كلام من عزى بعض الملوك

قال: إنّ الخلق للخالق، والشُّكر للمنعم، والتّسليم للقادر، ولا بدَّ مما هو كائن، وقد جاء مالا يُردّ، ولا سبيلَ إلى ردّ ما قد فات، وقد أقام معك ما سيذهب أو ستتركه، فما الجزَعُ مما لا بدَّ منه، وما الطّمع فيمالا يُرجَى، وما الحيلةُ فيما سينتقل عنك أو تُنقَل عنه؟ وقد مضَتْ أصولٌ نحنُ فروعُها، فما بقاءُ الفرع بعد ذهاب الأصل؟ فأفضل الأشياءِ عند المصائب الصّبر، وإنما أهلُ الدُّنيا سَفْر لا يَحُلُّون الرِّكابَ إلاّ في غيرها، فما أحسَنَ الشُّكرَ عند النِّعَم، والتسليم عند الغِيرَ، فاعتبرْ بمن رأيتَ من أهل الجزع، فإن رأيت الجزع ردَّ أحداً منهم إلى ثقةٍ مِن دَرَك فما أولاكَ به، واعلم أنّ أعظمَ من المصيبة سوءُ الخَلَف منها، فأفِقْ فإنّ المرجع قريب، واعلم أنه إنما ابتلاك المنعِم، وأخذ منك المعطِي، وما تَرَك أكثر، فإنْ نسيتَ الصبرَ فلا تَنس الشكر، وكُلاًّ فلا تَدعْ، واحذَرْ من الغفلة استلاب النِّعم، وطولَ الندامة، فما أَصغرَ المصيبةَ اليوم مع عظَم الغنيمة غداً، فاستقبل المصيبةَ بالحِسْبة تستخلِفْ بها نُعْمَى، فإنما نحنُ في الدُّنيا غَرضٌ يُنتضَل فينا بالمنايا، ونهبٌ للمصائب؛ مع كلِّ جُرعة شرقٌ، ومع كل أُكلةٍ غَصَصٌ؛ لا تُنال نعمةٌ إلاّ بفراق أخرى، ولا يَستقبِل مُعَمَّرٌ يوماً من عمره إلاّ بفراقِ آخرَ مِن أجلَه، ولا تحدُث له زيادة في أكله إلاّ بنَفاد ما قبلَه من رزقه، ولا يحيا له أثرٌ إلاّ ماتَ له أثر، ونحنُ أعوانُ الحُتوف على أنفسِنا، وأنفسنا تسوقُنا إلى الفَناء، فمن أين نرجو البقاء؟ وهذا اللَّيل والنَّهار لم يَرفَعا من شيءٍ شرَفاً إلا أسرعا الكَرَّة في هدمِ ما رَفعا، وتفريق ما جَمَعا، فاطلُب الخيرَ من أهله، واعلم أنّ خيراً من الخير مُعطِيه، وشرّاً من الشر فاعلُه، وقال أبو نواس:

أَتَتَبَّعُ الظُّرفاءَ أَكتُبُ عنـهُـمُ

 

كيما أُحدِّثَ مَن أُحِبُّ فيَضْحكا

وقال آخر:

قَدَرْتُ فلم أَترُكْ صَلاحَ عَشيرتي

 

وما العفوُ إلاّ بعدَ قُـدْرةِ قـادرِ

وقال آخر:

أَخو الجِدِّ إنْ جدَّ الرِّجالُ وشمَّرُوا

 

وذُو بَاطِل إنْ شئت ألهاكَ باطُله

قَبيصة بن عمر المهلَّبي، أنّ رجلاً أتَى ابنَ أبي عُيَينة، فسأله أن يكتب إلى دَاوُد ابن يَزِيدَ كتاباً، ففعل وكتب في أسفله:

إنَّ امرَأً قَـذَفـتْ إلـيكَ بـه

 

فِي البحر بعضُ مراكِبِ البَحرِ

تَجري الرِّياحُ بِهِ فتَحـمِـلُـه

 

وتكُفُّ أَحياناً فـلا تَـجْـرِي

ويَرَى المَنِيَّةَ كُلَّما عَـصَـفـتْ

 

ريحٌ به لِلـهَـولِ والـذُّعـرِ

لَلمـسـتـحـقُّ بـأن تـزوِّدَه

 

كُتبَ الأمانِ له من الـفـقـر

قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: ما وجَد أحدٌ في نفسه كِبْراً إلاّ من مَهانة يجدُها في نفسه، ودخل رجلٌ من بني مخزوم، وكان زُبيرياً، على عبد الملك بن مَرْوان، فقال له عبدُ الملك: أليس قد ردّك اللَّه على عقِبَيك؟ قال: أوَ مَن رُدّ إليك فقد رُدَّ على عَقِبيه؟ فاستحيا وعلم أنه قد أساءَ، وقال المخبّل:

إذا أَنتَ لاقَيتَ الرِّجالَ فلاقهـمْ

 

وعِرضكَ مِنْ غَثِّ الأُمورِ سلِيمُ

وقال النَّضْرُ بنُ خالِد: من الخفيف

كِبْرُهُ يَبلُغُ الكواكبَ إلاّ

 

أنَّه في مُروءَةِ البَقّال

وقال خِداش بنُ زُهَيْر:

النَّاسُ تَحتَكَ أقدَامٌ وأَنـتَ لـهـمْ

 

رأسٌ فكَيف يُسَوَّى الرَّأس والقدمُ

إنَّا لَنَعلمُ أَنَّا مـا بـقِـيتَ لـنـا

 

فينا السَّماحُ وفينَا الجُودُ والكـرَمُ

وحَسْبُنا مِن ثناءِ المـادِحِـينَ إذا

 

أَثَنوا عليك بِأَنْ يُثْنُوا بِما عَلِمُـوا

وقال ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما: كانت قريشٌ تألفُ منزلَ أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه لخصلتين: العلم والطعام، فلما أسلَمَ أسلم عامّة مَن كان يجالسُه، قال الأصمعيّ: وقف أعرابيٌّ يسأل فقال:

ألاَ فَتـىً أرْوَعَ ذا جَـمَـالِ

 

مِن عَرَبِ النَّاسِ أوِ المَوَالي

يُعِينُنِي اليومَ عَلَى عِـيالـي

 

قد كَثَّرُوا هَمِّي وقلَّ مالـي

 

وساقَهُمْ جَدبٌ وسُوءُ حالِ

 

وقد مَلِلْتُ كَثرةَ السُّؤال

وقال أعرابيّ:

يا ابْنَ الكِرامِ والِداً وولـدَا

 

لا تَحْرِمَنَّ سائلاً تَعمّـدَا

أَفْقَرَهُ دهرٌ عليهِ قد عَـدا

 

مِن بَعْدِ ما كانَ قدِيماً سيِّدا

وقال أعرابي: اللهم أسألك قلباً توّاباً، لا كافراً ولا مرتاباً، وهَبَ رجلٌ لأعرابيّ شيئاً فقال: جعل اللَّه للخير عليك دليلاً، وجعل عندك رِفْداً جزيلاً، وأبقاك بقاءً طويلاً، وأبلاك بلاءً جميلاً، وقف أعرابيٌّ على قومٍ فمنعوه فقال: اللهم اشغَلْنا بذكرك، وأعِذْنا من سُخْطك، واجنُبنا إلى عفوك، فقد ضمنَّ خَلْقك على خَلْقك برزقك، فلا تشغَلْنا بما عندهم عن طلب ما عِندَك، وآتِنا من الدُّنيا القُنعان، وإن كان كثيرُها يُسخِطك، فلا خيرَ فيما يسخطك، الأصمعيّ قال: سمعتُ أعرابياً يدعو وهو يقول: اللهمّ اغفر لي إذ الصحُف منشورة، والتوبةُ مقبولة، قبل أن لا أقدرَ على استغفارك، حين ينقطعُ الأمل، ويحضُرُ الأجل، ويَفنَى العمل، الأصمعي قال: سمعتُ أعرابياً يدعو وهو يقول: اللهم ارزقني مالاً أَكبِت به الأعداء، وبنينَ أصُولُ بهم على الأقوياء، وكان مُنادِي سعد بن عُبَادة يقول على أُطُمِه: من أراد خُبزاً ولحماً فليأت أُطَمَ سعد، وخَلَفه ابنه قيسُ بن سعد، فكان يفعل كفعله، فإذا أكل الناسُ رفع يدَه إلى السماء وقال: اللهمَّ إني لا أصلح على القليل، ولا يصلُح القليلُ لي، اللهمّ هبْ لي حَمداً ومجداً، فإنَّه لا حمدَ إلاّ بفَعَال، ولا مجد إلاّ بمال، وقال أعرابيٌّ: اللهم إنّ لك عليّ حقوقاً فتصدَّقْ بها عليّ، وللناس عليَّ حقوقاً فأدِّها عنّي، وقد أوجبتَ لكلِّ ضيفٍ قِرىً وأنا ضيفك، فاجعَلْ قِرايَ في هذه اللّيلةِ الجنة، وقفَ أعرابيٌّ على قومٍ يسألهم فأنشأ يقول:

هل مِن فتىً عِندَهُ خُفَّانِ يحمِلُنـي

 

عليهما إنَّني شيخٌ علـى سَـفَـرِ

أشْكُو إلى اللَّه ِ أَهوالاً أُمارِسُهـا

 

مِن الصُّداعِ وأَنِّي سَيِّئ البصـرِ

إذَا سَرَى القَوْمُ لمْ أُبصِرْ طرِيقَهُـم

 

إن لم يكُنْ عِندهم ضوءٌ مِنَ القَمرِ

الأخفش قال: خرج أعرابيٌّ يطلب الصَّدَقة ومعه ابنتان له، فقالت ابنتُه لمّا رأت إمساك الناس عنه:

يا أيُّها الرَّاكبُ ذُو التَّعرِيسِ

 

هل فِيكُمُ مِن طارِدٍ للبُوسِ

عَن ذِي هُدَاج ٍ بَيِّنِ التَّقويسِ

 

بفضلِ سِربالٍ لـهُ دَرِيسٍ

أو فاضِلٍ مِنْ زَادِه ِ خَسِيسِ

 

أَثابَهُ الرَّحمنُ بالنِّـفِـيسِ

ووقف سائلٌ على الحسن فقال: رحِم اللَّه عبداً أعطى من سَعَة، أوْ آسِى من كفاف، أو آثرَ من قِلّة، قال الطائيّ:

فتىً كُلَّما فاضَتْ عـيونُ قَـبِـيلةٍ

 

دماً ضحِكَت عنهُ الأحادِيثُ والذِّكْرُ

فتىً مات بين الطَّعْنِ والضَّربِ مِيتة

 

تقُومُ مَقامَ النَّصرِ إذْ فاتَه النَّصـرُ

وقال:

بِكرٌ إذا ابتسمتْ أَراكَ وَمِـيضُـهـا

 

نَوْر الأقَاحِ بـرَمـلةٍ مـيعـاسِ

وإذا مَشَتْ تَركَتْ بصدرِكَ ضِعف ما

 

بِحُليِّها مِن كـثـرةِ الـوَسـواسِ

قالت وقد حُمَّ الفِـراقُ فـكـأسُـهُ

 

قد خولِطَ السَاقي بها والـحـاسِـي

لا تَنْسَيَنْ تلك العُـهـودَ فـإنَّـمـا

 

سُمِّيتَ إنسـانـاً لأنَّـكَ نـاسِـي

هدأَتْ على تأْمِيلِ أحمدَ هِـمَّـتِـي

 

وأَطافَ تقلِـيدِي بـه وقـياسِـي

نَوْرُ العَرارةِ نَـوْرُهُ، ونِـسـيمُـهُ

 

نَشْرُ الخزامَى في اخضِـرارِ الآسِ

إقدامُ عَمرٍو في سَمـاحةِ حـاتِـمٍ

 

في حِلْمِ أحنـفَ فـي ذَكـاء إياسِ

لاَ تُنْكِرُوا ضَرْبي لـهُ مَـنْ دُونَـه

 

