فروق في الخبر

أول ما ينبغي أن يعلم منه أنه ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة، لا تتم الفائدة دونه، وخبر ليس بجزء من الجملة، ولكنه زيادة في خبر آخر سابق له.

فالأول خبر المبتدأ كمنطلق في قولك: زيد منطلق. والفعل كقولك: خرج زيد. فكل واحد من هذين جزء من الجملة، وهو الأصل في الفائدة.

والثانى هو الحال كقولك: جاءني زيد راكباً. وذاك لأن الحال خبر في الحقيقة من حيث إنك تثبت بها المعنى لذي الحال كما تثبت بخبر المبتدأ للمبتدأ، وبالفعل للفاعل. ألا تراك قد أثبت الركوب في قولك: جاءني زيد راكباً لزيد؟ إلا أن الفرق أنك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجيء، وهو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه، ولم تجرد إثباتك للركوب ولم تباشره به، بل ابتدأت فأثبت المجيء، ثم وصلت به الركوب، فالتبس به الإثبات على سبيل التبع للمجيء، وبشرط أن يكون في صلته. وأما في الخبر المطلق نحو: زيد منطلق، وخرج عمرو فإنك مثبت للمعنى إثباتاً جردته له، وجعلته يباشره من غير واسطة، ومن غير أن تتسبب بغيره إليه فاعرفه. وإذ قد عرفت هذا الفرق فالذي يليه من فروق الخبر هو الفرق بين الإثبات إذا كان بالاسم وبينه، إذا كان بالفعل وهو فرق لطيف تمس الحاجة في علم البلاغة إليه. وبيانه أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئاً بعد شيء. وأما الفعل فموضوعه على أنه يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئاً بعد شيء. فإذا قلت: زيد منطلق. فقد أثبت الانطلاق فعلاً له من غير أن تجعله يتجدد، ويحدث منه شيئاً فشيئاً. بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك: زيد طويل وعمرو قصير. فكما لا تقصد هاهنا إلى أن تجعل الطول أو القصر يتجدد ويحدث، بل توجبهما وتثبتهما فقط، وتقضي بوجودهما على الإطلاق، كذلك لا تتعرض في قولك: زيد منطلق. لأكثر من إثباته لزيد. وأما الفعل فإنه يقصد فيه إلى ذلك، فإذا قلت: زيد ها هو ذا ينطلق. فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً فجزءاً، وجعلته يزاوله ويزجيه. وإن شئت أن تحس الفرق بينهما من حيث يلطف فتأمل هذا البيت، من البسيط:

لا يألف الدرهم المضروب خرقتنا

 

لكن يمر عليها وهو منطـلـق

هذا هو الحسن اللائق بالمعنى. ولو قلته بالفعل: لكن يمر عليها وهو ينطلق، لم يحسن. وإذا أردت أن تعتبره بحيث لا يخفى أن أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه فانظر إلى قوله تعالى: "وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد" فإن أحداً لا يشك في امتناع الفعل هاهنا، وأن قولنا: كلبهم يبسط ذراعيه، لا يؤدي الغرض. وليس ذلك إلا لأن الفعل يقتضي مزاولة، وتجدد الصفة في الوقت. ويقتضي الاسم ثبوت الصفة، وحصولها من غير أن يكون هناك مزاولة وتزجية فعل ومعنى يحدث شيئاً فشيئاً. ولا فرق بين: "وكلبهم باسط" وبين أن يقول: وكلبهم واحد، مثلاً في أنك لا تثبت مزاولة، ولا تجعل الكلب يفعل شيئاً، بل تثبت بصفة هو عليها. فالغرض إذاً تأدية هيئة الكلب. ومتى اعتبرت الحال في الصفات المشبهة وجدت الفرق ظاهراً بيناً، ولم يعترضك الشك في أن أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه. فإذا قلت: زيد طويل وعمرو قصير، لم يصلح مكانه: يطول ويقصر، وإنما تقول: يطول ويقصر، إذا كان الحديث عن شيء يزيد وينمو كالشجر والنبات والصبي، ونحو ذلك مما يتجدد فيه الطول، أو يحدث فيه القصر. فأما وأنت تحدث عن هيئة ثابتة وعن شيء قد استقر طوله، ولم يكن ثم تزايد وتجدد فلا يصلح فيه إلا الاسم.

وإذا ثبت الفرق بين الشيئين في مواضع كثيرة، وظهر الأمر بأن ترى أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه، وجب أن تقضي بثبوت الفرق، حيث ترى أحدهما قد صلح في مكان الآخر، وتعلم أن المعنى مع أحدهما غيره مع الآخر، كما هو العبرة في حمل الخفي على الجلي. وينعكس لك هذا الحكم أعني أنك كما وجدت الاسم يقع حيث لا يصلح الفعل مكانه، كذلك تجد الفعل يقع ثم لا يصلح الاسم مكانه، ولا يؤدي ما كان يؤديه. فمن البين في ذلك قول الأعشى، من الطويل:

لعمري لقد لاحت عيون كثـيرة

 

إلى ضوء نار في يفاع تحرق

تشب لمقرورين يصطليانـهـا

 

وبات على النار الندى والمحلق

معلوم أنه لو قيل: إلى ضوء نار محرقة لنبا عنه الطبع، وأنكرته النفس. ثم لا يكون ذاك النبو وذاك الإنكار من أجل القافية، وأنها تفسد به من جهة أنه لا يشبه الغرض، ولا يليق بالحال. وكذلك قوله، من الكامل:

أو كلما وردت عكاظ قبيلة

 

