اللفظ يطلق والمراد به غير ظاهره

اعلم أن لهذا الضرب اتساعاً وتفنناً لا إلى غاية، إلا أنه على اتساعه يدور في الأمر الأعم على شيئين: الكناية والمجاز. والمراد بالكناية هاهنا أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود، فيومىء به إليه، ويجعله دليلاً عليه، مثال ذلك قولهم: هو طويل النجاد يريدون طويل القامة، وكثير رماد القدر يعنون كثير القرى. وفي المرأة: نؤوم الضحى والمراد أنها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها. فقد أرادوا في هذا كله كما ترى معنى، ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به، ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر، من شأنه أن يردفه في الوجود، وأن يكون إذا كان. أفلا ترى أن القامة إذا طالت طال النجاد، وإذا كثر القرى كثر رماد القدر؟

وإذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها ردف ذلك أن تنام إلى الضحى.

وأما المجاز فقد عول الناس في حده على حديث النقل، وأن كل لفظ نقل عن موضوعه فهو مجاز. والكلام في ذلك يطول. وقد ذكرت ما هو الصحيح من ذلك في موضع أخر. وأنا أقتصر هاهنا على ذكر ما هو أشهر منه وأظهر. والاسم والشهرة فيه لشيئين: الاستعارة والتمثيل. وإنما يكون التمثيل مجازاً إذا جاء على حد الاستعارة.

فالاستعارة أن تريد تشبيه الشيء بالشيء، فتدع أن تفصح بالتشبيه وتظهره، وتجيء إلى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه، تريد أن تقول: رأيت رجلاً هو كالأسد في شجاعته وقوة بطشه سواء، فتدع ذلك وتقول: رأيت أسداً. وضرب آخر من الاستعارة وهو ما كان نحو قوله: من الكامل:

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

هذا الضرب، وإن كان الناس يضمونه إلى الأول، حيث يذكرون الاستعارة فليسا سواء، وذاك أنك في الأول تجعل الشيء الشيء ليس به. وفي الثاني تجعل للشيء الشيء ليس له. تفسير هذا أنك إذا قلت: رأيت أسداً، فقد ادعيت في إنسان أنه أسد وجعلته إياه ولا يكون الإنسان أسداً. وإذا قلت: إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فقد ادعيت أن للشمال يداً. ومعلوم أنه لا يكون للريح يد.

وهاهنا أصل يجب ضبطه، وهو أن جعل المشبه المشبه به على ضربين: أحدهما تنزله منزلة الشيء تذكره بأمر قد ثبت له فأنت لا تحتاج إلى أن تعمل في إثباته وتزجيته وذلك حيث تسقط ذكر المشبه من الشيئين، ولا تذكره بوجه من الوجوه، كقولك: رأيت أسداً.

والثاني أن تجعل ذلك كالأمر الذي يحتاج إلى أن تعمل في إثباته وتزجيته. وذلك حيث تجري اسم المشبه به صراحة على المشبه فتقول: زيد أسد، وزيد هو الأسد. أو نجيء به على وجه يرجع إلى هذا كقولك: إن لقيته لقيت به أسداً، وإن لقيته ليلقينك منه الأسد. فأنت في هذا كله تعمل في إثبات كونه أسداً أو الأسد، وتضع كلامك له. وأما في الأول فتخرجه مخرج ما لا يحتاج فيه إلى إثبات وتقرير. والقياس يقتضي أن يقال في هذا الضرب، أعني ما أنت تعمل في إثباته وتزجيته أنه تشبيه على حد المبالغة، ويقتصر على هذا القدر ولا يسمى استعارة.

