القول في النظم وفي تفسيره

واعلم أن هاهنا أسراراً ودقائق لا يمكن بيانها إلا بعد أن نعد جملة من القول في النظم وفي تفسيره والمراد منه وأي شيء هو، وما محصوله ومحصول الفضيلة فيه. فينبغي أن نأخذ في ذكره، وبيان أمره، وبيان المزية التي تدعى له من أين تأتيه؟ وكيف تعرض فيه؟ وما أسباب ذلك وعلله؟ وما الموجب له؟ وقد علمت إطباق العلماء على تعظيم شأن النظم، وتفخيم قدره، والتنويه بذكره، وإجماعهم أن لا فضل مع عدمه، ولا قدر لكلام إذا هو لم يستقم له، ولو بلغ في غرابة معناه ما بلغ. وبتهم الحكم بأنه الذي لا تمام دونه، ولا قوام إلا به، وأنه القطب الذي عليه المدار، والعمود الذي به الاستقلال. وما كان بهذا المحل من الشرف، وفي هذه المنزلة من الفضل، وموضوعاً هذا الموضع من المزيه، وبالغاً هذا المبلغ من الفضيلة، كان حرى بأن توقظ له الهمم، وتوكل به النفوس، وتحرك له الأفكار، وتستخدم فيه الخواطر. وكان العاقل جديراً أن لا يرضى من نفسه بأن يجد فيه سبيلاً إلى مزية علم، وفضل استبانة، وتلخيص حجة، وتحريردليل. ثم يعرض عن ذلك صفحاً، ويطوي دونه كشحاً، وأن يربأ بنفسه، وتدخل عليه الأنفة من أن يكون في سبيل المقلد الذي لا يبت حكماً، ولا يقتل الشيء علماً، ولا يجد ما يبرىء من الشبهة، ويشفي غليل الشاك. وهو يستطيع أن يرتفع عن هذه المنزلة، ويباين من هو بهذه الصفة، فإن ذلك دليل ضعف الرأي، وقصر الهمة ممن يختاره ويعمل عليه.

واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخل بشيء منها. وذلك أنا لا نعلم شيئاً يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه.

فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك: زيد منطلق، و زيد ينطلق وينطلق زيد، ومنطلق زيد وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق وزيد هو منطلق.

وفي الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك: إن تخرج أخرج، وإن خرجت خرجت، وإن تخرج فأنا خارج، وأنا خارج إن خرجت، وأنا إن خرجت خارج. وفي الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك: جاءني زيد مسرعاً، وجاءني يسرع وجاءني وهو مسرع، أو هو يسرع، وجاءني قد أسرع، وجاءني وقد أسرع. فيعرف لكل من ذلك موضعه، ويجيء به حيث ينبغي له.

وينظر في الحروف التي تشترك في معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى، فيضع كلاً من ذلك في خاص معناه، نحو أن يجيء ب ما في نفي الحال وب لا إذا أراد نفي الاستقبال، وب إن فيما يترجح بين أن يكون وأن لا يكون، وب إذ فيما علم أنه كائن.

وينظر في الجمل التي تسرد؟ فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل، ثم يعرف فيما حقه الوصل موضع الواو من موضع الفاء، وموضع الفاء من موضع ثم وموضع أو، وموضع لكن من موضع بل. ويتصرف في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير في الكلام كله، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيضع كلا من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له. هذا هو السبيل، فلست بواجد شيئاً يرجع صوابه إن كان صواباً، وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاماً قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة، وذلك الفساد، وتلك المزية، وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه.

هذه جملة لا تزداد فيها نظراً، إلا ازددت لها تصوراً، وازدادت عندك صحة، وازددت بها ثقة وليس من أحد تحركه لأن يقول في أمر النظم شيئاً إلا وجدته قد اعترف لك بها أو ببعضها، ووافق فيها. درى ذلك أو لم يدر. ويكفيك أنهم قد كشفوا عن وجه ما أردناه حيث ذكروا فساد النظم، فليس من أحد يخالف في نحو قول الفرزدق، من الطويل:

وما مثله في الناس إلا مملكا

 

أبو أمه حي أبوه يقـاربـه

وقول المتنبي، من الكامل:

ولذا اسم أغطية العيون جفونها

 