مثَلاً شَرُوداً في النَّـدَى والـبـاسِ

فاللَّه قد ضَـرَبَ الأقـلَّ لِـنُـورِهِ

 

مَثلاً مِن المِشكـاةِ والـنِّـبـراسِ

وقال:

احفَظْ رَسائل شِعْرٍ فيكَ، ما ذَهَبتْ

 

خَواطِرُ البَرقِ إلاّ دُونَ ما ذهَبـا

يغْدُون مُغتَرباتٍ في الـبِـلادِ فـمـا

 

يَزَلنَ يُؤْنِسنَ في الآفاقِ مُغـتـرِبـا

ولا تُضِعْها فما في الأرضِ أحسَنُ مِنْ

 

نظمِ القوافِي إذا ما صـادَفَـتْ أدبـا

         

أُسر رؤبةُ في بعض حروبِ تميمٍ فمُنِع الكلامَ، فجعل يصرخُ: يا صباحاه، ويا بني تميمٍ أطلقوا من لساني، وربّما قال الشّاعرُ في هجائِه قولاً يعيب به المهجوَّ فيمتنع مِن فِعله المهجوُّ وإن كان لا يلحق فاعلَه ذمّ، وكذلِك إذا مدحه بشيءٍ أولِعَ بفعله وإن كان لا يصير إليه بفعله مدحٌ، فمن ذلك تقدُّمُ كُلْثُمَ بنتِ سَريع مولى عمرو بن حُرَيث، إلى عبد الملك بن عُمير، وهو على قضاء الكوفة، تُخاصِم أهلَها، فقضى لها عبدُ الملك على أهلها، فقال هُذَيل الأشجعيّ:

أتاهُ ولـيدٌ بـالـشُّـهـودِ يقُـودهُـمْ

 

على ما ادَّعَى مِن صامِتِ المالِ والخوَلْ

وجاءَت إلـيهِ كُـلْـثُـمٌ وكَـلامُـهـا

 

شِفاءٌ مِن الدَّاءِ المُخَامِـرِ والـخَـبَـلْ

فأدْلـى ولـيدٌ عِـنـدَ ذاكَ بـحـقِّـهِ

 

وكـانَ ولـيدٌ ذا مِـراءٍ وذا جَــدَلْ

وكـانَ لـهـا دَلٌّ وعـينٌ كـحــيلَةٌ

 

فأَدْلتْ بحُسنِ الدَّلِّ مِنها وبـالـكَـحَـل

فَفتَّنَتِ القِبْطِيَّ حَتـى قـضَـى لـهَـا

 

بِغير قضاء ِ اللَّهِ في السُّورَ الـطُّـوَلْ

فلو كانَ مَن بالقصر يَعـلـمُ عِـلـمَـه

 

لمَا استُعْمِلَ القبْطِيُّ فينا علـى عـمَـلْ

له حِينَ يقضِي لِلـنِّـسَـاءِ تَـخـاوُصٌ

 

وكانَ وما فيهِ التَّـخـاوُضُ والـحَـوَلْ

إذا ذاتُ دَلٍّ كـلَّـمـتـهُ بـحـاجةٍ

 

فهَمَّ بأن يَقضِي تَنـحـنَـح أو سَـعَـل

وبـرَّق َ عَـينَـيهِ ولاكَ لِـسـانــهُ

 

يَرى كلَّ شَيءٍ مَا خلا شَخصَها جَـلَـلْ

قال: فقال عبدُ الملك: أخزاه اللَّه، واللَّه لربَّما جاءتني السَّعلة أو النَّحنحةُ وأنا في المتوضّأ فأذكر قولَه فأردُّها لذلك، وزعم الهيثم بن عديّ عن أشياخه، أنّ الشّاعر لما قال في شَهْر بن حَوشب:

لقد باعَ شَهْرٌ دِينَهُ بـخـرِيطةٍ

 

فمَن يَأمَنُ القُرَّاءَ بَعدَكَ يا شَهْرُ

ما مسَّ خريطةً حتّى مات، وقال رجلٌ من بني تغلب، وكان ظريفاً: ما لقِيَ أحدٌ من تغلبَ ما ألقَى أنا قلت: وكيفَ ذلك قال: قال الشاعر:

لا تَطلُبَنَّ خُؤُولةً في تَغلِـبٍ

 

فالزِّنجُ أكرَمُ مِنهُمُ أخـوالا

لوْ أنَّ تَغْلِبَ جَمَّعَتْ أحسابَها

 

يومَ التَّفاخُرِ لم تَزِنْ مِثقـالا

تَلْقاهُمُ حُلماءَ عن أعدائهـمْ

 

وعلى الصِّدِيقِ تراهُمُ جُهَّالا

والتَّغْلَبيُّ إذا تَنَحنَحَ لِلقِـرَى

 

حكّ استَهُ وتمَثَّلَ الأمـثـالا

واللَّه إنِّي لأتوهّم أنْ لو نهشت استِي الأفاعي ما حككتُها وكان الشّاعر أرفعَ قدراً من الخطيب، وهم إليه أحوج، لردِّه مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيّامهم؛ فلمّا كثُر الشُّعراء وكثُر الشّعر صارَ الخطيبُ أعظَمَ قدراً من الشّاعر، والذين هَجَوا فوضَعوا مِن قدر مَن هجوَه، ومَدحوا فرفعوا مِن قدْر من مَدحُوا، وهَجاهم قومٌ فردُّوا عليهم فأفحَموهم، وسكَتَ عنهم بعضُ من هجاهم مخافةَ التعرُّض لهم، وسكتوا عن بعض مَن هجاهم رغبةً بأنفسهم عن الردّ عليهم، وهم إسلاميّون: جرير، والفرزدق، والأخطل، وفي الجاهلية: زهير، وطَرفَة، والأعشى، والنابغة، هذا قول أبي عبيدة، وزعَم أبو عمرو بن العلاء: أنَّ الشِّعر فُتح بامرئ القيس وخُتِم بذي الرُّمَّة، ومن الشعراء مَن يُحكم القريض ولا يُحسِن من الرّجَر شيئاً، ففي الجاهليّة منهم: زُهير، والنابغة، والأعشى، وأما مَن يجمعهما فامرؤ القيس وله شيءٌ ، وطرفة وله كمثلِ ذلك، ولبيد وقد أكثر، ومن الإسلامييّن من لا يَقدر على الرّجز وهو في ذلك يُجيد القريض: كالفرزدق وجرير؛ ومَن يجمعهما فأبو النجم، وحُميدٌ الأرقط، والعُمانيّ، وبَشّار بن برد، وأقلُّ مِن هؤلاء يُحكم القصيدَ والأرجاز والخطب، وكان الكميتُ، والبَعيث، والطِّرِمّاح شعراءَ خطباء، وكان البَعيثُ أخطبَهم، وقال يونس: لئن كان مغلَّباً في الشِّعر لقد كان غلِّب في الخُطَب،وإذا قالوا: غلِّب فهو الغالب، وقال الحسين بن مُطيرٍ الأسديّ:

فَيا قبرَ مَعْـنٍ كـنـتَ أوَّل حُـفـرةٍ

 

من الأرضِ خُطَتْ لِلمكارِم مضجَعـا

فلمَّا مَضَى معن مَضَى الجُودُ وانقضى

 

وأصبحَ عِرنينُ المكـارِمِ أجـدَعـا

فتىً عيشَ في معروفِهِ بَعـدَ مَـوتِـه

 

كما كان بعدَ السَّيلِ مجراهُ مَرتَـعـاً

تَعزَّ أبَا العبَّـاسِ عـنـه ولا يكُـنْ

 

جزاؤُكَ مِن مَعْنٍ بأنْ تَتَضَعْضَـعَـا

فما ماتَ مَن كُنتَ ابنَـهُ لا ولا الَّـذِي

 

لهُ مِثلُ ما أَسدَى أبُوكَ وما سَـعَـى

تمنَّى أُناس شـأْوَهُ مِـن ضـلالِـهـمْ

 

فأَضحَوْا على الأذقانِ صَرْعَى وظُلَّعا

وقال مسلمٌ الأنصاريّ يَرْثي يزيدَ بنَ مَزْيد:

قبرٌ بِبَرْذَعَة استَسَرَّ ضَرِيحُـهُ

 

خَطراً تقاصَرُ دُونهُ الأخطـارُ

أبْقَى الزَّمانُ على مَعَدٍّ بـعـدَهُ

 

حُزناً كَعُمْرِ الدَّهرِ ليسَ يُعـارُ

نَفَضَتْ بك الآمالُ أحلاسَ الغِنى

 

واستَرْجَعَتْ نُزَّاعَها الأمصـارُ

فاذهبْ كما ذَهَبتْ غَوادِي مُزْنةٍ

 

أثْنَى عليْها السَّهلُ والأَوعـارُ

وقال هَمّام الرَّقاشيّ:

أَبْلِغْ أَبَا مِسْمَعٍ عنِّي مُـغـلـغَـلةً

 

وفي العِتَابِ حـياةٌ بـينَ أقـوام

قدَّمْتَ قبلِي رِجالاً لم يَكُنْ لـهُـمُ

 

فِي الحقِّ أن يَلِجُوا الأبواب قُدّامِي

لو عُدَّ قَبْرٌ وقبرٌ كُنتُ أكرمَـهـمْ

 

قبراً وأبعدَهُمْ مِن منـزل الـذَّامِ

حتى جعلت إذا ما حاجة عرضت

 

بباب قصرك أدلوها بـأقـوام

وقال الأُبيرِد الرِّياحيّ يرثي أخاه:

فَتىً إن هُو َ استغنَى تَخرَّقَ في الغِنى

 

وإنْ قَلَّ مالٌ لم يَؤُدْ متْنَهُ الـفـقـرُ

وسَامَى جَسِيماتِ الأُمور ِ فنـالـهـا

 

على العُسرِ حَتّى يُدرِكَ العُسْرَةَ اليُسرُ

تَرَى القومَ في العَزَّاءِ يَنتـظِـرُونـهُ

 

إذا شكَّ رَأيُ القومِ أو حَزبَ الأَمـرُ

فليتَكَ كُنتَ الحَيَّ في النّـاس بـاقـياً

 

وكُنْتُ أنا الميتَ الَّذِي غَيَّبَ القـبـرُ

لقد كُنْتُ أستَعِفي الإلهَ إذا اشـتـكَـى

 

مِنَ الأَجرِ لي فيهِ وإنْ سَرَّني الأَجرُ

وأجـزَعُ أَنْ يَنـأَى بِـهِ بَـينُ لَـيْلَةٍ

 

فَكَيفَ ببين صار مِيعادَهُ الـحَـشـرُ

وقال أبو عبيدة: أنشدني رجلٌ من بني عِجل:

وكنتُ أُعِيرُ الدَّمعَ قبلكَ مَن بكَى

 

فأنتَ على مَن مات بَعدك شاغِلُهْ

لقد رَحَل الحيُّ المُقـيمُ ووَدّعُـوا

 

فتىً لم يكُنْ يأذَى به مَن يُنازِلُـه

ولم يَكُ يخشى الجَارُ مِنهُ إذا دَنـا

 

أذاهُ ولا يخشى الحَريمةَ سائلُـه

فَتَى كان لِلمعْروفِ يَبسُطُ كَفَّـهُ

 