وأما التمثيل الذي يكون مجازاً لمجيئك به على حد الاستعارة، فمثاله قولك للرجل يتردد في الشيء بين فعله وتركه: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى. فالأصل في هذا: أراك في ترددك كمن يقدم رجلاً ويؤخر أخرى. ثم اختصر الكلام، وجعل كأنه يقدم الرجل ويؤخرها على الحقيقة، كما كان الأصل في قولك: رأيت أسداً: رأيت رجلاً كالأسد ثم جعل كأنه الأسد على الحقيقة. وكذلك تقول للرجل يعمل غير معمل: أراك تنفخ في غير فحم وتخط على الماء، فتجعله في ظاهر الأمر كأنه ينفخ ويخط، والمعنى على أنك في فعلك كمن يفعل ذلك. وتقول للرجل يعمل الحيلة حتى يميل صاحبه إلى الشيء قد كان يأباه ويمتنع منه: ما زال يفتل في الذروة والغارب حتى بلغ منه ما أراد. فتجعله بظاهر اللفظ كأنه كان منه فتل في ذروة وغارب. والمعنى على أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقاً يشبه حاله فيه حال الرجل يجيء إلى البعير الصعب فيحكه، ويفتل الشعر في ذروته وغاربه حتى يسكن ويستأنس. وهو في المعنى نظير قولهم: فلان يقرد فلاناً، يعنى به أنه يتلطف له، فعل الرجل ينزع القراد من البعير ليلذه ذلك، فيسكن ويثبت في مكانه، حتى يتمكن من أخذه.

وهكذا كل كلام رأيتهم قد نحوا فيه التمثيل، ثم لم يفصحوا بذلك، وأخرجوا اللفظ مخرجه إذا لم يريدوا تمثيلاً. قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح، والتعريض أوقع من التصريح، وأن للاستعارة مزية وفضلاً، وأن المجاز أبداً أبلغ من الحقيقة. إلا أن ذلك وإن كان معلوماً على الجملة فإنه لا تطمئن نفس العاقل في كل ما يطلب العلم به حتى يبلغ فيه غايته، وحتى يغلغل الفكر إلى زواياه، وحتى لا يبقى عليه موضع شبهة ومكان مسألة، فنحن وإن كنا نعلم أنك إذا قلت: هو طويل النجاد وهو جم الرماد، كان أبهى لمعناك، وأنبل من أن تدع الكناية وتصرح بالذي تريد. وكذا إذا قلت: رأيت أسداً، كان لكلامك مزية لا تكون إذا قلت: رأيت رجلاً هو في معنى الشجاعة وفي قوة القلب وشدة البطش، وأشباه ذلك وإذا قلت: بلغني أنك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، كان أوقع من صريحه الذي هو قولك بلغني أنك تتردد في أمرك، وأنك في ذلك كمن يقول: أخرج ولا أخرج. فيقدم رجلاً ويؤخر أخرى. ونقطع على ذلك حتى لا يخالجنا شك فيه، فإنما تسكن أنفسنا تمام السكون عرفنا السبب في ذلك، والعلة، ولم كان كذلك، وهيأنا له عبارة تفهم عنا من نريد إفهامه وهذا هو قول في ذلك.

اعلم أن سبيلك أولاً أن تعلم أن ليست المزية التي تثبتها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على ظاهره، والمبالغة التي تدعي لها في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم إليها بخبره، ولكنها في طريق إثباته لها وتقريره إياها. تفسير هذا أن ليس المعنى إذا قلنا: الكناية أبلغ من التصريح أنك لما كنيت عن المعنى زدت في ذاته، بل المعنى أنك زدت في إثباته، فجعلته أبلغ وآكد وأشد. فليست المزية في قولهم: جم الرماد أنه دل على قرى أكثر، بل المعنى أنك أثبت له القرى الكثير من وجه، وهو أبلغ. وأوجبته إيجاباً أشد، وادعيته دعوى أنت بها أنطق، وبصحتها أوثق.

وكذلك ليست المزية التي تراها لقولك: رأيت أسداً على قولك: "رأيت رجلاً لا يتميز من الأسد في شجاعته وجرأته أنك قد أفدت بالأول زيادة في مساواته الأسد، بل أنك أفدت تأكيداً وتشديداً وقوة في إثباتك له هذه المساواة، وفي تقريرك لها. فليس تأثير الاستعارة إذاً في ذات المعنى وحقيقته، بل في إيجابه والحكم به.

وهكذا قياس التمثيل ترى المزية أبداً في ذلك تقع في طريق إثبات المعنى دون المعنى نفسه. فأذا سمعتهم يقولون: إن من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني نبلاً فضلاً، وتوجب لها شرفاً، وأن تفخمها في نفوس السامعين، وترفع أقدارها عند مخاطبين، فإنهم لا يريدون الشجاعة والقرى وأشباه ذلك من معاني الكلم المفردة، وإنما يعنون إثبات معاني هذه الكلم لمن تثبت له ويخبر بها عنه.