من أنها عمل السيوف عوامل

وقوله:

الطيب أنت إذا أصابك طيبـه

 

والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل

وقوله: من الطويل:

وفاؤكما كالربع أشجاة طاسمه

 

بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه

وقول أبي تمام، من الكامل:

ثانيه في كبد السماء ولم يكن

 

لاثنين ثان إذ هما في الغار

وقوله، من البسيط:

يدي لمن شاء رهن لم يذق جـرعـاً

 

من راحتيك درى ما الصاب والعسل

وفي نظائر ذلك مما وصفوه بفساد النظم، وعابوه من جهة سوء التأليف، أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب، وصنع في تقديم أو تأخير أو حذف وإضمار أو غير ذلك ما ليس له أن يصنعه، وما لا يسوغ، ولا يصح على أصول هذا العلم.

وإذا ثبت أن سبب فساد النظم واختلاله أن لا يعمل بقوانين هذا الشأن ثبت أن سبب صحته أن يعمل عليها. ثم إذا ثبت أن مستنبط صحته وفساده من هذا العلم ثبت أن الحكم كذلك في مزيته، والفضيلة التي تعرض فيه. وإذا ثبت جميع ذلك ثبت أن ليس هو شيئاً غير توخي معاني هذا العلم وأحكامه فيما بين الكلم. والله الموفق للصواب.

وإذ قد عرفت ذلك فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل، ثم جعلوه كذلك من أجل النظم، خصوصاً دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر من معنى لطيف أو حكمة أو أدب أو استعارة أو تجنيس، أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم. وتأمله، فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت فانظر إلى حركات الأريحية مم كانت؟ وعند ماذا ظهرت؟ فإنك ترى عياناً أن الذي قلت لك كما قلت. اعمد إلى قول البحتري، من المتقارب:

بلونا ضرائب من قد نـرى

 

فما إن رأينا لفتح ضريبـا

هو المرء أبدت له الحادثـا

 

ت عزماً وشيكاً ورأياً صليبا

تنقل في خـلـقـي سـؤدد

 

سماحاً مرجى وبأساً مهيبـا

فكالسيف إن جئته صارخـاً

 

وكالبحر إن جئته مستثيبـا

فإذا رأيتها قد راقتك، وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزاراً في نفسك، فعد فانظر في السبب، واستقص في النظر، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وأخر وعرف ونكر، وحذف وأضمر، وأعاد وكرر، وتوخى على الجملة وجهاً من الوجوه التي يقتضيها علم النحو، فأصاب في ذلك كله، ثم لطف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب الفضيلة أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها قوله: هو المرء أبدت له الحادثه ثات ثم قوله: تنقل في خلقي سؤدد بتنكير السؤدد، وإضافة الخلقين إليه. ثم قوله: فكالسيف، وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ لأن المعنى: لا محالة فهو كالسيف. ثم تكريره الكاف في قوله: وكالبحر ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطاً جوابه فيه. ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالاً على مثال ما أخرج من الآخر، وذلك قوله صارخاً هناك ومستثيباً، هاهنا. لا ترى حسناً تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت، أوما هو في حكم ما عددت، فأعرف ذلك. وإن أردت أظهر أمراً في هذا المعنى فانظر إلى قول إبراهيم بن العباس:

فلو إذ نبا دهر وأنكر صاحب

 

وسلط أعداء وغاب نصـير

تكون عن الأهواز داري بنجوة

 

ولكن مقادير جرت وأمـور؟

وإني لأرجو بعد هذا محمـداً

 

لأفضل ما يرجى أخ ووزير

فإنك ترى ما ترى من الرونق والطلاوة، ومن الحسن والحلاوة، ثم تتفقد السبب في ذلك فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو لا إذ نبا على عامله الذي هو تكون. وأن لم يقل: فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر. ثم أن قال: تكون ولم يقل: كان، ثم أن نكر الدهر ولم يقل: فلو إذ نبا الدهر، ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد. ثم أن قال: وأنكر صاحب ولم يقل: وأنكرت صاحباً. ترى في البيتين الأولين شيئاً غير الذي عددته لك، تجعله حسناً في النظم، وكله من معاني النحو كما ترى. وهكذا السبيل أبداً في كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى النظم وفضل وشرف أحيل فيهما عليه.