بعثوا إلي عريفهم يتوسم

 وذاك لأن المعنى في بيت الأعشى على أن هناك موقداً يتجدد منه الإلهاب والإشعال حالاً فحالاً. وإذا قيل: محرقة كان المعنى أن هناك ناراً قد ثبتت لها، وفيها هذه الصفة. وجرى مجرى أن يقال: إلى ضوء نار عظيمة في أنه لا يفيد فعلاً يفعل. وكذلك الحال في قوله: بعثوا إلي عريفهم يتوسم. وذلك لأن المعنى: على توسم وتأمل ونظر يتجدد من العريف هناك حالاً فحالاً، وتصفح منه للوجوه واحداً بعد واحد. ولو قيل: بعثوا إلي عريفهم متوسماً، لم يفد ذلك حق الإفادة. ومن ذلك قوله تعالى: "هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض" لو قيل: هل من خالق غير الله رازق لكم، لكان المعنى غير ما أريد. ولا ينبغي أن يغرك أنا إذ تكلمنا في مسائل المبتدأ والخبر قدرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم، كما نقول في: زيد يقوم إنه في موضع زيد قائم فإن ذلك لا يقتضي أن يستوي المعنى فيها استواء لا يكون من بعده افتراق؟ فإنهما لو استويا هذا الاستواء لم يكن أحدهما فعلاً والآخر اسماً، بل كان ينبغي أن يكونا جميعاً فعلين أو يكونا اسمين. ومن فروق الإثبات أنك تقول: زيد منطلق و زيد المنطلق والمنطلق زيد.

فيكون لك في كل واحد من هذه الأحوال غرض خاص، وفائدة لا تكون في الباقي. وأنا أفسر لك ذلك.

اعلم أنك إذا قلت: زيد منطلق كان كلامك مع من لم يعلم أن انطلاقاً كان لا من زيد ولا من عمرو. فأنت تفيده ذلك ابتداء. وإذا قلت: زيد المنطلق كان كلامك مع من عرف أن انطلاقاً كان إما من زيد وإما من عمرو فأنت تعلمه أنه كان من زيد ودون غيره. والنكتة: أنك تثبت في الأول الذي هو قولك: زيد منطلق فعلاً لم يعلم السامع من أصله أنه كان. وتثبت في الثاني الذي هو زيد المنطلق فعلاً قد علم السامع أنه كان، ولكنه لم يعلمه لزيد، فأفدته ذلك. فقد وافق الأول في المعنى الذي له كان الخبر خبراً، وهو إثبات المعنى للشيء. وليس يقدح في ذلك أنك كنت قد علمت أن انطلاقاً كان من أحد الرجلين، لأنك إذا لم تصل إلى القطع على أنه كان من زيد دون عمرو كان حالك في الحاجة إلى من يثبته لزيد كحالك إذا لم تعلم أنه كان من أصله.

وتمام التحقيق أن هذا كلام يكون معك إذا كنت قد بلغت أنه كان من إنسان انطلاق من موضع كذا، في وقت كذا، لغرض كذا، فجوزت أن يكون ذلك كان من زيد. فإذا قيل زيد المنطلق صار الذي كان معلوماً على جهة الجواز معلوماً على جهة الوجوب. ثم إنهم إذا أرادوا تأكيد هذا الوجوب أدخلوا الضمير المسمى فصلاً بين الجزءين، فقالوا: زيد لمنطلق.

ومن الفرق بين المسألتين وهو ما تمس الحاجة إلى معرفته أنك إذا نكرت الخبر أن تأتي بمبتدأ ثان على أن تشركه بحرف العطف في المعنى الذي أخبرت به عن الأول. وإذا عرفت لم يجز ذلك. تفسير هذا أنك تقول: زيد منطلق وعمرو. تريد: وعمرو منطلق أيضاً. ولا تقول: زيد المنطلق وعمرو. ذلك لأن المعنى مع التعريف على أنك أردت أن تثبت انطلاقاً مخصوصاً قد كان من واحد فإذا أثبته لزيد لم يصح إثباته لعمرو. ثم إن كان قد كان ذلك الانطلاق من اثنين فإنه ينبغي أن يجمع بينهما في الخبر فتقول: زيد وعمرو هما المنطلقان، لا أن تفرق فتثبته أولاً لزيد، ثم تجيء فتثبته لعمرو. ومن الواضح في تمثيل هذا النحو قولنا: هو القائل بيت كذا، كقولك: جرير هو القائل، من الطويل:

وليس لسيفي في العظام بقية

فأنت لو حاولت أن تشرك في هذا الخبر غيره فتقول: جرير هو القائل هذا البيت وفلان حاولت محالاً، لأنه قوله بعينه. فلا يتصور أن يشرك جريراً فيه غيره.

واعلم أنك تجد الألف واللام في الخبر على معنى الجنس، ثم ترى له في ذلك وجوهاً: أحدهما: أن تقصر جنس المعنى على المخبر عنه لقصدك المبالغة، وذلك قولك: زيد هو الجواد، وعمرو هو الشجاع، تريد أنه الكامل. إلا أنك تخرج الكلام في صورة توهم أن الجود والشجاعة لم توجد إلا فيه، وذلك لأنك لم تعتد بما كان من غيره لقصوره عن أن يبلغ الكمال. فهذا كالأول في امتناع العطف عليه للإشراك. فلو قلت: زيد هو الجواد وعمرو كان خلفاً من القول.

