزِّ يَلبَـسـهُ

 

مَن كان مشتاقاً إلى الخُبزِ

مَن كان يَشتُو في عَباءَتِـهِ

 

مُتقبِّضاً كتقبُّضِ العَـنـزِ

وقال ثابِتُ قُطنةَ، في رجلٍ كان المهلَّب ولاّه بعض خُراسان:

ما زالَ رأْيُكَ يا مُهلَّبُ فاضِلاً

 

حتَّى بَنيتَ سُرادِقاً لـوكـيعِ

وجعلتَهُ رَبّاً علـى أربَـابِـهِ

 

ورفَعتَ عَبداً كانَ غيرَ رَفيع

لَو رَأي أبُوهُ سُرادقاً أحدثتَـهُ

 

لبَكَى وَفاضَتْ عَينُهُ بدُمـوع

وقال ابن شَيْخان، مولى المغيرة، في بني مُطيع العدوِّيين:

حَرامٌ كَنَّتِي مِنِّي بِسُوءِ

 

وَأذْكُرُ صاحِبي أبداً بِذَامِ

لقد أحرمتُ وُدَّ بَنِي مُطِـيعٍ

 

حرامَ الدُّهْنِ للرَّجُلِ الحـرام

وخَزَّهُمُ الَّذِي لـم يَشـتـرُوهُ

 

ومجلِسَهُمْ بِمُعتلَجِ الـظَّـلامِ

وإنْ جنَفَ الزَّمانُ مَددتُ حَبلاً

 

متِيناً مِن حِبالِ بني هِـشـامِ

وَرِيقٌ عُودُهُمْ أَبـداً رطـيبٌ

 

إذا ما اغبَرَّ عِيدانُ الـلِِّـئامِ

وقال آخر:

لِمَن جُزُرٌ يُنَحِّرُها سُويدٌ

 

ألا يا مُرَّ للمجدِ المُضاع

كأنَّكَ قَد سَعَيتَ بذِمَّتَيهِـمْ

 

وكنتَ ثِمالَ أَيتَامٍ جِـياعِ

وقال:

سُبحَانَ مَن سَبَّحَ السَّبعُ الطِّباقُ له

 

حتَّى لَهرثَمةَ الذُّهْلِـيِّ بَـوّابُ

وأنشدنا للأُحَيْمِر:

بِأَقَبَّ مُنْصَلِت اللَّبانِ كـأنَّـهُ

 

سِيدٌ تَنصَّلَ مِن جُحُورِ سَعالِي

وقال خَلَفٌ: لَمْ أرَ أجمعَ من بيت امرئ القيس:

أَفَادَ وجادَ وسـادَ وزادَ

 

وقادَ وذادَ وعادَ وأَفْضَلْ

ولا أجمعَ من قوله:

لهُ أَيطَلاَ ظَبي وساقا نعـامَةٍ

 

وإرخاءُ سِرحانِ وتَقرِيبُ تَنْفُلِ

وقال الآخرَ:

رمَى الفقرُ بِالفِتيانِ حتَّى كَأَنَّهُمْ

 

بِأَقطارِ آفاقِ البِلادِ نُجـومُ

وإنَّ امرَأ لم يُقْفِرِ العام َ بَيتُـهُ

 

ولم يَتخدَّدْ لحـمُـهُ لَـلَـئيمُ

وقال عبد العزيز بنُ زُرارَة الكِلابيُّ:

وليلةٍ مِن لَيالي الدَّهرِ صـالِـحةٍ

 

باشرتُ في هَولِها مَرأِى ومُستمَعا

ونَكبةٍ لَو رمَى الرَّامِي بِها حَجـراً

 

أصمَّ مِن جَندَلِ الصَّمَّانِ لانصَدعا

مَرَّتْ عَلَيَّ فلم أطرَح لَها سَلَبـي

 

ولا استكَنْتُ لها وَهناً ولا جَزَعـا

وما أزال على أَرجاء مَـهْـلِـكَةٍ

 

يُسائِلُ المَعشَرُ الأَعدَاءُ ما صنَعـا

ولا رَمَيتُ عَلى خَصم بِـفـاقِـرَةٍ

 

إلاَّ رُمِيتُ بِخَصمٍ فُرَّ لِي جَـذَعـا

ما سُدَّ مُطَّلَعٌ يُخشَى الهـلاكُ بـه

 

إلاَّ وجدتُ بِظَهرِ الغيبِ مُطَّلَعَـا

لا يَملأُ الهول ُ قلبِي قَبلَ موقعـه

 

ولا أضِيقُ به صدراً إذا وقـعـا

وقال آخر:

لقد طالَ إعراضِي وصفحِي عَن الَّتي

 

أُبَلَّغُ عنكُمْ والقُـلـوبُ قُـلـوبُ

وطالَ انتِظارِي عطفة الرِّحِمِ مِنكـمُ

 

ليَرْجِـعَ وُدٌّ أو يُنـيبَ مُـنِـــيبُ

فلا تَأْمَنُوا مِنّي عليكمْ شَـبِـيهَـهـا

 

فيَرضَى بَغيضٌ أو يُسـاءَ حـبـيبُ

وتَظْهرَ مِنَّا في المَقَـامِ ومِـنـكُـمُ

 

إذا ما ارتَمَينا فِي النِّضـال عُـيوبُ

وإنَّ لِسانَ الباحِثِ الدَّاءَ سـاخِـطـاً

 

بَني عَمِّنَا، ألـوَى الـبـيانِ كَـذُوبُ

وقال الأشهبُ بنُ رُمَيلة:

إنَّ الأُلى حانت بِفَلْجٍ دماؤُهُـمْ

 

هُمُ القومُ كلُّ القومِ يا أُمَّ خالـدِ

هُمُ ساعدُ الدَّهرِ الذِي يُتَّقَى بِـهِ

 

وما خير كَفٍّ لا تنُوءُ بِسَاعِـدِ

أُسُودُ شرىً لاقتْ أسُودَ خَفِـيَّةٍ

 

تَساقَوْا على حَرْدٍ دِماءَ الأساوِدِ

قوله: هم ساعِدُ الدَّهر،، إنّما هو مثل، وهذا الذي تسمِّيه الرواة البديع، وقد قال الراعي:

هُمُ كاهِلُ الدَّهْرِ الَّذي يُتَّقَى بِه

 

ومَنكِبُهُ إنْ كان لِلدَّهرِ مَنكبُ

وقد جاء في الحديث: موسى اللَّه أحَدُّ، وساعد اللَّه أشدّ، والبديع مقصورٌ على العرب، ومن أجله فاقت لُغَتُهم كلَّ لغة، وأرْبَتْ على كلِّ لسان، والرَّاعِي كثير البديع في شعره، وبَشَّارٌ حسن البديع، والعتَّابيّ يذهب في شعرِه في البديع مذهبَ بشَّار، وقال كعب بن عديّ:

شُدَّ العصابَ على البريءِ بِمَنْ جَنَى

 

حتَّى يكونَ لِـغـيرِهِ تـنـكـيلا

والجهلُ فِي بعضِ الأمور إذا اغتَدَى

 

مُستَخرِجٌ للجـاهِـلـينَ عُـقـولا

وقال زُفرُ بنُ الحارث:

إنْ عُدتَ واللَّهِ الَّذي فوقَ عرشِـهِ

 

منحتُكَ مَسنونَ الغِرارينِ أَزْرَقـا

فإنَّ دواءَ الجهلِ أَن تُضرَبَ الطّلَى

 

وأَنْ يُغمسَ العِرِّيضُ حتَّى يُغرَّقا

وقال مبذولٌ العذري:

ومولىً كضِرسِ السُّوءِ يُؤْذيك مَسُّهُ

 

ولا بُـدَّ إنْ آذاك أنَّـك فـاقِـرُهْ

دَوِي الجَوفِ إن يُنزَعْ يَسؤك مكانُهُ

 

وإنْ يبقَ تُصبِحْ كلَّ يَومٍ تَحـاذرُه

يُسِرُّ لكَ البغضاءَ وهْو مُجـامِـلٌ

 

وما كلُّ من يَجنى عليكَ تُسـاورُه

وما كلُّ مَنْ مَدَّدتَ ثوبَـكَ دُونَـهُ

 

لِتَسْتُرَه مِمَّا أتى أَنـت سـاتـرُه

وقال آخر:

أطالَ اللَّه كَيْسَ بنـي رَزين

 

وحُمْقِي إنْ شَرَيْتُ لهمْ بدَينِ

أَأَكتُبُ إبْلَهُم شـاءً وفـيهـا

 

بِرَيْعِ فِصالِها بِنْتا لَبُـونِ

فما خُلِقُوا بكَيْسِهِـم دُهـاةً

 

ولا مُلَحاءَ بَعْدُ فيعجِبُونـي

وقال آخر:

عفاريتاً عَلَيَّ وأَكْلَ مالِي

 

وعجزاً عنْ أُناسٍ آخرِينا

فهلاَّ غيْرَ عمِّكُمُ ظَلمتُـمْ

 

