فروق في الحال لها فضل تعلق بالبلاغة

اعلم أن أول فرق في الحال أنها تجيء مفرداً وجملة. والقصد هاهنا إلى الجملة.

وأول ما ينبغي أن يضبط من أمرها أنها تجيء تارة مع الواو، وأخرى بغير الواو فمثال مجيئها الواو قولك: أتاني وعليه ثوب ديباج، ورأيته وعلى كتفه سيف، ولقيت الأمير والجند حواليه، وجاءني زيد وهو متقلد سيفه. ومثال مجيئها بغير واو: جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه، وأتاني عمرو يقود فرسه. وفي تمييز ما يقتضي الواو مما لا يقتضيه صعوبة. والقول في ذلك أن الجملة إذا كانت من مبتدأ وخبر فالغالب عليها أن تجيء مع الواو كقولك: جاءني زيد وعمرو أمامه، وأتاني وسيفه على كتفه. فإن كان المبتدأ من الجملة ضمير في الحال لم يصلح بغير الواو البتة، وذلك كقولك: جاءني زيد وهو راكب، ورأيت زيداً وهو جالس، ودخلت عليه وهو يملي الحديث وانتهيت إلى الأمير وهو يعبىء الجيش. فلو تركت الواو في شيء من ذلك لم يصلح. فلو قلت: جاءني زيد هو راكب، ودخلت عليه هو يملي الحديت، لم يكن كلاماً. كان الخبر في الجملة من المبتدأ والخبر ظرفاً، ثم كان قد قدم على المبتدأ كقولنا: عليه سيف وفي يده سوط، كثر فيها أن تجيء بغير واو. فمما جاء منه كذلك قول بشار، من الطويل:

إذا أنكرتني بلدة أو نكرتـهـا

 

خرجت مع البازي علي سواد

يعني: علي بقية من الليل.


وقول أمية، من البسيط:

فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقـاً

 

في رأس غمدان داراً منك محلالاً

وقول الآخر، من الطويل:

لقد صبرت للذل أعواد منبر

 

تقوم عليها في يديك قضيب

كل ذلك في موضع الحال، وليس فيه واو كما ترى، ولا هو محتمل لها إذا نظرت.

وقد يجيء ترك الواو فيما ليس الخبر فيه كذلك، ولكنه لا يكثر. فمن ذلك قولهم: كلمته فوه إلى في، ورجع عوده على بدئه في قول من رفع، ومنه بيت الإصلاح، من الكامل:

نصف النهار الماء غامره

 

ورفيقه بالغيب لا يدري

ومن ذلك ما أنشده الشيخ أبو علي في الإغفال، من الطويل:

ولولا جنان الليل ما آب عامر

 

إلى جعفر، سرباله لم يمزق

ومما ظاهره أنه منه قوله، من البسيط:

إذا أتيت أبا مروان تـسـألـه

 

وجدته حاضراه: الجود والكرم

فقوله: حاضراه الجود: جملة من المبتدأ والخبر كما ترى، وليس فيها واو، والموضع موضع حال، ألا تراك تقول: أتيته فوجدته جالساً؟ فيكون جالساً حالاً، ذاك لأن وجدت في مثل هذا من الكلام لا تكون المتعدية إلى مفعولين ولكن المتعدية إلى مفعول واحد كقولك: وجدت الضالة. إلا أنه ينبغي أن تعلم أن لتقديمه الخبر الذي هو حاضراه تأثيراً في معنى الغنى عن الواو، وأنه لو قال: وجدته الجود والكرم حاضراه، لم يحسن حسنه الآن. وكان السبب في حسنه مع التقديم أنه يقرب في المعنى من قولك: وجدته حاضره الجود والكرم، أو حاضراً عنده الجود والكرم.