والوجه الثاني: أن تقصر جنس المعنى الذي تفيده بالخبر على المخبر عنه، لا على معنى المبالغة وترك الاعتداد بوجوده في غير المخبر عنه، بل على دعوى أنه لا يوجد إلا منه. ولا يكون ذلك إلا إذا قيدت المعنى بشيء يخصصه، ويجعله في حكم نوع برأسه، وذلك كنحو أن يقيد بالحال والوقت، كقولك: هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيراً. وهكذا إذا كان الخبر بمعنى يتعدى، ثم اشترطت له مفعولاً مخصوصاً كقول الأعشى، من المتقارب:

هو الواهب المئة المصطفا

 

ة إما مخاضاً وإما عشارا

فأنت تجعل الوفاء في الوقت الذي لا يفي فيه أحد نوعاً خاصاً من الوفاء. وكذلك تجعل هبة المئة من الإبل نوعاً خاصاً من الوفاء، وكذا الباقي. ثم إنك تجعل كل هذا خبراً على معنى الاختصاص، وأنه للمذكور دون من عداه، ألا ترى أن المعنى في بيت الأعشى أنه لا يهب هذه الهبة إلا الممدوح، وربما ظن أن اللام في:

هو الواهب المئة المصطفاة

بمنزلتها في نحو: ريد هو المنطلق، من حيث كان القصد إلى هبة مخصوصة كما كان القصد إلى انطلاق مخصوص وليس الأمر كذلك لأن القصد هاهنا إلى جنس من الهبة مخصوص، لا إلى هبة مخصوصة بعينها. يدلك على ذلك أن المعنى على أنه يتكرر منه، وعلى أنه يجعله يهب المئة مرة بعد أخرى. وأما المعنى في قولك: زيد هو المنطلق، فعلى القصد إلى انطلاق كان مرة واحدة لا إلى جنس من الانطلاق. فالتكرر هناك غير متصور، كيف وأنت تقول: جرير هو القائل؟

وليس لسيفي في العظام بقية

تريد أن تثبت له قيل هذا البيت وتأليفه. فافصل بين أن تقصد إلى نوع فعل، وبين أن تقصد إلى فعل واحد، متعين حاله في المعاني حال زيد في الرجال في أنه ذات بعينها.

والوجه الثالث أن لا تقصد قصر المعنى في جنسه على المذكور، لا كما كان في: زيد هو الشجاع، تريد أن لا تعتد بشجاعة غيره، ولا كما ترى في قوله:

هو الواهب المئة المصطفاة

لكن على وجه ثالث وهو الذي عليه قول الخنساء، من الوافر:

إذا قبح البكاء على قـتـيل

 

رأيت بكاءك الحسن الجميلا

لم ترد أن ما عدا البكاء عليه فليس بحسن ولا جميل، ولم تقيد الحسن بشيء، فيتصور أن يقصر على البكاء كما قصر الأعشى هبة المئة على الممدوح. ولكنها أرادت أن تقره في جنس ما حسنه الحسن الظاهر الذي لا ينكره أحد، ولا يشك فيه شاك. ومثله قول حسان، من الطويل:

وإن سنام المجد من آل هاشم

 

بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

أراد أن يثبت العبودية، ثم يجعله ظاهر الأمر فيها، ومعروفاً بها. ولو قال: ووالدك عبد، لم يكن قد جعل حاله في العبودية حالة ظاهرة متعارفة. وعلى ذلك قول الآخر، من الطويل:

أسود إذا ما أبدت الحرب نابـهـا

 

وفي سائر الدهر الغيوث المواطر

واعلم أن للخبر المعرف بالألف واللام معنى غير ما ذكرت لك، وله مسلك ثم دقيق، ولمحة كالخلس يكون المتأمل عنده، كما يقال يعرف وينكر، وذلك قولك: هو البطل المحامي، وهو المتقى المرتجى. وأنت لا تقصد شيئاً مما تقدم، فلست تشير إلى معنى قد علم المخاطب أنه كان، ولم يعلم ممن كان، كما مضى في قولك: زيد هو المنطلق. ولا تريد أن تقصر معنى عليه على معنى أنه لم يحصل لغيره على الكمال، كما كان في قولك: لكنك تريد أن تقول لصاحبك: هل سمعت بالبطل المحامي؟ وهل حصلت معنى هذه الصفة؟ وكيف ينبغى أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه؟ فإن كنت قتلته علماً وتصورته حق تصوره فعليك صاحبك واشدد به يدك، فهو ضالتك، وعنده بغيتك وطريقه طريق قولك: هل سمعت بالأسد؟ وهل تعرف ما هو؟ فإن كنت تعرفه فزيد هو بعينه.

ويزداد هذا المعنى ظهوراً بأن تكون الصفة التي تريد الإخبار بها عن المبتدأ مجراة على موصوف كقول ابن الرومي، من الطوبل:

هو الرجل المشروك في جل ماله

 

ولكنه بالمجد والحمـد مـفـرد

تقديره كأنه يقول للسامع: فكر في رجل لا يتميز عفاته وجيرانه ومعارفه عنه في ماله، وأخذ ما شاؤوا منه. فإذا حصلت صورته في نفسك فاعلم أنه ذلك الرجل. وهذا فن عجيب الشأن، وله مكان من الفخامة والنبل، وهو من سحر البيان الذي تقصر العبارة عر تأدية حقه، والمعول فيه على مراجعة النفس واستقصاء التأمل. فإذا علمت أنه لا يريد بقوله: الرجل المشروك في جل ماله، أن يقول: هو الذي بلغك حديثه، وعرفت من حاله وقصته أنه يشرك في جل ماله على حد قولك: هو الرجل الذي بلغك أنه أنفق كذا، والذي وهب المئة المصطفاة من الإبل. ولا أن يقول إنه على معنى: هو الكامل في هذه الصفة حتى كأن هاهنا أقواماً يشركون في جل أموالهم، إلا أنه في ذلك أكمل وأتم، لأن ذلك لا يتصور. وذاك أن كون الرجل بحيث يشرك في جل ماله ليس بمعنى يقع فيه تفاضل. كما أن بذل الرجل كل ما يملك كذلك، ولو قيل: الذي يشرك في ماله جاز أن يتفاوت. وإذا كان كذلك علمت أنه معنى ثالث، وليس إلا ما أشرت إليه من أنه يقول للمخاطب: ضع في نفسك معنى قولك رجل مشروك في جل ماله. ثم تأمل فلاناً فإنك تستملي هذه الصورة منه، وتجده يؤديها لك نصاً، ويأتيك بها كملاً. وإن أردت أن تسمع في هذا المعنى ما تسكن النفس إليه سكون الصادي إلى برد الماء فاسمع قوله، من الطويل:

أنا الرجل المدعو عاشق فقـره

 

إذا لم تكارمني صروف زماني

وإن أردت أعجب من ذلك فقوله، من الكامل:

أهدى إلي أبو الحسين يدا

 

أرجو الثواب بها لديه غدا

وكذاك عادات الكـريم إذا

 

أولى يداً حسبت عليه يدا

إن كان يحسد نفسه أحـد

 

فلأزعمنك ذلك الأحـدا

فهذا كله على معنى الوهم والتقدير، وأن يصور في خاطره شيئاً لم يره ولم يعلمه، ثم يجريه مجرى ما عهد وعلم. وليس شيء أغلب على هذا الضرب الموهوم من الذي فإنه يجيء كثيراً على أنك تقدر شيئاً في وهمك، ثم تعبر عنه بالذي. ومثال ذلك قوله، من الطويل:

أخوك الـذي إن تـدعـه لـمـلـمة

 

يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب

وقول الآخر، من الطويل:

أخوك الذي إن ربته قال: إنما

 

أربت وإن عاتبته لان جانبه

فهذا ونحوه على أنك قدرت إنساناً هذه صفته، وهذا شأنه، وأحلت السامع على ما يعن في الوهم دون أن يكون قد عرف رجلاً بهذه الصفة فأعلمته أن المستحق لاسم الأخوة هو ذلك الذي عرفه، حتى كأنك قلت: أخوك زيد الذي عرفت أنك إن تدعه لملمة يجبك. ولكون هذا الجنس معهوداً من طريق الوهم والتخيل جرى على ما يوصف بالاستحالة، كقولك للرجل وقد تمنى: هذا هو الذي لا يكون، وهذا ما لا يدخل في الوجود. وقوله، من الكامل:

ما لا يكون فلا يكون بحيلة

 

أبداً، وما هو كائن سيكون

ومن لطيف هذا الباب قوله، من الطويل:

وإني لمشتاق إلى ظل صاحب

 

يرق ويصفو إن كدرت عليه

قد قدر كما ترى ما لم يعلمه موجوداً، ولذلك قال المأمون: خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب. فهذا التعريف الذي تراه في الصاحب لا يعرض فيه شك أنه موهوم. وأما قولنا: المنطلق زيد، والفرق بينه وبين: زيد المنطلق، فالقول في ذلك وإن كنت ترى في الظاهر أنهما سواء من حيث كان الغرض في الحالين إثبات انطلاق قد سبق العلم به لزيد، فليس الأمر كذلك بل بين الكلامين فصل ظاهر. وبيانه أنك إذا قلت زيد المنطلق. فأنت في حديث انطلاق قد كان، وعرف السامع كونه. إلا أنه لم يعد زيد كان أم من عمرو؟ فإذا قلت: زيد المنطلق، أزلت عنك الشك، وجعلته يقطع بأنه من زيد بعد أن كان يرى ذلك على سبيل الجواز. وليس كذلك إذا قدمت المنطلق فقلت المنطلق زيد، بل يكون المعنى حينئذ على أنك رأيت إنساناً ينطلق بالبعد منك، فلم تثبته ولم تعلم أزيد هو أم عمرو. فقال لك صاحبك: المنطلق زيد، أي هذا الشخص الذي من بعد هو زيد. وقد ترى الرجل قائماً بين يديك، وعليه ثوب ديباج ، والرجل ممن عرفته قديماً، ثم بعد عهدك به فتناسيته، فيقال لك: اللابس الديباج صاحبك الذي كان يكون عندك في وقت كذا، أما تعرفه؟ لشد ما نسيت! ولا يكون الغرض أن يثبت له لبس الديباج لاستحالة ذلك من حيث إن رؤيتك الديباج عليه تغنيك عن إخبار مخبر، وإثبات مثبت له. فمتى رأيت اسم فاعل أو صفة من الصفات قد بدىء به فجعل مبتدأ، وجعل الذي هو صاحب الصفة في المعنى خبراً فاعلم أن الغرض هناك غير الغرض إذا كان اسم الفاعل الصفة خبراً كقولك: زيد المنطلق.

واعلم أنه ربما اشتبهت الصورة في بعض المسائل من هذا الباب، حتى يظن المعرفتين إذا وقعتا مبتدأ وخبراً لم يختلف المعنى فيهما بتقديم وتأخير. ومما يوهم ذلك قول النحويين في باب كان: إذا اجتمع معرفتان كنت بالخيار في جعل أيهما شئت اسماً الآخر خبراً كقولك: كان زيد أخاك، وكان أخوك زيداً. فيظن من هاهنا أن تكافؤ الاسمين في التعريف يقتضي أن لا يختلف المعنى بأن تبدأ بهذا وتثني بذاك. وحتى كان الترتيب لذي يدعى بين المبتدأ والخبر، وما يوضع لهما في المنزلة في التقدم والتأخر يسقط ويرتفع إذا كان الجزآن معاً معرفتين.