مزايا النظم بحسب الموضع المراد والغرض

فصل في أن مزايا النظم بحسب الموضع وبحسب المعنى المراد والغرض المقصود وإذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة، ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازدياداً بعدها.

ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض.

تفسير هذا أنه ليس إذا راقك التنكير في سؤدد من قوله: تنقل في خلقي سؤدد، وفي دهر من قوله: فلو إذ نبا دهر فإنه يجب أن يروقك أبداً وفي كل شيء. ولا إذا استحسنت لفظ ما لم يسم فاعله في قوله: وأنكر صاحب، فإنه ينبغي أن لا تراه في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك هاهنا. بل ليس من فضل ومزية إلا بحسب الموضع، وبحسب المعنى الذي تريد، والغرض الذي تؤم، وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش. فكما أنك ترى الرجل قد تهور في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها، ومقاديرها، وكيفية مزجه لها، وترتيبه إياها، إلى ما لم يتهد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب. كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيهما معاني النحو، ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم.

واعلم أن من الكلام ما أنت ترى المزية في نظمه والحسن كالأجزاء من الصبغ تتلاحق، وينضم بعضها إلى بعض، حتى تكثر في العين. فأنت لذلك لا تكبر شأن صاحبه ولا تقضي له بالحذق والاستاذية، وسعة الذرع، وشدة المنة حتى تستوفي القطعة، وتأتي على عدة أبيات، وذلك ما كان من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري. ومنه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة، ويأتيك منه ما يملأ العين ضربة، حتى تعرف البيت الواحد مكان الرجل من الفضل، وموضعه من الحذق، وتشهد له بفضل المنة وطول الباع وحتى تعلم إنه لم تعلم القائل أنه من قبل شاعر فحل، وأنه خرج من تحت يد صناع. وذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شيء فقلت: هذا هذا. وما كان كذلك فهو الشعر الشاعر، والكلام الفاخر، والنمط العالي الشريف، والذي لا تجده إلا في شعر الفحول البزل، ثم المطبوعين الذي يلهمون القول إلهاماً.

ثم إنك تحتاج إلى أن تستقري عدة قصائد، بل أن تفلي ديواناً من الشعر حتى تجمع منه عدة أبيات، وذلك ما كان مثل قول الأول ، وتمثل به أبو بكر الصديق رضوان الله عليه حين أتاه كتاب خالد بالفتح في هزيمة الأعاجم، من الوافر:

تمنانا ليلـقـانـا بـقـوم

 

تخال بياض لأمهم السرابا

فقد لاقيتنا فرأيت حـربـاً

 

عواناً تمنع الشيخ الشرابا

انظر إلى موضع الفاء في قوله:

فقد لاقيتنا فرأيت حرباً

ومثل قول العباس بن الأحنف، من البسيط:

قالوا: خراسان أقصى ما يراد بنا

 

ثم القفول، فقد جئنا خراسـانـا

انظر إلى موضع الفاء وثم قبلها. ومثل قول ابن الدمينة، من الطويل:

أبيني أفي يمنى يديك جعلتـنـي

 

فأفرح؟ أم صيرتني في شمالك؟

أبيت كأني بين شقين من عصـا

 

حذار الردى أو خيفة من زيالك

تعاللت كي أشجى وما بك علة

 

تريدين قتلي؟ قد ظفرت بذلك

انظر إلى الفصل والاستئناف في قوله:

تريدين قتلي؟ قد ظفرت بذلك

ومثل قول أبي حفص الشطرنجي، وقاله على لسان علية أخت الرشيد، وقد كان الرشيد عتب عليها، من البسيط:

لو كان يمنع حسن العقل صاحبـه

 

من أن يكون له ذنب إلـى أحـد

كانت علية أبرا الناس كـلـهـم

 

من أن تكافا بسوء آخـر الأبـد

ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه

 

قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي

انظر إلى قوله: قد كنت أحسب، وإلى مكان هذا الاستئناف.