إذا ما كُنتمُ مُتظَلِّمـينـا

فلوْ كنتُمْ لِكَيِّسةٍ أكاسـتْ

 

وكَيْسُ الأُمِّ أَكْيَسُ لِلبنينا

وقالت رُقيَّةُ بنت عبد المطَّلب في النبي صلى الله عليه وسلم :

أبُنيَّ إني رَابَني حَـجَـرٌ

 

يَغْدُو بكَفِّكَ حيثما تَـغْـدُو

وأَخافُ أَن تَلْقَى غَـوِيَّهُـمُ

 

أوْ أَنْ يُصيبَكَ بَعدُ مَن يعدُو

ولما دخل مكة لقيه جواريها يقُلْن: من مجزو الرمل

طَلع َ البَدرُ علينا

 

مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَداعْ

وجَبَ الشُّكرُ علينا

 

مَا دعا لِلَّـهِ داعْ

يضاف إلى باب الخطب وإلى القول في تلخيص المعاني والخروج من الأمر المشبه بغيره، قولُ حسانَ بنِ ثابتٍ الأنصاريّ: من الخفيف

إنَّ خالِي خطيبُ جابِيةِ الـجَـوْ

 

لانِ عِندَ النُّعمانِ حِـينَ يقـومُ

وهُو الصَّقرُ عِندَ باب ابنِ سَلمَى

 

يومَ نُعمانُ في الكُبُولِ مُـقِـيمُ

وَسَطَتْ نُسبتي الذَّوائِبَ مِنـهـمْ

 

كلُّ دارٍ فِيها أَبٌ لِي عـظـيمُ

وأبِي في سُمَيْحَة القائِلُ الـفـا

 

صِلُ يومَ التفّتْ عليهِ الخصومُ

يَصِلُ القولَ بالبَـيانِ وذُو الـرَّأْ

 

يِ مِنَ القومِ ضالِعٌ مكـعُـومُ

تِلك أفعالُهُ، وفِعلُ الزِبَعْـرَى

 

خامِلٌ في صِديقـهِ مـذمُـومُ

رُبَّ حِلمٍ أَضَاعَه عَـدَمُ الْـمـا

 

لِ وجهلٍ غطَّى عليهِ النَّـعِـيمُ

وليَ البأسُ مِنـكُـمُ إذْ أبَـيتـمْ

 

أسرةٌ مِن بَني قصيٍّ صَـمِـيمُ

وقُريشٌ تجُـولُ مِـنَّـا لِـواذاً

 

أنْ يُقِيمُوا وخَفَّ مِنها الحلـومُ

لم يطق حَملَهُ العَواتِقُ مِنـهُـمُ

 

إنَّما يحمل اللِّواءَ الـنُّـجـومُ

ولما دَفن سليمان بن عبد الملك أيّوبَ ابنَه وقف ينظر إلى القبر ثم قال: من السريع

كُنتَ لنا أُنْساً ففـارقـتـنـا

 

فالعيشُ مِن بعدك مُرَّ المذاقْ

وقُرِّبت دابّته فركِب ووقف على قبره، وقال:

وُقُوفٌ عَلَى قبرٍ مُقِيم بِقفْرَةٍ

 

مَتاعٌ قِليلٌ مِن حبيبٍ مُفارِقِ

ثم قال: عليك السلام ثم عطَفَ رأسَ دابّته، وقال:

فإنْ صبَرْتُ فلم ألفِظْكَ مِن شِبَعٍ

 

وإنْ جزِعتُ فعِلْقٌ مُنْفِسٌ ذَهبا

المدائني قال: لما مات محمد بن الحجاج جزِع عليه فقال: إذا غسَّلتموه فأعلموني، فلمّا نظر إليه قال:

الآنَ لمّا كُنتَ أكرمَ مَن مشَى

 

وافتَرَّ نابُكَ عن شَباةِ القارِحِ

وتكامَلَتْ فِيكَ المروءَةُ كُلُّها

 

وأعنْتَ ذلِكَ بالفَعالِ الصَّالحِ

ثم أتاه موتُ أخيه محمّدِ بنِ يوسفَ فقال:

حَسْبي ثوابُ اللَّهِ مِن كلِّ ميِّتٍ

 

وحسبي بقاءُ اللَّه مِن كلِّ هالِكِ

إذا ما لِقيتُ اللَّهَ عنِّي راضِياً

 

فإنَّ شِفَاءَ النَّفْسِ فيما هُنالِكِ

وتمثّل مُعاوية في عبد اللَّه بن بُدَيل:

أخُو الحَربِ إن عَضَّتْ بِهِ الحَربُ عَضَّها

 