ومما يوهم ذلك أنك تقول: الأمير زيد، وجئتك والخليفة عبد الملك، فيكون المعنى على إثبات الإمارة لزيد والخلافة لعبد الملك، كما يكون إذا قلت: زيد الأمير وعبد الملك الخليفة. وتقوله لمن لا يشاهد ومن هو غائب عن حضرة الإمارة ومعدن الخلافة. وهكذا يتوهم في نحو قوله، من الطويل:

أبوك حباب سارق الضيف برد

 

ه وجدي يا حجاج فارس شمرا

وأنه لا فصل بينه وبين أن يقال: حباب أبوك، وفارس شمر جدي. وهو موضع غامض. والذي يبين وجه الصواب، ويدل على وجوب الفرق بين المسألتين أنك إذا تأملت لكلام وجدت ما لا يحتمل التسوية، وما تجد الفرق قائماً فيه قياماً لا سبيل إلى دفعه هو الأعم الأكثر. وإن أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى ما قدمت لك من قولك: اللابس الديباج زيد، وأنت تشير له إلى رجل بين يديه. ثم انظر إلى قول العرب: ليس الطيب إلا المسك، وقول جرير، من الوافر:

ألستم خير من ركب المطايا

ونحو قول المتنبي، من الوافر:

ألست ابن الألى سعدوا وسادوا

وأشباه ذلك مما لا يحصى ولا يعد. وأراد المعنى على أن يسلم لك مع قلب طرفي الجملة، وقل: ليس المسك إلا الطيب. و: أليس خير من ركب المطايا إياكم؟ و: أليس ابن الألى سعدوا وسادوا إياك؟ تعلم أن الأمر على ما عرفتك من وجوب اختلاف المعنى بحسب التقديم والتأخير.

وهاهنا نكتة يجب القطع معها بوجوب هذا الفرق أبداً، وهي أن المبتدأ لم يكن مبتدأ لأنه منطوق به أولاً، ولا كان الخبر خبراً لأنه مذكور بعد المبتدأ، بل كان المبتدأ مبتدأ لأنه مسند إليه ومثبث له المعنى، والخبر خبراً لأنه مسند ومثبت به المعنى. تفسير ذلك أنك إذا قلت: زيد منطلق، فقد أثبت الانطلاق لزيد، وأسندته إليه. فزيد مثبت له، ومنطلق مثبت به. وأما تقدم المبتدأ على الخبر لفظاً فحكم واجب من هذه الجهة أي من جهة أن كان المبتدا هو الذي يثبت له المعنى ويسند إليه، والخبر هو الذي يثبت المعنى ويسند. ولو كان المبتدأ مبتدأ لأنه في اللفظ مقدم مبدوء به لكان ينبغي أن يخرج كونه مبتدأ بأن يقال: منطلق زيد. ولوجب أن يكون قولهم: إن الخبر مقدم في اللفظ والنية التأخير، محالاً. وإذا كان هذا كذلك، ثم جئت بمعرفتين فجعلتهما مبتدأ وخبراً فقد وجب وجوباً أن تكون مثبتاً بالثاني معنى للأول. فإذا قلت: زيد أخوك كنت قد أثبت ب أخوك معنى لزيد. وإذا قدمت وأخرت فقلت: أخوك زيد وجب أن تكون مثبتاً بزيد معنى ل أخوك، وإلا كان تسميتك له الآن مبتدأ وإذ ذاك خبراً تغييراً للاسم عليه من غير معنى ولأدى إلى أن لا يكون لقولهم: المبتدأ والخبر فائدة غير أن يتقدم اسم في اللفظ على اسم من غير أن ينفرد كل واحد منهما بحكم لا يكون لصاحبه، وذلك مما لا يشك في سقوطه.

ومما يدل دلالة واضحة على اختلاف المعنى إذا جئت بمعرفتين، ثم جعلت هذا مبتدأ وذاك خبراً تارة وتارة بالعكس قولهم: الحبيب أنت، وأنت الحبيب وذاك أن معنى الحبيب أنت أنه لا فصل بينك وبين من تحبه إذا صدقت المحبة، وأن مثل المتحابين مثل نفس يقتسمها شخصان، كما جاء عن بعض الحكماء أنه قال: الحبيب أنت إلا أنه غيرك، فهذا كما ترى فرق لطيف، ونكتة شريفة. ولو حاولت أن تفيدها بقولك: أنت الحبيب، حاولت ما لا يصح. لأن الذي يعقل من قولك: أنت الحبيب، هو ما عناه المتنبي في قوله، من البسيط:

أنت الحبيب ولكني أعـوذ بـه

 

من أن أكون محباً غير محبوب

ولا يخفى بعد ما بين الغرضين، فالمعنى في قولك: أنت الحبيب، أنك أنت الذي أختصه بالمحبة من بين الناس. وإذا كان كذلك عرفت أن الفرق واجب أبداً، وأنه لا يجوز أن يكون أخوك زيد وزيد أخوك بمعنى واحد.

وهاهنا شيء يجب النظر فيه، وهو أن قولك: أنت الحبيب، كقولنا: أنت الشجاع، تريد أنه الذي كملت فيه الشجاعة. أو كقولنا: زيد المنطلق، تريد أنه الذي كان منه الانطلاق الذي سمع المخاطب به. وإذا نظرنا وجدناه لا يحتمل أن يكون كقولنا: أنت شجاع، لأنه يقتضي أن يكون المعنى أنه لا محبة في الدنيا إلا ما هو به حبيب. كما أن معنى في هو الشجاع أنه لا شجاعة في الدنيا إلا ما تجده عنده، وما هو شجاع به، وذلك حال.