ومثل قول أبي دؤاد، من الخفيف:

ولقد أغتدي يدافع ركنـي

 

أحوذي ذو ميعة إضريج

سلهب شرجب كأن رماحاً

 

حملته وفي السراة دموج

انظر إلى التنكير في قوله: كأن رماحاً. ومثل قول ابن البواب، من مجزوء الوافر:

أتيتك عائذاً بك مـن

 

ك لما ضاقت الحيل

وصيرني هواك وبي

 

لحيني يضرب المثل

فإن سلمت لكم نفسي

 

فما لاقيتـه جـلـل

وإن قتل الهوى رجلاً

 

فإني ذلك الـرجـل

انظر إلى الإشارة والتعريف في قوله: فإني ذلك الرجل. ومثل قول عبد الصمد، من السريع:

مكتئب ذو كـبـد حـرى

 

تبكي عليه مقلة عبـرى

يرفع يمنـاه إلـى ربـه

 

يدعو وفوق الكبد اليسرى

انظر إلى لفظ يدعو وإلى موقعها. ومثل قول جرير:

لمن الديار ببرقة الـروحـان

 

إذ لا نبيع زماننـا بـزمـان

صدع الغواني إذ رمين فؤاده

 

صدع الزجاجة، ما لذاك تدان

انظر إلى قوله: ما لذاك تدان، وتأمل حال هذا الاستئناف. ليس من بصير عارف بجوهر الكلام، حساس متفهم لسر هذا الشأن ينشد أو يقرأ هذه الأبيات إلا لم يلبث أن يضع يده في كل بيت منها على الموضع الذي أشرت إليه يعجب ويعجب ويكبر شأن المزية به والفضل.

شواهد على النظم يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع

واعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر، ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت أن تتحد أجزاء الكلام، ويدخل بعضها في بعض، ويشتد ارتباط ثان منها بأول، وأن يحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعاً واحداً، وأن يكون حالك فيها حال الباني، يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك. نعم وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين. وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حد يحصره وقانون يحيط به، فإنه يجيء على وجوه شتى وأنحاء مختلفة. فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء معاً كقول البحتري، من الطويل:

إذا ما نهى الناهي فلج بي الهـوى

 

أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر

وقوله، من الطويل:

إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها

 

تذكرت القربى ففاضت دموعها

فهذا نوع. ونوع منه آخر قول سليمان بن داود القضاعي، من الوافر:

فبينا المرء في علياء أهوى

 

ومنحط أتيح له اعـتـلاء

وبينا نعمة إذ حـال بـؤس

 

وبؤس إذ تعقـبـه ثـراء

ونوع ثالث وهو ما كان كقول كثير، من الطويل:

وإني وتهيامي بعزة بعدمـا

 

تخليت مما بيننا وتخـلـت

لكالمرتجي ظل الغمامة كلما

 

تبوأ منها للمقيل اضمحلـت

وكقول البحتري، من الطويل:

لعمرك إنا والزمـان كـمـا جـنـت

 

على الأضعف الموهون عادية الأقوى

ومنه التقسيم، وخصوصاً إذا قسمت، ثم جمعت كقول حسان، من البسيط:

قوم إذا حاربوا ضروا عـدوهـم

 

أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك منهم غـير مـحـدثة

 

إن الخلائق فاعلم شرها الـبـدع

ومن ذلك، وهو شيء في غاية الحسن، قول القائل، من البسيط:

لو أن ما أنتـم فـيه يدوم لـكـم

 

ظننت ما أنا فـيه دائمـاً أبـداً

لكن رأيت الليالي غـير تـاركة

 

ما سر من حادث أو ساء مطردا

فقد سكنت إلـى أنـي وأنـكـم

 

سنستجد خلاف الحالتـين غـدا

قوله: سنستجد خلاف الحالتين غدا جمع فيما قسم لطيف. وقد ازداد لطفاً بحسن ما بناه عليه، ولطف ما توصل به إليه، من قوله: فقد سكنت إلى أني وأنكم.

وإذ قد عرفت هذا النمط من الكلام، وهو ما تتحد أجزاؤه حتى يوضع وضعاً واحداً، فاعلم أنه النمط العالي، والباب الأعظم، والذي لا ترى سلطان المزية يعظم في شيء كعظمه فيه. ومما ندر منه ولطف مأخذه، ودق نظر واضعه، وجلى لك عن شأو قد تحسر دونه العتاق، وغاية يعيا من قبلها المذاكي القرح، الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين بيت امرىء القيس، من الكامل:

كأن قلوب الطير رطبـاً ويابـسـاً

 

لدى وكرها العناب والحشف البالي

وبيت الفرزدق، من الكامل:

والشيب ينهض في الشباب كأنه

 

ليل يصيح بجانـبـيه نـهـار

وبيت بشار، من الطويل:

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

 

وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه

ومما أتى في هذا الباب مأتى أعجب مما مضى كله قول زياد الأعجم، من الطويل:

وإنا وما تلقى لنا إن هـجـوتـنـا

 

لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق

وإنما كان أعجب لأن عمله أدق، وطريقه أغمض، ووجه المشابكة فيه أغرب.