إذا قُبضَتْ كَفُّ البخِيل ونـائِلُـه

قال: دخل مَعْنُ بنُ زائِدةَ على أبي جعفرٍ المنصور، فقارَبَ في خَطْوه فقال المنصور: لقد كبرتْ سنُّك قال: في طاعتك، قال: وإنّك لَجَلْدٌ قال: على أعدائك، قال: وأرى فيك بقيّة قال: هي لك، قال: كتب عبدُ الملك بن مرْوان إلى عمرِو بن سعيدٍ الأشدقِ، حينَ خرج عليه: أمّا بعد، فإنّ رحمتي لك تصرفُني عن الغضب عليك، لتمكّن الخُدَع منك، وخِذلانِ التَّوفيق إياك، نهضتَ بأسبابٍ وَهَّمَتْكَ أطماعُك أن تستفيد بها عِزّاً، كنت جديراً لو اعتدلت أن لا تدفع بها ذُلاّ، ومَن رحَلَ عنه حسنُ النظر واستوطنَتْه الأماني ملَكَ الحَيْنُ تصريفَه، واستترت عنه عواقبُ أمره، وعن قليلِ يتبيَّن مَن سلك سبيلَكَ، ونهض بمثل أسبابك، أنّه أسِيرُ غَفْلة، وصريع خَدْعٍ، ومَغيض ندَم، والرَّحِم تَحمِل على الصَّفح عنك ما لم تحلُل بك عواقبُ جهلك، وتزجُرْ عن الإيقاع بك، وأنت، إن ارتدعتَ، في كنَفٍ وسِتر، والسلام، فكتب إليه عمرو: أمّا بعدُ، فإنّ استدارجَ النِّعَم إياك أفادَك البغْيَ، ورائحة القُدْرة أورثَتْك الغفلة، زجرت عمّا واقعتَ مثلَه، ونَدَبت إلى ما تركتَ سبيلَه، ولو كان ضَعفُ الأسباب يُؤْيِس الطّلاّبَ ما انتقل سلطانٌ، ولا ذلَّ عِزٌّ، وعمّا قليل تتبيَّن مَن أسيرالغفلة، وصريع الخُدَع، والرَّحِم تَعطِف على الإبقاء عليك، مع دفعك ما غيرُك أقْوَمُ به منك، والسلام قال أبو الحسن: كتب عمرُ بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد بن عبد الملك، أمّا بعدُ فإنّك كَتبتَ تذكر أنَّ عاملاً أخذ مالك بالحَمَّةِ وتزعم أنِّي من الظالمين وإنَّ أظلَمَ مِنِّي وأترَكَ لعهد اللَّه مَن أمَّرَك صَبيّاً سفيهاً على جيش من جيوش المسلمين، لم تكن له في ذلك نية إلاّ حبُّ الوالد لولدِه، وإنّ أظلَمَ منيِّ وأتركَ لعهد اللَّه لأنت، فأنت عُمَر بن الوليد، وأمُّك صَنّاجة تدخل دور حِمْص، وتطوفُ في حوانيتها رويدَك أنْ لو قد التقت حَلْقتا البطان لحملتُك وأهلَ بيتِك على المحَجَّة البيضاء، فطالما ركِبتُم بُنَيّاتِ الطريق، مع أنِّي قد هممت أن أبعثَ إليك مَن يحلق دلادلك فإنِّي أعلم أنّها مِن أعظم المصائب عليك، والسلام، قال أبو الحسن: كان عبد الملك بن مروانَ شديدَ اليقظَة، وكثيرَ التعهُّد لُولاته، فبلَغه أنَّ عاملاً من عُمّاله قبل هديّة، فأمرَ بإشخاصه إليه، فلمّا دخَل عليه قال له: أقبلت هديّةً منذ ولّيتك؟ قال له: يا أمير المؤمنين، بلادُك عامرة، وخَراجُك موفور، ورعيّتُك على أفضل حال؟ قال: أجب فيما سَألتك عنه، أقبِلْتَ هديّةً منذ ولّيتك؟ قال: نَعم، قال: لئن كنتَ قبلت هديّة ولم تعوِّضْ إنك: للئيم، ولئن أنلتَ مهديَك لا من مالك أو استكفيتَه ما لم يكن يُستكفاه، إنك لجائر خائن، ولئن كان مذهبُك أن تعوِّض المهدِيَ إليك مِن مالك، وقَبِلت ما اتّهمك به عند مَن استكفاك وبَسَطَ لسانَ عائبك، وأطمع فيك أهلَ عملك، إنّك لجاهل، وما في مَنْ أتى أمراً لم يخْل فيه من دناءةٍ أو خيانة أو جهلٍ، مصطنعٌ نحّيَاه عن عمله، قال أبو الحسن: عَرَض أعرابيٌّ لعتبةَ بن أبي سفيان وهو على مكَّة فقال: أيُّها الخليفة قال: لستُ به ولم تُبِعد، قال: يا أخاه، قال: أسْمَعْتَ، فقال: شيخٌ من بني عامرٍ يتقرَّب إليك بالعُمومة، ويخصُّ بالخؤولة، ويشكو إليك كثرةَ العِيال ووطْأة الزمان، وشدّةَ فقرٍ وترادُفَ ضُرّ، وعندك ما يسَعُه ويَصرِف عنه بؤسَه؟ قال: أستغفر اللَّه منك، وأستعينُه عليك، قد أمَرت لك بغناك، ولَيْتَ إسراعي إليك يقوم بإبطائي عنك، وقال أعرابيٌّ يَعِيب قوماً: هم أقلُّ النّاس ذُنوباً إلى أعدائهم، وأكثرُهم جُرماً إلى أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويُفطِرون على الفَحْشاء، وقال مُجَّاعَةُ بنُ مُرَارة، لأبي بكرٍ الصدِّيق رضي اللَّه تعالى عنه: إذا كان الرأيُ عند من لا يُقبَل منه، والسِّلاحُ عند من لا يستعمله، والمال عند مَن لا ينفقه، ضاعت الأمور، الأصمعيُّ قال: نَعتَ أعرابيٌّ رجلاً فقال: كأنَّ الألسنَ والقلوبَ رِيضت له، فما تنعقِد إلاّ على وُدِّه، ولا تنطق إلاّ بحمده، وقال أعرابيٌّ: وَعْد الكريم نقد وتعجيل، ووَعد اللئيمِ مَطلٌ وتعليل، أتى أعرابيٌّ عمر بن عبد العزيز فقال: رجلٌ من أهل البادية ساقته الحاجة وانتهت به الفاقة، واللَّهُ يسألُك عن مَقامي غداً فبكى عمر، قال الشاعر:

ومن يُبقِ مـالاً عُـدَّة وصـيانة

 