وإن شَمَّرت عن ساقِها الحربُ شَمَّـرا

ويدنو إذا مـا الـمـوتُ لـم يَكُ دُونـهُ

 

قِدَى الشِّبْرِ يَحمِي الأَنـفَ أن يتـأخَّـرا

ورأى معاوية هُزالَه وهو مُتَعرٍّ، فقال:

أَرَى اللَّيالِي أَسْرَعَت في نَقضي

 

أَخذنَ بعضِي وتركنَ بَعضِـي

حَنَينَ طولي وتركْنَ عَرْضِـي

 

أقعدنَني مِنْ بعدِ طُولِ النّهض

وتمثل عبدُ الملك حين وثب بعمرو بن سعيد الأشدق:

سَكَّنْتُهُ لِيقِلَّ مِـنِّـي نَـفْـرُه

 

فأَصُولَ صَولَة حازِمٍ مُسْتمِكنِ

غضباً ومَحْمِيةً لِنَفْسِـيَ إنَّـهُ

 

ليسَ المسِيءُ سبِيلُهُ كالمُحسنِ

وسمع معاويةُ رجلاً يقول:

ومَنْ كريمٌ ماجـدٌ سَـمَـيْدَعُ

 

يُؤْتَى فَيُعطِي مِن نَدىً ويمْنَعُ

فقال: هذا منا وهذا واللَّه عبدُ اللَّه بن الزُّبير، المدائني قال: قال معاوية: إذا لم يكن الهاشميُّ جواداً لم يُشبِه قومَه، وإذا لم يكن المخزوميُّ تَيَّاهاً لم يُشبِه قومه، وإذا لم يكن الأمويُّ حليماً لم يُشبه قومَه، فبلغ قولُه الحسنَ بنَ عليّ رضي اللَّه تعالى عنهما فقال: ما أحسَنَ ما نظر لنفسه أراد أن تجود بنو هاشم بأموالها فتفتقر إلى ما في يديه، وتزهى بنو مخزوم على الناس فتبغض وتُشنَأ، وتحلُم بنو أميّة فتحَبّ، وقال بشار:

أَحسِنْ صِحَابتَنا فـإنََّـكَ مُـدْرِكٌ

 

بعضَ اللّبانَةِ باصطِناعِ الصَّاحب

وَإذا جَفوتَ قَطَعْتُ عَنكَ لُبانتـي

 

والدَّرُّ يَقطعُهُ جَفاءُ الـحـالِـبِ

تأْتِي اللَّئيمَ، وما سَعَى، حاجـاتُـهُ

 

عَددَ الحَصَى ويَخِيب سعيُ الدَّائِبِ

وأنشد:

إذا ما أُمُورُ النّاس رَثّتْ وضُيِّعَتْ

 

وجدْتُ أُمُورِي كلَّها قَدْ رَمَمْتُها

وقال أعرابيّ:

نَدِينُ ويَقضِي اللَّهُ عَنَّا وقَد نَرَى

 

مكان رِجالٍ لا يدِينُونَ ضُيَّعـا

وقال أعرابيّ:

وليس قَضاءُ الدَّيْنِ بالدَّينِ راحةً

 

ولكِنَّهُ ثِقْلٌ مُمِضٌّ إلى ثِقـلِ

وأنشد أبو عبيدة لعُبيدٍ العنبريّ، وهو أحد اللُّصوص:

يا ربِّ عفْوَك عن ذِي توبةٍ وَجِلٍ

 

كأنَّهُ مِن حِذارِ النّاسِ مجنـونُ

قد كانَ قدّم أعمـالاً مُـقَـارِبَةً

 

أيَّامَ لَيْس لـه عـقـلٌ ولا دِينُُ

وقال أعرابي:

يا ربِّ قد حلف الأقوام واجتهدوا

 

أيمانهم أنني من ساكني النـارِ

أيَحْلفُونَ على عمياءَ وَيْلَـهُـمْ

 

جهلاً بِعفوِ عظِيمِ العفوِ غفَّـارِ

وقال أعرابيّ وهو محبوس:

أقيداً وسجناً واغتِرَاباً وفُرقةً

 

وذكرى حبيب إنَّ ذا لعظـيمُ

وإنَّ امرَأً دَامَت مواثِيقُ عهدِهِ

 

على كلِّ ما لاقيتُهُ لـكَـرِيمُ

وقال أعرابي:

يا أُمَّ عَمرٍو بَيِّني أنـتِ كُـلَّـمـا

 