وإن كانت الجملة من فعل وفاعل، والفعل مضارع مثبت غير منفي لم يكد يجيء بالواو، بل ترى الكلام على مجيئها عارية من الواو كقولك: جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه. وكقوله، من البسيط:

وقد علوت قتود الرحل يسفعني

 

يوم قديديمة الجوزاء مسمـوم

وقوله، من الخفيف:

ولقد أغتدي يدافع ركني

 

أحوذي ذو ميعة إضريج

وكذلك قولك: جاءني زيد يسرع. لا فصل بين أن يكون الفعل لذي الحال، وبين أن يكون لمن هو من سببه، فإن ذلك كله يستمر على الغنى عن الواو. وعليه التنزيل والكلام ومثاله في التنزيل قوله عز وجل "ولا تمنن تستكثر"، وقوله تعالى: "وسيجنبها الأتقى. الذي يؤتي ماله يتزكى"، وكقوله عز آسمه "ويذرهم في طغيانهم يعمهون". فأما قول ابن همام السلولي، من المتقارب:

فللما خشيت أظافيره

 

نجوت وأرهنهم مالكا

في رواية من روى وأرهنهم وما شبهوه به من قولهم: قمت وأصك وجهه. فليست الواو فيها للحال، وليس المعنى: نجوت راهناً مالكاً، وقمت صاكا وجهه ولكن أرهن وأصك حكاية حال، مثل قوله، من الكامل:

ولقد أمر على اللئيم يسبنـي

 

فمضيت ثمت قلت: لايعنيني

فكما أن أمر هاهنا في معنى مررت، كذلك يكون أرهن وأصك، هناك في معنى رهنت وصككت. ويبين ذلك أنك ترى الفاء تجيء مكان الواو في مثل هذا، وذلك كنحو ما في الخبر في حديث عبد الله بن عتيك حين دخل على أبي رافع اليهودي حصنه قال: فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم لا أدري أين هو من البيت. فقلت: أبا رافع. فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف، وأنا دهش. فكما أن أضربه مضارع قد عطفه بالفاء على ماض لأنه في المعنى ماض، كذلك يكون أرهنهم معطوفاً على الماضي قبله. وكما لا يشك في أن المعنى في الخبر: فأهويت فضربتك كذلك يكون المعنى في البيت نجوت ورهنت. إلا أن الغرض في إخراجه على لفظ الحال أن يحكي الحال في أحد الخبرين، ويدع الآخر على ظاهره، كما كان في: ولقد أمر على اللئيم يسبني، فمضيت.

إلا أن الماضي في هذا البيت مؤخر معطوف، وفي بيت ابن همام وما ذكرناه معه مقدم معطوف عليه، فاعرفه.

فإن دخل حرف نفي على المضارع تغير الحكم فجاء بالواو وبتركها كثيراً، وذلك مثل قولهم: كنت ولا أخشى بالذئب. وقول مسكين الدارمي، من الرمل:

أكسبته الورق البيض أباً

 

ولقد كان ولا يدعى لأب

وقول مالك بن رفيع، وكان جنى جناية فطلبه مصعب بن الزبير، من الوافر:

أتاني مصعب وبنو أبـيه

 

فأين أحيد عنهم لا أحـيد

أقادوا من دمي وتوعدوني

 

وكنت وما ينهنهني الوعيد

كان في هذا كله تامة والجملة الداخل عليها الواو في موضع الحال، ألا ترى أن المعنى وجدت غير خاش للذئب. ولقد وجد غير مدعو لأب. ووجدت غير منهنه بالوعيد وغير مبال به؟ ولا معنى لجعلها ناقصة، وجعل الواو مزيدة. وليس مجيء الفعل المضارع حالاً على هذا الوجه بعزيز في الكلام. ألا تراك تقول: جعلت أمشي وما أدري أين أضع رجلي، وجعل يقول ولا يدري؟ وقال أبو الأسود:

يصيب وما يدري. وهو شائع كثير.