واعلم أن من الكلام ما أنت تعلم إذا تدبرته أن لم يحتج واضعه إلى فكر وروية حتى انتظم له، بل ترى سبيله في ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لآل فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة، بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين. وذلك إذا كان معناك معنى لا يحتاج أن تصنع فيه شيئاً، غير أن تعطف لفظاً على مثله كقول الجاحظ: جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسباً، وبين الصدق سبباً، وحبب إليك التثبت، وزين في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذل اليأس، وعرفك ما في الباطل من الذلة، وما في الجهل من القلة. وكقول بعضهم: لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمين، ما أفصح لسانه، وأحسن بيانه، وأمضى جنانه، وأبل ريقه، وأسهل طريقه. ومثل قول النابغة في الثناء المسجوع: أيفاخرك الملك اللخمي؟ فو الله لقفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولأخمصك خير من رأسه، ولخطؤك خير من صوابه، ولعيك خير من كلامه، ولخدمك خير من قومه. وكقول بعض البلغاء في وصف اللسان: اللسان أداة يظهر بها حسن البيان، وظاهر يخبر عن الضمير، وشاهد ينبئك عن غائب، وحاكم يفصل به الخطاب، وواعظ ينهى عن القبيح، ومزين يدعو إلى الحسن، وزارع يحرث المودة، وحاصد يحصد الضغينة، ومله يونق الأسماع.

فما كان من هذا وشبهه لم يجب به فضل إذا وجب إلا بمعناه أو بمتون ألفاظه، دون نظمه وتأليفه، وذلك لأنه لا فضيلة حتى ترى في الأمر مصنعاً، وحتى تجد إلى التخمر سبيلاً، وحتى تكون قد استدركت صواباً.

فإن قلت: أفليس هو كلاماً قد اطرد على الصواب، وسلم من العيب؟ أفما يكون في كثرة الصواب فضيلة؟ قيل: أما والصواب كما ترى فلا. لأنا لسنا في ذكر تقويم اللسان والتحرز من اللحن، وزيغ الإعراب. فنعتد بمثل هذا الصواب. وإنما نحن في أمور تدرك بالفكر اللطيفة، ودقائق يوصل إليها بثاقب الفهم، فليس درك صواب دركاً فيما نحن فيه حتى يشرف موضعه، ويصعب الوصول إليه، وكذلك لا يكون ترك خطأ تركاً، حتى يحتاج في التحفظ منه إلى لطف نظر، وفضل روية، وقوة ذهن، وشدة تيقظ. وهذا باب ينبغي أن تراعيه، وأن تعنى به. حتى إذا وازنت بين كلام وكلام ودريت كيف تصنع، فضممت إلى كل شكل شكله، وقابلته بما هو نظير له، وميزت ما الصنعة منه في لفظه، مما هي منه في نظمه.

واعلم أن هذا أعني الفرق بين أن تكون المزية في اللفظ، وبين أن تكون في النظم باب يكثر فيه الغلط ترى مستحسناً قد أخطأ بالاستحسان موضعه، فينحن اللفظ ما ليس له. ولا تزال ترى الشبهة قد دخلت عليك في الكلام، قد حسن من لفظه ونظمه، فظننت أن حسنه ذلك كله للفظ منه دون النظم. مثان ذلك أن تنظر إلى قول ابن المعتز، من الطويل:

وإني على إشفاق عيني من العدا

 