تَرفَّعَ حادٍ أو دعا كلُّ مُـسـلِـمِ

نَظَرْتُ إليْها نظرة مَا يسُـرُّنِـي

 

وإنْ كُنتُ محتاجاً، بها أَلفُ دِرْهَم

وقال الشاعر:

وما كَثَرَةُ الشَّكوَى بأمـرِ حَـزامةٍ

 

ولا بُدَّ مِن شكوَى إذا لم يكن صَبرُ

ومثله:

وأَبْثثتُ بَكراً كلَّ ما فِي جوانحي

 

وجرَّعْتُهُ مِنْ مُرِّ ما أَتَـجَـرَّعُ

ولا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إلى ذِي حَفيظَة

 

إذَا جعلَتْ أَسْرارُ نفْسِي تَطلَّـعُ

وقال الشاعر:

حَسدُوا الفتَى إذ لمْ يَنالُوا سعيَهُ

 

فالقومُ أعداءٌ لهُ وخُصـومُ

كضرائِرِ الحَسناءِ قُلْنَ لِوجهِها

 

حَسَداً وبغياً: إنَّه ُ لَـدمِـيمُ

وقال بُزُرْجمهر: ما رأينا أشبه بالملوم من الحاسد وقال الأحنفُ بنُ قَيس: لا راحة لحسود،  وقال الشعبي: الحاسد منغَّص بما في يد غيره، وقال اللَّه تبارك وتعالى "ومِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَد" الفلق:5، وقال بعضهم يمدح أقواماً:

مُحَسَّدُونَ وشـرُّ الـنًّـاسِ مـنـزِلةً

 

مَنْ عاش في النَّاسِ يوْماً غيرَ محسودِ

وقال الشاعر:

الرِّزْقُ يَأْتِي قَدَراً على مَـهَـلْ

 

والمرءُ مطبوعٌ على حُبِّ العَجَلْ

وقالوا: من تمام المعروف تعجيلُه، ووصف بعضُ الأعراب أميراً فقال: إذا أوعد أخّر، وإذا وعَدَ عجَّل؛ وعيده عفو، ووعدُه إنجاز، وقال تبارك وتعالى: "وَكَانَ الإنْسانُ عَجُولاً" الإسراء:11، ودخل عَمرو بنُ عُبَيدٍ على المنصور وهو يومئذٍ خليفة - وروى هذا الحديث العُتبيُّ عن عتبة بن هارون قال: شهدته وقد خرج مِن عنده، فسألتُه عمّا جرى بينهما فقال: رأيتُ عنده فتىً لم أعرفْه فقال لي: يا أبا عثمان، أتعرفُه؟ فقلت: لا، فقال: هذا ابنُ أمير المؤمنين ووليُّ عهد المسلمين، فقلت له: قد رضيتَ له أمراً يصير إليه إذا صار وقد شُغِلتَ عنه فبكى ثم قال: عِظْني يا أبا عثمان؟ فقلت: إنّ اللَّه قد أعطاك الدُّنيا بأسْرِها، فاشترِ نفسَك منه ببعضها، فلو أنّ هذا الأمرَ الذي صار إليك بقي في يدَيْ مَن كان قبلك لم يصِلْ إليك، وتذكَّرْ يوماً يتمخّض بأهله لا ليلةَ بعده، المدائني قال: سمعت أعرابيّاً يسأل وهو يقول: رَحِم اللّه امرأ لم تُمجّ أذنُه كلامي، وقدّم لنفسه مَعاذةً من سوء مقامي، فإنّ البلادَ مجدبة، والحالَ سيِئة، والعقلَ زاجر ينهى عن كلامكم، والفقر عاذر يحملني على إخباركم، والدَّعاءَ أحدُ الصَّدَقَتين، فرحم اللَّه امرأ أمر بمَيْرِ، أو دعا بخير ، وقال رجل من طيّئ:

قَتَلنا بقَتلانا مِنَ القوم مِثـلَـهُـمْ

 

كِراماً ولم نأْخُذْ بهمْ حَشَفَ النَّخْلِ

وقال آخر:

قَتلْنا رجالاً من تَميمٍ أخايراً

 

بقَومٍ كِرامٍ مِنْ رجالٍ أخايرِ

وسئل بعضُ العرب: ما العقل؟ قال: الإصابة بالظُّنون، ومعرفة ما لم يكن بما قد كان، وقال جريرٌ يعاتب المهاجر بنَ عبد اللَّه:

يا قيْسَ عَيْلانَ إنِّي قد نَصبتُ لكمْ

 