فأما مجيء المضارع منفياً حالاً من غير الواو فيكثر، ويحسن. فمن ذلك قوله، من الطويل:

مضوا لا يريدون الرواح وغالهـم

 

من الدهر أسباب جرين على قدر

وقال أرطاة بن سهية وهو لطيف جداً، من البسيط:

إن تلقني لا ترى غيري بناظـرة

 

تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد

فقوله: لا ترى: في موضع حال. ومثله في اللطف والحسن قول أعشى همدان، وصحب عتاب بن ورقاء إلى أصبهان فلم يحمده فقال، من الوافر:

أتينا أصبهان فهزلـتـنـا

 

وكنا قبل ذلك في نـعـيم

وكان سفاهة مني وجهـلاً

 

مسيري لا أسير إلى حميم

قوله: لا أسير إلى حميم. حال من ضمير المتكلم الذي هو الياء في مسيري، وهو فاعل في المعنى. فكأنه قال: وكان سفاهة مني وجهلاً أن سرت غير سائر إلى حميم، وأن ذهبت غير متوجه إلى قريب. وقال خالد بن يزيد بن معاوية، من الكامل:

لو أن قوماً لارتفـاع قـبـيلة

 

دخلوا السماء دخلتها لا أحجب

وهوكثير، إلا أنه لا يهتدي إلى وضعه بالموضع المرضي إلا من كان صحيح الطبع.

ومما يجيء بالواو وغير الواو الماضي، وهو لا يقع حالاً إلا مع قد مظهرة أو مقدرة.

أما مجيئها بالواو فالكثير الشائع كقولك: أتاني وقد جهده السير. وأما بغير الواو فكقوله، من البسيط:

متى أرى الصبح قد لاحت مخايله

 

والليل قد مزقت عنه السرابـيل

وقول الآخر، من الوافر:

فآبوا بالرماح مكسرات

 

وأبنا بالسيوف قد انحنينا

وقال آخر وهو لطيف جداً، من الكامل:

يمشون قد كسروا الجفون إلى الوغى

 

متبسمين وفـيهـم اسـتـبـشـار

ومما يجيء بالواو في الأكثر الأشيع، ثم يأتي في مواضع بغير الواو فيلطف مكانه، ويدل على البلاغة الجملة قد دخلها وليس تقول: أتاني وليس عليه ثوب، ورأيته وليس معه غيره. فهذا هو المعروف المستعمل. ثم قد جاء بغير الواو فكان من الحسن على ما ترى وهو قول الأعرابي، من الرجز:

لنا فتى وحبـذا الأفـتـاء

 

تعرفه الأرسان والـدلاء

إذا جرى في كفه الرشـاء

 

خلى القليب ليس فيه الماء

ومما ينبغي أن يراعى في هذا الباب أنك ترى الجملة قد جاءت حالاً بغير واو، ويحسن ذلك. ثم تنظر فترى ذلك إنما حسن من أجل حرف دخل عليها، مثاله قول الفرزدق، من الطويل:

فقلت: عسى أن تبصريني كأنما

 

بني حوالي الأسود الحـوارد

قوله: كأنما بني إلى آخره في موضع الحال من غير شبهة. ولو أنك تركت كأن فقلت: عسى أن تبصريني بني حوالي كالأسود. رأيته لا يحسن حسنه الأول، ورأيت الكلام يقتضي الواو كقولك: عسى أن تبصريني وبني حوالي كالأسود الحوارد.

وشبيه بهذا أنك ترى الجملة قد جاءت حالاً بعقب مفرد، فلطف مكانها. ولو أنك أردت أن تجعلها حالاً من غير أن يتقدمها ذلك المفرد لم يحسن. مثال ذلك قول ابن الرومي، من السريع:

والله يبقيك لنا سالمـاً

 

برداك تبجيل وتعظيم

فقوله:. برداك تبجيل، في موضع حال ثانية. ولو أنك أسقطت سالماً من البيت قلت والله يبقيك برداك تبجيل. لم يكن شيئاً.

وإذ قد رأيت الجمل الواقعة حالاً قد اختلف بها الحال هذا الاختلاف الظاهر، فلا بد من أن يكون ذلك إنما كان من أجل علل توجبه، وأسباب تقتضيه. فمحال أن يكون هاهنا جملة لا تصح إلا مع الواو، وأخرى لا تصلح فيها الواو، وثالثة تصلح أن تجيء فيها بالواو، وأن تدعها فلا تجيء بها. ثم لا يكون لذلك سبب وعلة. وفي الوقوف على العلة في ذلك إشكال وغموض. ذاك لأن الطريق إليه غير مسلوك، والجهة التي منها تعرف غير معروفة. وأنا أكتب لك أصلاً في الخبر إذا عرفته انفتح لك وجه العلة في ذلك.