لتجمح مني نظرة ثـم أطـرق

فترى أن هذه الطلاوة، وهذا الظرف إنما هو لأن جعل النظر يجمح، وليس هو لذلك، بل لأن قال في أول البيت: وإني، حتى دخل اللام في قوله: التجمح. ثم قوله مني. ثم لأن قال: نظرة ولم يقل: النظر مثلاً. ثم لمكان ثم في قوله: ثم أطرق وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف، وهي اعتراضه بين اسم إن وخبرها بقوله: على إشفاق عيني من العدا.
وإن أردت أعجب من ذلك فيما ذكرت لك فانظر إلى قوله: وقد تقدم إنشاده قبل:

سالت عليه شعاب الحي حين دعا

 

أنصاره بوجوه كـالـدنـانـير

فإنك ترى هذه الاستعارة، على لطفها وغرابتها، إنما تم لها الحسن، وانتهى إلى حيث انتهى بما توخي في وضع الكلام من التقديم والتأخير. وتجدها قد ملحت ولطفت وبمعاونة ذلك ومؤازرته لها. وإن شككت فاعمد إلى الجارين والظرف فأزل كلا منها عن مكانه الذي وضعه الشاعر فيه فقل: سالت شعاب الحي بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره. ثم انظر كيف يكون الحال وكيف يذهب الحسن والحلاوة؟ وكيف تعدم أريحيتك التي كانت؟ وكيف تذهب النشوة التي كنت تجدها؟ وجملة الأمر أن هاهنا كلاماً حسنه للفظ دون النظم، وآخر حسنه للنظم دون اللفظ، وثالثاً قد أتاه الحسن من الجهتين، ووجبت له المزية بكلا الأمرين، والإشكال في هذا الثالث، وهو الذي لا تزال ترى الغلط قد عارضك فيه، وتراك قد حفت فيه على النظم فتركته، وطمحت ببصرك إلى اللفظ وقدرت في حسن كان به، وباللفظ أنه للفظ خاصة.

وهذا هو الذي أردت حين قلت لك: إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه، إلا من بعد العلم، بالنظم والوقوف على حقيقته.

ومن دقيق ذلك وخفيه أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: "واشتعل الرأس شيباً" لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها، ولم يروا للمزية موجباً سواها. هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم، وليس الأمر على ذلك. ولا هذا الشرف العظيم، ولا هذه المزية الجليلة، وهذه الروعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرد الاستعارة. ولكن لأن سلك بالكلام طريق ما يسنذ الفعل فيه إلى الشيء، وهو لما هو سببه فيرفع به ما يسند إليه، ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى، منصوباً بعده مبيناً أن ذلك الإسناد، وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا الثاني، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة، كقولهم: طاب زيد نفساً، وقر عمرو عيناً، وتصبب عرقاً، وكرم أصلاً، وحسن وجهاً. وأشباه ذلك مما تجد الفعل فيه منقولاً من الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه. وذلك أنا نعلم أن اشتعل للشيب في المعنى، وإن كان هو للرأس في اللفظ. كما أن طاب للنفس، وقر للعين، وتصبئب للعرق، وإن أسند إلى ما أسند إليه، يبين أن الشرف كان لأن سلك فيه هذا المسلك، وتوخي به هذا المذهب، أن تدع هذا الطريق فيه، وتأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحاً فتقول: اشتعل شيب الرأس والشيب في الرأس. ثم تنظر: هل تجد ذلك الحسن وتلك الفخامة؟ وهل ترى الروعة التي كنت تراها؟ فإن قلت: فما السبب في أن كان اشتعل إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل؟ ولم بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة؟ فإن السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى الشمول، وأنه قد شاع فيه، وأخذه من نواحيه، وأنه قد استغرقه، وعم جملته، حتى لم يبق من السواد شيء، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به. وهذا ما لا يكون إذا قيل: اشتعل شيب الرأس، أو الشيب في الرأس. بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة. ووزان هذا أنك تقول: اشتعل البيت ناراً. فيكون المعنى أن النار قد وقعت فيه وقوع الشمول، وأنها قد استولت عليه، وأخذت في طرفيه ووسطه. وتقول: اشتعلت النار في البيت. فلا يفيد ذلك، بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه وإصابتها جانباً منه. فأما الشمول، وأن تكون قد استولت على البيت، وابتزته فلا يعقل من اللفظ البتة. ونظير هذا في التنزيل قوله عز وجل: "وفجرنا الأرض عيوناً،" التفجير للعيون في المعنى، وأوقع على الأرض في اللفظ، كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس. وقد حصل بذلك من معنى الشمول هاهنا مثل الذي حصل هناك. وذلك أنه قد أفاد أن الأرض قد كانت صارت عيوناً كلها، وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها. ولو أجري اللفظ على ظاهره فقيل: وفجرنا عيون الأرض، أو العيون في الأرض، لم يفد ذلك، ولم يدل عليه، ولكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرقة في الأرض، وتبجس من أماكن منها.