بالمَنْجَنِيقِ ولمّا أُرسِلِ الحَجـرا

فوثب المهاجرُ فأخذ بحَقْوه وقال: لك العُتَبى يا أبا حَزْرة لا ترسِلْه وقال سُويد بن صامت :

ألا رُبَّ مَنْ تدعُو صديقاً ولوْ تَرى

 

مقالتَهُ بالغَيب ِ ساءَكَ مـا يَفـري

مقالته كالشَّحـمِ مـا دامَ شـاهِـداً

 

وبالغيب مأثورٌ على ثُغرةِ النَّحـرِ

تُبينُ لكَ العَينان ِ مـا هـو كـاتِـمٌ

 

مِنَ الشرِّ والبغضاءِ بالنَّظر الشَّزْرِ

يسُـرُّكَ بـادِيه وتـحـتَ أَديمِـهِ

 

نَميمةُ غِشٍّ تَبتَرِي عَقَبَ الظَّهـرِ

فَرِشْنِي بخيرٍ طالما قد بَـرَيتَـنـي

 

وخَيْرُ الموالي مَن يَريشُ ولا يَبْري

وقال حارثة بن بدر، لما تحالفت الأزدُ وربيعة:

لا تحسبنَّ فُؤادي طائراً فَزِعاً

 

إذا تحالفَ ضبُّ البَرِّ والنُّونُ

وأنشد ابنُ الأعرابيّ لأعرابيّ:

فإنْ أكُ قَصداً في الرّجال فإنَّني

 

إذا حلّ أمرٌ ساحتي لَجَـسِـيمُ

تُعيِّرُني الإعدامَ والوجهُ مُعْرِضٌ

 

وسَيفِي بأموالِ التِّجارِ زعـيمُ

وأنشد ابنُ الأعرابي لعمرو بن شأس:

مَتى يَبلغُ البُنْيانُ يوماً تمامَهُ

 

إذا كُنتَ تَبنيهِ وآخَرُ يَهدمُ

وقال عَبيد بن الأبرص: مخلع البسيط

ساعِدْ بأرْضٍ إذا كُنتَ بهـا

 

ولا تَقُلْ إنَّنـي غَـريبُ

قد يُوصَلُ النَّازح النَّائي وقد

 

يُقْطعُ ذُو السَّهمةِ القريب

وأنشد الأصمعيُّ لكثير:

رأيْتُ أبا الوَليدِ غَدَاةَ جَمْـعٍ

 

به شيبٌ وما فقدَ الشَّبـابـا

ولكنْ تحتَ ذاكَ الشَّيبِ حَزْمٌ

 

إذا ما ظَنَّ أمرَضَ أو أصابا

ويَمدحون بإصابة الظن ويذمُّون بخَطَائه، قال أوس بن حجر: من المنسرح

الألمعيُّ الذي يَظُنُّ بكَ الظَّ

 

نَّ كأنْ قد رَأى وقد سَمِعا

وفي بعض الحكمة: من لم يتنفع بظنِّه لم ينتفع بيقينه، وقال السموءل بن عاديا:  

وإنَّا لقومٌ ما نَرى القتْـلَ سُـبَّةً

 

إذا ما رأتهُ عامِـرٌ وسَـلـولُ

يُقرِّبُ حُبُّ الموت ِ آجالَنا لـنـا

 

وتكرههُ آجالُهمْ فـتـطُـول

تسيل على حدِّ السُّيوفِ نُفوسُنـا

 

وليستْ على غير السُّيوفِ تسيل

وما ماَت مِنَّا ميِّتٌ في فِراشِـه

 

ولا طُلَّ مِنَّا حيث كانَ قَـتـيل

وقال حَسان بن ثابت: من الخفيف

لمْ تَفُتْها شمسُ النهارِ بشيءٍ

 

غيرَ أنّ الشبابَ ليسَ يدَومُ

لو يدِبُّ الْحوليُّ مِن وَلدِ الذَّ

 

رِّ عليها لأندَبَتها الكُـلـومُ

وقال بشّار بن بُرْد: من الخفيف

مِن فَتاةٍ صُبَّ الجمالُ عليهـا

 

في حديثٍ كلذَّةِ النَّـشـوانِ

ثمَّ فارقتُ ذاكَ غـيرَ ذَمـيمٍ

 

كلُّ عيشِ الدُّنْيا وإنْ طالَ فانِ

وقال مزاحمٌ العُقيليّ:

تَزينُ سَنا الـمـاوِيِّ كـلَّ عَـشـيَّةٍ

 

على غَفلاتِ الزَّينِ والمتَجَـمَّـلِ

وجوهٌ لوَ انَّ المُدْلِجينَ اعتَشَوْا بـهـا

 