واعلم أن الخبر ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة لا تتم الفائدة دونه، وخبر ليس جزء من الجملة، ولكنه زيادة في خبر آخر سابق له. فالأول خبر المبتدأ كمنطلق في قولك: زيد منطلق. والفعل كقولك: خرج زيد. وكل واحد من هذين جزء من الجملة وهو الأصل في الفائدة. والثاني هو الحال كقولك: جاءني زيد راكباً. وذاك لأن الحال خبر في الحقيقة من حيث إنك تثبت بها المعنى لذي الحال، كما تثبته بالخبر للمبتدأ، وبالفعل للفاعل. ألا تراك قد أثبت الركوب في قولك: جاءني زيد راكباً لزيد إلا أن الفرق أنك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجيء، وهو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه. ولم تجرد إثباتك للركوب، ولم تباشره به ابتداء، بل بدأت فأثبت المجيء، ثم وصلت به الركوب. فالتبس به الإثبات على سبيل التبع لغيره، وبشرط أن يكون في صلته. وأما في الخبر المطلق نحو زيد منطلق، وخرج عمرو فإنك أثبت المعنى إثباتاً جردته له وجعلته يباشره من غير واسطة، ومن غير أن تتسبب بغيره إليه.

وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن كل جملة وقعت حالاً، ثم امتنعت من الواو فذاك لأجل أنك عمدت إلى الفعل الواقع في صدرها، فضممته إلى الفعل الأول في إثبات واحد. وكل جملة جاءت حالاً، ثم اقتضت الواو فذاك لأنك مستأنف بها خبراً، وغير قاصد إلى أن تضمها إلى الفعل الأول في الإثبات.

تفسير هذا أنك إذا قلت: جاءني زيد يسرع. كان بمنزلة قولك: جاءني زيد مسرعاً.

في أنك تثبت مجيئاً فيه إسراع، وتصل أحد المعنيين بالآخر، وتجعل الكلام خبراً واحداً، وتريد أن تقول: جاءني كذلك، وجاءني بهذه الهيئة. وهكذا قوله:

وقدعلوت قتود الرحل يسفعني

 

يوم قديديمة الجوزاء مسموم

كأنه قال: وقد علوت قتود الرحل بارزاً للشمس ضاحياً. وكذلك قوله:

متى أرى الصبح قد لاحت مخايله

لأنه في معنى: متى أرى الصبح بادياً لائحاً بيناً متجلياً، وعلى هذا القياس أبداً. وإذا قلت: جاءني وغلامه يسعى بين يديه ورأيت زيداً وسيفه على كتفه. كان المعنى على أنك بدأت فأثبت المجيء والرؤية، ثم استأنفت خبراً، وابتدأت إثباتاً ثانياً لسعي الغلام بين يديه، ولكون السيف على كتفه. ولما كان المعنى على استئناف الإثبات احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى، فجيء بالواو كما جيء بها في قولك: زيد منطلق، وعمرو ذاهب. والعلم حسن، والجهل قبيح. وتسميتنا لها واو الحال لا يخرجها عن أن تكون مجتلبة لضم جملة إلى جملة. ونظيرها في هذا الفاء في جواب الشرط، نحو: إن تأتني فأنت مكرم فإنها وإن لم تكن عاطفة فإن ذلك لا يخرجها من أن تكون بمنزلة العاطفة في أنها جاءت لتربط جملة ليس من شأنها أن ترتبط بنفسها، فاعرف ذلك، ونزل الجملة في نحو: جاءني زيد يسرع، وقد علوت قتود الرحل يسفعني يوم، منزلة الجزاء الذي يستغني عن الفاء، لأن من شأنه أن يرتبط بالشرط من غير رابط وهو قولك: إن تعطني أشكرك. ونزل الجملة في: جاءني زيد وهو راكب، منزلة الجزاء الذي ليس من شأنه أن يرتبط بنفسه، ويحتاج إلى الفاء كالجملة في نحو: إن تأتني فأنت مكرم، قياساً سوياً وموازنة صحيحة.