وأمر آخر، وهو أن الحبيب فعيل بمعنى مفعول. فالمحبة إذاً ليست هي له بالحقيقة، وإنما هي صفة لغيره قد لابسته، وتعلقت به تعلق الفعل بالمفعول. والصفة إذا وصفت بالكمال وصفت به على أن يرجع ذلك الكمال إلى من هي صفة له دون من تلابسة ملابسة المفعول. وإذا كان كذلك بعد أن تقول: أنت المحبوب، على معنى أنت الكامل في كونك محبوباً. كما أن بعيداً أن يقال هو المضروب، على معنى أنه الكامل في كونه مضروباً. وإن جاء شيء من ذلك جاء على تعسف فيه، وتأويل لا يتصور هاهنا، وذلك أن يقال مثلاً: زيد هو المظلوم، على معنى أنه لم يصب أحداً ظلم يبلغ في الشدة والشناعة الظلم الذي لحقه، فصار كل ظلم سواه عدلاً في جنبه. ولا يجيء هذا التأويل في قولنا أنت الحبيب، لأنا نعلم أنهم لا يريدون بهذا الكلام أن يقولوا: إن أحداً لم يحب أحداً محبتي لك. وإن ذلك قد أبطل المحبات كلها، حتى صرت الذي لا يعقل للمحبة معنى إلا فيه. وإنما الذي يريدون أن المحبة مني بجملتها مقصورة عليك، وأنه ليس لأحد غيرك حظ في محبة مني. وإذا كان كذلك بان أنه لا يكون بمنزلة أنت الشجاع. تريد الذي تكامل الوصف فيه. إلا أنه ينبغي من بعد أن تعلم أن بين أنت الحبيب، وبين زيد المنطلق فرقاً، وهو أن لك في المحبة التي أثبتها طرفاً من الجنسية من حيث كان المعنى أن المحبة مني بجملتها مقصورة عليك، ولم تعمد إلى محبة واحدة من محباتك. ألا ترى أنك قد أعطيت بقولك: أنت الحبيب، أنك لا تحب غيره، وأن لا محبة لأحد سواه عندك. ولا يتصور هذا في زيد المنطلق لأنه لا وجه هناك للجنسية، إذ ليس ثم إلا انطلاق واحد قد عرف المخاطب أنه كان، واحتاج أن يعين له الذي كان منه، وينص له عليه. فإن قلت: زيد المنطلق في حاجتك، تريد الذي من شأنه أن يسعى في حاجتك عرض فيه معنى الجنسية حينئذ على حدها في أنت الحبيب.

وهاهنا أصل يجب أن تحكمه، وهو أن من شأن أسماء الأجناس كلها إذا وصفت أن تتنوع بالصفة، فيصير الرجل الذي هو جنس واحد إذا وصفته فقلت: رجل ظريف، ورجل قصير، ورجل شاعر، ورجل كاتب أنواعاً مختلفة يعد كل منها شيئاً على حدة. ويستأنف في اسم الرجل بكل صفة تقرنها إليه جنسية. وهكذا القول في المصادر تقول: العلم، والجهل والضرب، والقتل، والسير، والقيام، والقعود. فتجد كل واحد من هذه المعاني جنساً كالرجل، والفرس، والحمار. فإذا وصفت فقلت: علم كذا وعلم كذا، كقولك: علم ضروري، وعلم مكتسب، وعلم جلي، وعلم خفي، وضرب شديد، وضرب خفيف، وسير سريع، وسير بطيء، وما شاكل ذلك. انقسم الجنس منها أقساماً وصار أنواعاً، وكان مثلها مثل الشيء المجموع المؤلف تفرقه فرقاً، وتشعبه شعباً. وهذا مذهب معروف عندهم، وأصل متعارف في كل جيل وأمة ثم إن هاهنا أصلاً هو كالمتفرع على هذا الأصل، أو كالنظير له. وهو أن من شأن المصدر أن يفرق بالصلات، كما يفرق بالصفات. ومعنى هذا الكلام أنك تقول: الضرب فتراه جنساً واحداً، فإذا قلت: الضرب بالسيف، صار تعديتك له إلى السيف نوعاً مخصوصاً. ألا تراك تقول: الضرب بالسيف غير الضرب بالعصا؟ تريد أنهما نوعان مختلفان، وأن اجتماعهما في اسم الضرب لا يوجب اتفاقهما، لأن الصلة قد فصلت بينهما وفرقتهما. ومن المثال البين في ذلك قول المتنبي، من الكامل:

وتوهموا اللعب الوغى، والطعن في ال

 

هيجاء غير الطعـن فـي الـمـيدان

لولا أن اختلاف صلة المصدر تقتضي اختلافه في نفسه، وأن يحدث في انقسام وتنوع لما كان لهذا الكلام معنى، ولكان في الاستحالة كقولك: والطعن غير الطعن. فقد بان إذاً أنه إنما كان كل واحد من الطعنين جنساً برأسه غير الآخر بأن كان هذا في الهيجاء وذاك في الميدان. وهكذا الحكم في كل شيء تعدى إليه المصدر، وتعلق به. فاختلاف مفعولي المصدر يقتضي اختلافه. وأن يكون المتعدي إلى هذا المفعول غير المتعدي إلى ذاك. وعلى ذلك تقول: ليس إعطاؤك الكثير كإعطائك القليل. وهكذا إذا عديته إلى الحال كقولك: ليس إعطاؤك معسراً كإعطائك موسراً. وليس بذلك وأنت مقل كبذلك وأنت مكثر. وإذ قد عرفت هذا من حكم المصدر فاعتبر به حكم الاسم المشتق منه.