فلا البُخْل مُبقيهِ ولا الدهر وافِرُه

ومَن يكُ ذَا عُودٍ صَلـيب يُعِـدُّهُ

 

ليِكسِرَ عُود الدهر فالدَّهرُ كاسِرُهْ

وقال أبَان بن الوليد لإياسِ بن معاوية: أنا أغنَى مِنك فقال إياس: بل أنا أغنى منك قال أبان: وكيف، ولي كذا وكذا وعَدَّدَ أموالاً، قال: لأنَّ كسبَك لا يفضُل عن مؤونتك، وكَسبي يفضُل عن مؤونتي، وكان يقال: حاجبُ الرَّجل عامِلهُ على عِرضه،وقال أبو الحسن: رأيتُ امرأةً أعرابية غَمّضَتْ مَيْتاً وترحَّمت عليه ثم قالت: ما أحقهَ مَن أُلبس العافية، وأطِيلت له النَّظِرة أن لا يعجِزَ عن النظر لنفسه، قبلَ الحلول بساحته، والحيالة بينه وبين نفسه، وقال ابن الزُّبير لمعاويةَ حين أراد أن يبايعَ لابنه يزيد: تقُدِّم ابنَك على مَن هو خيرٌ منه؟ قال: كأنَّك تُريد نفسَك؟ إنّ بيتَه بمكّة فوقَ بيتك قال ابن الزبير: إنّ اللَّه رفع بالإسلام بيوتاً، فبيتي مما رَفَع قال معاوية: صدقتَ، وبيتُ حاطبِ بن أبي بَلْتَعة وقال: عاتَبَ أعرابيٌّ أباه فقال: إنّ عظيمَ حقِّك عليَّ لا يُذهِبُ صغيرَ حقِّي عليك، والذي تُمتُّ إليَّ أمُتُّ بمثله إليك، ولستُ أزعُم أنّا سواء، ولكنْ أقول: لا يحِلُّ لك الاعتداء، قال: مدَحَ رجلٌ قوماً فقال، أدّبَتْهمُ الحكمة، وأحكمَتْهم التَّجارِب، ولم تغرُرْهم السّلامةُ المنطَوِية على الهَلَكة، ورحَلَ عنهم التّسويفُ الذي قطع الناس به مَسافَة آجالهم، فأحسَنُوا المقال، وشَفَعوه بالفَعال، وقال بعض الحكماء: التّواضع مع السّخافة والبُخْل، أحمَدُ عند العلماء من الكبر مع السَّخاء والأدب، فأعظِمْ بحسَنةٍ عفّت على سيِّئتين، وأفظِعْ بعيبٍ أفسَدَ من صاحبه حسنتين، وقيل لرجل - أراه خالدَ بنَ صفْوان -: مات صديقٌ لك فقال: رحمةُ اللّه علَيه، لقد كان يملأ العينَ جمالاً، والأذنَ بياناً، ولقد كان يُرجَى ولا يَخْشَى، ويُغْشَى ولا يَغشَى، ويُعطِي ولا يُعطَى، قليلاً لدى الشَّرِّ حضوره، سليماً للصَّديق ضميره، وقام أعرابيٌّ ليَسأل فقال: أينَ الوُجوه الصبِّاح، والعقولُ الصِّحاح، والألسن الفصاح، والأنساب الصِّراح، والمكارم الرِّباح، والصُّدور الفِساح، تُعيذُني من مَقامي هذا؟، ومَدَح بعضُهم رجلاً فقال: ما كان أفسَحَ صدرَه، وأبعَدَ ذِكرَه، وأعظم قَدْره، وأنفذ أمره، وأعلى شرَفَه، وأربَحَ صَفقةَ مَن عرَفَه، مع سعة الفِناء، وعظم الإناء، وكرم الآباء، وقال علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه لصعصعة بن صوحان، واللَّه ما عَلِمتُ إنّك لكثير المعونة، قليل المؤونة؛ فجزاك اللَّه خيراً فقال صعصعة: وأنت فجزاك اللَّه أحسَنَ ذلك، فإنّك ما علمت باللَّه عليم، واللَّه في عينِك عظيم، قال أبو الحسن: أوصى عبد الملك بن صالح ابناً له فقال: أيْ بنيَّ، احلُم فإنّ مَن حلُم ساد، ومن تفهَّم ازداد، والقَ أهلَ الخير، فإنّ لقاءَهم عِمارةٌ للقلوب، ولا تجمَحْ بك مَطِيّة اللَّجاج، ومنك مَن أعتبك، والصاحبُ مُناسِب، والصَّبر على المكروه يَعصِم القلب، المِزاحُ يورث الضغائن، وحُسن التَّدبير مع الكَفاف خيرٌ من الكثير مع الإسراف، والاقتصاد يثمِّر القليل، والإسراف يُتَبِّر الكثير، ونعِم الحظُّ القناعة، وشرُّ ما صحِب المرءُ الحسد، وما كلُّ عَورةٍ تُصاب، وربَّما أقصر العَمِي رشدَه، وأخطأ البصيرُ قصْدَه، واليأس خيرٌ من الطَّلب إلى الناس، والعِفّة مع الحِرفة خير من الغنى مع الفُجور،  أرفقْ في الطَّلب وأجملْ في المكسب، فإنّه ربَّ طلَبٍ قد جرَّ إلى حَرَبٍ، ليس كلُّ طالبٍ بمُنْجِح، ولا كلُّ ملحّ بمحتاج، والمغبونُ من غُبن نصيبَه من اللَّه، عاتِبْ مَن رجوت عُتباه، وفاكِهْ مَن أمِنت بَلواه، لا تكن مِضحاكاً من غير عَجب، ولا مشّاءً إلى غير أرب، ومَن نأى عن الحقِّ ضاق مذهبُه، ومن اقتصر على حاله كان أنعمَ لباله، لا يكبرنَّ عليك ظُلمُ مَن ظلمك، فإنّه إنَّما سعى في مَضرّته ونَفْعِك، وعوِّد نفسك السَّماح، وتخيَّرْ لها مِن كلِّ خلُق أحسنَه، فإنّ الخيرَ عادة، والشّرَّ لجاجة، والصدودَ آيةُ المقت، والتعلُّلَ آية البخل، ومن الفقه كِتمان السر، ولِقاح المعرفةِ دراسةُ العلم، وطولُ التّجاربِ زيادةٌ في العقل والقناعةُ راحة الأبدان، والشَّرف التَّقوى، والبلاغةُ معرفة رتْقِ الكلام وفتقِه، بالعقل تُستخرَج الحكمة، وبالحِلْم يُستخرج غور العَقْل، ومن شمَّر في الأمور ركب البُحور، شرُّ القول ما نقضَ بعضُه بعضاً، من سَعَى بالنَّميمة حَذِرَه البعيد، ومقَته القريب، مَن أطال النّظرَ بإرادةٍ تامّة أدرك الغاية، ومن تواني في نفسه ضاع، مَن أسرف في الأمور انتشَرت عليه، ومن اقتصَدَ اجتمعت له، واللَّجاجة تورث الضَّياعَ للأمور، غِبُّ الأدب أحمد من ابتدائه، مبادرةُ الفهم تورِث النِّسيان، سوءُ الاستماع يُعقِب العِيّ، لا تحدِّث مَن لا يقبِل بوجهه عليك، ولا تنصِتْ لمن لا ينمِي بحديثه إليك، البلادة في الرجل هجنة، قلَّ مالِكٌ إلاّ استأثر، وقلَّ عاجزٌ إلاّ تأخّر، الإحجام عن الأمور يورث العجز، والإقدام عليها يُورث اجتلابَ الحظّ، سُوء الطُّعْمَةِ يفسد العِرْض، ويُخلِق الوجه، ويَمحَق الدِّين، الهيبةُ قرين الحرمان، والجَسَارة قرين الظّفَر، ومِنكَ مَن أنصفك، وأخوك مَن عاتبك، وشريكُك مَن وَفَى لك، وصَفِيُّك مَن آثرَك، أعدى الاعتِداء العُقوق، اتِّباع الشَهوة يُورث النّدامة، وفَوتُ الفرصة يُورث الحَسرة، جميع أركان الأدب التأتِّي للرفق، أكْرِمْ نفسَك عن كلِّ دنِيَّة وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تجدَ بما تَبذُل من دينك ونفسك عوضاً، لا تساعد النساء فيملَلْنَك واستبق من نفسك بقيَّة، فإنّهن إن يَرينك ذا اقتدارٍ خيرٌ من أن يطّلِعْن منك على انكسار لا تُملِّك المرأة الشفاعةَ لغيرها، فيميلَ من شفعتْ له عليك معها، أي بنيَّ، إني قد اخترت لك الوصيَّة، ومَحضْتك النصيحة، وأدَّيت الحقَّ إلى اللَّه في تأديبك، فلا تُغفِلنَّ الأخذَ بأحسنها، والعملَ بها، واللُّهُ موفّقك، قال الغنَويّ: احتُضِر رجلٌ منا فصاحت ابنته، ففتح عينيه وهو يَكيد بنفسه، فقال:

عزاءً لا أبا لَكِ إنّ شـيئاً

 

تولّى ليسَ يُرجِعُهُ الحنينُ

قال بعض الشعراء:

وما إن قَتلناهمْ بأكثرَ منـهـمُ

 

ولكنْ بأوْفَى بالطِّعانِ وأَكْرما

المدائنيّ قال: كان يقال: إذا انقطع رجاؤك من صديقك فأَلْحِقْه بعدوِّك، وقال عبد الملك بن صالح: لا يكبُرَنّ عليك ظُلمُ مَن ظلمك، فإنما سعَى في مضرَّته ونفعك، وقال مُصعَب بن الزُّبير: التواضع أحد مَصايد الشَّرَف، وقال عمربن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: إيّاك ومؤاخاةَ الأحمق، فإنه ربما أراد أن ينفعَك فضرّك، وكانوا يقولون: عَشْر في عَشَرةٍ هي فيهم أقبح منها في غيرهم: الضيق في الملوك، والغَدر في ذوي الأحساب، والحاجة في العلماء، والكذِب في القُضاة، والغضب في ذوي الألباب، والسفاهةُ في الكهول، والمرَض في الأطبّاء، والاستهزاء في أهل البؤس، والفَخْر في أهل الفاقة، والشحُّ في الأغنياء، ووصف بعض الأعراب فرساً فقال: انتهى ضُموره، وذَبُل فريره، وظهر حَصيرُه، وتفلّقت غُرورُه، واسترخت شاكلته، يُقبل بزبرة الأسد، ويُدْبِر بعجُز الذئب، ومات ابنٌ لسليمانَ بن عليّ فَجزِعَ عليه جزعاً شديداً، وامتنع من الطعام والشراب، وجعل الناس يُعزُّونه فلا يَحفِل بذلك، فدخل عليه يحيى بن منصور فقال: عليكم نَزَل كتاب اللَّه فأنتم أعلُم بفرائضه، ومنكم كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأنتم أعرفُ بسنَّته، ولستَ ممن يُعلَّمُ مِنْ جَهْل، ولا يُقوَّم من عِوَج، ولكني أعزِّيك ببيتٍ من الشعر، قال: هاته، قال:

وهوَّنَ ما ألقَى منَ الوَجدِ أنَّني

 

أُساكِنُهُ في دارِهِ اليومَ أو غَدا

 قال: أعدْ، فأعاد، فقال: يا غلامُ، الغَداء، قال: دعا أعرابيٌّ في طريق مكة فقال: هل من عائدٍ بفضل، أو مواسٍ من كَفاف؟، فأُمسِكَ عنه فقال: اللهمَّ لا تِكلْنا إلى أنفسنا فنعجِزَ، ولا إلى الناس فنَضيع، وقال أبو الحسن: جاء خلفٌ الأحمر إلى حَلْقة يونس حين مات أبو جعفرٍ فقال:

قَدْ طَرَّقَتْ ببِكرها بِنْتُ طَبَقْ

 

فقال له يونس: ماذا؟ فقال:

فذَمَّرُوها خَبَراً ضخمَ العُنق

 

فقال يونس: وماذا؟ فقـال:

مَوتُ الإمامِ فِلْقَةٌ مِن الفِلَقْ

 

 

قال أبو الحسن: أراد رجلٌ أن يكذب بلالاً،فقال له يوماً: يا بلالُ، ما سِنُّ فرسك؟ قال: عَظْم، قال، فكيف جَريُه؟ قال: يحضِر ما استطاع، قال: فأين تنزِل؟ قال: موضعاً أضَعُ فيه رِجْلي، فقال له الرّجل: لا أتعنَّتُك أبداً، قال: ودخل رجلٌ على شُريحٍ القاضي، يخاصم امرأةً له، فقال: السّلامُ عليكم، قال: وعليكم، قال: إنِّي رجلٌ من أهل الشام، قال: بعيد سَحيق، قال: وإنِّي قدِمت إلى بلدكم هذا، قال: خَير مَقْدَم، قال: وإنِّي تزوجت امرأة، قال: بالرِّفاء والبنين، قال: وإنّها ولدَتْ غلاماً، قال: ليَهْنِئْك الفارس، قال: وقد كنتُ شَرَطتُ لها صَداقَها، قال: الشرط أمْلَك، قال وقد أردت الخروجَ بها إلى بلدي، قال: الرجل أحقُّ بأهله، قال: فاقض بيننا، قال: قد فعلت، قال: وخرج الحجّاج ذات يوم فأصحَر، وحضَر غَداؤُه فقال: اطلبوا من يتغدَّى معي، فطلبوا فإدا أعرابيٌّ في شَملةٍ، فأُتِيَ به، فقال: السَّلام عليكم، قال: هلمَّ أيها الأعرابي، قال: قد دعاني مَن هو أكرم منك فأجبته، قال: ومن هو؟ قال: دعاني اللَّه ربِّي إلى الصوم فأنا صائم؟ قال: وصومٌ في مثل هذا اليوم الحارّ قال: صمتُ ليومٍ هو أحرُّ منه، قال: فأفطِر اليومَ وصمْ غداً، قال: ويضمنُ لي الأمير أني أعيش إلى غد؟ قال: ليس ذلك إليه؟ قال: فكيف يسألني عاجلاً بآجل ليس إليه؟ قال: إنّه طعام طيّب، قال: ما طَيَّبَهُ خبّازك ولا طبّاخُك؟ قال: فمن طيَّبه؟ قال: العافية، قال الحجاج: تاللَّه إن رأيتُ كاليوم أخرِجوه، قال أبو عمرو: خرج صَعصعةُ بنُ صُوحانَ عائداً إلى مكَّة، فلقيه رجلٌ فقال له: يا عبد اللَّه، كيف تركتَ الأرض؟ قال: عَرِيضة أريضة، قال: إنَّما عنيت السماء، قال: فوقَ البشَر، ومدَى البصر، قال: سبحان اللَّه، إنّما أردت السحاب قال: تحت الخضراء، وفوقَ الغبراء، قال: إنّما أعني المطر، قال: عَفَّى الأثر، وملأ القُتَر، وبلَّ الوَبر، ومُطِرْنا أحيا المطَر، قال: إنسيٌّ أنت أم جنّي؟ قال: بل إنسيٌّ، من أمَة رجلٍ مَهديّ، صلى الله عليه وسلم، وقال بشار:

وحمدٍ كعَصْب البُرِد حَمَّلتُ صاحِبي

 

إلى مِلكٍ للِصّـالِـحـينَ قَـرِينِ

وقال أيضاً:

وبِكْرٍ كنُوَّارِ الرِّياضِ حدِيثُها

 

تَرُوقُ بِوَجْهٍ واضِحٍ وقَوَامِ

وكتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك بن مروان: أمّا بعدُ فإنّا نخبر أميرَ المؤمنين أنَّه لم يصب أرضَنا وابلٌ منذ كتبتُ أخبره عن سُقيا اللَّه إيّاناً، إلاَّ ما بلَّ وجهَ الأرض: من الطَّشّ، والرشّ، والرّذاذ حتّى دَقِعَت الأرض واقشعرت واغبرت وثارت في نواحيها أعاصيره تذرو دماق الأرض من تُرابها، وأمسك الفلاّحون بأيديهم من شِدّة الأرض واعتزازها وامتناعها، وأرضُنا أرض سريع تغيرها، وشيكٌ تنكُّرها، سيِّئٌ ظَنُّ أهلها عند قُحوط المطر، حتّى أرسل اللَّه بالقَبول يوم الجمعة، فأثارت زِبرجاً متقطعاً متمصّراً، ثم أعقبَتْه الشَّمال يومَ السبت فطَحْطَحت عنه جَهَامَه، وألَّفتْ متقطِّعَه، وجمعت متمصِّره، حتَّى انتضَدَ فاستوى، وطَمَا وطحا، وكان جوناً مُرثَعِنّاً1قريباً رواعده، ثم عادت عوائده بوابلِ منهملٍ منسجل يردُف بعضُه بعضاً، كلّما أردف شؤبوب أردفَته شآبيبُ لشدة وقعه في العِرَاص، وكتبتُ إلى أمير المؤمنين وهي ترمي بمثل قِطَعِ القُطن، قد ملأ اليَبَاب، وسدَّ الشِّعاب، وسَقَى منها كلُّ ساقٍ، فالحمد للَّه الذي أنزل غيثَه، ونشر رحمتَه من بعد ما قَنطوا، وهو الوليُّ الحميد، والسلام،وهذا أبقاك اللَّه آخر ما ألَّفناه من كتاب البيان والتبيُّن، ونرجو أن نكون غير مقصِّرين فيما اخترناه من صَنعته، وأردناه من تأليفه، فإن وَقَع على الحال التي أردنا، وبالمنزلة التي أمَّلنا، فذلك بتوفِيقِ اللَّه وحُسن تأييده، وإن وقَع بخلافَهَا فما قصَّرنا في الاجتهاد ، ولكنْ حُرِمْنَا التوفيق، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.