فإن قلت: لقد علمنا أن علة دخول الواو على الجملة أن تستأنف الإثبات، ولا تصل المعنى الثاني بالأول في إثبات واحد، ولا تنزل الجملة منزلة المفرد. ولكن بقي أن تعلم لم كان بعض الجمل بأن يكون تقديرها تقدير المفرد في أن لا يستأنف بها الإثبات أولى من بعض؟ وما الذي منع في قولك: جاءني زيد وهو يسرع، أو وهو مسرع؟ أن يدخل الإسراع في صلة المجيء، ويضامه في الإثبات، كما كان ذلك حين قلت: جاءني زيد يسرع. فالجواب أن السبب في ذلك أن المعنى في قولك: جاءني زيد وهو يسرع، على استئناف إثبات للسرعة، ولم يكن ذلك في: جاءني زيد يسرع. وذلك أنك إذا أعدت ذكر زيد، فجئت بضميره المنفصل المرفوع كان بمنزلة أن تعيد اسمه صريحاً فتقول: جاءني زيد، وزيد يسرع. في أنك لا تجد سبيلاً إلى أن تدخل يسرع في صلة المجيء، وتضمه إليه في الإثبات. وذلك أن إعادتك ذكر زيد لا تكون حتى تقصد استئناف الخبر عنه بأنه يسرع، وحتى تبتدىء إثباتاً للسرعة لأنك إن لم تفعل ذلك تركت المبتدأ الذي هو ضمير زيد أو اسمه الظاهر بمضيعة، وجعلته لغواً في البين وجرى مجرى أن تقول: جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه. ثم تزعم أنك لم تستأنف كلاماً، ولم تبتدىء للسرعة إثباتاً، وأن حال يسرعها هاهنا حاله إذا قلت: جاءني زيد يسرع. فجعلت السرعة له، ولم تذكر عمراً، وذلك محال.

فإن قلت: إنما استحال في قولك: جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه، أن ترد يسرع إلى زيد، وتنزله منزلة قولك: جاءني زيد يسرع، من حيث كان في يسرع ضمير لعمرو، وتضمنه ضمير عمرو يمنع أن يكون لزيد، وأن يقدر حالاً له. وليس كذلك: جاءني زيد، يسرع لأن السرعة هناك لزيد لامحالة، فكيف ساغ أن تقيس إحدى المسألتين على الأخرى؟ قيل: ليس المانع أن يكون يسرع في قولك: جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه حالاً من زيد فعل لعمرو. فإنك لو أخرت عمراً فرفعته بيسرع، وأوليت يسرع زيداً فقلت: جاءني يسرع عمرو أمامه. وجدته قد صلح حالاً لزيد مع أنه فعل لعمر، وإنما المانع ما عرفتك من أنك تدع عمراً بمضيعة، وتجيء به مبتدأ، لا تعطيه خبراً. ومما يدل على فساد ذلك أنه يؤدي إلى أن يكون إيسرع قد اجتمع في موضعه النصب والرفع، وذلك أن جعله حالاً زيد يقتضي أن يكون في موضع نصب، وجعله خبراً عن عمرو المرفوع بالابتداء في يكون في موضع رفع. وذلك بين التدافع. ولا يجب هذا التدافع إذا أخرت عمراً فقلت جاءني زيد يسرع عمرو أمامه. لأنك ترفعه بيسرع على أنه فاعل له. وإذا ارتفع به لم يوجب في موضعه إعراباً، فيبقى مفرغاً لأن يقدر فيه النصب على أنه حال من زيد، وجرى مجرى أن تقول: جاءني زيد مسرعاً عمرو أمامه. فإن قلت: فقد ينبغي على هذا الأصل أن لا تجيء جملة من مبتدأ وخبر حالاً إلا مع الواو، وقد ذكرت قبل أن ذلك قد جاء في مواضع من كلامهم، فالجواب أن القياس والأصل أن لا تجيء جملة من مبتدأ وخبر حالاً إلا مع الواو. وأما الذي جاء من ذلك فسبيله سبيل الشيء يخرج عن أصله وقياسه والظاهر فيه بضرب من التأويل، ونوع من التشبيه. فقولهم: كلمته فوه إلى في، إنما حسن بغير واو من أجل أن المعنى كلمته مشافهاً له. وكذلك قولهم: رجع عوده على بدئه، إنما جاء الرفع فيه والابتداء من غير واو، لأن المعنى: رجع ذاهباً في طريقه الذي جاء فيه. وأما قوله: وجدته حاضراه: الجود والكرم، فلأن تقديم الخبر الذي هو حاضراه يجعله كأنه قال: وجدته حاضراً عنده الجود والكرم. وليس الحمل على المعنى وتنزيل الشيء منزلة غيره بعزيز في كلامهم، وقد قالوا: زيد اضربه. فأجازوا أن يكون مثال الأمر في موضع الخبر، لأن المعنى على النصب، نحو: اضرب زيداً ووضعوا الجملة من المبتدأ والخبر موضع الفعل والفاعل في نحو قوله تعالى: "أدعوتموهم أم أنتم صامتون" لأن الأصل في المعادلة أن تكون الثانية كالأولى نحو أدعوتموهم أم صمتم.