واعلم أن في الآية الأولى شيئاً آخر من جنس النظم، وهو تعريف الرأس بالألف اللام، وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة، وهو أحد ما أوجب المزية. ولو قيل: واشتعل رأسي. فصرح بالإضافة لذهب بعض الحسن فاعرفه. وأنا أكتب لك شيئاً مما سبيل الاستعارة فيه هذا السبيل، ليستحكم هذا الباب في نفسك، ولتأنس به. فمن عجيب ذلك قول بعض الأعراب من الرجز:

الليل داج كنفا جلـبـابـه

 

والبين محجور على غرابه

ليس كل ما ترى من الملاحة لأن جعل لليل جلباباً، وحجر على الغراب. ولكن في أن وضع الكلام الذي ترى، فجعل الليل مبتدأ وجعل داج خبراً له، وفعلاً لما بعده، وهو الكنفان، وأضاف الجلباب إلى ضمير الليل. ولأن جعل كذلك البين مبتدأ، وأجرى محجوراً خبراً عليه، وأن أخرج اللفظ على مفعول. يبين ذلك أنك لو قلت: وغراب البين محجور عليه أو: قد حجر على غراب البين، لم تجد له هذه الملاحة. وكذلك لو قلت: قد دجا كنفا جلباب الليل، لم يكن شيئاً.


ومن النادر فيه قول المتنبي، من الخفيف:

غصب الدهر والملوك عليها

 

فبناها في وجنة الدهر خالا

قد ترى في أول الأمر أن حسنه أجمع في أن جعل للدهر وجنة، وجعل البنية خالاً في الوجنة. وليس الأمر على ذلك، فإن موضع الأعجوبة في أن أخرج الكلام، مخرجه الذي ترى، وأن أتى بالخال منصوباً على الحال من قوله فبناها. أفلا ترى أنك لو قلت: وهي خال في وجنة الدهر، لوجدت الصورة، غير ما ترى. وشبيه بذلك أن ابن المعتز قال:

يا مسكة العطـار

 

وخال وجه النهار

وكانت الملاحة في الإضافة بعد الإضافة لا في استعارة لفظة الخال، إذ معلوم أنه لو قال: يا خالاً في وجه النهار أو: يا من هو خال في وجه النهار، لم يكن شيئاً. ومن شأن هذا الضرب أن يدخله الاستكراه. قال الصاحب: "إياك والإضافات المتداخلة، فإن ذلك لا يحسن. وذكر أنه يستعمل في الهجاء كقول القائل، من الخفيف:

ياعلي بن حمزة بن عماره

 

أنت والله ثلجة في خياره

ولا شبهة في ثقل ذلك في الأكثر، ولكنه إذا سلم من الاستكراه لطف وملح.
ومما حسن فيه قول ابن المعتز أيضاً، من الطويل:

وظلت تدير الراح أيدي جاذر

 

عتاق دنانير الوجوه مـلاح

ومما جاء منه حسناً جميلاً قول الخالدي في صفة غلام له، من المنسرح:

ويعرف الشعر مثل معرفتي

 

وهو على أن يزيد مجتهـد

وصيرفي القريض وزان دينا

 

ر المعاني الدقاق منتـقـد

ومنه قول أبي تمام، من الكامل:

خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى

 

والليل أسود رقعة الـجـلـبـاب

ومما أكثر الحسن فيه بسبب النظم قول المتنيي، من الطويل:

وقيدت نفسي في ذراك محبة

 

ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا

الاستعارة في أصلها مبتذلة معروفة، فإنك ترى العامي يقول للرجل يكثر إحسانه إليه وبره له، حتى يألفه ويختار المقام عنده: قد قيدني بكثرة إحسانه إلي، وجميل فعله معي حتى صارت نفسي لا تطاوعني على الخروج من عنده، وإنما كان ما ترى من الحسن بالمسلك الذي سلك في النظم والتأليف.