صَدعنَ الدُّجَى حتى تَرى الليلَ ينجلي

وقال المسعوديّ:

إنَّ الكِرَامَ مُـنـاهـبـو

 

كَ المجدَ كُلَّهُمُ فَنـاهِـبْ

أَخْلِفْ وأتلِـفْ، كـلُّ شَ

 

يْءٍ زَعْزَعَتْهُ الرِّيحُ ذاهبْ

قال: قام شدّاد بن أوس وقد أمره معاويةُ بتنقُّصِ عليّ، فقال: الحمد للَّه الذي افترض طاعتَه على عباده، وجعَلَ رضاه عند أهل التقوى آثَرَ مِن رضا خلقِه، على ذلك مَضَى أوّلُهم، وعليه يمضي آخِرهُم، أيُّها الناس، إنّ الآخرةَ وعدٌ صادق، يحكم فيها ملِكٌ قادر، وإنَّ الدُّنيا عَرَضٌ حاضر، يأكل منه البَرّ والفاجر، وإنّ السَّامعَ المطيعَ للَّه لا حجّة عليه، وإنَّ السامع العاصِيَ للَّه لا حجّة له، وإنّ اللَّه إذا أراد بالعباد صَلاحاً عَمِلَ عليهم صلحاؤُهم، وقَضى بينهم فقهاؤهم، وملكَ المالَ سمحاؤهم؛ وإذا أراد بهم شرّاً عَمِلَ عليهم سفهاؤهم، وقضَى بينهم جهلاؤهم، ومَلكَ المال بخلاؤُهم، وإنّ مِنْ صلاح الولاة أن يصلح قرناؤهم، ونَصَحَ لك يا معاويةُ مَن أسخطك بالحقّ، وغشّك مَن أرضاك بالباطل، قال: اجلِسْ رحِمك اللّه، قد أمَرْنا لك بمال قال: إنْ كان من مالك الذي تعهّدتَ جمعَه مخافَة تَبعته، فأصبتَه حلالاً وأنفقتَه إفضالاً، فنَعَمْ؛ وإنْ كان ممّا شاركك فيه المسلمون فاحتَجَنْتَه دونهم، فأصبته اقترافاً، وأنفقته إسرافاً، فإنّ اللَّه يقول في كتابه: "إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشًَّياطِينِ" الإسراء: 27، وأذِنَ معاوية للأحنف بن قيس، وقد وافى معه محمّدُ بن الأشعث، ثم أذِنَ له فقدَّمه عليه، فوجِدَ من ذلك محمّد بن الأشعث، ثم أذِنَ له فدخلَ، فجلس بين بمعاويةَ والأحنف، فقال له معاوية: إنّا واللَّه ما أذِنّا له قبلَكَ إلاّ ليجلسَ إلينا دونك، وما رأيتُ أحداً يرفع نفسَه فوق قَدْرها إلاّ من ذِلّة يجِدُها، وقد فعلتَ فعِلَ من أحَسَّ مِن نفسه ذلاًّ وضَعَة، وإنّا كما نملك أمورَكم نملك تأديَبكم؛ فأريدُوا مِنَّا ما نريده منكم، فإنّه أبقَى لكم، وإلاّ قَصَرنْاكُمْ كَرْهاً، فكان أشدَّ عليكم وأعنَفَ بكم، وقال معاويةُ لرجلٍ من أهل سبأ: ما كان أجهَلَ قومك حين ملَّكوا عليهم امرأة فقال: بل قومُك أجهل قالوا حينَ دعاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الحق وأراهُم البينات: "اللَّهُمَّ إنْ كَانَ هذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطر عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّماءِ أوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" الأنفال: 32 ألاَّ قالوا: اللهم إنْ كان هذا هو الحقَّ من عندك فاهدِنا له قال: ولما سقطت ثَنِيَّتا معاوية لفَّ وجهَه بعمامة، ثمّ خرج إلى النّاس فقال: لئن ابتُليتُ لقدابتُلِيَ الصّالحون قَبْلي، وإني لأرجُو أن أكونَ منهم، ولَئن عوقبتُ لقد عُوقِب الخاطئون قبلي، وما آمَنُ أن أكونَ منهم، ولئن سَقَط عضوانِ منِّي لَمَا بقيَ أكثر، ولو أَتَى على نفسي لما كان لي عليه خيارٌ، تبارك وتعالى، فرَحِمَ اللَّه عبداً دعا بالعافية، فواللَّه لئن