وإذا اعتبرت ذلك علمت أن قولك: هو الوفي حين لا يفي أحد، وهو الواهب المئة المصطفاة. وقوله، من الخفيف:

وهو الضارب االكتيبة والطـع

 

نة تغلو والضرب أغلى وأغلى

وأشباه ذلك كلها أخبار فيها معنى الجنسية، وأنها في نوعها الخاص بمنزلة الجنس المطلق إذا جعلته خبراً فقلت: أنت الشجاع. وكما أنك لا تقصد بقولك: أنت الشجاع إلى شجاعة بعينها قد كانت وعرفت من إنسان. وأردت أن تعرف ممن كانت بل تريد أن تقصر جنس الشجاعة عليه، ولا تجعل لأحد غيره فيه حظاً. كذلك لا تقصد بقولك: أنت الوفي حين لا يفي أحد إلى وفاء واحد، كيف وأنت تقول: حين لا يفي أحد. وهكذا محال أن يقصد من قوله: هو الواهب المئة المصطفاة إلى هبة واحدة، لأنه يقتضي يقصد إلى مئة من الإبل قد وهبها مرة، ثم لم يعد لمثلها. ومعلوم أنه خلاف الغرض المعنى أنه الذي من شأنه أن يهب المئة أبداً، والذي يبلغ عطاؤه هذا المبلغ كما تقول: الذي يعطي مادحه الألف والألفين، وكقوله، من الرجز:

وحاتم الطائي وهاب المئي

 وذلك أوضح من أن يخفى. وأصل آخر وهو أن من حقنا أن نعلم أن مذهب الجنسية في الاسم، وهو خبر غير مذهبها، وهو مبتدأ. تفسير هذا أنا وإن قلنا: إن اللام في قولك: أنت الشجاع، للجنس كما هو له في قولهم: الشجاع موقى، والجبان ملقى، فإن الفرق بينهما عظيم. وذلك أن المعنى في قولك: الشجاع موقى، أنك تثبث الوقاية لكل ذات صفتها الشجاعة، فهو في معنى قولك: الشجعان كلهم موقون. ولست أقول: إن الشجاع كالشجعان على الإطلاق، وإن كان ذلك ظن كثير من الناس، ولكني أريد أنك تجعل الوقاية تستغرق الجنس، وتشمله وتشيع فيه. وأما في قولك: أنت الشجاع، فلا معنى فيه للاستغراق إذ لست تريد أن تقول: أنت الشجعان كلهم، حتى كأنك تذهب به مذهب قولهم: أنت الخلق كلهم، وأنت العالم. كما قال، من السريع:

ليس على الله بمستنكـر

 

أن يجمع العالم في واحد

ولكن لحديث الجنسية هاهنا مأخذاً آخر غير ذلك، وهو أنك تعمد بها إلى المصدر المشتق منه الصفة، وتوجهها إليه لا إلى نفس الصفة. ثم لك في توجيهها إليه مسلك دقيق، وذلك أنه ليس القصد أن تأتي إلى شجاعات كثيرة، فتجمعها له، وتوجدها فيه، ولا أن تقول: إن الشجاعات التي يتوهم وجودها في الموصوفين بالشجاعة هي موجودة فيه لا فيهم. هذا كله محال بل المعنى على أنك تقول: كنا قد عقلنا الشجاعة، وعرفنا حقيقتها، وما هي وكيف ينبغي أن يكون الإنسان في إقدامه وبطشه حتى يعلم أنه شجاع على الكمال، واستقرينا الناس، فلم نجد في واحد منهم حقيقة ما عرفناه. حتى إذا صرنا إلى المخاطب وجدناه قد استكمل هذه الصفة، واستجمع شرائطها، وأخلص جوهرها ورسخ فيه سنخها. ويبين لك أن الأمر كذلك اتفاق الجميع على تفسيرهم له بمعنى الكامل، ولو كان المعنى على أنه استغرق الشجاعات التي يتوهم كونها في الموصوفين بالشجاعة، لما قالوا: إنه بمعنى الكامل في الشجاعة، لأن الكمال هو أن تكون الصفة على ما ينبغي أن تكون عليه، وأن لا يخالطها ما يقدح فيها. وليس الكمال أن تجتمع آحاد الجنس، وينضم بعضها إلى بعض، فالغرض إذاً بقولنا: أنت الشجاع، هو الغرض بقولهم: هذه هي الشجاعة على الحقيقة، وما عداها جبن. وهكذا يكون العلم وما عداه تخيل. وهذا هو الشعر وما سواه فليس بشيء، وذلك أظهر من أن يخفى.

وضرب آخر من الاستدلال في إبطال أن يكون: أنت الشجاع: بمعنى أنك كأنك جميع الشجعان على حد: أنت الخلق كلهم. وهو أنك في قولك: أنت الخلق وأنت الناس كلهم، وقد جمع العالم منك في واحد تدعي له جميع المعاني الشريفة المتفرقة في الناس من غير أن تبطل تلك المعاني، وتنفيها عن الناس، بل على أن تدعي له أمثالها. ألا ترى أنك إذا قلت في الرجل: إنه معدود بألف رجل، فلست تعني أنه معدود بألف رجل لا معنى فيهم، ولا فضيلة لهم بوجه. بل تريد أنه يعطيك من معاني الشجاعة، أو العلم، أو كذا أو كذا مجموعاً ما لا تجد مقداره مفرقاً إلا في ألف رجل. وأما في نحو: أنت الشجاع، فإنك تدعي له أنه قد انفرد بحقيقة الشجاعة، وأنه قد أوتي فيها مزية، وخاصية لم يؤتها أحد حتى صار الذي كان يعده الناس شجاعة غير شجاعة، وحتى كأن كل إقدام إحجام، وكل قوة عرفت في الحرب ضعف، وعلى ذلك قالوا: جاد حتى بخل كل جواد، وحتى منع أن يستحق اسم الجواد أحد: كما قال، من الوافر:

وإنك لا تجود على جواد

 

هباتك ان يلقب بالجواد

وكما يقال: جاد حتى كأن لم يعرف لأحد جود، وحتى كان قد كذب الواصفون الغيث بالجود. كما قال، من البسيط:

أعطيت حتى تركت الريح حاسرة

 

وجدت حتى كأن الغيث لم يجـد

في الذي خصوصاً

اعلم أن لك في الذي علماً كثيراً، وأسراراً جمة، وخفايا إذا بحثت عنها وتصورتها طلعت على فوائد تؤنس النفس، وتثلج الصدر، بما يفضي بك إليه من اليقين، ويؤديه إليك من حسن التبيين. والوجه في ذلك أن تتأمل عبارات لهم فيه: لم وضع، ولأي غرض اجتلب، وأشياء وصفوه بها. فمن ذلك قولهم: إن الذي اجتلب ليكون وصلة إلى وصف المعارف بالجمل، كما اجتلب ذو ليتوصل به إلى الوصف بأسماء الأجناس، يعنون بذلك أنك تقول: مررت بزيد الذي أبوه منطلق، وبالرجل الذي كان عندنا أمس. فتجدك قد توصلت بالذي إلى أن يبين أبنت زيداً من غيره بالجملة التي هي قولك: أبوه منطلق. ولولا الذي لم تصل إلى ذلك، كما أنك تقول: مررت برجل ذي مال: فيتوصل بذي إلى أن يبين الرجل من غيره بالمال. ولولا ذو لم يتأت لك ذلك، إذ لا تستطيع أن تقول: برجل مال. فهذه جملة مفهومة إلا أن تحتها خبايا تحتاج إلى الكشف عنها.

فمن ذلك أن تعلم من أين امتنع أن توصف المعرفة بالجملة، ولم لم يكن حالها في ذلك حال النكرة التي تصفها بها في قولك: مررت برجل أبوه منطلق، ورأيت إنساناً تقاد الجنائب بين يديه. وقالوا: إن السبب في امتناع ذلك أن الجمل نكرات كلها بدلالة أنها تستفاد، وإنما يستفاد المجهول دون المعلوم. قالوا: فلما كانت كذلك كانت وفقاً للنكرة. فجاز وصفها بها ولم يجز أن توصف بها المعرفة إذ لم تكن وفقاً.

والقول المبين في ذلك أن يقال: إنه إنما اجتلب، حتى إذا كان قد عرف رجل بقصة وأمر جرى له، فتخصص بتلك القصة، وبذلك الأمر عند السامع. ثم أريد القصد إليه ذكر الذي. تفسير هذا أنك لا تصل الذي إلا بجملة من الكلام قد سبق من السامع علم بها، وأمر قد عرفه له، نحو أن ترى عنده رجلاً ينشده شعراً فتقول له من غد: ما فعل الرجل الذي كان عندك بالأمس ينشدك الشعر؟ هذا حكم الجملة بعد الذي إذا أنت وصفت به شيئاً. فكان معنى قولهم: إنه اجتلب ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجملة، أنه جيء به ليفصل بين أن يراد ذكر الشيء بجملة قد عرفها السامع له، وبين أن لا يكون الأمر كذلك. فإن قلت: قد يؤتى بعد الذي بالجملة غير المعلومة للسامع، وذلك حيث يكون الذي خبراً كقولك: هذا الذي كان عندك بالأمس، وهذا الذي قدم رسولاً من الحضرة. أنت في هذ وشبهه تعلم المخاطب أمراً لم يسبق له به علم، وتفيده في المشار إليه شيئاً لم يكن عنده ولو لم يكن كذلك لم يكن الذي خبراً، إذ كان لا يكون الشيء خبراً حتى يفاد به. فالقول في ذلك: إن الجملة في هذا النحو وإن كان المخاطب لا يعلمها لعين من أشرت إليه، فإنه لا بد من أن يكون قد علمها على الجملة، وحدث بها. فإنك على كل حال لا تقول: هذ الذي قدم رسولاً: لمن لم يعلم أن رسولاً قدم، ولم يبلغه ذلك في جملة ولا تفصيل. وكذ لا تقول: هذا الذي كان عندك أمس، لمن قد نسي أنه كان عنده إنسان، وذهب عن وهمه وإنما تقوله لمن ذاك على ذكر منه. إلا أنه رأى رجلاً يقبل من بعيد، فلا يعلم أنه ذاك ويظنه إنساناً غيره.

وعلى الجملة، فكل عاقل يعلم بون ما بين الخبر بالجملة مع الذي وبينها مع غير الذي. فليس من أحد به طرق إلا وهو لا يشك أن ليس المعنى في قولك: هذا الذي قدم رسولاً من الحضرة كالمعنى إذا قلت: هذا قدم رسولاً من الحضرة، ولا: هذا الذي يسكن في محلة كذا كقولك: هذا يسكن محلة كذا. وليس ذاك إلا أنك في قولك: هذا قدم رسولاً من الحضرة مبتدىء خبراً بأمر لم يبلغ السامع، ولم يبلغه ولم يعلمه أصلاً. وفي قولك: هذا الذي قدم رسولاً معلم في أمر قد بلغه أن هذا صاحبه، فلم يخل إذاً من الذي بدأ به في أمر الجملة مع الذي، من أنه ينبغي أن تكون جملة قد سبق من السامع علم بها. فاعرفه فإنه من المسائل التي من جهلها جهل كثيراً من المعاني، ودخل عليه الغلط في كثير من الأمور. والله الموفق للصواب.