ويدل على أن ليس مجيء الجملة من المبتدأ والخبر حالاً بغير الواو أصلاً قلته، وأنه لا يجيء إلا في الشيء بعد الشيء. هذا ويجوز أن يكون ما جاء من ذلك إنما جاء على إرادة الواو، كما جاء الماضي على إرادة قد.

واعلم أن الوجه فيما كان مثل قول بشار:

خرجت مع البازي علي سواد

أن يؤخذ فيه بمذهب أبي الحسن الأخفش فيرفع سواد بالظرف دون الابتداء، ويجري الظرف هاهنا مجراه إذا جرت الجملة صفة على النكرة، نحو: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً. وذلك أن صاحب الكتاب يوافق أبا الحسن في هذا الموضع، فيرفع صقر بما في معه من الفعل. فلذلك يجوز أن يجري الحال مجرى الصفة، فيرفع الظاهر بالظرف إذا هو جاء حالاً، فيكون ارتفاع سواد بما في علي من معنى الفعل لا بالابتداء. ثم ينبغي أن يقدر هاهنا خصوصاً أن الظرف في تقدير اسم فاعل لا فعل، أعني أن يكون المعنى خرجت كائناً علي سواد، أو باقياً علي سواد ولا يقدر يكون سواد علي ويبقى علي سواد اللهم إلا أن تقدر فيه فعلاً ماضياً مع قد كقولك: خرجت مع البازي قد بقي علي سواد. والأول أظهر.

وإذا تأملت الكلام وجدت الظرف وقد وقع مواقع لا يستقيم فيها إلا أن يقدر تقدير اسم فاعل. ولذلك قال أبو بكر بن السراج في قولنا: زيد في الدار، إنك مخير بين أن تقدر فيه فعلاً فتقول: استقر في الدار، وبين أن تقدر اسم فاعل فتقول: مستقر في الدار. وإذا عاد الأمر إلى هذا كان الحال في ترك الواو ظاهرة، وكان سواد في قوله: خرجت مع البازي علي سواد، بمنزلة قضاء الله في قوله من الطويل:

سأغسل عني العار بالسيف جالباً

 

علي قضاء الله ماكان جالـبـا

في كونه اسماً ظاهراً قد ارتفع باسم فاعل، قد اعتمد على ذي حال، فعمل عمل الفعل. ويدلك على أن التقدير فيه ما ذكرت، وأنه من أجل ذلك حسن أنك تقول: جاءني زيد والسيف على كتفه، وخرج والتاج عليه. فتجده لا يحسن إلا بالواو، وتعلم أنك لو قلت: جاءني زيد السيف على كتفه، وخرج التاج عليه. كان كلاماً نافراً لا يكاد يقع في الاستعمال، وذلك لأنه بمنزلة قولك: جاءني وهو متقلد سيفه، وخرج وهو لابس التاج. في أن المعنى على أنك استأنفت كلاماً، وابتدأت إثباتاً وأنك لم ترد. جاءني كذلك. ولكن جاءني وهو كذلك، فاعرفه.