كان عتَب عليَّ بعضُ خاصّتكم لقد كنت حَدِباً على عامّتكم،ولما بلغت معاويَة وفاةُ الحسن بن عليِّ رضي اللَّه تعالى عنهما، دخَلَ عليه ابنُ عبّاس فقال له معاوية: آجَرَك اللَّه أباعبّاس في أبي محمدٍ الحسن بن عليّ ولم يُظهِرْ حزناً، فقال ابنُ عبّاس: إنّا للَّه وإنا إليه راجعون وغلبه البكاءُ فردّه ثم قال: لا يسدُّ واللَّه مكانَه جُفرتُك، ولا يزيد موتُه في أجلك، واللَّه لقد أُصِبْنا بمن هو أعظمُ منه فقداً فما ضيَّعَنا اللَّهُ بعده فقال له معاوية: كم كانت سنُّه؟ قال: مولدُه أشْهَرُ من أن تُعترَّف سنُّه قال: أحسبه ترك أولاداً صغاراً؟ قال: كلُّنا كان صغيراً فكبر، ولئن اختار اللّه لأبي محمّدٍ ما عندَه، وقبَضَه إلى رحمته، لقد أبقى اللَّه أبا عبدِ اللّه، وفي مثله الخلَف الصالح، الأصمعي عن أبان بن تغلب قال: مررت بامرأةٍ بأعلى الأرض، وبين يديها ابنٌ لها يريد سَفَراً، وهي توصيهِ فقالت: اجلسْ أمنحْك وصيَّتي وباللَّه توفيقُك، وقليل إجدائها عليك أنفَعُ من كثير عقلك: إيّاك والنَّمائم فإنَّها تزرع الضَّغائن، ولا تجعل نَفْسك غرضاً للرُّماة، فإنّ الهدفَ إذا رُمِي لم يلبثْ أن ينثلم، ومثِّلْ لِنَفسك مثالاً، فما استحسَنتَه من غيرِك فاعمَلْ به، وما كرهتَه منه فدعه واجتَنبْه، ومَن كان مودّته بِشرَهُ كان كالرِّيح في تصرُّفها، ثم نظرَتْ فقالت: كأنك يا عراقيُّ أُعجيبتَ بكلام أهل البدْو؟ ثم قالت لابنها: إذا هزَزتَ فهزَّ كريماً؛ فإنَّ الكريمَ يهتزّ لهزّتك، وإيّاك واللئيمَ فإنّه صخرةٌ لا ينفجر ماؤها،و وإيّاك والغَدْرَ فإنّه أقبحُ ما تعومل به، وعليك بالوفاء ففيه النَّماء، وكنْ بمالك جواداً، وبدينك شَحيحاً، ومَن أُعطي السّخاءَ والحِلم فقد استَجادَ الحُلَّةَ: رَيطتَها وسِرْبالَها انهَضْ على اسم اللَّه، وقال أعرابيٌ لرجلٍ مَطَلَهُ في حاجَة: إنّ مِثلَ الظفّر بالحاجة تعجيلُ اليأس منها إذا عَسُر قضاؤها، وإنّ الطّلبَ وإن قلّ أعظمُ قدْراً من الحاجة وإن عظُمت، والمَطْل من غير عُسرٍ آفةُ الجود، خطَب الفضلُ الرقاشيُّ إلى قومٍ من بني تميم، فخطب لنفسه، فلما فرَغ قام أعرابيُّ منهم فقال: توسَّلْتَ بحُرمة، وأدليتَ بحقّ، واستندتَ إلي خَير، ودَعوتَ إلى سُنَّة؛ ففَرضُك مقبول، وما سألتَ مبذول، وحاجتُك مقضيَّة إن شاء اللَّه تعالى، قال الفضل: لو كان الأعرابيُّ حمِد اللَّه في أوّل كلامه وصلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم لفضَحَني يومئذ، المدائني قال: قال المُنذرُ بنُ المنذِر، لمّا حارَب غَسّانَ الشامِ، لابنه النعمان يوصيه: إيّاك واطِّراحَ الإخوان، واطِّرافَ المعرفة، وإيّاك وملاحاةَ الملول، وممازحةَ السَّفيه، وعليك بطُول الخَلوة، والإكثارِ من السّمَر، والبس من القِشْر ما يزينُك في نفسك ومروءَتك، واعلم أنّ جِماع الخير كلّه الحياءُ فعليك به، فتواضعْ في نفسك وانخدِعْ في مالك، واعلم أنّ السكوتَ عن الأمر الذي يغنيك خيرٌ من الكلام، فإذا اضطررت إليه فتحرَّ الصدقَ والإيجاز، تسلمْ إن شاد اللَّه تعالى،