هذا ما ينبغي للعاقل أن يجعله على ذكر منه أبداً، وأن يعلم أن ليس لنا إذا نحن تكلمنا في البلاغة والفصاحة مع معاني الكلم المفردة شغل، ولا هي منا بسبيل، وإنما نعمد إلى الأحكام التي تحدث بالتأليف والتركيب. وإذ قد عرفت مكان هذا المزية والمبالغة التي لاتزال تسمع بها، وأنها في الإثبات دون المثبت فإن لها في كل واحد من هذه الأجناس سبباً وعلة.

أما الكناية فإن السبب في أن كان للإثبات بها مزية لا تكون للتصريح أن كل عاقل يعلم إذا رجع إلى نفسه أن إثبات الصفة بإثبات دليلها، وإيجابها بما هو شاهد في جودها، آكد وأبلغ في الدعوى من أن تجيء إليها فتثبتها ساذجاً غفلاً وذلك أنك لا تدعي، شاهد الصفة ودليلها إلا والأمر ظاهر معروف، وبحيث لا يشك فيه ولا يظن بالمخبر التجوز والغلط.

وأما الاستعارة فسبب ما ترى لها من المزية والفخامة أنك إذا قلت: رأيت أسداً كنت قد تلطفت لما أردت إثباته له من فرط الشجاعة، حتى جعلتها كالشيء الذي يجب له الثبوت والحصول، وكالأمر الذي نصب له دليل يقطع بوجوده. وذلك أنه إذا كان أسداً فواجب أن تكون له تلك الشجاعة العظيمة، وكالمستحيل أو الممتنع أن يعرى عنها. وإذا صرحت بالتشبيه فقلت: رأيت رجلاً كالأسد كنت قد أثبتها إثبات الشيء يترجح بين أن يكون، وبين أن لا يكون، ولم يكن من حديث الوجوب في شيء.

وحكم التمثيل حكم الاستعارة سواء؟ فإنك إذا قلت: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فأوجبت له الصورة التي يقطع معها بالتحير والتردد كان أبلغ لا محالة من أن تجري على الظاهر. فتقول: قد جعلت تتردد في أمرك؟ فأنت كمن يقول: أخرج ولا أخرج، فيقدم رجلاً ويؤخر أخرى.

 اعلم أن من شأن هذه الأجناس أن تجري فيها الفضيلة، وأن تتفاوت التفاوت الشديد. أفلا ترى أنك تجد في الاستعارة العامي المبتذل، كقولنا: رأيت أسداً، ووردت بحراً، ولقيت بحراً؟ والخاصي النادر الذي لا تجده إلا في كلام الفحول، ولا يقوى عليه إلا أفراد الرجال، كقوله، من الطويل:

وسالت بأعناق المطي الأباطح

أراد أنها سارت سيراً حثيثاً في غاية السرعة، وكانت سرعة في لين وسلاسة، كأنه كانت سيولاً وقعت في تلك الأباطح فجرت بها. ومثل هذه الاستعارة في الحسن واللطف وغلو الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول الآخر، من البسيط، :

سالت عليه شعاب الحي حين دعا

 

أنصاره بوجوه كـالـدنـانـير

أراد أنه مطاع في الحي، وأنهم يسرعون إلى نصرته، وأنه لا يدعوهم لحرب، أو نازل خطب إلا أتوه وكثروا عليه، وازدحموا حواليه، حتى تجدهم كالسيول تجيء من هاهنا وهاهنا، وتنصب من هذا المسيل وذلك، حتى يغص بها الوادي ويطفح منها.

ومن بديع الاستعارة ونادرها إلا أن جهة الغرابة فيه غير جهتها في هذا، قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرساً له، وأنه مؤدب، وأنه إذا نزل عنه، وألقى عنانه في قربوس سرجه وقف مكانه إلى أن يعود إليه، من الكامل:

عودته فيمـا أزور حـبـائبـي

 

إهماله وكذاك كل مـخـاطـر

وإذا احتبى قربوسه بـعـنـانـه

 

علك الشكيم إلى انصراف الزائر

فالغرابة هاهنا في الشبه نفسه، وفي أن استدراك أن هيئة العنان في موقعه من قربوس سرج كالهيئة في موضع الثوب من ركبة المحتبي. وليست الغرابة في قوله:

وسالت بأعناق المطي الأباطح

على هذه الجملة، وذلك أنه لم يغرب لأن جعل المطي في سرعة سيرها وسهولته الماء يجري في الأبطح، فإن هذا شبه معروف ظاهر. ولكن الدقة واللطف في خصوصية أفادها بأن جعل سال فعلاً للأباطح، ثم عداه بالباء، ثم بأن أدخل الأعناق في البيت فقال: بأعناق المطي، ولم يقل بالمطي، ولو قال: سالت المطي في الأباطح لم يكن شيئاً. وكذلك الغرابة في البيت الآخر ليس في مطلق معنى سال، ولكن في تعديته، على والباء وبأن جعله فعلاً لقوله: شعاب الحي. ولولا هذه الأمور كلها لم يكن هذا حسن. وهذا موضع يحق الكلام فيه.

وهذه أشياء من هذا الفن، من البسيط:

اليوم يومان مذ غيبت عن بصري

 

نفسي فداؤك ما ذنبي فأعتـذر

أمسي وأصبح لا ألقاك، واحزنـا

 

لقد تأنق في مكروهي الـقـدر

سوار بن المضرب وهو لطيف جداً، من الوافر:

بعرض تنوفة للريح فيها

 

نسيم لا يروع الترب وان

بعض الأعراب، من الكامل:

ولرب خصم جاهدين ذوي شذاً

 

تقذي عيونهم بهتـر هـاتـر

لد ظأرتهم على ما سـاءهـم

 

وخسأت باطلهم بحق ظاهـر

المقصود: لفظة خسأت.
ابن المعتز، من الرجز:

حتى إذا ما عرف الصيد الضار

 

وأذن الصبح لنا في الإبصـار

المعنى: حتى إذا تهيأ لنا أن نبصر شيئاً، لما كان تعذر الإبصار منعاً من الليل، جعل إمكانه عند ظهور الصبح إذناً من الصبح. وله من مجزوء الوافر:

بخيل قد بليت بـه

 

يكد الوعد بالحجج

وله، من الطويل:

يناجيني الإخلاف من تحت مطلـه

 

فتختصم الآمال واليأس في صدري

ومما هو في غاية الحسن، وهو من الفن الأول قول الشاعر، أنشده الجاحظ:

لقد كنت في قوم عـلـيك أشـحة

 

بنفسك، إلا أن مـاطـاح طـائح

يودون لو خاطوا عليك جلـودهـم

 

ولا يدفع الموت النفوس الشحائح؟

قال: وإليه ذهب بشار في قوله، من الرجز:

وصاحب كالدمل المـمـد

 

حملته في رقعة من جلدي

ومن سر هذا الباب أنك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت في عدة مواضع، ثم ترى لها في بعض ذلك ملاحة لا تجدها في الباقي. مثال ذلك أنك تنظر إلى لفظة الجسر في قول أبي تمام، من البسيط:

لا يطمع المرء أن يجتاب لجتـه

 

بالقول ما لم يكن جسراً له العمل

وقوله، من البسيط:

بصرت بالراحة العظمى فلم ترها

 

تنال إلا على جسر من التـعـب

فترى لها في الثاني حسناً لا تراه في الأول. ثم تنظر إليها في قول ربيعة الرقي، من البسيط:  

قولي: نعم، ونعم إن قلـت واجـبة

 

قالت: عسى، وعسى جسر إلى نعم

فترى لها لطفاً وخلابة وحسناً ليس الفضل فيه بقليل.
ومما هو أصل في شرف الاستعارة أن ترى الشاعر قد جمع بين عدة استعارات، قصداً إلى أن يلحق الشكل بالشكل، وأن يتم المعنى والشبه فيما يريد. مثاله قول امرئ القيس، من الطويل:

فقلت له لما تمطى بصلبـه

 

وأردف أعجازاً وناء بكلكل

لما جعل لليل صلباً قد تمطى به ثنى ذلك، فجعل له أعجازاً قد أردف بها الصلب، وثلث فجعل له كلكلاً قد ناء به. فاستوفى له جملة أركان الشخص، وراعى ما يراه الناظر من سواده إذا نظر قدامه، وإذا نظر إلى ما خلفه، وإذا رفع البصر ومدده في عرض، الجو.